البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة فيها فتح نور الدين محمود حصن
المنيطرة [ من الشام ] (3) وقتل عنده خلق كثير من الفرنج، وغنم أموالا
جزيلة.
وفيها هرب عز الدين بن الوزير ابن هبيرة من السجن، ومعه مملوك تركي،
فنودي عليه في البلد من رده فله مائة دينار، ومن وجد عنده هدمت داره
وصلب على بابها، وذبحت أولاده بين يديه، فدلهم رجل من الاعراب عليه
فأخذ من بستان فضرب ضربا شديدا وأعيد إلى السجن وضيق عليه.
وفيها أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة، ولم يكونوا
يتمكنون منها في هذه الاعصار المتقدمة، خوفا من ابن هبيرة، ووقع بين
العوام كلام فيما يتعلق بخلق القرآن.
وحج بالناس برغش.
وممن توفي فيها من الاعيان..
__________
(1) قال الفخري ص 315: وفي آخر أيامه عرض له تزايد البلغم فمات وهو
ساجد.
ولم يعلق ابن الاثير في تاريخه على موته فاعتبر وفاته طبيعيا.
(2) قال ابن خلكان 6 / 242: ولد سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وفي ابن
الاثير 11 / 321: ومولده سنة تسعين وأربعمائة.
فعلى هذا يكون قد تجاوز 63 سنة حسب رواية ابن خلكان.
(3) من الكامل.
(*)
(12/312)
الحسن بن
العباس ابن أبي الطيب بن رستم، أبو عبد الله الاصبهاني، كان من كبار
الصالحين البكائين، قال: حضرت يوما مجلس ماشاده وهو يتكلم على الناس
فرأيت رب العزة في هذه الليلة وهو يقول لي: وقفت على مبتدع وسمعت كلامه
؟ لاحر منك النظر في الدنيا، فأصبح لا يبصر وعيناه مفتوحتان كأنه بصير.
عبد العزيز بن الحسن (1) ابن الحباب الاغلبي السعدي القاضي، أبو
المعالي البصري، المعروف بابن الجليس، لانه كان يجالس صاحب مصر، وقد
ذكره العماد في الخريدة، وقال: كان له فضل مشهور وشعر مأثور فمن ذلك
قوله (2): ومن عجب أن السيوف لديهم * تحيض دماء والسيوف ذكور وأعجب من
ذا أنها في أكفهم * تأجج نارا والاكف بحور الشيخ عبد القادر الجيلي ابن
أبي صالح أبو محمد الجيلي (3)، ولد سنة سبعين وأربعمائة، ودخل بغداد
فسمع الحديث وتفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي، وقد كان بنى مدرسة
ففوضها إلى الشيخ عبد القادر، فكان يتكلم على الناس بها، ويعظهم،
وانتفع به الناس انتفاعا كثيرا، وكان له سمت حسن، وصمت غير الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير وله أحوال صالحة
ومكاشفات، ولاتباعه
وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالا وأفعالا ومكاشفات أكثرها
مغالاة، وقد كان صالحا ورعا، وقد صنف كتاب الغنية وفتوح الغيب، وفيهما
أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات
المشايخ، [ توفي ] وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وخمسمائة فيها
أقبلت الفرنج في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون
فتصرفوا في
__________
(1) في الروضتين لابي شامة 1 / 2 / 360: الحسين.
(2) الابيات في الخريدة - قسم شعراء مصر 1 / 190.
(3) الجيلي ; ويقال الجيلاني، نسبة إلى جيل وهي بلاد متفرقة من وراء
طبرستان، ويقال لها جيلان وكيلان.
(*)
(12/313)
بعض البلاد،
فبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين في العود إليها،
وكان كثير الحنق على الوزير شاور، فأذن له فسار إليها في ربيع الآخر
ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد وقع في النفوس أنه سيملك
الديار المصرية، وفي ذلك يقول عرقلة المسمى بحسان الشاعر: أقول (1)
والاتراك قد أزمعت * مصر إلى حرب الاعاريب رب كما ملكها يوسف الص * ديق
من أولاد يعقوب فملكها في عصرنا يوسف الص * ادق من أولاد أيوب من لم
يزل ضراب هام العدا * حقا وضراب العراقيب ولما بلغ الوزير شاور قدوم
أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤوا من كل فج إليه، وبلغ أسد
الدين ذلك من شأنهم، وإنما معه ألفا فارس، فاستشار من معه من الامراء
فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين، لكثرة الفرنج، إلا أميرا واحدا
يقال له شرف الدين برغش، فإنه قال: من خاف القتل والاسر فليقعد في بيته
عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم
إلى العدو، وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، فعزم الله
لهم فساروا نحوا الفرنج فاقتتلوا هم وإياهم قتالا عظيما، فقتلوا من
الفرنج مقتلة عظيمة، وهزموهم، ثم قتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله
عزوجل، ولله الحمد.
فتح الاسكندرية على يدي أسد الدين
شيركوه ثم أشار أسد الدين بالمسير [ إلى الاسكندرية ] (2) فملكها (3)
وجبى أموالها، وأستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف وعاد إلى الصعيد
فملكه، وجمع منه أموالا جزيلة جدا، ثم إن الفرنج والمصريين اجتمعوا على
حصار الاسكندرية ثلاثة أشهر لينتزعوها من يد صلاح الدين، وذلك في غيبة
عمه في الصعيد، وامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم
الاقوات وضاق عليهم الحال جدا، فاسر إليهم أسد الدين فصالحه شاور
الوزير عن الاسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك، وخرج صلاح
الدين منها وسلمها إلى المصريين، وعاد إلى الشام في منتصف شوال، وقرر
شاور للفرنج على مصر في كل سنة مائة ألف دينار، وأن يكون لهم شحنة (4)
بالقاهرة،
__________
(1) سقطت من الاصل، واستدركت من الروضتين 1 / 2 / 364.
