البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة في ثالث المحرم يوم الاربعاء كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين ألفا وقيل مائة ألف، وغنموا شيئا كثيرا ولله الحمد.
ثم قتل جماعة من الامراء الذين أسروا، وكان فيمن أسر ملك الفرنسيس وأخوه، وأرسلت غفارة ملك الافرنسيس إلى دمشق فلبسها نائبها في يوم الموكب، وكانت من سقرلاط تحتها فروسنجاب، فأنشد في ذلك جماعة من الشعراء فرحا بما وقع، ودخل الفقراء كنيسة مريم فأقاموا بها فرحا لما نصر الله تعالى على النصارى، وكادوا أن يخربوها وكانت النصارى ببعلبك فرحوا حين أخذت النصارى دمياط، فلما كانت هذه الكسرة عليهم سخموا وجوه الصور، فأرسل نائب البلد فجناهم وأمر اليهود فصفعوهم، ثم لم يخرج شهر المحرم (1) حتى قتل الامراء ابن أستاذهم توران شاه، ودفنوه إلى
__________
(1) في بدائع الزهور: في تاسع المحرم.
(*)

(13/208)


جانب النيل من الناحية الاخرى رحمه الله تعالى ورحم أسلافه بمنه وكرمه.
المعز عز الدين أيبك التركماني يملك مصر بعد بني أيوب لما قتل الامراء البحرية وغيرهم من الصالحية ابن أستاذهم المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب، وكان ملكه بعد أبيه بشهرين كما تقدم بيانه، ولما انفصل أمره بالقتل نادوا فيما بينهم لا بأس لا بأس، واستدعوا من بينهم الامير عز الدين أيبك التركماني، فملكوه عليهم وبايعوه ولقبوه بالملك المعز، وركبوا إلى القاهرة، ثم بعد خمسة (1) أيام أقاموا لهو صبيا من أيوب ابن عشر سنين (2) وهو الملك الاشرف مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف بن المسعود إقسيس بن الكامل، وجعلوا المعز أتابكه فكانت السكة والخطبة بينهما، وكاتبوا أمراء الشام بذلك، فما تم لهم الامر بالشام، بل خرج عن أيديهم ولم تستقر لهم المملكة إلا على الديار المصرية، وكل ذلك عن أمر الخاتون شجرة الدر أم خليل حظية الصالح أيوب، فتزوجت بالمعز، وكانت الخطبة والسكة لها، يدعى لها على المنابر أيام الجمع
بمصر وأعمالها، وكذا تضرب السكة باسمها أم خليل (3)، والعلامة على المناشير والتواقيع بخطها واسمها، مدة ثلاثة أشهر قبل المعز، ثم آل أمرها إلى ما سنذكره من الهوان والقتل.
الناصر بن العزيز بن الظاهر صاحب حلب يملك دمشق لما وقع بالديار المصرية من قتل الامراء للمعظم توران شاه بن الصالح أيوب ركب الحلبيون معهم ابن أستاذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف فاتح بيت المقدس، ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب منهم الصالح إسماعيل بن العادل، وكان أحق الموجودين بالملك، من حيث السن والتعدد والحرمة والرياسة، ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل، والاشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه، الذي كان صاحب حمص
__________
(1) قال أبو الفداء في تاريخه: أن ذلك تم في يوم السبت لخمس مضين من جمادى الاولى، (3 / 181) وقد اتفقت الاخبار انه بعد مقتل تورانشاه عمل الامراء على تأمير شجرة الدر أم خليل جارية الصالح أيوب وتمت مبايعتها بالسلطنة وذلك يوم الخميس 2 صفر وألبست خلعة السلطنة وهي قندورة مخمل مرقومة بالذهب، وكان مدبر أمر مملكتها عز الدين ايبك لا يتصرف في شئ إلا بعد مشورتها.
ثم خلعت نفسها من السلطنة وتزوجت بالامير أيبك الذي بويع بالسلطنة - وهو أول ملوك الترك بمصر - وذلك 29 ربيع الآخرة فلم ترض به أهل مصر حتى وقع الاتفاق بين الامراء على احضار شخص من ذرية بني أيوب ليأمروه عليهم فتم احضار الاشرف فسلطنوه عليهم (بدائع الزهور 1 / 1 / 285 وما بعدها - تاريخ أبي الفداء 3 / 181 - 182 تاريخ ابن خلدون 5 / 262).
(2) في بدائع الزهور: نحو عشرين سنة.
(3) في بدائع الزهور وتاريخ أبي الفداء: والدة خليل.
(*)

