البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثمائة فيها ورد كتاب مؤنس الخادم بأنه قد أوقع بالروم بأسا شديدا، وقد أسر منهم مائة وخمسين بطريقا - أي أميرا - ففرح المسلمون بذلك.
وفيها ختن المقتدر خمسة من أولاده فغرم على ختانهم
ستمائة ألف دينار، وقد ختن قبلهم ومعهم خلقا من اليتامى وأحسن إليهم بالمال والكساوى، وهذا
__________
(1) في تذكرة الحفاظ: ثلاثمائة وستة عشر.
(2) أبو محمد عبد الله بن محمد بن ناجية بن نجبة البربري ثم البغدادي سمع سويد بن سعيد وعبد الواحد بن غياث وطبقتهما.
حدث عنه ابن الجعابي واسحاق النعالي ومحمد بن المظفر.
ثقة ثبت.
مات في رمضان (تذكرة الحفاظ 1 / 696) (*).

(11/138)


صنيع حسن إن شاء الله.
وفيها صادر المقتدر أبا علي بن الجصاص بستة عشر ألف ألف دينار (1) غير الآنية والثياب الثمينة.
وفيها أدخل الخليفة أولاده إلى المكتب وكان يوما مشهودا.
وفيها بنى الوزير المارستان بالحربية من بغداد، وأنفق عليه أموالا جزيلة، جزاه الله خيرا.
وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي.
وقطعت الاعراب (2) وطائفة من القرامطة الطريقين على الراجعين من الحجيج، وأخذوا منهم أمولا كثيرة، وقتلوا منهم خلقا وأسروا أكثر من مائتي (3) امرأة حرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها توفي من الاعيان..بشر بن نصر بن منصور أبو القاسم الفقيه الشافعي، من أهل مصر يعرف بغلام عرق، وعرق خادم من خدام السلطان كان يلي البريد، فقدم معه بهذا الرجل مصر فأقام بها حتى مات بها.
بدعة جارية عريب المغنية، بذل لسيدتها فيها مائة ألف دينار وعشرون ألفا دينار من بعض من رغب فيها من الخلفاء فعرض ذلك عليها فكرهت مفارقة سيدتها، فأعتقتها سيدتها في موتها، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة، وقد تركت من المال العين والاملاك ما لم يملكه رجل.
القاضي أبو زرعه محمد بن عثمان الشافعي قاضي مصر ثم دمشق، وهو أول من حكم بمذهب الشافعي بالشام وأشاعه بها وقد كان أهل الشام على مذهب الاوزاعي من حين مات إلى هذه السنة.
وثبت على مذهب الاوزاعي بقايا كثيرون لم يفارقوه، وكان ثقة عدلا من سادات القضاة، وكان أصله من أهل الكتاب من اليهود، ثم أسلم
وصار إلى ما صار إليه.
وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة فيها وقف المقتدر بالله أموالا جزيلة وضياعا على الحرمين الشريفين، واستدعى بالقضاة والاعيان، وأشهدهم على نفسه بما وقفه من ذلك.
وفيها قدم إليه بجماعة من الاسرى من الاعراب الذين كانوا قد اعتدوا على الحجيج، فلم يتمالك العامة أن اعتدوا عليهم فقتلوهم، فأخذ بعضهم فعوقب لكونه افتات على السلطان.
وفيها وقع حريق شديد في سوق النجارين ببغداد فأحرق السوق
__________
(1) في ابن الاثير 8 / 86 ونهاية الارب 23 / 40: أربعة آلاف ألف دينار، وفي الطبري 12 / 25: ستة آلاف ألف دينار، وفي مروج الذهب 4 / 348: خمسة آلاف ألف وخمسمائة ألف دينار.
(2) في الطبري وابن الاثير: اعراب من الحاجر.
(3) في الطبري 11 / 409: مائتين وثمانين، وفي ابن الاثير 8 / 90: مائتين وخمسين (*).

(11/139)


بكماله، وفي ذي الحجة منها مرض المقتدر ثلاث عشر يوما، ولم يمرض في خلافته مع طولها إلا هذه المرضة.
وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي، ولما خاف الوزير على الحجاج القرامطة كتب إليهم رسالة ليشغلهم بها، فاتهمه بعض الكتاب بمراسلته القرامطة، فلما انكشف أمره وما قصده حظي بذلك عند الناس جدا.
وممن توفي من الاعيان..النسائي أحمد بن علي ابن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي صاحب السنن، الامام في عصره والمقدم على أضرابه وأشكاله وفضلاء دهره، رحل إلى الآفاق، واشتغل بسماع الحديث والاجتماع بالائمة الحذاق، ومشايخه الذين روى عنهم مشافهة.
قد ذكرناهم في كتابنا التكميل وترجمناه أيضا هنالك، وروى عنه خلق كثير، وقد جمع السنن الكبير، وانتخب منه ما هو أقل حجما منه بمرات.
وقد وقع لي سماعهما.
وقد أبان في تصنيفه عن حفظ وإتقان وصدق وإيمان
وعلم وعرفان.
قال الحاكم عن الدار قطني: أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وكان يسمي كتابه الصحيح.
وقال أبو علي الحافظ: للنسائي شرط في الرجل أشد من شرط مسلم بن الحجاج، وكان من أئمة المسلمين.
وقال أيضا: هو الامام في الحديث بلا مدافعة.
وقال أبو الحسين محمد بن مظفر الحافظ: سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والامامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد.
وقال غيره: كان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان له أربع زوجات وسريتان، وكان كثير الجماع، حسن الوجه مشرق اللون.
قالوا: وكان يقسم للاماء كما يقسم للحرائر.
وقال الدار قطني: كان أبو بكر بن الحداد كثير الحديث ولم يرو عن أحد سوى النسائي وقال: رضيت به حجة فيما بيني وبين الله عز وجل.
وقال ابن يونس: كان النسائي إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا، كان خروجه من مصر في سنة ثنتين وثلاثمائة.
وقال ابن عدي: سمعت منصورا الفقيه وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان: أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين، وكذلك أثنى عليه غير واحد من الائمة وشهدوا له بالفضل والتقدم في هذا الشأن.
وقد ولي الحكم بمدينة حمص.
سمعته من شيخنا المزي عن رواية الطبراني في معجمه الاوسط حيث قال: حدثنا أحمد بن شعيب الحاكم بحمص.
وذكروا أنه كان له من النساء أربع نسوة، وكان في غاية الحسن، وجهه كأنه قنديل، وكان يأكل في كل يوم ديكا ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال، وقد قيل عنه: إنه كان ينسب إليه شئ من التشيع.
قالوا: ودخل إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدثهم بشئ من فضائل معاوية فقال: أما يكفي معاوية أن يذهب رأسا برأس حتى يروى له فضائل ؟ فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في خصيتيه (1) حتى أخرج من
__________
(1) في رواية 1 / 77: يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد (*).

(11/140)


المسجد الجامع، فسار من عندهم إلى مكة فمات بها في هذه السنة، وقبره بها هكذا حكاه الحاكم عن محمد بن إسحاق الاصبهاني عن مشايخه.
وقال الدار قطني: كان أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى
الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، فتوفي بمكة مقتولا شهيدا، مع ما رزق من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره، مات بمكة سنة ثلاث وثلاثمائة.
قال الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الغني بن نقطة في تقييده ومن خطه نقلت ومن خط أبي عامر محمد بن سعدون العبدري الحافظ: مات أبو عبد الرحمن النسائي بالرملة مدينة فلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة، ودفن ببيت المقدس.
وحكى ابن خلكان: أنه توفي في شعبان من هذه السنة، وأنه إنما صنف الخصائص في فضل علي وأهل البيت، لانه رأى أهل دمشق حين قدمها في سنة ثنتين وثلاثمائة عندهم نفرة من علي، وسألوه عن معاوية فقال ما قال، فدققوه في خصيتيه فمات.
وهكذا ذكر ابن يونس وأبو جعفر الطحاوي: إنه توفي بفلسطين في صفر من هذه السنة، وكان مولده في (1) سنة خمس عشرة أو أربع عشرة ومائتين تقريبا عن قوله، فكان عمره ثمانيا وثمانين سنة.
الحسن بن سفيان ابن عامر بن عبد العزيز بن النعمان بن عطاء، أبو العباس الشيباني النسوي، محدث خراسان، وقد كان يضرب إليه آباط الابل في معرفة الحديث والفقه.
رحل إلى الآفاق وتفقه على أبي ثور، وكان يفتي بمذهبه، وأخذ الادب عن أصحاب النضر بن شميل، وكانت إليه الرحلة بخراسان.
ومن غريب ما اتفق له: أنه كان هو وجماعة من أصحابه بمصر في رحلتهم إلى الحديث، فضاق عليهم الحال حتى مكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون فيها شيئا، ولا يجدون ما يبيعونه للقوت، واضطرهم الحال إلى تجشم السؤال، وأنفت أنفسهم من ذلك وعزت عليهم وامتنعت كل الامتناع، والحاجة تضطرهم إلى تعاطي ذلك، فاقترعوا فيما بينهم أيهم يقوم بأعباء هذا الامر، فوقعت القرعة على الحسن بن سفيان هذا، فقام عنهم فاختلى في زاوية المسجد الذي هم فيه فصلى ركعتين أطال فيهما واستغاث بالله عز وجل، وسأله بأسمائه العظام، فما انصرف من الصلاة حتى دخل عليهم المسجد شاب حسن الهيئة مليح الوجه فقال: أين الحسن بن سفيان ؟ فقلت: أنا.
فقال: الامير طولون يقرأ عليكم السلام ويعتذر إليكم في تقصيره عنكم، وهذه مائة دينار لكل واحد منكم.
فقلنا
له: ما الحامل له على ذلك ؟ فقال: إنه أحب أن يختلي اليوم بنفسه، فبينما هو الآن نائم إذ جاءه فارس في الهواء بيده رمح فدخل عليه منزله ووضع عقب الرمح في خاصرته فوكزه وقال: قم فأدرك
__________
(1) ولد في نسأ وهي مدينة بخراسان خرج منها جماعة من الاعيان (*).

