البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة خمس ومائتين فيها ولى المأمون طاهر بن الحسين بن مصعب نيابة بغداد والعراق وخراسان إلى أقصى عمل المشرق، ورضي عنه ورفع منزلته جدا، وذلك لاجل مرض الحسن بن سهل بالسواد.
وولى المأمون مكان طاهر على الرقة والجزيرة يحيى بن معاذ.
وقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى بغداد في هذه السنة، وكان أبوه قد استخلفه على الرقة وأمره بمقاتلة نصر بن شبث.
وولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي مقاتلة الزط.
وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أذربيجان.
ومات نائب مصر السري بن الحكم بها، ونائب السند داود بن يزيد، فولى مكانه بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم.
وحج بالناس فيها عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين.
وفيها توفي من الاعيان: إسحاق بن منصور السلولي.
وبشر بن بكر الدمشقي.
وأبو عامر العقدي.
ومحمد بن عبيد الطنافسي.
ويعقوب الحضري.
وأبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن عطية، وقيل عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وقيل عبد الرحمن بن عسكر أبو سليمان الداراني، أحد أئمة العلماء العاملين، أصله من واسط سكن قرية غربي دمشق يقال لها داريا.
وقد سمع الحديث من سفيان الثوري وغيره، وروى عنه أحمد بن أبي الحواري وجماعة.
وأسند الحافظ ابن عساكر من طريقه قال: سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد يقول سمعت
إبراهيم بن أدهم يقول سمعت ابن عجلان يذكر عن القعقاع بن حكيم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى قبل الظهر أربعا غفر الله ذنوبه يومه ذلك ".
وقال أبو القاسم القشيري: حكي عن أبي سليمان الداراني قال: اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شئ، فعدت إليه ثانية فأثر كلامه في قلبي بعدما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق، فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال: عصفور اصطاد كركيا - يعني بالعصفور القاص وبالكركي أبا سليمان - وقال أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل
__________
(1) صاحب أبي حنيفة وقاضي الكوفة كان رأسا في الفقه.
(2) كذا بالاصل، ولعل الصواب أبو بكر الحنفي، واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله البصري، ثقة مشهور صاحب حديث (شذرات الذهب.
تقريب التهذيب).
(*)

(10/278)


به حتى يسمع به في الاثر، فإذا سمع به في الاثر عمل به فكان نورا على نور.
وقال الجنيد: قال أبو سليمان ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
قال: وقال أبو سليمان: أفضل الاعمال خلاف هوى النفس.
وقال لكل شئ علم وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله.
وقال: لكل شئ صدأ وصدأ نور القلب شبع البطن.
وقال كل ما شغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو شؤم.
وقال: كنت ليلة في المحراب أدعو ويداي ممدودتان فغلبني البرد فضممت إحداهما وبقيت الاخرى مبسوطة أدعو بها، وغلبتني عيني فنمت فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الاخرى لوضعنا فيها.
قال: فآليت على نفسي ألا أدعو إلا ويداي خارجتان، حرا كان أو بردا.
وقال: نمت ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام ؟ وقال أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول: إن في الجنة أنهارا على شاطئيها خيام فيهن الحور، ينشئ الله خلق الحوراء إنشاء، فإذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام، الواحدة منهن جالسة على كرسي من ذهب ميل في ميل، قد خرجت عجيزتها
من جانب الكرسي، فيجئ أهل الجنة من قصورهم يتنزهون على شاطئ تلك الانهار ما شاؤوا ثم يخلو كل رجل بواحدة منهن.
قال أبو سليمان: كيف يكون في الدنيا حال من يريد افتضاض الابكار على شاطئ تلك الانهار في الجنة.
وقال: سمعت أبا سليمان يقول: ربما مكثت خمس ليال لا أقرأ بعد الفاتحة بآية واحدة أتفكر في معانيها، ولربما جاءت الآية من القرآن فيطير العقل، فسبحان من يرده بعد.
وسمعته يقول: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عزوجل، ومفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.
وقال لي يوما: يا أحمد جوع قليل وعري قليل وفقر قليل وصبر قليل وقد انقضت عنك أيام الدنيا.
وقال أحمد: اشتهى أبو سليمان يوما رغيفا حارا بملح فجئته به فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي ويقول: يا رب عجلت لي شهوتي، لقد أطلعت جهدي وشقوتي وأنا تائب ؟ فلم يذق الملح حتى لحق بالله عزوجل.
قال: وسمعته يقول: ما رضيت عن نفسي طرفة عين، ولو أن أهل الارض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عن نفسي ما قدروا.
وسمعته يقول: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
وسمعته يقول: من حسن ظنه بالله ثم لم يخفه ويطعه فهو مخدوع.
وقال: ينبغي للخوف أن يكون على العبد أغلب الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب.
وقال لي يوما: هل فوق الصبر منزلة ؟ فقلت: نعم - يعني الرضا - فصرخ صرخة غشي عليه ثم أفاق فقال: إذا كان الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب، فما ظنك بالاخرى وهم الذين رضي عنهم.
وقال: ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها أنفقه في وجوه البر، وإني أغفل عن الله طرفة عين.
وقال: قال زاهد لزاهد: أوصني، فقال: لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، فقال: زدني.
فقال: ما عندي زيادة.
وقال من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة أذهبها الله من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له.
وقال: إذا سكنت الدنيا