(2) سقطت من الاصل، واستدركت من تاريخ ابن الاثير وتاريخ ابن خلدون.
(3) في الروضتين 1 / 2 / 365: تسلمها من غير قتال، سلمها إليه أهلها
(انظر الكامل 11 / 326).
(4) في الاصل ما يقام للدواب من العلف الذي يكفيها يومها وليلتها.
وشحنة البلد من فيه الكفاية لضبطها من قوات الامن.
والشحنكية: رئاسة الشرطة.
(القاموس المحيط).
(*)
(12/314)
وعادوا إلى
بلادهم بعد أن كان الملك نور الدين أعقبهم في بلادهم، وفتح من بلادهم
حصونا كثيرة، وقتل منهم خلقا من الرجال، وأسر جما غفيرا من النساء
والاطفال، وغنم شيئا كثيرا من الامتعة والاموال ولله الحمد.
وكان معه أخوه قطب الدين مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها.
وفيها في شعبان منها كان قدوم العماد الكاتب من بغداد إلى دمشق، وهو
أبو حامد محمد بن محمد الاصبهاني، صاحب الفتح القدسي، والبرق الشامي،
والخريدة، وغير ذلك من المصنفات، فأنزله قاضي
القضاة كمال الدين الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية (1) داخل باب
الفرج، فنسبت إليه لسكناه بها، فيقال لها العمادية، ثم ولي تدريسها في
سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه ابن عبد وأول من جاء للسلام عليه نجم
الدين أيوب كانت له وبه معرفة من تكريت، فامتدحه العماد بقصيدة ذكرها
أبو شامة، وكان أسد الدين وصلاح الدين بمصر فبشره فيها بولاية صلاح
الدين الديار المصرية حيث يقول (2) ويستقر بمصر يوسف، وبه * تقر بعد
التنائي عين يعقوب ويلتقي يوسف فيها بإخوته * والله يجمعهم من غير
تثريب ثم تولى عماد الدين كتابة الانشاء للملك نور الدين محمود.
وممن توفي فيها من الاعيان..برغش
أمير الحاج سنين متعددة كان مقدما على العساكر، خرج من بغداد لقتال
شملة التركماني فسقط عن فرسه فمات.
أبو المعالي الكاتب محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون، صاحب
التذكرة الحمدونية، وقد ولي ديوان لزمام مدة، توفي في ذي القعدة ودفن
بمقابر قريش.
الرشيد الصدفي (3) كان يجلس بين يدي العبادي على الكرسي، كانت له شيبة
وسمت ووقار، وكان يدمن حضور السماعات، ويرقص، فاتفق أنه مات وهو يرقص
في بعض السماعات.
__________
(1) وهي التي عرفت فيما بعد باسم العمادية أيضا، داخل باب الفرج
(الدارس في المدارس 1 / 406).
(2) انظر الروضتين 1 / 2 / 369.
(3) واسمه أبو الحسن أحمد بن القاضي الرشيد أبي الحسن علي الغساني
الاسواني ; نسبة إلى أسوان قرية بصعيد مصر.
أمر به شاور أن يصلب شنقا.
(*)
(12/315)
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة في صفر منها وصل شرف الدين أبو جعفر
ابن البلدي من واسط إلى بغداد، فخرج الجيش لتلقيه والنقيبان والقاضي،
ومشى الناس بين يديه إلى الديوان فجلس في دست الوزارة، وقرئ عهده ولقب
بالوزير شرف الدين جلال الاسلام معز الدولة سيد الوزراء صدر الشرق
والغرب.
وفيها أفسدت خفاجة في البلاد ونهبوا القرى، فخرج إليهم جيش من بغداد
فهربوا في البراري فانحسر الجيش عنهم خوفا من العطش، فكروا على الجيش
فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وكان قد أسر الجيش منهم خلقا فصلبوا
على الاسوار.
وفي شوال منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود بن زنكي إلى بغداد
تريد الحج من هناك، وهي الست عصمت الدين خاتون بنت معين الدين، ومعها
الخدم والخدام، وفيهم صندل الخادم، وحملت لها الامامات وأكرمت غاية
الاكرام.
وفيها مات قاضي قضاة بغداد جعفر، فشغر البلد عن حاكم ثلاثا وعشرين
يوما، حتى ألزموا روح بن الحدثني قاضي القضاة في رابع رجب.
وممن توفي من الاعيان..جعفر بن عبد الواحد أبو البركات الثقفي، قاضي
قضاة بغداد بعد أبيه، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وسبب وفاته أنه طلب
منه مال وكلمه الوزير ابن البلدي كلاما خشنا فخاف فرمي الدم ومات.
أبو سعد السمعاني عبد الكريم بن محمد بن منصور، أبو سعد السمعاني، رحل
إلى بغداد فسمع بها وذيل على تاريخها للخطيب البغدادي، وقد ناقشه ابن
الجوزي في المنتظم، وذكر عنه أنه كان يتعصب على أهل مذهبه، ويطعن في
جماعة منهم، وأنه يترجم بعبارة عامية، مثل قوله عن بعض الشيخات أنها
كانت عفيفة.
وعن الشاعر المشهور بحيص بيص إنه كانت له أخت يقال لها دخل خرج، وغير
ذلك.
عبد القاهر بن محمد ابن عبد الله أبو النجيب السهروردي (1)، كان يذكر
أنه من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله
__________
(1) السهروردي: نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان وفي الكامل لابن الاثير
11 / 333: الشهرزوري.