(13/209)


وغيرهم، فجاؤوا إلى دمشق فحاصرها فملكوها سريعا، ونهبت دار ابن يغمور وحبس في القلعة وتسلموا ما حولها كبعلبك وبصرى والصلت وصرخد، وامتنعت عليهم الكرك والشوبك بالملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل، كان قد تغلب عليهما في هذه الفتنة حين قتل المعظم توران شاه، فطلبه المصريون ليملكوه عليهم فخاف مما حل بابني عمه، فلم يذهب إليهم ولما استقرت
يد الحلبيين على دمشق وما حولها جلس الناصر في القلعة وطيب قلوب الناس، ثم ركبوا إلى غزة ليتسلموا الديار المصرية، فبرز إليهم الجيش المصري فاقتتلوا معهم أشد القتال، فكسر المصريون أولا بحيث إنه خطب للناصر في ذلك بها، ثم كانت الدائرة على الشاميين فانهزموا وأسروا من أعيانهم خلقا كثيرا، وعدم من الجيش الصالح إسماعيل رحمه الله تعالى، وقد أنشد هنا الشيخ أبو شامة لبعضهم: ضيع إسماعيل أموالنا * وخرب المغنى بلا معنى وراح من جلق هذا جزاء * من أفقر الناس وما استغنى شئ من ترجمة الصالح إسماعيل واقف تربة الصالح وقد كان الصالح رحمه الله ملكا عاقلا حازما تتقلب به الاحوال أطوارا كثيرة، وقد كان الاشرف أوصى له بدمشق من بعده، فملكها شهورا ثم انتزعها منه أخوه الكامل، ثم ملكها من يد الصالح أيوب خديعة ومكرا، فاستمر فيها أزيد من أربع سنين، ثم استعادها منه الصالح أيوب عام الخوارزمية سنة ثلاث وأربعين، واستقرت بيده بلداه بعلبك وبصرى، ثم أخذتا منه كما ذكرنا، ولم يبق به بلد يأوي إليه، فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الناصر يوسف صاحبها، فلما كان في هذه السنة ما ذكرنا عدم بالديار المصرية في المعركة فلا يدرى ما فعل به والله تعالى أعلم.
وهو واقف التربة والمدرسة ودار الحديث والاقراء بدمشق رحمه الله بكرمه.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: الملك المعظم توران شاه بن الصالح أيوب ابن الكامل بن العادل، كان أولا صاحب حصن كيفا في حياة أبيه، وكان أبوه يستدعيه في أيامه فلا يجيبه، فلما توفي أبوه كما ذكرنا استدعاه الامراء فأجابهم وجاء إليهم فملكوه عليهم، ثم قتلوه كما ذكرنا، وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من المحرم (1)، وقد قيل إنه كان متخلفا لا يصلح للملك، وقد رئي أبوه في المنام بعد قتل ابنه وهو يقول:
__________
(1) في بدائع الزهور: تاسع المحرم.
(*)

(13/210)


