البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة فيها كانت حروب كثيرة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه، فاستحوذ خوارزم على مرو بعد هزيمة سنجر ففتك بها، وأساء التدبير بالنسبة إلى الفقهاء الحنفية الذين بها، وكان جيش خوارزم ثلاثمائة ألف مقاتل.
وفيها تحمل عمل دمشق النهروز، وخلع نهروز شحنة بغداد على حباب صباغ الحرير الرومي، وركب هو والسلطان مسعود في سفينة في ذلك النهر، وفرح السلطان بذلك، وكان قد صرف السلطان على ذلك النهر سبعين ألف دينار.
وفيها حج كمال الدين طلحة صاحب المخزن، وعاد فتزهد وترك العمل ولزم داره.
وفيها عقدت الجمعة بمسجد العباسيين بإذن الخليفة.
وحج بالناس قطز.
وممن توفي فيها من الاعيان..إسماعيل بن أحمد بن عمر
ابن [ أبي ] (1) الاشعث، أبو القاسم بن أبي بكر السمرقندي الدمشقي ثم البغدادي، سمع الكثير وتفرد بمشايخ، وكان سماعه صحيحا، وأملى بجامع المنصور كثيرة نحو ثلاثمائة مجلس، توفي وقد جاوز الثمانين.
يحيى بن علي ابن محمد بن علي، أبو محمد بن الطراح المدبر، ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة، سمع الكثير وأسمع، وكان شيخا حسنا مهيبا كثير العبادة، توفي في رمضان منها.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فيها ملك عماد الدين زنكي الحديثة، ونقل آل مهارش منها إلى الموصل، ورتب فيها نوابا من جهته.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فيها تجهز السلطان مسعود ليأخذ الموصل والشام من زنكي، فصالحه على مائة ألف دينار،
__________
(1) من الكامل 11 / 90 والوافي 9 / 88.
(*)

(12/271)


فدفع إليه منها عشرين ألف دينار، وأطلق له الباقي، وسبب ذلك أن ابنه سيف الدين غازي كان لا يزال في خدمة السلطان مسعود.
وفيها ملك زنكي بعض بلاد بكر.
وفيها حصر الملك سنجر خوارزم شاه، ثم أخذ منه مالا وأطلقه.
وفيها وجد رجل يفسق بصبي فألقي من رأس منارة، وفي ليلة الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي القعدة زلزلت الارض.
وحج بالناس قطز.
وممن توفي فيها من الاعيان..عبد الوهاب بن المبارك ابن أحمد، أبو البركات الانماطي، الحافظ الكبير، كان ثقة دينا ورعا، طليق الوجه، سهل الاخلاق، توفي في المحرم عن ست وتسعين (1) سنة.
علي بن طراد
ابن محمد الزينبي، الوزير العباسي، أبو القاسم نقيب النقباء على الطائفتين، في أيام المستظهر، ووزر للمسترشد، وتوفي في رمضان عن ست وسبعين سنة.
الزمخشري محمود ابن عمر بن محمد بن عمر، أبو القاسم الزمخشري، صاحب الكشاف في التفسير، والمفصل في النحو وغير ذلك من المصنفات المفيدة، وقد سمع الحديث وطاف البلاد، وجاور بمكة مدة، وكان يظهر مذهب الاعتزال ويصرح بذلك في تفسيره، ويناظر عليه، وكانت وفاته بخوارزم ليلة عرفة منها، عن ست (2) وسبعين سنة.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فيها أخذ العماد زنكي الرها وغيرها من حصون الجزيرة من أيدي الفرنج، وقتل منهم خلقا كثيرا وسبى نساء كثيرة، وغنم أموالا جزيلة، وأزال عن المسلمين كربا شديدا.
وحج بالناس قطز الخادم وتنافس هو وأمير مكة فنهب الحجيج وهم يطوفون.
__________
(1) كذا بالاصول، وفي الكامل 11 / 96 وتذكرة الحافظ ص 1282: كان مولده سنة 462 ه.
فعلى هذا يكون عمره عند وفاته 76 سنة.
(2) قال أبو الفداء في تاريخه: ولد في رجب سنة 467 ; فيكون عمره 71 سنة وقاله في شذرات الذهب 4 / 118.
(*)

(12/272)


وفيها توفي من الاعيان..إبراهيم بن محمد بن منصور ابن عمر أبو الوليد الكرخي، تفقه بأبي إسحاق وأبي سعد المتولي، حتى صار أوحد زمانه فقها ؟ ؟ حا، مات في هذه السنة.
سعد (1) بن محمد ابن عمر أبو منصور البزار (2)، سمع الحديث وتفقه بالغزالي والشاشي (3) والمتولي والكيا، وولي تدريس النظامية، وكان له سمت حسن، ووقار وسكون، وكان يوم جنازته مشهودا، ودفن
عند أبي إسحاق.
عمر بن إبراهيم ابن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي العلوي، أبو البركات الكوفي، ثم البغدادي، سمع الكثير وكتب كثيرا، وأقام بدمشق مدة، وكان له معرفة جيدة بالفقه والحديث والتفسير واللغة والادب، وله تصانيف في النحو، وكان خشن العيش، صابرا محتسبا، توفي في شعبان من هذه السنة عن سبع وتسعين سنة رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة فيها حصر علي بن دبيس أخاه محمدا ولم يزل يحاصره حتى اقتلع من يده الحلة وملكها، وفي رجب منها دخل السلطان مسعود بغداد خوفا من اجتماع عباس صاحب الري، ومحمد شاه بن محمود، ثم خرج منها في رمضان، وحج بالناس أرجوان (4) مملوك أمير الجيوش بسبب ماكان وقع بين قطز وأمير مكة في السنة الماضية.
__________
(1) في الكامل 11 / 103 والمنتظم 10 / 113 والعبر 4 / 107: سعيد.
(2) في المراجع السابقة: الرزاز.
(3) في الكامل: الشامي.
(4) في الكامل: قايماز الارجواني.
(*)

(12/273)


وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن محمد ابن الحسين بن علي بن أحمد بن سليمان، أبو سعد الاصبهاني، ثم البغدادي، سمع الحديث وكان على طريقة السلف، حلو الشمائل، مطرح الكلفة، ربما خرج إلى السوق بقميص وقلنسوة.
وحج أحد عشر حجة، وكان يملي الحديث ويكثر الصوم، توفي بنهاوند في ربيع الاول من هذه
السنة، وقد قارب الثمانين.
علي بن أحمد ابن الحسين بن أحمد، أبو الحسن اليزدي، تفقه بأبي بكر الشاشي، وسمع الحديث وأسمعه، وكان له ولاخيه قميص واحد، إذا خرج هذا لبسه وجلس الآخر في البيت عريانا، وكذا الآخر.
موهوب بن أحمد ابن محمد بن الخضر، أبو منصور الجواليقي، شيخ اللغة في زمانه، باشر مشيخة اللغة بالنظامية بعد شيخه أبي زكريا التبريزي، وكان يؤم بالمقتفي، وربما قرأ الخليفة عليه شيئا من الكتب، وكان عاقلا متواضعا في ملبسه، طويل الصمت كثير الفكر، وكانت له حلقة بجامع القصر أيام الجمع، وكان فيه لكنة، وكان يجلس إلى جانبه المغربي معبر المنامات، وكان فاضلا لكنه كان كثير النعاس في مجلسه، فقال فيهما بعض الادباء: بغداد عندي ذنبها لن يغفرا * وعيوبها مكشوفة لن تسترا كون الجواليقي فيها ممليا * لغة وكون المغربي معبرا ما سور لكنته يقول فصاحة * وليوم يقظته يعبر في الكرا ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة في ليلة مستهل ربيع الاول منها احترق القصر الذي بناه المسترشد، وكان في غاية الحسن، وكان الخليفة المقتفي قد انتقل بجواريه وحظاياه إليه ليقيم فيه ثلاثة أيام، فما هو إلا أن ناموا احترق عليهم القصر بسبب أن جارية أخذت في يدها شمعة فعلق لهبها ببعض الاخشاب، فاحترق القصر

(12/274)


وسلم الله والخليفة وأهله، فأصبح فتصدق بأشياء كثيرة، وأطلق خلقا من المحبسين.
وفي رجب منها وقع بين الخليفة والسلطان مسعود واقع فبعث الخليفة إلى الجوامع والمساجد فأغلقت ثلاثة أيام، حتى اصطلحا.
وفي يوم الجمعة نصف ذي القعدة جلس ابن العبادي الواعظ فتكلم والسلطان مسعود
حاضر، وكان قد وضع على الناس في البيع مكسا فاحشا، فقال في جملة وعظه: يا سلطان العالم، أنت تطلق في بعض الاحيان للمغني إذا طربت قريبا مما وضعت على المسلمين من هذه المكس، فهبني مغنيا وقد طربت فهب لي هذا المكس شكرا لنعم الله عليك.
فأشار السلطان بيده أن قد فعلت، فضج الناس بالدعاء له، وكتب بذلك سجلات، ونودي في البلد بإسقاط ذلك المكس، ففرح الناس بذلك ولله الحمد والمنة.
وفيها قل المطر جدا، وقلت مياه الانهار، وانتشر جراد عظيم، وأصاب الناس داء في حلوقهم، فمات بذلك خلائق كثيرة فإنا الله وإنا إليه راجعون.
وفيها قتل الملك عماد الدين زنكي بن قيم الدولة التركي صاحب الموصل، وحلب وغيرها من البلاد الشامية والجزيرة، وكان محاصرا قلعة جعبر، وفيها شهاب الدين سالم بن ملك العقيلي، فبرطل بعض مماليك زنكي حتى قتلوه في الليلة الخامسة من ربيع الاول (1) من هذه السنة.
قال العماد الكاتب: كان سكرانا فالله أعلم.
وقد كان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلا، وكان شجاعا مقداما حازما، خضعت له ملوك الاطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة، وقام بالامر من بعده بالموصل ولده سيف الدولة، وبحلب نور الدين محمود، فاستعاد نور الدين هذا مدينة الرها، وكان أبوه قد فتحها.
فلما مات عصوا فقهرهم نور الدين.
وفيها ملك عبد المؤمن صاحب المغرب وخادم ابن تومرت جزيرة الاندلس، بعد حروب طويلة.
وفيها ملكت الفرنج مدينة طرابلس الغرب، وفيها استعاد صاحب دمشق مدينة بعلبك.
وفيها جاء نجم الدين أيوب إلى صاحب دمشق فسلمه القلعة وأعطاه أمزبة عنده بدمشق.
وفيها قتل السلطان مسعود حاجبه عبد الرحمن بن طغرلبك (2) وقتل عباسا صاحب الري، وألقى رأسه إلى أصحابه فانزعج الناس ونهبوا خيام عباس هذا، وقد كان عباس من الشجعان المشهورين، قاتل الباطنية مع مخدومه جوهر، فلم يزل يقتل منهم حتى بنى مأذنة من رؤوسهم بمدينة الري.
وفيها مات نقيب النقباء ببغداد محمد بن طراد الزينبي، فتولى بعده علي بن طلحة الزينبي.
وفيها سقط جدار على ابنة الخليفة، وكانت قد بلغت مبالغ النساء، فماتت فحضر جنازتها الاعيان.
وحج بالناس قطز الخادم.
وممن توفي فيها من الاعيان..(1) في الكامل 11 / 110: ربيع الآخر.
(2) في الكامل 11 / 116: طغايرك ; وفي ابن خلدون: طغابرك.
(*)

(12/275)


زنكي بن آقسنقر تقدم ذكر شئ من ترجمته، وهو أبو نور الدين محمود الشهيد، وقد أطنب الشيخ أبو شامة في الروضتين في ترجمته، وما قيل فيه من نظم ونثر رحمه الله.
سعد الخير محمد بن سهل بن سعد، أبو الحسن المغربي الاندلسي الانصاري، رحل وحصل كتبا نفيسة، وروى عنه ابن الجوزي وغيره، وقد أوصى عند وفاته أن يصلي عليه الغزنوي، وأن يدفن عند قبر عبد الله بن الامام أحمد، وحضر جنازته خلائق من الناس.
شافع بن عبد الرشيد ابن القاسم، أبو عبد الله الجيلي الشافعي، تفقه على الكيا وعلى الغزالي، وكان يسكن الكرخ، وله حلقة بجامع المنصور في الرواق.
قال ابن الجوزي وكنت أحضر حلقته.
عبد الله بن علي ابن أحمد بن عبد الله، أبو محمد سبط أبي منصور الزاهد، قرأ القراءات وصنف فيها، وسمع الحديث الكثير، واقتنى الكتب الحسنة، وأم في مسجده نيفا وخمسين سنة، وعلم خلقا القرآن.
قال ابن الجوزي: ما سمعت أحد أحسن قراءة منه، وحضر جنازته خلق كثير.
عباس شحنة الري توصل إلى أن ملكها ثم قتله مسعود، وقد كان كثير الصدقات والاحسان إلى الرعية، وقتل من الباطنية خلقا حتى بنى من رؤوسهم منارة بالري، وتأسف الناس عليه.
محمد بن طراد
ابن محمد الزينبي، أبو الحسن نقيب النقباء، وهو أخو علي بن طراد الوزير، سمع الكثير من أبيه ومن عمه أبي نصر وغيرهما، وقارب السبعين.
(*)