(11/141)


الحسن بن سفيان وأصحابه، قم فأدركهم، قم فأدركهم، فإنهم منذ ثلاث جياع في المسجد الفلاني.
فقال له: من أنت ؟ فقال أنا رضوان خازن الجنة.
فاستيقظ الامير وخاصرته تؤلمه ألما شديدا، فبعث بالنفقة في الحال إليكم.
ثم جاء لزيارتهم واشترى ما حول ذلك المجلس ووقفه على الواردين عليه من أهل الحديث، جزاه الله خيرا.
وقد كان الحسن بن سفيان رحمه الله من أئمة هذا الشأن وفرسانه وحفاظه، وقد اجتمع عنده جماعة من الحفاظ منهم ابن جرير الطبري وغيره، فقرأوا عليه شيئا من الحديث وجعلوا يقلبون الاسانيد ليستعلموا ما عنده من العلم فما قلبوا شيئا من الاسناد إلا ردهم فيه إلى الصواب، وعمره إذ ذاك سبعون سنة، وهو في هذا السن حافظ ضابط لا يشذ عنه شئ من حديثه.
ومن فوائده العبسي كوفي، والعيشي بصري، والعنسي مصري (1).
رويم بن أحمد ويقال ابن محمد بن رويم بن يزيد، أبو الحسن، ويقال أبو محمد، أحد أئمة الصوفية، كان عالما بالقرآن ومعانيه، وكان يتفقه على مذهب داود بن علي الظاهري، قال بعضهم: كان رويم يكتم حب الدنيا أربعين سنة، ومعناه أنه تصوف أربعين سنة، ثم لما ولي إسماعيل بن إسحاق القضاء ببغداد جعله وكيلا في بابه، فترك التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وركب الخيل وأكل الطيبات وبنى الدور.
زهير بن صالح بن الامام أحمد بن حنبل روى عن أبيه وعنه أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد، كان ثقة، مات وهو شاب، قاله الدار قطني.
أبو علي الجبائي
شيخ المعتزلة، واسمه محمد بن عبد الوهاب أبو علي الجبائي شيخ طائفة الاعتزال في زمانه، وعليه اشتغل أبو الحسن الاشعري ثم رجع عنه، وللجبائي تفسير حافل مطول، له فيه اختيارات غريبة في التفسير، وقد رد عليه الاشعري فيه وقال: وكأن القرآن نزل في لغة أهل جباء (2).
كان مولده في سنة خمس وثلاثين ومائتين، ومات في هذه السنة.
__________
(1) مات في رمضان بقرية بالور وهي على ثلاثة فراسخ من نسأ - إحدى مدن خراسان.
(2) كذا بالاصل، وفي معجم البلدان جبى بالضم والتشديد والقصر: بلد أو كورة من عمل خوزستان.
وفي ابن خلكان عن ابن حوقل: جبى: مدينة ورستاق عريض مشتبك العمائر بالنخل وقصب السكر وغيرهما (*).

(11/142)


أبو الحسن بن بسام الشاعر واسمه علي بن أحمد (1) بن منصور (2) بن نصر بن بسام البسامي الشاعر المطبق للهجاء، فلم يترك أحدا حتى هجاه، حتى أباه وأمه أمامة بنت حمدون النديم.
وقد أورد له ابن خلكان أشياء كثيرة من شعره، فمن ذلك قوله في تخريب المتوكل قبر الحسين بن علي وأمره بأن يزرع ويمحى رسمه، وكان شديد التحامل على علي وولده.
فلما وقع ما ذكرناه في سنة ست وثلاثين ومائتين.
قال ابن بسام هذا في ذلك: تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمرك قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة فيها (3) عزل المقتدر وزيره أبا الحسن علي بن عيسى بن الجراح، وذلك لانه وقعت بينه وبين أم موسى القهرمانة نفرة شديدة، فسأل الوزير أن يعفى من الوزارة فعزل ولم يتعرضوا لشئ من أملاكه.
وطلب أبو الحسن بن الفرات فأعيد إلى الوزارة بعد عزله عنها خمس سنين، وخلع عليه
الخليفة يوم التروية سبع خلع، وأطلق إليه ثلاثمائة ألف درهم، وعشرة تخوت ثياب، ومن الخيل والبغال والجمال شئ كثير، وأقطع الدار التي بالحريم فسكنها، وعمل فيها ضيافة تلك الليلة فسقى فيها أربعين ألف رطل من الثلج، وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيوانا يقال له الزرنب (4) يطوف بالليل يأكل الاطفال من الاسرة ويعدو على النيام فربما قطع يد الرجل وثدي المرأة وهو نائم.
فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين وغيرها ينفرونه عنهم، حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها وغربها، واصطنع الناس لاولادهم مكبات من السعف وغيرها، واغتنمت اللصوص هذه الشوشة فكثرت النقوب وأخذت الاموال، فأمر الخليفة بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على الجسر ليسكن الناس عن ذلك، ففعلوا فسكن الناس ورجعوا إلى أنفسهم، واستراح الناس من ذلك.
وفيها قلد ثابت بن سنان الطبيب أمر المارستان ببغداد في هذه السنة، وكانت خمسا، وكان هذا الطبيب مؤرخا.
وفيها ورد كتاب من خراسان بأنهم وجدوا قبور
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 333 ووفيات الاعيان 3 / 363: محمد.
(2) سقطت من سلسلة نسبه في مروج الذهب.
(3) في مروج الذهب 4 / 342: يوم الاثنين لثمان خلون من ذي الحجة، وفي ابن الاثير 8 / 98: في ذي الحجة.
(4) في ابن الاثير 8 / 105: زبزب.
والزبزب دابة كالسنور قاله في العباب (*).

(11/143)


شهداء قد قتلوا في سنة سبعين من الهجرة مكتوبة أسماؤهم في رقاع مربوطة في آذانهم، وأجسادهم طرية كما هي، رضي الله عنهم.
وفيها توفي من الاعيان..لبيد بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن صالح ابن عبد الله بن الحصين بن علقمة بن نعيم بن عطارد بن حاجب، أبو الحسن التميمي الملقب فروجة، قدم بغداد وحدث بها، وكان ثقة حافظا.
يوسف بن الحسين بن علي أبو يعقوب الرازي، سمع أحمد بن حنبل وصحب ذا النون، وكان قد بلغه أن ذا النون يحفظ اسم الله الاعظم فقصده ليعلمه إياه، قال: فلما وردت عليه استهان بي وكانت لي لحية طويلة ومعي ركوة طويلة.
فجاء رجل يوما فناظر ذا النون فأسكت ذا النون، فقلت له: دع الشيخ وأقبل علي.
فأقبل فناظرته فأسكته، فقام ذو النون فجلس بين يدي وهو شيخ وأنا شاب، ثم اعتذر إلي.
فخدمته سنة ثم سألته أن يعلمني الاسم الاعظم، فلم يبعد مني ووعدني، فمكثت عنده بعد ذلك ستة أشهر، ثم أخرج إلى طبقا عليه مكبة مستورا بمنديل، فقال لي: اذهب بهذا الطبق إلى صاحبنا فلان، قال: فجعلت أفكر في الطريق ما هذا الذي أرسلني به ؟ فلما وصلت الجسر فتحته فإذا فأرة ففرت وذهبت، فأغتظت غيظا شديدا، وقلت: ذو النون سخر بي، فرجعت إليه وأنا حنق فقال لي: ويحك إنما أختبرتك، فإذا لم تكن أمينا على فأرة فأن لا تكون أمينا على الاسم الاعظم بطريق الاولى، اذهب عني فلا أراك بعدها.
وقد رئي أبو الحسين الرازي هذا في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي بقولي عند الموت: اللهم إني نصحت الناس قولا وخنت نفسي فعلا.
فهب خيانة فعلي لنصح قولي (1).
يموت بن المزرع بن يموت أبو بكر العبدي بن عبد القيس، وهو ثوري، وهو ابن أخت الجاحظ.
قدم بغداد وحدث بها عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي (2)، وكان صاحب أخبار وآداب
__________
(1) في رواية لابن الجوزي: قيل له وهو يجود بنفسه يا أبا يعقوب قل شيئا.
فقال: اللهم إني نصحت خلقك ظاهرا وغششت نفسي باطنا، فهب لي غشي لنفسي، لنصحي لخلقك.
ثم خرجت روحه.
(2) روى عنه أبو بكر الخرائطي وأبو الميمون بن راشد والعباس بن محمد الرقي وأبو بكر بن مجاهد (*).

(11/144)


