البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة فيها قدم الحسن بن سهل بغداد نائبا عليها
من جهة المأمون، ووجه نوابه إلى بقية أعماله، وتوجه طاهر إلى نيابة
الجزيرة والشام ومصر وبلاد المغرب.
وسار هرثمة إلى خراسان نائبا عليها، وكان قد خرج في أواخر السنة
الماضية في ذي الحجة منها، الحسن الهرش يدعو إلى الرضى من آل محمد،
فجبى الاموال وانتهب الانعام وعاث في البلاد فسادا فبعث إليه المأمون
جيشا فقتلوه في المحرم من هذه السنة.
وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن
الحسن بن علي بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة، يدعو
إلى الرضى من آل محمد،
والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القائم
بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني، وقد
اتفق أهل الكوفة على موافقته واجتمعوا عليه من كل فج عميق، ووفدت إليه
الاعراب من نواحي الكوفة، وكان النائب عليها من جهة الحسن بن سهل
سليمان بن أبي جعفر المنصور، فبعث الحسن بن سهل يلومه ويؤنبه على ذلك،
وأرسل إليه بعشرة آلاف فارس صحبة زاهر (1) بن زهير بن المسيب، فتقاتلوا
خارج الكوفة فهزموا زاهرا واستباحوا جيشه ونهبوا ما كان معه، وذلك يوم
الاربعاء سلخ جمادى الآخرة، فلما كان الغد من الوقعة توفي ابن طباطبا
أمير الشيعة فجأة، يقال إن أبا السرايا سمه (2) وأقام مكانه غلاما أمرد
يقال له: محمد بن محمد (3) بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب.
وانعزل زاهر بمن بقي معه من أصحابه إلى قصر ابن هبيرة، وأرسل الحسن بن
سهل مع عبدوس بن محمد أربعة آلاف فارس، صورة مدد لزاهر، فالتقوا هم
وأبو السرايا فهزمهم أبو السرايا ولم يفلت من أصحاب عبدوس أحد، وانتشر
الطالبيون في تلك البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم والدنانير في
الكوفة، ونقش عليه (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) [ الصف: 4
] الآية.
ثم بعث أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط والمدائن فهزموا من فيها من
النواب ودخلوها قهرا، وقويت شوكتهم، فأهم ذلك الحسن بن سهل وكتب إلى
هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا فتمنع ثم قدم عليه فخرج إلى أبي
السرايا فهزم أبا السرايا غير مرة وطرده حتى رده إلى الكوفة ووثب
الطالبيون على دور بني العباس بالكوفة فنهبوها وخربوا ضياعهم، وفعلوا
أفعالا قبيحة.
وبعث أبو السرايا إلى المدائن فاستجابوا، وبعث إلى أهل مكة حسين ابن
حسن الافطس ليقيم لهم الموسم فخاف أن يدخلها جهرة، ولما سمع نائب مكة -
وهو داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس - هرب من مكة
طالبا أرض العراق، وبقي الناس بلا إمام فسئل مؤذنها أحمد بن محمد بن
الوليد الازرقي أن يصلي بهم فأبى، فقيل لقاضيها محمد بن عبد
__________
(1) سقط اسم زاهر من الطبري وابن الاثير.
(2) في ابن الاعثم 8 / 312: أتي به المأمون فأمر به فضرب عنقه صبرا.
(3) في مروج الذهب 4 / 31: محمد بن محمد بن يحيى بن زيد.
(*)
(10/266)
الرحمن
المخزومي فامتنع، وقال: لمن أدعو وقد هرب نواب البلاد.
فقدم الناس رجلا منهم فصلى بهم الظهر والعصر، وبلغ الخبر إلى حسين
الافطس فدخل مكة في عشرة أنفس قبل الغروب فطاف بالبيت، ثم وقف بعرفة
ليلا وصلى بالناس الفجر بمردلفة وأقام بقية المناسك في أيام منى، فدفع
الناس من عرفة بغير إمام.
وفيها توفي إسحاق بن سليمان (1).
وابن نمير (2).
وابن شابور (3).
وعمرو العنبري، والد مطيع البلخي، ويونس بن بكير (4).
ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة في أول يوم
منها جلس حسين بن حسن الافطس على طنفسة مثلثة خلف المقام وأمر بتجريد
الكعبة مما عليها من كساوي بني العباس، وقال: نطهرها من كساويهم.
وكساها ملاءتين صفراوتين عليهما اسم أبي السرايا، ثم أخذ ما في كنز
الكعبة من الاموال، وتتبع ودائع بني العباس فأخذها، حتى أنه أخذ مال
ذوي المال ويزعم أنه للمسودة.