(*)
(12/316)
عنه سمع الحديث
وتفقه وأفتى ودرس بالنظامية وابتنى لنفسه مدرسة ورباطا، وكان مع ذلك
متصوفا يعظ الناس، ودفن بمدرسته.
محمد بن عبد الحميد ابن أبي الحسين أبو الفتح الرازي، المعروف بالعلاء
العالم، وهو من أهل سمرقند، وكان من الفحول في المناظرة، وله طريقة في
الخلاف والجدل، يقال لها التعليقة العالمية.
قال ابن الجوزي وقد قدم بغداد وحضر مجلسي، وقال أبو سعد السمعاني: كان
يدمن شرب الخمر.
قال: وكان يقول: ليس في الدنيا أطيب من كتاب المناظرة وباطية من خمر
أشرب منها.
قال ابن الجوزي: ثم بلغني عنه أنه أقلع عن شرب الخمر والمناظرة وأقبل
على النسك والخير.
يوسف بن عبد الله ابن بندار الدمشقي، مدرس النظامية ببغداد، تفقه على
أسعد الميهني، وبرع في المناظرة وكان يتعصب للاشعرية، وقد بعث رسولا في
هذه السنة إلى شملة التركماني فمات في تلك البلاد.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة فيها كان
فتح مصر على يدي الامير أسد الدين شيركوه وفيها طغت الفرنج بالديار
المصرية، وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في
أموالها ومساكنها أفواجا أفواجا، ولم يبق شئ من أن يستحوذوا عليها
ويخرجوا منها أهلها من المسلمين، وقد سكنها أكثر شجعانهم، فلما سمع
الفرنج بذلك جاؤوا إليها من كل فج وناحية صحبة ملك عسقلان في جحافل
هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقا وأسروا آخرين،
ونزلوا بها وتزكوا بها أثقالهم، وجعلوها موئلا ومعقلا لهم، ثم ساروا
فنزلوا على القاهرة من ناحية باب البرقية، فأمر الوزير شاور الناس أن
يحرقوا مصر، وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة، فنهبوا البلد وذهب
للناس أموال كثيرة جدا، وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين ويوما،
فعند ذلك أرسل صاحبها العاضد يستغيث بنور الدين، وبعث إليه
بشعور نسائه يقول أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج، والتزم له بثلث
خراج مصر على أن يكون أسد الدين مقيما بها عندهم، والتزم له بإقطاعات
زائدة على الثلث، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى مصر، فلما استشعر
الوزير شاور بوصول المسلمين أرسل إلى ملك الفرنج يقول قد عرفت محبتي
ومودتي لكم، ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد،
وصالحهم ليرجعوا عن البلد بألف ألف دينار، وعجل لهم من ذلك ثمانمائة
ألف دينار، فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفا
(12/317)
من عساكر نور
الدين، وطمعا في العودة إليها مرة ثانية، (ومكروا ومكر الله والله خير
الماكرين) [ آل عمران: 54 ].
ثم شرع الوزير شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج
وتحصيله، وضيق على الناس مع ما نالهم من الضيق والحريق والخوف، فجبر
الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم، وذلك
أن نور الدين استدعى الامير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه
المسافة وقطعها في يوم واحد، فإنه قام من حمص بعد أن صلى الصبح ثم دخل
منزله فأصاب فيه شيئا من الزاد، ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على
السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم، ويقال إنه هذا لم يتفق لغيره إلا
للصحابة، فسر بذلك نور الدين فقدمه على العساكر وأنعم عليه بمائتي ألف
دينار وأضاف إليه من الامراء الاعيان، كل منهم يبتغي بمسيره رضى الله
والجهاد في سبيله، وكان من جملة الامراء ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن
أيوب، ولم يكن منشرحا لخروجه هذا بل كان كارها له، وقد قال الله تعالى
(قل اللهم مالك الملك) الآية [ آل عمران: 26 ]، وأضاف إليه ستة آلاف من
التركمان، وجعل أسد الدين مقدما على هذه العساكر كلها، فسار بهم من حلب
إلى دمشق ونور الدين معهم، فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام
نور الدين بدمشق، ولما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية وجدوا
الفرنج قد انشمروا عن القاهرة راجعين إلى بلادهم بالصفقة الخاسرة، وكان
وصوله إليها في سابع ربيع الآخر (1)، فدخل الامير أسد الدين على العاضد
في ذلك اليوم فخلع عليه خلعة سنية فلبسها وعاد إلى مخيمه بظاهر البلد،
وفرح المسلمون بقدومه، وأجريت عليهم الجرايات، وحملت إليهم التحف
والكرامات، وخرج وجوه الناس إلى المخيم خدمة لاسد الدين، وكان فيمن جاء
إليه المخيم الخليفة العاضد متنكرا، فأسر إليه أمورا مهمة منها قتل
الوزير شاور، وقرر ذلك معه وأعظم أمر الامير أسد الدين ولكن شرع يماطل
بما كان التزمه للملك نور الدين، وهو مع ذلك يتردد إلى أسد الدين،
ويركب معه، وعزم على عمل ضيافة له فنهاه أصحابه عن الحضور خوفا عليه من
غائلته، وشاوروه في قتل شاور فلم يمكنهم الامير أسد الدين من ذلك، فلما
كان في بعض الايام جاء شاور إلى منزل أسد الدين فوجده قد ذهب لزيارة
قبر الشافعي، وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض
على الوزير شاور، ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه أسد الدين وانهزم
أصحابه فأعلموا العاضد لعله يبعث ينقذه، فأرسل العاضد إلى الامير أسد
الدين يطلب منه رأسه، فقتل شاور وأرسلوا برأسه إلى العاضد في سابع عشر
ربيع الآخر، ففرح المسلمون بذلك وأمر أسد الدين بنهب دار شاور، فنهبت،
ودخل أسد الدين على العاضد فاستوزره وخلع عليه خلعة عظيمة، ولقبه الملك
المنصور، فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك، ولما بلغ نور الدين خبر فتح
مصر فرح بذلك وقصدته الشعراء بالتهنئة، غير أنه لم ينشرح لكون أسد
الدين صار وزيرا للعاضد، وكذلك لما انتهت
__________
(1) في الكامل 11 / 339 جمادى الاخرة.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 45: رابع ربيع الآخر.
