البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة فيها قصد الفرنج لعنهم الله الشام
فقاتلهم المسلمون فقتلوا من الفرنج اثني عشر ألفا، ورد الله الذين
كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقد أسر في هذه الوقعة بردويل صاحب
الرها.
وفيها سقطت منارة واسط وقد كانت من أحسن المنائر، كان أهل البلد
يفتخرون بها وبقبة الحجاج، فلما سقطت سمع لاهل البلد بكاء وعويل شديد،
ومع هذا لم يهلك بسببها أحد، وكان بناؤها في سنة أربع وثلاثمائة في زمن
المقتدر.
وفيها تأكد الصلح بين الاخوين السلطانين بركيارق ومحمد، وبعث إليه
بالخلع وإلى الامير إياز.
وفيها أخذت مدينة عكا وغيرها من السواحل.
وفيها استولى الامير سيف الدولة صدقة بن منصور صاحب الحلة على مدينة
واسط.
وفيها توفي الملك دقاق بن تتش صاحب
دمشق، فأقام مملوكه طغتكين ولدا له صغيرا مكانه، وأخذ البيعة له، وصار
هو أتابكه بدير المملكة مدة بدمشق.
وفيها عزل السلطان سنجر وزيره أبا الفتح الطغرائي ونفاه إلى غزنة.
وفيها ولي أبو
نصر نظام الحضريين ديوان الانشاء وفيها قتل الطبيب الماهر الحاذق أبو
نعيم (1)، وكانت له إصابات عجيبة.
وحج بالناس فيها الامير خمارتكين.
وممن توفي فيها من الاعيان..أزدشير
بن منصور أبو الحسن العبادي الواعظ، تقدم أنه قدم بغداد فوعظ بها
فأحبته العامة في سنة ست وثمانين وقد كانت له أحوال جيدة فيما يظهر
والله أعلم.
__________
(1) وهو أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي.
(*)
(12/201)
إسماعيل بن
محمد ابن أحمد بن عثمان، أبو الفرج القومساني، من أهل همدان، سمع من
أبيه وجده، وكان حافظا حسن المعرفة بالرجال وأنواع الفنون، مأمونا.
العلا بن الحسن بن وهب ابن الموصلايا، سعد الدولة، كاتب الانشاء
ببغداد، وكان نصرانيا فأسلم في سنة أربع وثمانين فمكت في الرياسة مدة
طويلة، نحوا من خمس وستين سنة، وكان فصيح العبارة، كثير الصدقة، وتوفي
عن عمر طويل.
محمد بن أحمد بن عمر أبو عمر النهاوندي.
قاضي البصرة مدة طويلة، وكان فقيها، سمع من أبي الحسن الماوردي وغيره
مولده في سنة سبع، وقيل تسع، وأربعمائة والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فيها
توفي السلطان بركيارق وعهد إلى ولده الصغير ملكشاه، وعمره أربع سنين
وشهورا (1)، وخطب له ببغداد، ونثر عند ذكره الدنانير والدراهم، وجعل
أتابكه الامير إياز ولقب جلال الدولة، ثم جاء السلطان محمد إلى بغداد
فخرج إليه أهل الدولة ليتلقوه وصالحوه، وكان الذي أخذ البيعة
بالصلح الكيا الهراسي، وخطب له بالجانب الغربي، ولابن أخيه بالجانب
الشرقي، ثم قتل الامير إياز وحملت إليه الخلع والدولة والدست، وحضر
الوزير سعد الدولة عند الكيا الهراسي، في درس النظامية، ليرغب الناس في
العلم، وفي ثامن رجب أزيل الغيار عن أهل الذمة الذين كانوا ألزموه في
سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولا يعرف ما سبب ذلك.
وفيها كانت حروب كثيرة ما بين المصريين والفرنج، فقتلوا من الفرنج خلقا
كثيرا، ثم أديل عليهم الفرنج فقتلوا منهم خلقا.
وممن توفي فيها من الاعيان..السلطان
بركيارق بن ملكشاه ركن الدولة السلجوقي، جرت له خطوب طويلة وحروب
هائلة، خطب له ببغداد ست
__________
(1) في الكامل 10 / 380: وثمانية أشهر.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 491: خمس سنين.
(*)
(12/202)
مرات، ثم تنقطع
الخطبة له ثم تعاد، مات وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهور (1)، ثم
قام من بعده ولده ملكشاه، فلم يتم له الامر بسبب عمه محمد.
عيسى بن عبد الله القاسم أبو الوليد الغزنوي الاشعري، كان متعصبا
للاشعري، خرج من بغداد قاصدا لبلده فتوفي باسفرايين.
محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن سلفة الاصبهاني، أبو أحمد، كان شيخا عفيفا
ثقة، سمع الكثير، وهو والد الحافظ أبي طاهر السلفي الحافظ.
أبو علي الخيالي (2): الحسين بن محمد ابن أحمد الغساني الاندلسي، مصنف
تقييد المهمل على الالفاظ، وهو كتاب مفيد كثير النفع وكان حسن الخط
عالما باللغة والشعر والادب، وكان يسمع في جامع قرطبة، توفي ليلة
الجمعة لثنتي عشرة خلت من شعبان، عن إحدى وسبعين سنة.
محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر أبو الحسن الواسطي، سمع الحديث
وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الادب وقال الشعر.
من ذلك قوله: من قال لي جاه ولي حشمة * ولي قبول عند مولانا ولم يعد
ذاك بنفع على * صديقه لا كان ما كانا ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة
في المحرم منها ادعى رجل النبوة بنواحي نهاوند، وسمى أربعة من أصحابه
بأسماء الخلفاء
__________
(1) في الكامل 10 / 381: خمسا وعشرين سنة.
(تاريخ أبي الفداء 2 / 218).
(2) في تذكرة الحفاظ ص 1233 ووفيات الاعيان 2 / 180 والصلة ص 141:
الجياني ; والجياني نسبة إلى جيان، وهي مدينة كبيرة بالاندلس..وقال ابن
بشكوال: أن أبا علي لم يكن من جيان وإنما أصلهم من الزهراء، وانتقل
أبوه في الفتنة البربرية (حوالي 400) إلى جيان.
(*)
(12/203)
الاربعة فاتبعه
على ضلالته خلق من الجهلة الرعاع، وباعوا أملاكهم ودفعوا أثمانها إليه،
وكان كريما يعطي من قصده ما عنده، ثم إنه قتل بتلك الناحية.
ورام رجل آخر من ولد ألب أرسلان بتلك الناحية الملك فلم يتم أمره، بل
قبض عليه في أقل من شهرين، وكانوا يقولون ادعى رجل النبوة وآخر الملك،
فما كان بأسرع من زوال دولتهما.
وفي رجب منها زادت دجلة زيادة عظيمة، فأتلفت شيئا كثيرا من الغلات،
وغرقت دور كثيرة ببغداد.
وفيها كسر طغتكين أتابك عساكر دمشق الفرنج، وعاد مؤيدا منصورا إلى
دمشق، وزينت البلد زينة عجيبة مليحة، سرورا بكسره الفرنج.
وفيها في رمضان منها حاصر الملك رضوان بن تتش صاحب حلب مدينة نصيبين،
وفيها ورد إلى بغداد ملك من الملوك وصحبته رجل يقال له: الفقيه، فوعظ
الناس في جامع القصر.
وحج بالناس رجل من أقرباء الامير سيف الدولة صدقة.
وممن توفي فيها من الاعيان..أبو
الفتح الحاكم سمع الحديث من البيهقي وغيره، وعلق عن القاضي حسين طريقه
وشكره في ذلك، وكان قد تفقه أولا على الشيخ أبي علي السنجي، ثم تفقه
وعلق عن إمام الحرمين في الاصول بحضرته، واستجاده وولي بلده مدة طويلة،
وناظر، ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وتلاوة القرآن.
