البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة فيها كنت فتنة الخبيث البساسيري، وهو
أرسلان التركي،
وذلك أن إبراهيم ينال أخا الملك طغرلبك ترك الموصل الذي كان قد استعمله
أخوه عليها، وعدل إلى ناحية بلاد الجبل، فاستدعاه أخوه وخلع عليه وأصلح
أمره، ولكن في غضون ذلك ركب البساسيري ومعه قريش بن بدران أمير العرب
إلى الموصل فأخذها، وأخرب قلعتها، فسار إليه الملك طغرلبك سريعا
فاستردها وهرب منه البساسيري وقريش خوفا منه، فتبعمها إلى نصيبين،
وفارقه أخوه إبراهيم، وعصى عليه، وهرب إلى همذان، وذلك بإشارة
البساسيري عليه، فسار الملك طغرلبك وراء أخيه وترك عساكره وراءه
فتفرقوا وقل من لحقه منهم، ورجعت زوجته الخاتون ووزيره الكندري إلى
بغداد، ثم جاء الخبر بأن أخاه قد استظهر عليه، وأن طغرلبك محصور
بهمذان، فانزعج الناس لذلك، واضطربت بغداد، وجاء الخبر بأن البساسيري
على قصد بغداد، وأنه قد اقترب من الانبار، فقوي عزم الكندري على
__________
(1) في طبقات الشافعية للسبكي 4 / 282: ولم أنل.
(*)
(12/95)
الهروب، فأرادت
الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إلى الجانب الغربي، ونهبت داره وقطع
الجسر الذي بين الجانبين، وركبت الخاتون في جمهور الجيش، وذهبت إلى
همذان لاجل زوجها، وسار الكندري ومعه أنوشروان بن تومان وأم الخاتون
المذكورة، ومعها بقية الجيش إلى بلاد الاهواز وبقيت بغداد ليس بها أحد
من المقاتلة، فعزم الخليفة على الخروج منها، وليته فعل، ثم أحب داره
والمقام مع أهله، فمكث فيها اغترارا ودعة، ولما خلى البلد من المقاتلة
قيل للناس: من أراد الرحيل من بغداد فليذهب حيث شاء، فانزعج الناس وبكى
الرجال والنساء والاطفال، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي، وبلغت
المعبرة دينارا ودينارين لعدم الجسر.
قال ابن الجوزي: وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات
مجتمعات يصحن صياحا مزعجا، وقيل لرئيس الرؤساء المصلحة أن الخليفة
يرتحل لعدم المقاتلة فلم يقبل، وشرعوا في استخدام طائفة من العوام،
ودفع إليهم سلاح كثير من دار المملكة، فلما كان يوم الاحد الثامن من ذي
القعدة من هذه السنة جاء البساسيري إلى بغداد ومعه الرايات البيض
المصرية، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله أبو تميم معد
أمير المؤمنين، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عندهم،
فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزاويا، فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة
وضر شديد، ونزل قريش بن بدران في نحو من مائتي فارس على مشرعة باب
البصرة، وكان البساسيري، قد جمع العيارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة،
ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة
الدامغاني، وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، وبيعت للعطارين، ونهبت
دور المتعلقين بخدمة الخليفة، وأعادت الروافض الاذان بحي على خير
العمل، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات وخطب ببغداد
للخليفة المستنصر العبيدي، على منابرها وغيرها، وضربت له السكة على
الذهب والفضة، وحوصرت دار الخلافة، فجاحف الوزير أبو القاسم بن المسلمة
الملقب برئيس الرؤساء، بمن معه من المستخدمين دونه فلم يفد ذلك شيئا،
فركب الخليفة
بالسواد والبردة، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مصلت، وحوله زمرة من
العباسيين والجواري حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن، ومعهن المصاحف
على رؤوس الرماح، وبين يديه الخدم بالسيوف، ثم إن الخليفة أخذ ذماما من
أمير العرب قريش ليمنعه وأهله ووزيره ابن المسلمة، فأمنه على ذلك كله،
وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال: قد علمت ما كان وقع
الاتفاق عليه بيني وبينك، من أنك لا تبت برأي دوني، ولا أنا دونك،
ومهما ملكنا بيني و بينك.
ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة فوبخه توبيخا مفضحا، ولامه لوما
شديدا ثم ضربه ضربا مبرحا، واعتقله مهانا عنده، ونهبت العامة دار
الخلافة، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس، والديباج والذهب
والفضة، والثياب والاثاث، والدواب وغير ذلك، مما لا يحد ولا يوصف.
ثم اتفق رأى البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إلى أمير حديثة
عانة، وهو
(12/96)
مهارش بن مجلي
(1) الندوي، وهو من بني عم قريش بن بدران، وكان رجلا فيه دين وله
مروأة.
فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد فلم يفد ذلك
شيئا، وسيره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة، فكان عند مهارش حولا
كاملا، وليس معه أحد من أهله، فحكى عن الخليفة أنه قال: لما كنت بحديثة
عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله
عزوجل بما سنح لي، ثم قلت: اللهم أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي
وولدي، ويسر أجتماعنا، وأعد روض الانس زاهرا، وربع القرب عامرا، وفلفل
العزا وبرج الجفا، قال: فسمعت قائلا على شاطئ الفرات يقول: نعم نعم،
فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ذلك
الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول، فقلت: إنه هاتف أنطقه الله بما جرى
الامر عليه، وكان كذلك، خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة، ورجع
إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة، وقد قال الخليفة القائم بأمر
الله في مدة مقامه بالحديثة شعرا يذكر فيه حاله فمنه: ساءت ظنوني فيمن
كنت آمله * ولم يجل ذكر من واليت في خلدي
تعلموا من صروف الدهر كلهم * فما أرى أحدا يحنو على أحد فما أرى من
الايام إلا موعدا * فمتى أرى ظفري بذاك الموعد يومي يمر وكلما قضيته *
عللت نفسي بالحديث إلى غد أقبح بنفس تستريح إلى المنى * وعلى مطامعها
تروح وتغتدي وأما البساسيري وما اعتمده في بغداد: فإنه ركب يوم عيد
الاضحى وألبس الخطباء والمؤذنين البياض، وكذلك أصحابه، وعلى رأسه
الالوية المصرية، وخطب للخليفة المصري، والروافض في غاية السرور،
والاذان بسائر العراق بحي على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان
أهل بغداد انتقاما عظيما، وغرق خلقا ممن كان يعاديه، وبسط على آخرين
الارزاق ممن كان يحبه ويواليه، وأظهر العدل.
ولما كان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه
الوزير ابن المسلمة الملقب رئيس الرؤساء، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد
أحمر، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب جملا أحمر وطيف به في
البلد.
وخلفه من يصفعه بقطعة جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خلقان
المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو
في ذلك يتلو قوله تعالى (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع
الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ
قدير) [ آل عمران: 26 ] ثم لما فرغوا من التطواف به جئ به إلى
__________
(1) في العبر لابن خلدون 4 / 266: مهارش بن نجلي.
وفي المختصر لابي الفداء 2 / 178 مهارس، وفي تتمة المختصر لابن الوردي:
مهاوش، 1 / 548 (*)
(12/97)
المعسكر فألبس
جلد ثور بقرنيه، وعلق بكلوب في شدقيه، ورفع إلى الخشبة، فجعل يضطرب إلى
آخر النهار فمات رحمه الله.
وكان آخر كلامه أن قال: الحمد لله الذي أحياني سعيدا، وأماتني شهيدا.
وفيها وقع برد بأرض العراق أهلك كثيرا من الغلات، وقتل بعض الفلاحين،
وزادت دجلة زيادة كثيرة، وزلزلت بغداد في هذه السنة قبل الفتنة بشهر
زلزالا شديدا، فتهدمت دور كثيرة، ووردت الاخبار أن هذه الزلزلة اتصلت
بهمذان وواسط، وتكريت، وعانة، وذكر أن
الطواحين وقفت من شدتها.
وفيها كثر النهب ببغداد حتى كانت العمائم تخطف عن الرؤوس، وخطفت عمامة
الشيخ أبي نصر بن الصباغ، وطيلسانه وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة.
وفي أواخر السنة خرج السلطان طغرلبك من همذان فقاتل أخاه وانتصر عليه،
ففرح الناس وتباشروا بذلك، ولم يظهروا ذلك خوفا من البساسيري، واستنجد
طغرلبك بأولاد أخيه داود - وكان قد مات - على أخيه إبراهيم فغلبوه
وأسروه في أوائل سنة إحدى وخمسين، واجتمعوا على عمهم طغرلبك، فسار بهم
نحو العراق فكان من أمرهم ما سيأتي ذكره في السنة الآتية إن شاء الله.
وفيها توفي من الاعيان...الحسن (1)
بن محمد أبو عبد الله الوني الفرضي، وهو شيخ الحربي، وكان شافعي
المذهب، قتل في بغداد في فتنة البساسيري ودفن في يوم الجمعة يوم عرفة
منها.
داود أخو طغرلبك وكان الاكبر منهم، توفي فيها وقام أولاده مقامه.
أبو الطيب الطبري الفقيه، شيخ الشافعية، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن
عمر، ولد بآمل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، سمع الحديث بجرجان
من أبي أحمد الغطريفي، وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي، وعليه درس
الفقه أيضا وعلى أبي علي الزجاجي، وأبي القاسم بن كج، ثم اشتغل ببغداد
على أبي حامد الاسفراييني، وشرح المختصر وفروع ابن الحداد، وصنف في
الاصول
__________
(1) في وفيات الاعيان 2 / 138: الحسين.
وترجمته في طبقات السبكي 3 / 163 ونكت الهميان ص 145 وسيرد في وفيات
سنة 451 ه.
(*)
(12/98)
والجدل، وغير
ذلك من العلوم الكثيرة النافعة، وسمع ببغداد من الدارقطني وغيره، وولي
القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبد الله الصيمري، وكان ثقة دينا ورعا،
عالما بأصول الفقه وفروعه،
حسن الخلق سليم الصدر مواظبا على تعليم العلم ليلا ونهارا.
وقد ترجمته في طبقات الشافعية، وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عنه -
وكان شيخه، وقد أجلسه بعده في الحلقة - أن أبا الطيب أسلم خفا له -
وكان متقللا من الدنيا فقيرا - عند خفاف ليصلحه له فأبطأ عليه فكان
كلما مر عليه أخذه فغمسه في الماء وقال: أيها الشيخ الساعة أصلحه، فقال
الشيخ: أسلمته لتصلحه ولم أسلمه لتعلمه السباحة.
وحكى ابن خلكان: أنه كان له ولاخيه عمامة واحدة، وقميص واحد، إذا
لبسهما هذا جلس الآخر في البيت لا يخرج منه، وإذا لبسهما هذا احتاج
الآخر أن يقعد في البيت ولا يخرج منه، وإذا غسلاهما جلسا في البيت إلى
أن ييبسا وقد قال في ذلك أبو الطيب: قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم * لبسوا
البيوت إلى فراغ الغاسل وقد توفي في هذه السنة عن مائة سنة وسنتين، وهو
صحيح العقل، والفهم، والاعضاء، يفتي ويشتغل إلى أن مات، وقد ركب مرة
سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشاب فقيل له: ما هذا يا
أبا الطيب ؟ فقال: هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكبر رحمه
الله.
القاضي الماوردي صاحب الحاوي الكبير، علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن
الماوردي البصري، شيخ الشافعية، صاحب التصانيف الكثيرة في الاصول
والفروع والتفسير والاحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين.
قال: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، يعني الاقناع.
وقد ولي الحكم في بلاد كثيرة، وكان حليما وقورا أديبا، لم ير أصحابه
ذراعه يوما من الدهر من شدة تحرزه وأدبه، وقد استقصيت ترجمته في
الطبقات، توفي عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلمة علي بن الحسن (1) بن أحمد بن محمد
بن عمر، وزير القائم بأمر الله، كان أولا قد سمع الحديث من أبي أحمد
الفرضي وغيره، ثم صار أحد المعدلين، ثم استكتبه القائم بأمر الله
واستوزره، ولقبه رئيس الرؤساء، شرف الوزاء، جمال الوزراء، كان متضلعا
بعلوم كثيرة مع سداد رأي، ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة
وشهرا، ثم قتله البساسيري بعد ما
شهره كما تقدم، وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر.
