البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة
فيها ردت الجوالي إلى نواب الخليفة.
وفيها ورد كتاب من الملك طغرلبك إلى جلال الدولة يأمره بالاحسان إلى
الرعايا والوصاة بهم، قبل أن يحل به ما يسوءه.
أبو كاليجار يملك بغداد بعد أخيه جلال الدولة
وفيها توفي جلال الدولة أبو طاهر بن
بهاء الدولة، فملك بغداد بعده أخوه سلطان الدولة أبو كاليجار بن بهاء
الدولة، وخطب له بها عن ممالاة أمرائها، وأخرجوا منها الملك العزيز أبا
منصور بن جلال الدولة، فتنقل في البلاد وتسرب من مملكته إلى غيرها حتى
توفي سنة إحدى وأربعين، وحمل فدفن عند أبيه بمقابر قريش.
وفيها أرسل الملك مودود بن مسعود عسكرا كثيفا إلى خراسان فبرز إليهم
ألب أرسلان بن داود السلجوقي فاقتتلا قتالا عظيما، وفي صفر منها أسلم
من الترك الذين كانوا يطرقون بلاد المسلمين نحو من عشرة آلاف خركاة،
وضحوا في يوم عيد الاضحى بعشرين ألف رأس من الغنم، وتفرقوا في البلاد،
ولم يسلم من خطا والتتر أحد وهم بنواحي الصين.
وفيها نفى ملك الروم من القسطنطينية كل غريب له فيها دون العشرين سنة.
وفيها خطب المعز أبو تميم صاحب إفريقية ببلاده للخليفة العباسي، وقطع
خطبة الفاطميين وأحرق أعلامهم، وأرسل إليه الخليفة الخلع واللواء
المنشور، وفيه تعظيم له وثناء عليه.
وفيها أرسل القائم بأمر الله أبا الحسن علي بن
(12/64)
محمد بن حبيب
الماوردي قبل موت جلال الدولة إلى الملك طغرلبك ليصلح بينه وبين جلال
الدولة وأبي كاليجار، فسار إليه فالتقاه بجرجان فتلقاه الملك على أربعة
فراسخ إكراما للخليفة، وأقام عنده إلى السنة الآتية.
فلما قدم على الخليفة أخبره بطاعته وإكرامه لاجل الخليفة.
وفيها توفي من الاعيان...الحسين بن
عثمان ابن سهل بن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي، أبو سعد أحد
الرحالين في طلب الحديث إلى البلاد المتباعدة، ثم أقام ببغداد مدة وحدث
بها، وروى عنه الخطيب، وقال: كان صدوقا، ثم انتقل في آخر عمره إلى مكة
فأقام بها حتى مات في شوال منها.
عبد الله بن أبي الفتح أحمد بن عثمان بن الفرج بن الازهر، أبو القاسم
الازهري، الحافظ المحدث المشهور، ويعرف بابن السواري، سمع من أبي بكر
بن مالك وخلق يطول ذكرهم، وكان ثقة صدوقا، دينا، حسن الاعتقاد والسيرة،
توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر منها عن ثمانين سنة وعشرة أيام.
الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن بويه الديلمي، صاحب
العراق، كان يحب العباد ويزورهم، ويلتمس الدعاء منهم، وقد نكب مرات
عديدة، وأخرج من داره، وتارة أخرج من بغداد بالكلية، ثم يعود إليها حتى
اعتراه وجع كبده فمات من ذلك في ليلة الجمعة خامس شعبان منها، وله من
العمر إحدى وخمسين سنة وأشهر، تولى العراق من ذلك ست (1) عشرة سنة
وإحدى عشر شهرا والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة فيها دخل
الملك أبو كاليجار بغداد وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس،
ولم تكن الملوك تفعل ذلك، إنما كان يضرب لعضد الدولة ثلاث أوقات، وما
كان يضرب في الاوقات الخمس إلا للخليفة، وكان دخوله إليها في رمضان،
وقد فرق على الجند أموالا جزيلة، وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار،
وخلع على مقدمي الجيوش وهم البساسيري، والنشاوري، والهمام أبو اللقاء،
ولقبه الخليفة محيي الدولة، وخطب له في بلاد كثيرة بأمر ملوكها، وخطب
له بهمذان، ولم
__________
(1) في الاصل ستة وهو خطأ.
(*)
(12/65)
يبق لنواب
طغرلبك فيها أمر.
وفيها استوزر طغرلبك أبا القاسم (1) عبد الله الجويني، وهو أول وزير
وزر له.
وفيها ورد أبو نصر أحمد بن يوسف الصاحب مصر، وكان يهوديا فأسلم بعد موت
الجرجراي.
وفيها تولى نقابة الطالبيين أبو أحمد عدنان بن الرضي، وذلك بعد وفاة
عمه المرتضى.
وفيها ولي القضاء أبو الطيب الطبري، قضاء الكرخ، مضافا إلى ما كان
يتولاه من القضاء بباب الطاق، وذلك بعد موت القاضي الصيمري.
وفيها نظر رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلم في
كتاب ديوان الخليفة، وكان عنده بمنزلة عالية.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسين
بن علي ابن محمد بن جعفر، أبو عبد الله الصيمري نسبة إلى نهر البصرة
يقال له صيمر، عليه عدة قرى، أحد أئمة الحنفية، ولي قضاء المدائن ثم
قضاء ربع الكرخ، وحدث عن أبي بكر المفيد، وابن شاهين وغيرهما، وكان
صدوقا وافر العقل، جميل المعاشرة، حسن العبادة، عارفا بحقوق العلماء.
توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة.
عبد الوهاب بن منصور ابن أحمد، أبو الحسن المعروف بابن المشتري
الاهوازي، كان قاضيا بالاهواز (2) ونواحيها، شافعي المذهب، كان له
منزلة كبيرة عند السلطان، وكان صدوقا كثير المال، حسن السيرة.
الشريف المرتضى علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الشريف الموسوي، الملقب
بالمرتضى، ذي المجدين، كان أكبر من أخيه ذي الحسبين وكان جيد الشعر على
مذهب الامامية والاعتزال، يناظر على ذلك، وكان يناظر عنده في كل
المذاهب، وله تصانيف في التشيع، أصولا وفروعا، وقد نقل ابن الجوزي
أشياء من تفرداته في التشيع، فمن ذلك أنه لا يصح السجود إلا على الارض
أو ما كان من جنسها، وأن الاستجمار إنما يجزئ في الغائط لا في البول،
وأن الكتابيات حرام، وكذا ذبائح أهل الكتاب، وما ولدوه هم وسائر الكفار
من الاطعمة
__________
(1) في الكامل 9 / 526: أبا القاسم علي بن عبد الله الجويني.
(2) في الكامل 9 / 527: قاضي خوزستان وفارس.
(*)
(12/66)
حرام، وأن
الطلاق لا يقع إلا بحضرة شاهدين، والمعلق منه لا يقع وإن وجد شرطه، ومن
نام عن صلاة العشاء حتى انتصف الليل وجب قضاؤها، ويجب عليه أن يصبح
صائما كفارة لما وقع منه.
ومن
ذلك أن المرأة إذا جزت شعرها يجب عليها كفارة قتل الخطأ، ومن شق ثوبه
في مصيبة وجب عليه كفارة اليمين، ومن تزوج امرأة لها زوج لا يعلمه وجب
عليه أن يتصدق بخمسة دراهم، وأن قطع السارق من رؤوس الاصابع.
قال ابن الجوزي: نقلته من خط أبي الوفاء بن عقيل.
قال: وهذه مذاهب عجيبة، تخرق الاجماع، وأعجب منها ذم الصحابة رضي الله
عنهم.
ثم سرد من كلامه شيئا قبيحا في تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة
وحفصة رضي الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الارجالس الانجاس، أهل
الرفض والارتكاس، إن لم يكن تاب، فقد روى ابن الجوزي قال: أنبأنا ابن
ناصر، عن أبي الحسن بن الطيوري قال: سمعت أبا القاسم بن برهان يقول:
دخلت على الشريف المرتضى وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: أبو
بكر وعمر وليا فعدلا واسترحما فرحما، فأنا أقول ارتدا بعدما أسلما ؟
قال: فقمت عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه.
توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.
وقد ذكره ابن خلكان فملس عليه على عادته مع الشعراء في الثناء عليهم،
وأورد له أشعارا رائقة.
قال ويقال: إنه هو الذي وضع كتاب نهج البلاغة.
محمد بن أحمد ابن شعيب بن عبد الله بن الفضل، أبو منصور الروياني، صاحب
الشيخ أبي حامد الاسفراييني قال الخطيب: سكن بغداد وحدث بها، وكتبنا
عنه، وكان صدوقا يسكن قطيعة الربيع.
توفي في ربيع الاول منها، ودفن بباب حرب.
أبو الحسين البصري المعتزلي محمد بن علي بن الخطيب (1)، أبو الحسين
البصري المتكلم، شيخ المعتزلة والمنتصر لهم، والمحامي عن ذمهم
بالتصانيف الكثيرة، توفي في ربيع الآخر منها، وصلى عليه القاضي أبو عبد
الله الصيمري، ودفن في الشونيزي، ولم يرو من الحديث سوى حديث واحد،
رواه الخطيب البغدادي في تاريخه: حدثنا محمد بن علي بن الطيب قرئ على
هلال بن محمد بن أخي هلال الرأي، بالبصرة وأنا أسمع، قيل له حدثكم أبو
مسلم الكجى وأبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي والغلابي
والمازني والزريقي قالوا: حدثنا القعنبي، عن شعبة، عن منصور، عن ربعي،
عن أبي مسعود
__________
(1) في الوافي 4 / 125 ووفيات الاعيان 4 / 271: الطيب.
(*)
(12/67)
البدري.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مما أدرك الناس من كلام
النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت ".
