البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة
فيها كانت وفاة العاضد صاحب مصر في أول جمعة منها، فأمر صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر وأعمالها في الجمعة الثانية، وكان يوما مشهودا، ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك، مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي، فزينت بغداد وغلقت الاسواق، وعملت القباب وفرح المسلمون فرحا شديدا، وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي، حين تغلب الفاطميون على مصر أيام المعز الفاطمي، باني القاهرة، إلى هذا الآن، وذلك مائتا سنة وثمان سنين.
قال ابن الجوزي: وقد ألفت في ذلك كتابا سميته النصر على مصر.
موت العاضد آخر خلفاء العبيديين والعاضد في اللغة القاطع، " لا يعضد شجرها " لا يقطع، وبه قطعت دولتهم، واسمه عبد

(12/328)


الله ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن المستنصر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور القاهري، أبي الغنائم بن المهدي أولهم، كان مولد العاضد في سنة ست وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة وكانت سيرته مذمومة، وكان شيعيا خبيثا، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة، واتفق أنه لما استقر أمر الملك صلاح الدين رسم بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين، وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قبل وفاته، وكان المستنجد إذ ذاك مدنفا مريضا، فلما مات تولى بعده ولده، فكانت الخطبة بمصر له، ثم إن العاضد مرض فكانت وفاته في يوم عاشوراء، فحضر الملك صلاح الدين جنازته وشهد عزاه، وبكى عليه وتأسف، وظهر منه حزن كثير عليه، وقد كان مطيعا له فيما يأمره به، وكان العاضد كريما جوادا سامحه الله.
ولما مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج منه أهل العاضد إلى دار أفردها لهم (1)، وأجرى عليهم الارزاق والنفقات الهنية، والعيشة الرضية، عوضا عما فاتهم من الخلافة، وكان صلاح يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته، ولكن كان ذلك قدرا مقدورا.
ومما نظمه العماد في ذلك: توفي العاضد الدعي فما * يفتح ذو بدعة بمصر فما وعصر فرعونها انقضى وغدا * يوسفها في الامور محتكما قد طفئت جمرة الغواة وقد * داخ من الشرك كل ما اضطرما وصار شمل الصلاح ملتئما * بها، وعقد السداد منتظما لما غدا مشعرا (2) شعار بني ال * عباس حقا والباطل اكتتما وبات داعي التوحيد منتظرا (3) * ومن دعاة الاشراك منتقما وظل أهل الضلال في ظلل * داجية من غبائة وعمى وارتكس الجاهلون في ظلم * لما أضاءت منابر العلما وعاد بالمستضئ معتليا (4) * بناء حق بعد ما كان منهدما أعيدت الدولة التي اضطهدت * وانتصر الدين بعدما اهتضما
واهتز عطف الاسلام من جلل * وافتر ثغر الاسلام وابتسما
__________
(1) قال أبو شامة في الروضتين: جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه في القاهرة، وهي دار كبيرة واسعة ثم ؟ قلوا بعد الدولة الصلاحية منها وأبعدوا عنها - وبرجوان وزير الحاكم بأمر الله الفاطمي قتل سنة 390 - (انظر 1 / 2 / 494).
(2) في الروضتين 1 / 2 / 496: معلنا.
(3) في الروضتين: منتصرا.
(4) في الروضتين: مجتهدا.
(*)

(12/329)


واستبشرت أوجه الهدى فرحا * فليقرع الكفر سنه ندما عاد حريم الاعداء منتهك الحمى وفي الطغاة منقسما (1) قصور أهل القصور أخربها * عامر بيت من الكمال سما أزعج بعد السكوت ساكنها * ومات ذلا وأنفه رغما ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضئ بالخطبة له بمصر وأعمالها: ليهنيك يا مولاي فتح تتابعت * إليك به خوض الركائب توجف أخذت به مصرا وقد حال دونها * من الشرك يأس في لها الحق يقذف (2) فعادت بحمد الله باسم إمامنا * تتيه على كل البلاد وتشرف ولا غرو إن ذلت ليوسف مصره * وكانت إلى عليائه تتشوف فشابهه خلقا وخلقا وعفة * وكل عن الرحمن في الارض يخلف كشفت بها عن آل هاشم سبة * وعارا أبى إلا بسيفك يكشف وقد ذكر ذلك أبو شامة في الروضتين، وهي أطول من هذه، وذكر أن أبا الفضائل الحسين بن محمد بن بركات (3) الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه، وأراد بيوسف الثاني المستنجد، وهكذا ذكر ابن الجوزي: أنها أنشدت في حياة المستنجد، ولم يخطب بها إلا لابنه المستضئ، فجرى
المقال باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية ومعها أعلام سود ولواء معقود، ففرقت على الجوامع بالشام وبمصر.
قال ابن أبي طي في كتابه: ولما تفرغ صلاح الدين من توطيد الملكة وإقامة الخطبة والتعزية، استعرض حواصل القصرين فوجد فيهما من الحواصل والامتعة والآلات والملابس والمفارش شيئا باهرا، وأمرا هائلا، من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر، وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الابهام، وحبل من ياقوت، وإبريق عظيم من الحجر المانع، وطبل للقولنج (4) إذا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره، وينصرف عنه ما يجده من القولنج، فاتفق أن بعض امراء الاكراد أخذه في يده ولم يدر ما شأنه، فضرب عليه فحبق - أي ضرط - فألقاه من يده على الارض فكسره فبطل أمره.
وأما القضيب الزمرد فإن صلاح الدين كسره ثلاث فلق فقسمه بين نسائه، وقسم بين الامراء شيئا كثيرا
__________
(1) في الروضتين مقتسما.
(2) في الروضتين: من الشرك ناس في لهى الحق تقذف.
(3) في الروضتين 1 / 2 / 500: تركان، قال وكان حاجب ابن هبيرة.
(4) القولنج: مرض معوي يعسر معه خروج الثقل والريح (القاموس المحيط).
(*)

(12/330)