(10/279)


القلب ترحلت منه الآخرة، وإذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لان الدنيا لئيمة والآخرة كريمة، وما ينبغي لكريم أن يزاحم لئيما.
وقال أحمد بن أبي الحواري: بت ليلة عند أبي سليمان فسمعته يقول: وعزتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لاطالبنك بعفوك، ولئن طابتني ببخلي لاطالبنك بكرمك، ولئن أمرت بي إلى النار لاخبرن أهل النار أني أحبك.
وكان يقول: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي.
وكان يقول: ما خلق الله خلقا أهون علي من إبليس، ولو لا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبدا، ولو تبدى لي ما لطمت إلا صفحة وجهه وقال: إن اللص لا يجئ إلى خربة ينقب حيطانها وهو قادر على الدخول إليها من أي مكان شاء وإنما يجئ إلى البيت المعمور، كذلك إبليس لا يجئ إلا إلى كل قلب عامر ليستنزله وينزله عن كرسيه ويسلبه أعز شئ.
وقال: إذا أخلص العبد انقطعت عنه الوساوس والرؤيا.
وقال: الرؤيا - يعني الجنابة - وقال: مكثت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة ففاتتني صلاة العشاء جماعة فاحتلمت تلك الليلة.
وقال: إن من خلق الله قوما لا يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون بالدنيا عنه ؟ وقال: الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة فما الزهد فيها، وإنما إلزهد في الجنان والحور العين، حتى لا يرى الله في قلبك غيره.
وقال الجنيد: شئ يروى عن أبي سليمان أنا أستحسنته كثيرا.
قوله: من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس.
وقال: خير السخاء ما وافق الحاجة.
وقال: من طلب الدنيا حلالا واستغناء عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالا مفاخرا ومكاثرا لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان.
وقد روي نحو هذا مرفوعا.
وقال: إن قوما طلبوا الغنى في المال وجمعه فأخطأوا من حيث ظنوا، ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق وإنما هي في التقوى، وطلبوا التنعم في اللباس الرقيق اللين، والطعام الطيب، والمسكن الانيق المنيف، وإنما هو في الاسلام والايمان والعمل الصالح والستر والعافية وذكر الله.
وقال: لو لا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وما أحب الدنيا لغرس الاشجار ولا لكرى الانهار.
وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل.
وقال: أهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
وقال: ربما استقبلني الفرح في جوف الليل، وربما رأيت القلب يضحك ضحكا.
وقال: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل
هذا إنهم لفي عيش طيب.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فإذا أنا بها - يعني الحوراء - قد ركضتني برجلها فقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم ؟ بؤسا لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضا، فما هذا الرقاد ؟ ! حبيبي وقرة عيني أترقد عيناك وأنا أتربى لك في الخدور منذ كذا

(10/280)


وكذا ؟ قال: فوثبت فزعا وقد عرقت حياء من توبيخها إياي، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.
وقال أحمد: دخلت على أبي سليمان فإذا هو يبكي فقلت: ما لك ؟ فقال: زجرت البارحة في منامي.
قلت: ما الذي زجرك ؟ قال: بينا أنا نائم في محرابي إذا وقفت علي جارية تفوق الدنيا حسنا، وبيدها ورقة وهي تقول: أتنام يا شيخ ؟ فقلت: من غلبت عينه نام قالت: كلا إن طالب الجنة لا ينام، ثم قالت: أتقرأ ؟ قلت: نعم، فأخذت الورقة من يدها فإذا فيها مكتوب: لهت بك لذة عن حسن عيش * مع الخيرات في غرف الجنان تعيش مخلدا لا موت فيها * وتنعم في الجنان مع الحسان تيقظ من منامك إن خيرا * من النوم التهجد في القران وقال أبو سليمان: أما يستحي أحدكم أن يلبس عباءة بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم ؟ وقال أيضا: لا يجوز لاحد أن يظهر للناس الزهد والشهوات في قلبه، فإذا لم يبق في قلبه شئ من الشهوات جاز له أن يظهر إلى الناس الزهد بلبس العبا فإنها علم من أعلام الزهاد، ولو لبس ثوبين أبيضين ليستر بهما أبصار الناس عنه وعن زهده كان أسلم لزهده من لبس العبا.
وقال: إذا رأيت الصوفي يتنوق في لبس الصوف فليس بصوفي، وخيار هذه الامة أصحاب القطن، أبو بكر الصديق وأصحابه، وقال غيره: إذا رأيت ضوء الفقير في لباسه فاغسل يديك من فلاحه.
وقال أبو سليمان: الاخ الذي يعظك برؤيته قبل كلامه، وقد كنت أنظر إلى الاخ من أصحابي بالعراق فانتفع برؤيته شهرا.
وقال أبو سليمان قال الله تعالى: عبدي إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت
بقاع الارض ذنوبك ومحوت زلاتك من أم الكتاب ولم أناقشك الحساب يوم القيامة.
وقال أحمد: سألت أبا سليمان عن الصبر فقال: والله إنك لا تقدر عليه في الذي تحب فكيف تقدر عليه فيما تكره ؟ وقال أحمد تنهدت عنده يوما فقال: إنك مسؤول عنها يوم القيامة، فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك، وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك.
وقال إنما رجع من رجع من الطريق قبل وصول، ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا.
وقال إنما عصى الله من عصاه لهوانهم عليه، ولو عزوا عليه وكرموا لحجزهم عن معاصيه وحال بينهم وبينها.
وقال: جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالا الكرم والحلم والعلم والحكمة والرأفة والرحمة والفضل والصفح والاحسان والبر والعفو واللطف.
وذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب محن المشايخ أن أبا سليمان الداراني أخرج من دمشق وقالوا: إنه يرى الملائكة ويكلمونه، فخرج إلى بعض الثغور فرأى بعض أهل الشام في منامه أنه إن لم يرجع إليهم هلكوا.
فخرجوا في طلبه وتشفعوا له وتذللوا له حتى ردوه.
وقد اختلف الناس في وفاته على أقوال فقيل: مات سنة أربع ومائتين، وقيل سنة خمس ومائتين، وقيل خمس عشرة ومائتين، وقيل سنة خمس وثلاثين ومائتين فالله أعلم.
وقد قال مروان الطاطري يوم مات أبو سليمان: لقد أصيب به أهل الاسلام كلهم.
قلت: وقد دفن في قرية داريا في