والغلابي اسمه محمد، والمازني اسمه محمد بن حامد (1)، والزريقي أبو علي
محمد بن أحمد بن خالد البصري.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة فيها
بعث السلطان طغرلبك السلجوقي أخاه إبراهيم إلى بلاد الجبل فملكها،
وأخرج عنها صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، فالتحق بالاكراد، ثم سار
إبراهيم إلى الدينور فملكها أيضا، وأخرج صاحبها وهو أبو الشوك، فسار
إلى حلوان فتبعه إبراهيم فملك حلوان قهرا، وأحرق داره وغنم أمواله،
فعند ذلك تجهز الملك أبو كاليجار لقتال السلاجقة الذين تعدوا على
أتباعه، فلم يمكنه ذلك لقلة الظهر، وذلك أن الآفة اعترت في هذه السنة
الخيل فمات له فيها نحو من اثني عشر ألف فرس، بحيث جافت بغداد من جيف
الخيل.
وفيها وقع بين الروافض والسنة ثم اتفق الفريقان على نهب دور اليهود،
وإحراق الكنيسة العتيقة، التي لهم، واتفق موت رجل من أكابر النصارى
بواسط فجلس أهله لعزائه على باب مسجد هناك وأخرجوا جنازته جهرا، ومعها
طائفة من الاتراك يحرسونها، فحملت عليهم العامة فهزموهم وأخذوا الميت
منهم وأستخرجوه من أكفانه فأحرقوه، ورموا رماده في دجلة، ومضوا إلى
الدير فنهبوه، وعجز الاتراك عن دفعهم.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...فارس
بن محمد بن عتاز (2) صاحب الدينور وغيرهم، توفي في هذا الاوان.
خديجة بنت موسى ابن عبد الله الواعظة، وتعرف ببنت البقال، وتكنى أم
سلمة، قال الخطيب: كتبت عنها
وكانت فقيرة صالحة فاضلة.
أحمد بن يوسف السليكي المنازي (3) الشاعر الكاتب، وزير أحمد بن مروان
الكردي، صاحب ميافارقين وديار بكر، كان فاضلا
__________
(1) في الوافي 4 / 125: حيان (2) في الكامل 9 / 531 وابن الوردي 1 /
527: عناز، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 168: عنان.
(3) المنازي: نسبة إلى مناز جرد وهي خرت برت، وهي غير مناز كرد من عمل
خلاط.
(*)
(12/68)
بارعا لطيفا،
تردد في الترسل إلى القسطنطينية غير مرة، وحصل كتبا عزيزة أوقفها على
جامعي آمد وميا فارقين، ودخل يوما على أبي العلاء المعري فقال له: إني
معتزل الناس وهم يؤذونني، وتركت لهم الدنيا، فقال له الوزير: والآخرة
أيضا.
فقال والآخرة يا قاضي ؟ قال نعم:.
وله ديوان قليل النظير عزيز الوجود، حرص عليه القاضي الفاضل فلم يقدر
عليه، توفي فيها.
ومن شعره في وادي نزاعة (1): وقانا لفحة الرمضاء واد * وقاه مضاعف
النبت العميم نزلنا دوحه فحنا علينا * حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا
على ظمأ زلالا * ألذ من المدامة للنديم يراعي الشمس أنى قابلته *
فيحجبها ليأذن للنسيم تروع حصاه حالية العذارى * فتلمس جانب العقد
النظيم (2) قال ابن خلكان: وهذه الابيات بديعة في بابها.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة استهلت
هذه السنة والموتان كثير في الدواب جدا، حتى جافت بغداد قال ابن
الجوزي: وربما أحضر بعض الناس الاطباء لاجل دوابهم فيسقونها ماء الشعير
ويطببونها، وفيها حاصر السلطان بن طغرلبك أصبهان فصالحه أهلها على مال
يحملونه إليه، وأن يخطب له بها، فأجابوه إلى ذلك.
وفيها ملك مهلهل (3) قرميسين والدينور.
وفيها تأمر على بني خفاجة رجل يقال له رجب بن أبي منيع بن
ثمال، بعد وفاة بدران بن سلطان بن ثمال، وهؤلاء الاعراب أكثر من يصد
الناس عن بيت الله الحرام، فلا جزاهم الله خيرا.
وممن توفي فيها من الاعيان...الشيخ
أبو محمد الجويني إمام الشافعية: عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه
(4) الشيخ أبو محمد الجويني، وهو والد
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 2 / 168 وابن الوردي 1 / 528: بزاعا: بضم
الباء وهي قرية كبيرة ما بين حلب ومنبج في نصف الطريق.
(2) ينسب الاندلسيون هذه الابيات إلى الشاعرة حمدونة بنت زياد (انظر
نفح الطيب 4 / 289).
(3) وهو مهلهل بن محمد بن عناز، بعد موت أخيه فارس أبي الشوك.
(4) من وفيات الاعيان 3 / 47 والانساب 3 / 29 طبقات المفسرين للسيوطي
(15) طبقات المفسرين للداودي 1 / 258، وفي الاصل: حيسويه.
(*)
(12/69)
إمام الحرمين
أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد، وأصله من قبيلة يقال لها سنبس،
وجوين من نواحي نيسابور، سمع الحديث من بلاد شتى على جماعة، وقرأ الادب
على أبيه، وتفقه بأبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، ثم خرج إلى مرو إلى
أبي بكر عبد الله بن أحمد القفال، ثم عاد إلى نيسابور وعقد مجلس
المناظرة، وكان مهيبا لا يجري بين يديه إلا الجد، وصنف التصانيف
الكثيرة في أنواع من العلوم وكان زاهدا شديد الاحتياط لدينه حتى ربما
أخرج الزكاة مرتين.
وقد ذكرته في طبقات الشافعية وذكرت ما قاله الائمة في مدحه، توفي في ذي
القعدة منها.
قال ابن خلكان: صنف التفسير الكبير المشتمل على أنواع العلوم، وله في
الفقه التبصرة والتذكرة، وصنف مختصر المختصر والفرق والجمع، والسلسلة
وغير ذلك، وكان أماما في الفقه والاصول والادب والعربية.
توفي في هذه السنة، وقيل سنة أربع وثلاثين.
قاله السمعاني في الانساب، وهو في سن الكهولة.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
فيها اصطلح الملك طغرلبك وأبو كاليجار، وتزوج طغرلبك بابنته، وتزوج أبو
منصور بن كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك.
وفيها أسرت الاكراد سرخاب أخا أبي الشوك وأحضروه بين يدي أميرهم ينال،
فأمر بقلع إحدى عينيه، وفيها استولى أبو كاليجار على بلاد البطيحة ونجا
صاحبها أبو نصر بنفسه.
وفيها ظهر رجل يقال له الاصفر التغلبي، وادعى أنه من المذكورين في
الكتب، فاستغوى خلقا، وقصد بلادا فغنم منها أموالا تقوى بها، وعظم
أمره.
ثم اتفق له أسر وحمل إلى نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر، فاعتقله
وسد عليه باب السجن.
وفيها كان وباء شديد بالعراق والجزيرة، بسبب جيف الدواب التي ماتت،
فمات فيها خلق كثير، حتى خلت الاسواق وقلت الاشياء التي يحتاج إليها
المرضى، وورد كتاب من الموصل بأنه لا يصلي الجمعة من أهلها إلا نحو
أربعمائة، وأن أهل الذمة لم يبق منهم إلا نحو مائة وعشرين نفسا.
وفيها وقع غلاء شديد أيضا ووقعت فتنة بين الروافض والسنة ببغداد، قتل
فيها خلق كثير.
ولم يحج فيها أحد من ركب العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...أحمد
بن محمد بن عبد الله بن أحمد أبو الفضل القاضي الهاشمي، الرشيدي، من
ولد الرشيد، ولي القضاء بسجستان، وسمع الحديث من الغطريفي.
قال الخطيب، أنشدني لنفسه قوله: قالوا اقتصد في الجود إنك منصف * عدل
وذو الانصاف ليس يجور
(12/70)
فأجبتهم إني
سلالة معشر * لهم لواء في الندى منشور تالله إني شائد ما قدموا * جدي
الرشيد وقبله المنصور عبد الواحد بن محمد ابن يحيى بن أيوب أبو القاسم
الشاعر المعروف بالمطرز، ومن شعره قوله: يا عبد كم لك من ذنب ومعصية *
إن كنت ناسيها فالله أحصاها
لا بد يا عبد من يوم تقوم به * ووقفة لك يدمي القلب ذكراها إذا عرضت
على قلبي تذكرها * وساء ظني فقلت أستغفر الله محمد بن الحسن بن علي ابن
عبد الرحيم أبو سعد الوزير، وزر للملك جلال الدولة ست مرات، ثم كان
موته بجزيرة ابن عمر فيها عن ست وخمسين سنة.
محمد بن أحمد بن موسى أبو عبد الله الواعظ الشيرازي، قال الخطيب: قدم
بغداد وأظهر الزهد والتقشف والورع، وعزوف النفس عن الدنيا، فافتتن
الناس به، وكان يحضر مجلسه خلق كثير، ثم إنه بعد حين كان يعرض عليه
الشئ فيقبله، فكثرت أمواله ولبس الثياب الناعمة وجرت له أمور، وكثرت
أتباعه وأظهر أنه يريد الغزو فاتبعه نفر كثير، فعسكر بظاهر البلد، وكان
يضرب له الطبل في أوقات الصلوات وسار إلى ناحية أذربيجان، فالتف عليه
خلق كثير، وضاها أمير تلك الناحية، وكانت وفاته هنالك في هذه السنة.
قال الخطيب: وقد حدث ببغداد وكتبت عنه أحاديث يسيرة، وحدثني بعض
أصحابنا عنه بشئ يدل على ضعفه، وأنشد هو لبعضهم: إذا ما أطعت النفس في
كل لذة * نسبت إلى غير الحجى والتكرم إذا ما أجبت الناس في كل دعوة *
دعتك إلى الامر القبيح المحرم المظفر بن الحسين ابن عمر بن برهان، أبو
الحسن الغزال، سمع محمد بن المظفر وغيره، وكان صدوقا.
(12/71)
محمد بن علي بن
إبراهيم أبو الخطاب الحنبلي (1) الشاعر، من شعره قوله: ما حكم الحب فهو
ممتثل * وما جناه الحبيب محتمل يهوى ويشكو الضنى وكل هوى * لا ينحل
الجسم فهو منتحل
وقد سافر إلى الشام فاجتاز بمعرة النعمان فامتدحه أبو العلاء المعري
بأبيات، فأجابه مرتجلا عنها.
وقد كان حسن العينين حين سافر، فما رجع إلى بغداد إلا وهو أعمى.