__________
(1) في الفخري ص 295: الحسين (*)
(12/99)
منصور بن
الحسين أبو الفوارس الاسدي، صاحب الجزيرة، توفي فيها وأقاموا ولده بعده
(1).
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة استهلت
هذه السنة وبغداد في حكم البساسيري، يخطب فيها لصاحب مصر الفاطمي،
والخليفة العباسي بحديثة عانة، ثم لما كان يوم الاثنين ثاني عشر صفر
أحضر القضاة أبا عبد الله الدامغاني وجماعة من الوجوه والاعيان
والاشراف، وأخذ عليهم البيعة لصاحب مصر المستنصر الفاطمي، ثم دخل دار
الخلافة وهؤلاء المذكورون معه وأمر بنقض تاج دار الخلافة، فنقض بعض
الشراريف، ثم قيل له إن القبح في هذا أكثر من المصلحة.
فتركه، ثم ركب إلى زيارة المشهد بالكوفة، وعزم على عبور نهر جعفر ليسوق
الحائر لوفاء نذر كان عليه، وأمر بأن تنقل جثة ابن مسلمة إلى ما يقارب
الحريم الظاهري، وأن تنصب على دجلة.
وكتبت إليه أم الخليفة - وكانت عجوزا كبيرة قد بلغت التسعين وهي مختفية
في مكان - تشكو إليه الحاجة والفقر وضيق الحال، فأرسل إليها من نقلها
إلى الحريم، وأخدمها جاريتين، ورتب لها كل يوم اثني عشر رطلا من خبز،
وأربعة أرطال من لحم.
فصل ولما خلص السلطان طغرلبك من
حصره بهمذان وأسر أخاه إبراهيم وقتله، وتمكن في أمره، وطابت نفسه، ولم
يبق له في تلك البلاد منازع، كتب إلى قريش بن بدران يأمره بأن يعيد
الخليفة إلى وطنه، وداره وتوعده على أنه إن لم يفعل ذلك وإلا أحل به
بأسا شديدا، فكتب إليه قريش يتلطف به ويدخل عليه، ويقول: أنا معك على
البساسيري بكل ما أقدر عليه، حتى يمكنك الله منه، ولكن أخشى أن أتسرع
في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو تبدر إليه بادرة سوء يكون علي
عارها،
ولكن سأعمل على ما أمرتني به بكل ما يمكنني، وأمر برد امرأة الخليفة
خاتون إلى دارها وقرارها، ثم إنه راسل البساسيري بعود الخليفة إلى
داره، وخوفه من جهة الملك طغرلبك، وقال له فيما قال: إنك دعوتنا إلى
طاعة المستنصر الفاطمي، وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا رسول ولا
أحد من عنده ولم يفكر في شئ مما أرسلنا إليه، وهذا الملك من ورائنا
بالمرصاد، قريب منا، وقد جاءني منه كتاب عنوانه: إلى الامير الجليل علم
الدين أبي المعالي قريش بن بدران، مولى أمير المؤمنين، من
__________
(1) وهو صدقة بن منصور بن الحسين (الكامل 9 / 650).
(*)
(12/100)
شاهنشاه المعظم
ملك المشرق والمغرب طغرلبك، أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق، وعلى
رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان.
حسبي الله ونعم الوكيل.
وكان في الكتاب: والآن قد سرت بنا المقادير إلى هلاك كل عدو في الدين،
ولم يبق علينا من المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا القائم بأمر الله
أمير المؤمنين، وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه، فإن الذي يلزمنا ذلك،
ولا فسحة في التقصير فيه ساعة من الزمان، وقد أقبلنا بجنود المشرق
وخيولها إلى هذا المهم العظيم، ونريد من الامير الجليل علم الدين إبانة
النجح الذي وفق له وتفرد به وهو أن يتم وفاءه من إقامته وخدمته، في باب
سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، إما أن يأتي به مكرما في عزه وإمامته إلى
موقف خلافته من مدينة السلام، ويتمثل بين يديه متوليا أمره ومنفذا
حكمه، وشاهرا سيفه وقلمه، وذلك المراد، وهو خليفتنا وتلك الخدمة بعض ما
يجيب له، ونحن نوليك العراق بأسرها ونصفي لك مشارع برها وبحرها، لا
يطؤها حافر خيل من خيول العجم شبرا من أراضي تلك المملكة، إلا ملتمسا
لمعاونتك ومظاهرتك، وإما أن تحافظ على شخصه الغالي بتحويله من القلعة
إلى حين نحظى بخدمته، فليمتثل ذلك ويكون الامير الجليل مخيرا بين أن
يلقانا أو يقيم حيث يشاء فنوليه العراق كلها، ونستخلفه في الخدمة
الامامية، ونصرف أعيننا إلى الممالك الشرقية، فهمتنا لا تقتضي إلا هذا.
فعند ذلك كتب قريش إلى مهاوش بن مجلي الذي عنده الخليفة يقول له: إن
المصلحة تقتضي تسليم الخليفة إلي، حتى آخذ لي ولك به أمانا، فامتنع
عليه مهارش وقال قد غرني البساسيري
ووعدني بأشياء لم أرها، ولست بمرسله إليك أبدا، وله في عنقي أيمان
كثيرة لا أغدرها، وكان مهارش هذا رجلا صالحا، فقال للخليفة: إن المصلحة
تقتضي أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل، وننظر ما يكون من أمر السلطان
طغرلبك، فإن ظهر دخلنا بغداد، وإن كانت الاخرى نظرنا لانفسنا، فإني
أخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا.
فقال له الخليفة: افعل ما فيه المصلحة.
فسارا في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا، فتلقته
رسل السلطان طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها، وجاءت الاخبار بأن
السلطان طغرلبك قد دخل بغداد، وكان يوما مشهودا، غير أن الجيش نهبوا
البلد غير دار الخليفة، وصودر خلق كثير من التجار، وأخذت منهم أموال
كثيرة، وشرعوا في عمارة دار الملك، وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب
كثيرة من أنواع الخيول وغيرها، وسرادق وملابس، وما يليق بالخليفة في
السفر، أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندري، ولما انتهوا إلى
الخليفة أرسلوا بتلك الآلات إليه قبل أن يصلوا إليه، وقالوا: اضربوا
السرادق وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجئ نحن ونستأذن عليه فلا يأذن
لنا إلا بعد ساعة طويلة، فلما فعلوا ذلك دخل الوزير ومن معه فقبلوا
الارض بين يديه، وأخبروه بسرور السلطان بسلامته، وبما حصل من العود إلى
بغداد، وكتب عميد الملك كتابا إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى، وأحب أن
يضع الخليفة علامته في أعلا الكتاب ليكون أقر لعين السلطان، وأحضر
الوزير دواته ومعها سيف
(12/101)
وقال: هذه خدمة
السيف والقلم، فأعجب الخليفة ذلك، وترحلوا من منزلهم ذلك بعد يومين،
فلما وصلوا النهروان خرج السلطان لتلقي الخليفة، فلما وصل السلطان إلى
سرادق الخليفة قبل الارض سبع مرات بين يدي الخليفة، فأخذ الخليفة مخدة
فوضعها بين يديه فأخذها الملك فقبلها، ثم جلس عليها كما أشار الخليفة،
وقدم إلى الخليفة الحبل الياقوت الاحمر الذي كان لبني بويه، فوضعه بين
يديه، وأخرج اثنتي عشرة حبة من لؤلؤ كبار، وقال أرسلان خاتون - يعني
زوجة الملك - تخدم الخليفة، وسأله أن يسبح بهذه المسبحة، وجعل يعتذر من
تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه فقتله، واتفق موت أخي الاكبر أيضا،
فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وأنا شاكر لمهارش بما كان
منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا ذاهب إن شاء الله خلف الكلب
البساسيري، فأقتله إن شاء الله، ثم أدخل الشام وأفعل بصاحب مصر ما
ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة، فدعا له الخليفة، وأعطى الخليفة
للملك سيفا كان معه، لم يبق معه من أمور الخلافة سواه، واستأذن الملك
لبقية الجيش أن يخدموا الخليفة، فرفعت الاستار عن جوانب الحركات، فلما
شاهد الاتراك الخليفة قبلوا الارض، ثم دخلوا بغداد يوم الاثنين لخمس
بقين من ذي القعدة، وكان يوما مشهودا: الجيش كله معه والقضاة والاعيان
والسلطان آخذ بلجام بغلته، إلى أن وصل باب الحجرة، ثم إنه لما وصل
الخليفة إلى دار مملكته استأذنه السلطان في الذهاب وراء البساسيري،
فأرسل جيشا (1) من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو
والناس في التاسع والعشرين من الشهر.
وأما البساسيري فإنه مقيم بواسط في جمع غلات وأمور يهيئها لقتال
السلطان، وعنده أن الملك طغرلبك ومن عنده ليسوا بشئ يخاف منه، وذلك لما
يريده الله تعالى من إهلاكه إن شاء الله.
مقتل البساسيري على يدي السلطان طغرلبك
لما سار السلطان وراءه وصلت السرية الاولى فلقوه بأرض واسط ومعه ابن
مزيد، فاقتتلوا هنالك وانهزم أصحابه عنه، ونجا البساسيري بنفسه على
فرس، فتبعه بعض الغلمان فرمي فرسه بنشابة فألقته إلى الارض، فجاء
الغلام فضربه على وجهه ولم يعرفه، وأسره واحد منهم يقال له كمسكين (2)،
فحز رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الاتراك من جيش البساسيري من
الاموال ما عجزوا عن حمله، ولما وصل الرأس إلى السلطان أمر أن يذهب به
إلى بغداد، وأن يرفع على رمح، وأن يطاف به في المحال وأن يطوف معه
الدبادب والبوقات والنفاطون، وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه، ففعل
ذلك، ثم نصب على الطيارة تجاه دار الخليفة، وقد كان مع البساسيري خلق
من البغاددة خرجوا معه، ظانين أنه سيعود إلى بغداد، فهلكوا ونهبت
أموالهم، ولم ينج من أصحابه
__________
(1) عليه خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس (الكامل - العبر).
(2) في الكامل 9 / 649: كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري، وفي العبر 3
/ 465: لمتنكيرز.
(*)
(12/102)
إلا القليل،
وفر ابن مزيد في ناس قليل إلى البطيحة، ومعه أولاد البساسيري وأمهم،
وقد سلبتهم الاعراب فلم يتركوا لهم شيئا.
ثم استؤمن لابن مزيد من السلطان ودخل معه بغداد، وقد نهبت العساكر ما
بين واسط والبصرة والاهواز، وذلك لكثرة الجيش وانتشاره وكثافته.
وأما الخليفة فإنه حين عاد إلى دار الخلافة جعل لله عليه أن لا ينام
على وطاء ولا يأتيه أحد بطعام إذا كان صائما، ولا يخدمه في وضوئه وغسله
أحد، بل يتولى ذلك كله بنفسه لنفسه، وعاهد الله أن لا يؤذي أحدا ممن
آذاه، وأن يصفح عن من ظلمه، وقال: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن
تطيع الله فيه.
وفيها تولى الملك ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بلاد حران
بعد وفاة أبيه، بتقرير عمه طغرلبك، وكان له من الاخوة سليمان وقاروت
بك، وياقوتي، فتزوج طغرلبك بأم سليمان.
وفيها كان بمكة رخص لم يسمع بمثله، بيع التمر والبر كل مائتي رطل
بدينار.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
ترجمة أرسلان أبو الحارس (1) البساسيري التركي كان من مماليك بهاء
الدولة، وكان أولا مملوكا لرجل من أهل مدينة بسا (2)، فنسب إليه فقيل
له البساسيري، وتلقب بالملك المظفر، ثم كان مقدما كبيرا عند الخليفة
القائم بأمر الله، لا يقطع أمرا دونه، وخطب له على منابر العراق كلها،
ثم طغى وبغى وتمرد، وعتا وخرج على الخليفة والمسلمين ودعا إلى خلافة
الفاطميين، ثم انقضى أجله في هذه السنة، وكان دخوله إلى بغداد بأهله في
سادس ذي القعدة من سنة خمسين وأربعمائة، ثم اتفق خروجهم منها في سادس
ذي القعدة أيضا من سنة إحدى وخمسين، بعد سنة كاملة، ثم كان خروج
الخليفة من بغداد في يوم الثلاثاء الثاني عشر من كانون الاول، واتفق
قتل البساسيري في يوم الثلاثاء الثامن عشر من كانون الاول، بعد سنة
شمسية، وذلك في ذي الحجة منها.