(10/281)


قبلتها، وقبره بها مشهور وعليه بناء، وقبلته مسجد بناه الامير ناهض الدين عمر النهرواني، ووقف على المقيمين عنده وقفا يدخل عليهم منه غلة، وقد جدد مزاره في زماننا هذا ولم أر ابن عساكر تعرض لموضع دفنه بالكلية، وهذا منه عجيب.
وروى ابن عساكر عن أحمد بن أبي الحواري قال كنت أشتهي أن أرى أبا سليمان في المنام فرأيته بعد سنة فقلت له: ما فعل الله يا معلم ؟ فقال: يا أحمد دخلت يوما من باب الصغير فرأيت حمل شيخ فأخذت منه عودا فما أدري تخللت به أو رميته، فأنا في حسابه إلى الآن.
وقد توفي ابنه سليمان بعده بنحو من سنتين رحمهما الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست ومائتين فيها ولى المأمون داود بن ماسجور بلاد البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين، وأمره بمحاربة
الزط.
وفيها جاء مد كثير فغرق أرض السواد وأهلك للناس شيئا كثيرا.
وفيها ولى المأمون عبد الله بن طاهر بن الحسين أرض الرقة وأمره بمحاربة نصر بن شبث، وذلك أن نائبها يحيى بن معاذ مات وقد كان استخلف مكانه ابنه أحمد فلم يمض ذلك المأمون، واستناب عليها عبد الله بن طاهر لشهامته وبصره بالامور، وحثه على قتال نصر بن شبث، وقد كتب إليه أبوه من خراسان بكتاب فيه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الكتاب والسنة.
وقد ذكره ابن جرير بطوله (1)، وقد تداوله الناس بينهم واستحسنوه وتهادوه بينهم، حتى بلغ أمره إلى المأمون فأمر فقرئ بين يديه فاستجاده جدا، وأمر أن يكتب به نسخ إلى سائر العمال في الاقاليم.
وحج بالناس عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين.
وفيها توفي إسحاق بن بشر الكاهلي أبو حذيفة صاحب كتاب المتبدأ.
وحجاج بن محمد الاعور (2).
وداود بن المحبر الذي وضع كتاب العقل.
وسبابة بن سوار (شبابة) ومحاضر بن المورع (3).
وقطرب صاحب المثلث في اللغة.
ووهب بن جرير (4) ويزيد بن هارون شيخ الامام أحمد.
ثم دخلت سنة سبع ومائتين فيها خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك في
__________
(1) نسخة كتاب طاهر بن الحسين إلى ابنه عبد الله بعد خروجه لقتال نصر بن شبث في الطبري 10 / 258 - 264.
(2) المصيصي صاحب ابن جريج وأحد الحفاظ الثقات المتقنين المكثرين الضابطين مات في ربيع الاول قال أحمد: ما كان أصح حديثه وأضبطه وأشد تعاهده للحروف.
(3) من تقريب التهذيب، وفي ابن الاثير الموزع، صدوق له أوهام قال أبو حاتم ليس بالقوي وقد خرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
(4) ابن حازم الازدي البصري الحافظ روى عن أبيه وابن عون وعدة.
(*)

(10/282)


اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد، وذلك لما أساء العمال السيرة وظلموا الرعايا، فلما ظهر بايعه الناس فبعث إليه المأمون دينار بن عبد الله في جيش كثيف ومعه كتاب أمان لعبد الرحمن هذا إن هو سمع وأطاع، فحضروا الموسم ثم ساروا إلى اليمن وبعثوا بالكتاب إلى عبد الرحمن فسمع وأطاع وجاء
حتى وضع يده في يد دينار، فساروا به إلى بغداد ولبس السواد فيها.
وفي هذه السنة توفي طاهر بن الحسين بن مصعب نائب العراق وخراسان بكمالها، وجد في فراشه ميتا بعد ما صلى العشاء الآخرة والتف في الفراش، فاستبطأ أهله خروجه لصلاة الفجر فدخل عليه أخوه وعمه فوجداه ميتا، فلما بلغ موته المأمون قال: لليدين وللفم الحمد لله الذي قدمه وأخرنا.
وذلك أنه بلغه أن طاهرا خطب يوما ولم يدع للمأمون فوق المنبر، ومع هذا ولى ولده عبد الله مكانه وأضاف إليه زيادة على ما كان ولاه أباه الجزيرة والشام نيابة فاستخلف على خراسان أخاه طلحة بن طاهر سبع سنين، ثم توفي طلحة فاستقل عبد الله بجميع تلك البلاد، وكان نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم وكان طاهر بن الحسين هو الذي انتزع بغداد والعراق من يد الامين وقتله، وقد دخل طاهر يوما على المأمون فسأله حاجة فقضاها له، ثم نظر إليه المأمون وغرورقت عيناه فقال له طاهر: ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فلم يخبره، فأعطى طاهر حسينا الخادم مائتي ألف درهم حتى استعلم له مما بكى أمير المؤمنين فأخبره المأمون وقال لا تخبر به أحدا [ وإلا ] أقتلك، إني ذكرت قتله لاخي وما ناله من الاهانة على يدي طاهر، ووالله لا تفوته مني.
فلما تحقق طاهر ذلك سعى في النقلة من بين يدي المأمون، ولم يزل حتى ولاه خراسان وأطلق له خادما من خدامه، وعهد المأمون إلى الخادم إن رأى منه شيئا يريبه أن يسمه، ودفع إليه سما لا يطاق.
فلما خطب طاهر ولم يدع للمأمون سمه الخادم في كامخ فمات من ليلته.
وقد كان طاهر هذا يقال له ذو اليمينين، وكان أعور بفرد عين.
فقال فيه عمرو بن نباتة: يا ذا اليمينين وعين واحده * نقصان عين ويمين زائده واختلف في معنى قوله ذو اليمينين فقيل لانه ضرب رجلا بشماله فقده نصفين، وقيل لانه ولي العراق وخراسان.
وقد كان كريما ممدحا يحب الشعراء ويعطيهم الجزيل، ركب يوما في حراقة فقال فيه شاعر (1): عجبت لحراقة ابن الحسين * لا غرقت كيف لا تغرق وبحران من فوقها واحد * وآخر من تحتها مطبق
وأعجب من ذلك أعوادها * وقد مسها كيف لا تورق ؟
__________
(1) وهو عوف بن محلم كما في طبقات الشعراء: 189.
(*)

(10/283)


فأجازه بثلاثة آلاف دينار.
وقال إن زدتنا زدناك.
قال ابن خلكان: وما أحسن ما قاله بعض شعراء في بعض الرؤساء وقد ركب البحر: ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعا * إلى الله يا مجري الرياح بلطفه جعلت الندا من كفه مثل موجه * فسلمه واجعل موجه مثل كفه مات طاهر بن الحسين هذا يوم السبت لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة سبع ومائتين، وكان ولده سنة سبع وخمسين، وكان الذي سار إلى ولده عبد الله إلى الرقة يعزيه في أبيه ويهنيه بولاية تلك لبلاد، القاضي يحيى بن أكثم عن أمر المأمون.
وفيها غلا السعر ببغداد والكوفة والبصرة، حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة أربعين درهما.
وفيها حج بالناس أبو علي بن الرشيد أخو المأمون.
وفيها توفي بشر بن عمر الزهراني.
وجعفر بن عون (1).
وعبد الصمد بن عبد الوارث (2).
قراد أبو نوح (3).
وكثير بن هشام (4).
ومحمد بن كناسة (5).
ومحمد بن عمر الواقدي قاضي بغداد صاحب السير والمغازي.
وأبو النضر هاشم بن القاسم (6).
والهيثم بن عدي صاحب التصانيف.
يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور أبو زكريا الكوفي نزيل بغداد مولى بني سعد المشهور بالفراء شيخ النحاة واللغويين والقراء، كان فقال له أمير المؤمنين في النحو، وروى الحديث عن حازم بن الحسن البصري عن مالك بن دينار عن نس بن مالك.
قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان مالك يوم الدين بألف " رواه لخطيب قال: وكان ثقة إماما.
وذكر أن المأمون أمره بوضع كتاب في النحو فأملاه وكتبه الناس عنه، أمر المأمون بكتبه في الخزائن، وأنه كان يؤدب ولديه وليي العهد من بعده، فقام يوما فابتدراه أيهما يقدم نعليه، فتنازعا في ذلك ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما نعلا، فأطلق لهما أبوهما عشرين
__________
(1) أبو عون المخزومي العمري الكوفي سمع من الاعمش والكبار قال أبو حاتم: صدوق.
مات عن نيف وتسعين
سنة.
(2) أبو سهل التميمي التنوري كان ثقة صاحب حديث روى عن أبيه وهشام الدستوائي وشعبة، محدث البصرة وأحد الثقات.
(3) بالاصل ابن نوح تحريف، وهو عبد الرحمن بن غزوان الضبي الخزاعي المعروف بقراد.
قال أحمد: كان عاقلا من الرجال، وقال ابن المديني: ثقة.
وقال ابن معين: ليس به بأس.
توفي ببغداد.
(4) الكلابي الرقي راوية جعفر بن برقان توفي ببغداد في شعبان.
(5) الاسدي النحوي الاخباري الكوفي.
وثقه ابن معين.
وقال أبو حاتم: لا يحتج به سمع من هشام بن عروة والاعمش.
(6) الخراساني نزل بغداد كان حافظا، شيخا لاحمد بن حنبل وهو ثقة.
(*)