قتلوه شر قتله * صار للعالم مثله لم يراعوا فيه إلا (1) * لا ولا من كان قبله ستراهم عن قريب * لاقل الناس أكله فكان كما ذكرنا من اقتتال المصريين والشاميين.
وممن عدم فيما بين الصفين من أعيان الامراء والمسلمين فمنهم الشمس لؤلؤ مدبر ممالك الحلبيين، وكان من خيار عباد الله الصالحين الآمرين بالمعروف وعن المنكر ناهين.
وفيها كانت وفاة :
الخاتون ارغوانية الحافظية سميت الحافظية لخدمتها وتربيتها الحافظ، صاحب قلعة جعبر، وكانت امرأة عاقلة مدبرة عمرت دهرا ولها أموال جزيلة عظيمة، وهي التي كانت تصلح الاطعمة للمغيث عمر بن الصالح أيوب، فصادرها الصالح إسماعيل فأخذ منها أربعمائة صندوق من المال، وقد وقفت دارها بدمشق على خدامها، واشترت بستان النجيب ياقوت الذي كان خادم الشيخ تاج الدين الكندي، وجعلت فيه تربة ومسجدا، ووقفت فيها عليها أوقافا كثيرة جيدة رحمها الله.
واقف الامينية التي ببعلبك: أمين الدولة أبو الحسن غزال المتطبب وزير الصالح إسماعيل أبي الجيش الذي كان مشؤما على نفسه، وعلى سلطانه، وسببا في زوال النعمة عنه وعن مخدومه، وهذا هو وزير السوء، وقد اتهمه السبط بأنه كان مستهترا بالدين، وأنه لم يكن له في الحقيقة دين، فأراح الله تعالى منه عامة المسلمين، وكان قتله في هذه السنة لما عدم الصالح إسماعيل بديار مصر، عمد من عمد من الامراء إليه وإلى ابن يغمور فشنقوهما وصلبوهما على القلعة بمصر متنا وحين.
وقد وجد لامين الدولة غزال هذا من الاموال والتحف والجواهر والاثاث ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، وعشرة آلاف مجلد بخط منسوب وغير ذلك من الخطوط النفيسة الفائقة.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وستمائة فيها عاد الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق وقدمت عساكر المصريين فحكموا على بلاد السواحل إلى حد الشريعة، فجهز لهم الملك الناصر جيشا فطردوهم حتى ردوهم إلى الديار
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 285: أبا.
(*)

(13/211)


المصرية، وقصروهم عليها، وتزوجت في هذه السنة أم خليل شجرة الدر بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني (1)، مملوك زوجها الصالح أيوب.
وفيها نقل تابوت الصالح أيوب إلى تربته بمدرسته، ولبست الاتراك ثياب العزاء، وتصدقت أم خليل عنه بأموال جزيلة.
وفيها خربت الترك دمياط (2) ونقلوا الاهالي إلى مصر وأخلوا الجزيرة أيضا خوفا من عود الفرنج.
وفيها كمل شرح الكتاب المسمى بنهج البلاغة في عشرين مجلدا مما ألفه عبد الحميد بن داود بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني، الكاتب للوزير مؤيد الدين بن العلقمي، فأطلق له الوزير مائة دينار وخلعة وفرسا، وامتدحه عبد الحميد بقصيدة، لانه كان شيعيا معتزليا.
وفي رمضان استدعى الشيخ سراج الدين عمر بن بركة النهر قلي مدرس النظامية ببغداد فولي قضاء القضاة ببغداد مع التدريس المذكور، وخلع عليه.
وفي شعبان ولي تاج الدين عبد الكريم بن الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي حسبة بغداد بعد أخيه عبد الله الذي تركها تزهدا عنها، وخلع عليه بطرحة، ووضع على رأسه غاشية، وركب الحجاب في خدمته.
وفي هذه السنة صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر، وهذا اتفاق غريب.
وفيها وصل إلى الخليفة كتاب من صاحب اليمن صلاح الدين بن يوسف بن عمر بن رسول يذكر فيه أن رجلا باليمن خرج فادعى الخلافة، وأنه أنفذ إليه جيشا فكسروه وقتلوا خلقا من أصحابه وأخذ منهم صنعاء وهرب هو بنفسه في شرذمة ممن بقي من أصحابه.
وفيها أرسل الخليفة إليه بالخلع والتقليد وفيها كانت وفاة :
بهاء الدين علي بن هبة الله بن سلامة الحميري (3) خطيب القاهرة، رحل في صغره إلى العراق فسمع بها وغيرها، وكان فاضلا قد أتقن معرفة
مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وكان دينا حسن الاخلاق واسع الصدر كثير البر، قل أن يقدم عليه أحد إلا أطعمه شيئا، وقد سمع الكثير على السلفي وغيره، وأسمع الناس شيئا كثيرا من مروياته، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة، وله تسعون سنة، ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
وممن توفي فيها: القاضي أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمعاني الحنفي من بيت العلم والقضاء، درس
__________
(1) تقدم انها تزوجت من عز الدين أيبك سنة 648 (انظر بدائع الزهور - وتاريخ أبي الفداء 3 / 182).
(2) في بدائع الزهور وتاريخ أبي الفداء: ان تخريب دمياط تم في يوم الاثنين 18 شعبان سنة 648 وقد بنيت بالقرب منها في البر مدينة سموها المنشية.
(البدائع 1 / 1 / 282 - أبو الفداء 3 / 184).
(3) في شذرات الذهب 5 / 246: الجميزي.
(*)