الحسن بن الفضل (3) أبو علي الشرمقاني المؤدب المقري الحافظ للقرآن
والقراءات، واختلافها، كان ضيق الحال
__________
(1) في الكامل 9 / 650 ووفيات الاعيان 1 / 192 والوافي 8 / 340
والمنتظم 8 / 201: أبو الحارث.
(2) والعرب يقولون فسا والنسبة إليها فسوي (العبر 3 / 465 ووفيات
الاعيان 1 / 193).
وفي الكامل 9 / 650: فساوى، فقال العرب: فساسيري بدل بساسيري، والنسبة
شاذة على غير القياس.
(3) في الوافي 12 / 202، الحسن بن أبي الفضل وانظر ترجمته في تاريخ
بغداد 7 / 402 المنتظم 8 / 212 غاية النهاية 1 / 227.
(*)
(12/103)
فرآه شيخه ابن
العلاف ذات يوم وهو يأخذ أوراق الخس من دجلة ويأكلها، فأعلم ابن
المسلمة بحاله، فأرسل ابن المسلمة غلاما له وأمره أن يذهب إلى الخزانة
التي له بمسجده فيتخذ لها مفتاحا غير مفتاحه، ثم كان كل يوم يضع فيها
ثلاثة أرطال من خبز السميد، ودجاجة، وحلاوة السكر، فظن أبو علي
الشرمقاني أن ذلك كرامة أكرمه الله بها، وأن هذا الطعام الذي يجده في
خزانته من الجنة، فكتمه زمانا وجعل ينشد: من أطلعوه على سر فباح به *
لم يأمنوه على الاسرار ما عاشا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم * وأبدلوه فكان
الانس إيحاشا فلما كان في بعض الايام ذاكره ابن العلاف في أمره، وقال
له فيما قال: أراك قد سمنت فما هذا الامر، وأنت رجل فقير ؟ فجعل يلوح
ولا يصرح، ويكنى ولا يفصح، ثم ألح عليه فأخبره أنه يجد كل يوم في
خزانته من طعام الجنة ما يكفيه، وأن هذا كرامة أكرمه الله بها، فقال
له: ادع لابن المسلمة فإنه الذي يفعل ذلك، وشرح له صورة الحال، فكسره
ذلك ولم يعجبه.
علي بن محمود بن إبراهيم بن ماجره أبو الحسن الزوزني (1)، شيخ الصوفية،
وإليه ينسب الرباط الزوزني، وقد كان بنى لابي الحسن شيخه، وقد صحب أبا
عبد الرحمن السلمي، وقال: صحبت ألف شيخ، وأحفظ عن كل شيخ حكاية توفي في
رمضان عن خمس وثمانين سنة.
محمد بن علي ابن الفتح بن محمد بن علي بن أبي طالب الحربي، المعروف
بالعشاري، لطول جسده، وقد
سمع الدارقطني وغيره، وكان ثقة دينا صالحا، توفي في جمادى الاولى منها،
وقد نيف على الثمانين.
الوني الفرضي الحسين بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله الوني، نسبة إلى
ون قرية من أعمال جهستان (2)، الفرضي شيخ الحربي، وهو أبو حكيم عبد
الله بن إبراهيم، كان الوني إماما في الحساب والفرائض، وانتفع الناس
به، توفي فيها ببغداد شهيدا في فتنة البساسيري والله أعلم.
__________
(1) الزوزني: نسبة إلى زوزن بلد بين هراة ونيسابور، وفي المطبوعة: "
الروزني " تحريف.
(2) في معجم البلدان ون بالفتح وتشديد النون قرية من قرى قوهستان
وإليها ينسب الوني صاحب كتاب الفرائض.
(*)
(12/104)
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة في يوم الخميس السابع عشر من صفر،
دخل السلطان بغداد مرجعه من واسط، بعد قتل البساسيري، وفي يوم الحادي
والعشرين جلس الخليفة في داره وأحضر الملك طغرلبك، ومد سماطا عظيما
فأكل الامراء منه والعامة، ثم في يوم الخميس ثاني ربيع الاول عمل
السلطان سماطا للناس، وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة قدم الامير
عدة الدين أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين بن أمير المؤمنين القائم
بأمر الله.
وعمته، وله من العمر يومئذ أربع سنين، صحبة أبي الغنائم، فتلقاه الناس
إجلالا لجده، وقد ولي الخلافة بعد ذلك، وسمي المقتدي بأمر الله.
وفي رجب وقف أبو الحسن محمد بن هلال العتابي دار كتب، وهي دار بشارع
ابن أبي عوف من غربي بغداد، ونقل إليها ألف كتاب، عوضا عن دار أزدشير
التي أحرقت بالكرخ.
وفي شعبان ملك محمود بن نصر حلب وقلعتها فامتدحه الشعراء.
وفيها ملك عطية بن مرداس الرحبة، وذلك كله منتزع من أيدي الفاطميين.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها، غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة
وذهبوا مع الخفراء.
وممن توفي فيها من الاعيان...أبو
منصور الجيلي
من تلاميذ أبي حامد، ولي القضاء بباب الطاق.
وبحريم دار الخلافة، وسمع الحديث من جماعة.
قال الخطيب: وكتبنا عنه وكان ثقة.
الحسن بن محمد ابن أبي الفضل أبو محمد الفسوي، الوالي، سمع الحديث،
وكان ذكيا في صناعة الولاية، ومعرفة التهم والمتهومين من الغرماء،
بلطيف من الصنيع، كما نقل عنه أنه أوقف بين يديه جماعة اتهموا بسرقة
فأتى بكوز يشرب منه، فرمي به فانزعج الواقفون إلا واحدا، فأمر به أن
يقرر، وقال السارق يكون جريئا قويا، فوجد الامر كذلك، وقد قتل مرة رجلا
في ضرب بين يديه فادعى عليه عند القاضي أبي الطيب، فحكم عليه بالقصاص،
ثم فادى عن نفسه بمال جزيل حتى خلص.
محمد بن عبيد الله ابن أحمد بن محمد بن عمروس، أبو الفضل البزار، انتهت
إليه رياسة الفقهاء المالكيين
(12/105)
ببغداد، وكان
من القراء المجيدين، وأهل الحديث المسندين، سمع ابن حبانة والمخلص وابن
شاهين، وقد قبل شهادته أبو عبد الله الدامغاني، وكان أحد المعدلين.
قطر الندى ويقال الدجى، ويقال علم، أم الخليفة القائم بأمر الله، كانت
عجوزا كبيرة، بلغت التسعين، وهي التي احتاجت في زمان البساسيري فأجرى
عليها رزقا، وأخدمها جاريتين، ثم لم تمت حتى أقر الله عينها بولدها،
ورجوعه إليها، واستمر أمرهم على ما كانوا عليه، ثم توفيت في هذه السنة،
فحضر ولدها الخليفة جنازتها، وكانت حافلة جدا ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
وأربعمائة فيها خطب الملك طغرلبك ابنة الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك،
وقال: هذا شئ لم تجر العادة بمثله، ثم طلب شيئا كثيرا كهيئة الفرار.
من ذلك ما كان لزوجته التي توفيت من الاقطاعات بأرض واسط، وثلثمائة ألف
دينار، وأن يقيم الملك ببغداد لا يرحل عنها ولا يوما واحدا، فوقع
الاتفاق على بعض ذلك، وأرسل إليها بمائة ألف دينار مع ابنة أخيه داود
زوجة الخليفة، وأشياء كثيرة من آنية الذهب والفضة، والنثار والجواري،
ومن الجواهر ألفان ومائتي قطعة، من ذلك سبعمائة قطعة من جوهر، وزن
القطعة ما بين الثلاث مثاقيل إلى المثقال، وأشياء أخرى.
فتمنع الخليفة لفوات بعض الشروط، فغضب عميد الملك الوزير لمخدومه
السلطان، وجرت شرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتابا يأمر الخليفة
بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون، ونقلها من دار الخلافة إلى دار
الملك، حتى تنفصل هذه القضية، فعزم الخليفة على الرحيل من بغداد،
فانزعج الناس لذلك، وجاء كتاب السلطان إلى رئيس شحنة بغداد برشتق يأمره
بعدم المراقبة وكثرة العسف في مقابلة رد أصحابه بالحرمان، ويعزم على
نقل الخاتون إلى دار الملكة، وأرسل من يحملها إلى البلد التي هو فيها،
كل ذلك غضبا على الخليفة.
قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها رأى إنسان من الزمنى رسول الله صلى
الله عليه وسلم في المنام وهو قائم ومعه ثلاثة أنفس، فجاءه أحدهم فقال
له: ألا تقوم ؟ فقال: لا أستطيع، أنا رجل مقعد، فأخذ بيده فقال: قم،
فقام وانتبه.
فإذا هو قد برأ وأصبح يمشي في حوائجه.
وفي ربيع الآخر استوزر الخليفة أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست
الاهوازي، وخلع عليه وجلس في ملجس الوزارة.
وفي جمادى الآخرة (1) لليلتين بقيتا منه كسفت الشمس كسوفا عظيما، جميع
القرص غاب، فمكث الناس أربع ساعات حتى بدت النجوم وآوت الطيور إلى
__________
(1) في الكامل 10 / 19: الاولى.
(*)
(12/106)
أوكارها، وتركت
الطيران لشدة الظلمة.
وفيها ولي أبو تميم (1) بن معز الدولة بلاد إفريقية.
وفيها ولي ابن نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي ديار بكر.
وفيها ولي (2) قريش بن بدران بلاد الموصل ونصيبين.
وفيها خلع على طراد بن محمد الزينبي الملقب بالكامل نقابة الطالبيين،
ولقب المرتضى.
وفيها ضمن أبو إسحاق بن علاء اليهودي، ضياع الخليفة من صرصر إلى أواثى،
كل سنة ستة وثمانين ألف دينار، وسبع عشرة ألف كر من غلة.
ولم يحج أحد من أهل العراق هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد
بن مروان أبو نصر الكردي، صاحب بلاد بكر وميا فارقين، لقبه القادر نصر
الدولة، وملك هذه البلاد ثنتين وخمسين سنة، وتنعم تنعما لم يقع لاحد من
أهل زمانه، ولا أدركه فيه أحد من أقرانه، وكان عنده خمسمائة سرية سوى
من يخدمهن، وعنده خمسمائة خادم، وكان عنده من المغنيات شئ كثير كل
واحدة مشتراها خمسة آلاف دينار، وأكثر، وكان يحضر في مجلسه من آلات
اللهو والاواني ما يساوي مائتي ألف دينار، وتزوج بعدة من بنات الملوك،
وكان كثير المهادنة للملوك، إذا قصدوه عدو أرسل إليه بمقدار ما يصالحه
به، فيرجع عنه.
وقد أرسل إلى الملك طغرلبك بهدية عظمية حين ملك العراق، من ذلك حبل من
ياقوت كان لبني بويه اشتراه منهم بشئ كثير، ومائة ألف دينار، وغير ذلك،
وقد وزر له أبو القاسم المغربي مرتين، ووزر له أيضا أبو نصر محمد بن
محمد بن جهير، وكانت بلاده آمن البلاد، وأطيبها وأكثرها عدلا، وقد بلغه
أن الطيور تجوع فتجمع في الشتاء من الحبوب التي في القرى فيصطادها
الناس، فأمر بفتح الاهراء وإلقاء ما يكفيها من الغلات في مدة الشتاء،
فكانت تكون في ضيافته طول الشتاء مدة عمره، توفي في هذه السنة وقد قارب
الثمانين (3).