(*)
(12/318)
الوزارة إلى
ابن أخيه صلاح الدين، فشرع نور الدين في إعمال الحيلة في إزالة ذلك فلم
يتمكن، ولا قدر عليه، ولا سيما أنه بلغه أن صلاح الدين استحوذ على
خزائن العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله، والله أعلم.
وأرسل أسد الدين إلى القصر يطلب كاتبا فأرسلوا إليه القاضي الفاضل رجاء
أن يقبل منه إذا قال وأفاض فيما كانوا يؤملون، وبعث أسد الدين العمال
في الاعمال وأقطع الاقطاعات، وولى الولايات، وفرح بنفسه أياما معدودات،
فأدركه حمامه في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه
السنة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، فلما توفي أسد الدين رحمه الله
أشار الامراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف الوزارة بعد
عمه، فولاه العاضد الوزارة وخلع عليه خلعة سنية، ولقبه الملك الناصر.
صفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين
مما ذكره أبو شامة في الروضتين عمامة بيضاء تنيسي بطرف ذهب، وثوب دبيقي
بطراز ذهب وجبة بطراز ذهب، وطيلسان بطراز مذهبة، وعقد جوهر بعشرة آلاف
دينار، وسيف محلى بخمسة آلاف دينار، وحجزة بثمانية آلاف دينار، وعليها
طوق ذهب وسرفسار ذهب مجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي قوائمها
أربعة عقود جوهر، وفي رأسها قصبة ذهب فيها تندة بيضاء بأعلام بيض ومع
الخلعة عدة بقج، وخيل وأشياء أخر، ومنشور الوزارة ملفوف بثوب أطلس
أبيض، وذلك في يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، من هذه
السنة، وكان يوما مشهودا، وسار الجيش بكماله في خدمته، لم يتخلف عنه
سوى عين الدولة الياروقي، وقال: لا أخدم يوسف بعد نور الدين، ثم سار
بجيشه إلى الشام فلامه نور الدين على ذلك، وأقام الملك صلاح الدين بمصر
بصفة نائب للملك نور الدين، يخطب له على المنابر بالديار المصرية،
ويكاتبه بالامير الاسفهسلار (1) صلاح الدين ويتواضع له صلاح الدين في
الكتب والعلامة (2)، لكن قد التفت عليه القلوب، وخضعت له النفوس،
واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد، وارتفع قدر صلاح الدين بين
العباد بتلك البلاد، وزاد في إقطاعات الذين معه فأحبوه واحترموه
وخدموه، وكتب إليه نور الدين
__________
(1) من الكامل 11 / 344 والروضتين 1 / 2 / 408، وفي الاصل الاسفهلار
وهو تحريف، والاسفهسلار اصطلاح عسكري مركب من كلمتين: اسفه: مقدم وهي
فارسية: وسلار: عسكر وهي تركية.
فمعناه مقدم العسكر.
وقد استعمل هذا الاصطلاح منذ العهد الفاطمي، وتغير معناه تغيرا طفيفا
بمرور الزمن وبصفة خاصة خلال العصر المملوكي، لكنه لم يخرج عن دائرة
النظام العسكري (انظر صبح الاعشى ج 3 وج 6).
(2) العلامة: اصطلاح يختاره الخليفة أو السلطان ليوقع به على المنشورات
والاوامر الرسمية، وهي عبارة عن آية قرآنية أو حديث أو قول مأثور أو
اقتباس شعري، وقد تكون توقيعا بالاسم (انظر المقريزي الخطط ج 3 وكتاب
السلوك 1 / 344 حاشية رقم 1).
(*)
(12/319)
يعنفه على قبول
الوزارة بدون مرسومه، وأمره أن يقيم حساب الديار المصرية، فلم يلتفت
صلاح
الدين إلى ذلك وجعل نور الدين يقول في غضون ذلك: ملك ابن أيوب.
وأرسل [ صلاح الدين ] إلى نور الدين يطلب منه أهله وإخوته وقرابته،
فأرسلهم إليه وشرط عليهم السمع والطاعة له.
فاستقر أمره بمصر وتوطأت دولته بذلك، وكمل أمره وتمكن سلطانه وقويت
أركانه.
وقد قال بعض الشعراء في قتل صلاح الدين لشاور الوزير: هيا لمصر حور
يوسف ملكها * بأمر من الرحمن كان موقوتا وما كان فيها قتل يوسف شاورا *
يماثل إلا قتل داود جالوتا قال أبو شامة، وقتل العاضد في هذه السنة
أولاد شاور وهم شجاع الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم، وأخوهما
الآخر الملقب بفارس المسلمين، وطيف برؤوسهم ببلاد مصر.
ذكر قتل الطواشي مؤتمن الخلافة وأصحابه على
يدي صلاح الدين، وذلك أنه كتب من دار الخلافة بمصر إلى الفرنج
ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الاسلامية الشامية،
وكان الذي يفد بالكتاب إليهم الطواشي مؤتمن الخلافة، مقدم العساكر
بالقصر، وكان حبشيا، وأرسل الكتاب مع إنسان أمن إليه فصادفه في بعض
الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى الملك صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب
ففهم صلاح الدين الحال فكتمه، واستشعر الطواشي مؤتمن الدولة أن صلاح
الدين قد اطلع على الامر فلازم القصر مدة طويلة خوفا على نفسه، ثم عن
له في بعض الايام أن خرج إلى الصيد، فأرسل صلاح الدين إليه من قبض عليه
وقتله وحمل رأسله إليه، ثم عزل جميع الخدام الذين يلون خدمة القصر،
واستناب على القصر عوضهم بهاء الدين قراقوش، وأمره أن يطالعه بجميع
الامور، صغارها وكبارها.