(10/284)


ألف دينار، وللفراء عشرة آلاف درهم.
وقال له: لا أعز منك إذ يقدم نعليك ولدا أمير المؤمنين وولي العهد من بعده.
وروي أن بشر المريسي أو محمد بن الحسن سأل الفراء عن رجل سها في سجدتي السهو فقال: لا شئ عليه.
قال: ولم ؟ قال: لان أصحابنا قالوا المصغر لا يصغر.
فقال: ما رأيت أن امرأة تلد مثلك.
والمشهور أن محمدا هو الذي سأله عن ذلك وكان ابن خالة الفراء، وقال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصولي: توفي الفراء سنة سبع ومائتين.
قال الخطيب: كانت وفاته ببغداد، وقيل بطريق مكة، وقد امتدحوه وأثنوا عليه في مصنفاته.
ثم دخلت سنة ثمان ومائتين فيها ذهب الحسن بن الحسين بن مصعب أخو طاهر فارا من خراسان إلى كرمان فعصي بها، فسار إليه أحمد بن أبي خالد فحاصره حتى نزل قهرا، فذهب به إلى المأمون فعفا عنه فاستحسن ذلك منه.
وفيها استعفى محمد بن سماعة من القضاء فأعفاه المأمون وولى مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
وفيها ولى المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي القضاء بعسكر المهدي في شهر المحرم، ثم عزله عن قريب وولى مكانه بشر بن سعيد بن الوليد الكندي في شهر ربيع الاول منها، فقال المخزومي
في ذلك: ألا أيها الملك الموحد ربه * قاضيك بشر بن الوليد حمار ينفي شهادة من يدين بما به * نطق الكتاب وجاءت الاخبار ويعد عدلا من يقول بأنه * شيخ تحيط بجسمه الاقطار وفيها حج بالناس صالح بن هارون الرشيد عن أمر أخيه المأمون.
وفيها توفي من الاعيان: الاسود بن عامر (1).
وسعيد بن عامر (2).
وعبد الله بن بكر أحد مشايخ الحديث.
والفضل بن الربيع الحاجب.
ومحمد بن مصعب (3).
وموسى بن محمد الامين الذي كان قد ولاه العهد من بعده ولقبه بالناطق فلم يتم له أمره حتى قتل أبوه وكان ما كان كما تقدم.
ويحيى بن أبي بكير (4).
ويحيى بن حسان (5).
ويعقوب بن إبراهيم الزهري.
ويونس بن محمد المؤدب.
__________
(1) شاذان أبو عبد الرحمن كان ثقة حافظا توفي ببغداد.
(2) الضبعي أبو محمد البصري أحد الاعلام في العلم والعمل، قال أحمد بن حنبل: ما رأيت أفضل منه.
(3) القرقساني روى عن الاوزاعي واسرائيل وضعفه النسائي وغيره.
(4) الكرماني كوفي الاصل نزل بغداد ثقة حدث عن شعبة وأبي بكر الرازي والكبار.
(5) التنيسي أبو زكريا كان إماما حجة من جلة المصريين روى عن حماد بن سلمة وطائفة.
(*)

(10/285)


