البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق.
فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل.
وفيها حج بالناس محمد بن المنتصر بن المتوكل.
وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن مصعب سمه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن إبراهيم، وكان محمد بن إبراهيم هذا من الامراء الكبار.
وفيها توفي الحسن بن سهل الوزير والد بوران زوجة المأمون التي تقدم ذكرها، وكان من سادات الناس، ويقال إن إسحاق بن إبراهيم المغني توفي في هذه السنة فالله أعلم.
وفيها توفي أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي فجأة، فولى ابنه يوسف مكانه على نيابة أرمينية، وفيها توفي إبراهيم بن المنذر الحزامي (1).
ومصعب بن عبد الله الزبيري (2).
وهدبة بن خالد القيسي (3).
وأبو الصلت الهروي أحد الضعفاء.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين فيها قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير بها وبعثه إلى نائب الخليفة، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد، فتحزب أهل تلك الطريق وجاؤوا فحاصروا البلد التي بها يوسف فخرج إليهم ليقاتلهم فقتلوه وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه وهلك كثير من الناس من شدة البرد، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الامر الفظيع أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير في جيش كثيف جدا فقتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة نحوا من ثلاثين ألفا وأسر منهم طائفة كبيرة، ثم سار إلى بلاد الباق من كور البسفرجان وسلك إلى مدن كثيرة كبار ومهد المماليك ووطد البلاد والنواحي.
وفي صفر منها غضب المتوكل على ابن أبي دؤاد القاضي المعتزلي وكان على المظالم، فعزله عنها واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاء القضاة والمظالم أيضا (4).
وفي ربيع الاول أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد وأخذ ابنه أبا الوليد محمد فحبسه في يوم السبت
لثلاث خلون من ربيع الآخر (5)، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار، ومن الجواهر
__________
(1) من تقريب التهذيب، وفي الاصل الحرابي.
والحزامي نسبة إلى جده الاعلى: حزام بن خويلد.
وهو أبو اسحاق المدني الحافظ محدث المدينة.
(2) وهو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، أبو عبد الله الزبيري، المدني نزيل بغداد النسابة الاخباري عاش ثمانين سنة وكان ثقة.
(3) البصري أبو خالد الحافظ سمع حماد بن سلمة ومبارك بن فضالة والكبار فأكثر.
(4) في مروج الذهب 4 / 111: كان ذلك في سنة تسع وثلاثين (انظر المنهج الاحمد في تراجم أصحاب الامام أحمد 1 / 91).
(5) في الطبري 11 / 46: الاول.
(*)

(10/347)


النفيسة ما يقوم بعشرين (1) ألف دينار، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم.
كان ابن أبي دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا.
ثم نفي أهله من سامرا إلى بغداد مهانين، قال ابن جرير فقال في ذلك أبو العتاهية: لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق لكان في الفقه شغل لو قنعت به * عن أن تقول كتاب الله مخلوق ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم * ما كان في الفرع لو لا الجهل والموق وفي عيد الفطر منها أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، واجتمع في جنازته خلق كثير جدا، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوما مشهودا.
ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به، وأرهج العامة بذلك فرحا وسرورا، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت.
وأمر
الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الامام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه، فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيرا فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي رحمه الله تعالى.
وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص ويظن أنه يأكل منه، وكان أحمد لا يأكل لهم طعاما بل كان صائما مواصلا طاويا تلك الايام، لانه لم يتيسر له شئ يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشئ من ذلك، ولو لا أنهم أسرعوا الاوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا، وارتفعت السنة جدا في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الامام أحمد، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة، وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الاثر، وكان قد ولى من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية، وسوار بن عبد الله قضاء الجانب الغربي، وكان كلاهما أعورا.
فقال في ذلك بعض أصحاب (2) ابن أبي دؤاد: رأيت من العجائب قاضيين * هما أحدوثة في الخافقين هما اقتسما العمى نصفين قدا * كما اقتسما قضاء الجانبين ويحسب منهما من هز رأسا * لينظر في مواريث ودين
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 111: أربعين ألف دينار: ولم يذكر مصالحته له.
(2) وهو الجماز كما في الطبري وابن الاثير.
(*)