توفي في ذي القعدة منها ويقال إنه كان شديد الرفض فالله أعلم.
الشيخ أبو علي السنجي الحسين بن شعيب بن محمد شيخ الشافعية في زمانه،
أخذ عن أبي بكر القفال، وشرح الفروع لابن الحداد، وقد شرحها قبله شيخه،
وقبله القاضي أبو الطيب الطبري، وشرح أبو علي السنجي كتاب التلخيص لابن
القاص، شرحا كبيرا، وله كتاب المجموع، ومنه أخذ الغزالي في الوسيط.
قال ابن خلكان، وهو أول من جمع بين طريقة العراقيين والخراسانيين.
توفي سنة بضع وثلاثين وأربعمائة ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة في هذه
السنة توفي الملك أبو كاليجار في جمادى الاولى منها، صاحب بغداد، مرض
وهو في برية، ففصد في يوم ثلاث مرات، وحمل في محفة فمات ليلة الخميس،
ونهبت الغلمان الخزائن، وأحرق الجواري الخيام، سوى الخيمة التي هو
فيها، وولى بعده ابنه أبو نصر، وسموه الملك الرحيم، ودخل دار الخلافة
فخلع عليه الخليفة سبع خلع، وسوره وطوقه وجعل على رأسه التاج والعمامة
السوداء، ووصاه الخليفة، ورجع إلى داره وجاء الناس ليهنئوه.
وفيها دار السور على شيراز، وكان دوره اثني عشرة ألف ذراع، وارتفاعه
ثمانية أذرع، وعرضه ستة أذرع، وفيه أحد عشر بابا.
وفيها غزا إبراهيم بن ينال بلاد الروم فغنم مائة ألف رأس، وأربعة آلاف
درع، وقيل تسع عشرة ألف درع، ولم يبق بينه وبين القسطنطينة إلا خمسة
عشر يوما، وحمل ما غنم على عشرة
__________
(1) في الكامل 9 / 543: الجيلي، وفي مختصر أخبار البشر 2 / 168:
الشبلي.
وفي وفيات الاعيان 7 / 248: الجبلي نسبة إلى جبل وهي بليدة على دجلة
بين بغداد وواسط.
وفي معجم البلدان (جبل) هو محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم الجبلي.
(*)
(12/72)
آلاف عجلة.
وفيها خطب لذخيرة الدين أبي العباس أحمد بن الخليفة القائم بأمر الله،
على المنابر بولاية العهد بعد أبيه، وحيى بذلك.
وفيها اقتتل الروافض والسنة، وجرت ببغداد فتن يطول ذكرها.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن
بن عيسى بن المقتدر أبو محمد العباسي (1)، ولد في المحرم سنة ثلاث
وأربعين وثلثمائة، وسمع من مؤدبه أحمد بن منصور السكري، وأبي الازهر
عبد الوهاب الكاتب، وكان فاضلا دينا، حافظا لاخبار الخلفاء، عالما
بأيام الناس صالحا، أعرض عن الخلافة مع قدرته عليها، وآثر بها القادر.
توفي فيها عن سبع وتسعين (2) سنة.
وأوصى أن يدفن بباب حرب، فدفن قريبا من قبر الامام أحمد بن حنبل.
هبة الله (3) بن عمر بن أحمد بن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن
شاهين، سمع من أبي بكر بن ملك، وابن ماسي والبرقاني.
قال الخطيب: كتبت عنه وكان صدوقا، ولد في سنة إحدى وخمسين وثلثمائة،
وتوفي في ربيع الآخر منها، ودفن بباب حرب.
علي بن الحسن ابن محمد بن المنتاب أبو محمد القاسم، المعروف بابن أبي
عثمان الدقاق.
قال الخطيب: سمع القطيعي وغيره، وكان شيخا صالحا، صدوقا دينا، حسن
المذهب.
محمد بن جعفر بن أبي الفرج الوزير الملقب بذي السعادات، وزر لابي
كاليجار بفارس وبغداد، وكان ذا مروءة غزيرة، مليح الشعر والترسل، ومن
محاسنه أنه كتب إليه في رجل مات عن ولد له ثمانية أشهر وله من المال ما
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 9 / 552: أبو الحسن محمد بن الحسن بن عيسى
وهو خطأ.
وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 7 / 354 المنتظم 8 / 137 والعبر 3 / 192
واللباب 3 / 169.
(2) في اللباب: وفاته سنة 446 ه.
وفي شذرات الذهب والعبر: مات وله نيف وتسعون سنة.
(3) في الكامل 9 / 552: عبيد الله.
(*)
(12/73)
يقارب مائة ألف
دينار، فكتب إليه الموصي، وقيل غيره، إن فلانا قد مات وخلف ولدا عمره
ثمانية أشهر، وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار، فإن رأى الوزير أن
يقترض هذا المال إلى حين بلوغ الطفل.
فكتب الوزير على ظهر الورقة: المتوفى رحمه الله، واليتيم جبره الله،
والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله، ولا حاجة بنا إلى مال الايتام.
اعتقل ثم قتل في رمضان منها، عن إحدى وخمسين سنة.
محمد بن أحمد (1) بن إبراهيم ابن غيلان بن عبد الله بن غيلان بن حليم
بن غيلان، أخو (2) طالب البزاز، يروي عن جماعة وهو آخر من حدث عن أبي
بكر الشافعي، كان صدوقا دينار صالحا، قوي النفس على كبر السن، كان يملك
ألف دينار، وكان يصبها كل يوم في حجره فيقبلها ثم يردها إلى موضعها،
وقد خرج له الدارقطني الاجزاء الغيلانيات، وهي سماعنا.
توفي يوم الاثنين سادس شوال منها عن أربع وتسعين سنة، ويقال إنه بلغ
المائة فالله أعلم.
الملك أبو كاليجار واسمه المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة،
توفي عن أربعين سنة وأشهر، ولي العراق نحو من أربع سنين (3)، ونهبت له
قلعة كان له فيها من المال ما يزيد على ألف ألف دينار، وقام بالامر من
بعده ابنه الملك الرحيم أبو نصر.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة في
عاشر المحرم تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا بدع النوح، فجرى بينهم
وبين أهل باب البصرة ما يزيد على الحد، من الجراح والقتل، وبنى
أهل الكرخ سورا على الكرخ، وبنى أهل السنة سورا على سوق القلائين، ثم
نقض كل من الفريقين أبنيته، وحملوا الآجر إلى مواضع بالطبول والمزامير،
وجرت بينهم مفاخرات في ذلك، وسخف لا تنحصر ولا تنضبط، وإنشاد أشعار في
فضل
الصحابة.
وثلبهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم وقعت بينهم فتن يطول ذكرها، وأحرقوا دورا كثيرة جدا.
وفيها وقعت وحشة بين الملك طغرلبك وبين أخيه، فجمع أخوه جموعا كثيرا
فاقتتل هو
__________
(1) في الكامل 9 / 552 والوافي 1 / 119: محمد.
(2) في المراجع المذكورة: أبو.
(3) في الكامل 9 / 547: أربع سنين وشهرين ونيفا وعشرين يوما.
(*)
(12/74)
وأخوه طغرلبك،
ثم أسره من قلعة قد تحصن بها (1)، بعد محاصرة أربعة أيام، فاستنزله
منها مقهورا، فأحسن إليه وأكرمه، وأقام عنده مكرما، وكتب ملك الروم إلى
طغرلبك في فداء بعض ملوكهم ممن كان أسره إبراهيم بن ينال، وبذل له مالا
كثيرا، فبعثه إليه مكرما من غير عوض، اشترط عليه فأرسل إليه ملك الروم
هدايا كثيرة، وأمر بعمارة المسجد الذي بالقسطنطينية، وأقيمت فيه الصلاة
والجمعة، وخطب فيه للملك طغرلبك، فبلغ هذا الامر العجيب سائر الملوك
فعظموا الملك طغرلبك تعظيما زائدا، وخطب له نصر الدولة بالجزيرة.
وفيها ولي مسعود بن مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين الملك بعد وفاة
أبيه، وكان صغيرا، فمكث أياما ثم عدل عنه إلى عمه علي بن مسعود، وهذا
أمر غريب جدا، وفيها ملك المصريون مدينة حلب وأجلوا عنها صاحبها ثمال
بن صالح بن مرداس.
وفيها كان بين البساسيري وبين بني عقيل حرب.
وفيها ملك البساسيري الانبار من يد قرواش فأصلح أمورها.
وفي شعبان منها سار البساسير إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدوران (2)
وملكها، وغنم مالا كثيرا كان فيها، وقد كان سعدى بن أبي الشوك قد
حصنها، قال ابن الجوزي: في ذي الحجة (3) منها ارتفعت سحابة سوداء فزادت
على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة، فانزعج الناس
وخافوا وأخذوا في الدعاء والتضرع، فانكشف في أثناء الليل بعد ساعة،
وكانت قد هبت ريح شديدة جدا قبل ذلك، فأتلفت شيئا كثيرا من الاشجار،
وهدمت رواشن كثيرة في دار الخلافة ودار المملكة.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن
محمد بن منصور أبو الحسن المعروف بالعتيقي، نسبة إلى جد له كان يسمى
عتيقا، سمع من ابن شاهين وغيره، وكان صدوقا.
توفي في صفر منها وقد جاوز التسعين (4).
علي بن الحسن أبو القاسم العلوي ويعرف بابن محيي السنة.
قال الخطيب: سمع من ابن مظفر وكتب عنه، وكان صدوقا دينا حسن الاعتقاد،
يورق بالاجرة ويأكل منه، ويتصدق.
توفي في رجب منها وقد جاوز الثمانين.
__________
(1) وهي قلعة سرماج، وهي قلعة حصينة بين همذان وخوزستان في الجبال
(معجم البلدان).
(2) في الكامل 9 / 560: الدزدار، ولعلها دوران: من قرى فم الصلح من
نواحي واسط (معجم البلدان).
(3) في الكامل 9 / 560: ذي القعدة.
(4) في الكامل 9 / 561: ومولده سنة سبع وستين وثلاثمائة.
(*)
(12/75)
عبد الوهاب بن
القاضي الماوردي يكنى أبا الفائز (1) شهد عند ابن ماكولا في سنة إحدى
وثلاثين فأجاز شهادته احتراما لابيه، توفي في المحرم منها.
