البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وثلثمائة في المحرم منها اعترض القرمطي أبو طاهر
الحسين بن أبي سعيد الجنابي لعنه الله، ولعن أباه.
للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام، قد أدوا فرض الله عليهم، فقطع
عليهم الطريق فقاتلوه دفعا عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم، فقتل منهم خلقا
كثيرا لا يعلمهم إلا الله، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره، واصطفى
من أموالهم ما أراد، فكان مبلغ ما أخذه من الاموال ما يقاوم ألف الف
دينار، ومن الامتعة والمتاجر نحو ذلك، وترك بقية الناس بعد ما أخذ
جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك
الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل.
وقد جاحف عن الناس نائب الكوفة أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان فهزمه
وأسره.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان عدة
من مع القرمطي ثمانمائة مقاتل، وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة قصمه الله.
ولما انتهى خبرهم إلى بغداد قام نساؤهم وأهاليهم في النياحة ونشرن
شعورهن ولطمن خدودهن، وانضاف إليهم نساء الذين نكبوا على يد الوزير
وابنه، وكان ببغداد يوم مشهود بسبب ذلك في غاية البشاعة والشناعة، فسأل
الخليفة عن الخبر فذكروا له أنهم نسوة الحجيج ومعهن نساء الذي صادرهم
ابن الفرات، وجاءت على يد الحاجب نصر بن القشوري على الوزير فقال: يا
أمير المؤمنين إنما استولى هذا القرمطي على ما استولى عليه بسبب إبعادك
مؤنس الخادم المظفر، فطمع هؤلاء في الاطراف، وما أشار عليك بإبعاده إلا
ابن الفرات، فبعث الخليفة إلى ابن الفرات يقول له: إن الناس يتكلمون
فيك لنصحك إياي، وأرسل يطيب قلبه، فركب هو وولده إلى الخليفة فدخلا
عليه فأكرمهما وطيب قلوبهما، فخرجا من عنده فنالهما أذى كثير من نصر
الحاجب وغيره من كبار الامراء، وجلس الوزير في
__________
(1) قال صاحب العبر: كان مغنيا في صباه اشتغل بالطب بعد الاربعين من
عمره صنف في الطب كتبا كثيرة منها: الحادي والجامع وكتاب الاعصاب.
طال عمره وعمي في آخر عمره (الوافي 3 / 75) (*).
(11/170)
دسته فحكم بين
الناس كعادته، وبات ليلته تلك مفكرا في أمره.
وأصبح كذلك وهو ينشد: فأصبح لا يدري وإن كان حازما * أقدامه خير له أم
داره ؟ (1) ثم جاءه في ذلك اليوم أميران (2) من جهة الخليفة فدخلا عليه
داره إلى بين حريمه وأخرجوه مكشوفا رأسه وهو في غاية الذل والصغار،
والاهانة والعار، فأركبوه في حراقة إلى الجانب الآخر.
وفهم الناس ذلك فرجموا ابن الفرات بالآجر، وتعطلت الجوامع وخربت العامة
المحاريب، ولم يصل الناس الجمعة فيها، وأخذ خط الوزير بألفي (3) ألف
دينار، وأخذ خط ابنه بثلاثة آلاف ألف دينار، وسلما إلى نازوك أمير
الشرطة، فاعتقلا حينا حتى خلصت منهما الاموال، ثم أرسل الخليفة خلف
مؤنس الخادم، فلما قدم سلمهما إليه فأهانهم غاية الاهانة بالضرب
والتقريع له ولولده المجرم الذي ليس بمحسن، ثم قتلا بعد ذلك.
واستوزر عبد الله بن محمد بن عبيد الله (4) بن محمد بن يحيى بن خاقان
أبو القاسم، وذلك في تاسع ربيع الاولى منها.
ولما دخل مؤنس بغداد دخل في تجمل عظيم
وشفع عند ابن خاقان في أن يرسل إلى علي بن عيسى - وكان قد صار إلى
صنعاء اليمن مطرودا - فعاد إلى مكة وبعث إليه الوزير أن ينظر في أمر
الشام ومصر، وأمر الخليفة مؤنس الخادم بأن يسير إلى الكوفة لقتال
القرامطة، وأنفق على خروجه ألف ألف دينار، وأطلق القرمطي من كان أسره
من الحجيج، وكانوا ألفي رجل وخمسمائة أمرأة، وأطلق أبا الهيجاء نائب
الكوفة معهم أيضا، وكتب إلى الخليفة يسأل منه البصرة والاهواز فلم يجب
إلى ذلك، وركب المظفر مؤنس في جحافل إلى بلاد الكوفة فسكن أمرها، ثم
أنحدر منها إلى واسط واستناب على الكوفة ياقوت الخادم، فتمهدت الامور
وانصلحت.
وفي هذه السنة ظهر رجل بين الكوفة وبغداد فادعى أنه محمد بن إسماعيل بن
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وصدقه على ذلك طائفة من
الاعراب والطغام، والتفوا عليه وقويت شوكته في شوال، فأرسل إليه الوزير
جيشا فقاتلوه فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه، وتفرق بقيتهم.
وهذا المدعي المذكور هو رئيس الاسماعيلية وهو أولهم.
وظفر نازوك صاحب الشرطة بثلاث من أصحاب الحلاج: وهم حيدرة، والشعراني،
وابن منصور، فطالبهم بالرجوع عن اعتقادهم فيه فلم يرجعوا، فضرب رقابهم
وصلبهم في الجانب الشرقي.
ولم يحج في هذه السنة أحد من أهل العراق لكثرة خوف الناس من القرامطة.
وفيها توفي من الاعيان..
__________
(1) في ابن الاثير 8 / 150: أم وراءه ؟ (2) نازوك وبليق بن (ابن
الاثير).
(3) في ابن الاثير 8 / 150: ألف.
(4) من ابن الاثير ومروج الذهب والفخري، وفي الاصل عبد الله (*).
(11/171)
إبراهيم بن
خميس أبو إسحاق الواعظ الزاهد.
كان يعظ الناس، فمن جملة كلامه الحسن قوله: يضحك القضاء من الحذر،
ويضحك الاجل من الامل، ويضحك التقدير من التدبير، وتضحك القسمة
من الجهد والعناء.
علي بن محمد بن الفرات ولاه المقتدر الوزارة ثم عزله ثم ولاه ثم عزله
ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم قتله في هذه السنة، وقتل
ولده، وكان ذا مال جزيل: ملك عشرة آلاف ألف دينار، وكان يدخل له من
ضياعه كل سنة ألف (1) ألف دينار، وكان ينفق على خمسة آلاف من العباد
والعلماء، تجري عليهم نفقات في كل شهر ما فيه كفايتهم، وكان له معرفة
بالوزارة والحساب، يقال إنه نظر يوما في ألف كتاب، ووقع على ألف رقعة،
فتعجب من حضره من ذلك، وكانت فيه مروءة وكرم وحسن سيرة في ولاياته، غير
هذه المرة فإنه ظلم وغشم وصادر الناس وأخذ أموالهم، فأخذه الله أخذ
القرى وهي ظالمة، أخذ عزيز مقتدر.
وقد كان ذا كرم وسعة في النفقة، ذاكر عنده ذات ليلة أهل الحديث
والصوفية وأهل الادب فأطلق من ماله لكل طائفة عشرين ألفا.
وكتب رجل على لسانه إلى نائب مصر كتابا فيه وصية به منه إليه، فلما دفع
المكتوب إلى نائب مصر استراب منه وقال: ما هذا خط الوزير، وأرسل به إلى
الوزير، فلما وقف عليه عرف أنه كذب وزور، فاستشار الحاضرين عنده فيما
يفعل بالذي زور عليه، فقال بعضهم: تقطع يديه.
وقال آخر تقطع إبهاميه، وقال آخر يضرب ضربا مبرحا.
فقال الوزير: أو خير من ذلك كله ؟ ثم أخذ الكتاب وكتبه عليه: نعم هذا
خطي وهو من أخص أصحابي، فلا تتركن من الخير شيئا مما تقدر عليه إلا
أوصلته إليه.
فلما عاد الكتاب أحسن نائب مصر إلى ذلك الرجل إحسانا بالغا، ووصله بنحو
من عشرين ألف دينار.
واستدعى ابن الفرات يوما ببعض الكتاب فقال له: ويحك إن نيتي فيك سيئة،
وإني في كل وقت أريد أن أقبض عليك وأصادرك، فأراك في المنام تمنعني
برغيف، وقد رأيتك في المنام من ليال، وإني أريد القبض عليك، فجعلت
تمتنع مني، فأمرت جندي أن يقاتلوك، فجعلوا كلما ضربوك بشئ من سهام
وغيرها تتقي الضرب برغيف في يدك، فلا يصل إليك شئ، فأعلمني ما قصة هذا
الرغيف.
فقال: أيها الوزير إن أمي منذ كنت صغير كل ليلة تضع تحت وسادتي رغيفا،
فإذا أصبحت تصدقت به عني، فلم يزل كذلك دأبها حتى ماتت.
فلما ماتت فعلت أنا ذلك مع نفسي، فكل ليلة أضع تحت
وسادتي رغيفا ثم أصبح فأتصدق به.
فعجب الوزير من ذلك وقال: والله لا ينالك مني بعد اليوم سوء أبدا، ولقد
حسنت نيتي فيك، وقد أحببتك.
وقد أطال ابن خلكان ترجمته فذكر بعض ما أوردناه في ترجمته.
__________
(1) في وفيات الاعيان 3 / 422: ألفي (*).
(11/172)
محمد بن محمد
بن سليمان بن الحارث بن عبد الرحمن أبو بكر الازدي الواسطي، المعروف
بالباغندي، سمع محمد بن عبد الله بن نمير، وابن أبي شيبة وشيبان بن
فروخ، وعلي بن المديني، وخلقا من أهل الشام ومصر والكوفة والبصرة
وبغداد، ورحل إلى الامصار البعيدة، وعني بهذا الشأن، واشتغل فيه فأفرط،
حتى قيل إنه ربما سرد بعض الاحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم وهو
لايشعر، فكانوا يسبحون به حتى يتذكر أنه في الصلاة، وكان يقول: أنا
أجيب في ثلثمائة ألف مسألة من الحديث لا أتجاوزه إلى غيره.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه فقال له: يا رسول الله
أيما أثبت في الاحاديث منصور أو الاعمش ؟ فقال له: منصور.