(10/348)


كأنك قد وضعت عليه دنا * فتحت بزاله من فرد عين هما فأل الزمان بهلك يحيى * إذ افتتح القضاء بأعورين وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الارمني.
وحج بالناس علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أمير الحجاز.
وفيها توفي حاتم الاصم (1).
وممن توفي فيها عبد الاعلى بن حماد (2).
وعبيد الله بن معاذ العنبري (3) وأبو كامل الفضيل بن الحسن (4) الجحدري.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين في ربيع الاول منها حاصر بغا مدينة تفليس وعلى مقدمته زيرك التركي، فخرج إليه صاحب تفليس إسحاق بن إسماعيل فقاتله فأسر بغا إسحاق فأمر بغا بضرب عنقه وصلبه، وأمر بإلقاء النار في النفط إلى نحو المدينة، وكان أكثر بنائها من خشب الصنوبر، فأحرق أكثرها وأحرق من أهلها نحوا من خمسين ألفا، وطفئت النار بعد يومين، لان نار الصنوبر لا بقاء لها.
ودخل الجند فأسروا من بقي من أهلها واستلبوهم حتى استلبوا المواشي.
ثم سار بغا إلى مدن أخرى ممن كان يمالئ أهلها مع من قتل نائب أرمينية يوسف بن محمد بن يوسف، فأخذ بثأره وعاقب من تجرأ عليه.
وفيها جاءت الفرنج في نحو من ثلثمائة مركب قاصدين مصر من جهة دمياط، فدخلوها فجأة فقتلوا من أهلها خلقا وحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا من النساء نحوا من ستمائة امرأة، من المسلمات مائة وخسمة وعشرين امرأة، وسائرهن من النساء القبط، وأخذوا من الامتعة والمال والاسلحة شيئا كثيرا جدا، وفر الناس منهم في كل جهة، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه، ثم رجعوا على حمية ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا بلادهم لعنهم الله.
وفي هذه السنة غزا الصائفة علي بن يحيى الارمني.
وفيها حج بالناس الامير الذي حج بهم قبلها.
وفيها توفي إسحاق بن راهويه أحد الاعلام وعلماء الاسلام، والمجتهدين من الانام.
وبشر بن الوليد الفقيه الحنفي.
وطالوت بن عباد (5).
ومحمد بن بكار بن الريان (6).
ومحمد بن البرجاني (7).
__________
(1) أبو عبد الرحمن الزاهد صاحب المواعظ والحكم، لقب بلقمان الامة، قال السلمي في طبقاته: وهو حاتم بن عنوان ويقال حاتم بن يوسف وهو من قدماء مشايخ خراسان.
ولم يكن أصم إنما هو لقب غلب عليه.
(2) الحافظ روى عن حماد بن سلمة ومالك وخلق، وصله المتوكل بمال عندما قدم عليه.
(3) البصري.
قال أبو داود: كان فصيحا يحفظ نحو أربعة آلاف حديث.
(4) في تقريب التهذيب الحسين، سمع حماد بن سلمة والكبار.
ثقة حافظ.
مات وله أكثر من (80) سنة.
(5) أبو عثمان الصيرفي البصري.
ثقة ولم يخرجوا له شيئا.
(6) من تقريب التهذيب، وفي الاصل الزيات.
أبو عبد الله البغدادي الرصافي، الهاشمي مولاهم مات وله 93 سنة.
= (*)

(10/349)