قال ابن خلكان: وبنى للصوفية رباطا من ماله، ولزم التعبد إلى أن مات في
مستهل المحرم من هذه السنة.
محمد بن أحمد ابن محمد بن علي بن عبد الرزاق، أبو منصور الخياط (1)،
أحد القراء والصلحاء، ختم ألوفا من الناس، وسمع الحديث الكثير، وحين
توفي اجتمع العالم في جنازته اجتماعا لم يجتمع لغيره مثله، ولم يعهد له
نظير في تلك الازمان.
وكان عمره يوم توفي سبعا وتسعين سنة رحمه الله، وقد رثاه الشعراء، ورآه
بعضهم في المنام فقال له: ما فعل بك ربك ؟ فقال: غفر لي بتعليمي
الصبيان الفاتحة.
__________
(1) من الكامل 10 / 415، وفي الاصل: الحناط.
(*)
(12/204)
محمد بن عبيد
الله بن الحسن ابن الحسين، أبو الفرج البصري قاضيها، سمع أبا الطيب
الطبري والماوردي وغيرهما ورحل في طلب الحديث، وكان عابدا خاشعا عند
الذكر.
مهارش بن مجلي أمير العرب بحديثة عانة، وهو الذي أودع عنده القائم بأمر
الله، حين كانت فتنة البساسيري، فأكرم الخليفة حين ورد عليه، ثم جازاه
الخليفة الجزاء الاوفى، وكان الامير مهارش هذا كثير الصدقة والصلاة،
توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمسمائة من الهجرة
قال أبو داود في سننه: حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني
معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة الخشني
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يعجز الله هذه الامة من
نصف يوم " (1).
حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة: حدثني صفوان، عن شريح بن
عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني
لارجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرها نصف يوم.
قيل لسعد: وكم نصف يوم ؟ قال: خمسمائة سنة " (2).
وهذا من دلائل النبوة.
وذكر هذه المدة لا ينفي زيادة عليها، كما هو الواقع، لانه عليه السلام
ذكر شيئا من أشراط الساعة لا بد من وقوعها كما أخبر سواء بسواء.
وسيأتي ذكرها فيما بعد زماننا، وبالله المستعان.
ومما وقع في هذه السنة من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر
قلاعا كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل خلقا
منهم، منها قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان (3)، في رأس
جبل منيع هناك، وكان سبب بنائه لها أنه كان مرة في بعض صيوده فهرب منه
كلب فاتبعه إلى رأس الجبل فوجده، وكان معه رجل من رسل الروم، فقال
الرومي: لو كان هذا الجبل ببلادنا لاتخذنا عليه قلعة، فحدا هذا الكلام
السلطان إلى أن ابتنى في رأسه قلعة أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي
ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن - كتاب الملاحم - باب (18).
(2) أخرجه أبو داود في الملاحم باب (18).
وأحمد في المسند: 1 / 170، 4 / 193.
(3) وهي قلعة: شاه دز، وكان صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطاش.
(*)
(12/205)
أحمد بن عبد
الله بن عطاء (1)، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها ابنه السلطان محمد
سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبنا وقطع رأسه، وطاف به في
الاقاليم، ثم نقض هذه القلعة حجرا حجرا، وألقت امرأته نفسها من أعلى
القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفيسة، وكان الناس
يتشاءمون بهذه القلعة، يقولون: كان دليلها كلبا، والمشير بها كافرا،
والمتحصن بها زنديقا.
وفيها وقعت حروب كثيرة بين بني خفاجة وبين بني عبادة، فقهرت عبادة
خفاجة وأخذت بثأرها المتقدم منها، وفيها استحوذ سيف الدولة صدقة على
مدينة تكريت بعد قتال كثير.
وفيها أرسل السلطان محمد الامير جاولي سقاوو إلى الموصل وأقطعه إياها،
فذهب فانتزعها من الامير جكرمش بعد ما قاتله وهزم أصحابه وأسره، ثم
قتله بعد ذلك ; وقد كان جكرمش من خيار الامراء سيرة وعدلا وإحسانا، ثم
أقبل قلج أرسلان بن قتلمش فحاصر الموصل فانتزعها من جاولي، فصار جاولي
إلى الرحبة، فأخذها ثم أقبل إلى قتال قلج فكسره وألقى قلج نفسه في
النهر الذي للخابور فهلك.
وفيها نشأت حروب بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالا عظيما ولله الحمد،
وقتل من الفريقين طائفة كبيرة، ثم كانت الهزيمة على الفرنج لله الحمد
رب العالمين.
قتل فخر الملك أبو المظفر وفي يوم عاشوراء منها قتل فخر الملك أبو
المظفر بن نظام الملك، وكان أكبر أولاد أبيه، وهو وزيره السلطان سنجر
بنيسابور، وكان صائما، قتله باطني، وكان قد رأى في تلك الليلة الحسين
بن علي وهو يقول له: عجل إلينا وأفطر عندنا الليلة، فأصبح متعجبا، فنوى
الصوم ذلك اليوم، وأشار إليه بعض أصحابه أن لا يخرج ذلك اليوم من
المنزل، فما خرج إلا في آخر النهار فرأى شابا يتظلم وفي يده رقعة فقال:
ما شأنك ؟ فناوله الرقعة فبينما هو يقرأها إذ ضربه بخنجر بيده فقتله،
فأخذ الباطني فرفع إلى السلطان فقرره فأقر على جماعة من أصحاب الوزير
أنهم أمروه بذلك، وكان كاذبا، فقتل وقتلوا أيضا.
وفي رابع عشر صفر عزل الخليفة الوزير أبا القاسم علي بن جهير وخرب داره
التي كان قد بناها أبوه، من خراب بيوت الناس، فكان في ذلك عبرة وموعظة
لذوي البصائر والنهي، واستنيب في الوزارة القاضي أبو الحسن الدامغاني،
ومعه آخر.
وحج بالناس فيها الامير تركمان واسمه أليرن، من جهة الامير محمد بن
ملكشاه.
وفيها توفي من الاعيان..
__________
(1) تقدم أنه أحمد بن عبد الملك بن عطاش.
(*)
(12/206)
أحمد بن محمد
بن المظفر أبو المظفر الخوافي الفقيه الشافعي.
قال ابن خلكان: كان أنظر أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين، وكان أوجه
تلامذته، وقد ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهورا بحسن المناظرة
وإفحام الخصوم.
قال والخوافي بفتح الخاء والواو نسبة إلى خواف، ناحيه من نواحي
نيسابور.