الحافظ أبو عبد الله الصوري محمد بن علي بن عبد الله بن محمد أبو عبد
الله الصوري الحافظ، طلب الحديث بعد ما كبر وأسن، ورحل في طلبه إلى
الآفاق، وكتب الكثير وصنف واستفاد على الحافظ عبد الغني المصري، وكتب
عن عبد الغني شيئا من تصانيفه، وكان من أعظم أهل الحديث، همه في الطلب
وهو شاب ثم كان من أقوى الناس على العمل الصالح عزيمة في حال كبره، كان
يسرد الصوم إلا يومي العيدين وأيام التشريق، وكان مع ذلك حسن الخلق
جميل المعاشرة، وقد ذهبت إحدى عينيه، وكان يكتب بالاخرى المجلد في جزء.
قال أبو الحسن الطيوري: يقال إن عامة كتب الخطيب سوى التاريخ
مستفادة من كتب أبي عبد الله الصوري، كان قد مات الصوري وترك كتبه اثني
عشر عدلا عند أخيه، فلما صار الخطيب أعطاه أخاه شيئا وأخذ بعض تلك
الكتب فحولها في كتبه، ومن شعره: تولى الشباب بريعانه * وأتى المشيب
بأحزانه فقلبي لفقدان ذا مؤلم * كئيب لهذا ووجد انه وإن كان ما جار في
حكمه * ولا جاء في غير إبانه ولكن أتى مؤذنا بالرحي * ل فويلي من قرب
إيذانه ولولا ذنوب تحملتها * لما راعني إتيانه ولكن ظهري ثقيل بما *
جناه شبابي بطغيانه فمن كان يبكي شبابا مضى * ويندب طيب زمانه فليس
بكائي وما قد ترو * ن مني لوحشة فقدانه ولكن لما كان قد رجره * علي
بوثبات شيطانه فويلي وويحي إن لم يجد * على مليكي برضوانه ولم يتغمد
ذنوبي وما قد * جنيت برحمته وغرانه ويجعل مصيري إلى جنة * يحل بها أهل
رضوانه وغفرانه فإن كنت ما لي من طاعة * سوى حسن ظني باحسانه وإني مقر
بتوحيده * عليم بعزة سلطانه
__________
(1) في الكامل 9 / 561: أبو القاسم.
(*)
(12/76)
أخالف في ذاك
أهل الهوى * وأهل الفسوق وعدوانه وأرجو به الفوز في منزل * معد مهيأ
لسكانه ولن يجمع الله أهل الجحو * د ومن أقر بنيرانه فهذا ينجيه إيمانه
* وهذا يبوء بخسرانه وهذا ينعم في جنة * وذاك قرين لشيطانه
ومن شعره أيضا: قل لمن عاند الحديث وأضحى * عائبا أهله ومن يدعيه أبعلم
تقول هذا ابن لي * أم بجهل فالجهل خلق السفيه أيعاب الذين هم حفظوا الد
* ين من الترهات والتمويه وإلى قولهم ما قد رووه * راجع كل عالم وفقيه
كان سبب موته أنه افتصد فورمت يده، وعلى ما ذكر أن ريشة الفاصد كانت
مسمومة لغيره فغلط ففصده بها، فكانت فيها منيته، فحمل إلى المارستان
فمات به، ودفن بمقبرة جامع المدينة، وقد نيف على الستين رحمه الله
تعالى.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة فيها
فتح السلطان طغرلبك أصبهان (1) بعد حصار سنة، فنقل إليها حواصله من
الري وجعلها دار إقامته، وخرب قطعة من سورها، وقال: إنما يحتاج إلى
السور من تضعف قوته، وإنما حصنني عساكري وسيفي، وقد كان فيها أبو منصور
قرامز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كالويه (2)، فأخرجه منها وأقطعه بعض
بلادها.
وفيها سار الملك الرحيم إلى الاهواز وأطاعه عسكر فارس.
وفيها استولت الخوارج على عمان وأخربوا دار الامارة، وأسروا أبا المظفر
بن أبي كاليجار.
وفيها دخلت العرب بإذن المستنصر الفاطمي بلاد إفريقية، وجرت بينهم وبين
المعز بن باديس حروب طويلة، وعاثوا في الارض فسادا عدة سنين.
وفيها اصطلح الروافض والسنة ببغداد، وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد
الحسين، وترضوا في الكرخ على الصحابة كلهم، وترحموا عليهم، وهذا عجيب
جدا، إلا أن يكون من باب التقية، ورخصت الاسعار ببغداد جدا.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 2 / 170: أصفهان.
(2) تقدم شرحه وهو كاكويه (الكامل - مختصر أخبار البشر - العبر - ابن
الوردي).
(*)
(12/77)
علي بن عمر بن
الحسن أبو الحسن الحربي المعروف بالقزويني، ولد في مستهل المحرم في سنة
ستين وثلثمائة، وهي الليلة التي مات فيها أبو بكر الآجري، وسمع أبا بكر
بن شاذان وأبا حفص بن حيويه، وكان وافر العقل، من كبار عباد الله
الصالحين، له كرامات كثيرة، وكان يقرأ القرآن ويروي الحديث، ولا يخرج
إلا إلى الصلاة.
توفي في شوال منها.
فغلقت بغداد لموته يومئذ، وحضر الناس جنازته، وكان يوما مشهودا رحمه
الله.
عمر بن ثابت الثمانيني النحوي الضرير.
شارح اللمع، كان في غاية العلم بالنحو، وكان يأخذ عليه.
وذكر ابن خلكان: أنه اشتغل على ابن جني، وشرح كلامه، وكان ماهرا في
صناعة النحو، قال ونسبته إلى قرية من نواحي جزيرة ابن عمر عند الجبل
الجودي، يقال لها ثمانين، باسم التمانين الذين كانوا مع نوح عليه
السلام في السفينة.
قرواش بن مقلد أبو المنيع، صاحب الموصل والكوفة وغيرها، كان من
الجبارين، وقد كاتبه الحاكم صاحب مصر في بعض الاحيان فاستماله إليه،
فخطب له ببلاده ثم تركه، واعتذر إلى الخليفة فعذره، وقد جمع هذا الجبار
بين أختين في النكاح، ولامته العرب، فقال: وأي شئ عملته ؟ إنما عملت ما
هو مباح في الشريعة (1) وقد نكب في أيام المعز الفاطمي ونهبت حواصله،
وحين توفي قام بالامر بعده ابن أخيه قريش بن بدران بن مقلد (2).
مودود بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة: توفي فيها وقام
بالامر من بعده عمه عبد الرشيد بن محمود.
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 2 / 172: قيل له إن الشريعة تحرم هذا.
فقال: وأي شئ عندنا تجيزه الشريعة ؟ (2) قال ابن الاثير في الكامل وأبو
الفداء في مختصره: إن بركة بن المقلد زعيم الدولة - وأخا قرواش - هو
الذي مات في
هذه السنة، وكان قرواش في محبسه وتسلم الملك ابن أخيه قريش بن بدران
حيث أبقى على عمه قرواش محبوسا في قلعة الجراحية حيث مات في سنة 444 ه
وقيل قتله قريش في مجلسه (مختصر أخبار البشر 2 / 172) وحمل ميتا إلى
الموصل ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل (الكامل 9 / 587 -
العبر لابن خلدون 4 / 264 مختصر أخبار البشر).
(*)
(12/78)
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة في صفر منها وقع الحرب بين الروافض
والسنة، فقتل من الفريقين خلق كثير، وذلك أن الروافض نصبوا أبراجا
وكتبوا عليها بالذهب: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى
فقد كفر.
فأنكرت السنة إقران علي مع محمد صلى الله عليه وسلم في هذا، فنشبت
الحرب بينهم، واستمر القتال بينهم إلى ربيع الاول، فقتل رجل هاشمي فدفن
عند الامام أحمد، ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوا
من ضريح موسى ومحمد الجواد، وقبور بني بويه، وقبور من هناك من الوزرا
وأحرق قبر جعفر بن المنصور، ومحمد الامين، وأمه زبيدة، وقبور كثيرة
جدا، وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود، وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضا
بمفاسد كثيرة، وبعثروا قبورا قديمة، وأحرقوا من فيها من الصالحين، حتى
هموا بقبر الامام أحمد، فمنعهم النقيب، وخاف من غائلة ذلك، وتسلطا على
الرافضة عيار يقال له القطيعي، وكان يتبع رؤسهم وكبارهم فيقتلهم جهارا
وغيلة، وعظمت المحنة بسببه جدا، ولم يقدر عليه أحد، وكان في غاية
الشجاعة والبأس والمكر، ولما بلغ ذلك دبيس بن علي بن مزيد - وكان
رافضيا - قطع خطبة الخليفة، ثم روسل فأعادها.
وفي رمضان منها جاءت من الملك طغرلبك رسل شكر للخليفة على إحسانه إليه
بما كان بعثه له من الخلع والتقليد وأرسل إلى الخليفة بعشرين ألف
دينار، وإلى الحاشية بخمسة آلاف، وإلى رئيس الرؤساء بألفي دينار، وقد
كان طغرلبك حين عمر الري وخرب فيها أماكن وجد فيها دفائن كثيرة من
الذهب والجوهر، فعظم شأنه بذلك، وقوي ملكه بسببه.
وممن توفي فيها من الاعيان...محمد
بن محمد بن أحمد
أبو الحسن الشاعر البصروي، نسبة إلى قرية دون عكبرا يقال لها بصرى باسم
المدينة التي هي أم حوران، وقد سكن بغداد، وكان متكلما مطبوعا، له
نوادر، من شعره قوله: نرى الدنيا وشهوتها فنصبوا (1) * وما يخلو من
الشهوات قلب فلا يغررك زخرف ما تراه * وعيش لين الاعطاف (2) رطب فضول
العيش أكثرها هموم * وأكثر ما يضرك ما تحب إذا ما بلغة جاءتك عفوا *
فخذها فالغنى مرعى وشرب إذا اتفق (3) القليل وفيه سلم * فلا ترد الكثير
وفيه حرب
__________
(1) في الكامل 9 / 581 والكتبي 2 / 156: ترى الدنيا وزينتها فتصبو، وفي
الوافي 1 / 120: وزهرتها.
(2) في الوافي: الاطراف.