وفاة السيدة نفيسة وهي نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، القرشية الهاشمية، كان أبوها نائبا للمنصور على المدينة النبوية خمس سنين، ثم غضب المنصور عليه فعزله عنها وأخذ منه كل ما كان يملكه وما كان جمعه منها، وأودعه السجن ببغداد.
فلم يزل به حتى توفي المنصور فأطلقه المهدي وأطلق له كل ما كان أخذ منه، وخرج معه إلى الحج في سنة ثمان وستين ومائة، فلما كان بالحاجر (1) توفي عن خمس وثمانين سنة.
وقد روى له النسائي حديثه عن عكرمه عن ابن عباس " أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ".
وقد ضعفه ابن معين وابن عدي، ووثقه ابن حبان.
وذكره الزبير بن بكار وأثنى عليه في رياسته وشهامته.
والمقصود أن ابنته نفيسة دخلت الديار المصرية مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر، فأقامت بها وكانت ذات مال فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير.
ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه وكان ربما صلى بها في شهر رمضان.
وحين مات أمرت بجنازته فأدخلت إليها المنزل فصلت عليه.
ولما توفيت عزم زوجها إسحاق بن جعفر أن ينقلها إلى المدينة النبوية فمنعه أهل مصر من ذلك وسألوه أن يدفنها عندهم، فدفنت في المنزل الذي كانت تسكنه بمحلة كانت تعرف قديما بدرب السباع بين مصر والقاهرة، وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكره ابن خلكان.
قال: ولاهل مصر فيها اعتقاد.
قلت: وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز.
وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته.
والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الاصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام.
ومن زعم أنها تفك من الخشب أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك.
رحمها الله وأكرمها.
الفضل بن الربيع ابن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة كيسان مولى عثمان بن عفان، كان الفضل هذا متمكنا من الرشيد، وكان زوال دولة البرامكة على يديه، وقد وزر مرة للرشيد، وكان شديد التشبه بالبرامكة، وكانوا يتشبهون به، فلم يزل يعمل جهده فيهم حتى هلكوا كما تقدم.
وذكر ابن خلكان أن الفضل هذا دخل يوما على يحيى بن خالد وابنه جعفر يوقع بين يديه، مع الفضل عشر قصص فلم يقض له منها واحدة، فجمعهن الفضل بن الربيع وقال: ارجعن خائبات خاسئات ثم نهض وهو يقول:
__________
(1) الحاجر: موضع على خمسة أميال من المدينة.
(*)

(10/286)


عسى وعسى يثني الزمان عنانه * بتصريف حال والزمان عثور فتقضى لبانات وتشفى حزائز (1) * وتحدث من بعد الامور أمور فسمعه الوزير يحيى بن خالد فقال له: أقسمت عليك لما رجعت، فأخذ منه القصص فوقع عليها.
ثم لم يزل يحفر خلفهم حتى تمكن منهم وتولى الوزارة بعدهم، وفي ذلك يقول أبو نواس (2): ما رعى الدهر آل برمك لما * أن رمى ملكهم بأمر فظيع إن دهرا لم يرع ذمة (3) ليحيى * غير راع ذمام آل الربيع ثم وزر بعد الرشيد لابنه الامين فلما دخل المأمون بغداد اختفى فأرسل له المأمون أمانا فخرج فجاء فدخل على المأمون بعد اختفاء مدة فأمنه، ثم لم يزل خاملا حتى مات في هذه السنة، وله ثمان وستون سنة.
ثم دخلت سنة تسع ومائتين فيها حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بعد ما حاربه خمس سنين وضيق عليه جدا حتى ألجأه إلى أن طلب منه الامان، فكتب ابن طاهر إلى المأمون يعلمه بذلك، فأرسل إليه أن يكتب له أمانا عن أمير المؤمنين.
فكتب له كتاب أمان فنزل فأمر عبد الله بتخريب المدينة التي كان متحصنا بها، وذهب شره، وفيها جرت حروب مع بابك الخرمي فأسر بابك بعض أمراء الاسلام وأحد مقدمي العساكر، فاشتد ذلك على المسلمين.
وفيها حج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو والي مكة.
وفيها توفي ملك الروم ميخائيل بن نقفور (جرجس) وكان له عليهم تسع سنين، فملكوا عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل.
وفيها توفي من مشايخ الحديث: الحسن بن موسى الاشيب (4)، وأبو علي الحنفي (5).
وحفص بن عبد الله قاضي نيسابور.
وعثمان بن عمر بن فارس.
ويعلى بن عبيد الطنافسي (6).
__________
(1) في وفيات الاعيان 4 / 38: حسائف.
(2) في مروج الذهب 3 / 467: قال أبو حزرة، قال: وقيل أبو نواس.
(3) في مروج الذهب: حقا، وفي وفيات الاعيان: عهدا.
(4) أبو علي البغدادي قاضي طبرستان بعد قضاء الموصل وكان ثقة مشهورا روى عن شعبة وحريز بن عثمان وطائفة.
(5) واسمه عبيد الله بن عبد الحميد البصري روى عن قرة بن خالد ومالك بن مغول.
(6) أبو يوسف الكوفي روى عن الاعمش ويحيى بن سعيد الانصاري والكبار.
قال أحمد بن يونس: ما رأيت أفضل منه.
(*)

(10/287)