جعفر بن محمد ابن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، أبو محمد القاري
البغدادي، ولد سنة ست عشرة وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع
الكثير من الاحاديث النبويات، من المشايخ والشيخات في بلدان متباينات،
وقد خرج له الحافظ أبو بكر الخطيب أجزاء مسموعاته، وكان صحيح الثبت،
جيد الذهن، أديبا شاعرا، حسن النظم، نظم كتابا في القراءات، وكتاب
التنبيه والخرقي وغير ذلك، وله كتاب مصارع العشاق وغير ذلك، ومن شعر
قوله: قتل الذين بجهلهم * أضحوا يعيبون المحابر والحاملين لها من ال *
أيدي بمجتمع الاساور لولا المحابر والمقا * لم والصحائف والدفاتر
والحافظون شريعة ال * مبعوث من خير العشائر والناقلون حديثه عن * كابر
ثبت وكابر لرأيت من بشع الضلا * ل عساكرا تتلو عساكر كل يقول بجهله *
والله للمظلوم ناصر سميتهم أهل الحديث * أولي النهي وأولي البصائر هم
حشو جنات النعيم * على الاسرة والمنابر رفقاء أحمد كلهم * عن حوضه ريان
صادر
وذكر له ابن خلكان أشعارا رائقة منها قوله: ومدع شرخ الشباب وقد * عممه
الشيب على وفرته يخضب بالوشمة عثنونه * يكفيه أن يكذب في لحيته عبد
الوهاب بن محمد ابن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الشيرازي
الفارسي، سمع الحديث الكثير، وتفقه
(12/207)
وولاه نظام
الملك تدريس النظامية ببغداد، في سنة ثلاث وثمانين، فدرس بها مدة، وكان
يملي الاحاديث، وكان كثير التصحيف، روى مرة حديث " صلاة في إثر صلاة
كتاب في عليين ".
فقال: كتاب في غلس.
ثم أخذ يفسر ذلك بأنه أكثر لاضاءتها.
محمد بن إبراهيم ابن عبيد الاسدي الشاعر، لقي الخنيسي التهامي، وكان
مغرما بما يعارض شعره، وقد أقام باليمن وبالعراق ثم بالحجاز ثم
بخراسان، ومن شعره: قلت ثقلت إذ أتيت مرارا * قال ثقلت كاهلي بالايادي
قلت طولت قال بل تطولت * قلت مزقت قال حبل ودادي يوسف بن علي أبو
القاسم الزنجاني الفقيه، كان من أهل الديانة، حكى عن الشيخ أبي إسحاق
الشيرازي عن القاضي أبي الطيب، قال: كنا يوما بجامع المنصور في حلقة
فجاء شاب خراساني فذكر حديث أبي هريرة في المطر فقال الشاب: غير مقبول،
فما استتم كلامه حتى سقطت من سقف المسجد حية فنهض الناس هاربين وتبعت
الحية ذلك الشاب من بينهم، فقيل له تب تب.
فقال: تبت، فذهبت فلا ندري أين ذهبت.
رواها ابن الجوزي عن شيخه أبي المعمر الانصاري عن أبي القاسم هذا والله
أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة من الهجرة
فيها جدد الخليفة الخلع على وزيره الجديد أبي المعالي هبة الله بن محمد
بن المطلب، وأكرمه وعظمه.
وفي ربيع الآخر منها دخل السلطان محمد إلى بغداد فتلقاه الوزير
والاعيان، وأحسن إلى أهلها، ولم يتعرض أحد من جيشه إلى شئ.
وغضب السلطان على صدقة بن منصور الاسدي صاحب الحلة وتكريت بسبب أنه آوى
رجلا من أعدائه يقال له أبو دلف سرحان (1) الديلمي، صاحب ساوة، وبعث
إليه ليرسله إليه فلم يفعل، فأرسل إليه جيشا فهزموا جيش صدقة.
وقد كان جيشه عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل، وقتل صدقة في المعركة
(2)، وأسر جماعة من رؤس
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 10 / 441: سرخاب بن كيخسرو ; وفي تاريخ أبي
الفداء: شرخاب.
(2) وكان عمره تسعا وخمسين سنة، وإمارته إحدى وعشرين سنة، وحمل رأسه
إلى بغداد.
وأسر ابنه دبيس بن صدقة (الكامل 10 / 448).
(*)
(12/208)
أصحابه وأخذوا
من زوجته خمسمائة ألف دينار، وجواهر نفيسة.
قال ابن الجوزي: وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس،
وما في نفوسهم من الضمائر والنيات، وبالغ الناس في أنواع الحيل عليها
ليعلموا حالها فلم يعلموا.
قال ابن عقيل: وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام، حتى سألوها عن
نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة، وعن أنواع الفصوص وصفات الاشخاص وما في
داخل البنادق من المشمع والطين المختلف، والخرق وغير ذلك فتخبر به سواء
بسواء، حتى بالغ أحدهم ووضع يده على ذكره وسألها عن ذلك فقالت: يحمله
إلى أهله وعياله.
وفيها قدم القاضي فخر الملك أبو عبيد علي (1) صاحب طرابلس إلى بغداد
يستنفر المسلمين على الفرنج، فأكرمه السلطان غياث الدين محمد إكراما
زائدا، وخلع عليه وبعث معه الجيوش الكثيرة لقتال الفرنج.
وممن توفي فهيا من الاعيان..تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية، كان
من خيار الملوك حلما وكرما، وإحسانا، ملك ستا وأربعين سنة (2).
وعمر تسعا وتسعين (3) سنة، وترك من البنين أنهد من مائة، ومن البنات
ستين بنتا، وملك من بعده ولده يحيى، ومن أحسن ما مدح به الامير تميم
قول الشاعر: أصح وأعلى ما سمعناه في الندا * من الخبر المروي منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا * عن البحر عن كف الامير تميم صدقة بن
منصور ابن دبيس بن علي بن مزيد الاسدي، الامير سيف الدولة، صاحب الحلة
وتكريت وواسط وغيرها، كان كريما عفيفا ذا ذمام، ملجأ لكل خائف يأمن في
بلاده، وتحت جناحه، وكان يقرأ الكتب المشكلة ولا يحسن الكتابة، وقد
اقتنى كتبا نفيسة جدا، وكان لا يتزوج على امرأة قط، ولا يتسرى على سرية
حفظا للذمام، ولئلا يكسر قلب أحد، وقد مدح بأوصاف جميلة كثيرة جدا.
قتل في بعض الحروب، قتله غلام اسمه برغش، وكان له من العمر تسع وخمسون
سنة رحمه الله تعالى.
__________
(1) ذكره أبو الفداء في مختصره: أبو علي بن عمار، فخر الملك (وانظر
الكامل 10 / 452).
(2) زيد في الكامل 10 / 451: وعشرة أشهر وعشرين يوما.
وفي البيان المغرب 1 / 303: نحو سبع وأربعين سنة وفي 304: ست وأربعين
سنة وعشرة أشهر ونصفا.
(3) في الكامل 10 / 451: وسبعين.
انظر البيان المغرب 1 / 304.
(*)
(12/209)
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسمائة في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان
تزوج الخليفة المستظهر بالخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد، على صداق
مائة ألف دينار، ونثر الذهب، وكتب العقد بأصبهان.
وفيها كانت الحروب الكثيرة بين الاتابك طغتكين صاحب دمشق وبين الفرنج.
وفيها ملك سعيد بن حميد العمري الحلة السيفية.
وفيها زادت دجلة زيادة كثيرة فغرقت الغلات فغلت الاسعار بسبب ذلك غلاء
شديدا.
وحج بالناس الامير قيماز.
وممن توفي فيها من الاعيان..الحسن
العلوي (1) أبو هاشم ابن رئيس همدان، وكان ذا مال جزيل، صادره السلطان
في بعض الاوقات بتسعمائة (2) ألف دينار، فوزنها ولم يبع فيها عقارا ولا
غيره.
الحسن بن علي أبو الفوارس بن الخازن، الكاتب المشهور بالخط المنسوب.
توفي في ذي الحجة منها.
قال ابن خلكان: كتب بيده خمسمائة ختمة، مات فجأة.
الروياني صاحب البحر عبد الواحد بن إسماعيل، أبو المحاسن الروياني، من
أهل طبرستان، أحد أئمة الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة، ورحل إلى
الآفاق حتى بلغ ما وراء النهر، وحصل علوما جمة وسمع الحديث الكثير،
وصنف كتبا في المذهب، من ذلك البحر في الفروع، وهو حافل كامل شامل
للغرائب وغيرها، وفي المثل " حدث عن البحر ولا حرج " وكان يقول: لو
احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي، قتل ظلما يوم الجمعة، وهو يوم
عاشوراء في الجامع بطبرستان، قتله رجل من أهلها رحمه الله.
قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن ناصر المروزي وعلق عنه، وكان للروياني
الجاه العظيم، والحرمة الوافرة، وقد صنف كتبا في الاصول والفروع، منها
بحر المذهب، وكتاب مناصيص الامام الشافعي، وكتاب الكافي، وحلية المؤمن،
وله كتب في الخلاف أيضا.
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه: أبو هاشم زيد الحسني، العلوي رئيس
همدان.
(2) في الكامل لابن الاثير 10 / 474: سبعمائة.
(*)
(12/210)
يحيى بن علي
ابن محمد بن الحسن بن بسطام، الشيباني التبريزي، أبو زكريا، أحمد أئمة
اللغة والنحو، قرأ على أبي العلاء وغيره، وتخرج به جماعة منهم منصور بن
الجواليقي.
قال ابن ناصر: وكان ثقة في النقل، وله المصنفات الكثيرة.
وقال ابن خيرون: لم يكن مرضى الطريقة، توفي في جمادى الآخرة
ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة فيها أخذت
الفرنج مدينة طرابلس وقتلوا من فيها من الرجال، وسبوا الحريم والاطفال
; وغنموا الامتعة والاموال، ثم أخذوا مدينة جبلة (1) بعدها بعشر ليال،
فلا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال.
وقد هرب منهم فخر الملك بن عمار، فقصد صاحب دمشق طغتكين فأكرمه وأقطعه
بلادا كثيرة.
وفيها وثب بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك فجرحه ثم أخذ
الباطني فسقي الخمر فأقر على جماعة من الباطنية فأخذوا فقتلوا.
وحج بالناس الامير قيماز.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن
علي ابن أحمد، أبو بكر العلوي، كان يعمل في تجصيص الحيطان، ولا ينقش
صورة، ولا يأخذ من أحد شيئا، وكانت له أملاك ينتفع منها ويتقوت، وقد
سمع الحديث من القاضي أبي يعلى، وتفقه عليه بشئ من الفقه، وكان إذا حج
يزور القبور بمكة، فإذا وصل إلى قبر الفضيل بن عياض يخط إلى جانبه خطا
بعصاه ويقول يا رب ههنا.
فقيل إنه حج في هذه السنة فوقف بعرفات محرما فتوفي بها من آخر ذلك
اليوم، فغسل وكفن وطيف به حول البيت ثم دفن إلى جانب الفضيل بن عياض في
ذلك المكان الذي كان يخطه بعصاه، وبلغ الناس وفاته ببغداد فاجتمعوا
للصلاة عليه صلاة الغائب، حتى لو مات بين أظهرهم لم يكن عندهم مزيد على
ذلك الجمع، رحمه الله.
عمر بن عبد الكريم ابن سعدويه الفتيان (2) الدهقاني (3)، رحل في طلب
الحديث، ودار الدنيا، وخرج
__________
(1) في الكامل 10 / 476 وتاريخ ابن خلدون 5 / 192: جبيل.
(2) في تذكرة الحفاظ ص 1237: أبو الفتيان، وفي معجم البلدان: أبو حفص.
(3) كذا بالاصل ; وفي معجم البلدان: الدهستاني (تذكرة الحفاظ ص 1237)
والدهستاني: نسبة إلى دهستان وهي مدينة عند مازندران (معجم البلدان).
(*)
(12/211)
وانتخب، وكان
له فقه في هذا الشأن، وكان ثقة، وقد صحح عليه أبو حامد الغزالي كتاب
الصحيحين.
وكانت وفاته بسرخس في هذه السنة.
محمد ويعرف بأخي حماد وكان أحد الصلحاء الكبار، كان به مرض مزمن، فرأى
النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فعوفي، فلزم مسجدا له أربعين سنة،
لا يخرج إلا إلى الجمعة، وانقطع عن مخالطة الناس، كانت وفاته في هذه
السنة، ودفن في زاوية بالقرب من قبر أبي حنيفة رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة في أولها تجهز
جماعة من البغاددة من الفقهاء وغيرهم، ومنهم ابن الذاغوني، للخروج إلى
الشام لاجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن
عديدة، من ذلك مدينة صيدا في ربيع الاول (1)، وكذا غيرها من المدائن،
ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج.
وفيها قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار
أخيها السلطان محمد، ثم حمل جهازها على مائة واثنين وستين جملا، وسبعة
وعشرين بلغلا، وزينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة
العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة.
وفيها درس أبو بكر الشاشي بالنظامية مع التاجية، وحضر عنده الوزير
والاعيان.
وحج بالناس قيماز، ولم يتمكن الخراسانيون من الحج من العطش وقلة الماء.
وممن توفي فيها من الاعيان..إدريس
بن حمزة أبو الحسن (2) الشاشي الرملي العثماني، أحد فحول المناظرين عن
مذهب الشافعي، تفقه أولا على نصر بن إبراهيم، ثم ببغداد على أبي إسحاق
الشيرازي، ودخل خراسان حتى وصل إلى ما وراء النهر، وأقام بسمرقند ودرس
بمدرستها إلى أن توفي فيها في هذه السنة.
علي بن محمد
ابن علي بن عماد الدين، أبو الحسن الطبري، ويعرف بالكيا الهراسي، أحد
الفقهاء
__________
(1) في الكامل 10 / 479: الآخر.
(انظر تاريخ ابن خلدون 5 / 193 وتاريخ أبي الفداء 2 / 225).
(2) في الكامل: أبو الحسين، وهو من أهل الرملة بفلسطين.
(*)
(12/212)
الكبار، من رؤس
الشافعية، ولد سنة خمسين وأربعمائة، واشتغل على إمام الحرمين، وكان هو
والغزالي أكبر التلامذة، وقد ولي كل منهما تدريس النظامية ببغداد، وقد
كان أبو الحسن هذا فصيحا جهوري الصوت جميلا، وكان يكرر لعن إبليس على
كل مرقاة من مراقي النظامية بنيسابور سبع مرات، وكانت المراقي سبعين
مرقاة، وقد سمع الحديث الكثير، وناظر وأفتى ودرس، وكان من أكابر
الفضلاء وسادات الفقهاء، وله كتاب يرد فيه على ما انفرد به الامام أحمد
بن حنبل في مجلد، وله غيره من المصنفات، وقد اتهم في وقت بأنه يمالئ
الباطنية، فنزع منه التدريس ثم شهد جماعة من العلماء ببراءته من ذلك
منهم ابن عقيل، فأعيد إليه.
توفي في يوم الخميس مستهل محرم من هذه السنة عن أربع وخمسين سنة ودفن
إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
وذكر ابن خلكان: أنه كان يحفظ الحديث ويناظر به، وهو القائل: إذا جالت
فرسان الاحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح،
وحكى السلفي عنه: أنه استفتي في كتبة الحديثة هل يدخلون في الوصية
للفقهاء ؟ فأجاب: نعم لقوله صلى الله عليه وسلم " من حفظ على أمتي
أربعين حديثا بعثه الله عالما ".
واستفتي في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعبا وفسقا، وجوز شتمه، وأما
الغزالي فإنه خالف في ذلك، ومنع من شتمه ولعنه، لانه مسلم، ولم يثبت
بأنه رضي بقتل الحسين، ولو ثبت لم يكن ذلك مسوغا للعنه، لان القاتل لا
يلعن، لا سيما وباب التوبة مفتوح، والذي يقبل التوبة من عباده غفور
رحيم.