(3) في الوافي: حصل.
(*)
(12/79)
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة فيها كتبت تذكرة الخلفاء المصريين
وأنهم أدعيا كذبة لا نسب لهم صحيحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
نسخا كثيرة، وكتب فيها الفقهاء والقضاة والاشراف.
وفيها كانت زلازل عظيمة في نواحي أرجان والاهواز وتلك البلاد، تهدم
بسببها شئ كثير من العمران وشرفات القصور، وحكى بعض من يعتد قوله أنه
انفراج إيوانه وهو يشاهد ذلك، حتى رأى السماء منه ثم عاد إلى حاله لم
يتغير.
وفي ذي القعدة منها تجددت الحرب بين أهل السنة والروافض، وأحرقوا أماكن
كثيرة، وقتل من الفريقين خلائق، وكتبوا على مساجدهم: محمد وعلي خير
البشر، وأذنوا بحي على خير العمل، واستمرت الحرب بينهم، وتسلط القطيعي
العيار على الروافض، بحيث كان لا يقر لهم معه قرار، وهذا من جملة
الاقدار.
وفيها توفي من الاعيان..الحسن بن
علي
ابن محمد بن علي بن أحمد بن وهب بن شنبل بن قرة بن واقد، أبو علي
التميمي الواعظ، المعروف بابن المذهب، ولد سنة خمس وخمسين وثلثمائة،
وسمع مسند الامام أحمد من أبي بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن
الامام أحمد، عن أبيه، وقد سمع الحديث من أبي بكر بن ماسي وابن شاهين
والدار قطني وخلق، وكان دينا خيرا، وذكر الخطيب أنه كان صحيح السماع
لمسند أحمد من القطيعي غير أنه ألحق اسمه في أجزاء.
قال ابن الجوزي: وليس هذا بقدح في سماعه، لانه إذا تحقق سماعه جاز أن
يلحق اسمه فيما تحقق سماعه له، وقد عاب عليه الخطيب أشياء لا حاجة
إليها.
علي بن الحسين ابن محمد، أبو الحسن المعروف بالشاشي البغدادي، وقد أقام
بالبصرة واستحوذ هو وعمه على أهلها، وعمل أشياء من الحيل يوهم بها أنه
من ذوي الاحوال والمكاشفات، وهو في ذلك كاذب قبحه الله وقبح عمه، وقد
كان مع هذا رافضيا خبيثا قرمطيا، توفي في هذا العام فلله الحمد والشكر
والانعام.
(12/80)
القاضي أبو
جعفر محمد بن أحمد (1) بن أحمد، أبو جعفر السمناني القاضي، أحد
المتكلمين على طريقة الشيخ أبي الحسن الاشعري، وقد سمع الدارقطني
وغيره، كان عالما فاضلا سخيا، تولى القضاء بالموصل، وكان له في داره
مجلس للمناظرة، وتوفي لما كف بصره بالموصل وهو قاضيها، في ربيع الاول
منها وقد بلغ خمسا وثمانين سنة، سامحه الله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
فيها تجدد الشر والقتال والحريق بين السنة والروافض، وسرى الامر وتفاقم
الحال.
وفيها وردت الاخبار بأن المعز الفاطمي عازم على قصد العراق.
وفيها نقل إلى الملك طغرلبك أن الشيخ أبا الحسن الاشعري يقول بكذا
وكذا، وذكر بشئ من الامور التي لا تليق بالدين والسنة، فأمر
بلعنه، وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك، فضج أبو القاسم القشيري
عبد الكريم بن هوازن من ذلك، وصنف رسالة في شكاية أهل السنة لما نالهم
من المحنة، واستدعى السلطان جماعة من رؤس الاشاعرة منهم القشيري فسألهم
عما أنهي إليه من ذلك.
فأنكروا ذلك، وأن يكون الاشعري قال ذلك.
فقال السلطان: نحن إنما لعنا من يقول هذا..وجرت فتنة عظيمة طويلة.
وفيها استولى فولا بسور (2) الملك أبي كاليجار على شيراز، وأخرج منها
أخاه أبا سعد، وفي شوال سار البساسيري إلى أكراد وأعراب أفسدوا في
الارض فقهرهم وأخذ أموالهم.
ولم يحج فيها أحد من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان...أحمد بن
عمر بن روح أبو الحسن النهرواني، كان ينظر في العيار بدار الضرب، وله
شعر حسن، قال: كنت يوما على شاطئ النهروان، فسمعت رجلا يتغنى في سفينة
منحدرة يقول: وما طلبوا سوى قتلي * فهان علي ما طلبوا قال فاستوقفته
وقلت: أضف إليه غيره فقال: على قتلي الاحب * ة في التمادي، بالجفا
غلبوا (3)
__________
(1) في الوافي 2 / 65: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد.
(3) في الكامل 9 / 595: فولاستون، وفي تاريخ أبي الفداء 2 / 172 وابن
الوردي 1 / 535: فلاستون.
(3) في الكامل 9 / 604: على قلبي الاحبة با * لتمادي في الهوى غلبوا.
وذكر وفاته ابن الاثير سنة 446 ه.
(*)
(12/81)
وبالهجران من
عيني * طيب النوم قد سلبوا وما طلبوا سوى قتلي * فهان علي ما طلبوا
إسماعيل بن علي ابن الحسين بن محمد بن زنجويه، أبو سعيد (1) الرازي،
المعروف بالسمان، شيخ المعتزلة،
سمع الحديث الكثير وكتب عن أربعة آلاف شيخ، وكان عالما عارفا فاضلا مع
اعتزاله، ومن كلامه: من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الاسلام، وكان
حنفي المذهب، عالما بالخلاف والفرائض والحساب وأسماء الرجال، وقد ترجمه
ابن عساكر في تاريخه فأطنب في شكره والثناء عليه.
عمر بن الشيخ أبي طالب المكي محمد بن علي بن عطية، سمع أباه وابن
شاهين، وكان صدوقا يكنى بأبي جعفر.
محمد بن أحمد ابن عثمان بن الفرج الازهر، أبو طالب المعروف بابن
السوادي، وهو أخو أبي القاسم الازهري توفي عن نيف وثمانين سنة.
محمد بن أبي تمام الزينبي نقيب النقباء، قام ببغداد بعد أبيه مقامه
بالنقابة.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة فيها غزا
السلطان طغرلبك بلاد الروم بعد أخذه بلاد أذربيجان، فغنم من بلاد الروم
وسبى وعمل أشياء حسنة، ثم عاد سالما فأقام بأذربيجان سنة.
وفيها أخذ قريش بن بدران الانبار، وخطب بها وبالموصل لطغرلبك، وأخرج
منها نواب البساسيري.
وفيها دخل البساسيري بغداد مع بني خفاجة منصرفه من الوقعة، وظهرت منه
آثار النفرة للخلافة، فراسلة الخليفة لتطيب نفسه،
__________
(1) في تذكرة الحفاظ 3 / 1121 وشذرات الذهب 3 / 273: أبو سعد.
وذكر الذهبي وفاته سنة 443 ه نقلا عن أبي القاسم بن عساكر.
(*)
(12/82)
وخرج في ذي
الحجة إلى الانبار فأخذها، وكان معه دبيس بن علي بن مزيد، وخرب أماكن
وحرق غيرها ثم أذن له الخليفة في الدخول إلى بيت النوبة ليخلع عليه،
فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة فقبل الارض وانصرف إلى منزله، ولم يعبر،
فقويت الوحشة.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسين
بن جعفر بن محمد ابن داود، أبو عبد الله السلماسي، سمع ابن شاهين وابن
حيويه والدارقطني، وكان ثقة مأمونا مشهورا باصطناع المعروف، وفعل
الخير، وافتقاد الفقراء، وكثرة الصدقة، وكان قد أريد على الشهادة فأبى
ذلك، وكان له في كل شهر عشرة دنانير نفقة لاهله.
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله الاصبهاني، المعروف بابن
اللبان، أحد تلامذة أبي حامد الاسفراييني، ولي قضاء الكرخ، وكان يصلي
بالناس التراويح، ثم يقوم بعد انصرافهم فيصلي إلى أن يطلع الفجر، وربما
انقضى الشهر عنه ولم يضطجع إلى الارض رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة فيها
ملك طغرلبك بغداد، وهو أول ملوك السلجوقية، ملكها وبلاد العراق.
وفيها تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري، واشتكت الاتراك منه، وأطلق
رئيس الرؤساء عبارته فيه، وذكر قبيح أفعاله، وأنه كاتب المصريين
بالطاعة، وخلع ما كان عليه من طاعة العباسيين، وقال الخليفة وليس إلا
إهلاكه.
وفيها غلت الاسعار بنواحي الاهواز حتى بيع الكر بشيراز بألف دينار.
وفيها وقعت الفتنة بين السنة والرافضة على العادة، فأقتتلوا قتالا
مستمرا، ولا تمكن الدولة أن يحجزوا بين الفريقين.
وفيها وقعت الفتنة بين الاشاعرة والحنابلة، فقوي جانب الحنابلة قوة
عظيمة، بحيث إنه كان ليس لاحد من الاشاعرة أن يشهد الجمعة ولا
الجماعات.
قال الخطيب: كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري قد عظم أمره
واستفحل، لعدم أقرانه من مقدمي الاتراك، واستولى على البلاد وطار اسمه،
وخافته أمراء العرب والعجم، ودعي له على كثير من المنابر العراقية
والاهواز ونواحيها، ولم يكن للخليفة قطع ولا وصل دونه، ثم صح عند
الخليفة سوء عقيدته، وشهد عنده جماعة من الاتراك أنه عازم على نهب دار
الخلافة، وأنه يريد (*)
(12/83)
القبض على
الخليفة، فعند ذلك كاتب الخليفة محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب
طغرلبك
يستنهضه على المسير إلى العراق، فانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا
إلى بغداد سريعا، ثم أجمع رأيهم على قصد دار البساسيري وهي في الجانب
الغربي فأحرقوها، وهدموا أبنيتها، ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في
رمضان سنة سبع وأربعين، وقد تلقاه إلى أثناء الطريق الامراء والوزراء
والحجاب، ودخل بغداد في أبهة عظيمة جدا، وخطب له بها ثم بعده للملك
الرحيم، ثم قطعت خطبة الملك الرحيم، ورفع إلى القلعة (1) معتقلا عليه،
وكان آخر ملوك بني بويه، وكانت مدة ولايتهم قريب المائة والعشر سنين،
وكان ملك الملك الرحيم لبغداد ست سنين وعشرة ايام (2)، ونزل طغرلبك دار
المملكة بعد الفراغ من عمارتها، ونزل أصحابه دور الاتراك وكان معه
ثمانية أفيلة، ووقعت الفتنة بين الاتراك والعامة ونهب الجانب الشرقي
بكماله، وجرت خبطة عظيمة.