وملح وقد غير اسمه بمحمد فلم يغلب عليه إلا الأول، وكان إذا ذهب يعود مريضا فدق الباب فقالوا: من ؟ فيقول ابن المزرع ولا يذكر اسمه لئلا يتفاءلوا به (1).
ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائة فيها قدم رسول (2) ملك الروم في طلب المفاداة والهدنة، وهو شاب حدث السن، ومعه شيخ منهم وعشرون غلاما، فلما قدم بغداد شاهد أمرا عظيما جدا، وذلك أن الخليفة أمر الجيش والناس بالاحتفال بذلك ليشاهد ما فيه إرهاب الاعداء، فركب الجيش بكماله وكان مائة ألف وستين ألفا، ما بين فارس وراجل، غير العساكر الخارجة في سائر البلاد مع نوابها، فركبوا في الاسلحة والعدد التامة، وغلمان الخليفة سبعة آلاف، أربعة آلاف بيض، وثلاثة آلاف سود، وهم في غاية الملابس والعدد والحلي، والحجبة يومئذ سبعمائة حاجب، وأما الطيارات التي بدجلة والزيارب والسمريات فشئ كثير مزينة، فحين دخل الرسول دار الخلافة انبهر وشاهد أمرا أدهشه، ورأى من الحشمة والزينة والحرمة ما يبهر الابصار، وحين اجتاز بالحاجب ظن أنه الخليفة فقيل له: هذا الحاجب، فمر بالوزير في أبهته فظنه الخليفة فقيل له: هذا الوزير.
وقد زينت دار الخلافة بزينة لم يسمع بمثلها، كان فيها من الستور يومئذ ثمانية وثلاثون ألف ستر، منها عشرة آلاف وخمسمائة ستر مذهبة، وقد بسط فيها اثنان وعشرون ألف بساط لم ير مثلها، وفيها من الوحوش قطعان متآنسة بالناس، تأكل من أيديهم ومائة سبع من السباعة، ثم أدخل إلى دار الشجرة، وهي عبارة عن بركة فيها ماء صاف وفي وسط ذلك الماء شجرة من ذهب وفضة لها ثمانية عشر غصنا أكثرها من ذهب، وفي الاغصان الشماريخ والاوراق الملونة من الذهب والفضة والآلي واليواقيت، وهي تصوت بأنواع الاصوات من الماء المسلط عليها، والشجرة بكمالها تتمايل كما تتمايل الاشجار بحركات عجيبة تدهش من يراها، ثم أدخل إلى مكان يسمونه الفردوس، فيه من أنواع المفارش والآلات ما لا يحد ولا يوصف كثرة وحسنا.
وفي دهاليزه ثمانية عشر ألف جوشن مذهبة.
فما زال كلما مر على مكان أدهشه وأخذ ببصره حتى انتهى إلى المكان الذي فيه الخليفة المقتدر بالله، وهو جالس على سرير من آبنوس، قد فرش بالديبقى المطرز بالذهب، وعن يمين السرير سبعة عشر عنقود معلقة، وعن يساره مثلها وهي جوهر من أفخر الجواهر، كل جوهرة يعلو ضوؤها على ضوء النهار، ليس لواحدة منها قيمة ولا يستطاع ثمنها، فأوقف الرسول الذين معه بين يدي الخليفة على نحو من مائة ذراع، والوزير علي بن
محمد بن الفرات واقف بين يدي الخليفة، والترجمان دون الوزير، والوزير يخاطب الترجمان والترجمان
__________
(1) مات بدمشق وهو في عشر الثمانين، وقيل بطبرية الشام (وفيات الاعيان 7 / 58).
(2) في ابن الاثير 8 / 107: رسولان.
قال ابن العبري في تاريخ الزمان ص 51: سفيران أحدهما شيخ وثانيهما فتى.
(*)

(11/145)


يخاطبهما، فلما فرغ منهما خلع عليهما وأطلق لهما خمسين سقرقا في كل سقرق خمسة آلاف درهم، وأخرجا من بين يديه وطيف بهما في بقية دار الخلافة، وعلى حافات دجلة الفيلة والزرافات والسباع والفهود وغير ذلك، ودجلة داخلة في دار الخلافة، وهذا من أغرب ما وقع من الحوادث في هذه السنة.
وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي.
وفيها توفي من الاعيان..محمد بن أحمد أبو موسى النحوي الكوفي المعروف بالجاحظ، صحب ثعلبا أربعين سنة خلفه في حلقته، وصنف غريب الحديث، وخلق الانسان، والوحوش والنبات، وكان دينا صالحا، روى عنه أبو عمر الزاهد.
توفي ببغداد في ذي الحجة منها، ودفن بباب التين.
وعبد الله شيرويه (1) الحافظ، وعمران بن مجاشع (2)، وأبو خليفة الفضل بن الحباب (3).
وقاسم بن زكريا بن يحيى المطرز المقري أحد الثقات الاثبات، سمع أبا كريب، وسويد بن سعيد، وعنه الخلدي وأبو الجعابي توفي ببغداد...ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة في أول يوم من المحرم فتح المارستان الذي بنته السيدة أم المقتدر وجلس فيه سنان بن ثابت ورتبت فيه الاطباء والخدم والقومة، وكانت نفقته في كل شهر ستمائة دينار، وأشار سنان على الخليفة ببناء مارستان، فقبل منه وبناه وسماه المقتدري.
وفيها وردت الاخبار عن أمراء الصوائف بما فتح الله عليهم من الحصون في بلاد الروم.
وفيها رجفت العامة وشنعوا بموت المقتدر، فركب في الجحافل حتى بلغ الثريا ورجع من باب العامة ووقف كثيرا ليراه الناس، ثم ركب إلى الشماسية وانحدر إلى
دار الخلافة في دجلة فسكنت الفتن.
وفيها قلد المقتدر حامد بن العباس الوزارة وخلع عليه وخرج من عنده وخلفه أربعمائة غلام لنفسه، فمكث أياما (4) ثم تبين عجزه عن القيام بالامور فأضيف إليه
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 1 / 705، وفي الاصل بشرويه.
وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن شيرويه بن أسد القرشي المطلبي النيسابوري، أبو محمد الحافظ الفقيه.
سمع إسحاق بن راهويه وأحمد بن منيع وطبقتهما صنف التصانيف.
وهو ثقة باتفاق مات وهو في عشر التسعين.
(2) وهو عمران بن موسى بن مجاشع الجرجاني، أبو إسحاق الحافظ الثقة.
محدث جرجان.
سمع هدبة بن خالد وإبراهيم بن المنذر الحزامي وغيرهما.
توفي في رجب وهو في عشر المائة.
(3) أبو خليفة، الجمحي البصري، كان محدثا متقنا ثبتا إخباريا عالما مات وله مائة سنة إلا شهورا (4) في مروج الذهب 4 / 342: في اليوم الثاني من وزارته اطلق علي بن عيسى وفوضت إليه الامور، وقبض على (*) =

(11/146)


علي بن عيسى لينفذ الامور وينظر معه في الاعمال، وكان أبو علي بن مقلة ممن يكتب أيضا بحضرة حامد بن العباس الوزير، ثم صارت المنزلة كلها لعلي بن عيسى، واستقل بالوزارة في السنة الآتية (1).
وفيها أمرت السيدة أم المقتدر قهرمانة لها تعرف بتملي (2) أن تجلس بالتربة التي بنتها بالرصافة في كل يوم جمعة وأن تنظر في المظالم التي ترفع إليها في القصص، ويحضر في مجلسها القضاة والفقهاء.
وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي (3).
وفيها توفي: إبراهيم بن أحمد بن الحارث أبو القاسم الكلابي الشافعي، سمع الحارث بن مسكين وغيره، وكان رجلا صالحا، تفقه على مذهب الشافعي وكان يحب الخلوة والانقباض، توفي في شعبان منها.
أحمد بن الحسن الصوفي أحد مشايخ الحديث المكثرين المعمرين (4) أحمد بن عمر بن سريج (5) أبو العباس القاضي بشيراز، صنف نحو أربعمائة مصنف، وكان أحد أئمة الشافعية،
ويلقب بالباز الاشهب، أخذ الفقه عن أبي قاسم الانماطي وعن أصحاب الشافعي، كالمزني وغيره، وعنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، وقد ذكرنا ترجمته في الطبقات.
توفي في جمادي الاولى منها عن سبع وخمسين سنة وستة أشهر.
قال ابن خلكان: توفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الاول وعمره سبع وخمسون سنة وثلاث أشهر، وقبره يزار.
أحمد بن يحيى أبو عبد الله الجلاء بغدادي، سكن الشام وصحب أبا تراب النخشبي، وذا النون المصري،
__________
= حامد بن العباس.
وقال الفخري ص 268: ضمه إليه وجعله كالنائب له - وكان اسم الوزارة لحامد وحقيقتها لعلي بن عيسى.
(1) انظر الحاشية السابقة، وفي الفخري: كان علي بن عيسى هو الوزير على الحقيقة، ثم عزل حامد واستوزر المقتدر بعده علي بن الفرات.
(2) في الوزراء للصابئ ص 48: ثمل، وفي مآثر الاناقة 1 / 276: شمل.
(3) في مروج الذهب 4 / 459: أحمد بن العباس بن محمد بن عيسى بن سليمان بن محمد بن إبراهيم الامام.
(4) روى عن علي بن الجعد ويحيى بن معين وجماعة وكان ثقة.
مات عن نيف وتسعين سنة.
(5) في ابن الاثير 8 / 115: شريح (*).

(11/147)


روى أبو نعيم بسنده عنه قال: قلت لابوي وأنا شاب: إني أحب أن تهباني لله عز وجل.
فقالا: قد وهبناك لله.
فغبت عنهما مدة طويلة ثم رجعت إلى بلدنا عشاء في ليلة مطيرة، فانتهيت إلى الباب فدفعته فقالا: من هذا ؟ فقلت: أنا ولدكما فلان، فقالا: إنه قد كان لنا ولد ووهبناه لله عز وجل، ونحن من العرب لا نرجع فيما وهبنا.
ولم يفتحا لي الباب.
الحسن بن يوسف بن إسماعيل بن حماد بن زيد القاضي أبو يعلى، وهو أخو القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، كان إليه ولاية القضاء بالاردن.
عبد الله بن أحمد بن موسى بن زياد أبو محمد الجواليقي القاضي، المعروف بعبدان، الاهوازي، ولد سنة ست عشرة ومائتين، كان أحد الحفاظ الاثبات، يحفظ مائة ألف حديث، جمع المشايخ والابواب، روى عن هدبة وكامل بن طلحة وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي وغيرهم.
محمد بن بابشاذ أبو عبيد الله البصري سكن بغداد وحدث بها عن عبيد الله بن معاذ العنبري وبشر بن معاذ العقدي وغيرهما، وفي حديثه غرائب ومناكير.
توفي في شوال منها.
محمد بن الحسين بن شهريار أبو بكر القطان البلخي الاصل، روى عن الفلاس وبشر بن معاذ.
وعنه أبو بكر الشافعي ومحمد بن عمر بن الجعابي.
كذبه ابن ناجية.
وقال الدار قطني: ليس به بأس.
محمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد أبو بكر الضبي القاضي المعروف بوكيع، كان عالما فاضلا عارفا بأيام الناس، فقيها قارئا نحويا، له مصنفات منها كتاب عدد آي القرآن ولي القضاء بالاهواز.
وحدث عن الحسن بن عرفة والزبير بن بكار وغيرهما، وعنه أحمد بن كامل وأبو علي الصواف وغيرهما.
ومن شعره الجيد إذا ما غدت طلابة العلم تبتغي * من العلم يوما ما يخلد في الكتب غدوت بتشمير وجد عليهم * ومحبرتي أذني ودفترها قلبي

(11/148)