وقد كان يعاب بالتدليس حتى قال الدار قطني: هو كثير التدليس، يحدث بما
لم يسمع، وربما سرق بعض الاحاديث والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قال ابن
الجوزي: في ليلة بقيت من المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال
قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد.
وفي صفر منها بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد براثي
فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة، ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى
محمد بن إسماعيل الذي ظهر بين الكوفة وبغداد، ويدعون أنه المهدي،
ويتبرأون من المقتدر وممن تبعه.
فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه مسجد ضرار،
فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح، ونودي عليهم.
وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم، هدمه نازوك، وأمر الوزير الخاقاني
فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي.
وخرج الناس للحج في ذي القعدة فاعترضهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد
الجنابي القرمطي، فرجع أكثر الناس إلى بلدانهم، ويقال إن بعضهم سأل منه
الامان ليذهبوا فأمنهم.
وقد قاتله جند الخليفة فلم يفد ذلك شيئا لتمرده وشدة بأسه، فانزعج أهل
بغداد من ذلك، وترحل أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي خوفا منهم،
ودخل القرمطي إلى الكوفة فأقام بها شهرا يأخذ من أموالها ونسائهم ما
يختار.
قال ابن الجوزي: وكثر الرطب في هذه السنة ببغداد حتى بيع كل ثمانية
أرطال بحبة، وعمل منه تمر وحمل إلى البصرة (1).
وعزل المقتدر وزيره الخاقاني (2) بعد أن ولاه سنة وستة أشهر ويومين،
وولى مكانه أبا القاسم أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الخطيب الخصيبي،
لاجل مال بذله من جهة زوجة للحسن بن الفرات، وكان ذلك المال سبعمائة
ألف دينار فأمر الخصيبي علي بن
__________
(1) زاد في الكامل 8 / 160: وواسط.
(2) قال صاحب الفخري: صودر وعزل ثم توفي في سنة 312 ه (ص 269) (*).
(11/173)
عيسى على أن
يكون مشرفا على ديار مصر وبلاد الشام، وهو مقيم بمكة يسير إلى تلك
البلاد في بعض الاوقات فيعمل ما ينبغي ثم يرجع إلى مكة.
وفيها توفي من الاعيان: علي بن عبد
الحميد بن عبد الله بن سليمان أبو الحسن الغضائري (1)، سمع القواريري
وعباسا العنبري، وكان من العباد الثقات.
قال: جئت يوما إلى السري السقطي فدققت عليه بابه فخرج إلى ووضع يده على
عضادتي الباب وهو يقول: اللهم اشغل من شغلني عنك بك.
قال: فنالتني بركة هذه الدعوة فحججت على قدمي من حلب إلى مكة أربعين
حجة ذاهبا وآيبا أبو العباس السراج الحافظ محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن
مهران بن عبد الله الثقفي مولاهم، أبو العباس السراج، أحد الائمة
الثقات الحفاظ، مولده سنة ثمان عشرة ومائتين، سمع قتيبة وإسحاق بن
راهويه وخلقا كثيرا من أهل خراسان وبغداد والكوفة والبصرة والحجاز، وقد
حدث عنه البخاري ومسلم، وهما
أكبر منه وأقدم ميلادا ووفاة وله مصنفات كثيرة نافعة جدا، وكان يعد من
مجابي الدعوة.
وقد رأى في منامه كأنه يرقى في سلم فصعد فيه تسعا وتسعين درجة، فما
أولها على أحد إلا قال له: تعيش تسعا وتسعين سنة، فكان كذلك.
وقد ولد له ابنه أبو عمرو وعمره ثلاث وثمانون سنة.
قال الحاكم: فسمعت أبا عمرو يقول: كنت إذا دخلت المسجد على أبي والناس
عنده يقول لهم: هذا عملته في ليلة ولي من العمر ثلاث وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة فيها كتب
ملك الروم، وهو الدمستق لعنه الله، إلى أهل السواحل أن يحملوا إليه
الخراج، فأبوا عليه فركب إليهم في جنوده في أول هذه السنة، فعاث في
الارض فسادا، ودخل ملطية فقتل من أهلها خلقا وأسر وأقام بها ستة عشر
يوما، وجاء أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة عليه.
ووقع في بغداد حريق في مكانين، مات فيهما خلق كثير، وأحرق في أحدهما
ألف دار ودكان، وجاءت الكتب بموت الدمستق ملك النصارى فقرئت الكتب على
المنابر.
وجاءت الكتب من مكة أنهم في غاية الانزعاج بسبب اقتراب القرامطة إليهم
وقصدهم إياهم، فرحلوا منها إلى الطائف وتلك النواحي.
وفيها هبت ريح عظيمة بنصيبين اقتلعت أشجارا كثيرة وهدمت البيوت.
قال ابن الجوزي: وفي يوم
__________
(1) الغضائري: نسبة إلى الغضار وهو الاناء الذي يؤكل فيه (*)
(11/174)
الاحد لثمان
مضين من شوال منها - وهو سابع كانون الاول - سقط ببغداد ثلج عظيم جدا
حصل بسببه برد شديد، بحيث أتلف كثير من النخيل والاشجار، وجمدت الادهان
حتى الاشربة، وماء الورد والخل والخلجان الكبار، ودجلة.
وعقد بعض مشايخ الحديث مجالسا للتحديث على متن دجلة من فوق الجمد، وكتب
هنالك، ثم انكسر البرد بمطر وقع فأزال ذلك كله ولله الحمد.
وفيها قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد فاعتذر إليهم مؤنس الخادم بأن
القرامطة قد قصدوا مكة، فرجعوا ولم يتهيأ الحج في هذه السنة من ناحية
العراق بالكلية.
وفي ذي القعدة عزل الخليفة وزيره أبا العباس الخصيبي بعد سنة وشهرين،
وأمر بالقبض عليه وحبسه، وذلك لاهماله أمر الوزارة والنظر في
المصالح، وذلك لاشتغاله بالخمر في كل ليلة فيصبح مخمورا لا تمييز له،
وقد وكل الامور إلى نوابه فخانوا وعملوا مصالحهم، وولى أبا القاسم عبيد
الله بن محمد الكلوذاني نيابة عن علي بن عيسى، حتى يقدم، ثم أرسل في
طلب علي بن عيسى وهو بدمشق، فقدم بغداد في أبهة عظيمة (1)، فنظر في
المصالح الخاصة والعامة، ورد الامور إلى السداد، وتمهدت الامور.
واستدعى بالخصيبي فتهدده ولامه وناقشه على ما كان يعتمده ويفعله في
خاصة نفسه من معاصي الله عز وجل، وفي الامور العامة، وذلك بحضرة القضاة
والاعيان.
ثم رده إلى السجن.
وفيها أخذ نصر بن أحمد الساماني الملقب بالسعيد بلاد الري وسكنها إلى
سنة ست عشرة وثلثمائة.
وفيها غزت الصائفة من طرسوس بلاد الروم فغنموا وسلموا.
ولم يحج ركب العراق خوفا من القرامطة.
وفيها توفي من الاعيان سعد النوبي
صاحب باب النوبي من دار الخلافة ببغداد في صفر، وأقيم أخوه مكانه في
حفظ هذا الباب الذي صار ينسب بعد إليه.
ومحمد بن محمد الباهلي (2).
ومحمد بن عمر بن لبابة القرطبي (3).
ونصر بن القاسم الفرائضي الحنفي أبو الليث، سمع القواريري وكان ثقة
عالما بالفرائض على مذهب أبي حنيفة، مقربا جليلا.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة في صفر
منها كان قدوم علي بن عيسى الوزير من دمشق، وقد تلقاه الناس إلى أثناء
الطريق، فمنهم من لقيه إلى الانبار، ومنهم دون ذلك.
وحين دخل إلى الخليفة خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته
__________
(1) قدم علي بغداد في أوائل سنة 315 (الكامل 8 / 164).
قال الفخري ص 273: لم تطل أيامه (الكلوذاني) فكانت وزارته مدة شهرين.
(2) وهو محمد بن محمد بن النفاح بن بدر، أبو الحسن، روى عن إسحاق بن
أبي إسرائيل وطبقته توفي بمصر في ربيع الآخر.
(3) أبو عبد الله القرطبي، وفي الاصل القرمطي تحريف، وهو مفتي الاندلس،
فقيه محدث أديب أخباري شاعر مؤرخ ولد سنة 225 ه، وروى عن أصبغ والعتبي
وطبقتهما وتوفي في شعبان (*).
(11/175)
ثم انصرف إلى
منزله فبعث الخليفة وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار، واستدعاه
من الغد فخلع عليه فأنشد وهو في الخلعة: ما الناس إلا مع الدنيا
وصاحبها * فكيف ما انقلبت به انقلبوا يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت *
يوما عليه بما لايشتهي وثبوا وفيها جاءت الكتب بأن الروم دخلوا شميساط
وأخذوا جميع ما فيها، ونصبوا فيها خيمة الملك وضربوا الناقوس في الجامع
بها، فأمر الخليفة مؤنس الخادم بالتجهيز إليهم، وخلع عليه خلعة سنية.
ثم جاءت الكتب بأن المسلمين وثبوا على الروم فقتلوا منهم خلقا كثيرا
جدا فلله الحمد والمنة.
ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم فأعلمه أن الخليفة يريد أن يقبض
عليه إذا دخل لوداعه، وقد حضرت له ريبة في دار الخلافة مغطاة ليقع
فيها، فأحجم عن الذهاب.