وهرب منه الناس إلى الجبال، وسبك ما على رؤوس الاساطين من الذهب، وكان
ينزل مقدار يسير بعد جهد، وقلعوا ما في المسجد الحرام من الشبابيك
وباعوها بالبخس، وأساؤوا السيرة جدا.
فلما بلغه مقتل أبي السرايا كتم ذلك وأمر رجلا من الطالبيين شيخا
كبيرا، واستمر على سوء السيرة، ثم هرب في سادس عشر المحرم منها، وذلك
لما قهر هرثمة أبا السرايا وهزم جيشه وأخرجه ومن معه من الطالبيين من
الكوفة، ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدي فأمنوا أهلها ولم يتعرضوا لاحد.
وسار أبو السرايا بمن معه إلى القادسية، ثم سار منها فاعترضهم بعض جيوش
المأمون فهزمهم أيضا وجرح أبو السرايا جراحة منكرة جدا، وهربوا يريدون
الجزيرة إلى منزل أبي السرايا برأس العين، فاعترضهم بعض الجيوش أيضا
فأسروهم وأتوا بهم الحسن بن سهل وهو بالنهروان حين طردته الحربية، فأمر
بضرب عنق أبي السرايا فجزع من ذلك جزعا شديدا جدا وطيف برأسه وأمر
بجسده أن يقطع اثنتين وينصب على جسري بغداد، فكان بين خروجه وقتله عشرة
أشهر.
فبعث الحسن بن سهل محمد بن محمد إلى المأمون مع رأس أبي السرايا.
وقال بعض الشعراء: ألم تر ضربة الحسن بن سهل * بسيفك يا أمير المؤمنينا
__________
(1) اسحاق بن سليمان الرازي الكوفي الاصل روى عن ابن أبي ذئب وكان
عابدا خاشعا.
(2) وهو عبد الله بن نمير الخارفي، أبو هشام الكوفي، صاحب حديث عاش
بضعا وثمانين سنة وثقه ابن معين وغيره.
والخارفي نسبة إلى خارف بطن من همدان نزلوا الكوفة.
(3) ابن شابور من تقريب التهذيب، وفي الاصل ابن سابور، وهو محمد بن
شعيب بن شابور الاموي مولاهم الدمشقي نزيل بيروت صدوق كان من علماء
المحدثين وعقلائهم المشهورين مات وله 84 سنة.
(4) يونس بن بكير: أبو بكر الشيباني الكوفي الحافظ صاحب المغازي.
صدوق.
قال ابن معين: ثقة وقال أبو زرعة: لا أعلمه مما ينكر عليه في الحديث
وقال النسائي: ليس بالقوي.
(*)
(10/267)
أدارت مرو رأس
أبي السرايا * وأبقت عبرة للعالمينا وكان الذي في يده البصرة من
الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال
له زيد النار، لكثرة ما حرق من البيوت التي للمسودة، فأسره علي بن سعيد
وأمنه وبعث به وبمن معه من القواد إلى اليمن لقتال من هناك من
الطالبيين.
وفيها خرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن
علي، ويقال له الجزار لكثرة من قتل من أهل اليمن، وأخذ من أموالهم.
وهو الذي كان بمكة وفعل فيها ما فعل كما تقدم، فلما بلغه قتل أبي
السرايا هرب إلى اليمن، فلما بلغ نائب اليمن خبره ترك اليمن وسار إلى
خراسان واجتاز بمكة وأخذ أمه منها.
واستحوذ إبراهيم هذا على بلاد اليمن وجرت حروب كثيرة يطول ذكرها، ورجع
محمد بن جعفر العلوي عما كان بزعمه، وكان قد ادعى الخلافة بمكة، وقال:
كنت أظن أن المأمون قد مات وقد تحققت حياته، وأنا أستغفر الله وأتوب
إليه مما كنت ادعيت من ذلك، وقد رجعت إلى الطاعة وأنا رجل من المسلمين.
ولما هزم هرثمة أبا السرايا ومن كان معه من ولاة الخلافة وهو محمد بن
محمد وشى بعض الناس إلى المأمون أن هرثمة راسل أبا السرايا وهو الذي
أمره بالظهور، فاستدعاه المأمون إلى مرو فأمر به فضرب بين يديه ووطئ
بطنه ثم رفع إلى الحبس ثم قتل بعد ذلك بأيام، وانطوى خبره بالكلية.
ولما وصل خبر قتله إلى بغداد عبثت العامة والحربية
بالحسن بن سهل نائب العراق وقالوا: لا نرضى به ولا بعماله ببلادنا،
وأقاموا إسحاق بن موسى المهدي نائبا، واجتمع أهل الجانبين على ذلك،
والتفت على الحسن بن سهل جماعة من الامراء والاجناد، وأرسل من وافق
العامة على ذلك من الامراء يحرضهم على القتال، وجرت الحروب بينهم ثلاثة
أيام في شعبان من هذه السنة.