من قطع البلخش والياقوت والذهب والفضة والاثاث والامتعة وغير ذلك، ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار، فاستمر البيع فيما بقي هنالك من الاثاث والامتعة نحوا من عشر سنين، وأرسل إلى الخليفه ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة، وكذلك إلى الملك نور الدين، أرسل إليه من ذلك جانبا كثيرا صالحا، ولم يدخر لنفسه شيئا مما حصل له من الاموال، بل كان يعطي ذلك من حوله من الامراء وغيرهم، فكان مما أرسله إلى نور الدين ثلاث قطع بلخش زنة الواحدة إحدى وثلاثون مثقالا، والاخرى ثمانية عشر مثقالا، والثالثة عشرة مثاقيل، وقيل أكثر مع لآلئ كثيرة، وستون ألف دينار، وعطر لم يسمع بمثله، ومن ذلك حمارة وفيل عظيم جدا، فأرسلت الحمارة إلى
الخليفة في جملة هدايا.
قال ابن أبي طي: ووجد خزانة كتب ليس لها في مدائن الاسلام نظير، تشتمل على ألفي ألف مجلد (1)، قال ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، وكذا قال العماد الكاتب: كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد.
وقال ابن الاثير: كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، وقد تسلمها القاضي الفاضل، فأخذ منها شيئا كثيرا مما اختاره وانتخبه، قال وقسم القصر الشمالي بين الامراء فسكنوه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب في قصر عظيم على الخليج، يقال له اللؤلؤة (2)، الذي فيه بستان الكافوري وأسكن أكثر الامراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين، ولا يلقى أحد من الاتراك أحدا من أولئك الذين كانوا بها من الاكابر إلا شلحوه ثيابه ونهبوا داره، حتى تمزق كثير منهم في البلاد، وتفرقوا شذر مذر وصاروا أيدي سبأ.
وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا (3)، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها.
وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حدادا اسمه عبيد، وكان يهوديا، فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والائمة بعد الاربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكا مطاعا، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض.
ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الظاهر علي، ثم أبنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد،
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 507: ألفي ألف وستمائة ألف كتاب.
(2) اللؤلؤة أو قصر اللؤلؤة من قصور الفاطميين يطل من شرقيه على البستان الكافوري الذي أنشأه محمد بن طغج الاخشيد واهتم به من بعده ولداه ثم عبده كافور.
(3) في الكامل 11 / 370: مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهر تقريبا.
(*)

(12/331)


ثم ابنه الآمر منصور، ثم أبن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة، وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضا، ولكن كانت مدتهم نيفا وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوز تابعة لارجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي.
وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد طرابلس وإنطاكية وجميع ما والى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك، وقتلوا من المسلمين خلقا وأمما لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله سلم، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عزوجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته، وقد قال الشاعر المعروف عرقلة: أصبح الملك بعد آل علي * مشرقا بالملوك من آل شادي وغدا الشرق يحسد الغر * ب للقوم فمصر تزهو على بغداد ما حووها إلا بعزم وحزم * وصليل الفولاذ في الاكباد لا كفرعون والعزيز ومن * كان بها كالخطيب والاستاد (1) قال أبو شامة: يعني بالاستاد كأنه نور الاخشيدي، وقوله آل علي يعني الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين، وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيدا، وكان يهوديا حدادا بسلمية،
ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الائمة فيهم وطعنهم في نسبهم.
قال: وقد استقصيت الكلام في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبد الرحمن بن إلياس، ثم ذكر في الروضتين (2) في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم، وما كانوا يجهرون به في بعض الاحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شئ كثير في تراجمهم، قال أبو شامة: وقد أفردت كتابا سميته " كشف ما كان عليه بنو عبيد من
__________
(1) الابيات في الروضتين 1 / 2 / 509 وقافيتها بالذال.
وانظر الخريدة قسم شعراء الشام 1 / 302.
وفي الروضتين الخصيب بدل الخطيب، والخصيب هو الخصيب بن عبد الحميد والي خراج مصر زمن الرشيد وإليه تنسب منية ابن خصيب.
(2) انظر الروضتين 1 / 2 / 510 وما بعدها.
(*)

(12/332)


الكفر والكذب والكر والكيد " (1) وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة، من أجل ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني، الذي سماه " كشف الاسرار وهتك الاستار " وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر: أبدتم من بلى (2) دولة الكفر من * بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل زنادقة، شيعية، باطنية * مجوس وما في الصالحين لهم أصل يسرون كفرا، يظهرون تشيعا * ليستروا سابور عمهم الجهل وفيها أسقط الملك صلاح الدين عن أهل مصر المكوس والضرائب، وقرئ المنشور بذلك على رؤوس الاشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر.
وفيها حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدين، وذلك أن نور الدين غزا في هذه السنة بلاد الفرنج في سواحل فأحل بهم بأسا شديدا، وقرر في أنفسهم منه نقمة ووعيدا، ثم عزم على محاصرة الكرك وكتب إلى صلاح الدين يلتقيه بالعساكر المصرية إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صلاح الدين وخاف أن يكون لهذا الامر غائلة يزول بها ما حصل له من التمكن من بلاد مصر، ولكنه مع ذلك ركب في جيشه من مصر لاجل امتثال المرسوم، فسار أياما، ثم كر راجعا
معتلا بقلة الظهر، والخوف على اختلال الامور إذا بعد عن مصر واشتغل عنها، وأرسل يعتذر إلى نور الدين.
فوقع في نفسه منه، واشتد غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غيره، ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه، وذكر ذلك بحضرة الامراء والكبراء، فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر وقال: والله لو قصدنا نور الدين لنقاتله، فشتمه الامير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وأسكته، ثم قال لابنه: اسمع ما أقول لك، والله ما ههنا أحد أشفق عليك مني ومن خالك هذا - يعني شهاب الدين الحارمي - ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الارض بين يديه، وكذلك بقية الامراء والجيش، ولو كتب إلى أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت، ثم أمر من هنالك بالانصراف والذهاب، فلما خلى بابنه قال له: أما لك عقل ؟ تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه، فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، ولكن ابعث إليه وترفق له وتواضع عنده، وقل له: وأي حاجة إلى مجئ مولانا السلطان إلى قتالي ؟ ابعث إلي بنجاب أو جمال حتى أجئ معه إلى بين يديك.
فبعث إليه بذلك فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام لان قلبه له، وانصرفت همته عنه، واشتغل بغيره، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
__________
(1) لم أعثر فيما بين أيدينا من مراجع لهذا الكتاب من أثر.
(2) في الروضتين: ألستم مزيلي..(*)

(12/333)


وفيها اتخذ نور الدين الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته واتساعها، فإنه ملك من حد النوبة إلى همذان لا يتخللها إلى بلاد الفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته، ولذلك اتخذ في كل قلعة وحصن الحمام التي تحمل الرسائل إلى الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب ذلك العماد الكاتب، وأطرب وأعجب وأغرب.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد الله بن أحمد ابن أحمد بن أحمد أبو محمد بن الخشاب، قرأ القرآن وسمع الحديث، واشتغل بالنحو حتى ساد أهل زمانه فيهما، وشرح الجمل لعبد القاهر [ الجرجاني ]، وكان رجلا صالحا متطوعا، وهذا نادر في النحاة، توفي في شعبان من هذه السنة ودفن قريبا من الامام أحمد، ورئي في المنام فقيل له ما فعل الله بك ؟ فقال غفر لي وأدخلني الجنة إلا أنه أعرض عني وعن جماعة من العلماء تركوا العمل واشتغلوا بالقول، قال ابن خلكان: كان مطرحا للكلفة في مأكله وملبسه، وكان لا يبالي بمن شرق أو غرب.
محمد بن محمد بن محمد أبو المظفر الدوي (1)، تفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وناظر ووعظ ببغداد، وكان يظهر مذهب الاشعري، ويتكلم في الحنابلة مات في رمضان منها.
ناصر بن الجوني الصوفي كان يمشي في طلب الحديث حافيا، توفي ببغداد.
قال أبو شامة: وفيها توفي.
نصر الله [ بن عبد الله ] أبو الفتوح الاسكندري المعروف بابن قلاقس الشاعر بعيذاب (2)، توفي عن خمس وأربعين سنة (3).
__________
(1) في الوافي بالوفيات 1 / 279 والكامل 11 / 376: البروي.
أبو منصور الفقيه الشافعي ; وفي شذرات الذهب 4 / 224: أبو حامد البروي.
(2) عيذاب: بليدة على شاطئ بحر جدة.
(3) في الروضتين 1 / 2 / 524: خمس وثلاثون سنة، قال وكانت ولادته سنة 532 وانظر وفيات الاعيان 5 / 388.
(*)