قال ابن خلكان: قال ابن الازرق في تاريخه: إنه لم يصادر أحدا من رعيته
سوى رجل واحد، ولم تفته صلاة مع كثرة مباشرته للذات، وكان له ثلاثمائة
وستون حظية، يبيت عند كل واحدة ليلة في السنة، وخلف أولادا كثيرة، ولم
يزل على ذلك إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال منها.
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب أن المعز بن باديس أبو تميم قد توفي في هذه
السنة وتولى ابنه تميم بن المعز الملك في إفريقيا.
(الكامل 10 / 15 مختصر أخبار البشر 2 / 180).
(2) كذا بالاصل، والصحيح أن قريش قد توفي هذه السنة في نصيبين ودفن
فيها وأجمع بنو عقيل فأمروا ابنه أبا المكارم مسلم بن قريش عليهم
(الكامل 10 / 17 - تاريخ أبي الفداء 2 / 180).
(3) في الكامل 10 / 17 وتاريخ أبي الفداء 2 / 181: وكان عمره نيفا
وثمانين سنة.
(*)
(12/107)
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة
فيها وردت الكتب الكثيرة من الملك طغرلبك يشكو من قلة إنصاف الخليفة،
وعدم موافقته له، ويذكر ما أسداه إليه من الخير والنعم إلى ملوك
الاطراف، وقاضي القضاة الدامغاثي، فلما رأى الخليفة ذلك، وأن الملك
أرسل إلى نوابه بالاحتياط على أموال الخليفة، كتب إلى الملك يجيبه إلى
ما سأل، فلما وصل ذلك إلى الملك فرح فرحا شديدا، وأرسل إلى نوابه أن
يطلقوا أملاك الخليفة، واتفقت الكلمة بعد أن كادت تتفرق، فوكل الخليفة
في العقد.
فوقع العقد بمدينة تبريز بحضرة الملك طغرلبك، وعمل سماطا عظيما، فلما
جئ بالوكلة قام لها الملك وقبل الارض عند رؤيتها، ودعا للخليفة دعاء
كثيرا، ثم أوجب العقد على صداق أربعمائة ألف دينار، وذلك في يوم الخميس
الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، ثم بعث ابنة أخيه الخاتون زوجة
الخليفة في شوال بتحف كثيرة، وجوهر وذهب كثير، وجواهر عديدة ثمينة،
وهدايا عظيمة لام العروس وأهلها، وقال الملك جهرة للناس: أنا عبد
الخليفة ما بقيت، لا أملك شيئا سوى ما علي من الثياب.
وفيها عزل الخليفة وزير واستوزر أبا نصر محمد بن محمد بن جهير (1)،
استقدمه من ميافارقين.
وفيها عم الرخص جميع الارض حتى بيع بالبصرة كل ألف رطل تمر بثمان
قراريط، ولم يحج فيها أحد.
وممن توفي فيها من الاعيان...ثمال
بن صالح معز الدولة، صاحب حلب، كان حليما كريما وقورا.
ذكر ابن الجوزي أن الفراش تقدم إليه ليغسل يده فصدمت بلبلة الابريق
ثنيته فسقطت في الطست، فعفا عنه.
الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري، ولد في شعبان سنة ثلاث وستين،
وسمع الحديث على جماعة، وتفرد بمشايخ كثيرين، منهم أبو بكر بن مالك
القطيعي، وهو آخر من حدث عنه، توفي في ذي القعدة منها.
__________
(1) من الفخري ص 293 والكامل لابن الاثير 10 / 23 وتاريخ أبي الفداء 2
/ 181.
قال الفخري: وهو فخر الدولة
كان من عقلاء الرجال ودهاتهم، كان في ابتداء أمره فقيرا وترامت به
الاسباب فأثرى ثروة ضخمة...حتى استوزره القائم وخلع عليه خلع الوزارة.
(*)
(12/108)
الحسين بن أبي
زيد أبو علي الدباغ.
قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام.
فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يميتني على الاسلام.
فقال: وعلى السنة.
سعد بن محمد بن منصور أبو المحاسن الجرجاني، كان رئيسا قديما، وجه
رسولا إلى الملك محمود بن سبكتكين في حدود سنة عشر، وكان من الفقهاء
العلماء، تخرج به جماعة، وروى الحديث عن جماعة، وعقد له مجلس المناظرة
ببلدان كثيرة، وقتل ظلما باستراباذ في رجب منها رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة فيها دخل
السلطان طغرلبك بغداد، وعزم الخليفة على تلقيه، ثم ترك ذلك وأرسل وزيره
أبا نصر عوضا عنه، وكان من الجيش أذية كثيرة للناس في الطريق، وتعرضوا
للحريم حتى هجموا على النساء في الحمامات، فخلصهن منهم العامة بعد جهد.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
دخول الملك طغرلبك على بنت الخليفة لما استقر السلطان ببغداد أرسل
وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل ابنته إلى دار المملكة فتمنع
الخليفة من ذلك وقال: إنكم إنما سألتم أن يعقد العقد فقط بحصول التشريف
والتزمتم لها بعود المطالبة، فتردد الناس في ذلك بين الخليفة والملك،
وأرسل الملك زيادة على النقد مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم،
وتحفا أخر، وأشياء لطيفة، فلما كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر زفت
السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة، فضربت لها السرادقات من دجلة إلى
دار المملكة، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها إلى الدار، فلما دخلت
أجلست على سرير مكلل بالذهب، وعلى وجهها برقع، ودخل الملك طغرلبك فوقف
بين يديها فقبل الارض، ولم تقم له ولم تره، ولم
يجلس حتى انصرف إلى صحن الدار، والحجاب والاتراك يرقصون هناك فرحا
وسرورا، وبعث لها مع الخاتون زوجة الخليفة عقدين فاخرين، وقطعة ياقوت
حمراء، كبيرة هائلة، ودخل من الغد فقبل الارض وجلس على سرير مكلل
بالفضة بإزائها ساعة، ثم خرج وأرسل لها جواهر كثيرة ثمينة وفرجية نسج
بالذهب مكلل بالحب، وما زال كذلك كل يوم يدخل ويقبل الارض ويجلس على
سرير بإزائها، ثم يخرج عنها ويبعث بالتحف والهدايا، ولم يكن منه إليها
شئ، مقدار سبعة إيام، ويمد كل يوم من هذه الايام السبعة سماطا هائلا،
وخلع في اليوم السابع على جميع الامراء، ثم عرض له
(12/109)
سفر واعتراه
مرض فاستأذن الخليفة في الانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد، ثم يعود
بها، فأذن له بعد تمنع شديد، وحزن عظيم، فخرج بها وليس معها من دار
الخلافة سوى ثلاث نسوة، برسم خدمتها، وقد تألمت والدتها لفقدها ألما
شديدا، وخرج السلطان وهو مريض مدنف مأيوس منه.
فلما كانت ليلة الاحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأنه توفي في
ثامن الشهر، فثار العيارون فقتلوا العميدي وسبعمائة من أصحابه، ونهبوا
الاموال، وجعلوا يأكلون ويشربون على القتلى نهارا، حتى انسلخ الشهر
وأخذت البيعة بعده لولد أخيه سليمان بن داود، وكان ظغرلبك قد نص عليه
وأوصى إليه، لانه كان قد تزوج بأمه، واتفقت الكلمة عليه، ولم يبق عليه
خوف إلا من جهة أخي سليمان، وهو الملك عضد الدولة ألب أرسلان، محمد بن
داود، فإن الجيش كانوا يميلون إليه، وقد خطب له أهل الجبل ومعه نظام
الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق وزيره، ولما رأى الكندري قوة أمره
خطب له بالري، ثم من بعده لاخيه سليمان بن داود.
وقد كان الملك طغرلبك حليما كثير الاحتمال، شديد الكتمان للسر، محافظا
على الصلوات، وعلى صوم الاثنين والخميس، مواظبا على لبس البياض، وكان
عمره يوم مات سبعين سنة، ولم يترك ولدا، وملك بحضرة القائم بأمر الله
سبع سنين وإحدى عشر شهرا، واثني عشر يوما، ولما مات اضطربت الاحوال
وانتقضت بعده جدا، وعاثت الاعراب في سواد بغداد وأرض العراق، ينهبون،
وتعذرت الزراعة إلا على المخاطرة، فانزعج الناس لذلك.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام، فهدمت قطعة من سور طرابلس.
وفيها وقع بالناس موتان بالجدري والفجأة، ووقع بمصر وباء شديد، كان
يخرج منها كل يوم ألف جنازة.
وفيها ملك الصليحي صاحب اليمن مكة، وجلب الاقوات إليها، وأحسن إلى
أهلها.
وفي أوائلها طلبت الست أرسلان زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عمها،
وذلك لما هجرها وبارت عنده، فبعثها مع الوزير الكندري إلى عمها، فلما
وصلت إليه كان مريضا مدنفا، فأرسل إلى الخليفة يعتب عليه في تهاونه
بها، فكتب الخليفة إليه ارتجالا: ذهبت شرتي وولى الغرام * وارتجاع
الشباب ما لا يرام أذهبت مني الليالي جديدا * والليالي يضعفن والايام
فعلى ما عهدته من شبابي * وعلى الغانيات مني السلام
وممن توفي فيها من الاعيان...
(12/110)
زهير بن علي بن
الحسن بن حزام (1) أبو نصر الحزامي، ورد بغداد وتفقه على الشيخ أبي
حامد الاسفراييني، وسمع بالبصرة سنن أبي داود على القاضي أبي عمر، وحدث
بالكثير، وكان يرجع إليه في الفتاوى، وحل المشكلات، وكانت وفاته بسرخس
فيها.
سعيد بن مروان صاحب آمد، ويقال إنه سم، فانتقم صاحب ميافارقين ممن سمه،
فقطعه قطعا.
الملك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق طغرلبك، كان أول ملوك
السلاجقة، وكان خيرا مصليا، محافظا على الصلاة في أول وقتها، يديم صيام
الاثنين والخميس، حليما عمن أساء إليه، كتوما للاسرار سعيدا في حركاته،
ملك في أيام مسعود بن محمود عامة بلاد خراسان، واستناب أخاه داود وأخاه
لامه إبراهيم بن ينال، وأولاد إخوته، على كثير من البلاد، ثم استدعاه
الخليفة إلى ملك بغداد
كما تقدم ذلك كله مبسوطا.
توفي في ثامن رمضان من هذه السنة، وله من العمر سبعون سنة، وكان له في
الملك ثلاثون سنة، منها في ملك العراق ثمان سنين إلا ثمانية عشر يوما.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة فيها قبض
السلطان ألب أرسلان على وزير عمه عميد الملك الكندري، وسجنه ببيته ثم
أرسل إليه من قتله، واعتمد في الوزارة على نظام الملك، وكان وزير صدق،
يكرم العلماء والفقراء، ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش (2)، وخرج عن
الطاعة، وأراد أخذ ألب أرسلان، خاف منه ألب أرسلان فقال له الوزير:
أيها الملك لا تخف، فإني قد استدمت لك جندا ما بارزوا عسكرا إلا كسروه،
كائنا من كان.
قال له الملك: من هم ؟ قال: جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم
وخلواتهم، وهم العلماء والفقراء الصلحاء.
فطابت نفس الملك بذلك، فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أن كسره، وقتل
خلقا من جنوده، وقتل قتلمش في المعركة، واجتمعت الكلمة على
__________
(1) في الكامل 10 / 30: زهير بن الحسين بن علي، أبو نصر الجدامي.
(2) في العبر لابن خلدون 3 / 468: قطلمش، وفي تاريخ أبي الفداء 2 /
184: قطلومش.
(*)
(12/111)
ألب أرسلان.