ثم دخلت سنة عشر ومائتين في صفر منها دخل نصر بن شبث بغداد، بعثه عبد الله بن طاهر فدخلها ولم يتلقاه أحد من الجند بل دخلها وحده، فأنزل في المدينة أبي جعفر ثم حول إلى موضع آخر.
وفي هذا الشهر ظفر المأمون بجماعة من كبراء من كان بايع إبراهيم بن المهدي فعاقبهم وحبسهم في المطبق، ولما كان ليلة الاحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر اجتاز إبراهيم بن المهدي - وكان مختفيا مدة ست سنين وشهورا متنقبا في زي امرأة ومعه امرأتان - في بعض دروب بغداد في أثناء الليل، فقام الحارس فقال: إلى أين هذه الساعة ؟ ومن أين ؟ ثم أراد أن يمسكهن فأعطاه إبراهيم خاتما كان في يده من ياقوت، فلما نظر إليه استراب وقال: إنما هذا خاتم رجل كبير الشأن، فذهب بن إلى متولي الليل فأمرهن أن يسفرن عن وجوههن، فتمنع إبراهيم فكشفوا عن وجهه فإذا هو هو، فعرفه فذهب به إلى صاحب الجسر فسلمه إليه فرفعه الآخر إلى باب المأمون، فأصبح في دار الخلافة ونقابه على رأسه والملحفة في صدره ليراه الناس، وليعملوا كيف أخذ.
فأمر المأمون بالاحتفاظ به والاحتراس عليه مدة، ثم أطلقه ورضي عنه.
هذا وقد صلب جماعة ممن كان سجنهم بسببه لكونهم أرادوا الفتك بالموكلين بالسجن، فصلب منهم أربعة.
وقد ذكروا أن إبراهيم لما وقف بين يدي المأمون أنبه على ما كان منه فترقق له عمه إبراهيم كثيرا، وقال: يا أمير المؤمنين إن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك.
فقال: بل أعفو يا إبراهيم إن القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة وبينهما عفو الله عزوجل، وهو أكبر مما تسأله، فكبر إبراهيم
وسجد شكرا لله عزوجل.
وقد امتدح إبراهيم بن المهدي ابن أخيه المأمون بقصيدة بالغ فيها، فلما سمعها المأمون قال: أقول كما قال يوسف لاخوته (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) [ يوسف: 92 ] وذكر ابن عساكر أن المأمون لما عفا عن عمه إبراهيم أمره أن يغنيه شيئا فقال: إني تركته.
فأمره فأخذ العود في حجره وقال: هذا مقام سرور خربت منازله ودوره * نمت عليه عداته كذبا فعاقبه أميره ثم عاد فقال: ذهبت من الدنيا وقد ذهبت عني * لوى الدهر بي عنها وولى بها عني فإن أبك نفسي أبك نفسا عزيزة * وإن أحتقرها أحتقرها على ضغن وإني وإن كنت المسئ بعينه * فإني بربي موقن حسن الظن عدوت على نفسي فعاد بعفوه * علي فعاد العفو منا على من

(10/288)


فقال المأمون: أحسنت يا أمير المؤمنين حقا.
فرمى العود من حجره ووثب قائما فزعا من هذا الكلام، فقال له المأمون: اجلس واسكن مرحبا بك وأهلا، لم يكن ذلك لشئ تتوهمه، ووالله لا رأيت طول أيام شيئا تكرهه.
ثم أمر له بعشرة آلاف دينار وخلع عليه، ثم أمر له برد جميع ما كان له من الاموال والضياع والدور فردت إليه، وخرج من عنده مكرما معظما.
عرس بوران وفي رمضان منها بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وقيل إنه خرج في رمضان إلى معسكر الحسن بن سهل بفم الصلح، وكان الحسن قد عوفي من مرضه، فنزل المأمون عنده بمن معه من وجوه الامراء والرؤساء وأكابر بني هاشم، فدخل ببوران في شوال من هذه السنة في ليلة عظيمة وقد أشعلت بين يديه شموع العنبر، ونثر على رأسه الدر والجوهر، فوق حصر منسوجة بالذهب الاحمر.
وكان عدد الجوهر منه ألف درة، فأمر به فجمع في صينية من ذهب كان الجوهر فيها فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا
نثرناه لتتلقطه الجواري، فقال: لا أنا أعوضهن من ذلك.
فجمع كله، فلما جاءت العروس ومعها جدتها [ أم الفضل و ] (1) زبيدة أم أخيه الامين - من جملة من جاء معها - فأجلست إلى جانبه فصب في حجرها ذلك الجوهر وقال: هذا نحلة مني إليك وسلي حاجتك، فأطرقت حياء.
فقالت جدتها: كلمي سيدك وسليه حاجتك فقد أمرك.
فقالت: يا أمير المؤمنين أسألك أن ترضى عن عمك إبراهيم بن المهدي، وأن ترده إلى منزلته التي كان فيها، فقال: نعم ! قالت: وأم جعفر - تعني زبيدة - تأذن لها في الحج.
قال: نعم ! فخلعت عليها زبيدة بذلتها الاميرية (2) وأطلقت له قرية مقورة.
وأما والد العروس الحسن بن سهل فإنه كتب أسماء قراه وضياعه وأملاكه في رقاع ونثرها على الامراء ووجوه الناس، فمن وقعت بيده رقعة في قرية منها بعث إلى القرية التي فيها نوابه فسلمها إليه ملكا خالصا.
وأنفق على المأمون ومن كان معه من الجيش في مدة إقامته عنده سبعة عشر يوما ما يعادل خمسين ألف ألف درهم.
ولما أراد المأمون الانصراف من عنده أطلق له عشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه البلد الذي هو نازل بها، وهو إقليم فم الصلح (3) مضافا إلى ما بيده من الاقطاعات.
ورجع المأمون إلى بغداد في أواخر شوال من هذه السنة.
وفي هذه السنة ركب عبد الله بن طاهر إلى مصر فاستنقذها بأمر المأمون من يد عبيد الله بن السري بن الحكم المتغلب عليها، واستعادها منه بعد حروب يطول ذكرها.
وفيها توفي من الاعيان أبو عمرو الشيباني اللغوي واسمه إسحاق بن مرار.
ومروان بن محمد الطاطري (4).
ويحيى بن إسحاق والله سبحانه أعلم.
__________
(1) من ابن الاثير 6 / 395، وقد سقطت من الاصل فجاء المعنى مختلفا.
(2) في الطبري: الاموية، وفي ابن الاثير 6 / 395: اللؤلؤية الاموية.
(3) فم الصلح: نهر كبير، يأخذ من دجلة بأعلى واسط عليه نواح كثيرة، وقيل: بلدة على دجلة قريبة من واسط.
(4) الطاطري: لقب من يبيع ثياب الكرابيس بدمشق، وهو أبو بكر الدمشقي كان إماما ثقة متقنا صالحا خاشعا.
(*)