(12/334)


والشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي، نزل الموصل المقري النحوي، قال: وفيها ولد لعزيز والظاهر ابنا صلاح الدين، والمنصور محمد بن تقي الدين عمر.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة فيها أرسل نور الدين إلى صلاح الدين - وكان الرسول الموفق خالد بن القيسراني - ليقيم حساب الديار المصرية، وذلك لان نور الدين استقل الهدية التي أرسل بها إليه من خزائن العاضد، ومقصوده أن يقرر على الديار المصرية خراجا منها في كل عام.
وفيها حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك فضيق على أهلها، وخرب أماكن كثيرة من معاملاتها، ولكن لم يظفر بها عامه ذلك.
وفيها اجتمعت الفرنج بالشام لقصد زرع (1)، فوصلوا إلى سمسكين فبرز إليهم نور الدين فهربوا منه إلى الغور، ثم إلى السواد، ثم إلى الشلالة، فبعث سرية إلى طبرية فعاثوا هنالك وسبوا وقتلوا وغنموا وعادوا سالمين، ورجع الفرنج خائبين.
وفيها أرسل السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة نورشاه إلى بلاد النوبة فافتتحها، واستحوذ على معقلها وهو حصن يقال له إبريم، ولما رآها بلدة قليلة الجدوى لا يفي خراجها بكلفتها، استخلف على الحصن المذكور رجلا من الاكراد يقال له إبراهيم، فجعله مقدما مقررا بحصن إبريم، وانضاف إليه جماعة من الاكراد البطالين، فكثرت أموالهم وحسنت أحوالهم هنالك وشنوا الغارات وحصلوا على الغنائم.
وفيها كانت وفاة الامير نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين، سقط عن فرسه فمات وسنأتي على ترجمته في الوفيات.
وفيها سار الملك نور الدين إلى بلاد عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وأصلح ما وجده فيها من الخلل.
ثم سار فافتتح مرعش وبهسا (2)، وعمل في كل منهما بالحسنى.
قال العماد: وفيها وصل الفقيه الامام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر به نور الدين وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي، ثم نزل بمدرسة الجاروق (3)، ثم شرع نور الدين بإنشاء مدرسة كبيرة للشافعية، فأدركه الاجل قبل ذلك.
قال أبو شامة: وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الملك العادل أبو بكر بن أيوب.
وفيها رجع شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد وقد أدى الرسالة بالخطبة العباسية بالديار المصرية،
__________
(1) كذا بالاصل، وفي تاريخ ابن الاثير 11 / 385:...وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه.
(2) كذا بالاصل: بهسنا.
وفي ابن الاثير وتاريخ أبي الفداء: بهنسى.
قال ياقوت: وبهسنا بالالف، قلعة قرب سميساط ومرعش، وكانت من أعمال حلب.
(3) من الروضتين، وفي الاصل الحاروق، وهي المدرسة الجازوخية وكانت داخل بابي الفرج والفراديس شمالي الجامع الاموي بناها سيف الدين جاروخ التركماني (الدارس في المدارس 1 / 225).
(*)

(12/335)


ومعه توقيع من الخلافة بإقطاع درب هارون وصريفين لنور الدين، وقد كانتا قديما لابيه عماد الدين زنكي، فأراد نور الدين أن ينشئ ببغداد مدرسة على حافة الدجلة، ويجعل هذين المكانين وقفا عليها فعاقه القدر عن ذلك.
وفيها وقعت بناحية خوارزم حروب كثيرة بين سلطان شاه وبين أعدائه، استقصاها ابن الاثير وابن الساعي.
وفيها هزم ملك الارمن مليح بن ليون عساكر الروم، وغنم منهم شيئا كثيرا، وبعث إلى نور الدين بأموال كثيرة، وثلاثين رأسا من رؤوس كبارهم، ؟ أرسلها نور الدين إلى الخليفة المستضئ.
وفيها بعث صلاح الدين سرية صحبه قراقوش مملوك تقي ؟ ؟ دين عمر بن شاهنشاه إلى بلاد إفريقية، فملكوا طائفة كثيرة منها، من ذلك مدينة طرابلس الغرب ؟ عدة مدن معها.
وممن توفي فيها من الاعيان...إيلدكز التركي الاتابكي صاحب أذربيجان وغيرها، كان مملوكا للكمال السميرمي وزير السلطان محمود، ثم علا أمره ؟ تمكن وملك بلاد أذربيجان وبلاد الجبل وغيرها، وكان عادلا منصفا شجاعا محسنا إلى الرعية، توفي ؟ ؟ مدان.
الامير نجم الدين أبو الشكر أيوب بن شادي ابن مروان، زاد بعضهم بعد مروان بن يعقوب، والذي عليه جمهورهم أنه لا يعرف بعد ؟ ادي أحد في نسبهم، وأغرب بعضهم وزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ؟ هذا ليس بصحيح، والذي نسب إليه ادعاء هذا هو أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن
؟ ؟ ادي ويعرف بابن سيف الاسلام، وقد ملك اليمن بعد أبيه فتعاظم في نفسه وادعى الخلافة وتلقب ؟ الامام الهادي بنور الله ولهجوا بذلك وقال هو في ذلك: وأنا (1) الهادي الخليفة والذي * أدوس رقاب الغلب بالضمر الجرد ولا بد من بغداد أطوي ربوعها * وأنشرها نشر الشماس على البرد (2) وأنصب أعلامي على شرفاتها * وأحيي بها ما كان أسه جدي ويخطب لي فيها على كل منبر * وأظهر أمر الله في الغور والنجد
__________
1) في الروضتين 1 / 2 / 535: وإني أنا...2) في الروضتين: نشر السماسر للبرد.
(*)

(12/336)