ومحمد بن أبي السري العسقلاني (8).
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين في المحرم منها زاد المتوكل في التغليظ على أهل الذمة في التميز في اللباس وأكد الامر بتخريب الكنائس المحدثة في الاسلام.
وفيها نفى المتوكل علي بن الجهم إلى خراسان.
وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز في يوم واحد وهو يوم الاحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، وزعمت النصارى أن هذا لم يتفق مثله في الاسلام إلا في هذا العام.
وغزا الصائفة علي بن يحيى المذكور.
وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود والي مكة.
قال ابن جرير: وفيها توفي أبو الوليد محمد بن القاضي أحمد بن أبي دؤاد الايادي المعتزلي.
قلت: وممن توفي فيها داود بن رشيد (2).
وصفوان بن صالح مؤذن أهل دمشق.
وعبد الملك بن حبيب الفقيه المالكي، أحد المشاهير.
وعثمان بن أبي شيبة صاحب التفسير والمسند المشهور.
ومحمد بن مهران الرازي (3).
ومحمود بن غيلان (4).
ووهب بن بقية (5).
وفيها توفي: أحمد بن عاصم الانطاكي أبو علي الواعظ الزاهد أحد العباد والزهاد، له كلام حسن في الزهد ومعاملات القلوب، قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان من طبقة الحارث المحاسبي، وبشر الحافي.
وكان أبو سليمان الداراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته.
روى عن أبي معاوية الضرير وطبقته، وعنه أحمد بن الحواري، ومحمود بن خالد، وأبو زرعة الدمشقي.
وغيرهم.
روى عنه أحمد بن الحواري، عن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال: مررت بالحسن البصري وهو جالس وقت السحر فقلت: يا أبا سعيد مثلك يجلس في هذا الوقت ؟ قال: إني توضأت وأردت نفسي على الصلاة فأبت علي، وأرادتني على أن تنام فأبيت عليها.
ومن مستجاد كلامه قوله: إذا أردت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ جوارحك.
وقال: من الغنيمة الباردة أن تصلح ما بقي من عمرك فيغفر لك ما مضى منه.
وقال: يسير
__________
(7) في معجم البلدان: البرجلاني مصنف الزهديات وشيخ ابن أبي الدنيا.
(1) سمع الفضيل بن عياض وطبقته مات في شعبان.
(2) أبو الفضل الخوارزمي سمع اسماعيل بن جعفر وطبقته وكان ثقة واسع الرواية مات ببغداد في شعبان.
(3) روى عن فضيل بن عياض وخلق كثير حدث عنه الشيخان وغيرهما وكان ثقة.
(4) أبو أحمد المروزي، وهو من مشايخ البخاري ومسلم والترمذي.
كان حافظا ثقة.
(5) الواسطي ويقال له وهبان روى عن هشيم وأقرانه.
(*)

(10/350)


اليقين يخرج الشك كله من قلبك، ويسير الشك يخرج اليقين كله منه.
وقال: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
وقال: خير صاحب لك في دنياك الهم، يقطعك عن الدنيا ويوصلك إلى الآخرة.
ومن شعره: هممت ولم أعزم ولو كنت صادقا * عزمت ولكن الفطام شديدا ولو كان لي عقل وإيقان موقن * لما كنت عن قصد الطريق أحيد ولو كان في غير السلوك مطامعي * ولكن عن الاقدار كيف أميد ومن شعره أيضا: قد بقينا مذبذبين حيارى * نطلب الصدق ما إليه سبيل فدواعي الهوى تخف علينا * وخلاف الهوى علينا ثقيل فقد الصدق في الاماكن حتى * وصفه اليوم ما عليه دليل لا نرى خائفا فيلزمنا الخوف * ولسنا نرى صادقا على ما يقول ومن شعره أيضا: هون عليك فكل الامر ينقطع * وخل عنك ضباب الهم يندفع فكل هم له من بعده فرج * وكل كرب إذا ما ضاق يتسع إن البلاء وإن طال الزمان به * الموت يقطعه أو سوف ينقطع وقد أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته ولم يؤرخ وفاته، وإنما ذكرته ههنا تقريبا والله أعلم.
ثم دخلت سنة أربعين ومائتين فيها عدا أهل حمص على عاملهم أبي الغيث (1) موسى بن إبراهيم الرافقي (2) لانه قتل رجلا من أشرافهم فقتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوه من بين أظهرهم، فبعث إليهم المتوكل أميرا عليهم وقال للسفير معه: إن قبلوه وإلا فأعلمني.
فقبلوه (3) فعمل فيهم الاعاجيب وأهانهم غاية الاهانة.
وفيها عزل المتوكل يحيى بن أكثم القاضي عن قضاء القضاة وصادره بما مبلغه ثمانون ألف دينار، وأخذ منه أراضي كثيرة في أرض البصرة، وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي على قضاء القضاة.
قال ابن جرير: وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه بعشرين يوما.
__________
(1) في الطبري 11 / 49 وابن الاثير 7 / 73: أبي المغيث.
(2) في الطبري وابن الاثير: الرافعي.
(3) وهو محمد بن عبدويه كرداس الانباري (الطبري.
ابن الاثير).
(*)