منصور بن إسماعيل بن عمر أبو الحسن الفقير، أحد أئمة الشافعية، وله مصنفات في المذهب، وله الشعر الحسن.
قال ابن الجوزي: ويظهر في شعره التشيع، وكان جنديا ثم كف بصره وسكن الرملة، ثم قدم مصر ومات بها.
أبو نصر المحب
أحد مشايخ الصوفية، كان له كرم وسخاء ومروءة، ومر بسائل سأل وهو يقول: شفيعي إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق أبو نصر إزاره وأعطاه نصفه، ثم مشى خطوتين ثم رجع إليه فأعطاه النصف الاخر وقال: هذا نذالة.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة في صفر منها وقع حريك بالكرخ في الباقلانتين، هلك فيه خلق كثير من الناس.
وفي ربيع الآخر منها دخل بأسارى من الكرخ نحو مائة وخمسين أسيرا أنقذهم الامير بدر الحماني.
وفي ذي القعدة منها انقض كوكب عظيم غالب الضوء وتقطع ثلاث قطع (1)، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم.
ذكره ابن الجوزي.
وفيها دخلت القرامطة إلى البصرة فأكثروا فيها الفساد.
وفيها عزل حامد بن العباس عن الوزارة وأعيد إليها أبو الحسن بن الفرات المرة الثالثة.
وفيها كسرت العامة أبواب السجون فأخرجوا من كان بها وأدركت الشرطة من أخرجوا من السجن فلم يفتهم أحد منهم بل ردوا إلى السجون.
وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو أم موسى القهرمانة (2).
وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي صاحب المسند المشهور، سمع الامام أحمد بن حنبل وطبقته، وكان حافظا خيرا حسن التصنيف عدلا فيما يرويه، ضابطا لما يحدث به.
__________
(1) في ابن الاثير 8 / 121: تفرق ثلاث فرق.
(2) وهي أم موسى الهاشمية قهرمانة شغب أم المقتدر بالله (*).

(11/149)


إسحاق بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن سلمة أبو يعقوب البزار الكوفي، رحل إلى الشام ومصر، وكتب الكثير وصنف المسند، واستوطن بغداد، وكان من الثقات، روى عنه ابن المظفر الحافظ، قدم بغداد روى عنه الطبراني والازدي
وغيرهما من الحفاظ، وكان ثقة حافظا عارفا.
توفي بحلب في هذه السنة.
زكريا بن يحيى الساجي الفقيه المحدث شيخ أبي الحسن الاشعري في السنة والحديث.
علي بن سهل بن الازهر أبو الحسن الاصبهاني، كان أولا مترفا ثم صار زاهدا عابدا يبقى الايام لا يأكل فيها شيئا، وكان يقول: ألهاني الشوق إلى الله عن الطعام والشراب.
وكان يقول: أنا لا أموت كما يموتون بالاعلال والاسقام، إنما هو دعاء وإجابة، أدعى فأجيب.
فكان كما قال، بينما هو جالس في جماعة إذ قال: لبيك ووقع ميتا.
محمد بن هارون الروياني (1) صاحب المسند.
وابن دريج (2) العكبري.
والهيثم بن خلف (3).
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة فيها غلت الاسعار في هذه السنة ببغداد فاضطربت العامة وقصدوا دار حامد بن العباس الذي ضمن براثى من الخليفة فغلت الاسعار بسبب ذلك، وعدوا في ذلك اليوم - وكان يوم الجمعة - على الخطيب، فمنعوه الخطبة وكسروا المنابر وقتلوا الشرطة وحرقوا جسورا كثيرة، فأمر الخليفة بقتال العامة ثم نقض الضمان الذي كان حامد بن العباس ضمنه فانحطت الاسعار، وبيع الكر بناقص خسمة دنانير، فطابت أنفس الناس بذلك وسكنوا (4).
وفي تموز منها وقع برد شديد جدا حتى نزل الناس عن الاسطحة وتدثروا باللحف والاكسية، ووقع في شتاء هذه السنة بلغم عظيم، وكان فيها
__________
(1) الحافظ الامام أبو بكر حدث عن أبي كريب وطبقته وله تصانيف في الفقه وكان من الثقات.
(2) في تاريخ بغداد ذريح، وهو أبو جعفر محمد بن صالح بن ذريح المحدث روى عن جبارة بن المغلس وطائفة.
(3) أبو محمد روى عن عبيد الله بن عمر القواريري وطبقته وجمع وصنف وكان ثقة.
(4) في ابن الاثير 8 / 116 - 117 ذكر الخبر في حوادث سنة 307 ه.
وقال: وكان أصحاب حامد يقولون إن ذلك الشغب كان بوضع من علي بن عيسى (*).

(11/150)


برد شديد جدا بحيث أضر ذلك ببعض النخيل.
وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو القهرمانة.
وفيها توفي من الاعيان.
إبراهيم بن سفيان الفقيه راوي صحيح مسلم عنه.
أحمد بن الصلت ابن المغلس أبو العباس الحماني أحد الوضاعين للاحاديث، روى عن خاله جبارة بن المغلس وأبي نعيم ومسلم بن إبراهيم، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم: أحاديث كلها وضعها هو في مناقب أبي حنيفة وغير ذلك.
وحكى عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وبشر بن الحارث أخبارا كلها كذب.
قال أبو الفرج بن الجوزي: قال لي محمد بن أبي الفوارس: كان أحمد بن الصلت يضع الحديث.
إسحاق بن أحمد الخزاعي (1).
والمفضل الجندي (2).
وعبد الله بن محمد بن وهب الدينوري (3).
و عبد الله بن ثابت بن يعقوب أبو عبد الله المقري النحوي التوزي، سكن بغداد، وروى عن عمرو بن شبة، وعنه أبو عمرو بن السماك.
ومن شعره الجيد: إذا لم تكن حافظا واعيا * فعلمك في البيت لا ينفع وتحضر بالجهل في مجلس * وعلمك في الكتب مستودع ومن يك في دهره هكذا * يكن دهره القهقرى يرجع
__________
(1) أبو محمد، مقرئ أهل مكة وصاحب البزي توفي في رمضان وهو في عشر التسعين.
(2) أبو سعيد الجندي محدث مكة روى عن إبراهيم بن محمد الشافعي وجماعة ووثقه أبو علي النيسابوري.
(3) أبو محمد، الحافظ العلامة الجوال، سمع يعقوب الدورقي وأبا سعيد الاشج، قال الدر اقطني متروك
الحديث.
قال ابن عدي: قد قبل ابن وهب الدينوري قوم وصدقوه.
(تذكرة الحفاظ 1 / 754) (*).

(11/151)


ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائة
فيها وقع حريق كثير في نواحي بغداد (1) بسبب زنديق قتل فألقى من كان من جهته الحريق في أماكن كثيرة، فهلك سبب ذلك خلق كثير من الناس.
وفي جمادى الاولى منها قلد المقتدر مؤنس الخادم بلاد مصر والشام ولقبه المظفر.
وأمر بكتب ذلك في المراسلات إلى الآفاق.
وفي ذي القعدة منها أحضر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إلى دار الوزير عيسى بن علي لمناظرة الحنابلة في أشياء نقموها عليه، فلم يحضروا ولا واحد منهم.
وفيها قدم الوزير حامد بن العباس للخليفة بستانا بناه وسماه الناعورة قيمته مائة ألف دينار، وفرش مساكنه بأنواع المفارش المفتخرة.
وفيها كان مقتل الحسين بن منصور الحلاج، ولنذكر شيئا من ترجمته وسيرته، وكيفية قتله على وجه الايجاز وبيان المقصود بطريق الانصاف والعدل، من غير تحمل ولا هوى ولا جور.
ترجمة الحلاج
ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله، أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله، فنقول: هو الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث، ويقال أبو عبد الله، كان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل فارس من بلدة يقال لها البيضاء، ونشأ بواسط، ويقال بتستر، ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام، ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة، وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قبيس، وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري.
قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم، وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصححوا له حاله،
ودونوا كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي - واسمه محمد بن الحسين - سمعت إبراهيم بن محمد النصراباذي وعوتب في شئ حكي عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج.
قال أبو عبد الرحمن: وسمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت الشبلي يقول: كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا، إلا أنه أظهر وكتمت.
وقد روي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال، وقد رأى الحلاج مصلوبا: ألم أنهك عن العالمين ؟ قال الخطيب: والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في
__________
(1) في ابن الاثير 8 / 129: في الكرخ (*).

(11/152)


فعله، وإلى الزندقة في عقيدته وعقده.
قال: وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه ويغلون.
وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق، وله شعر على طريقة الصوفية.
قلت: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره.
فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والائمة إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه.
ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه، وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله، فإنه كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان.
فلهذا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، ولهذا دخل على الحلاج الحلول والاتحاد (1)، فصار من أهل الانحلال والانحراف.
وقد روي من وجه أنه تقلبت به الاحوال وتردد إلى البلدان، وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل.
وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال: أدعو به إلى الله، وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث - أي أنه من رجال المغيث - ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت.
ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد.
وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الاسرار.
وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له: المصطلم وأهل البصرة يقولون له: المحير، ويقال إنما سماه الحلاج أهل الاهواز لانه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم، وقيل لانه مرة قال لحلاج:
أذهب لي في حاجة كذا وكذا، فقال: إني مشغول بالحلج، فقال: اذهب فأنا أحلج عنك، فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه، يقال إنه أشار بالمرود فامتاز الحب عن القطن، وفي صحة هذا ونسبته إليه نظر، وإن كان قد جرى مثل هذا، فالشياطين تعين أصحابها ويستخد مونهم.
وقيل لان أباه كان حلاجا.
ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة، منها شعره في ذلك فمن ذلك قوله: جبلت روحك في روحي كما * يجبل العنبر بالمسك الفنق فإذا مسك شئ مسني * وإذا أنت أنا لا نفترق وقوله: مزجت روحك في روحي كما * تمزج الخمرة بالماء الزلال فإذا مسك شئ مسني * فإذا أنت أنا في كل حال وقوله أيضا: قد تحققتك في سر * ي فخاطبك لساني
__________
(1) الحلولية والاتحاد قالوا: من هذب نفسه في الطاعة، وصبر على اللذات والشهوات ارتقى إلى مقام المقربين، ثم لا يزال صفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الاله الذي حل في عيسى بن مريم، ولم يرد حينئذ إلا كان كما أراد وكان جميع فعله فعل الله تعالى.
(الفرق بين الفرق ص 198) (*).