(13/212)


بمشهد أبي حنيفة وناب عن قاضي القضاة ابن فضلان الشافعي، ثم عن قاضي القضاة أبي صالح نصر بن عبد الرزاق الحنبلي، ثم عن قاضي القضاة عبد الرحمن بن مقبل الواسطي، ثم بعد وفاته في سنة ثلاث وثلاثين استقل القاضي عبد الرحمن اللمعاني بولاية الحكم ببغداد، ولقب أقضى القضاة، ولم يخاطب بقاضي القضاة، ودرس للحنفية بالمستنصرية في سنة خمس وثلاثين، وكان مشكور السيرة في أحكامه ونقضه وإبرامه.
ولما توفي تولى بعده قضاء القضاة ببغداد شيخ النظامية سراج الدين النهرقلي رحمهما الله تعالى وتجاوز عنهما بمنه وكرمه آمين.
ثم دخلت سنة خمسين وستمائة هجرية فيها وصلت التتار إلى الجزيرة وسروج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ووقعوا بسنجار يسيرون بين حران ورأس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول من الديار المصرية، وستمائة ألف دينار، وكان عدة من قتلوا في هذه
السنة من أهل الجزيرة نحوا من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال السبط: وفيها حج الناس من بغداد، وكان لهم عشر سنين لم يحجوا من زمن المستنصر.
وفيها وقع حريق بحلب احترق بسببه ستمائة دار (1)، ويقال إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيه قصدا.
وفيها أعاد قاضي القضاة عمر بن علي النهرقلي أمر المدرسة التاجية التي كان قد استحوذ عليها طائفة من العوام، وجعلوها كالقيسارية يبتاعون فيها مدة طويلة، وهي مدرسة جيدة حسنة قريبة الشبه من النظامية، وقد كان بانيها يقال له تاج الملك، وزير ملك شاه السلجوقي، وأول من درس بها الشيخ أبو بكر الشاشي.
وفيها كانت وفاة :
جمال الدين بن مطروح (2) وقد كان فاضلا رئيسا كيسا شاعرا من كبار المتعممين، ثم استنابه الملك الصالح أيوب في وقت على دمشق فلبس لبس الجند.
قال السبط: وكان لا يليق في ذلك.
ومن شعره في الناصر داود صاحب الكرك لما استعاد القدس من الفرنج حين سلمت إليهم في سنة ست وثلاثين في الدولة الكاملية فقال هذا الشاعر، وهو ابن مطروح رحمه الله: المسجد الاقصى له عادة * سارت فصارت مثلا سائرا
__________
(1) أرخه ابن إياس في بدائعه سنة 651 ه.
(2) وهو أبو الحسن يحيى بن عيسى بن ابراهيم بن مطروح، ولد سنة 592 توفي في عاشر شعبان، قال أبو الفداء في تاريخه، مات سنة 649.
(*)

(13/213)