(10/289)


ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين فيها توفي أبو الجواب (1).
وطلق بن غنام (2).
وعبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب المصنف
والمسند.
وعبد الله بن صالح العجلي (3).
أبو العتاهية الشاعر المشهور
واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أصله من الحجاز، وقد كان تعشق جارية للمهدي اسمها عتبة، وقد طلبها منه غير مرة فإذا سمح له بها لم ترده الجارية، وتقول للخليفة: أتعطيني لرجل دميم الخلق كان يبيع الجرار ؟ فكان يكثر التغزل فيها، وشاع أمره واشتهر بها، وكان المهدي يفهم ذلك منه.
واتفق في بعض الاحيان أن المهدي استدعى الشعراء إلى مجلسه وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن برد الاعمى، فسمع صوت أبي العتاهية.
فقال بشار لجليسه: أثم ههنا أبو العتاهية ؟ قال: نعم فانطلق يذكر قصيدته فيها التي أولها: ألا ما لسيدتي ما لها * أدلت فأجمل إدلالها فقال بشار لجليسه: ما رأيت أجسر من هذا.
حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله: أتته الخلافة منقادة * إليه تجرر أذيالها فلم تك تصلح إلا له * ولم يك يصلح إلا لها ولو رامها أحد غيره * لزلزلت الارض زلزالها ولو لم تطعه بنات القلوب * لما قبل الله أعمالها فقال بشار لجليسه: انظروا أطار الخليفة عن فراشه أم لا ؟ قال: فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره.
قال ابن خلكان: اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس - وكان في طبقته وطبقة بشار - فقال أبو العتاهية لابي نواس: كم تعمل في اليوم من الشعر ؟ قال: بيتا أو بيتين.
فقال: لكني أعمل المائة والمائتين.
فقال أبو نواس: لعلك تعمل مثل قولك: يا عتب ما لي ولك * يا ليتني لم أرك ولو عملت أنا مثل هذا لعملت الالف والالفين وأنا أعمل مثل قولي:
__________
(1) وهو أحوص بن جواب الكوفي.
قال في المغني: صدوق، وقال ابن معين: ليس بذاك القوي وقال أبو حاتم: صدوق.
(2) النخعي الكوفي روى عن مالك بن مغول أقدم من مات من شيوخ البخاري.
(3) العجلي الكوفي المقرئ المحدث نزيل المغرب سمع من اسرائيل وطبقته.
(*)

(10/290)


من كف ذات حر في زي ذي ذكر * لها محبان: لوطي وزناء ولو أردت مثلي لاعجزك الدهر.
قال ابن خلكان: ومن لطيف شعر أبي العتاهية: إني (1) صبوت إليك حت * تى صرت من فرط التصابي يجد الجليس إذا دنا * ريح التصابي في ثيابي وكان مولده سنة ثلاثين ومائة.
وتوفي يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وقيل ثلاث عشرة ومائتين، وأوصى أن يكتب على قبره ببغداد: إن عيشا يكون آخره المو * ت لعيش معجل التنغيص ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائتين فيها وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي على طريق الموصل لمحاربة بابك الخرمي في أرض أذربيجان، فأخذ جماعة من الملتفين عليه فبعث بهم إلى المأمون.
وفي ربيع الاول أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الاخرى، وهي القول بخلق القرآن، والثانية تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخطأ في كل منهما خطأ كبيرا فاحشا، وأثم إثما عظيما.
وفيها حج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس العباسي.
وفيها توفي أسد بن موسى الذي يقال له أسد السنة.
والحسن بن جعفر.
وأبو عاصم النبيل واسمه الضحاك بن مخلد (2).
وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي الدمشقي (3).
ومحمد بن يوسف (4) الفريابي شيخ البخاري.