وقعة السودان، وذلك أنه لما قتل
الطواشي مؤتمن الخلافة الحبشي، وعزل بقية الخدام غضبوا لذلك، واجتمعوا
قربيا من خمسين ألفا، فاقتتلوا هم وجيش صلاح الدين بين القصرين، فقتل
خلق كثير من الفريقين، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة، وقد قذف
الجيش الشامي من القصر
بحجارة، وجاءهم منه سهام فقيل كان ذلك بأمر العاضد، وقيل لم يكن بأمره.
ثم إن أخا الناصر نورشاه شمس الدولة - وكان حاضرا للحرب قد بعثه نور
الدين لاخيه ليشد أزره - أمر بإحراق منظرة العاصد، ففتح الباب ونودي إن
أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السودان من بين أظهركم،
(12/320)
ومن بلادكم،
فقوي الشاميون وضعف جأش السودان جدا، وأرسل السلطان إلى محلة السودان
المعروفة بالمنصورة، التي فيها دورهم وأهلوهم بباب زويلة فأحرقها،
فولوا عند ذلك مدبرين، وركبهم السيف فقتل منهم خلقا كثيرا، ثم طلبوا
الامان فأجابهم إلى ذلك، وأخرجهم إلى الجيزة، ثم خرج لهم شمس الدولة
نورشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم أيضا، ولم يقى منهم إلا
القليل، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
وفيها افتتح نور الدين قلعة جعبر وانتزعها من يد صاحبها شهاب الدين
مالك بن علي العقيلي وكانت في أيديهم من أيام السلطان ملكشاه.
وفيها احترق جامع حلب فجدده نور الدين.
وفيها مات ماروق الذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب
وممن توفي فيها من الاعيان..سعد
الله بن نصر بن سعيد الدجاجي أبو الحسن الواعظ الحنبلي، ولد سنة ثمانين
وأربعمائة، وسمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان لطيف الوعظ، وقد أثنى عليه
ابن الجوزي في ذلك، وذكر أنه سئل مرة عن أحاديث الصفات فنهى عن التعرض
لذلك وأنشد: أبى الغائب الغضبان يا نفس أن ترضي * وأنت الذي صيرت طاعته
فرضا فلا تهجري من لا تطيقين هجره * وإن هم بالهجران خديك والارضا وذكر
ابن الجوزي عنه أنه قال: خفت مرة من الخليفة فهتف بي هاتف في المنام
وقال لي اكتب: ادفع بصبرك حادث الايام * وترج لطف الواحد العلام لا
تيأسن وإن تضايق كربها * ورماك ريب صروفها بسهام
فله تعالى بين ذلك فرجة * تخفى على الافهام والاوهام كم من نجا من بين
أطراف القنا * وفريسة سلمت من الضرغام توفي في شعبان منها عن أربع
وثمانين سنة، ودفن عند رباط الزوري ثم نقل إلى مقبرة الامام أحمد.
شاور بن مجير الدين أبو شجاع السعدي، الملقب أمير الجيوش، وزير الديار
المصرية أيام العاضد، وهو الذي انتزع الوزارة من يدي رزيك، وهو أول من
استكتب القاضي الفاضل، استدعى به من اسكندرية
(12/321)
من باب السدرة
فحظي عنده وانحصر منه الكتاب بالقصر، لما رأوا من فضا ؟ وفضيلته.
وقد امتدحه الشعراء منهم عمارة اليمني حيث يقول: ضجر الحديد من الحديد
وشاور * من نصر دين محمد لم يضجر حلف الزمان ليأتين بمثله * حنثت يمينك
يا زمان فكفر ولم يزل أمره قائما إلى أن ثار عليه الامير ضرغام بن سوار
فالتجأ إلى نور الدين فأرسل معه الامير أسد الدين شيركوه فنصروه على
عدوه، فنكث عهده فلم يزل أسد الدين حنقا عليه حتى قتله في هذه السنة،
على يدي ابن أخيه صلاح الدين، ضرب عنقه بين يدي الامير جردنك في السابع
عشر من ربيع الآخر، واستوزر بعده أسد الدين، فلم تطل مدته بعده إلا
شهرين وخمسة أيام.
قال ابن خلكان: هو أبو شجاع شاور بن مجير الدين بن نزار بن عشائر بن
شاس بن مغيث بن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بن أبي ذؤيب عبد الله
وهو والد حليمة السعدية، كذا قال، وفيما قال نظر لقصر هذا النسب لبعد
المدة والله أعلم.
شيركوه بن شادي أسد الدين الكردي الزرزاري وهم أشرف شعوب الاكراد، وهو
من قرية يقال لها درين (1) من أعمال أذربيجان، خدم هو وأخوه نجم الدين
أيوب - وكان الاكبر - الامير مجاهد الدين نهروز (2)
الخادم شحنة العراق، فاستناب نجم الدين أيوب على قلعة تكريت، فاتفق أن
دخلها عماد الدين زنكي هاربا من قراجا الساقي، فأحسنا إليه وخدماه، ثم
اتفق أنه قتل رجلا من العامة فأخرجهما نهروز من القلعة فصارا إلى زنكي
بحلب فأحسن إليهما، ثم حظيا عند ولده نور الدين محمود، فاستناب أيوب
على بعلبك، وأقره ولده نور الدين، وصار أسد الدين عند نور الدين أكبر
أمرائه، وأخصهم عنده وأقطعه الرحبة وحمص مع ماله عنده من الاقطاعات،
وذلك لشهامته وشجاعته وصرامته وجهاده في الفرنج، في أيام معدودات
ووقعات معتبرات، ولا سيما يوم فتح دمشق، وأعجب من ذلك ما فعله بديار
مصر، بل الله بالرحمة ثراه وجعل الجنة مأواه، وكانت وفاته يوم السبت
فجأة بخانوق حصل له، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه
السنة رحمه الله.