(12/276)


وجيه بن طاهر ابن محمد بن محمد، أبو بكر الشحامي، أخو زاهر، وقد سمع الكثير من الحديث، وكانت له معرفة به، وكان شيخا حسن الوجه، سريع الدمعة، كثير الذكر، جمع السماع إلى العمل إلى صدق اللهجة توفي ببغداد في هذه السنة.
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة فيها ملكت الفرنج عدة حصون من جزيرة الاندلس (1).
وفيها ملك نور الدين بن محمود زنكي عدة حصون من يد الفرنج بالسواحل (2).
وفيها خطب للمستنجد بالله بولاية العهد من بعد أبيه المقتفي.
وفيها تولى عون بن يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام، وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر صدرية المخزن المعمورة.
وفيها اشتد الغلاء بإفريقية وهلك بسببه أكثر الناس حتى خلت المنازل، وأقفلت المعاقل.
وفيها تزوج سيف الدين غازي بنت صاحب ماردين حسام الدين تمرتاش بن أرتق، بعد أن حاصره فصالحه على ذلك، فحملت إليه إلى الموصل بعد سنتين، وهو مريض قد أشرف على الموت، فلم يدخل بها حتى مات، فتولى بعده على الموصل أخوه قطب بن مودود فتزوجها.
قال ابن الجوزي: وفي صفر رأى رجل في المنام قائلا يقول له: من زار أحمد بن حنبل غفر له.
قال فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره.
قال ابن الجوزي: وعقدت يومئذ ثم مجلسا فاجتمع فيه ألوف من الناس.
وممن توفي فيها من الاعيان..أسعد بن عبد الله ابن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو منصور، سمع الحديث الكثير، وكان خيرا صالحا ممتعا بحواسه وقواه، إلى حين الوفاة.
وقد جاوز المائة بنحو من سبع
سنين.
أبو محمد عبد الله بن محمد ابن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي الاندلسي، الرباطي الحافظ، مصنف كتاب اقتياس
__________
(1) قال ابن الاثير في تاريخه ومنها: مدينة المرية، ومدينة بياسة، وولاية جيان.
(2) ومنها: مدينة أرتاح وحصن مابولة وبصرفون وكفرلاثا (الكامل 11 / 122).
(*)

(12/277)


الانوار والتماس الازهار، في أنساب الصحابة، ورواة الآثار، وهو من أحسن التصانيف الكبار، قتل شهيدا صبيحة يوم الجمعة العشرين من جمادى بالبرية.
نصر الله بن محمد ابن عبد القوي، أبو الفتح اللاذقي المصيصي الشافعي، تفقه بالشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي، بصور، وسمع بها منه ومن أبي بكر الخطيب، وسمع ببغداد والانبار، وكان أحد مشايخ الشام، فقيها في الاصول والفروع، توفي فيها وقد جاوز التسعين بأربع سنين.
هبة الله بن علي ابن محمد بن حمزة أبو السعادات ابن الشجري النحوي، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وسمع الحديث وانتهت إليه رياسة النحاة.
قال سمعت بيتا في الذم أبلغ من قول مكوبه: وما أنا إلا المسك قد ضاع عندكم * يضيع وعند الاكثرين يضوع ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فيها استغاث مجير الدين بن أتابك دمشق بالملك نور الدين صاحب حلب على الفرنج، فركب سريعا فالتقى معهم بأرض بصرى فهزمهم، ورجع فنزل على الكسوة، وخرج ملك دمشق مجير الدين أرتق فخدمه واحترمه وشاهد الدماشقة حرمة نور الدين حتى تمنوه.
وفيها ملكت الفرنج المهدية وهرب منها صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن يوسف بن بليكين بأهله وخاف على أمواله فتمزقت في البلاد، وتمزق هو أيضا في البلاد، وأكلتهم الاقطار، وكان آخر ملوك بني باديس، وكان ابتداء ملكهم في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فدخل
الفرنج إليها وخزائنها مشحونة بالحواصل والاموال والعدد وغير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها حاصرت الفرنج وهم في سبعين ألف مقاتل، ومعهم ملك الالمان في خلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل، دمشق وعليها مجير الدين أرتق وأتابكه معين الدين، وهو مدبر المملكة، وذلك يوم السبت سادس ربيع الاول، فخرج إليهم أهلها في مائة ألف وثلاثين ألفا، فاقتتلوا معهم قتالا شديدا، قتل من المسلمين في أول يوم نحو من مائتي رجل، ومن الفرنج خلق كثير لا يحصون، واستمر الحرب مدة، وأخرج مصحف عثمان إلى وسط صحن الجامع، واجتمع الناس حوله يدعون الله عزوجل، والنساء والاطفال مكشفي الرؤوس يدعون ويتباكون، والرماد مفروش في البلد، فاستغاث أرتق بنور الدين محمود صاحب حلب وبأخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل، فقصداه سريعا في نحو من

(12/278)


