البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين فيها أمر المتوكل ببناء مدينة
الماحوزة وحفر نهرها، فيقال إنه أنفق على بنائها وبناء قصر الخلافة بها
الذي يقال له " اللؤلؤة " ألفي ألف دينار.
وفيها وقعت زلازل كثيرة في بلاد شتى، فمن ذلك بمدينة إنطاكية سقط فيها
ألف وخمسمائة دار، وانهدم من سورها نيف وتسعون برجا، وسمعت من كوى
دورها أصوات مزعجة جدا فخرجوا من منازلهم سراعا يهرعون، وسقط الجبل
الذي إلى جانبها الذي يقال له الاقرع فساخ في البحر، فهاج البحر عند
ذلك وارتفع دخان أسود مظلم منتن، وغار نهر على فرسخ منها فلا يدرى أين
ذهب.
ذكر أبو جعفر بن جرير قال: وسمع فيها أهل تنيس ضجة دائمة
__________
(1) وكانت تسمى العنزة (الطبري - ابن الاثير -).
(2) نفاه إلى البحرين.
وقال اعرابي في ذلك: (الطبري 11 / 56): رمى به في موحش القفار * بساحل
البحرين للصغار (3) أبو جعفر البغوي الاصم الحافظ الكبير صاحب المسند.
أحد الثقات المشهورين مات ببغداد في شوال.
(4) أبو موسى قاضي نيسابور.
كان كثير الاسفار أثنى عليه أبو حاتم الرازي ومات بجوسية من أعمال حمص.
(5) المبارك السلمي البصري، حمدويه، روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا
البخاري.
(6) أبو الحسن السكري الواسطي روى عن خالد الطحان وهشيم فأكثر.
وفي الاصل سنان، وما أثبتناه من تقريب التهذيب.
(7) أبو الحسن السعدى المروزي نزيل نيسابور مات وله تسعون سنة.
كان من الثقات الاحيار.
(*)
(10/381)
طويلة مات منها
خلق كثير.
قال: وزلزلت فيها الرها والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق وطرسوس
والمصيصة، وأذنة وسواحل الشام، ورجفت اللاذقية بأهلها فما بقي منها
منزل إلا انهدم،
وما بقي من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها.
وفيها غازت مشاش - عين - مكة حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهما.
ثم أرسل المتوكل فأنفق عليها مالا جزيلا حتى خرجت.
وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل (1) وسوار بن عبد الله القاضي، وهلال
الرازي.
وفيها هلك نجاح بن سلمة وقد كان على ديوان التوقيع.
وقد كان حظيا عند المتوكل، ثم جرت له حكاية أفضت به إلى أن أخذ المتوكل
أمواله وأملاكه وحواصله، وقد أورد قصته ابن جرير مطولة.
وفيها توفي أحمد بن عبدة الضبي (2)،
وأبو الحيس القواس مقري مكة، وأحمد بن نصر النيسابوري.
وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإسماعيل بن موسى بن بنت السدي (3).
وذو النون المصري، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم (4)، ومحمد بن رافع
(5)، وهشام بن عمار (6)، وأبو تراب النخشبي (7).
وابن الراوندي الزنديق، وهو أحمد بن
يحيى بن إسحاق أبو الحسين بن الراوندي، نسبة إلى قرية ببلاد قاشان ثم
نشأ ببغداد، كان بها يصنف الكتب في الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه
استعملها فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسب ما ذكرها ابن الجوزي في سنة ثمان وتسعين
ومائتين وإنما ذكرناه ههنا لان ابن خلكان ذكر أنه توفي في هذه السنة،
وقد تلبس عليه ولم يجرحه بل مدحه فقال: هو أبو الحسين أحمد بن إسحاق
الراوندي العالم المشهور، له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في
عصره، وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشرة كتابا، منها فضيحة
المعتزلة، وكتاب التاج، وكتاب الزمردة، وكتاب القصب، وغير ذلك.
وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها
عنه أهل الكلام
__________
(1) المروزي الحافظ كان من كبار المحدثين.
قال ابن ناصر الدين ثقة.
مات ببغداد في شوال.
(2) سمع حماد بن زياد والكبار وروى الكثير مات بالبصرة.
(3) الفزاري الكوفي المحدث روى عن مالك وطبقته خرج له أبو داود
والترمذي وغيرهما.