إذا غدا للكفر مستوطنا * أن يبعث الله له ناصرا فناصر طهره أولا * وناصر طهره آخرا ولما عزله الصالح من النيابة أقام خاملا وكان كثير البر بالفقراء والمساكين، وكانت وفاته بمصر وفيها توفي:
شمس الدين محمد بن سعد المقدسي الكاتب الحسن الخط، كان كثير الادب، وسمع الحديث كثيرا، وخدم السلطان الصالح إسماعيل والناصر داود، وكان دينا فاضلا شاعرا له قصيدة (1) ينصح فيها السلطان الصالح إسماعيل وما يلقاه الناس من وزيره وقاضيه وغيرهما، من حواشيه.
وممن توفي فيها من الاعيان: عبد العزيز بن علي ابن عبد الجبار المغربي، أبوه ولد ببغداد، وسمع بها الحديث، وعني بطلب العلم وصنف كتابا في مجلدات على حروف المعجم في الحديث، وحرر فيه حكاية مذهب الامام مالك رحمه الله تعالى.
الشيخ أبو عبد الله محمد بن غانم بن كريم الاصبهاني، قدم بغداد وكان شابا فاضلا، فتتلمذ للشيخ شهاب الدين السهروردي، وكان حسن الطريقة، له يد في التفسير، وله تفسير على طريقة التصوف، وفيه لطافة، ومن كلامه في الوعظ: العالم كالذرة في فضاء عظمته، والذرة كالعالم في كتاب حكمته، الاصول فروع إذا تجلى جمال أوليته، والفروع أصول إذا طلعت من مغرب نفي الوسائط شمس أخريته، أستار الليل مسدولة، وشموع الكواكب مشعولة، وأعين الرقباء عن المشتاقين مشغولة، وحجاب الحجب عن أبواب الوصل معزولة ما هذه الوقعة والحبيب قد فتح الباب ؟ ما هذه الفترة والمولى قد خرق حاجب الحجاب ؟ وقوفي بأكناف العقيق عقوق * إذا لم أرد والدمع فيه عقيق
__________
(1) ومنها في الوافي 3 / 92: يا مالكا لم أجد لي من نصيحته * بدا وفيها دمي أخشاه منسفكا إلى قوله: وزيره ابن غزال والرفيع له * قاضي القضاة ووالي حربه ابن بكا (*)

(13/214)


وإذ لم أمت شوقا إلى ساكن الحمى * فما أنا فيما أدعيه صدوق أيا ربع ليلى ما المحبون في الهوى * سواء، ولا كل الشراب رحيق ولا كل من تلقاه يلقاك قلبه * ولا كل من يحنو إليك مشوق تكاثرت الدعوى على الحب فاستوى * أسير صبابات الهوى وطليق أيها الآمنون، هل فيكم من يصعد إلى السماء ؟ أيها المحبوسون في مطامير مسمياتهم، هل فيكم سليم في الفهم يفهم رموز الوحوش والاطيار ؟ هل فيكم موسوي الشوق يقول بلسان شوقه أرني أنظر إليك، فقد طال الانتظار ؟ ولما استسقى الناس قال بعد الاستسقاء: لما صعدت إلى الله عز وجل نفس المشتاق بكت آماق الآفاق، وجادت بالدر مرضعة السحاب، وامتص لبن الرحمة رضيع التراب وخرج من أخلاف الغمام نطاف الماء النمير، فاهتزت به الهامدة، وقرت عيون المدر، وتزينت الرياض بالسندس الاخضر، فحبر الصبغ حبرها أحسن تحبير، وانفلق بأنملة الصبا أكمام الانوار، وانشقت بنفحات أنفاسه جيوب الازهار، ونطقت أجزاء الكائنات بلغات صفاتها، وعادات عبرها: أيها النائمون تيقظوا، أيها المبعدون تعرضوا (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الارض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى إنه عليه كل شئ قدير) [ الروم: 50 ].
أبو الفتح نصر الله بن هبة الله ابن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن صاقعة الغفاري الكناني المصري ثم الدمشقي كان من أخصاء الملك المعظم، وولده الناصر داود، وقد سافر معه إلى بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان أديبا مليح المحاضرة رحمه الله تعالى.
ومن شعره قوله: ولما أبيتم سادتي عن زيارتي * وعوضتموني بالبعاد عن القرب ولم تسمحوا بالوصل في حال يقظتي * ولم يصطبر عنكم لرقته قلبي نصبت لصيد الطيف جفني حبالة * فأدركت خفض العيش بالنوم والنصب ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وستمائة فيها دخل الشيخ نجم الدين البادرائي رسول الخليفة بين صاحب مصر وصاحب الشام،
وأصلح بين الجيشين، وكانوا قد اشتد الحرب بينهم ونشبت، وقد مالا الجيش المصري الفرنج ووعدهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس إن نصروهم على الشاميين، وجرت خطوب كثيرة، فأصلح بينهم وخلص جماعة من بيوت الملوك من الديار المصرية، منهم أولاد الصالح إسماعيل، وبنت الاشرف وغيرهم من أولاد صاحب حمص وغيرهم، جزاه الله خيرا.
وفيها فيما ذكر ابن الساعي كان رجل ببغداد على رأسه زبادي قابسي فزلق فتكسرت ووقف يبكي، فتألم الناس له