وجاءت الامراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة، فبعث إليه
الخليفة رقعة فيها خطه يحلف له أن هذا الامر الذي بلغه ليس بصحيح.
فطابت نفسه وركب إلى دار الخلافة في غلمانه، فلما دخل على الخليفة
خاطبه مخاطبة عظيمة.
وحلف أنه طيب القلب عليه، وله عنده الصفاء الذي يعرفه.
ثم خرج من بين يديه معظما مكرما، وركب العباس بن الخليفة والوزير ونصر
الحاجب في خدمته لتوديعه، وكبر الامراء بين يديه مثل الحجبة، وكان
خروجه يوما مشهودا، قاصد بلاد الثغور لقتال الروم.
وفي جمادى الاولى منها قبض على رجل خناق قد قتل خلقا من النساء، وكان
يدعي لهن أنه يعرف العطف والتنجيم، فقصده النساء لذلك فإذا انفرد
بالمرأة قام إليها ففعل الفاحشة وخنقها بوتر وأعانته امرأته وحفر لها
في داره فدفنها، فإذا امتلات تلك الدار من القتلى انتقل إلى دار أخرى.
ولما ظهر عليه وجد في داره التي هو فيها أخيرا سبع عشرة امرأة قد
خنقهن، ثم تتبعت الدور التي سكنها فوجوده قد قتل شيئا كثيرا من النساء،
فضرب ألف سوط ثم خنق حتى مات.
وفيها كان ظهور الديلم قبحهم الله ببلاد الري، وكان فيهم ملك غلب على
أمرهم يقال له مرداويج، يجلس على سرير من ذهب وبين يديه سرير من فضة،
ويقول: أنا سليمان بن داود.
وقد سار في أهل الري وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جدا، فكان يقتل النساء
والصبيان في المهد، ويأخذ أموال الناس، وهو في غاية الجبروت
والشدة والجرأة على محارم الله عز وجل، فقتلته الاتراك وأراح الله
المسلمين من شره.
وفيها كانت بين يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند الكوفة
موقعة فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسف بن أبي
الساج: اسمع وأطع وإلا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال منها، فكتب:
هلم.
فسار إليه، فلما تراءا الجمعان استقل يوسف جيش القرمطي، وكان مع يوسف
بن أبي الساج عشرون ألفا، ومع القرمطي ألف فارس وخمسمائة رجل.
فقال يوسف: وما قيمة هؤلاء الكلاب ؟ وأمر الكاتب أن يكتب بالفتح إلى
الخليفة قبل اللقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتا عظيما، ونزل
القرمطي فحرض أصحابه وحمل بهم حملة صادقة، فهزموا جند الخليفة، وأسروا
يوسف بن أبي الساج أمير الجيش، وقتلوا خلقا كثيرا من جند الخليفة،
واستحوذوا على الكوفة،
(11/176)
وجاءت الاخبار
بذلك إلى بغداد، وشاع بين الناس أن القرامطة يريدون أخذ بغداد، فانزعج
الناس لذلك وظنوا صدقه، فاجتمع الوزير بالخليفة وقال: يا أمير المؤمنين
إن الاموالا إنما تدخر لتكون عونا على قتال أعداء الله، وإن هذا الامر
لم يقع أمر بعد زمن الصحابة أفظع منه، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على
الناس، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة، وإن بيت المال ليس فيه شئ.
فاتق الله يا أمير المؤمنين وخاطب السيدة - يعني أمه - لعل أن يكون
عندها شئ ادخرته لشدة، فهذا وقته.
فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذلك، وبذلت له خمسمائة ألف دينار،
وكان في بيت المال مثلها، فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تجهيز
الجيوش لقتال القرامطة، فجهز جيشا أربعين ألف مقاتل مع أمير يقال له
بليق، فسار نحوهم، فلما سمعوا به أخذو عليه الطرقات، فأراد دخول بغداد
فلم يمكنه، ثم التقوا معه فلم يلبث بليق وجيشه أن انهزم، فإنا لله وإنا
إليه راجعون.
وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيدا في خيمة فجعل ينظر إلى محل الوقعة،
فلما رجع القرمطي قال: أردت أن تهرب ؟ فأمر به فضربت عنقه.
ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الانبار.
ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة، وكذلك الخليفة وأمه والوزير
شكرا لله على صرفه عنهم.
وفيها بعث المهدي المدعي أنه فاطمي ببلاد المغرب ولده أبا القاسم في
جيش إلى بلاد منها، فانهزم جيشه
وقتل من أصحابه خلق كثير (1).
وفيها اختط المهدي المذكور مدينته المحمدية.
وفيها حاصر عبد الرحمن بن الداخل إلى بلاد المغرب الاموي مدينة طليطلة،
وكانوا مسلمين، لكنهم نقضوا عهده ففتحها قهرا وقتل خلقا من أهلها.
وفيها توفي من الاعيان: ابن الجصاص
الجوهري واسمه الحسين بن عبد الله بن الجصاص الجوهري أبو عبد الله
البغدادي، كان ذا مال عظيم وثروة واسعة، وكان أصل نعمته من بيت أحمد بن
طولون، كان قد جعله جوهريا له يسوق له ما يقع من نفائس الجواهر بمصر،
فاكتسب بسبب ذلك أموالا جزيلة جدا.
قال ابن الجصاص: كنت يوما بباب ابن طولون إذ خرجت القهرمانة وبيدها عقد
فيه مائة حبة من الجوهر، تساوي كل واحدة ألفي دينار.
قالت: أريد أن تأخذ هذا فتخرطه حتى يكون أصغر من هذا الحجم.
فإن هذا نافر عما يريدونه.
فأخذته منها وذهبت به إلى منزلي وجعلت جواهر أصغر منه تساوي أقل من عشر
قيمة تلك بكثير، فدفعتها إليها وفزت أنا بذلك الذي جاءت به، وأرادت
خرطه وإتلافه.
فكانت قيمته مائتي ألف دينار.
واتفق أنه صودر في أيام المقتدر مصادرة عظيمة، أخذ منه فيها ما يقاوم
ستة عشر ألف
__________
(1) قال ابن الاثير في الكامل 8 / 179: فلما خرج تفرق الاعداء، وسار
حتى وصل إلى ما وراء تاهرت (وكان قد سار من المهدية) (*).
(11/177)
ألف دينار (1)،
وبقي معه من الاموال شئ كثير جدا.
قال بعض التجار: دخلت عليه فوجدته يتردد في منزله كأنه مجنون، فقلت له:
ما لك هكذا ؟ فقال: ويحك، أخذ مني كذا وكذا فأنا أحس أن روحي ستخرج،
فعذرته ثم أخذت في تسليته فقلت له: إن دورك وبساتينك وضياعك الباقية
تساوي سبعمائة ألف دينار، وأصدقني كم بقي عندك من الجواهر والمتاع ؟
فإذا شئ يساوي ثلثمائة ألف دينار غير ما بقي عنده من الذهب والفضة
المصكوكة.
فقلت له: إن هذا أمر لا يشاركك فيه أحد من التجار ببغداد، مع مالك من
الوجاهة عند الدولة والناس.
قال: فسرى عنه وتسلى عما
فات وأكل - وكان له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا - ولما خلص في مصادرة
المقتدر بشفاعة أمه السيدة فيه حكى عن نفسه قال: نظرت في دار الخلافة
إلى مائة خيشة، فيها متاع رث مما حمل إلى من مصر، وهو عندهم في دار
مضيعة وكان لي في حمل منها ألف دينار موضوعة في مصر لا يشعر بها أحد،
فاستوهبت ذلك من أم المقتدر فكلمت في ذلك ولدها فأطلقه إلى فتسلمته
فإذا الذهب لم ينقص منه شئ.
وقد كان ابن الجصاص مع ذلك مغفلا شديد التغفل في كلامه وأفعاله، وقد
ذكر عنه أشياء تدل على ذلك، وقيل إنه إنما كان يظهر ذلك قصدا ليقال إنه
مغفل، وقيل إنه كان يقول ذلك على سبيل البسط والدعابة والله سبحانه
أعلم وفيها توفي عبد الله بن محمد
القزويني (2).
علي بن سليمان بن المفضل أبو الحسن الاخفش، روى عن المبرد وثعلب
واليزيدي وغيرهم، وعنه الروياني والمعافا وغيرهما.
وكان ثقة في نقله، فقيرا في ذات يده، توصل إلى أبي علي بن مقلة حتى كلم
فيه الوزير علي بن عيسى في أن يرتب له شيئا فلم يجبه إلى ذلك، وضاق به
الحال حتى كان يأكل اللفت النئ فمات فجأة من كثرة أكله في شعبان منها.
وهذا هو الاخفش الصغير، والاوسط هو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه.
وأما الكبير فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، من أهل هجر، وهو
شيخ سيبويه وأبي عبيد وغيرهما.
وقيل إن أبا بكر محمد بن السري السراج النحوي صاحب الاصول في النحو
فيها مات.
قاله ابن الاثير.
ومحمد بن المسيب الارغياني (3).
__________
(1) راجع احداث سنة 302 ه وقد تقدمت الملاحظة هناك.
(2) أبو القاسم، الفقيه قاضي دمشق ثم قاضي الرملة روى عن يونس بن عبد
الاعلى وطبقته، كان له حلقة بمصر للفتوى، قال ابن يونس: خلط ووضع
أحاديث.
وقال في المغني: كذبه الدار قطني.
(3) شيخ نيسابور الحافظ الجوال الزاهد المفضال روى عن محمد بن رافع
وبندار ومحمد بن هاشم البعلبكي.
عاش 92 سنة قال ابن ناصر الدين: كان من العباد المجتهدين (*).
(11/178)
ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة فيها عاث أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد
الجنابي القرمطي في الارض فسادا، حاصر الرحبة فدخلها قهرا وقتل من
أهلها خلقا، وطلب منه أهل قرقيسيا الامان فأمنهم، وبعث سراياه إلى ما
حولها من الاعراب فقتل منهم خلقا، حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره
يهربون من سماع اسمه، وقدر على الاعراب إمارة يحملونها إلى هجر في كل
سنة، عن كل رأس ديناران (1).