وفيها أرسل ولده ملكشاه ووزيره نظام الملك هذا في جنود عظيمة إلى بلاد
الكرج (1)، ففتحوا حصونا كثيرة، وغنموا أموالا جزيلة، وفرح المسلمون
بنصرهم، وكتب كتاب ولده على ابنة الخان الاعظم صاحب ما وراء النهر،
وزفت إليه، وزوج ابنه الآخر (2) بابنة صاحب غزنة، واجتمع شمل الملكين
السلجوقي والمحمودي وفيها أذن ألب أرسلان لابنة الخليفة في الرجوع إلى
أبيها، وأرسل معها بعض القضاة والامراء فدخلت بغداد في تجمل عظيم، وخرج
الناس لينظروا إليها، فدخلت ليلا، ففرح الخليفة وأهلها بذلك، وأمر
الخليفة بالدعاء لالب أرسلان على المنابر في الخطب، فقيل في الدعاء:
اللهم وأصلح السلطان المعظم، عضد الدولة، وتاج الملة، ألب أرسلان أبا
شجاع محمد بن داود، ثم أرسل الخليفة إلى الملك بالخلع والتقليد، مع
الشريف نقيب النقباء، طراد بن محمد، وأبي محمد التميمي،
وموفق الخادم واستقر أمر السلطان ألب أرسلان على العراق.
قال ابن الجوزي: وفي ربيع الاول شاع في بغداد أن قوما من الاكراد خرجوا
يتصيدون فرأوا في البرية خياما سودا، سمعوا بها لطما شديدا، وعويلا
كثيرا، وقائلا يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم به عليه،
ولم يقم له مأتم فيه.
قال: فخرج النساء العواهر من حريم بغداد إلى المقابر يلطمن ثلاثة أيام،
ويخرقن ثيابهن وينشرن شعورهن، وخرج رجال من الفساق يفعلون ذلك، وفعل
هذا بواسط وخوزستان وغيرها من البلاد، قال: وهذا من الحمق لم ينقل
مثله.
قال ابن الجوزي: وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبد
الصمد على أبي علي بن الوليد، المدرس للمعتزلة فسبوه وشتموه لامتناعه
من الصلاة في الجامع، وتدريسه للناس بهذا المذهب، وأهانوه وجروه، ولعنت
المعتزلة في جامع المنصور، وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن
المعتزلة.
وفي شوال ورد الخبر أن السلطان غزا بلدا عظيما فيه ستمائة ألف دنليز،
وألف بيعة ودير، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر خمسمائة ألف إنسان.
وفي ذي القعدة حدث بالناس وباء شديد ببغداد وغيرها من بلاد العراق.
وغلت أسعار الادوية، وقل التمر هندي، وزاد الحر في تشارين، وفسد
الهواء، وفي هذا الشهر خلع على أبي الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد
الله العلوي بنقابة الطالبيين، وولاية الحج والمظالم، ولقب بالطاهر ذي
المناقب، وقرئ تقليده في الموكب.
وحج أهل العراق في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) من الكامل 10 / 38 وفي الاصل والعبر 3 / 469: الكرخ.
(2) ملكشاه تزوج بابنة خاقان، وارسلانشاه بابنة صاحب غزنة (الكامل -
العبر).
(*)
(12/112)
ابن حزم
الظاهري هو الامام الحافظ العلامة، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن
حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معد بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي
سفيان صخر بن حرب الاموي، أصل جده
من فارس، أسلم وخلف المذكور، وهو أول من دخل بلاد المغرب منهم، وكانت
بلدهم قرطبة، فولد ابن حزم هذا بها في سلخ رمضان، سنة أربع وثمانين
وثلثمائة، فقرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية، وبرز فيها وفاق
أهل زمانه، وصنف الكتب المشهورة، يقال إنه صنف أربعمائة مجلد في قريب
من ثمانين ألف ورقة، وكان أديبا طبيبا شاعرا فصيحا، له في الطب والمنطق
كتب، وكان من بيت وزارة ورياسة، ووجاهة ومال وثروة، وكان مصاحبا للشيخ
أبي عمر بن عبد البر النمري، وكان مناوئا للشيخ أبي الوليد سليمان بن
خلف الباجي، وقد جرت بينهما مناظرات يطول ذكرها، وكان ابن حزم كثير
الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه، فأورثه ذلك حقدا في قلوب أهل زمانه،
وما زالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده، حتى كانت وفاته
في قرية له في شعبان من هذه السنة وقد جاوز التسعين (1).
والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريا حائرا في الفروع، لا يقول: بشئ من
القياس لا الجلي ولا غيره، وهذا الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ
كبيرا في نظره وتصرفه وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الاصول،
وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لانه كان أولا قد تضلع من علم المنطق،
أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، ذكره ابن ماكولا وابن
خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات.
عبد الواحد بن علي بن برهان أبو القاسم النحوي، كان شرس الاخلاق جدا،
لم يلبس سراويل قط ولا غطى رأسه ولم يقبل عطاء لاحد، وذكر عنه أنه كان
يقبل المردان من غير ريبة.
قال ابن عقيل: وكان على مذهب مرجئة المعتزلة وينفي خلود الكفار في
النار، ويقول: دوام العقاب في حق من لا يجوز عليه التشفي لا وجه له، مع
ما وصف الله به نفسه من الرحمة، ويتأول قوله تعالى (خالدين فيها أبدا)
[ التوبة: 100 ] أي أبدا من الآباد.
قال ابن الجوزي: وقد كان ابن برهان يقدح في أصحاب أحمد ويخالف اعتقاد
المسلمين لانه قد خالف الاجماع، ثم ذكر كلامه في هذا وغيره والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين واربعمائة فيها سار
جماعة من العراق إلى الحج بخفارة، فلم يمكنهم المسير فعدلوا إلى الكوفة
ورجعوا.
__________
(1) كذا بالاصل، وهو خطأ، والصواب " السبعين " إذا نظرنا إلى تاريخ
ولادته، وفي تذكرة الحفاظ / 1150: عاش اثنتين وسبعين سنة إلا أشهرا.
وذكر الذهبي وفاته سنة 457 ه.
(*)
(12/113)
وفي دي الحجة
منها شرع في بناء المدرسة النظامية، ونقض لاجلها دور كثيرة من مشرعة
الزوايا، وباب البصرة وفيها كانت حروب كثيرة بين تميم بن المعز بن
باديس (1)، وأولاد حماد، والعرب والمغاربة بصنهاجة وزناتة.
وحج بالناس من بغداد النقيب أبو الغنائم.
وفيها كان مقتل عميد الملك الكندري، وهو منصور بن محمد أبو نصر
الكندري، وزير طغرلبك، وكان مسجونا سنة تامة، ولما قتل حمل فدفن عند
أبيه بقرية كندرة (2)، من عمل طريثيث وليست بكندرة التي هي بالقرب من
قزوين.
واستحوذ السلطان على أمواله وحواصله، وقد كان ذكيا فصيحا شاعرا، لديه
فضائل جمة، حاضر الجواب سريعه.
ولما أرسله طغرلبك إلى الخليفة يطلب ابنته، وامتنع الخليفة من ذلك
وأنشد متمثلا بقول الشاعر * ما كل ما يتمنى المرء يدركه * فأجابه
الوزير تمام قوله * تجري الرياح بما لا تشتهي السفن * فسكت الخليفة
وأطرق.
قتل عن نيف وأربعين سنة.
ومن شعره قوله: إن كان في الناس ضيق عن منافستي (3) * فالموت قد وسع
الدنيا على الناس مضيت والشامت المغبون يتبعني * كل لكاس المنايا شارب
حاسي وقد بعثه للملك طغرلبك يخطب له امرأة خوارزم شاه فتزوجها هو،
فخصاه الملك وأمره على عمله فدفن ذكره بخوارزم، وسفح دمه حين قتل بمرو
الروذ، ودفن جسده بقريته، وحمل رأسه فدفن بنيسابور، ونقل قحف رأسه إلى
كرمان، وأنا أشهد أن الله جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم أين كانوا،
وحيث كانوا، وعلى أي صفة كانوا سبحانه وتعالى.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في يوم
عاشوراء أغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن على الحسين، كما
جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة المخالفة، فحين وقع ذلك
أنكرته العامة، وطلب الخليفة أبا
الغنائم وأنكر عليه ذلك.
فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به، وأنه حين علم أزاله، وتردد أهل الكرخ إلى
الديوان يعتذرون من ذلك، وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع.
قال ابن الجوزي: في ربيع الاول ولد بباب الازج صبية لها رأسان ووجهان
ورقبتان وأربع أيد، على بدن كامل ثم ماتت.
قال: وفي جمادى الآخرة كانت بخراسان زلزلة مكثت أياما، تصدعت منها
__________
(1) من الكامل 10 / 45 والبيان المغرب 1 / 298، وفي الاصل: تميم بن
العزيز وباديس.
(2) في معجم البلدان 4 / 482: كندر، وإليها ينسب عميد الملك أبو نصر
محمد بن أبي صالح منصور بن محمد الكندري الجراحي قتل سنة 459 ه.
(3) في الكامل 10 / 32 مناقشتي.
(*)
(12/114)
الجبال، وهلك
جماعة، وخسف بعدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء وأقاموا هنالك، ووقع
حريق بنهر معلى (1) فاحترق مائة دكان وثلاثة دور، وذهب للناس شئ كثير،
ونهب بعضهم بعضا.
قال ابن الجوزي: وفي شعبان وقع قتال بدمشق فأحرقوا دارا كانت قريبة من
الجامع، فاحترق جامع دمشق.
كذا قال ابن الجوزي: والصحيح المشهور أن حريق جامع دمشق إنما هو في
ليلة النصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة بعد ثلاث سنين مما قال،
وأن غلمان الفاطميين اقتتلوا مع غلمان العباسيين فألقيت نار بدار
الامارة، وهي الخضراء، فاحترقت وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع فسقطت
سقوفه، وبادت زخرفته، وتلف رخامه، وبقي كأنه خربة، وبادت الخضراء فصارت
كوما من تراب بعد ما كانت في غاية الاحكام والاتقان، وطيب الفناء،
ونزهة المجالس، وحسن المنظر، فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرداءة
مكانها إلا سفلة الناس وأسقاطهم، بعد ما كانت دار الخلافة والملك
والامارة، منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان، وأما الجامع الاموي فإنه لم
يكن على وجه الارض شئ أحسن منه ولا أبهى منظرا، إلى أن احترق فبقي
خرابا مدة طويلة ثم شرع الملوك في تجديده وترميمه، حتى بلط في زمن
العادل أبي بكر بن أيوب، ولم يزالوا في تحسين معالمه إلى زماننا هذا،
فتماثل وهو بالنسبة إلى حاله الاول كلا شئ، ولا زال التحسين فيه إلى
أيام الامير سيف الدين
بتكنزين عبد الله الناصري، في حدود سنة ثلاث وسبعمائة، وما قبلها وما
بعدها بيسير.
وفيها رخصت الاسعار ببغداد رخصا كثيرا، ونقصت دجلة نقصا بينا.
وفيها أخذ الملك ألب أرسلان العهد بالملك من بعده لولده ملكشاه، ومشى
بين يديه بالغاشية والامراء يمشون بين يديه، وكان يوما مشهودا.
وحج بالناس فيها نور الهدى أبو طالب الحسين بن نظام الحضرتين الزينبي
وجاور بمكة.
وفيها توفي من الاعيان...الحافظ
الكبير أبو بكر البيهقي أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو
بكر البيهقي، له التصانيف التي سارت بها الركبان إلى سائر الامصار، ولد
سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وكان أوحد أهل زمانه في الاتقان والحفظ
والفقه والتصنيف، كان فقيها محدثا أصوليا، أخذ العلم عن الحاكم أبي عبد
الله النيسابوري، وسمع على غيره شيئا كثيرا، وجمع أشياء كثيرة نافعة،
لم يسبق إلى مثلها، ولا يدرك فيها، منها كتاب السنن الكبير، ونصوص
الشافعي كل في عشر مجلدات، والسنن الصغير،
__________
(1) من الكامل ومعجم البلدان، وفي الاصل " يعلى ".
وقيل: المعلى، نسبة إلى المعلى بن طريف مولى المهدي وكان من كبار قواد
الرشيد.
(*)
(12/115)
والآثار،
والمدخل، والآداب وشعب الايمان، والخلافيات، ودلائل النبوة، والبعث
والنشور، وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار المفيدة، التي لا تسامى
ولا تدانى، وكان زاهدا متقللا من الدنيا، كثير العبادة والورع، توفي
بنيسابور، ونقل تابوته إلى بيهق في جمادى الاولى منها.