قال الغزالي: وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل نحن نترحم عليه في
جملة المسلمين والمؤمنين، عموما في الصلوات.
ذكره ابن خلكان مبسوطا بلفظه في ترجمة الكيا هذا، قال: والكيا كبير
القدر مقدم معظم والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة.
فيها بعث السلطان غياث الدين جيشا كثيفا، صحبة الامير مودود بن زنكي
صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم سكمان القطبي، صاحب تبريز،
وأحمد يل صاحب مراغة، والامير إيلغازي صاحب ماردين (1)، وعلى الجميع
الامير مودود صاحب الموصل، لقتال الفرنج بالشام، فانتزعوا من أيدي
الفرنج حصونا كثيرة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا ولله الحمد، ولما دخلوا
دمشق دخل الامير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل
فطلب منه شيئا فأعطاه، فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات من ساعته
(2)، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه
__________
(1) لم يشارك الامير إيلغازي في الجيش، بل سير ولده إياز وأقام هو.
(الكامل 10 / 485) وفي تاريخ ابن خلدون 5 / 194: إياز أخو أبي الغازي
صاحب ماردين.
(2) قال ابن الاثير في تاريخه أن قتله كان سنة 507 ه في ربيع الاول،
وفي رواية أخرى قال: وقيل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله.
وهذا أيضا ما أشار إليه ابن خلدون 5 / 195.
(*)
(12/213)
سكين مسموم
فقيل إنه كان يريد قتل الخليفة.
وفيها ولد للخليفة من بنت السلطان ولد فضربت الدبادب والبوقات، ومات له
ولد وهكذا الدنيا فرضي بوفاته وجلس الوزير للهناء والعزاء.
وفي رمضان عزل الوزير أحمد بن النظام، وكانت مدة وزارته أربع سنين
وإحدى عشر شهرا.
وفيها حاصرت الفرنج مدينة صور، وكانت بأيدي المصريين، عليها عز الملك
الاعز من جهتهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ومنعها منعا جيدا، حتى فني ما
عنده من النشاب والعدد، فأمده طغتكين صاحب دمشق، وأرسل إليه العدد
والآلات فقوي جأشه وترحلت عنه الفرنج في شوال منها.
وحج بالناس أمير الجيوش قطز الخادم، وكانت سنة مخصبة مرخصة.
وممن توفي فيها من الاعيان أبو حامد
الغزالي.
محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي (1)، ولد سنة خمسين وأربعمائة،
وتفقه على إمام الحرمين، وبرع في علوم كثيرة، وله مصنفات منتشرة في
فنون متعددة، فكان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وساد في
شبيبته حتى أنه درس بالنظامية ببغداد، في سنة اربع وثمانين، وله أربع
وثلاثون سنة، فحضر عنده رؤس العلماء، وكان ممن حضر عنده أبو الخطاب
وابن عقيل، وهما من رؤس الحنابلة، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه، قال ابن
الجوزي: وكتبوا كلامه في مصنفاتهم، ثم إنه خرج عن الدنيا بالكلية وأقبل
على العبادة وأعمال الآخرة، وكان يرتزق من النسخ، ورحل إلى الشام فأقام
بها بدمشق وبيت المقدس مدة، وصنف في هذه المدة كتابه إحياء علوم الدين،
وهو كتاب عجيب، يشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات، وممزوج بأشياء لطيفة
من التصوف وأعمال القلوب، لكن فيه أحاديث كثيرة غرائب ومنكرات
وموضوعات، كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال
والحرام، فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمرا من
غيره، وقد شنع عليه أبو الفرج بن الجوزي، ثم ابن الصلاح، في ذلك تشنيعا
كثيرا، وأراد المازري أن يحرق كتابه إحياء علوم الدين، وكذلك غيره من
المغاربة، وقالوا: هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا فإحياء علومه
كتاب الله وسنة رسوله، كما قد حكيت ذلك في ترجمته في الطبقات، وقد زيف
ابن شكر مواضع إحياء علوم الدين، وبين زيفها في مصنف مفيد، وقد كان
الغزالي يقول: أنا مزجي البضاعة في الحديث، ويقال إنه مال في آخر عمره
إلى سماع الحديث والتحفظ للصحيحين، وقد صنف ابن الجوزي كتابا على
الاحياء وسماه علوم (2) الاحيا بأغاليط الاحيا، قال ابن الجوزي: ثم
__________
(1) في الوافي بالوفيات 1 / 277: " قال في بعض مصنفاته: ونسبني قوم إلى
الغزال، وإنما أنا الغزالي نسبة إلى قرية يقال لها غزالة.
بتخفيف الزاي ".
(2) في الوافي 1 / 275: إعلام.
(*)
(12/214)
ألزمه بعض
الوزراء بالخروج إلى نيسابور فدرس بنظاميتها، ثم عاد إلى بلده طوس
فأقام بها، وابتنى رباطا واتخذ دارا حسنة، وغرس فيها بستانا أنيقا،
وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الاحاديث الصحاح، وكانت وفاته في يوم
الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بطوس رحمه الله
تعالى، وقد سأله بعض أصحابه وهو في السياق فقال: أوصني، فقال: عليك
بالاخلاص، ولم يزل يكررها حتى مات رحمه الله.
ثم دخلت سنة ست وخمسمائة في جمادى الآخرة
منها جلس ابن الطبري مدرسا بالنظامية وعزل عنها الشاشي.
وفيها دخل الشيخ الصالح أحد العباد يوسف بن داود (1) إلى بغداد، فوعظ
الناس، وكان له القبول التام، وكان شافعيا تفقه بالشيخ أبي إسحاق
الشيرازي، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة، وكانت له أحوال صالحة، جاراه
رجل مرة يقال له ابن السقافي مسألة فقال له: اسكت فإني أجد من كلامك
رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الاسلام، فاتفق بعد حين أنه
خرج ابن السقا إلى بلاد الروم في حاجة، فتنصر هناك، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
وقام إليه مرة وهو يعظ الناس ابنا أبي بكر الشاشي فقالا له: إن كنت
تتكلم على مذهب الاشعري وإلا فاسكت، فقال: لا متعتما بشبابكما، فماتا
شابين، ولم يبلغا سن الكهولة.
وحج بالناس فيها أمير الجيوش بطز الخادم، ونالهم عطش.
وممن توفي فيها من الاعيان..صاعد بن
منصور ابن إسماعيل بن صاعد، أبو العلاء الخطيب النيسابوري، سمع الحديث
الكثير، وولي الخطابة بعد أبيه والتدريس والتذكير، وكان أبو المعالي
الجويني يثني عليه، وقد ولي قضاء خوارزم.
محمد بن موسى بن عبد الله أبو عبد الله البلاساغوني (2) التركي الحنفي،
ويعرف باللامشي، أورد عنه الحافظ ابن عساكر حديثا وذكر أنه ولي قضاء
بيت المقدس، فشكوا منه فعزل عنها، ثم ولي قضاء دمشق، وكان غاليا في
مذهب أبي حنيفة، وهو الذي رتب الاقامة مثنى، قال إلى أن أزال الله ذلك
بدولة الملك صلاح
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه باسم: يوسف بن أيوب الهمذاني، الواعظ.
(2) البلاساغوني: نسبة إلى بلاساغون، بلد في ثغور الترك وراء نهر سيحون
قريب من كاشغر (معجم البلدان).
(*)
(12/215)
الدين.