سبعين ألفا بمن انضاف إليهم من الملوك وغيرهم، فلما سمعت الفرنج بقدوم الجيش تحولوا عن البلد، فلحقهم الجيش فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتلوا قسيسا معهم اسمه إلياس، وهو الذي أغراهم بدمشق، وذلك أنه افترى مناما عن المسيح أنه وعده فتح دمشق، فقتل لعنه الله، وقد كادوا يأخذون البلد، ولكن الله سلم، وحماها بحوله وقوته.
قال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) [ الحج: 40 ] ومدينة دمشق لا سبيل للاعداء من الكفرة عليها، لانها المحلة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أنها معقل الاسلام عند الملاحم والفتن، وبها ينزل عيسى بن مريم وقد قتل الفرنج خلقا كثيرا من أهل دمشق، وممن قتلوا الفقيه الكبير الملقب حجة الدين شيخ المالكية بها، أبو الحجاج يوسف بن درناس (1) الفندلاوي، بأرض النيرب (2)، ودفن بمقابر باب الصغير، وكان مجير الدين قد صالح الفرنج عن دمشق ببانياس، فرحلوا عنها وتسلموا بانياس.
وفيها وقع بين السلطان مسعود وأمرائه ففارقوه، وقصدوا بغداد فاقتتلوا مع العامة، فقتلوا منهم خلقا كثيرا من الصغار والكبار، ثم اجتمعوا قبال التاج وقبلوا الارض واعتذروا إلى الخليفة مما وقع، وساروا نحو النهروان فتفرقوا في البلاد، ونهبوا أهلها، فغلت الاسعار بالعراق بسبب ذلك.
وفيها ولي قضاء القضاة ببغداد أبو
الحسن علي بن أحمد بن علي بن الدامغاني، بعد وفاة الزينبي.
وفيها ملك سولي بن الحسين ملك الثغور (3) مدينة غزنة، فذهب صاحبها بهرام شاه بن مسعود من أولاد سبكتكين إلى فرغانة فاستغاث بملكها، فجاء بجيوش عظيمة فاقتلع غزنة من سولي، وأخذه أسيرا فصلبه، وقد كان كريما جوادا، كثير الصدقات.
وممن توفي فيها من الاعيان..إبراهيم بن محمد ابن نهار (4) بن محرز الغنوي الرقي، سمع الحديث وتفقه بالشاشي والغزالي، وكتب شيئا كثيرا من مصنفاته، وقرأها عليه، وصحبه كثيرا، وكان مهيبا كثير الصمت، توفي في ذي الحجة منها وقد جاوز الثمانين.
__________
(1) في الكامل: دي ناس، وفي تذكرة الحفاظ: دوناس.
(2) النيرب على نحو نصف فرسخ من دمشق.
(3) في الكامل ومعجم البلدان: الغور.
قال ياقوت: جبال وولاية بين هراة وغزنة وهي بلاد باردة واسعة موحشة وهي مع ذلك لا تنطوي على مدينة مشهورة.
(4) في الكامل 11 / 137: نبهان انظر المنتظم 10 / 134 وطبقات السبكي 4 / 300 شذرات الذهب 4 / 135.
(*)

(12/279)


شاهان شاه بن أيوب ابن شادي، استشهد مع نور الدين، وهو والد الست عذار، واقفة العذارية، وتقي الدين عمر واقف التقوية.
علي بن الحسين ابن محمد بن علي الزينبي، أبو القاسم الاكمل بن أبي طالب نور الهدى بن أبي الحسن نظام الحضرتين ابن نقيب النقباء أبي القاسم بن القاضي أبي تمام العباسي، قاضي القضاة ببغداد وغيرها، سمع الحديث، وكان فقيها رئيسا، وقورا حسن الهيئة والسمت، قليل الكلام، سافر مع الخليفة
الراشد إلى الموصل، وجرت له فصول ثم عاد إلى بغداد فمات بها في هذه السنة، وقد جاوز الستين، وكانت جنازته حافلة.
أبو الحجاج يوسف بن درباس (1) الفندلاوي، شيخ المالكية بدمشق، قتل يوم السبت سادس ربيع الاول قريبا من الربوة في أرض النيرب، هو والشيخ عبد الرحمن الجلجولي، أحد الزهاد رحمهما الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة
فيها كانت وفاة القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، قاضيها أحد مشايخ العلماء المالكية، وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة، منها الشفا، وشرح مسلم، ومشارق الانوار، وغير ذلك، وله شعر حسن، وكان إماما في علوم كثيرة، كالفقه واللغة والحديث والادب، وأيام الناس، ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة، ومات يوم الجمعة في جمادى الآخرة، وقيل في رمضان من هذه السنة، بمدينة سبتة.
وفيها غزا الملك نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج، فقتل منهم خلقا، وكان فيمن قتل البرنس صاحب إنطاكية، وفتح شيئا كثيرا من قلاعهم ولله الحمد.
وكان قد استنجد بمعين الدين بن أتابك دمشق، فأرسل إليه بفريق من جيشه صحبة الامير مجاهد الدين بن مروان بن مس، نائب صرخد فأبلوا بلاء حسنا، وقد قال الشعراء في هذه الغزوة أشعارا كثيرة، منهم ابن
__________
(1) انظر حاشية (1) ص 279.
(*)

(12/280)


القيسراني وغيره، وقد سردها أبو شامة في الروضتين.
وفي يوم الاربعاء ثالث (1) ربيع الآخر استوزر للخلافة أبو المظفر يحيى بن هبيرة، ولقب عون الدين، وخلع عليه.
وفي رجب قصد الملك شاه بن محمود بغداد ومعه خلق من الامراء، ومعه علي بن دبيس وجماعة من التركمان وغيرهم، وطلبوا من الخليفة أن يخطب له فامتنع من ذلك، وتكررت المكاتبات، وأرسل الخليفة إلى السلطان مسعود
يستحثه في القدوم، فتمادى عليه وضاق النطاق، واتسع الخرق على الراقع، وكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يتوعده إن لم يسرع إلى الخليفة، فما جاء إلا في أواخر السنة، فانقشعت تلك الشرور كلها، وتبدلت سرورا أجمعها.
وفي هذه السنة زلزلت الارض زلزالا شديدا، وتموجت الارض عشر مرات، وتقطع جبل بحلوان، وانهدم الرباط النهر جوري، وهلك خلق كثير بالبرسام، لا يتكلم المرضى به حتى يموتوا.
وفيها مات سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل، وملك بعده أخوه قطب الدين مودود بن زنكي، وتزوج بامرأة أخيه التي لم يدخل بها، الخاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين، فولدت له أولادا كلهم ملكوا الموصل، وكانت هذه المرأة تضع خمارها بين خمسة عشر ملكا.
وفيها سار نور الدين إلى سنجار ففتحها، فجهز إليه أخوه قطب الدين مودود جيشا ليرده عنها، ثم اصطلحا فعوضه منها الرحبة وحمص، واستمرت سنجار لقطب الدين، وعاد نور الدين إلى بلده.
ثم غزا فيها الفرنج فقتل منهم خلقا وأسر البرنس صاحب إنطاكية، فمدحه الشعراء منهم الفتح القيسراني بقصيدة يقول فيها أولها: هذي العزائم لا ما تنعق (2) القضب * وذي المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللاتي متى خطبت * تعثرت خلفها الاشعار والخطب صافحت يا بن عماد الدين ذروتها * براحة للمساعي دونها تعب ما زال جدك يبني كل شاهقة * حتى بنى قبة أوتادها الشهب وفيها فتح نور الدين حصن فاميا وهو قريب من حماه.
وفيها مات صاحب مصر الحافظ لدين الله عبد المجيد بن أبي القاسم بن المستنصر، فقام بالامر من بعده ولده الظافر إسماعيل، وقد كان أحمد بن الافضل بن أمير الجيوش قد استحوذ على الحافظ وخطب له بمصر ثلاثا، ثم آخر الامر أذن بحي على خير العمل، والحافظ هذا هو الذي وضع طبل القولنج الذي إذا ضربه من به القولنج يخرج منه القولنج والريح الذي به، وخرج بالحجاج الامير قطز الخادم فمرض بالكوفة فرجع واستخلف على الحجاج مولاه قيماز، وحين وصوله إلى بغداد توفي بعد أيام (3)، فطمعت العرب في الحجاج فوقفوا لهم في الطريق وهم راجعون، فضعف قيماز عن مقاومتهم فأخذ لنفسه أمانا وهرب وأسلم
__________
(1) في الكامل: رابع (2) في الكامل 11 / 145: تدعي.
(3) مات في ذي القعدة (انظر ابن الاثير).
(*)