(4) قاضي دمشق والاردن روى عنه البخاري وغيره.
قال أبو داود: لم يكن في زمانه مثله.
مات وله 75 سنة.
(5) أبو عبد الله القشيري مولاهم النيسابوري الحافظ روى عنه الشيخان
وغيرهما وكان ثقة زاهدا صالحا.
(6) أبو الوليد السلمي خطيب دمشق وقارئها وفقيهها ومحدثها.
قال في المغني: ثقة مكثر له ما ينكر.
وقال أبو حاتم: صدوق.
مات في المحرم وله 92 سنة.
(7) واسمه عسكر بن الحصين من كبار المشايخ كتب الحديث الكثير.
واجتمع بالامام أحمد في بغداد.
(*)
(10/382)
توفي سنة خمس
وأربعين ومائتين، برحبة مالك بن طوق التغلبي، وقيل ببغداد.
نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه وهو غلط.
وإنما أرخ ابن الجوزي وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائتين كما سيأتي له
هناك ترجمة مطولة.
ذو النون المصري
ثوبان بن إبراهيم، وقيل ابن الفيض بن إبراهيم، أبو الفيض المصري أحد
المشايخ المشهورين، وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات، وذكر شيئا من
فضائله وأحواله، وأرخ وفاته في هذه السنة، وقيل في التي بعدها، وقيل في
سنة ثمان وأربعين ومائتين فالله أعلم.
وهو معدود في جملة من روى الموطأ عن مالك.
وذكره ابن يونس في تاريخ مصر، قال: كان أبوه نوبيا، وقيل إنه كان من
أهل إخميم، وكان حكيما فصيحا، قيل وسئل عن سبب توبته فذكر أنه رأى قبرة
عمياء نزلت من وكرها فانشقت لها الارض عن سكرجتين من ذهب وفضة في
إحداهما سمسم وفي الاخرى ماء، فأكلت من هذه وشربت من هذه.
وقد شكى عليه مرة إلى المتوكل فأحضره من مصر إلى العراق، فلما دخل عليه
وعظه فأبكاه، فرده مكرما.
فكان بعد ذلك إذا ذكر عند المتوكل يثني عليه.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين
في يوم عاشوراء منها دخل المتوكل الماحوزة فنزل بقصر الخلافة فيها،
واستدعى بالقراء ثم بالمطربين وأعطى وأطلق، وكان يوما مشهودا، وفي صفر
منها وقع الفداء بين المسلمين والروم، ففدي من المسلمين نحو من أربعة
آلاف أسير (1).
وفي شعبان منها أمطرت بغداد مطرا عظيما استمر نحوا من أحد وعشرين يوما،
ووقع بأرض مطر ماؤه دم عبيط.
وفيها حج بالناس محمد بن سليمان
الزينبي، وحج فيها من الاعيان محمد بن عبد الله بن طاهر وولي أمر
الموسم.
وممن توفي فيها من الاعيان أحمد بن
إبراهيم الدورقي (2).
والحسين (3) بن أبي الحسن المروزي.
وأبو عمرو الدوري (4).
أحد القراء المشاهير.
ومحمد بن مصفى الحمصي (5).
__________
(1) في الطبري 11 / 60 وابن الاثير 7 / 93: فودي ألفين وثلاثمائة وسبعة
وستين نفسا.
(2) أبو عبد الله العبدي البغدادي الحافظ الثقة سمع جرير بن عبد الحميد
وطبقته وصنف التصانيف الحسنة المفيدة.
(3) في تقريب التهذيب: الحسين بن الحسن، أبو عبد الله المروزي نزيل
مكة.
سمع من هشيم والكبار، صدوق.
(4) شيخ المقرئين في عصره واسمه حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان.
وكان صدوقا قرأ عليه خلق كثير (5) ابن بهلول، له أوهام وكان يدلس.
صدوق.
(*)
(10/383)
ودعبل بن علي
ابن رزين بن سليمان الخزاعي، مولاهم الشاعر الماجن البليغ في المدح،
وفي الهجاء أكثر.
حضر يوما عند سهل بن هارون الكاتب كان بخيلا، فاستدعى بغدائه فإذا ديك
في قصعة، وإذا هو قاس لا يقطعه سكين إلا بشدة، ولا يعمل فيه ضرس.