(11/153)


فاجتمعنا لمعان * وافترقنا لمعان إن يكن غيبك التعظي * م عن لحظ العيان فلقد صيرك الوج * د من الاحشاء دان وقد أنشد لابن عطاء قول الحلاج: أريدك لا أريدك للثواب * ولكني اريدك للعقاب وكل مأربي قد نلت منها * سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
فقال ابن عطاء: قال هذا ما تزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف، واحترق الاسف، فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب وهاطل من الحق دائم سكب.
وقد أنشد لابي عبد الله بن خفيف قول الحلاج: سبحان من أظهر نا سوته * سرسنا لا هوته الثاقب ثم بدا في خلقه ظاهرا * في صورة الآكل والشارب حتى قد عاينه خلقه * كلحظة الحاجب بالحالجب فقال ابن خفيف: علا من يقول هذا لعنه الله ؟ فقيل له: إن هذا من شعر الحلاج، فقال: قد يكون مقولا عليه.
وينسب إليه أيضا: أوشكت (1) تسأل عني كيف كنت * وما لاقيت بعدك من هم وحزن لا كنت إن كنت أدري كيف كنت * ولا لا كنت أدري كيف لم أكن قال ابن خلكان: ويروى لسمنون لا للحلاج.
ومن شعره أيضا قوله: متى سهرت عيني لغيرك أو بكت * فلا اعطيت (2) ما أملت وتمنت وإن أضمرت نفسي سواك فلا زكت (3) * رياض المنى من وجنتيك وجنت ومن شعره أيضا: دنيا تغالطني كأن * ني لست أعرف حالها حظر المليك حرامها * وأن احتميت حلالها فوجدتها محتاجة * فوهبت لذتها لها وقد كان الحلاج يتلون في ملابسه، فتارة يلبس لباس الصوفية وتارة يتجرد في ملابس زرية،
__________
(1) في الوفيات 2 / 144: أرسلت.
والبيتان في ديوانه ص 118.
(2) في الوفيات: بلغت.
(3) في الوفيات: رعت (*).

(11/154)


وتارة يلبس لباس الاجناد ويعاشر أبناء الاغنياء والملوك والاجناد.
وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثة وبيده ركوة وعكازة وهو سائح فقال له: ما هذه الحالة يا حلاج ؟ فأنشأ يقول: لئن أمسيت في ثوبي عديم * لقد بليا على حر كريم فلا يغررك أن أبصرت حالا * مغيرة عن الحال القديم فلي نفس ستتلف أو سترقى * لعمرك بي إلى أمر جسيم ومن مستجاد كلامه وقد سأله رجل أن يوصيه بشئ ينفعه الله به.
فقال: عليك نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك عن الحق.
وقال له رجل: عظني.
فقال: كن مع الحق بحكم ما أوجب.
وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال: علم الاولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات: حب الجليل وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل.
قلت: وقد أخطأ الحلاج في المقامين الاخيرين، فلم يتبع التنزيل ولم يبق على الاستقامة بل تحول عنها إلى الاعوجاج والبدعة والضلالة، نسأل الله العافية.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي: أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته.
قال الخطيب: وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري يقول: الناس فيه - يعني حسين بن منصور الحلاج - بين قبول ورد ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي يقول: سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي.
فقلت له: إيش الذي وجد الشيخ عليه ؟ قال قرأت آية من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به.
قال أبو زرعة الطبري: وسمعت أبا يعقوب الاقطع يقول: زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال، خبيث كافر.
قلت: كان تزويجه آياها بمكة، وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الاقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور، وقد ذكر سيرة أبيه كما ساقها من طريق الخطيب.
وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ: أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئا في أوراق فقال له: ما
هذا ؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن.
قال: فدعا عليه فلم يفلح بعدها، وأنكر على أبي يعقوب الاقطع تزويجه إياه ابنته.
وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتابا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يمينا وشمالا، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل، ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والله أعدل من أن يسلطه على صديق.
كيف وقد تهجم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) [ الحج: 25 ] ولا إلحاد أعظم من هذا.
وقد أشبه الحلاج كفار قريش

(11/155)


في معاندتهم، كما قال تعالى عنهم (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الاولين) [ الانفال: 31 ].
أشياء من حيل الحلاج
روى الخطيب البغدادي: أن الحلاج بعث رجلا من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح، فإذا سعوا في مداواته، قال لهم: يا جماعة الخير، إنه لا ينفعني شئ مما تفعلون، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له: إن شفاءك لا يكون إلا على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وصفته كذا وكذا، وقال له الحلاج: إني سأقدم عليك في ذلك الوقت.
فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد ويظهر الصلاح والتنسك ويقرأ القرآن.
فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه، ثم أظهر لهم أنه قد عمي فمكث حينا على ذلك، ثم أظهر لهم أنه قد زمن، فسعوا بمداواته بكل ممكن فلم ينتج فيه شئ، فقال لهم: يا جماعة الخير هذا الذي تفعلونه معي لا ينتج بشيئا وأنا قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول لي: إن عافيتك وشفاءك إنما هو على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وكانوا أولا يقودونه إلى المسجد ثم
صاروا يحملونه ويكرمونه كان في الوقت الذي ذكر لهم، واتفق هو والحلاج عليه، أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفيا وعليه ثياب صوف بيض، فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتفت إلى أحد، فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل، فابتدروا إليه يسلمون عليه وتمسحون به، ثم جاؤوا إلى ذلك الزمن المتعافى فأخبره بخبره، فقال: صفوه لي، فوصفوه له فقال: هذا الذي أخبرني عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأن شفائي على يديه، اذهبوا بي إليه.
فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام.
ثم ذكر له رؤياه، فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر، ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته فمشى كأنه لم يكن به شئ والناس حضور، وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده، فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه وعظموا الحلاج تعظيما زائدا على ما أظهر لهم من الباطل والزور.
ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم.
فلما أراد الخروج عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالا كثيرا فقال: أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا، وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا، ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الابدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس، ويحجون ويتصدقون، محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك، فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى.
صدق الشيخ، قد رد الله علي بصري ومن الله علي بالعافية، لاجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله، والحج إلى بيت الله مع إخواننا الابدال

(11/156)


والصالحين الذين نعرفهم، ثم حثهم على إعطائه من المال ما طابت به أنفسهم.
ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالا كثيرا ألوفا من الذهب والفضة، فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال.
وروي عن بعظهم قال: كنت أسمع أن الحلاج له أحوال وكرامات فأحببت أن أختبر ذلك فجئته فسلمت عليه فقال لي: تشتهي على الساعة شيئا ؟ فقلت: أشتهي سمكا طريا.
فدخل منزله فغاب ساعة ثم خرج علي ومعه سمكة تضطرب ورجلاه عليهما الطين.
فقال: دعوت الله فأمرني أن
آتي البطائح لآتيك بهذه السمكة، فخضت الاهواز وهذا الطين منها فقلت: إن شئت أدخلتني منزلك حتى أنظر ليقوى يقيني بذلك، فإن ظهرت على شئ وإلا آمنت بك.
فقال: ادخل، فدخلت فأغلق علي الباب وجلس يراني.
فدرت البيت فلم أجد فيه منفذا إلى غيره، فتحيرت في أمره ثم نظرت فإذا أنا بتأزيرة - وكان مؤزرا بإزار ساج - فحركتها فانفلقت فإذا هي باب منذ فدخلته فأفضى بي إلى بستان هائل، فيه من سائر الثمار الجديدة والعتيقة، قد أحسن إبقاءها.
وإذا أشياء كثيرة معدودة للاكل، وإذا هناك بركة كبيرة فيها سمك كثير صغار وكبار، فدخلتها فأخرجت منها واحدة فنال رجلي من الطين مثل الذي نال رجليه، فجئت إلى الباب فقلت: افتح قد آمنت بك فلما رآني على مثل حاله أسرع خلفي جريا يريد أن يقتلني.
فضربته بالسمكة في وجهه وقلت: يا عدو الله أتعبتني في هذا اليوم.
ولما خلصت منه لقيني بعد أيام فضاحكني وقال: لا تفش ما رأيت لاحد وإلا بعثت إليك من يقتلك على فراشك.
قال: فعرفت أنه يفعل إن أفشيت عليه فلم أحدث به أحدا حتى صلب.
وقال الحلاج يوما لرجل: آمن بي حتى أبعث لك بعصفورة تأخذ من ذرقها وزن حبة فتضعه على كذا منا من نحاس فيصير ذهبا.
فقال له الرجل: آمن أنت بي حتى أبعث إليك بفيل إذا استلقى على قفاه بلغت قوائمه إلى السماء، وإذا أردت أن تخفيه وضعته في إحدى عينيك.
قال: فبهت وسكت.
ولما ورد بغداد جعل يدعو إلى نفسه ويظهر أشياء من المخاريق والشعوذة وغيرها من الاحوال الشيطانية، وأكثر ما كان يروج على الرافضة لقلة عقولهم وضعف تمييزهم بين الحق والباطل.
وقد استدعى يوما برئيس من الرافضة فدعاه إلى الايمان به فقال له الرافضي: إني رجل أحب النساء وإني أصلع الرأس، وقد شبت، فإن أنت أذهبت عني هذا وهذا آمنت بك وأنك الامام المعصوم، وإن شئت قلت إنك نبي، وإن شئت قلت إنك أنت الله.
قال: فبهت الحلاج ولم يحر إليه جوابا.
قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: كان الحلاج متلونا تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم: إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقا أو غيرهم، ولما أقام بالاهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة،
فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال: إن هذا كله مما يناهل البشر بالحيلة، ولكن أدخلوه بيتا لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك.
فلما بلغ ذلك الحلاج تحول من الاهواز.
قال

(11/157)