قال أبو شامة: وإليه تنسب الخانقاة الاسدية بالشرق القبلي، ثم آل الامر
من بعده إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف، ثم استوسق له الملك والممالك
هنالك.
__________
(1) في الكامل 11 / 341: دوين، وفي الروضتين 1 / 2 / 368: من تكريت.
قال ياقوت في معجم البلدان: دوين بلدة من نواحي أران في آخر حدود
أذربيجان بقرب من تفليس منها ملوك الشام بنو أيوب.
(2) في الكامل 11 / 341: بهروز.
(*)
(12/322)
محمد بن عبد
الله بن عبد الواحد (1) ابن سليمان المعروف بابن البطي، سمع الحديث
الكثير، وأسمع ورحل إليه وقارب التسعين (2).
محمد الفارقي أبو عبد الله الواعظ، يقال إنه كان يحفظ نهج البلاغة
ويعبر ألفاظه، وكان فصيحا بليغا يكتب كلامه ويروي عنه كتاب يعرف بالحكم
الفارقية.
المعمر بن عبد الواحد ابن رجار أبو أحمد الاصبهاني أحد الحفاظ الوعاظ،
روى عن أصحاب أبي نعيم، وكانت له
معرفة جيدة بالحديث، توفي وهو ذاهب إلى الحج بالبادية رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة في صفر
منها حاصرت الفرنج مدينة دمياط من بلاد مصر خمسين يوما، بحيث
ضيقوا على أهلها، وقتلوا أمما كثيرة، جاؤوا إليها من البر والبحر رجاء
أن يملكوا الديار المصرية وخوفا من استيلاء المسلمين على القدس، فكتب
صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده عليهم، ويطلب منه أن يرسل إليه
بأمداد من الجيوش، فإنه إن خرج من مصر خلفه أهلها بسوء، وإن قعد عن
الفرنج أخذوا دمياط وجعلوها معقلا لهم يتقوون بها على أخذ مصر.
فأرسل إليه نور الدين ببعوث كثيرة، يتبع بعضها بعضا.
ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلدانهم فصمد إليهم في جيوش
كثيرة فجلس خلال ديارهم، وغنم من أموالهم وقتل وسبى شيئا كثيرا، وكان
من جملة من أرسله إلى صلاح الدين أبوه الامير نجم الدين أيوب، في جيش
من تلك الجيوش، ومعه بقية أولاده، فتلقاه الجيش من مصر، وخرج العاضد
لتلقيه إكراما لولده، وأقطعه اسكندرية ودمياط، وكذلك لبقية أولاده، وقد
أمد العاضد صلاح الدين في هذه الكائنة بألف ألف دينار حتى انفصلت
الفرنج عن دمياط، وأجلت الفرنج عن دمياط لانه بلغهم أن نور الدين قد
غزا بلادهم، وقتل خلقا من
__________
(1) ذكره في الوافي بالوفيات 3 / 209 باسم: محمد بن عبد الباقي بن أحمد
بن سلمان أبو الفتح بن أبي القاسم الحاجب.
وانظر شذرات الذهب 4 / 213.
وتذكرة الحفاظ 4 / 1321.
(2) قال في الوافي: مولده سنة 477.
فيكون له 87 سنة عند وفاته.
وانظر تذكرة الحفاظ ص 1321.
(*)
(12/323)
رجالهم، وسبى
كثيرا من نسائهم وأطفالهم وغنم من أموالهم، فجزاه الله عن المسلمين
خيرا.
ثم سار نور الدين في جمادى الآخرة إلى الكرخ (1) ليحاصرها - وكانت من
أمنع البلاد - وكاد أن يفتحها ولكن بلغه أن مقدمين (2) من الفرنج قد
أقبلا نحو دمشق، فخاف أن يلتف عليهما الفرنج فترك الحصار وأقبل نحو
دمشق فحصنها، ولما انجلت الفرنج عن دمياط فرح نور الدين فرحا شديدا،
وأنشد الشعراء كل منهم في ذلك قصيدا، وقد كان الملك نور الدين شديد
الاهتمام قوي الاغتمام
بذلك، حتى قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءا في ذلك فيه حديث مسلسل
بالتبسم، فطلب منه أن يتبسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني
لاستحي من الله أن يراني متبسما والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط.
وقد ذكر الشيخ أبو شامة أن إمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة رأى
في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يقول: سلم على نور الدين وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط،
فقلت: يا رسول الله بأي علامة ؟ فقال: بعلامة ما سجد يوم تل حارم وقال
في سجوده: اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب ؟.
فلما صلى نور الدين عنده الصبح بشره بذلك وأخبره بالعلامة، فلما جاء
إلى عند ذكر " من هو محمود الكلب " انقبض من قول ذلك، فقال له نور
الدين: قل ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال ذلك: فقال: صدقت، وبكى نور الدين تصديقا وفرحا بذلك، ثم كشفوا
فإذا الامر كما أخبر في المنام.
قال العماد الكاتب: وفي هذه السنة عمر الملك نور الدين جامع داريا،
وعمر مشهد أبي سليمان الداراني بها، وشتى بدمشق.