قال: وكان قد عزم على نصب إمام حنفي بالجامع، فامتنع أهل دمشق من ذلك،
وامتنعوا
من الصلاة خلفه، وصلوا بأجمعهم في دار الخيل، وهي التي قبل الجامع مكان
المدرسة الامينية، وما يجاورها وحدها الطرقات الاربعة، وكان يقول: لو
كانت لي الولاية لاخذت من أصحاب الشافعي الجزية، وكان مبغضا لاصحاب
مالك أيضا.
قال: ولم تكن سيرته في القضاء محمودة، وكانت وفاته يوم الجمعة الثالث
عشر من جمادى الآخرة منها.
قال: وقد شهدت جنازته وأنا صغير في الجامع.
المعمر بن المعمر أبو سعد بن أبي عمار (1) الواعظ، كان فصيحا بليغا
ماجنا ظريفا ذكيا، له كلمات في الوعظ حسنة ورسائل مسموعة مستحسنة، توفي
في ربيع الاول منها، ودفن بباب حرب.
أبو علي المعري كان عابدا زاهدا، يتقوت بأدنى شئ، ثم عن له أن يشتغل
بعلم الكيمياء.
فأخذ إلى دار الخلافة فلم يظهر له خبر بعد ذلك.
نزهة أم ولد الخليفة المستظهر بالله، كانت سوداء محتشمة كريمة النفس،
توفيت يوم الجمعة ثاني عشر شوال منها.
أبو سعد السمعاني (2) مصنف الانساب وغيره، وهو تاج الاسلام عبد الكريم
بن محمد بن أبي المظفر المنصور عبد الجبار السمعاني، المروزي، الفقيه
الشافعي، الحافظ المحدث، قوام الدين أحد الائمة المصنفين رحل وسمع
الكثير حتى كتب عن أربعة آلاف شيخ، وصنف التفسير والتاريخ والانساب
والذيل على تاريخ الخطيب البغدادي، وذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة
جدا، منها كتابه الذي جمع فيه ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها
إسنادا ومتنا، وهو مفيد جدا رحمه الله.
__________
(1) في الكامل 10 / 493: عمامة، وفي شذرات الذهب 4 / 14: عمارة (2)
ذكره بن خلكان 3 / 209 قال ولادته كانت سنة ست وخمسمائة في 21 شعبان
(تذكرة الحفاظ ص 1316) ومات سنة 562 ه بمرو، طبقات السبكي 4 / 259 عبر
الذهبي 4 / 178 النجوم الزاهرة 5 / 563.
وإيراده هنا في وفيات
506 خطأ واضح.
(*)
(12/216)
ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة فيها كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج
في أرض طبرية،
كان فيها ملك دمشق الاتابك (1) طغتكين، ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين،
وصاحب الموصل، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا،
وغنموا منهم أموالا جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها، ولله الحمد
والمنة، ثم رجعوا إلى دمشق فذكر ابن الساعي في تاريخه مقتل الملك مودود
صاحب الموصل في هذه السنة، قال صلى هو والملك طغتكين يوم الجمعة
بالجامع ثم خرجا إلى الصحن ويد كل واحد منهما في يد الآخر فطفر باطني
على مودود فقتله رحمه الله، فيقال إن طغتكين هو الذي مالا عليه فالله
أعلم، وجاء كتاب من الفرنج إلى المسلمين وفيه: إن أمة قتلت عميدها في
يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها.
وفيها ملك حلب ألب أرسلان بن رضوان بن تتش بعد أبيه، وقام بأمر سلطنته
لؤلؤ الخادم، فلم يبق معه سوى الرسم.
وفيها فتح المارستان الذي أنشأه كمشتكين الخادم ببغداد.
وحج بالناس زنكي بن برشق.
وممن توفي فيها من الاعيان..إسماعيل
بن الحافظ أبي بكر بن الحسين البيهقي سمع الكثير وتنقل في البلاد، ودرس
بمدينة خوارزم، وكان فاضلا من أهل الحديث، مرضى الطريقة، وكانت وفاته
ببلده بيهق في هذه السنة.
شجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، سمع
الكثير، وكان فاضلا في هذا الشأن وشرع في تتميم تاريخ الخطيب ثم غسله،
وكان يكثر من الاستغفار والتوبة لانه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات،
توفي في هذا العام عن سبع وسبعين سنة.
محمد بن أحمد
ابن محمد بن أحمد بن إسحاق بن الحسين بن منصور بن معاوية بن محمد بن
عثمان بن عتبة بن
__________
(1) أتابك: مركبة من أتا ومعناها أب وبك معروفة.
وكان هذا اللقب يعطى لمن يفوضه السلطان تربية أحد أولاده الصغار، وكان
الاتابك يدبر باسم الولد المدينة التي كانت العادة أن يوليها السلطان
لابنه.
ثم توسعوا في معنى هذا اللقب ومنحوه لاول المتوظفين لامير الجيوش.
ثم صار السلطان يعطيه للعظماء كلقب شرف.
(*)
(12/217)
عنبسة بن
معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، الاموي أبو المظفر بن أبي العباس
الابيوردي (1) الشاعر، كان عالما باللغة والانساب، سمع الكثير وصنف
تاريخ أبي ورد، وأنساب العرب، وله كتاب في المؤتلف والمختلف، وغير ذلك،
وكان ينسب إلى الكبر والتيه الزائد، حتى كان يدعو في صلاته: اللهم
ملكني مشارق الارض ومغاربها، وكتب مرة إلى الخليفة الخادم المعاوي،
فكشط الخليفة الميم فبقت العاوي، ومن شعره قوله: تنكر لي دهري ولم يدر
أنني * أعز وأحداث الزمان تهون وظل يريني الدهر كيف اغتراره (2) * وبت
أريه الصبر كيف يكون محمد بن طاهر ابن علي بن أحمد، أبو الفضل المقدسي
الحافظ، ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وأول سماعه سنة ستين، وسافر
في طلب الحديث إلى بلاد كثيرة، وسمع كثيرا، وكان له معرفة جيدة بهذه
الصناعة، وصنف كتبا مفيدة، غير أنه صنف كتابا في إباحة السماع، وفي
التصوف، وساق فيه أحاديث منكرة جدا، وأورد أحاديث صحيحة في غيره وقد
أثنى على حفظه غير واحد من الائمة.
وذكر ابن الجوزي في كتابه هذا الذي سماه: " صفة التصوف " وقال عنه يضحك
منه من رآه، قال وكان داودي المذهب، فمن أثنى عليه أثنى لاجل حفظه
للحديث، وإلا فما يجرح به أولى.
قال: وذكره أبو سعد السمعاني وانتصر له بغير حجة، بعد أن قال سألت عنه
شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي فأكثر الثناء عليه، وكان سئ الرأي فيه.
قال وسمعنا أبا الفضل بن ناصر يقول: محمد بن طاهر لا يحتج به، صنف في
جواز النظر إلى المرد، وكان يذهب مذهب الاباحية، ثم أورد
له من شعره قوله في هذه الابيات: دع التصوف والزهد الذي اشتغلت * به
خوارج (3) أقوام من الناس وعج على دير داريا فإنه به الره * بان ما بين
قسيس وشماس واشرب معتقة من كف كافرة * تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس ثم
استمع رنة الاوتار من رشأ * مهفهف طرفه أمضى من الماس غنى بشعر امرئ في
الناس مشتهر * مدون عندهم في صدر قرطاس لولا نسيم بدا منكم (4) يروحني
* لكنت محترقا من حر أنفاسي
__________
(1) الابيوردي نسبة إلى أبيورد، ويقال لها أبا ورد، وباورد وهي بلدة
بخراسان.
(2) في الكامل 10 / 500: وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه..(3) في الوافي 3
/ 167: جوارح.