الخطيب: أنبأ إبراهيم بن مخلد أنبأ إسماعيل بن علي الخطيب في تاريخه قال: وظهر أمر رجل يقال له الحلاج الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به، وذلك في وزارة علي بن عيسى الاولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وأنهى خبره إلى السلطان - يعني الخليفة المقتدر بالله - فلم يقر بما رمي به من ذلك فعاقبه وصلبه حيا وأياما متوالية في رحبة الجسر، في كل يوم غدوة، وينادى عليه بما ذكر عنه، ثم ينزل به ثم يحبس، فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس، خوفا من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم، إلى أن حبس آخر حسبة في دار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من الحيل، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه بالمآكل المطيبة، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها، فاستجابوا له وترقى به الامرا إلى أن دعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بذلك بلسانه، وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله، فأمل الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار، فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي في يوم الثلاثاء لتسع (1) بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلثمائة، فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط، ثم قطعت يداده ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه ورجلاه.
وقال أبو عبد الرحمن بن الحسن السلمي: سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول قال أبو
القاسم الرازي، قال أبو بكر بن ممشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها ليلا ولا نهارا، فأنكروا ذلك من حاله ففتشوا مخلاته فوجدوا فيها كتاب للحلاج عنوانه: من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان - يدعوه إلى الضلالة والايمان به - فبعث بالكتاب إلى بغداد فسئل الحلاج عن ذلك فأقر انه كتبه فقالوا له: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الالوهية والربوبية ؟ فقال: لا ولكن هذا عين الجمع عندنا.
هل الكتاب إلا الله وأنا واليد آلة ؟ فقيل له: معك على ذلك أحد ؟ قال: نعم ابن عطاء وأبو محمد الحريري وأبو بكر الشبلي.
فسئل الحريري عن ذلك فقال: من يقول بهذا كافر.
وسئل الشبلي عن ذلك فقال: من يقول بهذا يمنع.
وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال: القول ما يقول الحلاج في ذلك.
فعوقب حتى كان سبب هلاكه.
ثم روى أبو عبد الرحمن السلمي عن محمد بن عبد الرحمن الرازي أن الوزير حامد بن العباس لما أحضر الحلاج سأله عن اعتقاده فأقر به فكتبه، فسأل عن ذلك فقهاء بغداد فأنكروا ذلك وكفرورا من اعتقده، فكتبه.
فقال الوزير: إن
__________
(1) في الفرق بين الفرق للبغدادي ص 199: لست (انظر الطبري 12 / 54) (*)

(11/158)


أبا العباس بن عطاء يقول بهذا.
فقالوا: من قال بهذا فهو كافر.
ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس فسأله عن قول الحلاج فقال: من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد.
فقال الوزير لابن عطاء: ويحك تصوب مثل هذا القول وهذا الاعتقاد ؟ فقال ابن عطاء: مالك ولهذا، عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس وظلمهم وقتلهم فما لك ولكلام هؤلاء السادة من الاولياء.
فأمر الوزير عند ذلك بضرب شدقيه ونزع خفيه وأن يضرب بهما على رأسه، فما زال يفعل به ذلك حتى سال الدم من منخريه، وأمر بسجنه.
فقالوا له: إن العامة تستوحش من هذا ولا يعجبها.
فحمل إلى منزله، فقال ابن عطاء: اللهم اقتله واقطع يديه ورجليه.
ثم مات ابن عطاء بعد سبعة أيام، ثم بعد مدة قتل الوزير شر قتلة، وقطعت يداه ورجلاه وأحرقت داره.
وكان العوام يرون ذلك بدعوة ابن عطاء على عادتهم في مرائيهم فمن أوذي ممن لهم معه هوى: بل قد قال ذلك جماعة ممن ينسب إلى العلم فيمن يؤذي ابن عربي أو يحط على حسين الحلاج أو غيره.
هذا بخطيئة
فلان.
وقد اتفق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته.
وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا.
قال أبو بكر محمد بن داود الظاهري حين أحضر الحلاج في المرة الاولى قبل وفاة أبي بكر (1) هذا وسئل عنه فقال: إن كان ما أنزل الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم حقا فما يقوله الحلاج باطل.
وكان شديدا عليه.
وقال أبو بكر الصولي: قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلا يتعاقل، وغبيا يتبالغ، وخبيثا مدعيا، وراغبا يتزهد، وفاجرا يتعبد.
ولما صلب في أول مرة ونودي عليه أربعة أيام سمعه بعضهم وقد جئ به ليصلب وهو راكب على بقرة يقول: ما أنا بالحلاج، ولكن ألقي علي شبهه وغاب عنكم فلما ادني إلى الخشبة ليصلب عليها سمعته وهو مصلوب يقول: يا معين الفنا علي أعني على الفنا.
وقال بعضهم سمعته وهو مصلوب يقول: إلهي أصبحت في دار الرغائب، أنظر إلى العجائب، إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك فكيف بمن يؤذى فيك.
صفة مقتل الحلاج
قال الخطيب البغدادي وغيره: كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس، فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقا من الحشم والحجاب في دار السلطان، ومن غلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيى الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه.
قال: إنه أحيا عدة من
__________
(1) في الفرق بين الفرق ص 197: ان أبا بكر محمد بن داود أفتى بجواز قتله (وانظر الاسفرائيني في التبصير والذهبي في العبر 1 / 139).
والمعروف أن أبا بكر توفي سنة 297 أي قبل قتل الحلاج باثنتي عشرة سنة، فمن المحتمل ان فتواه هذه كانت قبل هذا التاريخ (*).

(11/159)


الطير.
وذكر لعلي بن عيسى أن رجلا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعوا الناس إلى طاعته فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود.
ووجد عنده سفطا فيه من رجيع الحلاج وعذرته
وبوله وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده.
فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فجحد ذلك وكذبهم وقال: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أ عبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك.
وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد، ويكثر أن يقول: سبحنك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وكان مع ذلك يصلي في كل يوم واليلة ألف ركعة.
وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب، مأذونا لمن يدخل إليه، وكان يسمى نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمد بن أحمد الفارسي، وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح، وكان قد أدخله على المقتدر بالله فرقاه من وجع حصل له فاتفق زواله عنه، وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها، فنفق سوقه وحظي في دار السلطان فلما انتشر الكلام فيه سلم إلى الوزير حامد بن العبساس فحبسه في قيود كثيرة في رجليه، وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق.
ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الاوارجي، والآخر يقال له الدباس، فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرقة والسحر شيئا كثيرا، وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة.
من ذلك أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال: قومي إلى الصلاة ؟ وإنما كان يريد أن يطأها.
وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد البشر لبشر ؟ فقال: نعم إله في السماء وإله في الارض.
ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فوجدت تحتها دنانير كثيرة مبدورة.
ولما كان معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دخل عليه بعض الغلمان ومعه طبق فيه طعام ليأكل منه، فوجده قد ملا البيت من سقفه إلى أرضه، فذعر ذلك الغلام وفزع فزعا شديدا، وألقى ما كان في يده من ذلك الطبق والطعام، ورجع
محموما فمرض عدة أيام.
ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجئ بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه: من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شئ من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف

(11/160)


بالكعبة ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة، ثم يستدعي بثلاثين يتيما فيطعمهم من طعامه، ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصا قميصا، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم - أو قال ثلاثة دراهم - فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج، وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا أجزأه ذلك عن صيام رمضان.
ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك.
وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر إلا على شئ من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره.
فقال له القاضي أبو عمر: من أين لك هذا ؟ فقال: من كتاب الاخلاص للحسن البصري.
فقال له: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الاخلاص للحسن بمكة ليس فيه شئ من هذا.
فأقبل الوزير على القاضي فقال له: قد قلت يا حلال الدم فاكتب ذلك في هذه الورقة، وألح عليه وقدم له الدواة فكتب ذلك في تلك الورقة، وكتب من حضر خطوطهم فيها وأنفذها الوزير إلى المقتدر، وجعل الحلاج يقول لهم: ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي ما يبيحه، واعتقادي الاسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين فالله الله في دمي.
فلا يلتفتون إليه ولا إلى شئ مما يقول.
وجعل يكرر ذلك وهم يكتبون خطوطهم بما كان من الامر.
ورد الحلاج إلى محبسه وتأخر جواب المقتدر ثلاثة أيام حتى ساء ظن الوزير حامد بن العباس، فكتب إلى الخليفة يقول له: إن أمر الحلاج قد اشتهر ولم يختلف فيه اثنان وقد افتتن كثير من الناس به.
فجاء الجواب بأن يسلم إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة.
وليضربه ألف سوط، فإن
مات وإلا ضربت عنقه ففرح الوزير بذلك وطلب صاحب الشرطة فسلمه إليه وبعث معه طائفة من غلمانه يصلونه معه إلى محل الشرطة من الجانب الغربي خوفا من أن يستنقذ من أيديهم.
وذلك بعد عشاء الآخرة في ليلة الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وهو راكب على بغل عليه إكاف وحوله جماعة من أعوان السياسة، على مثل شكله، فاستقر منزله بدار الشرطة في هذه الليلة، فدكر أنه بات يصلي تلك الليلة ويدعو دعاء كثيرا.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا بكر الشاشي يقول قال أبو الحديد - يعني المصري -: لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلي من الليل فصلى ما شاء الله، فلما كان آخر الليل قام قائما فتغطى بكسائه ومد يده نحو القبلة فتكلم بكلام جائز الحفظ، فكان مما حفظت منه قوله: نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك ومشيئتك، وأنت الذي في السماء إله وفي الارض إله، تتجلى لما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الورح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثم إني أوعزت إلى شاهدك لاني في ذاتك الهوى كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند حلول لذاتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدا في معارجي إلى عروش أزلياتي عند التولي عن برياتي، إني اختصرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات.
ولججت في الجاريات، وأن ذرة من ينجوج مكان هالوك متجلياتي، لاعظم من الراسيات.
ثم أنشأ يقول:

(11/161)