وفيها حاصر الكرك أربعة أيام، وفارقه من هناك نجم الدين أيوب والد صلاح
الدين، متوجها إلى ابنه بمصر، وقد وصاه نور الدين أن يأمر ابنه صلاح
الدين أن يخطب بمصر للخليفة المستنجد بالله العباسي، وذلك أن الخليفة
بعث يعاتبه في ذلك.
وفيها قدم الفرنج من السواحل ليمنعوا الكرك من ثبيب بن الرقيق وابن
القنقري (3)، وكانا أشجع فرسان الفرنج، فقصدهما نور الدين ليقابلهما
فحادا عن طريقه.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وعمت أكثر الارض، وتهدمت أسوار
كثيرة بالشام، وسقطت دور كثيرة على أهلها، ولا سيما بدمشق وحمص وحماه
وحلب وبعلبك، سقطت أسوارها وأكثر قلعتها، فجدد نور الدين عمارة أكثر ما
وقع بهذه الاماكن.
وفيها توفي:
__________
(1) في الكامل 11 / 352: الكرك.
(2) وهما: ابن هنفري وقريب بن الرقيق.
وفي الروضتين 1 / 2 / 465: فيليب بن الرفيق.
(3) انظر الحاشية السابقة.
(*)
(12/324)
الملك قطب
الدين مودود بن زنكي أخو نور الدين محمود صاحب الموصل، وله من العمر
أربعون سنة، ومدة ملكه منها إحدى وعشرون سنة (1)، وكان من خيار الملوك،
محببا إلى الرعية، عطوفا عليهم، محسنا إليهم، حسن الشكل.
وتملك من بعده ولده سيف الدين غازي من الست خاتون بنت تمرتاش بن
إيلغازي بن أرتق أصحاب ماردين، وكان مدبر مملكته والمتحكم فيها فخر
الدين عبد المسيح، وكان ظالما غاشما.
وفيها كانت حروب كثيرة بين ملوك الغرب بجزيرة الاندلس، وكذلك كانت حروب
كثيرة بين ملوك الشرق أيضا.
وحج بالناس فيها وفيما قبلها الامير برغش الكبير، ولم أر أحدا من أكابر
الاعيان توفي فيها.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة
فيها كانت وفاة المستنجد وخلافة ابنه
المستضئ، وذلك أن المستنجد كان قد مرض في أول هذه السنة، ثم
عوفي فيما يبدو للناس، فعمل ضيافة عظيمة بسبب ذلك، وفرح الناس بذلك، ثم
أدخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام، ويقال: إن ذلك
كان بإشارة بعض الدولة على الطبيب، استعجالا لموته، توفي يوم السبت بعد
الظهر ثاني (2) ربيع الآخر من ثمان وأربعين سنة (3)، وكانت مدة خلافته
إحدى عشرة سنة وشهرا (4)، وكان من خيار الخلفاء وأعدلهم وأرفقهم
بالرعايا، ومنع عنهم المكوس والضرائب، ولم يترك بالعراق مكسا، وقد شفع
إليه بعض أصحابه في رجل شرير، وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال له
الخليفة أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وائتني بمثله لاريح المسلمين من
شره، وكان المستنجد أسمر طويل اللحية، وهو الثاني والثلاثين من
العباسيين وذلك في الجمل لام باء ولهذا قال فيه بعض الادباء: أصبحت لب
بني العباس جملتها * إذا عددت حساب الجمل الخلفا
__________
(1) في الكامل 11 / 355 زيد: وخمسة أشهر ونصفا.
وفي العبر لابن خلدون 5 / 249: لاحدى وعشرين سنة ونصف.
(2) في الكامل 11 / 360 وتاريخ أبي الفداء 3 / 49 وفي المنتظم 10 / 236
ومرآة الزمان 8 / 285 ونهاية الارب 12 / 299: تاسع ربيع الآخر.
(3) قال ابن الاثير في تاريخه: وكان مولده مستهل ربيع الآخر سنة 510
فعلى ما ذكره يكون له عند وفاته من العمر ست وأربعون سنة.
(4) في الكامل زاد: وستة أيام.
وفي نهاية الارب 12 / 299 زاد: وأيام.
وفي دول الاسلام 2 / 279: إحدى عشرة سنة وأياما.
وهو ما يتفق مع الروضتين 1 / 2 / 484.
(*)
(12/325)
وكان أمارا
بالمعروف نهاء عن المنكر، وقد رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يقول له: قل اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، دعاء
القنوت بتمامه.
وصلي عليه يوم الاحد قبل الظهر، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب
من الرصافة رحمه الله تعالى.
خلافة المستضئ وهو أبو محمد الحسن بن يوسف
المستنجد بن المقتفي، وأمه أرمنية تدعى عصمت، وكان مولده في
شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة.