فلما حضر بين يديه فقد رأسه فقال للطباخ ويلك، ماذا صنعت ؟ أين رأسه،
قال: ظننت أنك لا تأكله فألقيته، فقال: ويحك: والله إني لاعيب على من
يلقي الرجلين فكيف بالرأس وفيه الحواس الاربع، ومنه يصوت وبه، فضل
عينيه وبهما يضرب المثل، وعرفه وبه يتبرك، وعظمه أهني العظام، فإن كنت
رغبت عن أكله فأحضره.
فقال: لا أدري أين هو ؟ فقال: بل أنا أدري، هو في بطنك قاتلك الله.
فهجاه بأبيات ذكر فيها بخله ومسكه.
أحمد بن أبي الحواري واسمه (1) عبد الله بن ميمون بن عياش بن الحارث
أبو الحسن التغلبي الغطفاني، أحد العلماء الزهاد المشهورين، والعباد
المذكورين، والابرار المشكورين، ذوي الاحوال الصالحة، والكرامات
الواضحة، أصله من الكوفة وسكن دمشق وتخرج بأبي سليمان الداراني رحمهما
الله.
وروى الحديث عن سفيان بن عيينة ووكيع وأبي أسامة وخلق.
وعنه أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم وأبو زرعة
الدمشقي، وأبو زرعة الرازي وخلق كثير.
وقد ذكره أبو حاتم فأثنى عليه.
وقال يحيى بن معين: إني لاظن أن الله يسقي أهل الشام به.
وكان الجنيد بن محمد يقول: هو ريحانة الشام.
وروى ابن عساكر أن كان قد عاهد أبا سليمان الداراني ألا يغضبه ولا
يخالفه، فجاءه يوما وهو يحدث الناس فقال: يا سيدي هذا قد سجروا التنور
فماذا تأمر ؟ فلم يرد عليه أبو سليمان، لشغله بالناس، ثم أعادها أحمد
ثانية، وقال له في الثالثة: اذهب فاقعد فيه.
ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره: إني قلت
لاحمد: اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك، فقوموا
بنا إليه.
فذهبوا فوجدوه جالسا في التنور ولم يحترق منه شئ ولا شعرة واحدة.
وروي أيضا أن أحمد بن أبي الحواري أصبح ذات يوم وقد ولد له ولد ولا
يملك شيئا يصلح به الولد، فقال لخادمه: اذهب فاستدن لنا وزنة من دقيق،
فبينما هو في ذلك إذ جاءه رجل بمائتي درهم فوضعها بين يديه، فدخل عليه
رجل في تلك الساعة فقال: يا أحمد إنه قد ولد لي الليلة ولد ولا أملك
شيئا، فرفع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي هكذا بالعجلة.
ثم قال للرجل: خذ هذه الدراهم، فأعطاه إياها كلها، ولم يبق منها شيئا،
واستدان لاهله دقيقا.
وروى عنه خادمه أنه خرج للثغر لاجل الرباط
__________
(1) أي اسم أبي الحواري والد أحمد.
وفي صفة الصفوة اسم أبى الحواري: ميمون.
(*)
(10/384)
فما زالت
الهدايا تفد إليه من بكرة النهار إلى الزوال، ثم فرقها كلها إلى وقت
الغروب ثم قال لي: كن هكذا لا ترد على الله شيئا، ولا تدخر عنه شيئا.
ولما جاءت المحنة في زمن المأمون إلى دمشق بخلق القرآن عين فيها أحمد
بن أبي الحواري وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن
ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أبي الحواري فحبس بدار الحجارة، ثم هدد
فأجاب تورية مكرها، ثم أطلق رحمه الله.
وقد قام ليلة بالثغر يكرر هذه الآية (إياك نعبد وإياك نستعين) [
الفاتحة: 5 ] حتى أصبح.
وقد ألقى كتبه في البحر وقال: نعم الدليل كنت لي على الله وإليه، ولكن
الاشتغال بالدليل بعد معرفة المدلول عليه والوصول إليه محال.
ومن كلامه لا دليل على الله سواه، وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة.
وقال: من عرف الدنيا زهد
فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه.
وقال: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين
والزهد من قلبه.