وعاث في نواحي الموصل فسادا، وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل
وسلب ونهب.
فقصده مؤنس الخادم فلم يتواجها بل رجع إلى بلده هجر فابتنى بها دارا
سماها دار الهجرة (2)، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة
المهدية.
وتفاقم أمره وكثرت أتباعه فصاروا يكبسون القرية من أرض السواد فيقتلون
أهلها وينهبون أموالها، ورام في نفسه دخول الكوفة وأخذها فلم يطق ذلك.
ولما رأى الوزير علي بن عيسى ما يفعله هذا القرمطي في بلاد الاسلام،
وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه عنه، وعزل نفسه
منها، فسعى فيها علي بن مقلة الكاتب المشهور، فوليها بسفارة نصر الحاجب
والي عبد الله البريدي - بالباء الموحدة - من البريد، ويقال اليزيدي
لخدمة جده يزيد بن منصور الجهيري.
ثم جهز الخليفة جيشا كثيفا مع مؤنس الخادم (3) فاقتتلوا مع القرامطة
فقتلوا من القرامطة خلقا كثيرا، وأسروا منهم طائفة كثيرة من أشرافهم،
ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد ومعه أعلام من أعلامهم منكسة مكتوب عليها
(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض) الآية [ القصص: 5 ].
ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، وطابت أنفس البغاددة، وانكسر القرامطة
الذين كانوا قد نشأوا وفشوا بأرض العراق، وفوض القرامطة أمرهم إلى رجل
يقال له حريث بن مسعود، ودعوا إلى المهدي الذي ظهر ببلاد المغرب جد
الفاطميين، وهم أدعياء كذبة، كما قد ذكر ذلك غير واحد من العلماء.
كما سيأتي تفصيله وبيانه في موضعه.
وفيها وقعت وحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر، وسبب ذلك أن نازوكا أمير
الشرطة وقع بينه وبين هارون بن غريب - وهو ابن خال المقتدر - فانتصر
هارون على نازوك وشاع بين العامة أن هارون سيصير أمير الامراء.
فبلغ ذلك مؤنس الخادم وهو بالرقة فأسرع الاوبة إلى بغداد، واجتمع
بالخليفة فتصالحا.
ثم إن الخليفة نقل هارون إلى دار الخلافة فقويت الوحشة بينهما، وانضم
إلى مؤنس جماعة من الامراء وترددت الرسل بينهما، وانقضت هذه السنة
والامر كذلك.
وهذا كله من ضعف الامور واضطرابها وكثرة الفتن وانتشارها.
وفيها كان مقتل الحسين (4) بن القاسم الداعي العلوي صاحب الري على يد
__________
(1) في الكامل 8 / 181: دينار.
(2) بناها حريث بن مسعود (قاله ابن الاثير 8 / 187).
(3) في الكامل 8 / 187: فسير المقتدر هارون بن غريب إلى حريث، وصافيا
البصري إلى عيسى بن موسى.
فهزمهم هارون وصافي..(انظر تاريخ أخبار القرامطة لابن العديم ص 53).
(4) في الكامل: 8 / 189: الحسن.
(انظر مروج الذهب 4 / 347) (*).
(11/179)
صاحب الديلم
وسلطانهم مرداويج المجرم قبحه الله.
وفيها توفي من الاعيان..بنان بن
محمد بن حمدان بن سعيد أبو الحسن الزاهد، ويعرف بالحمال، وكانت له
كرامات كثيرة، وله منزلة كبيرة عند الناس، وكان لا يقبل من السلطان
شيئا، وقد أنكر يوما على ابن طولون شيئا من المنكرات وأمره بالمعروف،
فأمر به فالقي بين يدي الاسد فكان الاسد يشمه ويحجم عنه، فأمر برفعه من
بين يديه وعظمه الناس جدا، وسأله بعض الناس عن حاله حين كان بين يدي
الاسد فقال له: لم يكن علي بأس.
قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه هل هو طاهر أم نجس.
قالوا: وجاءه رجل فقال له: إن لي على رجل مائة دينار، وقد ذهبت
الوثيقة، وأنا أخشى أن ينكر الرجل، فأسألك أن تدعو لي بأن يرد الله علي
الوثيقة.
فقال بنان: إني رجل قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أحب الحلواء، فاذهب
فاشتر لي منها رطلا وأتني به حتى أدعو لك.
فذهب الرجل فاشترى الرطل ثم جاء به إليه ففتح الورقة التي فيها الحلواء
فإذا هي حجته بالمائة دينار.
فقال له: أهذه حجتك ؟
قال: نعم.
قال: خذ حجتك وخذ الحلواء فأطعمها صبيانك.
ولما توفي خرج أهل مصر في جنازته تعظيما له وإكراما لشأنه.
وفيها توفي محمد بن عقيل البلخي (1).
وأبو بكر بن أبي داود السجستاني الحافظ بن الحافظ.
وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الاسفرائيني، صاحب الصحيح
المستخرج على مسلم، وقد كان من الحفاظ المكثرين، والائمة المشهورين.
ونصر الحاجب، كان من خيار الامراء، دينا عاقلا، أنفق من ماله في حرب
القرامطة مائة ألف دينار.
وخرج بنفسه محتسبا فمات في أثناء الطريق في هذه السنة.
وكان حاجبا للخليفة المقتدر.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة فيها كان
خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد بالله: في المحرم منها
اشتدت الوحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر بالله، وتفاقم الحال وآل إلى أن
اجتمعوا على خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد، فبايعوه
بالخلافة وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله.
وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقلد علي بن مقلة وزارته، ونهبت دار
المقتدر، وأخذوا منها شيئا كثيرا جدا،
__________
(1) أبو عبد الله الازهري البلخي شيخ بلخ ومحدثها سمع علي بن خشرم
وعباد بن الوليد الغبري وطبقتهما.
كان حسن الحديث (الوافي 4 / 97) (*).
(11/180)
وأخذوا لام
المقتدر خمسمائة ألف دينار - وكانت قد دفنتها في قبر في تربتها - فحملت
إلى بيت المال، وأخرج المقتدر وأمه وخالته وخواصه وجواريه من دار
الخلافة، وذلك بعد محاصرة دار الخلافة، وهرب من كان بها من الحجبة
والخدم، وولى نازوك الحجوبة مضافا إلى ما بيده من الشرطة، وألزم
المقتدر بأن كتب على نفسه كتابا بالخلع من الخلافة وأشهد على نفسه بذلك
جماعة من الامراء والاعيان، وسلم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن
يوسف، فقال لولده الحسين: احتفظ بهذا الكتاب فلا يرينه أحد من خلق
الله.
ولما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين رده إليه، فشكره على ذلك جدا
وولاه قضاء القضاة.
فلما كان يوم الاحد السادس عشر من المحرم جلس القاهر بالله في منصب
الخلافة، وجلس بين يديه الوزير أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العمال
بالآفاق يخبرهم بولاية القاهر بالخلافة عوضا عن المقتدر، وأطلق علي بن
عيسى من السجن، وزاد في أقطاع جماعة من الامراء الذين قاموا بنصره،
منهم أبو الهيجاء بن حمدان.
فلما كان يوم الاثنين جاء الجند وطلبوا أرزاقهم وشغبوا، وبادروا إلى
نازوك فقتلوه، وكان مخمورا، ثم صلبوه.
وهرب الوزير ابن مقلة، وهرب الحجاب ونادوا يا مقتدر يا منصور، ولم يكن
مؤنس يومئذ حاضرا، وجاء الجند إلى باب مؤنس يطالبونه بالمقتدر، فأغلق
بابه دونهم وجاحف دونه خدمه.
فلما رأى مؤنس أنه لابد من تسليم المقتدر إليهم أمره بالخروج، فخاف
المقتدر أن يكون حلية عليه، ثم تجاسر فخرج فحمله الرجال على أعناقهم
حتى أدخلوه دار الخلافة، فسأل عن أخيه القاهر وأبي الهيجاء بن حمدان
ليكتب لهما أمانا، فما كان عن قريب حتى جاءه خادم ومعه رأس أبي الهيجاء
قد احترز رأسه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين
يديه واستدعاه إليه، وقبل بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنب لك، وقد
علمت أنك مكره مقهور.
والقاهر يقول: الله الله ! نفسي يا أمير المؤمنين.
فقال: وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبدا.
وعاد ابن مقلة فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة،
وتراجعت الامور إلى حالها الاول، وحمل رأس نازوك وأبي الهيجاء ونودي
عليهما: هذا رأس من عصى مولاه وهرب أبو السرايا بن حمدان إلى الموصل،
وكان ابن نفيس من أشد الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافة خرج من
بغداد متنكرا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحق بالقسطنطينية
فتنصر بها مع أهلها وأما مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على المقتدر،
وإنما وافق جماعة الامراء مكرها، ولهذا لما كان المقتدر في داره لم
ينله منه ضيم، بل كان يطيب قلبه، ولو شاء لقتله لما طلب من داره.
فلهذا لما عاد المقتدر إلى الخلافة رجع إلى دار مؤنس فبات بها عنده،
لثقته به.
وقرر أبا علي بن مقلة على الوزارة، وولى محمد بن يوسف قضاء القضاة،
وجعل محمد أخاه - وهو القاهر - عند والدته بصفة محبوس عندها، فكانت
تحسن إليه غاية الاحسان، وتشتري له السراري وتكرمه غاية الاكرام.
(11/181)
ذكر أخذ القرامطة الحجر الاسود إلى بلادهم
فيها خرج ركب العراق وأمير هم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين،
وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد
خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل
في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا
كثيرا، وجلس أمير هم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع
حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم
التروية، الذي هو من أشرف الايام، وهو يقول: أنا الله وبالله، أنا أنا
أخلق الخلق وأفنيهم أنا.
فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئا.
بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل
الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو
كذلك: ترى المحبين صرعى في ديارهم * كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الافاعيل
القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيرا منهم في أماكنهم
من الحرم، وفي المسجد الحرام.
ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم
يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم لانهم محرمون شهداء في نفس الامر.
وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين
أصحابه، وأمر رجلا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه
فمات إلى النار.
فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الاسود فجاءه
رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الابابيل، أين الحجارة من سجيل
؟ ثم قلع الحجر الاسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم (1)، فمكث
عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين
وثلثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الاسود وتبعه أمير مكة (2) هو
وأهل بيته وجنده وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الاسود ليوضع في مكانه،
وبذل له جميع ما عنده من الاموال فلم يلتفت
إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته، وأهل مكة
وجنده (3) واستمر ذاهبا إلى
__________
(1) قال صاحب تاريخ أخبار القرامطة: فوضعه على سبعين جمل فسيرهم به وهم
يضرطون من ثقله إلى هجر (ص 54).
(2) وهو ابن محلب (الكامل 8 / 207 وتاريخ أبي الفدا 2 / 74) وفي مآثر
الاناقة 1 / 279: بذل له بجكم التركي أحد امراء المقتدر خمسين ألف
دينار فما فعل.
(3) في الجوهر الثمين 169: يقال قتل بمكة قريبا من ثلاثين ألفا (*).
(11/182)
بلاده ومعه
الحجر وأموال الحجيج.
وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادا لم يسبقه إليه أحدا ولا
يلحقه فيه، وسيجاريه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه
أحد.
وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين
للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب،
ويلقب أمير هم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح.
وقد كان صباغا بسلمية، وكان يهوديا فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية
فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة
من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سجلماسة، ثم
ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة
يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه، ويقال إنهم إنما كانوا يفعلون
ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له.
وذكر ابن الاثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة
حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها
بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره برد ما أخذه منها، وعوده إليها.
فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك.
وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة، ثم فرج
الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم وعدم دينهم، وأن الذي
أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة وأشدها وكان يعربد عليه إذا سكر.
فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقول في محمدكم ؟ فقلت: لا أدري.
فقال: كان سائسا.
ثم قال: ما تقول في أبي بكر ؟ فقلت: لا أدري.
فقال: كان ضعيفا مهينا.
وكان عمر فظا غليظا.
وكان عثمان جاهلا أحمق.
وكان علي ممخرقا ليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم،
أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة ؟.
ثم قال: هذا كله مخرقة.
فلما كان من الغد قال: لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحدا.
ذكره ابن الجوزي في منتظمه.
وروي عن بعضهم أنه قال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان
الطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير، -
ورفع صوته بذلك - أليس قلتم في بيتكم هذا (ومن دخله كان آمنا) [ آل
عمران: 97 ] فأين الامن ؟ قال: فقلت له: اسمع جوابك.
قال: نعم.
قلت: إنما أراد الله: فأمنوه.
قال فثنى رأسه فرسه وانصرف.
وقد سأل بعضهم ههنا سؤالا.
فقال: قد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل - وكانوا نصارى - ما ذكره في
كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئا مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من
اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الاصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم
يفعله أحد، فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل ؟ وقد
أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارا لشرف البيت، ولما يراد
به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت
الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول
منها أهلكهم سريعا عاجلا، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه
وأخربوه لانكرت القلوب فضله.
وأما هؤلاء
(11/183)
القرامطة فإنما
فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من
دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في
الحرام إلحادا بالغا عظيما، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين
من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة،
بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الابصار، والله سبحانه يمهل ويملي
ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "
إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " (1) ثم قرأ قوله تعالى
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه
الابصار) [ إبراهيم:
42 ] وقال (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد.
متاع قليل ثم مأواهم جنهم وبئس المهاد) [ آل عمران: 196 ] وقال (نمتعهم
قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) [ لقمان: 24 ] وقال: (متاع في الدنيا
ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) [ يونس: 70
].
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي، وبين طائفة
من العامة، اختلفوا في تفسير قوله تعالى (عسى أن يبعثك ربك مقاما
محمودا) [ الاسراء: 79 ] فقالت الحنابلة: يجلسه معه على العرش.
وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل
بينهم قتلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى، وهي
الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وهو المقام الذي يرغب إليه في الخلق
كلهم، حتى إبراهيم، ويغبطه به الاولون والآخرون.
وفيها وقعت فتنة بالموصل بين العامة فيما يتعلق بأمر المعاش، وانتشرت
وكثر أهل الشر فيها واستظهروا، وجرت بينهم شرورو ثم سكنت.
وفيها وقعت فتنة ببلاد خراسان بين بني ساسان وأمير هم نصر بن أحمد
الملقب بسعيد (2)، وخرج في شعبان خارجي بالموصل (3).
وخرج آخر بالبوازيج (4)، فقاتلهم أهل تلك الناحية حتى سكن شرهم وتفرق
أصحابهم.
وفيها التقى مفلح الساجي وملك الروم الدمستق، فهزمه مفلح وطرد وراءه
إلى أرض الروم، وقتل منهم خلقا كثيرا وفيها هبت ريح شديدة ببغداد تحمل
رمادا أحمر يشبه رمل أرض الحجاز.
فامتلات منه البيوت.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن
الحسن بن الفرج بن سفيان (5) أبو بكر النحوي، كان عالما بمذهب الكوفيين
وله فيه تصانيف.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير - تفسير سورة (11) باب (5).
ومسلم في البر والصلة ح (62) والترمذي في التفسير - تفسير سورة (8) باب
(6).
(2) قال ابن الاثير 8 / 208: الصحيح ان ذلك كان سنة 318 ه.
(3) ويعرف بابن مطر قاتله وأسره ناصر الدولة بن حمدان (الكامل 8 /
214).
(4) وهو محمد بن صالح.
(5) في ابن الاثير 8 / 215: ابن سقير (*).
(11/184)
أحمد بن مهدي
بن رستم (1) العابد الزاهد أنفق في طلب العلم ثلثمائة ألف درهم، ومكث
أربعين سنة لا يأوي إلى فراش.
وقد روى الحافظ أبو نعيم عنه أنه جاءته امرأة ذات ليلة فقالت له: إني
قد امتحنت بمحنة وأكرهت على الزنا وأنا حبلى منه، وقد تسترت بك وزعمت
أنك زوجي، وان هذا الحمل منك، فاسترني سترك الله ولا تفضحني.
فسكت عنها، فلما وضعت جاءني أهل المحلة وإمام مسجدهم يهنئونني بالولد،
فأظهرت البشر وبعث فاشتريت بدينارين شيئا من حلوا وأطعمتهم، وكنت أوجه
إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة المولود، وأقول:
أقرئها مني السلام، فإنه قد سبق مني ما فرق بيني وبينها.
فمكث كذلك سنتين، ثم مات الولد فجاؤوني يعزونني فيه، فأظهرت الحزن
عليه، ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد، قد
جمعتها في صرة عندها، فقالت لي: سترك الله وجزاك خيرا، وهذه الدنانير
التي كنت ترسل بها.
فقلت: إني كنت أرسل بها صلة للولد وقد مات وأنت ترثينه فهي لك، فافعلي
بها ما شئت فدعت وانصرفت.
بدر بن الهيثم ابن خلف بن خالد بن راشد بن الضحاك بن النعمان بن محرق
بن النعمان بن المنذر، أبو القاسم البلخي القاضي الكوفي.
نزل بغداد وحدث بها عن أبي كريب وغيره، وكان سماعه للحديث بعد ما جاوز
أربعين سنة، وكان ثقة نبيلا، عاش مائة سنة وسبع عشرة سنة.
توفي في شوال منها بالكوفة عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ابن
المرزبان بن سابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوي، ويعرف بابن بنت منيع،
ولد سنة ثلاثة عشرة، وقيل أربع (1) عشرة ومائتين ورأى أبا عبيد القاسم
بن سلام، ولم يسمع منه، وسمع من أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى
بن معين، وعلي بن الجعد، وخلف بن هاشم البزار،
وخلق كثير، وكان معه جزء فيه سماعه من ابن معين فأخذه موسى بن هارون
الحافظ فرماه في دجلة، وقال: يريد أن يجمع بين الثلاثة ؟ وقد تفرد عن
سبع وثمانين شيخا، وكان ثقة حافظا ضابطا، روى عن الحفاظ وله مصنفات.
وقال موسى بن هارون الحافظ: كان ابن بنت منيع ثقة صدوقا، فقيل له: إن
ههنا ناسا يتكلمون فيه.
فقال: يحسدونه، ابن بنت منيع لا يقول إلا الحق.
وقال ابن أبي حاتم وغيره: أحاديثه تدخل في الصحيح.
وقال الدار قطني: كان البغوي قل ما يتكلم على
__________
(1) من تذكرة الحفاظ 1 / 597، وفي الاصل رسيم.
قال الذهبي مات سنة 272.
(انظر الوافي 8 / 199).
(2) في الاصل أربعة والصواب ما أثبتناه (*).
(11/185)
الحديث، فإذا
تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج.
وقد ذكره ابن عدي في كامله فتكلم فيه، وقال: حدث بأشياء أنكرت عليه.
وكان معه طرف من معرفة الحديث والتصانيف، وقد انتدب ابن الجوزي للرد
على ابن عدي في هذا الكلام، وذكر أنه توفي ليلة عيد الفطر منها، وقد
استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهورا، وهو مع ذلك صحيح السمع والبصر
والاسنان، يطأ الاماء.
توفي ببغداد ودفن بمقبرة باب التبن.
رحمه الله وأكرم مثواه.
محمد بن أبي الحسين بن محمد بن عثمان الشهيد الحافظ أبو الفضل الهروي،
يعرف بابن أبي سعد، قدم بغداد وحدث بها عن محمد بن عبد الله الانصاري.