الحسن بن غالب ابن علي بن غالب بن منصور صعلوك، أبو علي التميمي، ويعرف
بابن المبارك المقري، صحب ابن سمعون، وقرأ القرآن على حروف أنكرت عليه،
وجرب عليه الكذب، إما عمدا وإما خطأ، واتهم في رواية كثيرة، وكان أبو
بكر القزويني ممن ينكر عليه، وكتب عليه محضر بعدم الاقراء
بالحروف المنكرة، قال أبو محمد السمرقندي: كان كذابا، توفي فيها عن
ثنتين وثمانين سنة، ودفن عند إبراهيم الحربي.
قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن أبي الفتح نصر بن محمد العمري المروزي، ثم
غلب عليه الحديث واشتهر به، ورحل في طلبه.
القاضي أبو يعلى بن الفرا الحنبلي محمد بن الحسن (1) بن محمد بن خلف بن
أحمد الفرا القاضي، أبو يعلى شيخ الحنابلة، وممهد مذهبهم في الفروع،
ولد في محرم سنة ثمانين وثلثمائة، وسمع الحديث الكثير، وحدث عن ابن
حبابة.
قال ابن الجوزي: وكان من سادات العلماء الثقات، وشهد عند ابن ماكولا
وابن الدامغاني فقبلاه، وتولى النظر في الحكم بحريم الخلافة، وكان
إماما في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرس وأفتى
سنين، وانتهت إليه رياسة المذهب، وانتشرت تصانيفه وأصحابه، وجمع
الامامة والفقه والصدق، وحسن الخلق، والتعبد والتقشف والخشوع، وحسن
السمت، والصمت عما لا يعني توفي في العشرين من رمضان منها عن ثمان
وسبعين سنة، واجتمع في جنازته القضاة والاعيان، وكان يوما حارا، فأفطر
بعض من اتبع جنازته، وترك من البنين عبيد الله أبا القاسم، وأبا الحسين
وأبا حازم، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك ؟ فقال: رحمني
وغفر لي وأكرمني، ورفع منزلتي، وجعل يعد ذلك بأصبعه، فقال: بالعلم ؟
فقال: بل بالصدق.
ابن سيده صاحب المحكم في اللغة، أبو الحسين (2) علي بن إسماعيل المرسي
(3)، كان إماما حافظا في
__________
(1) في الكامل 10 / 52 وتذكرة الحفاظ / 1135: الحسين.
انظر ترجمته في العبر 3 / 243 المنتظم 8 / 243 الوافي 3 / 7 تاريخ
بغداد 2 / 256 المنهج الاحمد 2 / 128.
(2) في ابن خلكان 3 / 330 وشذرات الذهب 3 / 305: أبو الحسن.
(انظر مختصر أخبار البشر 2 / 186).
(*)
(12/116)
اللغة، وكان
ضرير البصر، أخذ علم العربية واللغة عن أبيه، وكان أبوه ضريرا أيضا،
واشتغل على أبي العلاء صاعد البغدادي، وله المحكم في مجلدات عديدة، وله
شرح الحماسة في ست
مجلدات، وغير ذلك، وقرأ على الشيخ أبي عمر الطملنكي كتاب الغريب لابي
عبيد سرها من حفظه، فتعجب الناس لذلك، وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في
الكتاب، فسمع الناس بقراءته من حفظه، توفي في ربيع الاول (1) منها وله
ستون سنة، وقيل إنه توفي في سنة ثمان وأربعين، والاول أصح، والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة فيها بنى
أبو سعيد (2) المستوفي الملقب بشرف الملك، مشهد الامام أبي حنيفة
ببغداد، وعقد عليه قبة، وعمل بإزائه مدرسة، فدخل أبو جعفر بن البياضي
زائرا لابي حنيفة فأنشد: ألم تر أن العلم كان مضيعا (3) * فجمعه هذا
المغيب في اللحد كذلك كانت هذه الارض ميتة * فأنشرها جود العميد أبي
السعد وفيها هبت ريح حارة فمات بسببها خلق كثير، وورد أن ببغداد تلف
شجر كثير من الليمون والاترج.
وفيها احترق قبر معروف الكرخي، وكان سببه أن القيم طبخ له ماء الشعير
لمرضه فتعدت النار إلى الاخشاب فاحترق المشهد.
وفيها وقع غلاء وفناء بدمشق وحلب وحران، وأعمال خراسان بكمالها، ووقع
الفناء في الدواب: كانت تنتفخ رؤوسها وأعينها حتى كان الناس يأخذون حمر
الوحش بالايدي، وكانوا يأنفون من أكلها.
قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع العميد
أبو سعد الناس ليحضروا الدرس بالنظامية ببغداد، وعين لتدريسها ومشيختها
الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فلما تكامل اجتماع الناس وجاء أبو إسحاق
ليدرس لقيه فقيه شاب فقال: يا سيدي تذهب تدرس في مكان مغصوب ؟ فامتنع
أبو إسحاق من الحضور ورجع إلى بيته، فأقيم الشيخ أبو نصر الصباغ فدرس،
فلما بلغ نظام الملك ذلك تغيظ على العميد وأرسل إلى الشيخ أبي إسحاق
فرده إلى التدريس بالنظامية، في ذي الحجة من هذه السنة، وكان لا يصلي
فيها مكتوبة، بل كان يخرج إلى بعض المساجد فيصلي، لما بلغه من أنها
مغصوبة، وقد كان مدة تدريس ابن الصباغ فيها عشرين يوما، ثم
__________
(3) المرسي نسبة إلى مدينة مرسية وهي مدينة في شرق الاندلس.
(1) في ابن خلكان: ربيع الآخر يوم الاحد لاربع بقين منه.
وفي شذرات الذهب: سادس عشر جمادى الآخرة.
(2) في الكامل 10 / 54: أبو سعد.
(3) في الكامل: مشتتا.
(*)
(12/117)
عاد أبو إسحاق
إليها.
وفي ذي القعدة من هذه السنة قتل الصليحي أمير اليمن وصاحب مكة قتله بعض
أمراء اليمن، وخطب للقائم بأمر الله العباسي.
وفيها حج بالناس أبو الغنائم النقيب.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد
بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطرسوسي، ويقال له العراقي (1)، لظرفه
وطول مقامه بها، سمع الحديث من أبي طاهر المخلص، وتفقه على أبي محمد
الباقي، ثم على الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وولي قضاء بلدة طرسوس وكان
من الفقهاء الفضلاء المبرزين.
ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة
قال ابن الجوزي: في جمادى الاولى كانت
زلزلة بأرض فلسطين، أهلكت بلد الرملة، ورمت شراريف من مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولحقت وادي الصفر وخيبر، وانشقت الارض عن
كنوز كثيرة من المال، وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة، وجاء كتاب بعض
التجار فيه ذكر هذه الزلزلة وذكر فيه أنها خسفت الرملة جميعا حتى لم
يسلم منها إلا داران فقط، وهلك منها خمس عشرة (2) ألف نسمة، وانشقت
صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغار البحر مسيرة يوم، وساخ في
الارض وظهر في مكان الماء أشياء من جواهر وغيرها، ودخل الناس في أرضه
يلتقطون، فرجع عليهم فأهلك كثيرا منهم، أو أكثرهم.
وفي يوم النصف من جمادى الآخرة قرئ الاعتقاد القادري الذي فيه مذهب أهل
السنة، والانكار على أهل البدع، وقرأ أبو مسلم الكجي البخاري المحدث
كتاب التوحيد لابن خزيمة على الجماعة الحاضرين.
وذكر بمحضر من الوزير ابن جهير وجماعة الفقهاء وأهل الكلام، واعترفوا
بالموافقة، ثم قرئ الاعتقاد القادري على الشريف أبي جعفر بن المقتدي
بالله بباب
البصرة، وذلك لسماعه له من الخليفة القادر بالله مصنفه.
وفيها عزل الخليفة وزيره أبا نصر محمد بن محمد بن جهير، الملقب فخر
الدولة، وبعث إليه يعاتبه في أشياء كثيرة، فاعتذر منها وأخذ في الترفق
والتذلل، فأجيب بأن يرحل إلى أي جهة شاء، فاختار ابن مزيد فباع أصحابه
أملاكهم وطلقوا نساءهم وأخذ أولاه وأهله وجاء ليركب في سفينة لينحدر
منها إلى الحلة (2)، والناس يتباكون حوله لبكائه، فلما اجتاز بدار
الخلافة قبل الارض دفعات
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه 10 / 56 أبو علي الطوسي، قاضيها، وهو
عمر بن إسماعيل بن محمد.
(2) في رواية ابن الاثير في تاريخه 10 / 57: خمسة وعشرون ألف نسمة.
(3) في الكامل 10 / 57: الفلوجة.
(*)
(12/118)
والخليفة في
الشباك، والوزير يقول يا أمير المؤمنين ارحم شيبتي وغربتي وأولادي،
فأعيد إلى الوزارة بشفاعة دبيس بن مزيد، في السنة الآتية، وامتدحه
الشعراء، وفرح الناس برجوعه إلى الوزارة وكان يوما مشهودا.
وفيها توفي من الاعيان...عبد الملك
بن محمد بن يوسف بن منصور الملقب بالشيخ الاجل، كان أوحد زمانه بالامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والمبادرة إلى فعل الخيرات، واصطناع
الايادي عند أهلها، من أهل السنة، مع شدة القيام على أهل البدع ولعنهم،
وافتقاد المستورين بالبر والصدقة، وإخفاء ذلك جهده وطاقته، ومن غريب ما
وقع له أنه كان يصل إنسانا في كل يوم بعشرة دنانير، كان يكتب بها معه
إلى ابن رضوان، فلما توفي الشيخ جاء الرجل إلى ابن رضوان فقال: ادفع
إلى ما كان يصرف لي الشيخ، فقال له ابن رضوان: إنه قد مات ولا أصرف لك
شيئا، فجاء الرجل إلى قبر الشيخ الاجل فقرأ شيئا من القرآن ودعا له
وترحم عليه، ثم التفت فإذا هو بكاغد فيه عشرة دنانير، فأخذها وجاء بها
إلى ابن رضوان فذكر له ما جرى له، فقال: هذه سقطت مني اليوم عند قبره
فخذها ولك عندي في كل يوم مثلها.
توفي في نصف المحرم منها عن خمس
وستين سنة، وكان يوم موته يوما مشهودا، حضره خلق لا يعلم عددهم إلا
الله عزوجل، فرحمه الله تعالى.
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة، ودفن في مشهد علي، وكان
مجاورا به حين أحرقت داره بالكرخ، وكتبه، سنة ثمان وأربعين إلى محرم
هذه السنة فتوفي ودفن هناك.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة في ليلة
النصف من شعبان منها كان حريق جامع دمشق، وكان سببه أن غلمان
الفاطميين والعباسيين اختصموا فألقيت نار بدار الملك، وهي الخضراء
المتاخمة للجامع من جهة القبلة، فاحترقت، وسرى الحريق إلى الجامع فسقطت
سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة، وتغيرت معالمه، وتقلعت الفسيفساء التي
كانت في أرضه، وعلى جدرانه، وتبدلت بضدها، وقد كانت سقوفه مذهبة كلها،
والجملونات من فوقها، وجدرانه مذهبة ملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا،
بحيث إن الانسان إذا أراد أن يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع
مصورا كهيئته، فلا يسافر إليه ولا يعنى في
(12/119)
طلبه، فقد وجده
من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شرقا وغربا، كل إقليم في
مكان لائق به، ومصور فيه كل شجرة مثمرة وغير مثمرة، مصور مشكل في
بلدانه وأوطانه، والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن، وعلى
أصول الحيطان إلى مقدار الثلث منها ستور، وباقي الجدران بالفصوص
الملونة، وأرضه كلها بالفصوص، ليس فيها بلاط، بحيث أنه لم يكن في
الدنيا بناء أحسن منه، لا قصور الملوك ولا غيرها، ثم لما وقع هذا
الحريق فيه تبدل الحال الكامل بضده، وصارت أرضه طينا في زمن الشتاء،
وغبارا في زمن الصيف، محفورة مهجورة، ولم يزل كذلك حتى بلط في زمن
العادل أبي بكر بن أيوب، بعد الستمائة سنة من الهجرة، وكان جميع ما سقط
منه من الرخام والفصوص والاخشاب وغيرها، مودعا في المشاهد الاربعة، حتى
فرغها من ذلك كمال الدين الشهر زوري، في زمن العادل نور الدين محمود بن
زنكي، حين ولاه نظره مع القضاء ونظر الاوقاف
كلها، ونظر دار الضرب وغير ذلك، ولم تزل الملوك تجدد في محاسنه إلى
زماننا هذا، فتقارب حاله في زمن تنكيز نائب الشام، وقد تقدم أن ابن
الجوزي أرخ ما ذكرنا في سنة ثمان وخمسين، وتبعه ابن الساعي أيضا في هذه
السنة، وكذلك شيخنا الذهبي مؤرخ الاسلام، وغير واحد.