(10/351)


وهذه ترجمته هو أحمد بن أبي دؤاد واسمه الفرج - وقيل دعمى، والصحيح أن اسمه كنيته - الايادي المعتزلي.
قال ابن خلكان في نسبه: هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام [ بن مالك ] بن عبد هند بن عبد نجم (1) بن مالك بن فيض بن منعة بن برجان بن دوس الهذلي بن أمية بن حذيفة بن زهير بن إياد بن أد بن معد بن عدنان.
قال الخطيب: ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق.
وكان موصوفا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الادب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة.
قال الصولي: لم يكن بعد البرامكة أكرم منه، ولو لا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الانس.
قالوا: وكان مولده في سنة ستين ومائة، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة.
قال ابن خلكان: وأصله من بلاد قنسرين، وكان أبوه تاجرا يفد إلى الشام ثم وفد إلى العراق وأخذ ولده هذا معه إلى العراق، فاشتغل بالعلم وصحب هياج بن العلاء السلمي أحد
أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ويأخذ عنه العلم.
ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب الوفيات، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال: رسول الله والخلفاء منا * ومنا أحمد بن أبي دؤاد (2) فرد عليه بعض الشعراء فقال (3): فقل للفاخرين على نزار * وهم في الارض سادات العباد رسول الله والخلفاء منا * ونبرأ من دعي بني إياد وما منا إياد إذا أقرت * بدعوة أحمد بن أبي دؤاد قال: فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال: لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد.
وعفا عنه.
قال الخطيب: حدثني الازهري: ثنا أحمد بن عمر الواعظ، حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك، حدثني جرير بن أحمد أبو مالك قال: كان أبي - يعني أحمد بن أبي دؤاد إذا صلى رفع يديه إلى السماء وخاطب ربه وأنشأ يقول: ما أنت بالسبب الضعيف وإنما * نجح الامور بقوة الاسباب
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 81: لخم بن مالك بن قنص.
(2) نسب البيت لمروان بن أبي الجنوب، ضمن أبيات قالها في مدح ابن أبي دؤاد (وفيات الاعيان 1 / 86 ومعجم المرزباني 321).
(3) وهو أبو هفان المهزمي كما في الوفيات.
(*)

(10/352)


واليوم حاجتنا إليك وإنما * يدعى الطبيب لساعة الاوصاب ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على ابن أبي دؤاد يوما فقال له: أحسبك عاتبا، فقال: إنما يعتب على واحد وأنت الناس جميعا، فقال له: أنى لك هذا ؟ فقال: من قول أبي نواس: وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد (1) وامتدحه أبو تمام يوما فقال:
لقد أنست مساوي كل دهر * محاسن أحمد بن أبي دؤاد وما سافرت في الآفاق إلا * ومن جدواك (2) راحلتي وزادي نعم (3) الظن عندك والاماني * وإن قلقت ركابي في البلاد فقال له: هذا المعنى تفردت به أو أخذته من غيرك ؟ فقال: هو لي، غير أني ألمحت بقول أبي نواس: وإن جرت الالفاظ يوما بمدحة * لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني وقال محمد بن الصولي: ومن مختار مديح أبي تمام لاحمد بن أبي دؤاد قوله: أأحمد إن الحاسدين كثير * ومالك إن عد الكرام نظير حللت محلا فاضلا متقادما * من المجد والفخر القديم فخور فكل غني أو فقير فإنه * إليك وإن نال السماء فقير إليك تناهى المجد من كل وجهة * يصير فما يعدوك حيث يصير وبدر إياد أنت لا ينكرونه * كذاك إياد للانام بدور تجنبت أن تدعى الامير تواضعا * وأنت لمن يدعى الامير أمير فما من يد إلا إليك ممدة * وما رفعة إلا إليك تشير قلت: قد أخطأ الشاعر في هذه الابيات خطأ كبيرا، وأفحش في المبالغة فحشا كثيرا، ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل، أن يكون له جهنم وساءت مصيرا.
وقال ابن أبي دؤاد يوما لبعضهم: لما لم لا تسألني ؟ فقال له: لاني لو سألتك أعطيتك ثمن صلتك.
فقال له: صدقت.
وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم.
__________
(1) قاله أبو نواس في مدح الفضل بن الربيع.
(2) في مروج الذهب 4 / 113: فما...ومن جدواه (ديوانه 1 / 378 وأخبار أبي تمام للصولي).
(3) في مروج الذهب: مقيم.
(*)