وما ادعاه ليس بصحيح، ولا أصل له يعتمد عليه، ولا مستند يستند إليه، والمقصود أن الامير نجم الدين كان أسن من أخيه أسد الدين شيركوه، ولد بأرض الموصل، كان الامير نجم الدين شجاعا، خدم الملك محمد بن ملكشاه فرأى فيه شهامة وأمانة، فولاه قلعة تكريت، فحكم فيها فعدل، وكان من أكرم الناس، ثم أقطعها الملك مسعود لمجاهد الدين نهروز (3) شحنة العراق، فاستمر فيها، فاجتاز به في بعض الاحيان الملك عماد الدين زنكي منهزما من قراجا الساقي فآواه وخدمه خدمة بالغة تامة، وداوى جراحاته وأقام عنده مدة خمسة عشر يوما، ثم ارتحل إلى بلده الموصل، ثم اتفق أن نجم الدين أيوب عاقب رجلا نصرانيا فقتله، وقيل إنما قتله أخوه أسد الدين شيركوه، وهذا بخلاف الذي ذكره ابن خلكان، فإنه قال: رجعت جارية من بعض الخدم فذكرت له أنه تعرض لها اسفهسلار الذي بباب القلعة، فخرج إليه أسد الدين فطعنه بحربة فقتله، فحبسه أخوه نجم الدين وكتب إلى مجاهد الدين نهروز (1) يخبره بصورة الحال، فكتب إليه يقول: إن أباكما كانت له علي خدمة، وكان قد استنابه في هذه القلعة قبل ابنه نجم الدين أيوب، وإني أكره أن أسوءكما، ولكن انتقلا منها.
فأخرجهما نهروز من قلعته، وفي ليلة خروجه منها ولد له الملك الناصر صلاح الدين يوسف.
قال فتشاءمت به لفقدي بلدي ووطني، فقال له بعض الناس: قد نرى ما
أنت فيه من التشاؤم بهذا المولود فما يؤمنك أن يكون هذا المولود ملكا عظيما له صيت ؟ فكان كما قال، فاتصلا بخدمة الملك عماد الدين زنكي أبي نور الدين، ثم كانا عند نور الدين متقدمان عنده، وارتفعت منزلتهما وعظما، فاستناب نور الدين نجم الدين أيوب على بعلبك، وكان أسد الدين من أكبر أمرائه، ولما تسلم بعلبك أقام مدة طويلة، وولد له فيها أكثر أولاده، ثم كان من أمره ما ذكرناه في دخوله الديار المصرية.
ثم إنه في ذي الحجة سقط عن فرسه ؟ ؟ ؟ ات بعد ثمانية أيام في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان ابنه صلاح الدين محاصر الكرك غائبا عنه، فلما بلغه خبر موته تألم لغيبته عن حضوره، وأرسل يتحرق ويتحزن، وأنشد: وتخطفه يد الردى في غيبتي * هبني حضرت، فكنت ماذا أصنع ؟ وقد كان نجم الدين أيوب كثير الصلاة والصدقة والصيام، كريم النفس جوادا ممدحا قال ابن خلكان: وله خانقاه بالديار المصرية، ومسجد وقناة خارج باب النصر من القاهرة، وقفها في سنة ست وستين.
قلت: وله بدمشق خانقاه أيضا، تعرف بالنجمية، وقد استنابه ابنه على الديار المصرية حين خرج إلى الكرك، وحكمه في الخزائن، وكان من أكرم الناس، وقد امتدحه الشعراء كالعماد وغيره ورثوه بمراث كثيرة، وقد ذكر ذلك مستقصى الشيخ أبو شامة في الروضتين، ودفن مع أخيه أسد الدين بدار الامارة، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين، فدفنا بتربة الوزير
__________
(1) في الكامل والروضتين: بهروز.
(*)

(12/337)


جمال الدين الموصلي، الذي كان مواخيا لاسد الدين شيركوه، وهو الجمال المتقدم ذكره، الذي ليس بين ترتبته ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مقدار سبعة عشر ذراعا، فدفنا عنده، قال أبو شامة: وفي هذه السنة توفي ملك الرافضة والنحاة.
الحسن بن صافي بن بزدن التركي كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيا خبيثا متعصبا للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره
ثم نقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة.
وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدا منهم إلا يحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك وذكر ابن الساعي في تاريخه أنه كان في صغره شابا حسنا مليحا معشوقا للاكابر من الناس.
قال ولشيخنا أبي اليمن الكندي فيه، وقد رمدت عينه: بكل صباح لي وكل عشية * وقوف على أبو ابكم وسلام وقد قيل لي يشكو سقاما بعينه * فها نحن منها نشتكي ونضام ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة قال ابن الجوزي في المنتظم: إنه سقط عندهم ببغداد برد كبار كالنارنج، ومنه ما وزنه سبعة أرطال، ثم أعقب ذلك سيل عظيم، وزيادة عظيمة في دجلة، لم يعهد مثلها أصلا، فخرب أشياء كثيرة من العمران والقرى والمزارع، حتى القبور، وخرج الناس إلى الصحراء، وكثر الضجيج والابتهال إلى الله حتى فرج الله عزوجل، وتناقصت زيادة الماء بحمد الله ومنه، قال: وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد وانهدم بالماء نحو من ألفي دار، واستهدم بسببه مثل ذلك، وهلك تحت الردم خلق كثير، وكذلك الفرات زادت زيادة عظيمة، فهلك بسببها شئ كثير من القرى، وغلت الاسعار بالعراق في هذه السنة في الزروع والثمار، ووقع الموت في الغنم، وأصيب كثير ممن أكل منها بالعراق وغيرها.
قال ابن الساعي: وفي شوال منها توالت الامطار بديار بكر والموصل أربعين يوما وليلة لم يروا الشمس سوى مرتين لحظتين يسيرتين، ثم تستتر بالغيوم، فتهدمت بيوت كثيرة، ومساكن على أهلها، وزادت الدجلة بسبب ذلك زيادة عظيمة، وغرق كثير من مساكن بغداد والموصل، ثم تناقص الماء بإذن الله.
قال ابن الجوزي: وفي رجب وصل ابن الشهرزوري من عند نور الدين ومعه ثياب مصرية، وحمارة ملونة جلدها مخطط مثل الثوب العتابي.
وفيها عزل ابن الشامي عن تدريس النظامية ووليها أبو الخير القزويني.
قال: وفي جمادى الآخرة اعتقل المجير الفقيه

(12/338)