وأما البساسيري فإنه فر من الخليفة إلى بلاد الرحبة وكتب إلى صاحب مصر
بأنه على إقامة الدعوى له بالعراق، فأرسل إليه بولاية الرحبة ونيابته
بها، ليكون على أهبة الامر الذي يريد.
وفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة قلد أبو عبد الله محمد بن علي
الدامغاني قضاء القضاة، وخلع عليه به، وذلك بعد موت ابن ماكولا، ثم خلع
الخليفة على الملك طغرلبك بعد دخوله بغداد بيوم، ورجع إلى داره وبين
يديه الدبادب والبوقات.
وفي هذا الشهر توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن الخليفة القائم
بأمر الله، وهو ولي عهد أبيه فعظمت الرزية به، وفيها استولى أبو كامل
علي بن محمد الصليحي الهمداني على أكثر أعمال اليمن، وخطب للفاطميين،
وقطع خطبة العباسيين.
وفيها كثر فساد الغز ونهبوا دواب النالس حتى بيع الثور بخمسة قراريط.
وفيها اشتد الغلاء بمكة وعدمت الاقوات، وأرسل الله عليهم جرادا فتعوضوا
به عن الطعام.
ولم يحج أحد من أهل العراق.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن
بن علي ابن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن أبي دلف بن العجلي قاضي
القضاة، المعروف بابن ماكولا الشافعي، وقد ولي القضاء بالبصرة، ثم ولي
قضاء القضاة ببغداد سنة عشرين وأربعمائة في خلافة
المقتدر، وأقره ابنه القائم إلى أن مات في هذه السنة، عن تسع وسبعين
سنة، منها في القضاء سبع
__________
(1) وهي قلعة السيروان (العبر - الكامل).
(2) في العبر 4 / 494: ست سنين.
(*)
(12/84)
وعشرون سنة،
وكان صينا دينا لا يقبل من أحد هدية ولا من الخليفة، وكان يذكر أنه سمع
من أبي عبد الله بن منده، وله شعر حسن فمنه: تصابى برهة من بعد شيب *
فما أغنى المشيب عن التصابي وسود عارضيه بلون خضب * فلم ينفعه تسويد
الخضاب وأبدى للاحبة كل لطف * فما زادوا سوى فرط اجتناب سلام الله عودا
بعد بدئ * على أيام ريعان الشباب تولى عزمه يوما وأبقى * بقلبي حسرة ثم
اكتئاب علي بن المحسن بن علي ابن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم
التنوخي، قال ابن الجوزي: وتنوخ اسم لعدة قبائل اجتمعوا بالبحرين،
وتحالفوا على التناصر والتآزر، فسموا تنوخا (1).
ولد بالبصرة سنة خمس وخمسين (2) وثلثمائة، وسمع الحديث سنة سبعين،
وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته، وولي القضاء بالمدائن وغيرها، وكان
صدوقا محتاطا، إلا أنه كان يميل إلى الاعتزال والرفض.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة في يوم
الخميس لثمان بقين من المحرم عقد الخليفة على خديجة بنت أخي السلطان
طغرلبك على صداق مائة ألف دينار، وحضر هذا العقد عميد الملك الكندري،
وزير طغرلبك، وبقية العلويين وقاضي القضاة الدامغاني والماوردي، ورئيس
الرؤساء ابن المسلمة.
فلما كان شعبان ذهب رئيس الرؤساء إلى الملك طغرلبك وقال له: أمير
المؤمنين يقول لك قال الله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات
إلى أهلها) [ النساء: 58 ] وقد أمرني أن أنقل الوديعة إلى داره
العزيزة، فقال:
السمع والطاعة، فذهبت أم الخليفة لدار الملك لاستدعاء العروس، فجاءت
معها وفي خدمتها الوزير عميد الملك والحشم، فدخلوا داره وشافه الوزير
الخليفة عن عمها وسأله اللطف بها والاحسان إليها، فلما دخلت إليه قبلت
الارض مرارا بين يديه، فأدناها إليه وأجلسها إلى جانبه، وأفاض عليها
خلعا سنية وتاجا من جوهر ثمين، وأعطاها من الغد مائة ثوب ديباجا،
وقصبات من
__________
(1) قال أبو عبيد: التتنخ المقام، وتنوخ ثلاث أبطن: نزار والاحلاف
وفهمي سموا بذلك لانهم حلفوا على المقام بمكان بالشام.
وقال الجوهري: هم حي من اليمن يعني من القحطانية.
وقال أبو الفداء: إنهم من قضاعة، وقال ابن حزم: تنوخ: مجتمعة من عدة
بطون (نهاية الارب للقلقشندي وجمهرة أنساب العرب).
(3) في الكامل 9 / 615: وستين.
(*)
(12/85)
ذهب، وطاسة ذهب
قد نبت فيها الجوهر والياقوت والفيروزج، وأقطعها في كل سنة من ضياعه ما
يغل اثنا عشر ألف دينار، وغير ذلك.
وفيها أمر السلطان طغرلبك ببناء دار الملك العضدية فخربت محال كثيرة في
عمارتها، ونهبت العامة أخشابا كثيرة من دور الاتراك، والجانب الغربي،
وباعوه على الخبازين والطباخين، وغيرهم.
وفيها رجع غلاء شديد على الناس وخوف ونهب كثير ببغداد، ثم أعقب ذلك
فناء كثير بحيث دفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين، وغلت الاشربة
وما تحتاج إليه المرضى كثيرا، واعترى الناس موت كثير، واغبر الجو وفسد
الهواء.
قال ابن الجوزي: وعم هذا الوباء والغلاء مكة والحجاز وديار بكر والموصل
وبلاد بكر وبلاد الروم وخراسان والجبال والدنيا كلها.
هذا لفظه في المنتظم.
قال: وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجدوا عند
الصباح موتى أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على
الثياب التي كورها ليأخذها فلم يمهل.
وفيها أمر رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكرخ، فانزعج أهلها لذلك،
وكان كثير الاذية للرافضة، وإنما كان يدافع عنهم عميد الملك الكندري،
وزير طغرلبك.
وفيها هبت ريح
شديدة وارتفعت سحابة ترابية وذلك ضحى، فأظلمت الدنيا، واحتاج الناس في
الاسواق وغيرها إلى السرج.
قال ابن الجوزي: وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب
له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع، وفي عرض نحو الذراع،
ولبث كذلك إلى النصف من رجب، ثم اضمحل.
وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين.
وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت وخطب بها للمصريين.
وفيها ألزم الروافض بترك الاذان بحي على خير العمل، وأمروا أن ينادي
مؤذنهم في أذان الصبح، وبعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم،
مرتين، وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة: محمد وعلي
خير البشر، ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ، ينشدون
بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لان بني
بويه كانوا حكاما، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا، وذهبت
دولتهم، وجاء بعدهم قوم آخرون من الاتراك السلجوقية الذين يحبون أهل
السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم، والله المحمود، أبدا على طول المدى.
وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض،
لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل على باب دكانه، وهرب أبو
جعفر الطوسي ونهبت داره.
وفيها جاء البساسيري قبحه الله إلى الموصل ومعه نور الدولة دبيس في جيش
كثيف، فاقتتل مع صاحبها قريش ونصره قتلمش ابن عم طغرلبك، وهو جد ملوك
الروم، فهزمهما البساسيري، وأخذ البلدا قهرا، فخطب بها للمصريين، وأخرج
كاتبه من السجن، وقد كان أظهر الاسلام ظنا
(12/86)
منه أنه ينفعه،
فلم ينفعه فقتل، وكذلك خطب للمصريين فيها بالكوفة وواسط وغيرها من
البلاد.
وعزم طغرلبك على المسير إلى الموصل لمناجزة البساسيري فنهاه الخليفة عن
ذلك لضيق الحال وغلاء الاسعار، فلم يقبل فخرج بجيشه قاصدا الموصل
بجحافل عظيمة، ومعه الفيلة والمنجنيقات، وكان جيشه لكثرتهم ينهبون
القرى، وربما سطوا على بعض الحريم، فكتب الخليفة إلى السلطان ينهاه عن
ذلك، فبعث إليه يعتذر لكثرة من معه، واتفق أنه رأى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المنام فسلم عليه
فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله لاي شئ تعرض عني ؟ فقال: يحكمك الله في
البلاد ثم لا ترفق بخلقه ولا تخاف من جلال الله عزوجل.
فاستيقظ مذعورا وأمر وزيره أن ينادي في الجيش بالعدل، وأن لا يظلم أحد
أحدا.
ولما اقترب من الموصل فتح دونها بلادا، ثم فتحها وسلمها إلى أخيه داود،
ثم سار منها إلى بلاد بكر ففتح أماكن كثيرة هناك.
وفيها ظهرت دولة الملثمين (1) ببلاد المغرب، وأظهروا إعزاز الدين وكلمة
الحق واستولوا على بلاد كثيرة منها سجلماسة وأعمالها والسوس، وقتلوا
خلقا كثيرا من أهلها، وأول ملوك الملثمين رجل يقال له أبو بكر بن عمر،
وقد أقام بسجلماسة إلى أن توفي سنة ثنتين وستين وكما سيأتي بيانه، ثم
ولي بعده أبو نصر يوسف بن تاشفين، وتلقب بأمير المؤمنين، وقوي أمره،
وعلا قدره ببلاد المغرب.
وفيها ألزم أهل الذمة بلبس الغيار ببغداد، عن أمر السلطان.
وفيه ولد لذخيرة الدين بعد موته من جارية له ولد ذكر، وهو أبو القاسم
عبد الله المقتدي بأمر الله.