(13/215)


لفقره وحاجته، وأنه لم يكن يملك غيرها، فأعطاه رجل من الحاضرين دينارا، فلما أخذه نظر فيه طويلا ثم قال: والله هذا الدينار أعرفه، وقد ذهب مني في جملة دنانير عام أول، فشتمه بعض الحاضرين فقال له ذلك الرجل: فما علامة ما قلت ؟ قال زنة هذا كذا وكذا، وكان معه ثلاثة وعشرون دينارا، فوزنوه فوجدوه كما ذكر، فأخرج له الرجل ثلاثة وعشرين دينارا، وكان قد وجدها كما قال حين سقطت منه، فتعجب الناس لذلك.
قال: ويقرب من هذا أن رجلا بمكة نزع ثيابه ليغتسل من ماء زمزم وأخرج من عضده دملجا زنته خمسون مثقالا (1) فوضعه مع ثيابه، فلما فرغ من اغتساله لبس ثيابه ونسي الدملج ومضى، وصار إلى بغداد وبقي مدة سنتين بعد ذلك وأيس منه، ولم يبق معه شئ إلا يسير فاشترى به زجاجا وقوارير ليبيعها ويتكسب بها، فبينما هو يطوف بها إذ زلق فسقطت القوارير فتكسرت فوقف يبكي واجتمع الناس عليه يتألمون له، فقال في جملة كلامه والله يا جماعة لقد ذهب مني من مدة سنتين دملج من ذهب زنته خمسون دينارا، ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير، وما ذاك إلا لان هذه كانت جميع ما أملك، فقال له رجل من الجماعة: فأنا والله لقيت ذلك الدملج، وأخرجه من عضده فتعجب الناس والحاضرون.
والله أعلم بالصواب.
وممن توفي فيها من الاعيان (2)..
__________
(1) مثقال: مفرد مثاقيل.
قال المقريزي: إن المثقال منذ وضع لم يختلف في جاهلية ولا اسلام.
ويقال: إن الذي اخترع الوزن في الدهر الاول بدأه بوضع المثقال أولا.
فجعله ستين حبة زنة الحبة مائة من حب الخردل البري
المعتدل.
وأقر النبي أهل مكة على ميزانهم فقال: " الميزان ميزان أهل مكة انظر الاحكام السلطانية لابي يعلى ص 159 الحاشية (1) وجاء في كتاب الاوزان للمقريزي ص 60: المثقال اسم لما له ثقل، سواء كبر أو صغر، وغلب عرفه على الصغير، وصار في عرف الناس اسما على الدينار.
(وذلك في سنة 76 ه في أيام عبد الملك بن مروان) بعد اصلاحه نظام النقد وقرر أن يكون وزن الدينار مثقالا واحدا اي (5، 65) حبة أو (25، 4) غراما.
(2) في هامش المطبوعة: " بياض بجميع الاصول، وقال الذهبي: وفيها توفي أبو البقاء صالح بن شجاع بن محمد بن سيدهم المدلجي الخياط في المحرم.
[ وهو راوي صحيح مسلم عن أبي المفاخر المأموني وكان صالحا متعففا ]، وسبط السلفي عبد الرحمن بن أبي الحرم المكي بن عبد الرحمن الطرابلسي الاسكندراني في شوال عن احدى وثمانين سنة [ سمع من جده السلفي الكبير وانتهى إليه علو الاسناد بالديار المصرية ] وأبو محمد بن جميل البندنيجي البواب، آخر من روى عن عبد الحق اليوسفي.
" - ما بين معكوفين في الحاشية زيادة من شذرات الذهب، قال في الشذرات 5 / 254: وفيها أي في سنة 651 توفي: ابن الزملكاني كمال الدين عبد الواحد ابن خطيب زملكا عبد الكريم بن خلف الانصاري صاحب علم المعاني والبيان.
وفيها علي بن عبد الله بن محمد الانصاري القرطبي في ربيع الاول بمراكش وله 88 سنة.
وفيها علي بن عبد الرحمن البغدادي البابصري الفقيه الحنفي توفي ببغداد في شعبان.
وفيها محمد بن الشيخ عبد الله اليونيني، توفي ببعلبك في شهر رجب.
(*)