ثم اتفق الحال على أن يعطيهم شيئا من أرزاقهم ينفقونها في شهر رمضان،
فما زال يمطلهم إلى ذي القعدة حتى يدرك الزرع، فخرج في ذي القعدة زيد
بن موسى الذي يقال له زيد النار، ومعه (1) أخو أبي السرايا، وقد كان
خروجه هذه المرة بناحية الانبار، فبعث إليه علي بن هشام نائب بغداد عن
الحسن بن سهل والحسن بالمدائن إذ ذاك فأخذ وأتي به إلى علي بن هشام،
وأطفأ الله ثائرته.
وبعث المأمون في هذه السنة يطلب من بقي من العباسيين، وأحصى كم
العباسيون فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا، ما بين ذكور وإناث.
وفيها قتلت الروم ملكهم إليون، وقد ملكهم سبع سنين، وملكوا عليهم
ميخائيل نائبه.
وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل،
لانه قال للمأمون: يا أمير الكافرين.
فقتل صبرا بين يديه.
وفيها حج بالناس محمد بن المعتصم بن هارون الرشيد.
وفيها توفي من الاعيان:
__________
(1) من الطبري 10 / 237 وفى الاصل: وهو، تحريف، فزيد النار ليس أخا
لابي السرايا.
(*)
(10/268)
أسباط بن محمد
(1) وأبو ضمرة أنس بن عياض (2).
وسلم بن قتيبة (3) وعمر بن عبد الواحد (4).
وابن أبي فديك.
ومبشر بن إسماعيل.
ومحمد بن حمير (5).
ومعاذ بن هشام (6).
ثم دخلت سنة إحدى ومائتين فيها راود أهل
بغداد منصور بن المهدي على الخلافة فامتنع من ذلك، فراودوه على أن يكون
نائبا للمأمون يدعو له في الخطبة فأجابهم إلى ذلك، وقد أخرجوا علي بن
هشام نائب الحسن بن سهل من بين أظهرهم بعد أن جرت حروب كثيرة بسبب ذلك.
وفيها عم البلاء بالعيارين والشطار والفساق ببغداد وما حولها من القرى،
كانوا يأتون الرجل يسألونه مالا يقرضهم أو يضلهم به فيمتنع عليهم
فيأخذون جميع ما في منزله، وربما تعرضوا للغلمان والنسوان، ويأتون أهل
القرية فيستاقون من الانعام والمواشي ويأخذون ما شاؤوا من الغلمان
والنسوان، ونهبوا أهل قطر بل ولم يدعوا لهم شيئا أصلا، فانتدب لهم رجل
يقال له خالد الدريوش، وآخر يقال له سهل بن سلامة أبو حاتم الانصاري من
أهل خراسان.
والتف عليهم جماعة من العامة فكفوا شرهم وقاتلوهم ومنعوهم من الفساد في
الارض، واستقرت الامور كما كانت، وذلك في شعبان ورمضان.
وفي شوال منها رجع الحسن بن سهل إلى بغداد وصالح الجند، وانفصل منصور
بن المهدي ومن وافقه من الامراء.
وفيها ببايع المأمون لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد
بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه
الرضى من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده،
وكتب بذلك إلى الآفاق والاقاليم، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء
لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وذلك أن المأمون رأى أن
عليا الرضى خير أهل البيت وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه،
فجعله ولي عهده من بعده.
__________
(1) اسباط بن محمد، أبو محمد الكوفي: ثقة صاحب حديث روى عن الاعمش
وطبقته.
قال ابن سعد: ثقة فيه بعض الضعف.
(2) أنس بن عياض الليثي المدني محدث المدينة كان من الثقات المتقنين
مات وله ست وتسعون سنة.
(3) من تقريب التهذيب وشذرات الذهب وفي الاصل مسلم تحريف.
أصله خراساني روى بالبصرة عن يونس بن أبي اسحاق وطبقته.
(4) السلمي الدمشقي كان من الثقات ولد سنة ثمان عشرة ومائة قرأ
القراءات على يحيى الذماري.
(5) من التقريب (وفي الاصل جبير تحريف) السلمي.
وفي شذرات الذهب السليحي، محدث حمص وثقه ابن معين ودحيم.
قال يعقوب الفسوي: ليس بالقوي.
(6) معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، صدوق قال ابن معين: ليس
بحجة روى عن أبيه وابن عون وطاء (*)
(10/269)
بيعة أهل بغداد لابراهيم بن المهدي
لما جاء الخبر أن المأمون بايع لعلي الرضى بالولاية من بعده اختلفوا
فيما بينهم، فمن مجيب مبايع، ومن آب ممانع، وجمهور العباسيين على
الامتناع من ذلك، وقام في ذلك ابنا المهدي إبراهيم ومنصور، فلما كان
يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة أظهر العباسيون البيعة لابراهيم بن
المهدي ولقبوه المبارك - وكان أسود اللون - ومن بعده لابن أخيه إسحاق
بن موسى بن المهدي، وخلعوا المأمون.