ونسب إلى الزندقة وإلانحلال وترك الصلاة والصوم، فغضب له ناس وزكوة وأخرج، وذكر أنه وعظ
بالحدثية فاجتمع عنده قريبا من ثلاثين ألفا.
قال ابن الساعي: وفيها سقط أحمد بن أمير المؤمنين المستضئ من قبة شاهقة إلى الارض فسلم، ولكن نبت يده اليمنى وساعده اليسرى، وانسلخ شئ من أنفه، وكان معه خادم أسود يقال له نجاح، فلما رأى سيده قد سقط ألقى هو نفسه أيضا خلفه، وقال: لا حاجة لي في الحياة بعده، فسلم أيضا، فلما صارت الخلافة إلى أبي العباس الناصر - وهو هذا الذي قد سقط - لم ينسها لنجاح هذا، فحكمه في الدولة وأحسن إليه، وقد كانا صغيرين لما سقطا.
وفيها سار الملك نور الدين نحو بلاد الروم وفي خدمته الجيش وملك الارمن وصاحب ملطية، وخلق من الملوك والامراء، وافتتح عدة من حصونهم، وحاصر قلعة الروم فصالحه صاحبها بخمسين ألف دينار جزية، ثم عاد إلى حلب وقد وجد النجاح في كل ما طلب، ثم أتى دمشق مسرورا محبورا.
وفيها كان فتح بلاد اليمن للملك صلاح الدين، وكان سبب ذلك أن صلاح الدين بلغه أن بها رجلا يقال له عبد النبي بن مهدي، وقد تغلب عليها ودعا إلى نفسه وتسمى بالامام، وزعم أنه سيملك الارض كلها، وقد كان أخوه علي بن مهدي قد تغلب قبله عليها، وانتزعها من أيدي أهل زبيد، ومات سنة ستين فملكها بعده أخوه هذا، وكل منهما كان سئ السيرة والسريرة، فعزم صلاح الدين لكثرة جيشه وقوته على إرسال سرية إليه، وكان أخوه الاكبر شمس الدولة شجاعا مهيبا بطلا وكان ممن يجالس عمارة اليمني الشاعر، وكان عمارة ينعت له بلاد اليمن وحسنها وكثرة خيرها، فحداه ذلك على أن خرج في تلك السرية في رجب من هذه السنة، فورد مكة فاعتمر بها ثم سار منها إلى زبيد، فخرج إليه عبد النبي فهزمه توران شاه، وأسره وأسر زوجته الحرة، وكانت ذات أموال جزيلة فاستقرها على أشياء جزيلة، وذخائر جليلة، ونهب الجيش زبيد، ثم توجه إلى عدن فقاتله ياسر ملكها فهزمه وأسره، وأخذ البلد بيسير من الحصار، ومنع الجيش من نهبها، وقال ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لعمارتها وملكها، ثم سار في الناس سيرة حسنة عادلة فأحبوه، ثم تسلم بقية الحصون والمعاقل والمخالف، واستوسق له ملك اليمن بحذافيره وألقى إليه أفلاذ كبده ومطاميره، وخطب للخليفة العباسي المستضئ، وقتل الدعي المسمى بعبد النبي، وصفت اليمن من أكدارها، وعادت إلى ما سبق من مضمارها، وكتب بذلك إلى الملك الناصر يخبره بما فتح
الله عليه، وأحسن إليه، فكتب الملك صلاح الدين بذلك إلى نور الدين، فأرسل نور الدين بذلك إلى الخليفة يبشره بفتح اليمن والخطبة بها له.
وفيها خرج الموفق خالد بن القيسراني من الديار المصرية، وقد أقام بها الملك الناصر حساب الديار المصرية وما خرج من الحواصل حسب ما رسم به الملك نور الدين كما تقدم، وقد كاد صلاح الدين لما جاءته الرسالة بذلك يظهر شق العصا ويواجه بالمخالفة والاباء، لكنه عاد إلى طباعه الحسنة وأظهر الطاعة المستحسنة، وأمر بكتابة الحساب وتحرير الكتاب والجواب، فبادر إلى ذلك جماعة الدواوين والحساب والكتاب، وبعث مع ابن القيسراني بهدية سنية وتحف هائلة هنية، فمن ذلك خمس ختمات شريفات مغطات بخطوط مستويات ; ومائة

(12/339)


عقد من الجواهر النفيسات، خارجا عن قطع البلخش واليواقيت، والفصوص والثياب الفاخرات، والاواني والاباريق والصحاف الذهبيات والفضيات، والخيول المسومات، والغلمان والجواري الحسان والحسنات، ومن الذهب عشرة صناديق مقفلات مختومات، مما لا يدرى كم فيها من مئين ألوف ومئات، من الذهب المصري المعد للنفقات.
فلما فصلت العير من الديار المصرية لم تصل إلى الشام حتى أن نور الدين مات رحمه الله رب الارضين والسموات، فأرسل صلاح الدين من ردها إليه وأعادها عليه، ويقال إن منها ما عدي عليه وعلم بذلك حين وضعت بين يديه.
مقتل عمارة بن أبي الحسن ابن زيدان الحكمي من قحطان، أبو محمد الملقب بنجم الدين اليمني الفقيه الشاعر الشافعي، وسبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاما فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين، ووزيرا وأمراء وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك، ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج، إذا قدموا لنصرة الفاطميين، فخرج توران شاه ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث، ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه، وقد أدخلوا معهم
فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالؤا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموال جزيلة، وأفاض عليه حللا جميلة، ثم استدعاهم السلطان واحدا واحدا فقررهم فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم فأفتوه بقتلهم، ثم عند ذلك أمر بقتل رؤسهم وأعيانهم، دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيد ؟ ن إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الارزاق والثياب، وكان عمارة معاديا للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال: يا مولانا السلطان لا تسمع منه، فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان: إنه إنما كان يشفع فيك، فندم ندما عظيما.
ولما ذهب به ليصلب مر بدار الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد: عبد الرحيم قد احتجب * إن الخلاص هو العجب قال ابن أبي طي: وكان الذين صلبوا الفضل بن الكامل القاضي، وهو أبو القاسم هبة الله ابن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين، ويلقب بفخر الامناء، فكان أول

(12/340)


من صلب فيما قاله العماد، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب، وله شعر رائق، فمن ذلك قوله في غلام رفاء: يا رافيا خرق كل ثوب * وما رفا (1) حبه اعتقادي عسى بكف الوصال ترفو * ما مزق الهجر من فؤادي وابن عبد القوي داعي الدعاة، وكان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليدل عليها، فامتنع من ذلك فمات واندرست.
والعويرس وهو ناظر الديوان، وتولى مع ذلك القضاء.
وشبريا وهو كاتب السر.
وعبد الصمد الكاتب وهو أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي ومنجم نصراني كان قد بشرهم بأن هذا الامر يتم بعلم النجوم.
وعمارة اليمني الشاعر وكان عمارة شاعرا مطيقا بليغا فصيحا، لا يلحق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور وقد ذكرته في طبقات الشافعية لانه كان يشتغل بمذهب الشافعي، وله مصنف في الفرائض، وكتاب الوزراء الفاطميين، وكتاب جمع سيرة نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديبا فاضلا فقيها، غير أنه كان ينسب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا وأقل ما كان ينسب إلى الرفض، وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العماد في الخريدة أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها (2): العلم مذ كان محتاج إلى العلم * وشفرة السيف تستغني عن القلم وهي طويلة جدا، فيها كفر وزندقة كثيرة.
قال وفيها: قد كان أول هذا الدين من رجل * سعى إلى أن دعوه سيد الامم قال العماد فأفتى أهل العلم من أهل مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة به وبمثله، قال ويجوز أن يكون هذا البيت معمولا عليه والله أعلم.
وقد أورد ابن الساعي شيئا من رقيق شعره فمن ذلك قوله يمدح بعض الملوك: إذا (3) قابلت بشرى جبينه * فارقته والبشر فوق جبيني
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 571: ويا رشا.
(2) انظر مفرج الكروب 1 / 238 - 240 والروضتين 1 / 2 / 552 - 553 - النكت العصر ؟ ة ص 352.
(3) أوله في الروضتين 1 / 2 / 572: ملك إذا...(*)