وقال: قلت لابي سليمان في ابتداء أمري: أوصني، فقال: اتستوص أنت ؟ فقلت
نعم إن شاء الله تعالى.
فقال: خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الامارة بالسوء، وإياك أن تحقر
إخوانك المسلمين، واجعل طاعة الله دثارا، والخوف منه شعارا، والاخلاص
له زادا، والصدق حسنة، واقبل مني هذه الكلمة والواحدة ولا تفارقها ولا
تغفل عنها: من استحيى من الله في كل أوقاته وأحواله وأفعاله، بلغه الله
إلى مقام الاولياء من عباده.
قال فجعلت هذه الكلمات أمامي في كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها.
والصحيح أنه توفي في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاثين ومائتين، وقيل غير
ذلك فالله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين في شوال
منها كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب
ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب
بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيما بليغا، فبلغ ذلك من المنتصر كل
مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه وأمر بضربه في رأسه
وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه، فاشتد أيضا حنقه أكثر
مما كان.
فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به،
ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى
في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره وحضرته وشربه، ثم تمالا
ولده المنتصر وجماعة من الامراء على الفتك به فدخلوا عليه ليلة
الاربعاء لاربع خلون من شوال، ويقال من شعبان من هذه السنة، وهو على
السماط فابتدروه بالسيوف فقتلوه ثم ولوا بعده ولده المنتصر (1).
__________
(1) في رواية للمسعودي في مروج الذهب: أن المتوكل كان قد عزم على تفريق
جمع الاتراك، فعملوا على قتله: شكا يوما حرارة فأراد الحجامة، فقصده
الطيفوري الطبيب بمشراط مسموم.
(4 / 153).
(*)
(10/385)
ترجمة المتوكل على الله
جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم
المتوكل أم ولد يقال لها شجاع، وكانت من سروات النساء سنحا وحزما.
كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أخيه
الواثق في يوم الاربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين
ومائتين.
وقد روى الخطيب من طريقه عن يحيى بن أكثم، عن محمد بن عبد الوهاب، عن
سفيان، عن الاعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن
هلال، عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حرم
الرفق حرم الخير " (1).
ثم أنشأ المتوكل يقول: الرفق يمن والاناة سعادة * فاستأن في رفق تلاق
نجاحا لا خير في حزم بغير روية * والشك وهن إن أردت سراحا وقال ابن
عساكر في تاريخه: وحدث عن أبيه المعتصم ويحيى بن أكثم القاضي.
وروى عنه علي بن الجهم الشاعر، وهشام بن عمار الدمشقي، وقدم المتوكل
دمشق في خلافته وبنى بها قصرا بأرض داريا.
وقال يوما لبعضهم: إن الخلفاء تتغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم
ليحبوني ويطيعوني.
وقال أحمد بن مروان المالكي: ثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل
إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام
الناس كلهم إليه إلا أحمد بن المعذل.
فقال المتوكل لعبيد الله: إن هذا لا يرى بيعتنا ؟ فقال: يا أمير
المؤمنين بلى ! ولكن في بصره سوء.
فقال أحمد بن المعذل: يا أمير المؤمنين ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من
عذاب الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما
فليتبوأ مقعده من النار " (2).
فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه.
وروى الخطيب أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما
فأنشده قصيدته التي يقول فيها: وإذا مررت ببئر عروة فاستقي من مائها
فأعطاه التي في يمينه وكانت تساوي مائة ألف.
ثم أنشده: بسر من رأى أمير * تغرف من بحره البحار يرجى ويخشى لكل خطب *
كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه * ما اختلف الليل والنهار
__________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة ح (74 - 76) وابن ماجه في الادب.
باب (9) والامام أحمد في المسند 4 / 362، 366.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الادب.
باب (13).
(*)
(10/386)
يداه في الجود
ضرتان * عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيئا * إلا أتت مثله
اليسار قال: فأعطاه التي في يساره أيضا.
قال الخطيب: وقد رويت هذه الابيات لعلي بن هارون البحتري في المتوكل.