(10/353)


وقال ابن الاعرابي: سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير فقال: يا غلام اعطه عيرا وبغلا وبرذونا وفرسا وجارية.
وقال له: لو أعلم مركوبا غير هذا لاعطيتك.
ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة أخبارا تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات، وعظيم منزلته عند الخلفاء.
وذكر عن محمد المهدي بن الواثق أن شيخا دخل يوما على الواثق فسلم فلم يرد عليه الواثق بل قال: لا سلم الله عليك.
فقال: يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك معلمك.
قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [ النساء: 86 ] فلا حييتني بأحسن منها ولا رددتها.
فقال ابن أبي دؤاد يا أمير المؤمنين الرجل متكلم.
فقال: ناظره.
فقال ابن أبي دؤاد: ما تقول يا شيخ في القرآن أمخلوق هو ؟ فقال الشيخ: لم تنصفني، المسألة لي.
فقال: قل.
فقال: هذا الذي تقوله علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه ؟ فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموه.
قال: فأنت علمت ما لم يعلموا، فخجل وسكت.
ثم قال أقلني بل علموه، قال: فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت، أما يسعك ما وسعهم ؟ فخجل وسكت وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار فلم يقبلها.
قال المهدي: فدخل أبي المنزل فاستلقى على ظهره وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ويقول: أما وسعك ما وسعهم ؟ ثم أطلق الشيخ وأعطاه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحدا.
ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وساق قصته مطولة.
وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الاعرابي أنه قال في أبي دؤاد: نكست الدين يا بن أبي دؤاد * فأصبح من أطاعك في ارتداد زعمت كلام ربك كان خلقا * أما لك عند ربك من معاد كلام الله أنزله بعلم * على جبريل إلى خير العباد (1) ومن أمسى ببابك مستضيفا * كمن حل الفلاة بغير زاد لقد أطرفت يا بن أبي دؤاد * بقولك إنني رجل إيدي ثم قال الخطيب: أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد:
لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد * وكان عزمك عزما فيه توفيق وقد تقدمت هذه الابيات.
وروى الخطيب عن أحمد بن الموفق أو يحيى الجلاء أنه قال: ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره، فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئا، فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الجامع وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه، فجعل
__________
(1) كذا بالاصل والوزن غير مستقيم.
(*)

(10/354)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية (فإن يكفر بها هؤلاء) [ الانعام: 89 ] ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) [ الانعام: 89 ] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه.
وقال بعضهم: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد.
فقلت له: وما سبب هلاكه ؟ فقال: إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سموات.
وقال غيره: رأيت ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن النار زفرت زفرة عظيمة فخرج منها لهب فقلت: ما هذا ؟ فقيل هذا أنجزت لابن أبي دؤاد.
وقد كان هلاكه في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، وصلى عليه ابنه العباس ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحا في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئا من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك.
وقد دخل عليه بعضهم فقال: والله ما جئتك عائدا وإنما جئتك لاعزيك في نفسك وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن، ثم خرج عنه داعيا عليه بأن يزيده الله ولا ينقصه مما هو فيه، فازداد مرضا إلى مرضه.
وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جدا، ولو كان يحمل العقوبة لوضعها عليه المتوكل.
قال ابن خلكان: كان مولده في سنة ستين ومائة.
قلت: فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أن ابن أكثم كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون، فحظي عنده بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم، فولاه المعتصم القضاء والمظالم، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه، وجرت بينهما منافسات وهجو، وقد
كان لا يقطع أمرا بدونه.
وعزل ابن أكثم عن القضاء وولاه مكانه، وهذه المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن.
ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به الفالج وما صودر به من المال، وأن ابنه أبا الوليد محمد صودر بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار (1)، وأنه مات قبل أبيه بشهر.
وأما ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحا جيدا.
وقد كان الرجل أديبا فصيحا كريما جوادا ممدحا يؤثر العطاء على المنع، والتفرقة على الجمع وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس يوما مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق فقال ابن أبي دؤاد إنه ليعجبني هذان البيتان: ولي نظرة لو كان يحبل ناظر * بنظرته أنثى لقد حبلت مني فإن ولدت بين تسعة أشهر * إلى نظر ابنا فإن ابنها مني وممن توفي فيها من الاعيان أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء المشاهير.
قال الامام أحمد: هو عندنا في مسلاخ (2) الثوري.
وخليفة بن خياط أحد أئمة التاريخ وسويد بن سعيد (3)
__________
(1) انظر حاشية 1 صفحة 348.
(2) كذا بالاصل، ولعله " في صلاح " وهو أصوب.
(*)