وحدث عنه ابن المظفر الحافظ، وكان من الثقات الاثبات الحفاظ المتقنين،
له مناقشات على بضعة عشر حديثا من صحيح مسلم، قتلته القرامطة يوم
التروية بمكة في هذه السنة في جملة من قتلوا، رحمه الله وأكرم مثواه.
الكعبي المتكلم هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي
المتكلم، نسبة إلى بني كعب، وهو أحد مشايخ المعتزلة، وتنسب إليه
الطائفة الكعبية منهم.
قال ابن خلكان: كان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام.
من ذلك أنه كان يزعم أن أفعال الله تقع بلا اختيار منه
ولا مشيئة.
قلت: وقد خالف الكعبي نص القرآن في غير ما موضع.
قال تعالى (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [ القصص: 68 ] وقال: (ولو شاء
ربك ما فعلوه) (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) [ الانعام: 112 ] (ولو
أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها) الآية [ السجدة: 13 ].
وغيرها مما هو معلوم بالضرورة وصريح العقل والنقل.
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلثمائة فيها عزل
الخليفة المقتدر وزيره أبا علي بن مقلة، وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة
أشهر وثلاثة أيام، واستوزر مكانه سليمان بن الحسن بن مخلد، وجعل علي بن
عيسى ناظرا معه.
وفي جمادى الاولى منها أحرقت دار أبي علي بن مقلة، وكان قد أنفق عليها
مائة ألف دينار، فانتهب الناس أخشابها وما وجدوا فيها من حديد ورصاص
وغيره، وصادره الخليفة بمائتي ألف دينار.
وفيها طرد الخليفة الرجالة الذين كانوا بدار الخلافة عن بغداد، وذلك
أنه لما رد المقتدر إلى الخلافة شرعوا ينفسون بكلام كثير عليه،
ويقولون: من أعان ظالما سلطه الله عليه.
ومن أصعد الحمار على السطح
(11/186)
لم يقدر أن
ينزله (1).
فأمر بإخراجهم ونفيهم عن بغداد، ومن أقام منهم عوقب.
فأحرقت دور كثيرة من قراباتهم، واحترق بعض نسائهم وأولادهم، فخرجوا
منها في غاية الاهانة، فنزلوا واسط وتغلبوا عليها وأخرجوا عاملها منها،
فركب إليهم مؤنس الخادم فأوقع بهم بأسا شديدا، وقتل منهم خلقا كثيرا،
فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة.
وفي ربيع الاول منها عزل الخليفة ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل، وولى
عليها عميه سعيدا ونصرا ابنا حمدان.
وولاه ديار ربيعة: نصيبين وسنجار ورأس العين، ومعها ميافارقين وازرن
(2)، ضمن ذلك من الخليفة بمال يحمله إليه في كل سنة.
وفي جمادى الاولى منها خرج رجل ببلاد البوازيج يقال له صالح بن محمود،
فاجتمع عليه جماعة من بني مالك، ثم سار إلى سنجار فحاصرها فدخلها وأخذ
شيئا كثيرا من أموالها، وخطب بها خطبة ووعظ فيها وذكر، فكان في جملة ما
قال: نتولى الشيخين، ونتبرأ من الخبيثين (3)، ولا نرى المسح على
الخفين.
ثم سار فعاث في الارض فسادا.
فانتدب له نصر بن حمدان فقاتله فأسره ومعه ابنان له.
فحمل إلى
بغداد فدخلها وقد اشتهر شهرة فظيعة.
وخرج آخر (4) ببلاد الموصل فاتبعه ألف رجل، فحاصر أهل نصيبين فخرجوا
إليه فاقتتلوا معه، فقتل منهم مائة وأسر ألفا، ثم باعهم نفوسهم وصادر
أهلها بأربعمائة ألف درهم، فانتدب إليه ناصر الدولة فقاتله فظفر به
وأسره وأرسله إلى بغداد أيضا.
وفيها خلع الخليفة على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش، وأعطاه
نيابة فارس وكرمان وسجستان ومكران، وخلع على ابنه أبي العباس الراضي
وجعله نائب بلاد المغرب ومصر والشام، وجعل مؤنس الخادم يسد عنه أمورها.
وحج بالناس فيها عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز الهاشمي (5).
وخرج الحجيج بغفارة بدرقة حتى يسلموا في الدرب في الذهاب والاياب من
القرامطة.
وفيها توفي من الاعيان..أحمد بن
إسحاق ابن البهلول بن حسان بن أبي سنان أبو جعفر التنوخي القاضي
الحنفي، العدل الثقة، الرضي.
وكان فقيها نبيلا، سمع الحديث الكثير، وروى عن أبي كريب حديثا واحدا،
وكان عالما
__________
(1) في الكامل 8 / 216: ومن يصعد الحمار إلى السطح يقدر يحطه - يعنون
بذلك مساعدتهم للمقتدر وردهم الخلافة إليه.
(2) في الكامل 8 / 217: أرزن.
(3) من الكامل، وفي الاصل الحسين.
(4) وهو الاغر بن مطرة الثعلبي (الكامل 8 / 221).
(5) في مروج الذهب 4 / 460: حج بالناس عمر بن الحسن بن عبد العزيز
الهاشمي (*).
(11/187)
بالنحو، فصيح
العبارة، جيد الشعر، محمودا في الاحكام.
اتفق أن السيدة أم المقتدر وقفت وقفا وجعل هذا عنده نسخة به في سلة
الحكم، ثم أرادت أن تنقض ذلك الوقف فطلبت هذا الحاكم وأن يحضر معه كتاب
الوقف لتأخذه منه فتعدمه، فلما حضر من رواء الستارة فهم المقصود فقال
لها: لا
يمكن هذا، لاني خازن المسلمين، فإما أن تعزلوني عن القضاء وتولوا هذا
غيري، وإما أن تتركوا هذا الذي تريدون أن تفعلوه، فلا سبيل إليه وأنا
حاكم.
فشكته إلى ولدها المقتدر فشفع عنده المقتدر بذلك، فذكر له صورة الحال.
فرجع إلى أمه فقال لها: إن هذا الرجل ممن يرغب فيه ولا يزهد فيه، ولا
سبيل إلى عزله ولا التلاعب به.
فرضيت عنه وبعثت تشكره على ما صنع من ذلك.
فقال: من قدم أمر الله على أمر العباد كفاه الله شرهم، ورزقه خيرهم.
وقد كانت وفاته في هذه السنة.
وقد جاوز الثمانين.
يحيى بن محمد بن صاعد أبو محمد مولى أبي جعفر المنصور، رحل في طلب
الحديث، وكتب وسمع وحفظ، وكان من كبار الحفاظ، وشيوخ الرواية، وكتب عنه
جماعة من الاكابر، وله تصانيف تدل على حفظه وفقهه وفهمه.
توفي بالكوفة وله سبعون سنة (1).
الحسن بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد المعروف بابن العلاف الضرير
النهرواني، الشاعر المشهور، وكان أحد سمار المعتضد، وله مرثاة طنانة في
هر له، قتله جيرانه لانه أكل أفراخ حمامهم من أبراجهم.
وفيها آداب ورقة، ويقال إنه أراد بها ابن المعتز لكنه لم يتجاسر أن
ينسبها إليه من الخليفة المقتدر، لانه هو الذي قتله.
وأولها: ياهر فارقتنا ولم تعد * وكنت عندي بمنزل الولد (2) وهي خمس
وستون بيتا.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة في المحرم
منها دخل الحجيج بغداد، وقد خرج مؤنس الخادم إلى الحج فيها في جيش
كثيف،
__________
(1) في الكامل 8 / 223: تسعون.
(2) وأوردها صاحب نكت الهميان ص 139 وابن الجوزي في المنتظم 6 / 237
ومنها في وفيات الاعيان 2 / 190 ومنها: صادوك غيظا عليك وانتقموا * منك
وزادوا ومن يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم * منك ولم يرعووا على أحد (*)
(11/188)
خوفا من
القرامطة ففرح المسلمون بذلك وزينت بغداد يومئذ وضربت الخيام والقباب
لمؤنس الخادم، وقد بلغ مؤنسا في أثناء الطريق أن القرامطة أمامه، فعدل
بالناس عن الجادة، وأخذ بهم في شعاب وأودية أياما، فشاهد الناس في تلك
الاماكن عجائب، ورأوا غرائب وعظاما في غاية الضخامة، وشاهدوا ناسا قد
مسخوا حجارة.
ورأى بعضهم امرأة واقفة على تنور تخبز فيه قد مسخت حجرا، والتنور قد
صار حجرا.
وحمل مؤنس من ذلك شيئا كثيرا إلى الخليفة ليصدق ما يخبر به من ذلك.
ذكر ذلك ابن الجوزي في منتظمه.
فيقال إنهم من قوم عاد أو من قوم شعيب أو من ثمود فالله أعلم.
وفيها عزل المقتدر وزيره سليمان بن الحسن بعد سنة وشهرين وتسعة أيام،
واستوزر مكانه أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم عزله بعد
شهرين وثلاثة أيام، واستوزر الحسين بن القاسم ثم عزله أيضا.
وفيها وقعت وحشة بين الخليفة ومؤنس، بسبب أن الخليفة ولى الحسبة لرجل
اسمه محمد بن ياقوت، وكان أميرا على الشرطة، فقال مؤنس: إن الحسبة لا
يتولاها إلا القضاة والعدول وهذا لا يصلح لها.
ولم يزل بالخليفة حتى عزل محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضا،
وانصلح، الحال بينهما.
ثم تجددت الوحشة بينهما في ذي الحجة من هذه السنة، وما زالت تتزايد حتى
آل الحال إلى قتل المقتدر بالله كما سنذكره.
وفيها أوقع ثمل متولي طرسوس بالروم وقعة عظيمة، قتل منهم خلقا كثيرا
وأسر نحوا من ثلاثة آلاف، وغنم من الذهب والفضة والديباج شيئا كثيرا
جدا، ثم أوقع بهم مرة ثانية كذلك.