(4) في الوافي: بذكراكم.
(*)
(12/218)
ثم قال
السمعاني: لعله قد تاب من هذا كله.
قال ابن الجوزي: وهذا غير مرضي أن يذكر جرح الائمة له ثم يعتذر عن ذلك
باحتمال توبته، وقد ذكر ابن الجوزي أنه لما احتضر جعل يردد هذا البيت:
وما كنتم تعرفون الجفا * فممن نرى قد تعلمتم ثم كانت وفاته بالجانب
الغربي من بغداد في ربيع الاول منها.
أبو بكر الشاشي صاحب المستظهري محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، أحد
أئمة الشافعية في زمانه، ولد في المحرم سنة سبع (1) وعشرين وأربعمائة،
وسمع الحديث على أبي يعلى بن الفراء، وأبي بكر الخطيب، وأبي إسحاق
الشيرازي، وتفقه عليه وعلى غيره، وقرأ الشامل على مصنفه ابن الصباغ،
واختصره في كتابه الذي جمعه للمستظهر بالله، وسماه حلية العلماء بمعرفة
مذاهب الفقهاء، ويعرف
بالمستظهري، وقد درس بالنظامية ببغداد ثم عزل عنها وكان ينشد: تعلم يا
فتى والعود غض * وطينك لين والطبع قابل فحسبك يا فتى شرفا وفخرا * سكوت
الحاضرين وأنت قائل توفي سحر يوم السبت السادس عشر من شوال منها، ودفن
إلى جانب أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز.
المؤتمن بن أحمد ابن علي بن الحسين بن عبيد الله، أبو نصر الساجي
المقدسي، سمع الحديث الكثير، وخرج وكان صحيح النقل، حسن الحظ، مشكور
السيرة لطيفا، اشتغل في الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مدة، ورحل
إلى أصبهان وغيرها، وهو معدود من جملة الحفاظ، لا سيما للمتون، وقد
تكلم فيه ابن طاهر.
قال ابن الجوزي: وهو أحق منه بذلك، وأين الثريا من الثرى ؟ توفي
المؤتمن يوم السبت ثاني عشر صفر منها، ودفن بباب حرب والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة فيها وقع حريق
عظيم ببغداد.
وفيها كانت زلزلة هائلة بأرض الجزيرة، هدمت منها ثلاثة
__________
(1) في الوافي 2 / 73: تسع وعشرين.
(انظر وفيات الاعيان 3 / 221).
(*)
(12/219)
عشر برجا، ومن
الرها بيوتا كثيرة، وبعض دور خراسان، ودورا كثيرة في بلاد شتى، فهلك من
أهلها نحو من مائة ألف، وخسف بنصف قلعة حران وسلم نصفها، وخسف بمدينة
سمسياط وهلك تحت الردم خلق كثير.
وفيها قتل صاحب تاج الدولة ألب أرسلان بن
رضوان بن تتش، قتله غلمانه، وقام من بعده أخوه سلطان شاه بن
رضوان.
وفيها ملك السلطان سنجر بن ملكشاه بلاد غزنة، وخطب له بها بعد مقاتلة
عظيمة، وأخذ منها أموالا كثيرة لم ير مثلها، من ذلك خمس تيجان قيمة كل
تاج منها ألف (1) ألف دينار، وسبعة عشر سريرا من ذهب وفضة، وألف
وثلاثمائة قطعة مصاغ مرصعة، فأقام بها أربعين يوما، وقرر في ملكها
بهرام شاه، رجل من بيت سبكتكين، ولم
يخطب بها لاحد من السلجوقية غير سنجر هذا، وإنما كان لها ملوك سادة أهل
جهاد وسنة، لا يجسر أحد من الملوك عليهم، ولا يطيق أحد مقاومتهم، وهم
بنو سبكتكين.
وفيها ولى السلطان محمد للامير آقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها، وأمره
بمقاتلة الفرنج، فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها
وبروج (2) وسميساط، ونهب ماردين وأسر ابن ملكها إياز إيلغازي، فأرسل
السلطان محمد إليه من يتهدده ففر منه إلى طغتكين صاحب دمشق، فاتفقا على
عصيان السلطان محمد، فجرت بينهما وبين نائب حمص قرجان بن قراجة حروب
كثيرة، ثم اصطلحوا.
وفيها ملكت زوجة مرعش الافرنجية بعد وفاة زوجها لعنهما الله.
وحج بالناس فيها أمير الجيوش أبو الخير يمن الخادم، وشكر الناس حجهم
معه.
ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة فيها جهز السلطان
غياث الدين محمد بن ملكشاه صاحب العراق جيشا كثيفا مع الامير برشق (3)
بن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين، وإلى آقسنقر البرشقي
ليقاتلهما، لاجل عصيانهما عليه، وقطع خطبته، وإذا فرغ منهما عمد لقتال
الفرنج.
فلما اقترب الجيش من بلاد الشام هربا منه وتحيزا إلى الفرنج، وجاء
الامير برشق إلى كفر طاب ففتحها عنوة، وأخذ ما كان فيها من النساء
والذرية، وجاء صاحب إنطاكية روجيل في خمسمائة فارس وألفي راجل، فكبس
المسلمين فقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ أموالا جزيلة وهرب برشق في طائفة
قليلة، وتمزق الجيش الذي كان معه شذر مذر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي ذي القعدة منها قدم السلطان محمد إلى
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 10 / 507: ألفي.
(2) في الكامل: سروج (وانظر تاريخ ابن خلدون 5 / 166: سروج وشمشاط).
(3) في تاريخ العبر 5 / 166: جهز العساكر مع الامير برسق (بن برسق)
صاحب همذان..وأمرهم بغزو الفرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي
(إيلغازي) وطغركين (طغدكين: عند أبن العبري) (انظر الكامل 10 / 509
وتاريخ أبي الفداء 2 / 228).
(*)
(12/220)
بغداد، وجاء
إلى طغتكين صاحب دمشق معتذرا إليه، فخلع عليه، ورضي عنه ورده إلى عمله
وفيها توفي من الاعيان..إسماعيل بن
محمد ابن أحمد بن علي أبو عثمان الاصبهاني أحد الرحالين في طلب الحديث،
وقد وعظ في جامع المنصور ثلاثين مجلسا، واستملي عليه محمد بن ناصر،
وتوفي بأصبهان.
منجب بن عبد الله المستظهري أبو الحسن الخادم، كان كثير العبادة، وقد
أثنى عليه محمد بن ناصر، قال: وقف على أصحاب الحديث وقفا.
عبد الله بن المبارك ابن موسى، أبو البركات السقطي، سمع الكثير ورحل
فيه، وكان فاضلا عارفا باللغة.
ودفن بباب حرب.
يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك،
عارفا حسن السيرة محبا للفقراء والعلماء، وله عليهم أرزاق، مات وله
اثنتان وخمسون سنة (1)، وترك ثلاثين ولدا، وقام بالامر من بعده ولده
علي.
ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة فيها وقع حريق
ببغداد احترقت فيه دور كثيرة، منها دار نور الهدى الزينبي، ورباط نهر
زور ودار كتب النظامية، وسلمت الكتب لان الفقهاء نقلوها.
وفيها قتل صاحب مراغة في مجلس السلطان محمد، قتله الباطنية، وفي يوم
عاشوراء وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة بمشهد علي بن موسى الرضا
بمدينة طوس، فقتل فيها خلق كثير.
وفيها سار السلطان إلى فارس بعد موت نائبها خوفا عليها من صاحب كرمان.
وحج بالناس بطز الخادم، وكانت سنة مخصبة آمنة ولله الحمد.