وفيها كان الغلاء والفناء أيضا مستمرين على الناس ببغداد وغيرها من
البلاد، على ما كان عليه الامر في السنة الماضية ؟، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
ولم يحج أحد من أهل العراق فيها.
وفيها توفي من الاعيان...علي بن
أحمد بن علي بن سلك أبو الحسن المؤدب، المعروف بالفالي، صاحب الامالي
(2)، وفالة قرية قريبة من إيذج، أقام
__________
(1) الملثمون: وهم عدة قبائل ينتسبون إلى حمير أشهرها لمتونة وجدالة
ولمطة.
كان أول مسيرهم من اليمن أيام أبي بكر الصديق (رض) فسيرهم إلى الشام ثم
انتقلوا إلى مصر ودخلوا المغرب مع ابن نصبر وتوجهوا مع طارق إلى طنجة
فأحبوا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية.
وسموا بالملثمين لانهم كانوا يتلثمون في الصحراء من الحر والبرد كما
يفعل العرب وقيل غير ذلك.
والغالب على ألوانهم السمرة (الكامل 9 / 621 - مختصر أخبار البشر 2 /
174 ابن الوردي 1 / 537).
(2) صاحب الامالي اسمه أبو علي اسماعيل بن القاسم ووفاته سنة 356
(وفيات الاعيان 1 / 227).
فجعله صاحب
الامالي خطأ بلا شك فالقالي نسبة إلى قالي قلا وهي من أعمال ديار بكر.
فأبو الحسن المذكور والمعروف بالفالي - بالفاء كما في النجوم الزاهرة
والكامل لابن الاثير 9 / 632.
(*)
(12/87)
بالبصرة مدة،
وسمع بها من عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها،
وكان ثقة في نفسه، كثير الفضائل.
ومن شعره الحسن: لما تبدلت المجالس أوجها * غير الذين عهدت من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الاولى * كانوا ولاة صدورها وفنائها أنشدت بيتا
سائرا متقدما * والعين قد شرقت بجاري مائها أما الخيام فإنها كخيامهم *
ورأى نساء الحي غير نسائها ومن شعره أيضا: تصدر للتدريس كل مهوس * بليد
تسمى بالفقيه المدرس فحق لاهل العلم أن يتمثلوا * ببيت قديم شاع في كل
مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها * كلاها وحتى سامها كل مفلس محمد بن
عبد الواحد بن محمد الصباغ الفقيه الشافعي، وليس بصاحب الشامل، ذاك
متأخر وهذا من تلاميذ أبي حامد الاسفراييني، كانت له حلقة للفتوى بجامع
المدينة، وشهد عند قاضي القضاة الدامغاني الحنفي فقبله، وقد سمع الحديث
من ابن شاهين وغيره، وكان ثقة جليل القدر.
هلال بن المحسن ابن إبراهيم بن هلال، أبو الخير الكاتب الصابئ، صاحب
التاريخ، وجده أبو إسحاق الصابئ صاحب الرسائل، وكان أبوه صابئيا أيضا،
أسلم هلال هذا متأخرا، وحسن إسلامه، وقد سمع في حال كفره من جماعة من
المشايخ، وذلك أنه كان يتردد إليهم يطلب الادب، فلما أسلم نفعه ذلك،
وكان ذلك سبب إسلامه على ما ذكره ابن الجوزي: بسنده مطولا، أنه رأى
رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المنام مرارا يدعوه إلى الله عزوجل، ويأمره
بالدخول في الاسلام، ويقول له: أنت رجل عاقل، فلم تدع دين الاسلام الذي
قامت عليه الدلائل ؟ وأراه آيات في المنام شاهدها في اليقظة، فمنها أن
قال له: إن امرأتك حامل بولد ذكر، فسمه محمدا، فولدت ذكرا، فسماه
محمدا، وكناه أبا الحسن، في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي، فأسلم وحسن
إسلامه، وكان صدوقا.
توفي عن تسعين سنة، منها في الاسلام نيف وأربعون سنة.
(12/88)
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة فيها كان الغلاء والفناء مستمرين
ببغداد وغيرها من البلاد،
بحيث خلت أكثر الدور وسدت على أهلها أبوابها بما فيها، وأهلها موتى
فيها، ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد وأكل الناس
الجيف والنتن من قلة الطعام، ووجد مع امرأة فخذ كلب قد اخضر وشوى رجل
صبية في الاتون وأكلها، فقيل وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خمس أنفس
فاقتسموه وأكلوه، وورد كتاب من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن
معاملتها ثمانية عشر ألف إنسان، وأحصي من مات في هذا الوباء من تلك
البلاد إلى يوم كتب فيه هذا الكتاب بألف ألف، وخمسمائة (1) ألف وخمسين
ألف إنسان، والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقا فارغة
وطرقات خالية، وأبوابا مغلقة، ووحشة وعدم أنس.
حكاه ابن الجوزي.
قال: وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم، وأنه لم يسلم
من تلك البلاد إلا العدد اليسير جدا.
قال: ووقع وباء بالاهواز وبواط وأعمالها وغيرها، حتى طبق البلاد، وكان
أكثر سبب ذلك الجوع، كان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور ويشوون
الموتى ويأكلونهم، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الاموات
وتجهيزهم ودفنهم، فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون، وكان
الانسان بينما هو جالس إذ انشق قلبه عن دم المهجة، فيخرج منه إلى الفم
قطرة فيموت الانسان من وقته، وتاب الناس وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم
يجدوا أحدا يقبل منهم، وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة
والدراهم والثياب فيقول: أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي، فلا يجد ذلك،
وأراق الناس الخمور
وكسروا آلات اللهو، ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن، وقل دار
يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم، ودخل على مريض له سبعة أيام في
النزع فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر فأراقوها فمات من
وقته بسهولة، ومات رجل في مسجد فوجدوا معه خمسين ألف درهم، فعرضت على
الناس فلم يقبلها أحد فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد، فلما
كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها، فلم يخرج من المسجد منهم
أحد حي، بل ماتوا جميعا.
وكان الشيخ أبو محمد عبد الجبار بن محمد يشتغل عليه سبعمائة متفقه،
فمات وماتوا كلهم إلا اثني عشر نفرا منهم، ولما اصطلح السلطان دبيس بن
علي رجع إلى بلاده فوجدها خرابا لقلة أهلها من الطاعون، فأرسل رسولا
منهم إلى بعض النواحي فتلقاه طائفة فقتلوه وشووه وأكلوه.
قال ابن الجوزي: وفي يوم الاربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت
قطيعة عيسى وسوق الطعام والكنيس، وأصحاب السقط وباب الشعير، وسوق
العطارين وسوق العروس والانماطيين والخشابين والجزارين والتمارين،
والقطيعة وسوق مخول ونهر الزجاج وسويقة غالب والصفارين
__________
(1) في الكامل 9 / 637: وستمائة.
(*)
(12/89)
والصباغين وغير
ذلك من المواضع، وهذه مصيبة أخرى إلى ما بالناس من الجوع والغلاء
والفناء، ضعف الناس حتى طغت النار فعملت أعمالها، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
وفيها كثر العيارون ببغداد، وأخذوا الاموال جهارا، وكبسوا الدور ليلا
ونهارا، وكبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة، وأحرقت كتبه ومآثره،
ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته، ويدعو إليها أهل ملته
ونحلته، ولله الحمد.
وفيها دخل الملك طغرلبك بغداد عائدا إليها من الموصل فتلقاه الناس
والكبراء إلى أثناء الطريق، وأحضر له ريئس الرؤساء خلعة من الخليفة
مرصعة بالجوهر فلبسها، وقبل الارض ثم بعد ذلك دخل دار الخلافة، وقد ركب
إليها فرسا من مراكب الخليفة، فلما دخل على الخليفة إذا هو على سرير
طوله سبعة أذرع، وعلى كتفه البردة النبوية، وبيده القضيب، فقبل الارض
وجلس على سرير دون سرير الخليفة، ثم قال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له:
أمير المؤمنين
حامد لسعيك شاكر لفعلك، آنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى
من بلاده، فاتق الله فيما ولاك، واجتهد في عمارة البلاد وإصلاح العباد
ونشر العدل، وكف الظلم، ففسر له عميد الدولة ما قال الخليفة فقام وقبل
الارض وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه،
ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق.
ثم أمره الخليفة أن ينهض للبس الخلعة فقام إلى بيت في ذلك البهو، فأفيض
عليه سبع خلع وتاج، ثم عاد فجلس على السرير بعد ما قبل يد الخليفة،
ورام تقبيل الارض فلم يتمكن من التاج، فأخرج الخليفة سيفا فقلده إياه
وخوطب بملك الشرق والغرب، وأحضرت ثلاث ألوية فعقد منها الخليفة لواء
بيده، وأحضر العهد إلى الملك، وقرئ بين يديه بحضرة الملك وأوصاه
الخليفة بتقوى الله والعدل في الرعية، ثم نهض فقبل يد الخليفة ثم وضعها
على عينيه، ثم خرج في أبهة عظيمة إلى داره وبين يديه الحجاب والجيش
بكماله، وجاء الناس للسلام عليه، وأرسل إلى الخليفة بتحف عظيمة، منها
خمسون ألف دينار، وخمسون غلاما أتراكا، بمراكبهم وسلاحهم ومناطقهم،
وخمسمائة ثوب أنواعا، وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار، وخمسين قطعة
قماش وغير ذلك.
وفيها قبض صاحب مصر على وزيره أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن البازري
(1)، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار، وأحيط على ثمانين من أصحابه، وقد كان
هذا الوزير فقيها حنفيا، يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين، وقد كان
الشيخ أبو يوسف القزويني يثني عليه ويمدحه.
وممن توفي فيها من الاعيان...
__________
(1) في الكامل 9 / 635 ومختصر أخبار البشر 2 / 176: البازوري.
قال أبو الفداء: وهو الحسن بن عبد الله وكان قاضيا في الرملة على مذهب
أبي حنيفة ثم تولى الوزارة.