فلما كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة أرادوا أن يدعوا
للمأمون ثم من بعده لابراهيم فقالت العامة: لا تدعوا إلا إلى إبراهيم
فقط، واختلفوا واضطربوا فيما بينهم، ولم يصلوا الجمعة، وصلى الناس
فرادى أربع ركعات.
وفيها افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز.
وذكر ابن حزم أن سلما الخاسر قال في ذلك شعرا (1).
وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلما توفي قبل ذلك بسنين فالله أعلم.
وفيها أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة شديدة وغلا الطعام جدا.
وفيها تحرك بابك الخرمي واتبعه طوائف من السفلة والجهلة وكان يقول
بالتناسخ.
وسيأتي ما آل أمره إليه.
وفيها حج بالناس إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي من الاعيان: أبو أسامة
حماد بن أسامة (2).
وحماد بن مسعدة وحرسي بن عمارة.
وعلي بن عاصم (3).
ومحمد بن محمد صاحب أبي السرايا الذي قد كان بايعه أهل الكوفة بعد ابن
طباطبا.
ثم دخلت سنة ثنتين ومائتين في أول يوم منها
بويع لابراهيم بن المهدي بالخلافة ببغداد وخلع المأمون، فلما كان يوم
الجمعة خامس المحرم صعد إبراهيم بن المهدي المنبر فبايعه الناس ولقب
بالمبارك، وغلب على الكوفة وأرض السواد، وطلب منه الجند أرزاقهم
فماطلهم ثم أعطاهم مائتي درهم لكل واحد، وكتب لهم بتعويض من أرض
السواد، فخرجوا لا يمرون بشئ إلا انتهبوه، وأخذوا حاصل الفلاح
والسلطان، واستناب على الجانب الشرقي العباس بن موسى الهادي، وعلى
الجانب الغربي إسحاق بن موسى الهادي.
وفيها خرج خارجي يقال له: مهدي بن علوان، فبعث إليهم إبراهيم جيشا
عليهم أبو إسحاق المعتصم بن
__________
(1) ذكر الطبري بيتين قال: قالهما سلام الخاسر، ولعله غير سلم الخاسر
الشاعر الذي مات في خلافة الرشيد.
(2) الكوفي الحافظ مولى بني هاشم، ثبت ثقة توفي وله 81 سنة.
(3) الواسطي محدث واسط، كان إماما ورعا صالحا جليل القدر، ضعفه غير
واحد لسؤ حفظه مات وله بضع وتسعون سنة.
(*)
(10/270)
الرشيد في
جماعة من الامراء فكسره ورد كيده.
وفيها خرج أخو أبي السرايا فبيض بالكوفة فأرسل إليه إبراهيم بن المهدي
من قاتله فقتل أخو أبي السرايا وأرسل برأسه إلى إبراهيم، ولما كان ليلة
أربع عشرة من ربيع الآخر من هذه السنة ظهرت في السماء حمرة ثم ذهبت
وبقي بعدها عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل، وجرت بالكوفة حروب
بين أصحاب إبراهيم وأصحاب المأمون، واقتتلوا قتالا شديدا.
وعلى أصحاب إبراهيم السواد، وعلى أصحاب المأمون الخضرة، واستمر القتال
بينهم إلى أواخر رجب.
وفيها ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوع فسجنه، وذلك أنه
التف عليه جماعة من الناس يقومون بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولكن كانوا قد جاوزوا الحد وأنكروا على السلطان ودعوا إلى القيام
بالكتاب والسنة، وصار باب داره كأنه باب دار السلطان، عليه السلاح
والرجال وغير ذلك من أبهة الملك، فقاتله الجند فكسروا أصحابه فألقى
السلاح وصار بين النساء والنظارة ثم اختفى في بعض الدور، فأخذ وجئ به
إلى إبراهيم فسجنه سنة كاملة.
وفيها أقبل المأمون من خراسان قاصدا العراق، وذلك أن علي بن موسى الرضى
أخبر المأمون بما الناس فيه من الفتن والاختلاف بأرض العراق، وبأن
الهاشميين قد أنهوا إلى الناس بأن المأمون مسحور ومسجون، وأنهم قد
نقموا عليك ببيعتك لعلي بن موسى، وأن الحرب قائمة بين الحسن بن سهل
وبين إبراهيم بن المهدي.
فاستدعى المأمون بجماعة من أمرائه وأقربائه فسألهم عن ذلك فصدقوا عليا
فيما قال، بعد أخذهم الامان منه، وقالوا له: إن الفضل بن سهل حسن لك
قتل هرثمة، وقد كان ناصحا لك.