__________
(1) زيد في الكامل: وخمسة عشر يوما.
مات يوم الاضحى فجأة وكانت ولايته ثماني سنين ونصف السنة.
(*)
(12/221)
عقيل بن الامام
أبي الوفا علي بن عقيل الحنبلي، كان شابا قد برع وحفظ القرآن وكتب وفهم
المعاني جيدا، ولما توفي صبر أبوه وشكر وأظهر التجلد، فقرأ قارئ في
العزاء [ قوله تعالى ]: (قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا)
[ يوسف: 78 ] الآية، فبكى ابن عقيل بكاء شديدا.
علي (1) بن أحمد بن محمد ابن الرزاز، آخر من حدث عن ابن مخلد بجزء
الحسن بن عرفة، وتفرد بأشياء غيره.
توفي فيها عن سبع وتسعين سنة.
محمد بن منصور ابن محمد بن عبد الجبار، أبو بكر السمعاني، سمع الكثير
وحدث ووعظ بالنظامية ببغداد، وأملى بمرو مائة وأربعين مجلسا، وكانت له
معرفة تامة بالحديث، وكان أديبا شاعرا فاضلا، له قبول عظيم في القلوب،
توفي بمرو عن ثلاث وأربعين سنة (2).
محمد بن أحمد بن طاهر ابن أحمد بن منصور الخازن، فقيه الامامية ومفتيهم
بالكرخ، وقد سمع الحديث من التنوخي وابن غيلان، توفي في رمضان منها.
محمد بن علي بن محمد أبو بكر النسوي، الفقيه الشافعي، سمع الحديث،
وكانت إليه تزكية الشهود ببغداد، وكان فاضلا أديبا ورعا.
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه: علي بن محمد بن أحمد بن بيان الرزاز.
وما أثبتناه أصح.
(تذكرة الحفاظ ص 1261.
شذرات الذهب 4 / 27).
(2) ذكر في الوافي 5 / 75 أنه وفاته كانت في سنة 509 ه.
وقال ابن الاثير في تاريخه: ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة وهذا وهم
منه إذ أخذنا ما قاله.
ولده في الذيل.
قال: ولد سنة ست وستين وأربعمائة وتوفي في صفر سنة
عشر وخمسمائة..(*)
(12/222)
محفوظ بن أحمد
ابن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني (1)، أحد أئمة الحنابلة ومصنفيهم، سمع
الكثير وتفقه بالقاضي أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوني، ودرس وأفتى
وناظر وصنف في الاصول والفروع، وله شعر حسن، وجمع قصيدة يذكر فيها
اعتقاده ومذهبه يقول فيها: دع عنك تذكار الخليط المتحد (2) * والشوق
نحو الآنسات الخرد والنوح في تذكار (3) سعدى إنما * تذكار سعدى شغل من
لم يسعد واسمع معاني (4) إن أردت تخلصا * يوم الحساب وخذ بقولي تهتدي
وذكر تمامها وهي طويلة، كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة عن
ثمان وسبعين سنة، وصلى عليه بجامع القصر، وجامع المنصور، ودفن بالقرب
من الامام أحمد.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة في رابع
(5) صفر منها انكسف القمر كسوفا كليا، وفي تلك الليلة هجم الفرنج على
ربض حماه فقتلوا خلقا كثيرا، ورجعوا إلى بلادهم.
وفيها كانت زلزلة عظيمة ببغداد سقط منها دور كثيرة بالجانب الغربي وغلت
الغلات بها جدا، وفيها قتل لؤلؤ الخادم الذي كان استحوذ على مملكة حلب
بعد موت أستاذه رضوان بن تتش، قتله جماعة من الاتراك، وكان قد خرج من
حلب متوجها إلى جعبر، فنادى جماعة من مماليكه وغيرهم أرنب، أرنب، فرموه
بالنشاب موهمين أنهم يصيدون أرنبا فقتلوه.
وفيها كانت وفاة غياث الدين السلطان
محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد
العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة.
والاقاليم الواسعة.
كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلا رحيما، سهل الاخلاق، محمود
العشرة، ولما حضرته الوفاة استدعى ولده محمودا وضمه إليه وبكى كل
منهما، ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة، وعمره إذ ذاك أربع عشرة (6)
سنة، فجلس وعليه التاج والسواران وحكم، ولما توفي أبوه
صرف الخزائن إلى العساكر وكان فيها إحدى عشر ألف ألف دينار، واستقر
الملك له، وخطب له
__________
(1) كذا بالاصل.
وفي معجم البلدان: الكلواذي ويقال الكلوذي الفقيه، وذكر وفاته سنة 515
ه.
(2) في المنهج الاحمد 2 / 234: المنجد.
(3) في المنهج الاحمد: أطلال.
(4) في المنهج الاحمد: مقالي...وخذ بهذا تهتدي.
(5) في الكامل: رابع عشر صفر.
(6) في الكامل: عمره قد زاد على أربع عشرة سنة.
وفي العبر لابن خلدون 3 / 494: وهو يومئذ غلام محتلم.
(*)
(12/223)
ببغداد وغيرها
من البلاد، ومات السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياما
(1).
وفيها ولد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب حلب
بدمشق.
وممن توفي فيها من الاعيان..القاضي
المرتضى أبو محمد عبد الله بن القاسم بن المظفر بن علي بن القاسم
الشهرزوري، والد القاضي جمال الدين عبد الله الشهرزوري، قاضي دمشق في
أيام نور الدين، اشتغل ببغداد وتفقه بها، وكان شافعي المذهب، بارعا
دينا، حسن النظم، وله قصيدة في علم التصوف، وكان يتكلم على القلوب،
أورد قصيدته بتمامها ابن خلكان لحسنها وفصاحتها وأولها: لمعت نارها وقد
عسعس اللي * ل ومل الحادي وحار الدليل فتأملتها وفكري من البي * ن عليل
ولحظ عيني كليل وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى * وغرامي ذاك الغرام الدخيل
وله: يا ليل ما جئتكم زائرا * إلا وجدت الارض تطوى لي ولا ثنيت العزم
عن بابكم * إلا تعثرت بأذيالي
وله: يا قلب إلى متى لا يفيد النصح * دع مزحك كم جنى عليك المزح ما
جارحة منك غذاها (2) جرح * ما تشعر بالخمار حتى تصحو توفي في هذه
السنة.
قال ابن خلكان: وزعم عماد الدين في الخريدة أنه توفي بعد العشرين
وخمسمائة فالله أعلم.
محمد بن سعد (3) ابن نبهان، أبو علي الكاتب، سمع الحديث وروى وعمر مائة
سنة وتغير قبل موته، وله شعر
__________
(1) في الكامل لابن الاثير 10 / 525: سبعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر
وستة أيام.
وفي الوافي 5 / 62: سبعا وثلاثين سنة وأشهرا.
(2) في الوفيات 3 / 51: عداها.
(3) في الوافي 3 / 104: سعيد.
(*)
(12/224)
حسن، فمنه قوله في قصيدة له: لي رزق قدره الله * نعم ورزق أتوقاه حتى
إذا استوفيت منه * الذي قدر لي لا أتعداه قال كرام كنت أغشاهم * في
مجلس كنت أغشاه صار ابن نبهان إلى ربه * يرحمنا الله وإياه أمير الحاج
يمن بن عبد الله بن أبو الخير المستظهري، كان جوادا كريما ممدحا ذا رأي
وفطنة ثاقبة، وقد سمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن طلحة النعالي
بإفادة أبي نصر الاصبهاني، وكان يؤم به في الصلوات، ولما قدم رسولا إلى
أصبهان حدث بها.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة ودفن بأصبهان |