(10/355)


الحدثاني وسويد بن نصر (1).
وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون أحد فقهاء المالكية المشهورين.
وعبد الواحد بن غياث (2).
وقتيبة بن سعيد شيخ الائمة والسنة.
وأبو العميثل عبد الله بن خالد (3) كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، كان عالما باللغة وله فيها مصنفات عديدة أورد منها ابن خلكان جملة، ومن شعره يمدح عبد الله بن طاهر:
يا من يحاول أن تكون صفاته * كصفات عبد الله أنصت واسمع
فلانصحنك في خصال (4) والذي * حج الحجيج إليه فاسمع
أودع أصدق وعف وبر واصبر واحتمل * واصفح وكافئ ودار واحلم واشجع
والطف ولن وتأن وارفق واتئد * واحزم وجد وحام واحمل وادفع
فلقد نصحتك (5) إن قبلت نصيحتي * وهديت للنهج الاسد المهيع
اما سحنون المالكي صاحب المدونة فهو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن جندب (6) بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي، أصله من مدينة حمص، فدخل به أبوه مع جندها بلاد المغرب فأقام بها، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك هنالك، وكان قد تفقه على ابن القاسم، وسببه أنه قدم أسد بن الفرات صاحب الامام مالك من بلاد العرب إلى بلاد مصر فسأل عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك عن أسئلة كثيرة فأجابه عنها، فعقلها عنه ودخل بها بلاد المغرب فانتسخها منه سحنون، ثم قدم على ابن القاسم مصر فأعاد أسئلته عليه فزاد فيها ونقص، ورجع عن أشياء منها، فرتبها سحنون ورجع بها إلى بلاد المغرب، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن يعرض نسخته على نسخة سحنون ويصلحها بها فلم يقبل، فدعى عليه ابن القاسم فلم ينتفع به ولا بكتابه، وصارت الرحلة إلى سحنون، وانتشرت عنه المدونة، وساد أهل ذلك الزمان، وتولى القضاء بالقيروان (7) إلى أن توفي في هذه السنة
__________
(3) أبو محمد، ويقال له الانباري.
قال أبو حاتم: صدوق كثير التدليس.
وقال أحمد: متروك وقال النسائي: ليس بثقة.
وأفحش فيه القول ابن معين.
مات وله مئة سنة.
(1) المروزي رحل وكتب عن ابن المبارك وابن عيينة وعمره تسعون سنة.
(2) المرئدي البصري، أبو بحر الصيرفي، صدوق سمع حماد بن سلمة وطبقته.
(3) في ابن خلكان: خليد.
(4) في الوفيات 3 / 89: المشورة.
(5) في وفيات: محضتك.
(6) في الوفيات 3 / 180: حبيب (انظر البيان المغرب لابن عذارى 1 / 109).
(7) قال ابن عذارى 1 / 109: ولاه محمد بن الاغلب القضاء بافريقيا - بعد عزله عبد الله بن أبي الجواد عنه.
وذلك سنة 233.
(*)

(10/356)


عن ثمانين سنة رحمه الله وإيانا.