(12/281)


إليهم الحجيج، فقتلوا أكثرهم وأخذوا أموال الناس، وقل من سلم فيمن نجا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها مات معين الدين بن أتابك العساكر بدمشق، وكان أحد مماليك طغتكين، وهو والد الست خاتون زوجة نور الدين، وهو واقف المدرسة المعينية، داخل باب الفرج، وقبره في قبة قتلى الشامية البرانية، بمحلة العونية، عند دار البطيخ.
ولما مات معين الدين قويت شوكة الوزير الرئيس مؤيد الدولة على ابن الصوفي وأخيه زين الدولة حيدرة، ووقعت بينهما وبين الملك مجير الدين أرتق وحشة، اقتضت أنهما جندا من العامة والغوغاء ما يقاومه فاقتتلوا فقتل خلق من الفريقين.
ثم وقع الصلح بعد ذلك.
وممن توفي فيها من الاعيان..أحمد بن نظام الملك أبو الحسن علي بن نصر الوزير للمسترشد، والسلطان محمود، وقد سمع الحديث، وكان من خيار الوزراء (1).
أحمد بن محمد ابن الحسين الارجاني (2)، قاضي تستر، روى الحديث وكان له شعر رائق يتضمن معاني حسنة فمن ذلك قوله: ولما بلوت الناس أطلب عندهم * أخا ثقة عند اعتراض الشدائد تطعمت في حالي رخاء وشدة * وناديت في الاحياء: هل من مساعد ؟ فلم أر فيما ساءني غير شامت * ولم أر فيما سرني غير حاسد فطلقت ود العاملين جميعهم * ورحت فلا ألوي على غير واحد
تمتعتما يا ناظري بنظرة * وأوردتما قلبي أمر الموارد أعيني كفا عن فؤادي فإنه * من البغي سعي اثنين في قتل واحد والقاضي عياض بن موسى السبتي صاحب التصانيف المفيدة ومن شعره قوله: الله يعلم أني منذ لم أركم * كطائر خانه ريش الجناحين
__________
(1) قال الفخري ص 306 فيه: كان كريما جميل الصورة، شكرت سيرته، ولما عزم المسترشد على عمارة سور بغداد قسط على الناس 15 ألف دينار فقام الوزير أبو نصر وأداها عن الناس من ماله.
(2) الارجاني: نسبة إلى أرجان، وأرجان بلد من أعمال تستر.
(*)

(12/282)


ولو قدرت ركبت الريح نحوكم * فإن بعدكم عني جنى حيني وقد ترجمه ابن خلكان ترجمة حسنة.
عيسى بن هبة الله ابن عيسى، أبو عبد الله النقاش، سمع الحديث، مولده سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
قال ابن الجوزي: وكان ظريفا خفيف الروح، له نوادر حسنة رأى الناس، وعاشر الاكياس، وكان يحضر مجلسي وكياتبني وأكاتبه، كتبت إليه مرة فعظمته في الكتاب فكتب إلي: قد زدتني في الخطاب حتى * خشيت نقصا من الزيادة (1) وله: إذا وجد الشيخ في نفسه * نشاطا فذلك موت خفي ألست ترى أن ضوء السرا * ج له لهب قبل أن ينطفي غازي بن اقسنقر الملك سيف الدين صاحب الموصل، وهو أخو نور الدين محمود، صاحب حلب ثم دمشق فيما بعد، وقد كان سيف الدين هذا من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، وأجودهم سريرة، وأصبحهم صورة، شجاعا كريما، يذبح كل يوم لجيشه مائة من الغنم، ولمماليكه ثلاثين رأسا، وفي يوم العيد ألف رأس سوى البقر والدجاج، وهو أول من حمل على رأسه سنجق من ملوك الاطراف، وأمر الجند
أن لا يركبوا إلى بسيف ودبوس، وبنى مدرسة بالموصل ورباطا للصوفية وامتدحه الحيص بيص (2) فأعطاه ألف دينار عينا، وخلعة.
ولما توفي بالحمى في جمادى الآخرة دفن في مدرسته المذكورة، وله من العمر أربعون سنة (3)، وكانت مدة ملكه بعد أبيه ثلاث سنين وخمسين يوما، رحمه الله.
قطز الخادم أمير الحاج مدة عشرين سنة وأكثر، سمع الحديث وقرأ على ابن الزاغوني، وكان يحب العلم
__________
(1) وبعده في الكامل 11 / 147: فاجعل خطابي خطاب مثلي * ولا تغير علي عاده (2) قال فيه قصيدته التي أولها: إلام يراك المجد في زي شاعر * وقد نحلت شوقا فروع المنابر (3) قال ابن الاثير في تاريخه: وكانت ولادته سنة خمسمائة (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 21).
(*)

(12/283)