(12/341)


وإذا لثمت يمينه وخرجت من * بابه (1) لثم الملوك يميني ومن ذلك قوله (2): لي في هوى الرشا العذري إعذار * لم يبق لي مدا قسر (3) الدمع إنكار لي في القدود وفي لثم الخدو * د وفي ضم النهود لبانات وأوطار
هذا اختياري فوافق إن رضيت به * وإلا فدعني لما أهوى وأختار ومما أنشده الكندي (4) في عمارة اليمني حين صلب: عمارة في الاسلام أبدى جناية * وبايع فيها بيعة وصليبا وأمسى شريك الشرك في بعض أحمد * وأصبح في حب الصليب صليبا (5) سيلقى غدا ما كان يسعى لنفسه * ويسقى صديدا في لظى وصليبا قال الشيخ أبو شامة: فالاول صليب النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث بمعنى القوي، والرابع ودك العظام.
ولما صلب الملك الناصر هؤلاء يوم السبت الثاني من شهر رمضان من هذه السنة بين القصرين من القاهرة، كتب إلى الملك نور الدين يعلمه بما وقع منهم وبهم من الخزي والنكال، قال العماد: فوصل الكتاب بذلك يوم توفي الملك نور الدين رحمه الله تعالى، وكذلك قتل صلاح الدين رجلا من أهل الاسكندرية يقال له قديد القفاجي، كان قد افتتن به الناس، وجعلوا له جزءا من أكسابهم، حتى النساء من أموالهن، فأحيط به فأراد القفاجي الخلاص ولات حين مناص، فقتل أسوة فيمن سلف، ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه.
أسفي على زمان (6) الامام العاضد * أسف العقيم على فراق الواحد لهفي على حجرات قصرك إذ خلت * يا بن النبي من ازدحام الوافد وعلى انفرادك من عساكرك التي * كانوا كأمواج الخضم الراكد قلدت مؤتمن أمرهم فكبا * وقصر عن صلاح الفاسد
__________
(1) في الروضتين: أبوابه.
(2) من قصيدة يمدح بها شمس الدولة أخا الناصر صلاح الدين (النكت العصرية: 264).
(3) في الكامل والروضتين: مذ أقر..(4) وهو العلامة تاج الدين أبو اليمن، زيد بن الحسن بن زيد الكندي البغدادي المولد والمنشأ، الدمشقي الدار والوفاة المقرئ النحوي الاديب توفي سنة 613 ; ومولده سنة 520.
(5) وبعده في الروضتين: 1 / 2 / 566.
وكان خبيث الملتقى إن عجمته * تجد منه عودا في النفاق صليبا (6) في الروضتين: زمن.
(*)

(12/342)


فعسى الليالي أن ترد إليكم * ما عودتكم من جميل عوائد وله من جملة قصيدة: يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة * لك الملامة إن قصرت في عذلي بالله زر ساحة القصرين وابك معي * لا على صفين ولا الجمل (1) وقل لاهلهما والله ما التحمت * فيكم قروحي ولا جرحي بمندمل ماذا ترى كانت الافرنج فاعلة * في نسل ابني أمير المؤمنين علي وقد أورد له الشيخ أبو شامة في الروضتين أشعارا كثيرة من مدائحه في الفاطميين، وكذا ابن خلكان.
ابن قسرول صاحب كتاب مطالع الانوار، وضعه على كتاب مشارق الانوار للقاضي عياض، وكان من علماء بلاده وفضلائهم المشهورين، مات فجأة بعد صلاة الجمعة سادس شوال منها عن أربع وستين سنة قاله ابن خلكان والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل في وفاة الملك نور الدين محمود زنكي وذكر شئ من سيرته العادلة
هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الاتابك قسيم الدولة عماد الدين أبي سعيد زنكي الملقب بالشهيد بن الملك آقسنقر الاتابك الملقب بقسيم الدولة التركي السلجوقي مولاهم، ولد وقت طلوع الشمس من يوم الاحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم
القرآن والفروسية والرمي، وكان شهما شجاعا ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة، فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر جعبر كما ذكرنا، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين هذا، وأعطاه أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم، ثم افتتح دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط، ووسع لهم الطرق على المارة، وبنى
__________
(1) العجز في الروضتين: عليهما، لا على صفين والجمل.
(*)

(12/343)


عليها الرصافات ووسع الاسواق، ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ والعرصد، وغير ذلك، وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم، ويحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق، الذي بالكشك، ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة، حتى يساويهم، وأحاط السور على حارة اليهود، وكان خرابا، وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية، وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لان شعار الرفض كان ظاهرا بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مرارا عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة، وأقطع العرب إقطاعات لئلا يتعرضوا للحجيج، وبنى بدمشق مارستانا لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضا، ووقف وقفا على من يعلم الايتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف دارة على جميع أبواب الخير، وعلى الارامل والمحاويج، وكان الجامع داثرا فولى نظره القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهزوري الموصلي، الذي قدم به فولاه قضاء قضاة دمشق، فأصلح أموره وفتح المشاهد الاربعة، وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الاوقاف التي لا
يعرف واقفوها، ولا يعرف شروطهم فيها، وجعلها قلما واحدا، وسمى مال المصالح، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والارامل والايتام وما أشبه ذلك.
وقد كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعا للآثار النبوية، محافظا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة محبا لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج مقتصدا في الانفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب ولا رضى، صموتا وقورا.
قال ابن الاثير: لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريا للعدل والانصاف منه، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا، ولو مات جوعا، وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال: إنما الاعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد، وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه، وركب يوما مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه ثم رجعا فصار الظل وراءهما ثم ساق نور الدين فرسه سوقا عنيفا وظله يتبعه، فقال لصاحبه: أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه ؟ شبهته بالدنيا تهرب ممن

(12/344)