وكتب ابن الديراني الارمني إلى الروم يحثهم على الدخول إلى بلاد
الاسلام ووعدهم النصر منه والاعانة، فدخلوا في جحافل عظيمة كثيرة جدا،
وانضاف إليهم الارمني فركب إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج وهو
يومئذ نائب أذربيجان واتبعه خلق كثير من المتطوعة، فقصد أولا بلاد ابن
الديراني فقتل من الارمن نحوا من مائة ألف، وأسر خلقا كثيرا، وغنم
أموالا جزيلة، وتحصن ابن الديراني في قلعة له هناك، وكاتب الروم فوصلوا
إلى شميشاط (1)
فحاصورها، فبعث أهلها يستصرخون سعيد بن حمدان نائب الموصل، فسار إليهم
مسرعا، فوجد الروم قد كادوا يفتحونها، فلما علموا بقدومه رحلوا عنها
واجتازوا بملطية فنهبوها، ورجعوا خاسئين إلى بلادهم، ومعهم ابن نفيس
المنتصر، وقد كان من أهل بغداد.
وركب ابن حمدان في آثار القوم فدخل بلادهم فقتل خلقا كثيرا منهم وأسر
وغنم أشياء كثيرة.
قال ابن الاثير: وفي شوال من هذه السنة جاء سيل عظيم إلى تكريت ارتفع
في أسواقها أربعة عشر شبرا، وغرق بسببه أربعمائة دار، وخلق لا يعلمهم
إلا الله، حتى كان المسلمون والنصارى يدفنون جميعا، لايعرف هذا من هذا.
قال: وفيها هاجت بالموصل ريح محمرة ثم اسودت حتى كان الانسان لا يبصر
صاحبه نهارا، وظن الناس أنها القيامة ثم انجلى ذلك بمطر أرسله الله
عليهم.
__________
(1) الكامل 8 / 234: سميساط (*).
(11/189)
وفيها توفي
من الاعيان الحسين بن عبد الرحمن أبو عبد الله الانطاكي قاضي ثغور
الشام، يعرف بابن الصابوني، وكان ثقة نبيلا قدم بغداد وحدث بها.
علي بن الحسين بن حرب بن عيسى تولى القضاء بمصر مدة طويلة جدا، وكان
ثقة عالما من خيار القضاة وأعدلهم، تفقه على مذهب أبي ثور، وقد ذكرناه
في طبقات الشافعية، وقد استعفى عن القضاء فعزل عنه في سنة إحدى عشرة
وثلثمائة، ورجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، في صفر
منها، وصلى عليه أبو سعيد الاصطخري، ودفن بداره.
قال الدار قطني: حدث عنه أبو عبد الرحمن النسائي في الصحيح، ولعله مات
قبله بعشرين سنة.
وذكر من جلالته وفضله رحمه الله.
محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخي الزاهد.
حكي عنه أنه مكث أربعين سنة لم يخط فيها خطوة في هوى نفسه، ولا نظر في
شئ فاستحسنه حياء من الله عز وجل، وأنه مكث ثلاثين سنة لم يمل على
ملكيه قبيحا.
محمد بن سعد بن أبي الحسين الوراق
صاحب أبي عثمان النيسابوري، وكان فقيها يتكلم على المعاملات.
ومن جيد كلامه قوله: من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على
لسانه يهتدي بها سامعوه، ومن غض نفسه عن شبهة نور الله قلبه نورا يهتدي
به إلى طرق مرضاة الله.
يحيى بن عبد الله بن موسى أبو زكريا الفارسي، كتب بمصر عن الربيع بن
سليمان، وكان ثقة عدلا صدوقا عند الحكام.
ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة
فيها كان مقتل المقتدر بالله الخليفة، وكان سبب ذلك أن مؤنسا الخادم
خرج من بغداد في المحرم منها مغاضبا الخليفة في ممالكيه وحشمه، متوجها
نحو الموصل، ورد من أثناء الطريق مولاه يسرى (1) إلى المقتدر ليستعلم
له أمره، وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ويعاتبه في أشياء.
فلما وصل أمر الوزير - وهو الحسين بن القاسم وكان من أكبر أعداء مؤنس -
بأن يؤديها فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة، فأحضره بين يديه وأمره
بأن يقولها للوزير فامتنع، وقال: ما أمرني بهذا
__________
(1) في الكامل 8 / 237: بشرى (*)
(11/190)
صاحبي فشتمه
الوزير وشتم صاحبه مؤنسا، وأمر بضربه ومصادرته بثلثمائة ألف دينار،
وأخذ خطه بها، وأمر بنهب داره، ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس
وأملاكه وأملاك من معه.
فحصل من ذلك مال عظيم، وارتفع أمر الوزير عند المقتدر، ولقبه عميد
الدولة، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتمكن من الامور جدا، فعزل
وولى، وقطع ووصل أياما يسيرة، وفرح بنفسه حينا قليلا.
وأرسل إلى هارون بن عريب في الحال، وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى
الحضرة عوضا عن مؤنس، فصمم المظفر مؤنس في سيره فدخل الموصل، وجعل يقول
لامراء الاعراب: إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة.
فالتف عليه منهم خلق كثير، وجعل ينفق فيهم الاموال الجزيلة وله إليهم
قبل ذلك أيادي سابغة.
وقد كتب الوزير إلى آل حمدان وهم ولاة الموصل وتلك النواحي يأمرهم
بمحاربته، فركبوا إليه في ثلاثين ألفا، وواجههم مؤنس في ثمانمائة من
مماليكه
وخدمه، فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد، يقال له داود، وكان من
أشجعهم، وقد كان مؤنس رباه وهو صغير.
ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته، لاحسانه
إليهم قبل ذلك.
من بغداد والشام ومصر والاعراب، حتى صار في جحافل من الجنود.
وأما الوزير المذكور فإنه ظهرت خيانته وعجزه فعزله المقتدر في ربيع
الآخر منها، وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، وكان آخر
وزراء المقتدر.
وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر، ثم ركب في الجيوش في شوال قاصدا بغداد
ليطالب المقتدر بأرزاق الاجناد وإنصافهم، فسار - وقد بعث بين يديه
الطلائع - حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وقابله عنده ابن ياقوت
وهارون بن عريب عن كره منه.
وأشير على الخليفة أن يستدين من والدته مالا ينفقه في الاجناد، فقال:
لم يبق عندها شئ، وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط، وأن يترك بغداد إلى
مؤنس حتى يتراجع أمر الناس ثم يعود إليها.
فرده عن ذلك ابن ياقوت وأشار بمواجهته لمؤنس وأصحابه، فإنهم متى رأوا
الخليفة هربوا كلهم إليه وتركوا مؤنسا.
فركب وهو كاره وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف المنشورة، وعليه البردة
والناس حوله، فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في الناس: من جاء
برأس فله خمسة دنانير، ومن جاء بأسير فله عشرة دنانير.
ثم بعث إليه أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم فامتنع من التقدم إلى محل
المعركة، ثم ألحوا عليه فجاء بعد تمنع شديد، فما وصل إليهم حتى انهزموا
وفروا راجعين، ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه، فكان أول من لقيه من
أمراء مؤنس علي بن بليق، فلما رآه ترجل وقبل الارض بين يديه وقال: لعن
الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم.
ثم وكل به قوما من المغاربة البربر، فلما تركهم وإياه شهروا عليه
السلاح، فقال لهم: ويلكم أنا الخليفة.
فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، وإنما أنت خليفة إبليس، تنادي في جيشك من
جاء برأس فله خمسة دنانير ؟ وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى
الارض، وذبحه آخر وتركوا جثته، وقد سلبوه كل شئ كان عليه، حتى سراويله،
وبقي مكشوف العورة مجندلا على الارض، حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ثم
دفنه في موضعه وعفا أثره، وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة
(11/191)
قد رفعوها وهم
يلعنونه، فلما انتهوا به إلى مؤنس - ولم يكن حاضرا الوقعة - فحين نظر
إليه لطم رأس نفسه ووجهه وقال: ويلكم، والله لم آمركم بهذا، لعنكم
الله، والله لنقتلن كلنا.
ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب، وهرب عبد الواحد بن المقتدر
وهارون بن غريب، وأبناء رايق، إلى المدائن، وكان فعل مؤنس هذا سببا
لطمع ملوك الاطراف في الخلفاء، وضعف أمر الخلافة جدا، مع ما كان
المقتدر يعتمده في التبذير والتفريط في الاموال، وطاعة النساء، وعزل
الوزراء، حتى قيل إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة ما يقارب ثمانين
ألف ألف دينار (1).
ترجمة المقتدر بالله هو جعفر بن
أحمد المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل على الله
بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، يكنى أبا الفضل، أمير المؤمنين
العباسي، مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة ثنتين وثمانين
ومائتين، وأمه أم ولد اسمها شغب، ولقبت في خلافة ولدها بالسيدة.
بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي يوم الاحد لاربع (2) عشرة مضت من ذي
القعدة، سنة خمس وتسعين ومائتين، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر
وأيام.
ولهذا أراد الجند خلعه في ربيع الاول من سنة ست وتسعين محتجين بصغره
وعدم بلوغه، وتولية عبد الله بن المعتز، فلم يتم ذلك، وانتقض الامر في
ثاني يوم كما ذكرنا.
ثم خلعوه في المحرم من سنة سبع عشرة وثلثمائة، وولوا أخاه محمدا القاهر
كما تقدم، فلم يتم ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافة كما ذكرنا.
وقد كان المقتدر ربعة من الرجال حسن الوجه والعينين، بعيد ما بين
المنكبين، حسن الشعر، مدور الوجه، مشربا بحمرة، حسن الخلق، قد شاب رأسه
وعارضاه، وقد كان معطاءا جوادا، وله عقل جيد، وفهم وافر، وذهن صحيح،
وقد كان كثير التحجب والتوسع في النفقات، وزاد في رسوم الخلافة وأمور
الرياسة، وما زاد شي إلا نقص.