والصدقة، وكان الحاج معه في غاية الدعة والراحة والامن، وذلك لشجاعته ووجاهته عند الخلفاء والملوك، توفي ليلة الثلاثاء الحادي عشر من ذي القعدة ودفن بالرصافة.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة فيها فتح نور الدين محمود حصن فامية، وهو من أحصن القلاع، وقيل فتحه في التي قبلها.
وفيها قصد دمشق ليأخذها فلم يتفق له ذلك، فخلع على ملكها مجير الدين أرتق، وعلى وزيره ابن الصوفي، وتقررت الخطبة له بها بعد الخليفة والسلطان، وكذلك السكة.
وفيها فتح نور الدين حصن إعزاز وأسر ابن ملكها ابن جوسلين، ففرح المسلمون بذلك، ثم أسر بعده والده جوسلين الفرنجي، فتزايدت الفرحة بذلك، وفتح بلادا كثيرة من بلاده.
وفي المحرم منها حضر يوسف الدمشقي تدريس النظامية، وخلع عليه، ولما لم يكن ذلك بإذن الخليفة بل بمرسوم السلطان وابن النظام، منع من ذلك فلزم بيته ولم يعد إلى المدرسة بالكلية، وتولاها الشيخ أبو النجيب بإذن الخليفة ومرسوم السلطان.
قال ابن الجوزي: في هذه السنة وقع مطر باليمن كله دم، حتى صبغ ثياب
الناس.
وممن توفي فيها من الاعيان...الحسن بن ذي النون ابن أبي القاسم، بن أبي الحسن، أبو المفاخر (1) النيسابوري، قدم بغداد فوعظ بها، وجعل ينال من الاشاعرة فأحبته النحابلة، ثم اختبروه فإذا هو معتزلي ففتر سوقه، وجرت بسببه فتنة ببغداد، وقد سمع منه ابن الجوزي شيئا من شعره، من ذلك: مات الكرام ومروا (2) وانقضوا ومضوا * ومات من بعدهم تلك الكرامات وخلفوني في قوم ذوي سفه * لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا عبد الملك بن عبد الوهاب الحنب ؟ لى القاضي بهاء الدين، كان يعرف مذهب أبي حنيفة وأحمد، ويناظر عنهما، ودفن مع أبيه وجده ؟ ق ؟ ور الشهداء.
__________
(1) في الوافي بالوفيات 12 / 8: أبو المكارم.
(2) في الكامل 11 / 153: وولوا.
(*)

(12/284)


عبد الملك بن أبي نصر بن عمر أبو المعالي الجيلي، كان فقيها صالحا.
متعبدا فقيرا، ليس له بيت يسكنه، وإنما يبيت في المساجد المهجورة، وقد خرج مع الحجيج فأقام بمكة يعبد ربه ويفيد العلم، فكان أهلها يثنون عليه خيرا.
الفقيه أبو بكر بن العربي (1) المالكي، شارح الترمذي، كان فقيها عالما، وزاهدا عابدا، وسمع الحديث بعد اشتغاله في الفقه، وصحب الغزالي وأخذ عنه، وكان يتهمه برأي الفلاسفة، ويقول دخل في أجوافهم فلم يخرج منها والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة فيها أغار جيش السلطان على بلاد الاسماعيلية، فقتلوا خلقا ورجعوا سالمين.
وفيها حاصر نور الدين دمشق شهورا ثم ترحل عنها إلى حلب، وكان الصلح على يدي البرهان البلخي.
وفيها اقتتل الفرنج وجيش نور الدين فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق (2)، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما وقع هذا الامر شق ذلك على نور الدين وترك الترفه وهجر اللذة حتى يأخذ بالثأر، ثم إن أمراء التركمان ومعهم جماعة من أعوانهم ترصدوا الملك جوسليق الافرنجي، فلم يزالوا به حتى أسروه في بعض متصيداته فأرسل نور الدين فكبس التركمان وأخذ منهم جوسليق أسيرا، وكان من أعيان الكفرة، وأعظم الفجرة، فأوقفه بين يديه في أذل حال، ثم سجنه.
ثم سار نور الدين إلى بلاده فأخذها كلها بما فيها (3).
وفي ذي الحجة جلس ابن العبادي في جامع المنصور وتكلم، وعنده جماعة من الاعيان، فكادت الحنابلة يثيرون فتنة ذلك اليوم، ولكن لطف الله وسلم.
وحج بالناس فيها قيماز الارجواني.
وممن توفي فيها من الاعيان الشيخ:
__________
(1) وهو محمد بن عبد الله بن محمد الاشبيلي ولد سنة 468، وتوفي بمدينة فاس سنة 543 كما في الوافي بالوفيات 3 / 330 وسنة 546 كما في شذرات الذهب 4 / 141.
(2) التقوا في شمال حلب، عند تل باشر وعين تاب وإعزاز.
(3) وهي: تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان، وبرج الرصاص وحصن البارة وكفر سود وكفرلاثا ودلوك ومرعش ونهر الجوز (الكامل 11 / 155).
(*)

(12/285)


برهان الدين أبو الحسن بن علي البلخي شيخ الحنفية بدمشق، درس بالبلخية ثم بالخاتونية البرانية، وكان عالما عاملا، ورعا زاهدا.
ودفن بمقابر باب الصغير.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة
فيها توفي السلطان مسعود وقام بالامر من بعده أخوه ملكشاه بن محمود، ثم جاء السلطان محمد وأخذ الملك واستقر له، وقتل الامير خاص بك، وأخذ أمواله وألقاه للكلاب، وبلغ الخليفة أن واسط قد تخبطت أيضا، فركب إليها في الجيش في أبهة عظيمة، وأصلح شأنها، وكر على الكوفة والحلة، ثم عاد إلى بغداد فزينت له البلد.
وفيها ملك عبد المؤمن صاحب المغرب بجاية وهي بلاد بني حماد، فكان آخر ملوكهم يحيى بن عبد العزيز بن حماد، ثم جهز عبد المؤمن جيشا إلى صنهاجة فحاصرها، وأخذ أموالها.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج (1)، فكسرهم وقتل منهم خلقا ولله الحمد.
وفيها اقتتل السلطان سنجر وملك الغور علاء الدين الحسين ابن الحسين أول ملوكهم، فكسره سنجر وأسره، فلما أحضره بين يديه قال له: ماذا كنت تصنع بي لو أسرتني ؟ فأخرج قيدا من فضة وقال: كنت أقيدك بهذا.
فعفى عنه وأطلقه إلى بلاده، فسار إلى غزنة فانتزعها من يد صاحبها بهرام شاه البسكتكيني، واستخلف عليها أخاه سيف الدين فغدر به أهل البلد وسلموه إلى بهرام شاه فصلبه، ومات بهرام شاه قريبا فسار إليه علاء الدين فهرب خسرو بن بهرام شاه عنها، فدخلها علاء الدين فنهبها ثلاثة أيام، وقتل من أهلها بشرا كثيرا، وسخر أهلها فحملوا ترابا في مخالي إلى محلة هنالك بعيدة عن البلد، فعمر من ذلك التراب قلعة معروفة إلى الآن، وبذلك انقضت دولة بني سبكتكين عن بلاد غزنة وغيرها، وقد كان ابتداء أمرهم في سنة ست وستين وثلثمائة إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وكانوا من خيار الملوك، وأكثرهم جهادا في الكفرة، وأكثرهم أموالا ونساء وعددا وعددا، وقد كسروا الاصنام وأبادوا الكفار، وجمعوا من الاموال ما لم يجمع غيرهم من الملوك، مع أن بلادهم كانت من أطيب البلاد وأكثرهم ريفا ومياها ففني جميعه وزال عنهم (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير) [ آل عمران: 26 ] ثم ملك الغور والهند وخراسان، واتسعت ممالكهم وعظم سلطان علاء الدين بعد الاسر، وحكى ابن الجوزي أن في هذه السنة باض ديك بيضة واحدة، ثم باض بازي بيضتين، وباضت نعامة من غير ذكر، وهذا شئ عجيب.
__________
(1) وهي وقعة دلوك.
(*)