وروى ابن عساكر عن علي بن الجهم قال: وقفت فتحية حظية المتوكل بين يديه
وقد كتبت على خدها بالغالية جعفر فتأمل ذلك ثم أنشأ يقول: وكاتبة في
الخد بالمسك جعفرا * بنفسي تحط المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطرا (1)
من المسك خدها * لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا فيا من مناها في السريرة
جعفر * سقا الله من سقيا ثناياك جعفرا (2) ويا من لمملوك بملك يمينه *
مطيع له فيما أسر وأظهرا قال ثم أمر المتوكل عربا فغنت به.
وقال الفتح بن خاقان: دخلت يوما على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر فقلت:
يا أمير المؤمنين ما لك مفكر ؟ فوالله ما على الارض أطيب منك عيشا، ولا
أنعم منك بالا.
قال: بلى أطيب مني عيشا له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة، لا
يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه.
وكان المتوكل محببا إلى رعيته قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم
بالصديق في قتله أهل الردة، لانه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى
الدين.
وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية.
وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها
واشتهارها فرحمه الله.
وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال فقلت: المتوكل ؟
قال: المتوكل.
قلت: فما فعل بك ربك ؟ قال: غفر لي.
قلت: بماذا ؟ قال: بقليل من السنة أحييتها.
وروى
الخطيب عن صالح بن أحمد أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا
يصعد به إلى السماء وقائلا يقول: ملك يقاد إلى مليك عادل * متفضل في
العفو ليس بحائر وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي قال: رأيت ليلة المتوكل
قائلا يقول: يا نائم العين في أوطان جثمان * أفض دموعك يا عمرو بن
شيبان
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 144: خطا...من الوجد أسطرا (2) البيتان في مروج
الذهب: فيا من لمملوك يظل مليكه * مطيعا له فيما أسر وأجهرا ويا من
لعيني من رأى مثل جعفر سقى الله صوب المستهلات جعفرا (*)
(10/387)
أما ترى الفئة
الارجاس ما فعلوا * بالهاشمي وبالفتح بن خاقان وافى إلى الله مظلوما
فضج له * أهل السموات من مثنى ووحدان وسوف يأتيكم من بعده فتن *
توقعوها لها شأن من الشان فآبكوا على جعفر وابكوا خليفتكم * فقد بكاه
جميع الانس والجان قال: فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياي فجاء نعي
المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة، قال ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف
بين يدي الله عز وجل فقلت: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي.
قلت بماذا ؟ قال: بقليل من السنة أحييتها.
قلت فما تصنع ههنا ؟ قال: أنتظر ابني محمدا أخاصمه إلى الله الحليم
العظيم الكريم.
وذكرنا قريبا كيفية مقتله وأنه قتل في ليلة الاربعاء أول الليل لاربع
خلت من شوال من هذه السنة - أعني سنة سبع وأربعين ومائتين - بالمتوكلية
وهي الماحوزية (1)، وصلي عليه يوم الاربعاء (2)، ودفن بالجعفرية وله من
العمر أربعون سنة، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة
أيام (3)..وكان أسمر حسن العينين نحيف الجسم خفيف العارضين أقرب إلى
القصر والله سبحانه أعلم.
خلافة محمد المنتصر بن المتوكل
قد تقدم أنه تمالا هو وجماعة من الامراء على قتل أبيه، وحين قتل بويع
له بالخلافة في الليل، فلما كان الصباح من يوم الاربعاء رابع شوال أخذت
له البيعة من العامة وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز،
وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه (4)، ولكنه أكرهه وخاف فسلم
وبايع.
فلما أخذت البيعة له كان أول ما تكلم به أنه اتهم الفتح بن خاقان على
قتل أبيه، وقتل الفتح أيضا، ثم بعث البيعة له إلى الآفاق (5).
وفي ثاني يوم من خلافته ولى المظالم لابي عمرة أحمد بن سعيد مولى بني
هاشم فقال الشاعر:
__________
(1) في ابن الاثير ومروج الذهب: الماخورية.
(2) قال ابن خلكان 1 / 350 عن الدولابي: دفن هو والفتح بن خاقان ولم
يصل عليهما.
(3) في مروج الذهب 4 / 98: قتل وهو ابن 41 سنة كانت خلافته أربع عشرة
سنة وتسعة أشهر وتسع ليال (الوفيات 1 / 350).