أنعي إليك نفوسا طاح شاهدها * فيما ورا الحيث بل في شاهد القدم أنعي إليك قلوبا طالما هطلت * سحائب الوحي فيها أبحر الحكم أنعي إليك لسان الحق منك ومن * أودى وتذكاره في الوهم كالعدم أنعى إليك بيانا يستكين له * أقوال كل فصيح مقول فهم أنعي إليك إشارات العقول معا * لم يبق منهن إلا دارس العلم أنعي وحبك أخلاقا بطائفة * كانت مطاياهم من مكمد الكظم مضى الجميع فلا عين ولا أثر * مضى عاد وفقدان الاولى إرم
وخلفوا معشرا يحذون لبستهم * أعمى من البهم بل أعمى من النعم قالوا: ولما أخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه ليذهب به إلى القتل أنشد: طلبت المستقر بكل أرض * فلم أر لي بأرض مستقرا وذقت من الزمان وذاق مني * وجدت مذاقه حلوا ومرا أطعت مطامعي فاستعبدتني * ولو أني قنعت لعشت حرا وقيل: إنه قالها حين قدم إلى الجذع ليصلب، والمشهور الاول.
فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا وجعل ينشد ويتمايل: نديمي (1) غير منسوب * إلى شئ من الحيف فلما دارت الكأس * دعا بالنطع والسيف سقاني مثل ما يشر * ب فعل الضيف بالضيف كذا من يشرب الراح * مع التنين في الصيف ثم قال: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) [ الشورى: 18 ] ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل.
قالوا: ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة، ولم يتغير لونه، ويقال إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد.
قال أبو عبد الرحمن: سمعت عبد الله بن علي يقول سمعت عيسى القصار يقول: آخر كلمة تكلم بها الحلاج حين قتل أن قال: حسب الواحد إفراد الواحد له.
فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا رق له، واستحسن هذا الكلام منه.
وقال السلمي: سمعت أبا بكر المحاملي يقول سمعت أبا الفاتك البغدادي - وكان صاحب الحلاج - قال: رأيت في النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج كأني واقف بين يدي ربي عز وجل وأنا أقول يا رب ما فعل الحسين بن منصور ؟ فقال: كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه فأنزلت به ما رأيت.
ومنهم من قال: بل جزع عند القتل
__________
(1) في الفخري ص 261: حبيبي (*).

(11/162)


جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا، فالله أعلم.
وقال الخطيب: ثنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال: قال لنا أبو عمر بن حيوية: لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس، ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لاصحابه: لا يهولنكم هذا الامر، فإني عائد اليكم بعد ثلاثين يوما.
ثم قتل فما عاد (1).
وذكر الخطيب أنه قال وهو يضرب لمحمد بن عبد الصمد والي الشرطة: أدع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية، فقال له: قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل.
ثم قعطت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوما.
وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال: لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول، إني لست به، وإنما القي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتهم.
وكانوا بجهلهم يقولون: إنما قتل عدو من أعداء الحلاج.
فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال: إن كان هذا الرأي صادقا فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به.
كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب.
قال الخطيب: واتفق له أن دجلة زادت في هذا العام زيادة كثيرة.
فقال: إنما زادت لان رماد جثة الحلاج خالطها.
وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديما وحديثا.
ونودي ببغداد أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع.
وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلثمائة ببغداد.
وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى اختلاف الناس فيه، ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الانوار وتأول كلامه وحمله على ما يليق.
ثم نقل ابن خلكان عن إمام الحرمين أنه كان يذمه ويقول إنه اتفق هو والجنابي وابن المقفع على إفساد عقائد الناس، وتفرقوا في البلاد فكان الجنابي في هجر والبحرين، وابن المقفع ببلاد الترك، ودخل الحلاج العراق، فحكم صاحباه عليه بالهلكة لعدم انخداع أهل العراق بالباطل.
قال ابن خلكان وهذا لا ينتظم فإن ابن المقفع كان قبل الحلاج بدهر في أيام السفاح والمنصور، ومات سنة خمس وأربعين ومائين أو قبلها.
ولعل إمام الحرمين أراد ابن المقفع الخراساني الذي ادعى الربوبية وأوتي العمر واسمه عطاء، وقد قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة، ولا يمكن اجتماعه مع الحلاج أيضا، وإن أردنا تصحيح كلام إمام الحرمين فنذكر ثلاثة قد اجتمعوا في وقت واحد على إضلال الناس وإفساد العقائد كما ذكر، فيكون المراد بذلك الحلاج وهو الحسين بن منصور الذي ذكره، وابن السمعاني (2) - يعني أبا جعفر
__________
(1) انظر الطبري 12 / 55 والفخري ص 261 وابن الاثير 8 / 129.
(2) في ابن الاثير 8 / 290 وابن خلكان 2 / 156 والفرق بين الفرق ص 200: الشلمغاني.
نسبة إلى قرية شلمغان التي ينسب إليها قرية بنواحي واسط (*).

(11/163)


محمد بن علي - وأبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي القرمطي الذي قتل الحجاج وأخذ الحجر الاسود وطم زمزم ونهب أستار الكعبة، فهؤلاء يمكن اجتماعهم في وقت واحد كما ذكرنا ذلك مبسوطا، وذكره ابن خلكان ملخصا.
وفيها توفي من الاعيان: أبو العباس بن عطاء أحد أئمة الصوفية وهو أحمد بن محمد بن عطاء الادمي.
حدث عن يوسف بن موسى القطان، والمفضل بن زياد وغيرهما، وقد كان موافقا للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله، وكان أبو العباس هذا يقرأ في كل يوم ختمة، فإذا كان شهر رمضان قرأ في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكان له ختمة يتدبرها ويتدبر معاني القرآن فيها.
فمكث فيها سبعة عشرة سنة ومات ولم يختمها، وهذا الرجل مما كان اشتبه عليه أمر الحلاج وأظهر موافقته فعاقبه الوزير حامد بن العباس بالضرب البليغ على شدقيه، وأمر بنزع خفيه وضربه بهما على رأسه حتى سال الدم من منخريه، ومات بعد سبعة أيام من ذلك، وكان قد دعا على الوزير بأن تقطع يداه ورجلاه ويقتل شر قتلة.
فمات الوزير بعد مدة كذلك.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هارون الطبيب الحراني.
وأبو محمد عبد الله بن حمدون النديم.
ثم دخلت سنة عشر وثلثمائة
فيها أطلق يوسف بن أبي الساج من الضيق، وكان معتقلا، وردت إليه أمواله وأعيد إلى عمله وأضيف إليه بلدان أخرى، ووظف عليه في كل سنة خمسمائة ألف دينار يحملها إلى الحضرة فبعث حينئذ إلى مؤنس الخادم يطلب منه أبا بكر بن الادمي القارئ، وكان قد قرأ بين يديه حين اعتقل في سنة إحدى (1) وستين ومائتين (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي صالمة) [ هود: 102 ] فخاف القارئ من سطوته واستعفى من مؤنس الخادم فقال له مؤنس: اذهب وأنا شريكك في الجائزة.
فلما دخل عليه قرأ بين يديه (وقال الملك أئتوني به أستخلصه لنفسي) [ يوسف: 54 ] فقال: بل أحب أن تقرأ ذلك العشر الذي قرأته عند سجني وإشهاري (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) [ هود: 102 ] فإن ذلك كان سبب توبتي ورجوعي إلى الله عز وجل، وكان ذلك على يديك.
ثم أمر له بما جزيل وأحسن إليه.
وفيها مرض علي بن عيسى الوزير فجاءه هارون بن المقتدر ليعوده ويبلغه سلام أبيه عليه، فبسط له الطريق، فلما اقترب من داره تحامل وخرج إليه فبلغه سلام الخليفة، وجاء مؤنس الخادم معه، ثم جاء الخبر بأن الخليفة قد عزم على عيادته فاستعفي من مؤنس الخادم، ثم ركب على جهد عظيم حتى سلم على الخليفة لئلا يكلفه الركوب إليه.
وفيها قبض على القهرمانة أم موسى ومن ينسب إليها، وكان حاصل ما حمل إلى بيت المال من جهتها ألف ألف
__________
(1) في الاصل المطبوع إحد وستين ومائتين والصواب ما أثبتناه (*).

(11/164)


دينار.
وفي يوم الخميس منها لعشر بقين من ربيع الآخر ولى المقتدر منصب القضاء أبا الحسين عمر بن الحسين بن علي الشيباني المعروف بابن الاشناني - وكان من حفاظ الحديث وفقهاء الناس - ولكنه عزل بعد ثلاثة أيام، وكان قبل ذلك محتسبا ببغداد.
وفيها عزل محمد بن عبد الصمد عن شرطة بغداد ووليها نازوك وخلع عليه.
وفيها في جمادى الآخرة فيها ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان في برج السنبلة.
وفي شعبان منها وصلت هدايا نائب مصر وهو الحسين بن المادراني، وفي جملتها بغلة معها فلوها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه.
وفيها قرئت الكتب على المنابر بما كان من الفتوح على المسلمين ببلاد الروم.
وفيها ورد الخبر بأنه انشق بأرض واسط في الارض في سبعة عشر موضعا
أكبرها طوله ألف ذراع، وأقلها مائتان ذراع، وأنه غرق من أمهات القرى ألف وثلثمائة قرية.
وحج بالناس إسحاق بن عبد الملك الهاشمي.
وممن توفي فيها من الاعيان..
أبو بشر الدولابي محمد بن أحمد بن حماد أبو سعيد أبو بشر الدولابي (1)، مولى الانصار، ويعرف بالوراق، أحد الائمة من حفاظ الحديث، وله تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك، وروى جماعة كثيرة.
قال ابن يونس: كان يصعق، توفي وهو قاصد الحج بين مكة والمدينة بالعرج (2) في ذي القعدة.
وفيها توفي:
أبو جعفر بن جرير الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير (3) بن غالب الامام أبو جعفر الطبري، وكان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان، روى الكثير عن الجم الغفير، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير، وغيرهما من المصنفات النافعة في الاصول والفروع.
ومن أحسن ذلك تهذيب الآثار ولو كمل لما احتيج معه إلى شئ، ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه.
وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة.
قال الخطيب البغدادي: استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته، وكان من أكابر أئمة العلماء، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله، وكان
__________
(1) الدولابي: نسبة إلى الدولاب وهي قرية من أعمال الري، وبالاهواز قرية يقال لها الدولاب.
(2) العرج: بفتح العين وسكون الراء، وهي عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحج.
والعرج: قرية من نواحي الطائف.
قال ابن خلكان: ولا أعلم هل توفي الدولابي في العرج الاولى أم الثانية.
(3) في وفيات الاعيان 4 / 191: يزيد بن خالد وقيل يزيد بن كثير، وهو من أهل آمل - طبرستان (*).