يطلبها، وتطلب من يهرب منها، وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى: مثل الرزق الذي تطلبه * مثل الظل يمشي معك أنت لا تدركه مستعجلا * فإذا وليت عنه تبعك وكان فقيها على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يركب: جمع الشجاعة والخشوع لديه (1) * ما أحسن الشجعان في المحراب وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الاتابك معين الدين تكثر القيام في الليل
فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرا جزيلا، وجراية كثيرة.
فألبس الله هاتيك العظام وإن * بلين تحت الثرى عفوا وغفرانا سقى ثرى أودعوه رحمة ملات * مثوى قبورهم روحا وريحانا وذكر ابن الاثير: أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلا يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده، وأقبل مع خصمه ماشيا إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم، فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله على وسلم ولشرعه فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.
قال ابن الاثير: وهو أول من ابتنى دارا للعدل، وكان يجلس فيها في الاسبوع مرتين، وقيل أربع مرات، وقيل خمس.
ويحضر القاضي الفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم، وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادي كان قد عظم شأنه عند
__________
(1) في الكامل 11 / 403 وتاريخ أبي الفداء 3 / 55: لربه...ما أحسن المحراب.
(*)

(12/345)


نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الاملاك والاموال والمزارع
والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الاراضي والاملاك العدل، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الامراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد الدين إلى نوابه أن لا يدعوا لاحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك، فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحدا يستعدي على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرا لله، وقال الحمد لله الذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده، ثم يرميها إلى آخر الميدان، ولم ير جوكانه يعلو على رأسه، ولا يرى الجوكان في يده، لان الكم ساتر لها، ولكنه استهانة بلعب الكرة وكان شجاعا صبورا في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان في خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والاعمال بالنية.
وقال له يوما قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين.
فقال: له اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود ؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو ؟ ومن هو محمود ؟ قال فبكى من كان حاضرا رحمه الله.
وقد أسر بنفسه في بعض الغزات بعض ملوك الافرنج فاستشار الامراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل من المال ؟ وكان قد بذل له في فداء نفسه مالا كثيرا، فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعا فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين وإذا لم يوجد بعض الادوية التي يعز وجودها إلى فيه فلا يمنع منه الاغنياء، ومن
جاء إليه فلا يمنع من شرابه، ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه رحمه الله.
قلت: ويقول بعض الناس إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا فالله أعلم.
وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات والابراج، ورتب الخفراء في الاماكن المخوفة، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الاخبار في أسرع مدة، وبنى الربط والخانقات، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الامراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وهو قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين: ويحك إن كان ما تقول حقا فله من

(12/346)


الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره عندي بسوء لاوذينك، فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك.
وقد ابتنى بدمشق دارا لاستماع الحديث وإسماعه.
قال ابن الاثير: وهو أول من بنى دار حديث، وقد كان مهيبا وقورا شديد الهيبة في قلوب الامراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الامراء يجلس بلا إذن سوى الامير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الاكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحدا منهم شيئا مستكثرا يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الاعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.
وقد سمع عليه جزء حديث وفيه " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا السيف " فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الاجناد والامراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فرحمه الله.
وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد، وقال له
هذا تأويل رؤياك.
وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم.
وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، وكان يقول في سجوده: اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب، وقيل إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة: كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور ؟ ويقال إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار، وكان هذا الرجل ليس له شئ ولا يقبل من أحد شيئا، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الالوف من الناس - أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له: مثل وقوفك أيها المغرور * يوم القيامة والسماء تمور إن قيل نور الدين رحت مسلما * فاحذر بأن تبقى وما لك نور أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور عطلت كاسات المدام تعففا * وعليك كاسات الحرام تدور ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فردا وجاءك منكر ونكير ؟

(12/347)


ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فردا ذليلا وا ؟ حساب عسير ؟ وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور ووددت أنك ما وليت ولاية * يوما ولا قال الانام أمير وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير وحشرت عريانا حزينا باكيا * قلقا وما لك في الانام مجير أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور
أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبدا وأنت معذب مهجور مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور فلما سمع نور الدين هذه الابيات بكى بكاء شديدا، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد.
وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل - وكان قد أمر الولاة والامراء بها أن لا يفصلوا بها أمرا حتى يعلموا الملا به، فما أمرهم به من شئ امتثلوه، وكان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان - فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا الا يجئ إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجئ يشهد له ؟ فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصه فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم.
فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول: انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد.
وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه، فقال له السلطان: أليس الله تعالى يقول: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [ الفرقان: 63 ] وقال (وأعرض عن الجاهلين) [ الاعراف: 199 ] فسكت الشيخ ولم يحر جوابا.
وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائرا مرات، ووقف عليه وقفا.
وقال الفقيه أبو الفتح الاشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال: وكان نور الدين محافظا على الصلوات في أوقاتها في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عزوجل في أموره كلها.
قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس

(12/348)


للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم - يعنون نور الدين - له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعو فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا.
قال: فهذا كلام الكفار في حقه.
وحكى الشيخ أبو شامة أن نور الدين وقف بستان الميدان سوى الغيضة التي تليه نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفية، والثمانية أجزاء الاخرى على تطييب المساجد التسعة، وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وجامع القلعة، ومسجد عطية، ومسجد ابن لبيد بالعسقار، ومسجد الرماحين المعلق، ومسجد العباس بالصالحية، ومسجد دار البطيخ المعلق، والمسجد الذي جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، لكل من هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف.
ومناقبه ومآثره كثيرة جدا.
وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما وراءها.
وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في أول الروضتين كثيرا من محاسنه، وذكر ما مدح به من القصائد، وذكر أنه لما فتح أسد الدين الديار المصرية ثم مات، ثم تولى صلاح الدين هم بعزله عنها واستنابة غيره فيها غير مرة، ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج، واقتراب أجله، فلما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وستين وخمسمائة - وهي آخر مدته، أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه، وأرسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشام حفظا لها من الفرنج في غيبته ويركب هو في جمهور الجيش إلى مصر، وقد خاف منه الملك صلاح الدين خوفا شديدا، فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الاخضر القبلي وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الاحد، ورمى القبق (1) في الميدان الاخضر الشمالي، والقدر يقول له: هذا آخر أعيادك، ومد في ذلك اليوم سماطا حافلا، وأمر بانتهابه، وطهر ولده الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على
العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فحصل له غيظ من بعض الامراء - ولم يكن ذلك من سجيته - فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه، واحتبس أسبوعا عن الناس، والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لاجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا
__________
(1) من الروضتين 1 / 2 / 579 وفي الاصل: العتق.
ولعبة القبق نوع من التدريب على الرماية، وهي من ألعاب الفروسية، وطريقتها نصب صار طويل من الخشب في رأسه شكل قرعة (وهو أصل معنى قبق) بمثابة الهدف ويوضع به حمام، ثم يأتي اللاعبون على ظهور الخيل يرمون القبق، القرعة، بالنشاب وفائز من يطير الحمام وقد يستبدل بالقرعة حلقة من الخشب (المواعظ والاعتبار 2 / 111).
(*)

(12/349)