والله أعلم.
وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفا بن عقيل، وهو من كبرائهم،
بتردده إلى أبي علي بن الوليد المتكلم المعتزلي، واتهموه بالاعتزال،
وإنما كان يتردد إليه ليحيط علما بمذهبه، ولكن شرقه الهوى فشرق شرقة
كادت روحه تخرج معها، وصارت فيه نزعة منه، وجرت بينه وبينهم فتنة طويلة
وتأذى بسببها جماعة منهم، وما سكنت الفتنة بينهم إلى سنة خمس وستين، ثم
اصطلحوا فيما بينهم، بعد اختصام كبير.
وفيها زادت دجلة على إحدى وعشرين ذراعا حتى دخل الماء مشهد أبي حنيفة.
وفيها ورد الخبر بأن الافشين دخل بلاد الروم حتى انتهى إلى غورية، فقتل
خلقا وغنم أموالا كثيرة.
وفيها كان رخص عظيم في الكوفة حتى بيع السمك كل أربعين رطلا بحبة.
وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي.
وممن توفي فيها من
الاعيان...الفوراني صاحب الابانة أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن
أحمد بن فوران الفوراني (1)، المروزي، أحد أئمة الشافعية، ومصنف
الابانة التي فيها من النقول الغريبة، والاقوال والاوجه التي لا توجد
إلى فيها،
__________
(1) ذكر ابن الاثير في تاريخه وفاتة سنة 463 ه (10 / 68).
(*)
(12/120)
كان بصيرا
بالاصول والفروع، أخذ الفقه عن القفال، وحضر إمام الحرمين عنده وهو
صغير، فلم يلتفت إليه، فصار في نفسه منه، فهو يخطئه كثيرا في النهاية.
قال ابن خلكان: فمتى قال في النهاية: وقال بعض المصنفين كذا وغلط في
ذلك وشرع في الوقوع فيه فمراده أبو القاسم الفوراني.
توفي الفوراني في رمضان منها بمرو، عن ثلاث وسبعين سنة، وقد كتب تلميذه
أبو سعد عبد
الرحمن بن محمد المأمون المعري المدرس بالنظامية بعد أبي إسحاق وقبل
ابن الصباغ، وبعده أيضا، كتابا على الابانة، فسماه تتمة الابانة، انتهى
فيه إلى كتاب الحدود.
ومات قبل إتمامه، فتممه أسعد العجلي وغيره، لم يلحقوا شأوه ولا حاموا
حوله، وسموه تتمة التتمة.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة قال
ابن الجوزي: فمن الحوادث فيها أنه كان على ثلاث ساعات في يوم الثلاثاء
الحادي عشر من جمادى الاولى، وهو ثامن عشرين أذار، كانت زلزلة عظيمة
بالرملة وأعمالها، فذهب أكثرها وانهدم سورها، وعم ذلك بيت المقدس
ونابلس، وانخسفت إيليا، وجفل البحر حتى انكشفت أرضه، ومشى ناس فيه ثم
عاد وتغير، وانهدم إحدى زوايا جامع مصر، وتبعت هذه الزلزلة في ساعتها
زلزلتان أخريان.
وفيها توجه ملك الروم من قسطنطينية إلى الشام في ثلثمائة ألف مقاتل،
فنزل على منبج وأحرق القرى ما بين منبج إلى أرض الروم، وقتل رجالهم
وسبى نساءهم وأولادهم، وفرع المسلمون بحلب وغيرها منه فزعا عظيما،
فأقام ستة عشر يوما ثم رده الله خاسئا وهو حسير، وذلك لقلة ما معهم من
الميرة وهلاك أكثر جيشه بالجوع، ولله الحمد والمنة.
وفيها ضاقت النفقة على أمير مكة فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب
وباب الكعبة، فضرب ذلك دراهم ودنانير، وكذا فعل صاحب المدينة بالقناديل
التي في المسجد النبوي.
وفيها كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الجيف والميتات والكلاب، فكان يباع
الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب فلم
يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس، بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل
والدواب، ونزل الوزير يوما عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع
فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها فأخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا
وعظامهم بادية، قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها، وظهر على رجل يقتل
الصبيان والنساء ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم، فقتل وأكل لحمه،
وكانت الاعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد، لا يتجاسرون
يدخلون لئلا يخطف وينهب منهم، وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهارا،
وإنما يدفنه ليلا خفية، لئلا ينبش فيؤكل.
واحتاج صاحب مصر حتى باع أشياء من نفائس ما عنده، من ذلك إحدى عشر ألف
درع،
وعشرون ألف سيف محلى، وثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف
قطعة من الديباج
(12/121)
القديم، وبيعت
ثياب النساء والرجال وغير ذلك بأرخص ثمن، وكذلك الاملاك وغيرها، وقد
كان بعض هذه النفائس للخليفة، مما نهب من بغداد في وقعة البساسيري.
وفيها وردت التقادم من الملك ألب أرسلان إلى الخليفة.
وفيها اسم ولي العهد ابن الخليفة على الدنانير والدراهم، ومنع التعامل
بغيرها، وسمي المضروب عليه الاميري.
وفيها ورد كتاب صاحب مكة إلى الملك ألب أرسلان وهو بخراسان يخبره
بإقامة الخطبة بمكة للقائم بأمر الله وللسلطان، وقطع خطبة المصريين،
فأرسل إليه بثلاثين ألف دينار وخلعة سنية، وأجرى له في كل سنة عشرة
آلاف دينار.
وفيها تزوج عميد الدولة بن جهير بابنة نظام الملك بالري.
وحج بالناس أبو الغنائم العلوي، وفيها توفي
من الاعيان والمشاهير: الحسن بن علي ابن محمد أبو الجوائز الواسطي، سكن
بغداد دهرا طويلا، وكان شاعرا أديبا ظريفا، ولد سنة ثنتين وخمسين
وثلثمائة، ومات في هذه السنة عن مائة وعشر سنين.
ومن مستجاد شعره قوله: واحسرتي من قولها * قد خان عهدي ولها وحق من
صيرني * وقفا عليها ولها ما خطرت بخاطري * إلا كستني ولها محمد بن أحمد
بن سهل المعروف بابن بشران النحوي الواسطي، ولد سنة ثمانين وثلثمائة،
وكان عالما بالادب، وانتهت إليه الرحلة في اللغة، وله شعر حسن، فمنه
قوله: يا شائدا للقصور مهلا * أقصر فقصر الفتى الممات لم يجتمع شمل أهل
قصر * إلا قصاراهم (1) الشتات وإنما العيش مثل ظل * منتقل ماله ثبات
وقوله: ودعتهم ولي الدنيا مودعة * ورحت ما لي سوى ذكراهم وطر وقلت يا
لذتي بيني لبينهم * كأن صفو حياتي بعدهم كدر
__________
(1) في الوافي 2 / 82: وقصراهم.
(*)
(12/122)
لولا تعلل قلبي
بالرجاء لهم * ألفيته إن حدوا بالعيس ينفطر يا ليت عيسهم يوم النوى
نحرت * أوليتها للضواري بالفلا جزر يا ساعة البين أنت الساعة اقتربت *
يا لوعة البين أنت النار تستعر وقوله: طلبت صديقا في البرية كلها *
فأعيا طلابي أن أصيب صديقا بلى من سمي بالصديق مجازه * ولم يك في معنى
الوداد صدوقا فطلقت ود العالمين ثلاثة * وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا ثم
دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة وفيها أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل
أمثال الجبال من الروم والكرج (1) والفرنج، وعدد عظيم وعدد، ومعه خمسة
وثلاثون ألفا من البطارقة، مع كل بطريق مائتا ألف فارس، ومعه من الفرنج
خمسة وثلاثون ألفا، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية، خمسة عشر
ألفا، ومعه مائة ألف نقاب وحفار، وألف روزجاري، ومعه أربعمائة عجلة
تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والغرادات
والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رحل، ومن عزمه قبحه الله أن
يبيد الاسلام وأهله، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد، واستوصى
نائبها بالخليفة خيرا، فقال له: ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا، ثم إذا
استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة،
فاستعادوه من أيدي المسلمين، والقدر يقول: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم
يعمهون) [ الحجر: 72 ] فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من
عشرين ألفا (2)،
بمكان يقال له الزهوة، في يوم الاربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف
السلطان من كثرة جند ملك الروم (3)، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن
عبد الملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون
الخطباء يدعون للمجاهدين، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه
الفتيان، نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عزوجل، ومرغ وجهه في التراب
ودعا الله واستنصره، فأنزل نصره على المسلمين، ومنحهم أكتافهم فقتلوا
منهم خلقا كثيرا، وأسر ملكهم
__________
(1) من الكامل 10 / 65، وفي الاصل: والكرخ.
تحريف.
وفي شذرات الذهب 3 / 311: الكزج بالزاي والجيم..(2) في الكامل 10 / 65:
خمسة عشر ألف فارس (العبر 5 / 4).
(3) قال ابن الاثير في تاريخه: فلما تقارب العسكران، أرسل السلطان إلى
ملك الروم يطلب منه المهادنة فقال: لا هدنة إلا في الري، فانزعج
السلطان لذلك (10 / 65 ومختصر أخبار البشر 2 / 187 وتاريخ ابن الوردي 1
/ 563).
(*)
(12/123)
أرمانوس، أسره
غلام رومي، فلما أوقف بين يدي الملك ألب أرسلان ضربه بيده ثلاث مقارع
وقال: لو كنت أنا الاسير بين يديك ما كنت تفعل ؟ قال: كل قبيح، قال:
فما ظنك بي ؟ فقال: إما أن تقتل وتشهرني في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ
الفداء وتعيدني.
قال: ما عزمت على غير العفو والفداء.
فافتدى نفسه منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار.
فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبل الارض بين يديه، وقبل الارض
إلى جهة الخليفة إجلالا وإكراما، وأطلق له الملك عشرة آلاف دينار
ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخا، وأرسل معه جيشا
يحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول
الله، فلما انتهى إلى بلاده وجد الروم قد ملكوا عليهم غيره، فأرسل إلى
السلطان يعتذر إليه، وبعث من الذهب والجواهر ما يقارب ثلاثمائة ألف
دينار وتزهد ولبس الصوف ثم استغاث بملك الارمن فأخذه وكحله وأرسله إلى
السلطان يتقرب إليه بذلك.
وفيها خطب محمود بن مرداس للقائم وللسلطان ألب أرسلان، فبعث إليه
الخليفة بالخلع
والهدايا والتحف، والعهد مع طراد.
وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي، وخطب بمكة للقائم، وقطعت خطبة
المصريين منها، وكان يخطب لهم فيها من نحو مائة سنة، فانقطع ذلك.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن
علي ابن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد مشاهير
الحفاظ، وصاحب تاريخ بغداد وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، نحو من
ستين مصنفا، ويقال بل مائة مصنف.
فالله أعلم.
ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة، وقيل سنة ثنتين وتسعين، وأول سماعه سنة
ثلاث وأربعمائة، ونشأ ببغداد، وتفقه على أبي طالب الطبري وغيره من
أصحاب الشيخ أبي حامد الاسفراييني، وسمع الحديث الكثير، ورحل إلى
البصرة ونيسابور وأصبهان وهمذان والشام والحجاز، وسمي الخطيب لانه كان
يخطب بدرب ريحان، وسمع بمكة على القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة
القضاعي، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام، ورجع إلى
بغداد وحظي عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة، ولما ادعى اليهود الخيابرة
أن معهم كتابا نبويا فيه إسقاط الجزية عنهم أوقف ابن مسلمة الخطيب على
هذا الكتاب.