(11/165)


قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات
كلها، بصيرا بالمعاني، فقيها في الاحكام، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، عارفا بأيام الناس وأخبارهم.
وله الكتاب المشهور في تاريخ الامم والملوك، وكتاب التفسير لم يصنف أحد مثله.
وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه (1).
وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قال الخطيب: وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الاسفرائيني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا، أو كما قال.
وروى الخطيب عن إمام الائمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال: ما أعلم على أديم الارض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.
وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ - ولم يتفق له سماع من ابن جرير لان الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة: لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه.
قلت: وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات، وكان من كبار الصالحين، وهو أحد المحدثين الذي اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الائمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن جرير الطبري هذا.
وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي، وكان الذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقيل محمد بن نصر، فرزقهم الله.
وقد أراد الخليفة المقتدر (2) في بعض الايام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء، فقيل له: لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده.
وقال له: سل حاجتك، فقال: لا حاجة لي.
فقال لا بد أن تسألني حاجة أو شيئا.
فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع، فأمر الخليفة بذلك.
وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان.
ومن شعره:
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي (3) * وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي * ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي * لكنت إلى الغنى سهل الطريق
__________
(1) وهو من عجائب كتبه ابتدأ بما رواه أبو بكر الصديق مما صح، وتكلم على كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من الفقه واختلاف العلماء وحججهم واللغة.
(2) في تذكرة الحفاظ: 1 / 711: المكتفي.
(3) في الوفيات 4 / 192: شقيقي (*).

(11/166)


ومن شعره أيضا:
خلقان لا أرضى طريقهما * بطر الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا * وإذا افتقرت فته على الدهر
وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الاحد بقيا من شوال من سنة عشر وثلثمائة.
وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لان بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض، ومن الجلهة من رماه بلالحاد، وحاشاه من ذلك كله.
بل كان أحد أئمة الاسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض.
ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهروا يصلون عليه، وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين، وكتابا جمع فيه طريق حديث الطير.
ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما، وقد اشتهر عنه هذا.
فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات.
والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فلم يفهم كثير من الناس
مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم.
وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الاعرابي حيث يقول: حدث مفظع وخطب جليل * دق عن مثله اصطبار الصبور قام ناعي العلوم اجمع لما * قام ناعي محمد بن جرير فهوت أنجم لها زاهرات * مؤذنات رسومها بالدثور وتغشى ضياها النير الاش * راق ثوب الدجنة الديجور وغدا روضها الانيق هشيما * ثم عادت سهولها كالوعور يا أبا جعفر مضيت حميدا * غير وان في الجد والتشمير بين أجر على اجتهادك موفو * ر وسعي إلى التقى مشكور مستحقا به الخلود لدى جن * ة عدن في غبطة وسرور ولابي بكر بن دريد رحه الله فيه مرثاة طويلة (1)، وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها.
والله سبحانه أعلم.
__________
(1) ومنها: تذكرة الحفاظ 1 / 715: إن المنية لم تتلف به رجلا * بل أتلفت علما للدين منصوبا كان الزمان به تصفو مشاربه * والآن أصبح بالتكدير مقطوبا (*)

(11/167)


ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلثمائة فيها دخل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي أمير القرامطة في ألف وسبعمائة فارس إلى البصرة ليلا، نصب السلالم الشعر في سورها فدخلها قهرا وفتحوا أبوابها وقتلوا من لقوه من أهلها، وهرب أكثر الناس فألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم، ومكث بها سبعة عشر يوما يقتل ويأسر من نسائها وذراريها، ويأخذ ما يختار من أموالها.
ثم عاد إلى بلده هجر، كلما بعث إليه الخليفة جندا من قبله فر هاربا وترك البلد خاويا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها عزل المقتدر عن الوزارة حامد بن
العباس وعلي بن عيسى وردها إلى أبي الحسن بن الفرات مرة ثالثة، وسلم إليه حامدا وعلي بن عيسى، فأما حامد فإن المحسن بن الوزير ضمنه من المقتدر بخمسمائة ألف ألف دينار، فتسلمه فعاقبه بأنواع العقوبات، وأخذ منه أموالا جزيلة لا تحصى ولا تعد كثرة، ثم أرسله مع موكلين عليه إلى واسط ليحتاطوا على أمواله، وحواصله هناك، وأمرهم أن يسقوه سما في الطريق فسقوه ذلك في بيض مشوي كان قد طلبه منهم، فمات في رمضان من هذه السنة.
وأما علي بن عيسى فإنه صودر بثلثمائة ألف دينار وصودر قوم آخرون من كتابه، فكان جملة ما أخذ من هؤلاء مع ما كان صودرت به القهرمانة من الذهب شيئا كثيرا جدا آلاف ألف من الدنانير، وغير ذلك من الاثاث والاملاك والدواب والآنية من الذهب والفضة.
وأشار الوزير ابن الفرات على الخليفة المقتدر بالله أن يبعد عنه مؤنس الخادم إلى الشام - وكان قد قدم من بلاد الروم من الجهاد، وقد فتح شيئا كثيرا من حصون الروم وبلدانهم، وغنم مغانم كثيرة جدا - فأجابه إلى ذلك، فسأل مؤنس الخليفة أن ينظره إلى سلخ شهر رمضان، وكان مؤنس قد أعلم الخليفة بما يعتمده ابن الوزير من تعذيب الناس ومصادرتهم بالاموال، فأمر الخليفة مؤنسا بالخروج إلى الشام.
وفيها كثر الجراد وأفسد كثيرا من الغلات.
وفي رمضان منها أمر الخليفة برد ما فضل من المواريث على ذوي الارحام.
وفي رمضان أحرق بالنار على باب العامة مائتين وأربعة أعدال من كتب الزنادقة، منها ما كان صنفه الحلاج وغيره، فسقط منها ذهب كثيرا كانت محلاة به.
وفيها اتخذ أبو الحسن بن الفرات الوزير مرستانا في درب الفضل وكان ينفق عليه من ماله في كل شهر مائتي دينار.
وفيها توفي من الاعيان..
الخلال أحمد بن محمد بن هاون أبو بكر الخلال، صاحب الكتاب الجامع لعلوم الامام أحمد، ولم يصنف في مذهب الامام أحمد مثل هذا الكتاب، وقد سمع الخلال الحديث من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما توفي يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين مضتا من هذه السنة.
أبو محمد الجريري أحد أئمة الصوفية أحمد بن محمد بن الحسين أبو محمد الجريري أحد كبار الصوفية، صحب

(11/168)


سريا السقطي، وكان الجنيد يكرمه ويحترمه.
ولما حضرت الجنيد الوفاة أوصى أن يجالس الجريري، وقد اشتبه على الجريري هذا شأن الحلاج فكان ممن أجمل القول فيه، على أن الجريري هذا مذكور بالصلاح والديانة وحسن الادب.
الزجاج صاحب معاني القرآن إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج، كان فاضلا دينا حسن الاعتقاد، وله المصنفات الحسنة، منها كتاب معني القرآن وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، وقد كان أول أمره يخرط الزجاج فأحب علم النحو فذهب إلى المبرد، وكان يعطي المبرد كل يوم درهما، ثم استغنى الزجاج وكثر ماله ولم يقطع عن المبرد ذلك الدرهم حتى مات، وقد كان الزجاج مؤدبا للقاسم بن عبيد الله.
فلما ولي الوزارة كان الناس يأتونه بالرقاع ليقدمها إلى الوزير، فحصل له بسبب ذلك ما يزيد على أربعين ألف دينار.
توفي في جمادى الاولى منها.
وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي، وابن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، نسب إليه لاخذه عنه، وهو صاحب كتاب الجمل في النحو.
بدر مولى المعتضد وهو بدر الحمامي ويقال له بدر الكبير، كان في آخر وقت على نيابة فارس، ثم وليها من بعده ولده محمد.
حامد بن العباس الوزير استوزره المقتدر في سنة ست وثلثمائة، وكان كثير المال والغلمان، كثير النفقات كريما سخيا، كثير المروءة.
له حكايات تدل على بذله وإعطائه الاموال الجزيلة، ومع هذا كان قد جمع شيئا كثيرا، وجد له في مطمورة ألوف من الذهب، كان كل يوم إذا دخلها ألقى فيها ألف دينار، فلما امتلات طمها، فلما صودر دل عليه فاستخرجوا منها مالا كثيرا جدا، ومن أكبر مناقبه أنه كان من السعاة في قتل الحسين الحلاج كما ذكرنا ذلك.
توفي الوزير حامد بن العباس في رمضان منها
مسموما.
وفيها توفي عمر بن محمد بجير البجيري (1) صاحب الصحيح.
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 1 / 719 وفي الاصل " بحتر البحتري ".
وهو أبو حفص الحافظ الامام، الهمذاني السمرقندي محدث ما وراء النهر.
ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
سمع عيسى بن حماد وبشر بن معاذ العقدي وغيرهما (*).

(11/169)


ابن خزيمة محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي، مولى محسن بن مزاحم الامام أبو بكر بن خزيمة الملقب بإمام الائمة، كان بحرا من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وكتابه الصحيح من أنفع الكتب وأجلها، وهو من المجتهدين في دين الاسلام، حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الشافعية عنه أنه قال: ما قلدت أحدا منذ بلغت ستة عشر سنة، وقد ذكرنا له ترجمة مطولة في كتابنا طبقات الشافعية.
وهو أحد المحمدين الذين أرملوا بمصر ثم رزقهم الله ببركة صلاته.
وقد ذكرنا نحو ذلك في ترجمة الحسن بن سفيان.
وفيها توفي محمد بن زكريا الطبيب (1) صاحب المصنف الكبير في الطب.