كان في داره إحدى عشر ألف خادم خصي، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم
والسودان، وكان له دار يقال لها دار الشجرة، بها من الاثاث والامتعة شئ
كثير جدا، كما ذكرنا ذلك في سنة خمس، حين قدم رسول ملك الروم.
وقد ركب المقتدر يوما في حراقة وجعل يستعجل الطعام فأبطأوا به فقال
للملاح: ويحك هل عندك شئ آكل ؟ قال: نعم، فأتاه بشئ من
لحم الجدي وخبز حسن وملوحا وغير ذلك.
فاعجبه ثم استدعاه فقال: هل عندك شئ من الحلواء، فإني لا أحسن بالشبع
حتى آكل شئ من الحلواء.
فقال: يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التمر والكسب.
فقال: هذا شئ لا أطيقه.
ثم جئ بطعام فأكل منه وأوتي بالحلواءات فأكل وأطعم الملاحين، وأمر أن
يعمل كل يوم في الحراقة بمائتي درهم، حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل
منها، وإن لم يتفق ركوبه
__________
(1) في الكامل 8 / 243: نيفا وسبعين ألف ألف دينار.
(2) في مروج الذهب 4 / 328: لثلاث عشرة (*).
(11/192)
كانت للملاح.
وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة، ولم يتفق ركوبه مرة
أخرى أبدا.
وقد أراد بعض خواضه أن يطهر ولده فعمل أشياء هائلة ثم طلب من أم
الخليفة أن يعار القرية التي عملت في طهور المقتدر من فضة ليراها الناس
في هذا المهم، فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حتى أطلقها له بالكلية،
وكانت صفة قرية من القراى كلها من فضة، بيوتها وأعاليقها وأبقارها
وجمالها، ودوابها وطيورها، وخيولها، وزروعها وثمارها وأشجارها،
وأنهارها وما يتبع ذلك مما يكون في القرى، الجميع من فضة مصور، وأمر
بنقل سماطه إلى دار هذا الرجل، وأن لا يكلف شئ من المطاعم سوى سمك طري،
فاشترى الرجل بثلثمائة دينار سمكا طريا، وكان جملة ما أنفق الرجل على
سماط المقتدر ألفا وخمسمائة دينار، والجميع من عند المقتدر، وكان كثير
الصدقة والاحسان إلى أهل الحرمين وأرباب الوظائف، وكان كثير التنفل
بالصلاة والصوم والعبادة، ولكنه كان مؤثرا لشهواته، مطيعا لخصاياه كثير
العزل والولاية والتلون.
وما زال ذلك دأبه حتى كان هلاكه على يدي [ غلمان ] مؤنس الخادم، فقتل
عند باب الشماسية لليلتين (1) بقيتا من شوال من هذه السنة - أعني سنة
ثلثمائة وعشرين - وله من العمر ثمان وثلاثون سنة (2)، وكان مدة خلافته
أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا وأربعة عشر يوما (3)، كان أكثر مدة
ممن تقدمه من الخلفاء.
خلافة القاهر لما قتل المقتدر بالله
عزم مؤنس على تولية أبي العباس بن المقتدر بعد أبيه ليطيب قلب أم
المقتدر، فعدل عن ذلك جمهور من حضر من الامراء فقال أبو يعقوب إسحاق بن
إسماعيل النوبختي: بعد التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات
يطيعهن وشاورهن ؟ ثم أحضروا محمد بن المعتضد - وهو أخو المقتدر -
فبايعه القضاة والامراء والوزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحر
يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال منها، واستوزر أبا علي بن مقلة، ثم
أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله ثم أبا العباس، ثم الخصيبي.
وشرع القاهر في مصادرة أصحاب المقتدر وتتبع
__________
(1) في مروج الذهب 4 / 328: قتل ببغداد بعد صلاة العصر يوم الاربعاء
لثلاث ليال بقين من شوال.
وفي المنتظم 6 / 243: وكان قتله في الساعة الرابعة يوم الاربعاء لثلاث
بقين من شوال.
(2) في مروج الذهب 4 / 328: ثماني وثلاثين سنة وخمسة عشر يوما.
وفي المنتظم 6 / 243 ثمانيا وثلاثين سنة وشهرا وخمسة أيام.
وفي العقد الفريد: ثمانيا وثلاثين سنة وشهرا وعشرين يوما.
وفي نهاية الارب 23 / 101: ثمانيا وثلاثين سنة وخسمة أيام.
وفي دول الاسلام 1 / 194: ثمانيا وثلاثين سنة.
وفي الجوهر الثمين ص 171: ثلاث وثلاثون سنة وشهر واحد وسبعة عشر يوما.
وفي الكامل لابن الاثير 8 / 244: ثمانيا وثلاثون سنة ونحوا من شهرين.
(3) في نهاية الارب 23 / 101 ومروج الذهب 4 / 328 والكامل لابن الاثير
8 / 244 وستة عشر يوما.
وفي تاريخ بغداد 7 / 212: وخمسة عشر يوما.
وفي دول الاسلام 1 / 194: خمسا وعشرين سنة (كانت خلافته) (*).
(11/193)
أولاده،
واستدعى بأم المقتدر (1) وهي مريضة بالاستسقاء، وقد تزايد بها الوجع من
شدة جزعها على ولدها حين بلغها قتله، وكيف بقي مكشوف العورة.
فبقيت أياما لا تأكل شيئا، ثم وعظها النساء حتى أكلت شيئا يسيرا من
الخبز والملح، ومع هذا كله استدعى بها القاهر فقررها على أموالها فذكرت
له ما يكون للنساء من الحلي والمصاغ والثياب، ولم تقر بشئ من الاموال
والجواهر، وقالت له: لو كان عندي من هذا شئ ما سلمت ولدي [ للقتل ]
(2).
فأمر بضربها وعلقت برجليها ومسها بعذاب شديد من العقوبة، فأشهدت على
نفسها ببيع أملاكها، فأخذه الجند مما يحاسبون به أرزاقهم.
وأرادها على بيع أوقافها فامتنعت من ذلك وأبت أشد الاباء.
ثم استدعى القاهر بجماعة من أولاد
المقتدر منهم أبو العباس وهارون والعباس وعلي والفضل وإبراهيم، فأمر
بمصادرتهم وحبسهم، وسلمهم إلى حاجبه علي بن بليق، وتمكن الوزير علي بن
مقلة فعزل وولى، وأخذ وأعطى أياما، ومنع البريدي من عمالتهم.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن
عمير بن جوصا أبو الحسن الدمشقي أحد المحدثين الحفاظ، والرواة الايقاظ.
وإبراهيم بن محمد بن علي بن بطحاء بن علي بن مقلة أبو إسحاق التميمي
المحتسب ببغداد، روى عن عباس الدوري وعلي بن حرب وغيرهما، وكان ثقة
فاضلا.
مر يوما على باب القاضي أبي عمر محمد بن يوسف والخصوم عكوف على بابه
والشمس قد ارتفعت عليهم، فبعث حاجبه إليه يقول له: إما أن تخرج فتفصل
بين الخصوم، وإما أن تبعث فتعتذر إليهم إن كان لك عذر حتى يعودوا إليك
بعد هذا الوقت.
أبو علي بن خيران الفقيه الشافعي، أحد أئمة المذهب، واسمه الحسين بن
صالح بن خيران الفقيه الكبير الورع.
عرض عليه منصب القضاء فلم يقبل، فختم عليه الوزير علي بن عيسى على بابه
ستة عشر يوما، حتى لم يجد أهله ماء إلا من بيوت الجيران، وهو مع ذلك
يمتنع عليهم، ولم يل لهم شيئا.
فقال الوزير: إنما أردنا أن نعلم الناس أن ببلدنا وفي مملكتنا من عرض
عليه قضاء قضاة الدنيا في المشارق والمغارب فلم يقبل.
وقد كانت وفاته في ذي الحجة منها، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية
بما فيه كفاية.
__________
(1) المقتدر والقاهر ليسا من أم واحدة.
فالمقتدر أمه أم ولد وأسمها شغب.
وأم القاهر أم ولد اسمها قتول وقيل فتنة (مآثر الانافة 1 / 281).
(2) من ابن الاثير 8 / 245 (*).
(11/194)
عبد الملك بن محمد بن عدي الفقيه الاستراباذي، أحد أئمة المسلمين
والحفاظ المحدثين وقد ذكرناه أيضا في طبقات الشافعية.
القاضي أبو عمر المالكي: محمد بن يوسف ابن (1) إسماعيل بن حماد بن زيد،
أبو عمر القاضي ببغداد ومعاملاتها في سائر البلاد، كان من أئمة الاسلام
علما ومعرفة، وفصاحة وبلاغة، وعقلا ورياسة، بحيث كان يضرب بعقله المثل.
وقد روى الكثير عن المشايخ، وحدث عنه الدار قطني وغيره من الحفاظ، وحمل
الناس عنه علما كثيرا من الفقه والحديث، وقد جمع قضاء القضاة في سنة
سبع عشرة وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة.
وجمع مسندا حافلا، وكان إذا جلس للحديث جلس أبو القاسم البغوي عن يمينه
وهو قريب من سن أبيه، وجلس عن يساره أيضا ابن صاعد، وبين يديه أبو بكر
النيسابوري، وسائر الحفاظ حول سريره من كل جانب.
قالوا: ولم ينتقد عليه حكم من أحكامه أخطأ فيه قط.
قلت: وكان من أكبر صواب أحكامه وأصوبها قتله الحسين بن منصور الحلاج في
سنة تسع وثلثمائة كما تقدم.
وكان القاضي أبو عمر هذا جميل الاخلاق، حسن المعاشرة، اجتمع عنده يوما
أصحابه فجئ بثوب فاخر ليشتريه بنحو من خمسين دينارا، فاستحسنه
الحاضرون، فدعا بالقلانسي، وأمره أن يقطع ذلك الثوب قلانس بعدد
الحاضرين.
وله مناقب ومحاسن جمة رحمه الله تعالى.
توفي في رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال
له: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي بدعوة الرجل الصالح إبراهيم الحربي. |