بويع بالخلافة يوم مات أبوه بكرة الاحد تاسع ربيع الآخر، وبايعه الناس،
ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي غير هذا، ووافقه في
الكنية أيضا، وخلع يومئذ على الناس أكثر من ألف خلعة، وكان يوما
مشهودا، وولى قضاء قضاة بغداد الروح بن الحدثني يوم الجمعة حادي عشرين
ربيع الآخر، وخلع على الوزير وهو الاستاذ عضد الدولة، وضربت على بابه
الدبابات (1) ثلاثة أوقات الفجر والمغرب والعشاء، وأمر سبعة عشر أميرا
من المماليك وأذن للوعاظ فتكلموا بعد ما منعوا مدة طويلة، لما كان يحدث
بسبب ذلك من الشرور الطويلة، ثم كثر احتجابه، ولما جاءت البشارة
بولايته إلى الموصل قال العماد الكاتب: قد أضاء الزمان بالمستضئ * وارث
البرد وابن عم النبي جاء بالحق والشريعة والعد * ل فيا مرحبا بهذا
المحيي (2)
فهنيئا لاهل بغداد فازوا * بعد بؤس بكل عيش هني ومضى إن كان في الزمن
المظ * لم بالعود في الزمان المضي وفيها سار الملك نور الدين إلى الرقة
فأخذها، وكذا نصيبين والخابور وسنجار، وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه
(3) مودود بن عماد الدين، ثم سار إلى الموصل فأقام بها أربعة وعشرين
يوما، وأقرها على ابن أخيه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود، مع
الجزيرة، وزوجه ابنته الاخرى، وأمر بعمارة جامعها وتوسعته، ووقف على
تأسيسه بنفسه، وجعل له خطيبا ودرسا للفقه، وولي التدريس للفقيه أبي بكر
البرقاني، تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكتب له
__________
(1) جمع دبابة شبه برج متحرك، يتكون أحيانا من أربع طبقات، من الخشب
والرصاص والحديد والنحاس ويتحرك على عجلات، ويستقر الجنود داخله في
طبقاته لمهاجمة الحصون وتسلق الاسوار.
والدبابة في أبسط صورها تتكون من الخشب المكسو بالجلد المنقوع في الخل
لصيانتها من الاحتراق (السلوك 1 / 56 حاشية: 8).
(2) في الروضتين 1 / 2 / 485: المجي.
(3) في الكامل وابن خلدون: عماد الدين ابن أخيه، قطب الدين مودود.
(*)
(12/326)
منشورا بذلك،
ووقف على الجامع قرية من قرى الموصل، وذلك كله بإشارة الشيخ الصالح
العابد ؟ عمر الملا، وقد كانت له زاوية يقصد فيها، وله في كل سنة دعوة
في شهر المولد، يحضر فيها عنده الملوك والامراء والعلماء والوزراء
ويحتفل بذلك، وقد كان الملك نور الدين صاحبه، وكان يستشيره في أموره،
وممن يعتمده في مهماته وهو الذي أشار عليه في مدة مقامه في الموصل
بجميع ما فعله من الخيرات، فلهذا حصل بقدومه لاهل الموصل كل مسرة،
واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين
عبد المسيح، وسماه عبد الله، وأخذه معه إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا،
وقد كان عبد المسيح هذا نصرانيا فأظهر الاسلام، وكان يقال إن له كنيسة
في جوف داره، وكان سئ السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين
خاصة، ولما دخل نور الدين الموصل كان الذي استأمن له نور الدين الشيخ
عمر الملا، وحين دخل نور الدين الموصل خرج إليه
ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من
الخليفة فدخل فيها إلى البلد في أبهة عظيمة، ولم يدخل نور الدين الموصل
حتى قوي الشتاء فأقام بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته
بها رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: طابت لك بلدك وتركت
الجهاد وقتال أعداء الله ؟ فنهض من فوره إلى السفر، وما أصبح إلا سائرا
إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أبي عصرون، وكان معه على سنجار ونصيبين
والخابور، فاستناب فيها ابن أبي عصرون نوابا وأصحابا.
وفيها عزل صلاح الدين قضاة مصر لانهم كانوا شيعة، وولى قضاء القضاة بها
لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر
المعاملات قضاة شافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية (1)،
واشترى ابن أخيه تقي الدين عمر دارا تعرف بمنازل العز، وجعلها مدرسة
للشافعية ووقف عليها الروضة وغيرها.
وعمر صلاح الدين أسوار البلد، وكذلك أسوار اسكندرية، وأحسن إلى الرعايا
إحسانا كثيرا، وركب فأغار على بلاد الفرنج بنواحي عسقلان وغزة وضرب
قلعة كانت لهم على أيلة، وقتل خلقا كثيرا من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم
قادمون من الشام، واجتمع شمله بهم بعد فرقة طويلة.
وفيها قطع صلاح الدين الاذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها، وشرع
في تمهيد الخطبة لبني العباس على المنابر.
وممن توفي فيها من الاعيان.
__________
(1) المدرسة الشافعية أقيمت في دار المعونة وكانت حبسا للشحنة، كانت
دارا للشرطة، ثم حولت في عهد العزيز بالله الفاطمي إلى سجن عرف بسجن
المعونة ثم حولها صلاح الدين إلى مدرسة للشافعية.
والمدرسة المالكية، في دار الغزل وكانت قبل ذلك قيسارية يباع فيها
الغزل ; وعرفت كذلك باسم المدرسة القمحية لان القمح كان يوزع على
فقهائها من ضيعة بالفيوم أوقفها صلاح الدين عليها (مفرج الكروب 1 / 197
- 198).
(*)
(12/327)
طاهر بن محمد بن طاهر أبو زرعة المقدسي الاصل، الرازي المولد، الهمداني
الدار، ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وأسمعه والده الحافظ محمد بن
طاهر الكثير، ومما كان يرويه مسند الشافعي، توفي بهمدان
يوم الاربعاء سابع ربيع الآخر، وقد قارب التسعين.
يوسف القاضي أبو الحجاج بن الخلال صاحب ديوان الانشاء بمصر، وهو شيخ
القاضي الفاضل في هذا الفن، اشتغل عليه فيه فبرع حتى قدر أنه صار مكانه
حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره، وكان القاضي الفاضل يقوم به
وبأهله حتى مات، ثم كان بعد موته كثير الاحسان إلى أهله رحمهم الله.
يوسف بن الخليفة المستنجد بالله بن المقتفي بن المستظهر، تقدم ذكر
وفاته وترجمته، وقد توفي بعده عمه أبو نصر بن المستظهر بأشهر، ولم يبق
بعده أحد من ولد المستظهر، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين
من ذي القعدة منها. |