(*)
(12/90)
أحمد بن عبد
الله بن سليمان ابن محمد بن سليمان بن أحمد سليمان بن داود بن المطهر
بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن
النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة (1) بن
تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة
أبو العلاء المعري التنوخي الشاعر، المشهور بالزندقة، اللغوي، صاحب
الدواوين والمصنفات في الشعر واللغة، ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس
لثلاث بقين من ربيع الاول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وأصابه جدري وله
أربع سنين أو سبع، فذهب بصره، وقال الشعر وله إحدى أو ثنتا عشرة سنة،
ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم
خرج منها طريدا منهزما ولانه سأل سؤالا بشعر يدل على قلة دينه وعلمه
وعقله فقال: تناقض فما لنا إلا السكوت له * وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار وهذا من إفكه
يقول: اليد ديتها خمسمائة دينار، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار،
وهذا من قلة عقله وعلمه، وعمى بصيرته.
وذلك أنه إذا جنى عليه يناسب أن يكون ديتها كثيرة لينزجر الناس عن
العدوان، وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر
الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم، ولهذا قال بعضهم: كانت ثمينة لما
كانت أمينة، فلما خانت هانت.
ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده، ولزم منزله
فكان لا يخرج منه.
وكان يوما عند الخليفة وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه، وكان أبو
العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه، فجرى ذكر المتنبي في ذلك
المجلس فذمه الخليفة، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته
التي أولها * لك يا منازل في القلوب منازل * لكفاه ذلك.
فغضب الخليفة وأمر به فسحب برجله على وجهه وقال: أخرجوا عني هذا الكلب.
وقال الخليفة: أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة ؟ وذكره لها ؟
أراد قول المتنبي فيها: وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الدليل علي أني
كامل وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا.
وهذا من فرط ذكاء الخليفة، حيث تنبه لهذا.
وقد كان المعري أيضا من الاذكياء، ومكث المعري خمسا وأربعين سنة من
عمره لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض، ولا شيئا من حيوان، على طريقة
البراهمة الفلاسفة، ويقال إنه اجتمع
براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده، فشككه
في دين الاسلام،
__________
(1) في وفيات الاعيان 1 / 113: جذيمة.
(*)
(12/91)
وكان يتقوت
بالنبات وغيره، وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين، وكان
لا يأكل بحضرة أحد، ويقول: أكل الاعمى عورة، وكان في غاية الذكاء
المفرط، وعلى ما ذكروه، وأما ما ينقلونه عنه من الاشياءة المكذوبة
المختلقة من أنه وضع تحت سريره درهم فقال: إما أن تكون السماء قد
انخفضت مقدار درهم أو الارض قد ارتفعت مقدار درهم، أي أنه شعر بارتفاع
سريره عن الارض مقدار ذلك الدرهم الذي وضع تحته، فهذا لا أصل له.
وكذلك يذكرون عنه أنه مر في بعض أسفاره بمكان فطأطأ رأسه فقيل له في
ذلك فقال: أما هنا شجرة ؟ قالوا: لا، فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هنا في
الموضع الذي طأطأ رأسه فيه، وقد قطعت، وكان قد اجتاز بها قديما مرة
فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه لما جازوا تحتها، فلما مر بها المرة
الثانية طأطأ رأسه خوفا من أن يصيبه شئ منها، فهذا لا يصح.
وقد كان ذكيا، ولم يكن زكيا، وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر، وفي
بعض أشعاره ما يدل على زندقته، وانحلاله من الدين، ومن الناس من يعتذر
عنه ويقول: إنه إنما كان يقول ذلك مجونا ولعبا، ويقول بلسانه ما ليس في
قلبه، وقد كان باطنه مسلما.
قال ابن عقيل لما بلغه: وما الذي ألجأه أن يقول في دار الاسلام ما
يكفره به الناس ؟ قال: والمنافقون مع قلة عقلهم وعلمهم أجود سياسة منه،
لانهم حافظوا على قبائحهم في الدنيا وستروها، وهذا أظهر الكفر الذي
تسلط عليه به الناس وزندقوه، والله يعلم أن ظاهره كباطنه.
قال ابن الجوزي: وقد رأيت لابي العلاء المعري كتابا سماه الفصول
والغايات، في معارضة السور والآيات، على حروف المعجم في آخر كلماته وهو
في غاية الركاكة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته.
قال: وقد نظرت في كتابه المسمى لزوم ما لا يلزم، ثم أورد ابن الجوزي من
أشعاره الدالة على استهتاره بدين الاسلام أشياء كثيرة.
فمن ذلك قوله:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل * وترزق مجنونا وترزق أحمقا فلا ذنب يا رب
السماء على امرئ * رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا وقوله: ألا إن البرية
في ضلال * وقد نظر اللبيب لما اعتراها تقدم صاحب التوراة موسى * وأوقع
في الخسار من افتراها فقال رجاله وحي أتاه * وقال الناظرون بل افتراها
وما حجي إلى أحجار بيت * كروس الحمر تشرف في ذراها إذا رجع الحليم إلى
حجاه * تهاون بالمذاهب وازدراها وقوله: عفت الحنيفة والنصارى اهتدت *
ويهود جارت والمجوس مضلله
(12/92)
اثنان أهل
الارض ذو عقل بلا * دين وآخر ذو دين ولا عقل له وقوله: فلا تحسب مقال
الرسل حقا * ولكن قول زور سطروه فكان الناس في عيش رغيد * فجاؤوا
بالمحال فكدروه وقلت أنا معارضة عليه: فلا تحسب مقال الرسل زورا * ولكن
قول حق بلغوه وكان الناس في جهل عظيم * فجاؤوا بالبيان فأوضحوه وقوله:
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا * وأورثتنا افانين العداوات وهل أبيح نساء
الروم عن عرض * للعرب إلا بأحكام النبوات وقوله:
وما حمدي لآدم أو بنيه * وأشهد أن كلهم خسيس وقوله: أفيقوا أفيقوا يا
غواة فإنما * دياناتكم مكرا من القدما وقوله: صرف الزمان مفرق الالفين
* فاحكم إلهي بين ذاك وبيني نهيت عن قتل النفوس تعمدا * وبعثت تقبضها
مع الملكين وزعمت أن لها معادا ثانيا * ما كان أغناها عن الحالين
وقوله: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة * وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الايام حتى كأننا * زجاج ولكن لا يعود له سبك وقوله: أمور تستخف
بها حلوم * وما يدري الفتى لمن الثبور كتاب محمد وكتاب موسى * وإنجيل
ابن مريم والزبور وقوله: قالت معاشر لم يبعث إلهكم * إلى البرية عيساها
ولا موسى وإنما جعلوا الرحمن مأكلة * وصيروا دينهم في الناس ناموسا
(12/93)
وذكر ابن
الجوزي وغير أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه
الاشياء تدل على كفره وزندقته وانحلاله، ويقال إنه أوصى أن يكتب على
قبره: هذا جناه أبي علي * وما جنيت على أحد معناه أن أباه بتزوجه لامه
أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على
أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله.
وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كله وتاب منه، وأنه قال قصيدة يعتذر
فيها من ذلك كله، ويتنصل منه، وهي القصيدة التي يقول فيها:
يا من يرى مد البعوض جناحها * في ظلمة الليل البهيم الاليل ويرى مناط
عروقها في نحرها * والمخ في تلك العظام النحل أمنن علي بتوبة تمحو بها
* ما كان مني في الزمان الاول توفي في ربيع الاول من هذه السنة بمعرة
النعمان، عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يوما، وقد رثاه جماعة من
أصحابه وتلامذته، وأنشدت عند قبره ثمانون مرثاة، حتى قال بعضهم (1) في
مرثاة له: إن كنت لم ترق الدماء زهادة * فلقد أرقت اليوم من جفني دما
قال ابن الجوزي: وهؤلاء الذين رثوه والذين اعتقدوه: إما جهال بأمره،
وإما ضلال على مذهبه وطريقه.
وقد رأى بعضهم في النوم رجلا ضريرا على عاتقه حيتان مدليتان على صدره،
رافعتان رأسيهما إليه، وهما ينهشان من لحمه، وهو يستغيث، وقائل يقول:
هذا المعري الملحد وقد ذكره ابن خلكان فرفع في نسبه على عادته في
الشعراء، كما ذكرنا.
وقد ذكر له من المصنفات كتبا كثيرة، وذكر أن بعضهم وقف على المجلد
الاول بعد المائة من كتابه المسمى بالايك والغصون، وهو المعروف بالهمز
والردف، وأنه أخذ العربية عن أبيه واشتغل بحلب على محمد بن عبد الله بن
سعد النحوي، وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، والخطيب أبو
زكريا يحيى بن علي التبريزي، وذكر أنه مكث خمسا وأربعين سنة لا يأكل
اللحم على طريقة الحكماء، وأنه أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي
علي * وما جنيت على أحد قال ابن خلكان: وهذا أيضا متعلق باعتقاد
الحكماء، فإنهم يقولون اتخاذ الولد وإخراجه إلى هذا الوجود جناية عليه،
لانه يتعرض للحوادث والآفات.
قلت: وهذا يدل على أنه لم يتغير عن
__________
(1) وهو أبو الحسن علي بن همام.
(*)
(12/94)
اعتقاده، وهو ما يعتقده الحكماء إلى آخر وقت، وأنه لم يقلع عن ذلك كما
ذكره بعضهم، والله أعلم
بظواهر الامور وبواطنها، وذكر ابن خلكان أن عينه اليمنى كانت ناتئة
وعليها بياض، وعينه اليسرى غائرة، وكان نحيفا ثم أورد من أشعاره الجيدة
أبياتا فمنها قوله: لا تطلبن بآلة لك رتبة * قلم البليغ بغير جد مغزل
سكن السماء كان السماء كلاهما * هذا له رمح وهذا أعزل الاستاذ أبو
عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن عامر بن
عابد النيسابوري، الحافظ الواعظ المفسر، قدم دمشق وهو ذاهب إلى الحج
فسمع بها وذكر الناس، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة عظيمة، وأورد له أشياء
حسنة من أقواله وشعره، فمن ذلك قوله: إذا لم أصب أموالكم ونوالكم * ولم
آمل (1) المعروف منكم ولا البرا وكنتم عبيدا للذي أنا عبده * فمن أجل
ماذا أتعب البدن الحرا ؟ وروى ابن عساكر عن إمام الحرمين أنه قال: كنت
أتردد وأنا بمكة في المذاهب فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
عليك باعتقاد أبي عثمان الصابوني.
رحمه الله تعالى. |