فعاجله بقتله، وإن طاهر بن الحسين مهد لك الامور حتى قاد إليك الخلافة
بزمامها فطردته إلى الرقة فقعد لا
عمل له ولا تستنهضه في أمر، وإن الارض تفتقت بالشرور والفتن من
أقطارها.
فلما تحقق ذلك المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد، وقد فطن الفضل بن سهل
بما تمالا عليه أولئك الناصحون، فضرب قوما ونتف لحى بعضهم.
وسار المأمون فلما كان بسرخس عدا قوم على الفضل بن سهل وزير المأمون
وهو في الحمام فقتلوه بالسيوف، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شوال
وله ستون سنة، فبعث المأمون في آثارهم فجئ بهم وهم أربعة من المماليك
فقتلهم (1)، وكتب إلى أخيه الحسن بن سهل يعزيه فيه، وولاه الوزارة
مكانه، وارتحل المأمون من سرخس يوم عيد الفطر نحو العراق وإبراهيم بن
المهدي بالمدائن، وفي مقابلته جيش يقاتلونه من جهة المأمون.
وفيها تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وزوج علي بن موسى الرضى
بابنته أم حبيب وزوج ابنه محمد بن علي بن موسى بابنته الاخرى أم الفضل.
وحج بالناس إبراهيم بن موسى بن جعفر أخو علي الرضى، ودعا لاخيه بعد
المأمون، ثم انصرف بعد الحج إلى اليمن، وقد كان تغلب
__________
(1) ذكرهم ابن الاثير 6 / 347: غالب المسعودي، وقسطنطين الرومي وفرج
الديلمي وموفق الصقلبي.
(*)
(10/271)
عليها حمدويه
بن علي بن موسى بن ماهان.
وفيها توفي: أيوب بن سويد (1).
وضمرة (2).
وعمرو بن حبيب (3).
والفضل بن سهل الوزير.
وأبو يحيى الحماني.
ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين فيها وصل المأمون
العراق ومر بطوس فنزل بها وأقام عند قبر أبيه أياما من شهر صفر، فلما
كان في آخر الشهر أكل علي بن موسى الرضى عنبا فمات فجأة فصلى عليه
المأمون ودفنه إلى جانب أبيه الرشيد، وأسف عليه أسفا كثيرا فيما ظهر،
وكتب إلى الحسن بن سهل يعزيه فيه ويخبره بما حصل له من الحزن عليه،
وكتب إلى بني العباس يقول لهم: إنكم إنما نقمتم علي بسبب توليتي العهد
من بعدي لعلي بن موسى الرضى، وها هو قد مات فارجعوا إلى السمع والطاعة.
فأجابوه بأغلظ جواب كتب به إلى أحد.
وفيها تغلبت الثوار على الحسن بن سهل حتى قيد بالحديد وأودع في بيت،
فكتب الامراء بذلك إلى المأمون، فكتب إليهم إني واصل على إثر كتابي
هذا.
ثم جرت حروب كثيرة بين إبراهيم
وأهل بغداد، وتنكروا عليه وأبغضوه.
وظهرت الفتن والشطار والفساق ببغداد وتفاقم الحال، وصلوا يوم الجمعة
ظهرا، أمهم المؤذنون فيها من غير خطبة، صلوا أربع ركعات، واشتد الامر
واختلف الناس فيما بينهم في إبراهيم والمأمون، ثم غلبت المأمونية
عليهم.
خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي لما كان يوم الجمعة المقبلة دعا الناس
للمأمون وخلعوا إبراهيم، وأقبل حميد بن عبد الحميد في جيش من جهة
المأمون فحاصر بغداد.
وطمع جندها في العطاء إذا قدم فطاوعوه على السمع والطاعة للمأمون.
وقد قاتل عيسى بن محمد بن أبي خالد في جماعة من جهة إبراهيم بن المهدي،
ثم احتال عيسى حتى صار في أيدي المأمونية أسيرا، ثم آل الحال إلى
اختفاء إبراهيم بن المهدي في آخر هذه السنة.
وكانت أيامه سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما.
وقدم المأمون في هذا الوقت إلى همذان وجيوشه قد استنقذوا بغداد إلى
طاعته.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
وفيها توفي من الاعيان:
__________
(1) الرملي أبو مسعود الحميري السيباني (نسبة إلى سيبان بطن من حمير)
صدوق يخطئ.
قال في التقريب مات سنة 193.
(2) وهو ضمرة بن ربيعة الفلسطيني، أبو عبد الله دمشقي صدوق يهم قليلا،
روى عن الاوزاعي وطبقته.
(تقريب التهذيب 1 / 374).
(3) في تقريب التهذيب: عمر بن شبيب المسلمي (وانظر شذرات الذهب 2 / 3).