فقال: هذا كذب، فقال له: وما الدليل على كذبه ؟ فقال: لان فيه شهادة
معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر، وقد كانت خيبر في سنة سبع
من الهجرة، وإنما أسلم معاوية يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد
مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس.
فأعجب الناس ذلك.
وقد سبق الخطيب إلى هذا النقل، سبقه محمد بن جرير كما ذكرت في مصنف
مفرد، ولما وقعت فتنة البساسيري ببغداد سنة خمسين خرج الخطيب إلى الشام
فأقام
(12/124)
بدمشق بالمأذنة
الشرقية من جامعها، وكان يقرأ على الناس الحديث، وكان جهوري الصوت،
يسمع صوته من أرجاء الجامع كلها، فاتفق أنه قرأ على الناس يوما فضائل
العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين، فأرادوا قتله فتشفع
بالشريف الزينبي فأجاره، وكان مسكنه بدار العقيقي، ثم خرج من دمشق
فأقام بمدينة صور، فكتب شيئا كثيرا من مصنفات أبي عبد الله
الصوري بخطه كان يستعيرها من زوجته، فلم يزل مقيما بالشام إلى سنة
ثنتين وستين، ثم عاد إلى بغداد فحدث بأشياء من مسموعاته، وقد كان سأل
الله أن يملك ألف دينار، وأن يحدث بالتاريخ بجامع المنصور، فملك ألف
دينار أو ما يقاربها ذهبا، وحين احتضر كان عنده قريب من مائتي دينار،
فأوصى بها لاهل الحديث، وسأل السلطان أن يمضي ذلك، فإنه لا يترك وارثا،
فأجيب إلى ذلك، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها كتاب التاريخ، وكتاب
الكفاية، والجامع، وشرف أصحاب الحديث، والمتفق والمفترق، والسابق
واللاحق، وتلخيص المتشابه في الرسم، وفضل الوصل، ورواية الآباء عن
الابناء، ورواية الصحابة عن التابعين، واقتضاء العلم للعمل، والفقيه
والمتفقه، وغير ذلك.
وقد سردها ابن الجوزي في المنتظم.
قال ويقال: إن هذه المصنفات أكثرها لابي عبد الله الصوري، أو ابتدأها
فتممها الخطيب، وجعلها لنفسه، وقد كان الخطيب حسن القراءة فصيح اللفظ
عارفا بالادب يقول الشعر، وكان أولا يتكلم على مذهب الامام أحمد بن
حنبل، فانتقل عنه إلى مذهب الشافعي، ثم صار يتكلم في أصحاب أحمد ويقدح
فيهم ما أمكنه، وله دسائس عجيبة في ذمهم، ثم شرع ابن الجوزي ينتصر
لاصحاب أحمد ويذكر مثالب الخطيب ودسائسه، وما كان عليه من محبة الدنيا
والميل إلى أهلها بما يطول ذكره، وقد أورد ابن الجوزي من شعره قصيدة
جيدة المطلع حسنة المنزع أولها قوله: لعمرك ما شجاني رسم دار * وقفت به
ولا رسم المغاني ولا أثر الخيام أراق دمعي * لاجل تذكري عهد الغواني
ولا ملك الهوى يوما قيادي * ولا عاصيته فثنى عناني ولم أطمعه في وكم
قتيل * له في الناس ما تحصى دعاني عرفت فعاله بذوي التصابي * وما يلقون
من ذل الهوان...- اصحيح الود محظى * سليم الغيب محفوظ اللسان...- رف من
الاخوان إلا * نفاقا في التباعد والتداني وعالم دهرنا لا خير فيهم *
ترى صورا تروق بلا معاني
ووصف جميعهم هذا فما أن * أقول سوى فلان أو فلان ولما لم أجد حرا يواتى
* على ما ناب من صرف الزمان صبرت تكرما لقراع دهري * ولم أجزع لما منه
دهاني
(12/125)
ولم أك في
الشدائد مستكينا * أقول لها ألا كفي كفاني ولكني صليب العود عود * ربيط
الجأش مجتمع الجنان أبي النفس لا أختار رزقا * يجئ بغير سيفي أو سناني
فعز في لظى باغيه يهوى * ألذ من المذلة في الجنان وقد ترجمه ابن عساكر
في تاريخه ترجمة حسنة كعادته وأورد له من شعره قوله لا يغبطن أخا
الدنيا لزخرفها * ولا للذة عيش عجلت فرحا فالدهر أسرع شئ في تقلبه *
وفعله بين للخلق قد وضحا كم شارب عسلا فيه منيته * وكم مقلد سيفا من
قربه ذبحا توفي يوم الاثنين (1) ضحى من ذي الحجة منها، وله ثنتان
وسبعون سنة، في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة، جوار المدرسة النظامية،
واحتفل الناس بجنازته، وحمل نعشه فيمن حمل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي،
ودفن إلى جانب قبر بشر الحافي، في قبر رجل كان قد أعده لنفسه، فسئل أن
يتركه للخطيب فشح به ولم تسمح نفسه، حتى قال له بعض الحاضرين: بالله
عليك لو جلست أنت والخطيب إلى بشر أيكما كان يجلسه إلى جانبه ؟ فقال:
الخطيب، فقيل له: فاسمح له به، فوهبه منه فدفن فيه رحمه الله وسامحه،
وهو ممن قيل فيه وفي أمثاله قول الشاعر: ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا
* حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا حسان بن سعيد ابن حسان بن محمد بن أحمد
بن عبد الله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
المخزومي المنيعي، كان في شبابه يجمع بين الزهد والتجارة حتى ساد أهل
زمانه، ثم ترك
ذلك، وأقبل على العبادة والزهد والبر والصلة والصدقة وغير ذلك، وبناء
المساجد والرباطات، وكان السلطان يأتي إليه ويتبرك به، ولما وقع الغلاء
كان يعمل كل يوم شيئا كثيرا من الخبز والاطعمة، ويتصدق به وكان يكسو في
كل سنة قريبا من ألف فقير ثيابا وجبابا، وكذلك كان يكسو الارامل وغيرهن
من النساء، وكان يجهز البنات الايتام وبنات الفقراء، وأسقط شيئا كثيرا
من المكوس والوظائف السلطانية عن بلاد نيسابور، وقرأها وهو مع ذلك في
غاية التبذل والثياب والاطمار، وترك الشهوات ولم يزل كذلك إلى أن توفي
في هذه السنة، في بلدة مرو الروذ، تغمده الله برحمته، ورفع درجته ولا
خيب الله له سعيا.
__________
(1) زيد في ابن خلكان 1 / 93 وتذكرة الحفاظ / 1144: سابع ذي الحجة.
وقال السمعاني توفي في شوال.
(*)
(12/126)
أمين بن محمد
بن الحسن بن حمزة أبو علي (1) الجعفري فقيه الشيعة في زمانه.
محمد بن وشاح بن عبد الله أبو علي مولى أبي تمام محمد بن علي بن الحسن
الزينبي، سمع الحديث، وكان أديبا شاعرا، وكان ينسب إلى الاعتزال
والرفض، ومن شعره قوله: حملت العصا لا الضعف أوجب حملها * علي ولا أني
نحلت من الكبر (2) ولكنني ألزمت نفسي حملها (3) * لا علمها أن المقيم
على سفر الشيخ الاجل أبو عمر بن عبد البر النمري صاحب التصانيف المليحة
الهائلة، منها التمهيد، والاستذكار (4)، والاستيعاب، وغير ذلك.
ابن زيدون الشاعر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو
الوليد، الشاعر الماهر الاندلسي القرطبي، اتصل بالامير المعتمد بن
عباد، صاحب إشبيلية، فحظي عنده وصار مشاورا في منزلة
الوزير، ثم وزر له ولولده أبي بكر بن أبي الوليد، وهو صاحب القصيدة
الفراقية التي يقول فيها: بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا * شوقا إليكم
ولا جفت مآقينا تكاد حين تناجيكم ضمائرنا * يقضي عليها الاسى لولا
تأسينا حالت لبعدكم أيامنا فغدت * سودا وكانت بكم بيضا ليالينا بالامس
كنا ولا نخشى تفرقنا * واليوم نحن ولا يرجى تلاقينا
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه: أبو يعلى محمد بن الحسين بن حمزة
الجعفري فقيه الامامية، قال: وتوفي في شهر رمضان.
(2) في الوافي بالوفيات 5 / 174: ولا أني تحنيت من كبر، بتسكين
القافية.
(3) في الوافي: بحملها.
(4) التمهيد والاستذكار كتابان ألفهما ابن عبد البر في الموطأ،
فالتمهيد لما في الموطأ من المعاني والاسانيد ورتب فيه أسماء شيوخ مالك
على حروف المعجم وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله.
والاستذكار لمذاهب علماء الامصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والآثار
وشرح فيه الموطأ على وجهه ونسق أبوابه.
(*)
(12/127)
وهي طويلة
وفيها صنعة قوية مهيجة على البكاء لكل من قرأها أو سمعها، لانه ما من
أحد إلا فارق خلا أو حبيبا أو نسيبا، وله أيضا: بيني وبينك ما لو شئت
لم يصع * سر إذا ذاعت الاسرار لم يذع يا بائعا حظه مني ولو بذلت * لي
الحياة بحظي منه لم أبع يكفيك أنك لو حملت قلبي ما * لا تستطيع قلوب
الناس يستطيع ته احتمل واستطل أصبر وعزهن (1) * وول أقبل وقل أسمع ومر
أطع توفي في رجب منها واستمر ولده أبو بكر وزيرا للمعتمد بن عباد، حتى
أخذ ابن ياسين قرطبة من يده في سنة أربع وثمانين، فقتل يومئذ.
قاله ابن خلكان.
كريمة بنت أحمد ابن محمد بن أبي حاتم المروزية، كانت عالمة صالحة، سمعت
صحيح البخاري على
الكشميهني، وقرأ عليها الائمة كالخطيب وأبي المظفر السمعاني وغيرهما.
ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة فيها قام
الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الانكار على المفسدين، والذين
يبيعون الخمور، وفي إبطال المواجرات وهن البغايا، وكتبوا إلى السلطان
في ذلك فجاءت كتبه في الانكار.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ببغداد ارتجت لها الارض ست مرات.
وفيها كان غلاء شديد وموتان ذريع في الحيوانات، بحيث أن بعض الرعاة
بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هن قد متن كلهن، وجاء سيل
عظيم وبرد كبار أتلف شيئا كثيرا من الزروع والثمار بخراسان.
وفيها تزوج الامير عدة الدين ولد الخليفة بابنة السلطان ألب أرسلان "
سفري خاتون " وذلك بنيسابور، وكان وكيل السلطان نظام الملك، ووكيل
الزوج عميد الدولة بن جهير، وحين عقد العقد نثر على الناس جواهر نفيسة.
وممن توفي فيها من الاعيان...زكريا
بن محمد بن حيده أبو منصور النيسابوري، كان يزعم أنه من سلالة عثمان بن
عفان، وروى الحديث عن أبي بكر بن المذهب، وكان ثقة.
توفي في المحرم منها وقد قارب الثمانين.
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 140 وتاريخ ابن الوردي 1 / 564: وعزأهن.
(*)
(12/128)
محمد بن أحمد ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو
الحسن (1) الهاشمي، خطيب جامع المنصور، كان ممن يلبس القلانس الطوال،
حدث عن ابن رزقويه وغيره، روى عنه الخطيب، وكان ثقة عدلا شهد عند ابن
الدامغاني وابن ماكولا فقبلاه توفي عن ثمانين سنة ودفن بقرب قبر بشر
الحافي.
محمد بن أحمد بن شاره
ابن جعفر أبو عبد الله الاصفهاني، ولي القضاء بدجيل، وكان شافعيا، روى
الحديث عن أبي عمرو بن مهدي، توفي ببغداد ونقل إلى دجيل من عمل واسط،
والله سبحانه أعلم. |