يجود بموجوده، سرورا بذلك، فانعكست تلك الافراح بالاتراح، ونسخ الجد ذلك المزاح، وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فلم يفعل، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
فلما كان يوم الاربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلي عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه، ويطيب ويتبرك به كل مار، فيقول قبر نور الدين الشهيد، لما حصل له في حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له القسيم ابن القسيم.
وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد: عجبت من الموت لما أتى (1) * إلى ملك في سجايا ملك وكيف ثوى الفلك المستد * ير في الارض وسط فلك وقال حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة نور الدين لما دفن بها رحمه الله تعالى: ومدرسة ستدرس كل شئ * وتبقى في حمى علم ونسك
تضوع ذكرها شرقا وغربا * بنور الدين محمود بن زنكي يقول وقوله حق وصدق * بغير كناية وبغير شك دمشق في المدائن بيت ملكي * وهذي في المدارس بنت (2) ملكي صفة نور الدين رحمه الله تعالى كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه، مهيبا متواضعا عليه جلالة ونور، يعظم الاسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع.
فصل
فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل،
__________
(1) في الروضتين 1 / 2 / 581: كيف اهتدى.
(2) في الروضتين: بيت.
(*)

(12/350)


وكان صغيرا، وجعل أتابكه الامير شمس الدين بن مقدم، فاختلف الامراء وحادت الآراء وظهرت الشرور، وكثرت الخمور، وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئا منها، ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته - وكان محصورا منه - نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب، ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان، فإنا لله وإنا إليه راجون.
وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والامراء الذين له حكم عليهم، لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئا من المناكر والفواحش، فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الارض فسادا وتحقق قول الشاعر: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سرا وقد أمكن الجهر وطمعت الاعداء من كل جانب في المسلمين، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين، فبرز إليهم ابن مقدم الاتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم، فهادنهم
مدة، ودفع إليهم أموالا جزيلة عجلها لهم، ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه.
ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الامراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الاموال إلى الفرنج، وهم أقل وأذل، وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج، فردوا إليه كتابا فيه غلظة، وكلام فيه بشاعة، فلم يلتفت إليهم، ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر، فلم يفعل لانه خاف أن يكون مكيدة منهم له، وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين (1) الذي كان قد جعله الملك نور الدين عينا عليه، وحافظا له من تعاطي ما لا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو.
فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سرا، فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله، ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتق مع الامراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده، وتكون دمشق مسلمة إلى الاتابك شمس الدولة بن مقدم، والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان.
فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والامراء من دمشق إلى حلب، وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين، وإخوته الثلاثة، وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن أن ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه، لانه أحق الناس بذلك، فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب، فكتب الملك صلاح الدين
__________
(1) في الكامل 11 / 406: كمشتكين ; وفي العبر لابن خلدون: كمستكين.
(*)

(12/351)


إلى الامراء [ يلومهم ] على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب، ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الامراء ورؤس الكبراء، ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم.
فكتبوا إليه يسيئون الادب عليه، وكل ذلك يزيده حنقا عليهم،
ويحرضه على القدوم إليهم، ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الامر الهائل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية.
وممن توفي فيها من الاعيان والمشاهير: الحسن (1) بن الحسن ابن أحمد بن محمد العطار، أبو العلاء الهمداني الحافظ، سمع الكثير ورحل إلى بلدان كثيرة، اجتمع بالمشايخ وقدم بغداد وحصل الكتب الكثيرة، واشتغل بعلم القراءات واللغة، حتى صار أوحد زمانه في علمي الكتاب والسنة، وصنف الكتب الكثيرة المفيدة، وكان على طريقة حسنة سخيا عابدا زاهدا صحيح الاعتقاد حسن السمت، له ببلده المكانة والقبول التام، وكانت وفاته ليلة الخميس الحادي عشر من جمادى الآخرة (2) من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين بأربعة أشهر وأيام.
قال ابن الجوزي: وقد بلغني أنه رئي في المنام أنه في مدينة جميع جدرانها كتب وحوله كتب لا تعد ولا تحصى، وهو مشتغل بمطالعتها، فقيل له: ما هذا ؟ فقال سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا فأعطاني.
وفيها توفي: الاهوازي خازن كتب مشهد أبي حنيفة ببغداد، توفي فجأة في ربيع الاول من هذه السنة.
محمود بن زنكي بن آقسنقر السلطان الملك العادل نور الدين، صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهدا في الفرنج، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، محبا للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضا للظلم، صحيح الاعتقاد مؤثرا لافعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحدا في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمنا لقيام الليل يصوم كثيرا، ويمنع نفسه عن
__________
(1) في الكامل: الحسن بن أحمد بن الحسن (انظر تذكرة الحفاظ ص 1324).
(2) في تذكرة الحفاظ وشذرات الذهب 4 / 232: جمادى الاولى.
(*)

(12/352)


الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والايتام والارامل، وليست الدنيا عنده بشئ رحمه الله وبل ثراه بالرحمة والرضوان.
قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة، وقد كان يكاتبني وأكاتبه، قال: ولما حضرته الوفاة أخذ العهد على الامراء من بعده لولده - يعني الصالح إسماعيل - وجدد العهد مع صاحب طرابلس أن لا يغير على الشام في المدة التي كان مادة فيها، وذلك أنه كان قد أسره في بعض غزواته وأسر معه جماعة من أهل دولته، فافتدى نفسه منه بثلاثمائة ألف دينار وخمسمائة حصان وخمسمائة وردية ومثلها برانس، أي لبوس، وقنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وعاهده أن لا يغير على بلاد المسلمين لمدة سبعة سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام.
وأخذ منه رهائن على ذلك مائة من أولاده وأولاد أكابر الفرنج وبطارقتهم، فإن نكث أراق دماءهم، وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله، فوافته المنية في شوال من هذه السنة، والاعمال بالنيات، فحصل له أجر ما نوى، وكانت ولايته ثمان وعشرين سنة وأشهرا، وقد تقدم ذلك.
وهذا مقتضى ما ذكره ابن الجوزي ومعناه.
الخضر بن نصر علي بن نصر الاربلي الفقيه الشافعي، أول من درس بإربل في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وكان فاضلا دينا، انتفع به الناس، وكان قد اشتغل على الكيا الهراسي وغيره ببغداد، وقدم دمشق فأرخه ابن عساكر في هذه السنة، وترجمه ابن خلكان في الوفيات (1)، وقال قبره يزار، وقد زرته غير مرة، ورأيت الناس ينتابون قبره ويتبركون به، وهذا الذي قاله ابن خلكان مما ينكره أهل العلم عليه وعلى أمثاله ممن يعظم القبور.
وفيها هلك ملك الفرنج مري لعنه الله، وأظنه ملك عسقلان ونحوها من البلاد، وقد كان قارب أن يملك الديار المصرية لولا فضل الله ورحمته بعباده المؤمنين.