(12/286)


وممن توفي فيها من الاعيان..المظفر بن أردشير أبو منصور العبادي، الواعظ، سمع الحديث ودخل إلى بغداد فأملى ووعظ، وكان الناس يكتبون ما يعظ به، فاجتمع له من ذلك مجلدات.
قال ابن الجوزي: لا تكاد تجد في المجلد خمس كلمات جيدة، وتكلم فيه وأطال الحط عليه، واستحسن من كلامه قوله: وقد سقط مطر وهو يعظ الناس، وقد ذهب الناس إلى تحت الجدران، فقال لا تفروا من رشاش ماء رحمة قطر من سحاب نعمة، ولكن فروا من رشاش نار اقتدح من زناد الغضب.
توفي وقد جاوز الخمسين (1) بقليل.
مسعود السلطان صاحب العراق وغيرها، حصل له من التمكن والسعادة شئ كثير لم يحصل لغيره، وجرت له خطوب طويلة، كما تقدم بعض ذلك، وقد أسر في بعض حروبه الخليفة المسترشد كما تقدم، توفي يوم الاربعاء سلخ جمادى الآخرة منها.
يعقوب الخطاط الكاتب توفي بالنظامية، فجاء ديوان الحشر (2) ليأخذوا ميراثه فمنعهم الفقهاء فجرت فتنة عظيمة آل الحال إلى عزل المدرس الشيخ أبي النجيب وضربه في الديوان تعزيرا.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فيها وقع الحرب بين السلطان سنجر وبين الاتراك، فقتل الاتراك من جيشه خلقا كثيرا بحيث صارت القتلى مثل التلول العظيمة، وأسروا السلطان سنجر وقتلوا من كان معه من الامراء صبرا، ولما أحضروه قاموا بين يديه وقبلوا الارض له، وقالوا نحن عبيدك، وكانوا عدة من الامراء الكبار من مماليكهم، فأقام عندهم شهرين ثم أخذوه وساروا به فدخلوا مرو، وهي كرسي مملكة خراسان، فسأله بعضهم أن يجعلها له إقطاعا، فقال سنجر هذا لا يمكن، هذه كرسي المملكة، فضحكوا منه
__________
(1) ذكره ابن الاثير في تاريخه.
قال: وكانت ولادته سنة 491 ه.
فيكون له من العمر عند وفاته 57 سنة.
وذكره ابن الاثير فيمن توفي سنة 546 ه.
(2) في الكامل: حضر متولي المتروكات.
(*)

(12/287)


وضرطوا به فنزل عن سرير المملكة ودخل خانقاه، وصار فقيرا من جملة أهلها، وتاب عن الملك واستحوذ أولئك الاتراك على البلاد فنهبوها وتركوها قاعا صفصفا، وأفسدوا في الارض فسادا عريضا، وأقاموا سليمان شاه ملكا، فلم تطل أيامه حتى عزلوه، وولوا ابن أخت سنجر الخاقان محمود بن كوخان (1)، وتفرقت الامور واستحوذ كل إنسان منهم على ناحية من تلك الممالك، وصارت الدولة دولا.
وفيها كانت حروب كثيرة بين عبد المؤمن وبين العرب ببلاد المغرب.
وفيها أخذت الفرنج مدينة عسقلان من ساحل غزة.
وفيها خرج الخليفة إلى واسط في جحفل فأصلح شأنها وعاد إلى بغداد.
وحج بالناس فيها قيماز الارجواني.
وفيها كانت وفاة الشاعرين القرينين الشهيرين في الزمان الاخير بالفر زدق وجرير وهما أبو الحسن (2) أحمد بن منير الجوني بحلب، وأبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير (3) القيسراني الحلبي بدمشق، وعلي بن السلار الملقب بالعادل وزير الظافر صاحب مصر، وهو باني المدرسة بالاسكندرية للشافعية للحافظ أبي طاهر السلفي، وقد كان العادل هذا ضد اسمه، كان ظلوما غشوما حطوما، وقد ترجمه ابن خلكان.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة فيها ركب الخليفة المقتفي في جيش كثيف إلى تكريت فحاصر قلعتها، ولقي هناك جمعا من الاتراك والتركمان، فأظفره الله بهم، ثم عاد إلى بغداد.
ملك السلطان نور الدين الشهيد بدمشق وجاءت الاخبار بأن مصر قد قتل خليفتها الظافر، ولم يبق منهم إلا صبي صغير ابن خمس شهور (4)، قد ولوه عليهم ولقبوه الفائز، فكتب الخليفة عهدا إلى نور الدين محمود بن زنكي بالولاية
__________
(1) ابن بغراجان كما في ابن الاثير، وذكره ابن خلدون في العبر: محمد بن محمود.
(2) في الوافي ووفيات الاعيان والنجوم الزاهرة وابن عساكر: أبو الحسين.
الشاعر المشهور ولد ابن منير سنة 473 ه قدم دمشق فسكنها ثم سجن فيها ثم شفعوا فيه فنفاه صاحب دمشق بوري بن طغتكين كان بينه وبين ابن القيسراني مكاتبات وأجوبة ومهاجاة وكانا مقيمين في حلب متنافسين في صنعتهما على عادة المتماثلين.
مات هذه السنة ودفن بجبل جوشن بحلب.
(3) الشاعر المشهور وحامل لواء الشعر في زمانه ولد بعكا سنة 478 ه ونشأ بقيسرية الساحل فنسب إليها وسكن دمشق، ثم سكن حلب وتولى بها خزانة الكتب، وتردد إلى دمشق وبها مات في هذه السنة.
(4) في الكامل 11 / 192: سنين.
(انظر ابن خلدون 4 / 75).
وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 229: نحو ست سنين.
(*)

(12/288)