(4) أخذ المتوكل على الله البيعة لاولاده سنة 235: المنتصر ثم المعتز
ثم المؤيد (انظر الطبري وابن الاثير حوادث سنة 235 ومروج الذهب 4 / 100
و 155 وقد تقدم ذلك في كتابنا انظر حوادث 235 ه).
(5) نسخة كتاب البيعة في الطبري 11 / 71.
(*)
(10/388)
يا ضيعة
الاسلام لما ولي * مظالم الناس أبو عمره صير مأمونا على أمة * وليس
مأمونا على بعره وكانت البيعة له بالمتوكلية، وهي المأحوزة، فأقام بها
عشرة (1) أيام ثم تحول هو وجميع قواده وحشمه منها إلى سامرا.
وفيها في ذي الحجة أخرج المنتصر عمه علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد
ووكل به.
وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها توفي من الاعيان إبراهيم بن
سعيد
الجوهري (2).
وسفيان بن وكيع بن الجراح، وسلمة بن شبيب (3).
وأبو عثمان المازني النحوي واسمه بكر بن محمد بن عثمان البصري شيخ
النحاة في زمانه، أخذه عن أبي عبيدة والاصمعي وأبي زيد الانصاري
وغيرهم، وأخذ عنه أبو العباس المبرد وأكثر عنه، وللمازني مصنفات كثيرة
في هذا الشأن.
وكان شبيها بالفقهاء ورعا زاهدا ثقة مأمونا.
روى عنه المبرد أن رجلا من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه
ويعطيه مائة دينار فامتنع من ذلك.
فلامه بعض الناس في ذلك فقال: إنما تركت أخذ الاجرة عليه لما فيه من
آيات الله تعالى.
فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق: أظلوم إن مصابكم رجلا * رد
السلام تحية ظلم فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت، وهل يكون
رجلا مرفوعا أو منصوبا، وبم نصب ؟ أهو اسم أو ماذا ؟ وأصرت الجارية على
أن المازني حفظها هذا هكذا.
قال فأرسل الخليفة إليه، فلما مثل بين يديه قال له: أنت المازني ؟ قال:
نعم.
قال: من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس ؟ فقلت من مازن ربيعة.
فأخذ يكلمني بلغتي، فقال: باسمك ؟ وهو يقلبون الباء ميما والميم باء،
فكرهت أن أقول مكر فقلت: بكر، فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر، وعرف
ما أردت.
فقال: على م انتصب رجلا ؟ فقلت: لانه معمول المصدر بمصابكم فأخذ
اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة فأطلق له الخليفة ألف دينار ورده
إلى أهله مكرما.
فعوضه الله عن المائة الدينار - لما تركها لله سبحانه ولم يمكن الذمي
من قراءة الكتاب لاجل ما فيه من القرآن - ألف دينار عشرة أمثالها.
روى المبرد عنه قال: أقرأت رجلا كتاب سيبويه إلى آخره، فلما انتهى إلى
آخره قال لي: أما أنت أيها الشيخ جزاك الله خيرا، وأما أنا فوالله ما
فهمت منه حرفا.
توفي المازني في هذه السنة وقيل في سنة ثمان وأربعين.
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 148: سبعة أيام.
(2) أبو اسحاق البغدادي الحافظ كان من أركان الحديث مات مرابطا بعين
زربة.
(3) أبو عبد الرحمن النيسابوري الحافظ الموثق روى عنه من الكبار أحمد
بن حنبل وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري
مات في رمضان.
(*)
(10/389)
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين فيها أغزى المنتصر وصيفا التركي
الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز
المنتصر وصيفا وجهز معه نفقات وعددا كثيرة، وأمره إذا فرغ من قتال
الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر
نائب العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال
والترغيب فيه (1).
وفي ليلة السبت لسبع (2) بقين من صفر خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد
إبراهيم أنفسهما من الخلافة، وأشهدا عليهما بذلك (3)، وأنهما عاجزان عن
الخلافة، والمسلمين في حل من بيعتهما، وذلك بعد ما تهددهما أخوهما
المنتصر وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك، ومقصوده تولية ابنه عبد
الوهاب بإشارة أمراء الاتراك بذلك.