(*)
(10/272)
علي بن موسى
ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي
العلوي الملقب بالرضى، كان المأمون قد هم أن ينزل له عن الخلافة فأبى
عليه ذلك، فجعله ولي العهد من بعده كما قدمنا ذلك.
توفي في صفر من هذه السنة بطوس.
وقد روى الحديث عن أبيه وغيره، وعنه جماعة منهم المأمون وأبو السلط
الهروي وأبو عثمان المازني النحوي، وقال سمعته يقول: الله أعدل من أن
يكلف
العباد ما لا يطيقون، وهم أعجز من أن يفعلوا ما يريدون.
ومن شعره: كلنا يأمل مدا في الاجل * والمنايا هن آفات الامل لا تغرنك
أباطيل المنى * والزم القصد ودع عنك العلل إنما الدنيا كظل زائل * حل
فيه راكب ثم ارتحل
ثم دخلت سنة أربع ومائتين
فيها كان قدوم المأمون أرض العراق،
وذلك أنه مر بجرجان فأقام بها شهرا، ثم سار منها وكان ينزل في المنزل
يوما أو يومين، ثم جاء إلى النهروان فأقام بها ثمانية أيام، وقد كتب
إلى طاهر بن الحسين وهو بالرقة أن يوافيه إلى النهروان فوافاه بها
وتلقاه رؤوس أهل بيته والقواد وجمهور الجيش، فلما كان يوم السبت الآخر
دخل بغداد حين ارتفع النهار لاربع عشرة ليلة خلت (1) من صفر، في أبهة
عظيمة وجيش عظيم، وعليه وعلى جميع أصحابه وفتيانه الخضرة، فلبس أهل
بغداد وجميع بني هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحول إلى قصر
على دجلة، وجعل الامراء ووجوه الدولة يترددون إلى منزله على العادة،
وقد تحول لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا يحرقون كل ما يجدونه من
السواد، فمكثوا كذلك ثمانية أيام.
ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسين فكان أول حاجة سألها أن يرجع إلى لباس
السواد، فإنه لباس آئابه من دولة ورثة الانبياء.
فلما كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرين من صفر جلس المأمون للناس
وعليه الخضرة، ثم إنه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهرا، ثم ألبس بعده
جماعة من الامراء السواد، فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم
بذلك الطاعة والموافقة، وقيل إنه مكث يلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعا
وعشرين يوما، فالله أعلم.
ولما جاء إليه عمه إبراهيم بن المهدي بعد اختفائه ست سنين وشهورا قال
له المأمون: أنت الخليفة الاسود، فأخذ في الاعتذار والاستغفار، ثم قال:
أنا الذي مننت عليه يا أمير المؤمنين بالعفو، وأنشد المأمون عند ذلك:
__________
(1) في الطبري 10 / 254: بقيت، وفي ابن الاثير 6 / 304: دخل بغداد
منتصف صفر.
(*)
(10/273)
ليس يزري
السواد بالرجل الشه * م ولا بالفتى الاديب الاريب إن يكن للسواد منك
(1) نصيب * فبياض الاخلاق منك نصيبي قال ابن خلكان: وقد نظم هذا المعنى
بعض المتأخرين وهو نصر الله بن قلاقس (2) الاسكندري فقال: رب سوداء وهي
بيضاء فعل * حسد المسك عندها الكافور مثل حب العيون يحسبه النا * س
سوادا وإنما هو نور وكان المأمون قد شاور في قتل عمه إبراهيم بن المهدي
بعض أصحابه فقال له أحمد بن أبي خالد الوزير الاحول: يا أمير المؤمنين
إن قتلته فلك نظراء في ذلك، وإن عفوت عنه فما لك نظير.
ثم شرع المأمون في بناء قصور على دجلة إلى جانب قصره، وسكنت الفتن
وانزاحت الشرور، وأمر بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون
على النصف.
واتخذ القفيز الملحم وهو عشرة مكاكي بالمكوك الاهوازي (3)، ووضع شيئا
كثيرا من خراجات بلاد شتى، ورفق بالناس في مواضع كثيرة، وولى أخاه أبا
عيسى بن الرشيد الكوفة، وولى أخاه صالحا البصرة، وولى عبيد الله بن
الحسن بن عبيد الله (4) بن العباس بن علي بن أبي طالب نيابة الحرمين،
وهو الذي حج بالناس فيها.
وواقع يحيى بن معاذ بابك الخرمي فلم يظفر به.
وفيها توفي من الاعيان جماعة منهم:
أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي
وقد أفردنا له ترجمة مطولة في أول كتابنا طبقات الشافعيين، ولنذكر ههنا
ملخصا من ذلك وبالله المستعان.
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد
يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، القرشي المطلبي، والسائب
بن عبيد أسلم يوم بدر (5)، وابنه شافع بن السائب من صغار الصحابة، وأمه
أزدية.