على بلاد الشام والديار المصرية، وأرسله إليها.
وفيها هاجت ريح شديدة بعد العشاء فيها نار فخاف الناس أن تكون الساعة، وزلزلت الارض وتغير ماء دجلة إلى الحمرة، وظهر بأرض واسط بالارض دم لا يعرف ما سببه، وجاءت الاخبار عن الملك سنجر أنه في أسر الترك، وهو في غاية الذل والاهانة، وأنه يبكي على نفسه كل وقت.
وفيها انتزع نور الدين محمود دمشق من يد ملكها نور الدين أرتق (1)، وذلك لسوء سيرته وضعف دولته، ومحاصرة العامة له في القلعة، مع وزيره مؤيد الدولة علي بن الصوفي، وتغلب الخادم عطاء على المملكة مع ظلمه وغشمه، وكان الناس يدعون ليلا ونهارا أن يبدلهم بالملك نور الدين، واتفق مع ذلك أن الفرنج أخذوا عسقلان فحزن نور الدين على ذلك، ولا يمكنه الوصول إليهم، لان دمشق بينه وبينهم، ويخشى أن يحاصروا دمشق فيشق على أهلها، ويخاف أن يرسل مجير الدين إلى الفرنج فيخذلونه كما جرى غير مرة، وذلك أن الفرنج لا يريدون أن يملك نور الدين دمشق فيقوى بها عليهم ولا يطيقونه، فأرسل بين يديه الامير أسد الدين شيركوه في ألف فارس في صفة طلب الصلح، فلم يلتفت إليه مجير الدين ولا عده شيئا، ولا خرج إليه أحد من أعيان أهل البلد، فكتب إلى نور الدين بذلك، فركب الملك نور الدين في جيشه فنزل عيون الفاسريا من أرض دمشق، ثم انتقل إلى قريب من الباب الشرقي، ففتحها قهرا ودخل من
الباب الشرقي بعد حصار عشرة أيام، وكان دخوله في يوم الاحد عاشر صفر من هذه السنة وتحصن مجير الدين في القلعة فأنزله منها وعوضه مدينة حمص ودخل نور الدين إلى القلعة واستقرت يده على دمشق ولله الحمد.
ونادى في البلد بالامان والبشارة بالخير، ثم وضع عنهم المكوس وقرئت عليهم التواقيع على المنابر، ففرح الناس بذلك وأكثروا الدعاء له، وكتب ملوك الفرنج إليه يهنونه بدمشق ويتقربون إليه ويخضعون له.
وممن توفي فيها من الاعيان..الرئيس مؤيد الدولة علي بن الصوفي وزير دمشق لمجير الدين، وقد ثار على الملك غير مرة، واستفحل أمره، ثم يقع الصلح بينهما كما تقدم.
عطاء الخادم أحد أمراء دمشق، وقد تغلب على الامور بأمر مجير الدين، وكان ينوب على بعلبك في بعض الاحيان، وقد كان ظالما غاشما وهو الذي ينسب إليه مسجد عطاء خارج باب شرقي والله أعلم.
__________
(1) في الكامل: مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغدكين.
(*)

(12/289)


ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة هجربة فيها خرج الخليفة في تجمل إلى دموقا (1) فحاصرها فخرج إليه أهلها أن يرحل عنهم فإن أهلها قد هلكوا من الجيشين، فأجابهم ورحل عنهم، وعاد إلى بغداد بعد شهرين ونصف، ثم خرج نحو الحلة والكوفة والجيش بين يديه، وقال له سليمان شاه أنا ولي عهد سنجر، فإن قررتني في ذلك وإلا فأنا كأحد الامراء، فوعده خيرا، وكان يحمل الغاشية بين يدي الخليفة على كاهله، فمهد الامور ووطدها، وسلم على مشهد على إشارة بأصبعه، وكأنه خاف عليه غائلة الروافض أو أن يعتقد في نفسه من القبر شيئا أو غير ذلك، والله أعلم.
فتح بعلبك بيد نور الدين الشهيد
وفيها افتتح نور الدين بعلبك عودا على بدء وذلك أن نجم الدين أيوب كان نائبا بها على البلد والقلعة فسلمها إلى رجل يقال له الضحاك البقاعي (2)، فاستحوذ عليها وكاتب نجم الدين لنور الدين، ولم يزل نور الدين يتلطف حتى أخذ القلعة أيضا واستدعى بنجم الدين أيوب إليه إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا، وأكرمه من أجل أخيه أسد الدين، فإنه كانت له اليد الطولى في فتح دمشق، وجعل الامير شمس الدولة بوران شاه بن نجم الدين شحنة دمشق، ثم من بعده جعل أخاه صلاح الدين يوسف هو الشحنة، وجعله من خواصه لا يفارقه حضرا ولا سفرا، لانه كان حسن الشكل حسن اللعب بالكرة، وكان نور الدين يحب لعب الكرة لتدمين الخيل وتعليمها الكر والفر، وفي شحنة صلاح الدين يوسف يقول عرقلة: وهو حسان بن نمير الكلبي الشاعر: رويدكم يا لصوص الشام * فإني لكم ناصح في مقالي فإياكم وسمي النبي يوسف * رب الحجا والكمال فذاك مقطع أيدي النساء * وهذا مقطع أيدي الرجال وقد ملك أخاه بوران شاه بلاد اليمن فيما بعد ذلك، وكان يلقب شمس الدولة وممن توفي فيها من الاعيان..محمد بن ناصر ابن محمد بن علي الحافظ، أبو الفضل البغدادي.
ولد ليلة النصف من شعبان سنة سبع
__________
(1) في الكامل وتاريخ أبي الفداء - حوادث سنة 550 ه - دقوقا.
(2) البقاعي: قال ابن خلدون نسبة إلى بقاعة ; وقال ابن الاثير: منسوب إلى بقاع بعلبك.
(*)

(12/290)


وستين وأربعمائة، وسمع الكثير، وتفرد بمشايخ، وكان حافظا ضابطا مكثرا من السنة كثير الذكر سريع الدمعة.
وقد تخرج به جماعة منهم أبو الفرج بن الجوزي، سمع بقراءته مسند أحمد وغيره من الكتب الكبار، وكان يثني عليه كثيرا، وقد رد على أبي سعد السمعاني في قوله: محمد بن ناصر يحب ؟ أن يقع في الناس.
قال ابن الجوزي: والكلام في الناس بالجرح والتعديل ليس من هذا القبيل
وإنما ابن السمعاني يحب أن يتعصب على أصحاب الامام أحمد، نعوذ بالله من سوء القصد ؟ والتعصب.
توفي محمد بن ناصر ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شعبان منها، عن ثلاث وثمانين سنة.
وصلي عليه مرات، ودفن بباب حرب.
مجلي بن جميع أبو المعالي المخزومي الارسوفي ثم المصري قاضيها، الفقيه الشافعي، مصنف الذخائر وفيها غرائب كثيرة وهي من الكتب المفيدة.