وخطب بذلك على رؤوس الاشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس
والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق (4) ليعلموا بذلك ويخطبوا له بذلك على
المنابر، ويتوالى على محال الكتابة، والله غالب على أمره، فأراد أن
يسلبهما الملك ويجعله في ولده، والاقدار تكذبه وتخالفه، وذلك أنه لم
يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر، ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له
علة كان فيها حتفه، وقد كان المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلما فبلغ
إلى آخر خمس وعشرين درجة.
فقصها على بعض المعبرين فقال: تلي خمسا وعشرين سنة الخلافة، وإذا هي
مدة عمره قد استكملها في هذه السنة.
وقال بعضهم: دخلنا عليه يوما فإذا هو يبكي وينتحب شديدا، فسأله بعض
أصحابه عن بكائه فقال: رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول: ويلك
يا محمد قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي، والله لا أمتعت بها بعدي إلا
أياما يسيرة ثم مصيرك إلى النار.
قال: فما أملك عيني ولا جزعي.
فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم: هذه رؤيا وهي
تصدق وتكذب، قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك.
فأمر بالشراب فأحضر وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة، وما
زال كذلك مكسورا حتى مات.
وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه، فقيل داء في رأسه فقطر في
أذنه دهن فلما وصل إلى
دماغه عوجل بالموت، وقيل بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات،
وقيل بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات، وقيل بل فصده الحجام
بمفصد مسموم فمات من يومه (5).
قال ابن جرير: أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو
محموم فدعا تلميذا له حتى يقصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به وهو لا يشعر
وأنسى الله سبحانه الحجام فما ذكر حتى رآه قد قصده به
__________
(1) نسخة الكتاب في الطبري 11 / 74.
(2) في رواية ابن الاثير 7 / 112: بعد أربعين يوما من خلافته (أي
المنتصر) وانظر الطبري 11 / 78.
(3) أنظر الطبري 11 / 79 والكامل لابن الاثير 7 / 114.
(4) في الكامل 7 / 114: أشهدا على أنفسهما القضاة وبني هاشم والقواد
ووجوه الناس وغيرهم (أنظر الطبري الطبري 11 / 77).
(*)
(10/390)
وتحكم فيه
السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه.
وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت
له: كيف حالك ؟ فقال: ذهبت مني الدنيا والآخرة، ويقال إنه أنشد لما
أحيط به وأيس من الحياة: فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها (1) * ولكن إلى
الرب الكريم أصير فمات يوم الاحد لخمس بقين (2) من ربيع الآخر من هذه
السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل وستة أشهر.
ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها.
وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة
وغيرهم حين ولي المنتصر - إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك
مدة خلافة من قتل أباه لاجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه
لاجل الملك.
وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن، وهو أول
خليفة من بني العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية.
ومن جيد كلامه قوله: والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه،
ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه.
(3) أنظر الطبري 11 / 79 والكامل لابن الاثير 7 / 114.
(4) في الكامل 7 / 114: أشهدا على أنفسهما القضاة وبني هاشم والقواد
ووجوه الناس وغيرهم (أنظر الطبري الطبري 11 / 77).
(*)
(10/391)
وتحكم فيه
السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه.
وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت
له: كيف حالك ؟ فقال: ذهبت مني الدنيا والآخرة، ويقال إنه أنشد لما
أحيط به وأيس من الحياة: فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها (1) * ولكن إلى
الرب الكريم أصير فمات يوم الاحد لخمس بقين (2) من ربيع الآخر من هذه
السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل وستة أشهر.
ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها.
وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة
وغيرهم حين ولي المنتصر - إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك
مدة خلافة من قتل أباه لاجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه
لاجل الملك.
وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيرا مهيبا جيد البدن، وهو أول
خليفة من بني العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية.
ومن جيد كلامه قوله: والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه،
ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه.
بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه
الجزء الحادي عشر وأوله خلافة أحمد المستعين بالله.
والله نسأل المعونة والتوفيق.
__________
(5) راجع الاختلاف في كيفية وفاته في تجارب الامم 6 / 56 وما بعدها،
العقد الفريد 5 / 123 خلاصة الذهب المسبوك ص 228 تاريخ بغداد 2 / 219
الوافي بالوفيات 2 / 289.
(1) في الطبري 11 / 81: أخذتها.
(2) انظر حاشية 5 الصفحة السابقة
(10/391)
|