وقد رأت حين حملت به كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع
في كل بلد منه شظية.
وقد ولد الشافعي بغزة، وقيل بعسقلان،
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 41: فيك.
(2) من وفيات الاعيان، وفي الاصل قلانس، وهو شاعر مشهور لقب بالقاضي
الاعز.
(3) في الطبري وابن الاثير: الهاروني.
(4) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل عبيد الله بن الحسين بن عبد
الله...(5) كان السائب بن عبيد صاحب راية بني هاشم أسر يوم بدر وكان لا
مال له فأطلق دون فدية وأسلم بعد ذلك (مغازي الواقدي 1 / 138).
(*)
(10/274)
وقيل باليمن
سنة خمسين ومائة، ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين
لئلا يضيع نسبه، فنشأ بها وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ
وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة.
وقيل ابن ثماني عشرة سنة، أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي، وعني
باللغة والشعر، وأقام في هذيل نحوا من عشر سنين، وقيل عشرين سنة، فتعلم
منهم لغات العرب وفصاحتها، وسمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ
والائمة، وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته،
وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي.
وروى عنه خلق كثير قد ذكرنا أسماءهم مرتبين على حروف المعجم، وقرأ
القرآن على إسماعيل بن قسطنطين عن شبل عن ابن كثير عن مجاهد عن ابن
عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله
عزوجل.
وأخذ الشافعي الفقه عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن
عباس وابن الزبير وغيرهما عن جماعة من الصحابة، منهم عمرو بن علي وابن
مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم.
وكلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتفقه أيضا على مالك عن مشايخه، وتفقه به جماعة قد ذكرناهم ومن بعدهم
إلى زماننا في تصنيف مفرد.
وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي بشر الدولابي، عن محمد بن إدريس وراق
الحميدي، عن الشافعي أنه ولي الحكم بنجران من أرض اليمن، ثم تعصبوا
عليه ووشوا به إلى الرشيد أنه يروم الخلافة، فحمل على بغل في قيد إلى
بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة، فاجتمع
بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه
محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن
الحسن عنده.
وكان أبو يوسف
قد مات قبل ذلك بسنة، وقيل بسنتين، وأكرمه محمد بن الحسن وكتب عنه
الشافعي وقر بعير، ثم أطلق له الرشيد ألفي دينار وقيل خمسة آلاف دينار.
وعاد الشافعي إلى مكة ففرق عامة ما حصل له في أهله وذوي رحمه من بني
عمه، ثم عاد الشافعي إلى العراق في سنة خمس وتسعين ومائة، فاجتمع به
جماعة من العلماء هذه المرة منهم أحمد بن حنبل وأبو ثور والحسين بن علي
الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي،
والزعفراني، وغيرهم.
ثم رجع إلى مكة ثم رجع إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة، ثم انتقل منها
إلى مصر فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، سنة أربع ومائتين.
وصنف بها كتابه الام وهو من كتبه الجديدة لانها من رواية الربيع بن
سليمان، وهو مصري.
وقد زعم إمام الحرمين وغيره أنها من القديم، وهذا بعيد وعجيب من مثله
والله أعلم.
وقد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الائمة منهم عبد الرحمن بن مهدي
وسأله أن يكتب له كتابا في الاصول فكتب له الرسالة، وكان يدعو له في
الصلاة دائما، وشيخه مالك بن أنس وقتيبة بن سعيد.
وقال: هو إمام.
وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وكان يدعو له أيضا في صلاته.
وأبو عبيد، وقال: ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من الشافعي.
ويحيى بن أكثم القاضي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن الحسن، وغير واحد
ممن يطول ذكرهم وشرح أقوالهم.
(10/275)
وكان أحمد بن
حنبل يدعو له في صلاته نحوا من أربعين سنة، وكان أحمد يقول في الحديث
الذي رواه أبو داود من طريق عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن
شراحيل بن يزيد، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم: " إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر
دينها " (1).
قال فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الاولى، والشافعي على رأس
المائة الثانية.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن سليمان عن نصر بن معبد الكندي -
أو العبدي - عن الجارود عن أبي الاحوص عن عبد الله بن مسعود قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملا الارض
علما، اللهم إنك إذ أذقت أولها عذابا ووبالا فأذق آخرها نوالا ".
وهذا غريب من هذا الوجه، وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه (2).
قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد
الاسفراييني: لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي.
حكاه الخطيب.
وقال يحيى بن معين عن الشافعي: هو صدوق لا بأس به.
وقال مرة: لو كان الكذب له مباحا مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب.
وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: الشافعي فقيه البدن، صدوق اللسان.
وحكى بعضهم عن أبي زرعة أنه قال: ما عند الشافعي حديث غلط فيه.
وحكى عن أبي داود نحوه.
وقال إمام الائمة محمد بن إسحاق بن خزيمة - وقد سئل هل سنة لم تبلغ
الشافعي ؟ - فقال: لا.
ومعنى هذا أنها تارة تبلغه بسندها، وتارة مرسلة، وتارة منقطعة كما هو
الموجود في كتبه والله أعلم.
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: سميت ببغداد ناصر السنة.
وقال أبو ثور: ما رأينا مثل الشافعي ولا هو رأى مثل نفسه.
وكذا قال الزعفراني وغيره.
وقال داود بن علي الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي: للشافعي من
الفضائل ما لم يجتمع لغيره، من شرف نسبه، وصحتة دينه ومعتقده، وسخاوة
نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه، وحفظه الكتاب والسنة
وسيرة الخلفاء وحسن التصنيف، وجودة الاصحاب والتلامذة، مثل أحمد بن
حنبل في زهده وورعه، وإقامته على السنة.
ثم سرد أعيان أصحابه من البغاددة والمصريين، وكذا عد أبو داود من جملة
تلاميذه في الفقه أحمد بن حنبل.
وقد كان الشافعي من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة، وأشد الناس نزعا
للدلائل منهما، وكان من أحسن الناس قصدا وإخلاصا، كان يقول: وددت أن
الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شئ منه أبدا فأوجر عليه ولا
يحمدوني.
وقد قال غير واحد عنه: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقولوا به ودعوا قولي، فإني أقول به، وإن لم تسمعوا مني.
وفي رواية فلا تقلدوني.
وفي رواية فلا تلتفتوا إلى قولي.
وفي رواية فاضربوا بقولي عرض الحائط، فلا قول لي مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
وقال: لان يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن
يلقاه
__________
(1) أخرجه أبو داود في سنته في كتاب الملاحم باب (1).
(2) روى الامام أحمد بمعناه عن قتادة بن النعمان عن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) 6 / 384 وفيه: لا تسبن قريشا فلعلك أن ترى منهم رجالا
تزدري عملك مع أعمالهم وفعلك مع أفعالهم...(*)
(10/276)
بشئ من
الاهواء.
وفي رواية خير من أن يلقاه بعلم الكلام.
وقال: لو علم الناس ما في الكلام من الاهواء لفروا منه كما يفرون من
الاسد.
وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في القبائل
وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال البويطي: سمعت الشافعي يقول: عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر
الناس صوابا.
وقال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، جزاهم الله خيرا، حفظوا لنا الاصل، فلهم
علينا الفضل.
ومن شعره في هذا المعنى قوله: كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث
وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال: حدثنا * وما سوى ذاك وسواس
الشياطين وكان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو
كافر.
وقد روى عن الربيع وغير واحد من رؤوس أصحابه ما يدل على أنه كان يمر
بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا
تحريف، على طريق السلف.
وقال ابن خزيمة: أنشدني المزني وقال أنشدنا الشافعي لنفسه قوله: ما شئت
كان وإن لم أشأ * وما شئت إن لم تشأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت *
ففي العلم يجري الفتى والمسن فمنهم شقي ومنهم سعيد * ومنهم قبيح ومنهم
حسن على ذا مننت وهذا خذلت * وهذا أعنت وذا لم تعن وقال الربيع: سمعت
الشافعي يقول: أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم
عمر ثم عثمان ثم علي.
وعن الربيع قال: أنشدني الشافعي: قد عوج الناس حتى أحدثوا بدعا * في
الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل حتى استخف بحق الله أكثرهم * وفي الذي
حملوا من حقه شغل وقد ذكرنا من شعره في السنة وكلامه فيها وفيما قال من
الحكم والمواعظ طرفا صالحا في الذي كتبناه في أول طبقات الشافعية.
وقد كانت وفاته بمصر يوم الخميس، وقيل يوم الجمعة، في آخر يوم
من رجب سنة أربع ومائتين، وعن أربع وخمسين سنة، وكان أبيض جميلا طويلا
مهيبا يخضب بالحناء، مخالفا للشيعة رحمه الله وأكرم مثواه.
وفيها توفي: إسحاق بن الفرات (1).
وأشهب بن عبد العزيز المصري المالكي.
والحسن بن
__________
(1) اسحاق بن الفرات، أبو نعيم التجيبي صاحب مالك وقاضي الديار
المصرية.
(*)
(10/277)
زياد اللؤلؤي الكوفي الحنفي (1).
وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي صاحب المسند، أحد الحفاظ.
وأبو بدر شجاع بن الوليد.
وأبو بكر الحنفي.
وعبد الكريم (2).
وعبد الوهاب بن عطا الخفاف.
والنضر بن شميل أحد أئمة اللغة.
وهشام بن محمد بن السائب الكلبي أحد علماء التاريخ. |