(13/216)


ثم دخلت سنة اثنين وخمسين وستمائة قال سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان: فيها وردت الاخبار من مكة شرفها الله تعالى بأن نارا ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث إنه يطير شررها إلى البحر في الليل، ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار، فما شكوا أنها النار التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تظهر في آخر الزمان، فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد، وشرعوا في أفعال الخير والصدقات (1).
وفيها قدم الفارس أقطاي من الصعيد ونهب أموال المسلمين وأسر بعضهم، ومعه جماعة من البحرية المفسدين في الارض، وقد بغوا وطغوا وتجبروا، ولا يلتفتون إلى الملك المعز أيبك التركماني، ولا إلى زوجته شجرة الدر.
فشاور المعز زوجته شجرة الدر في قتل أقطاي، فأذنت له، فعمل عليه حتى قتله في هذه السنة بالقلعة المنصورة بمصر، فاستراح المسلمون من شره (2).
وفيها درس الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمدرسة الصالح أيوب بين القصرين.
وفيها قدمت بنت ملك الروم (3) في تجمل عظيم وإقامات هائلة إلى دمشق زوجة لصاحبها الناصر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر، وجرت أوقات حافلة بدمشق بسببها.
وممن توفي فيها من المشاهير: عبد الحميد بن عيسى الشيخ شمس الدين بن الخسروشاهي، أحد مشاهير المتكلمين، وممن اشتغل على الفخر الرازي في الاصول وغيرها، ثم قدم الشام فلزم الملك الناصر داود بن المعظم وحظي عنده.
قال أبو شامة: وكان شيخا مهيبا فاضلا متواضعا حسن الظاهر رحمه الله تعالى.
قال السبط: وكان متواضعا كيسا محضر خير، لم ينقل عنه أنه آذى أحدا فإن قدر على نفع وإلا سكت، توفي بدمشق ودفن بقاسيون على باب تربة الملك المعظم رحمه الله تعالى.
الشيخ مجد الدين بن تيمية صاحب الاحكام [ عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي، جد الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ولد في حدود سنة تسعين وخمسمائة وتفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين، وسمع الكثير ورحل إلى البلاد وبرع في الحديث والفقه وغيره، ودرس وأفتى وانتفع به الطلبة ومات يوم الفطر بحران ] (4).
__________
(1) ذكرها أبو الفداء في تاريخه في حوادث سنة 651.
(انظر بدائع الزهور 1 / 1 / 291).
(2) قال ابن خلدون في تاريخه 5 / 363: ان اقطاي وقف بوجه طموح الامير أيبك في الاستيلاء على الملك الاشرف والاستبداد بالسلطنة والاستقلال بها فرصد له قطز وبهادر وسنجر الغنمي قتلوه يوم الاثنين 21 شعبان (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 190 بدائع الزهور 1 / 1 / 291).
(3) وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ ملك الروم.
(4) ما بين معكوفين زيادة من المطبوعة وبهامشها قال: " بياض بأصل التركية والمصرية.
وكملت الترجمة من النجوم = (*)

(13/217)


الشيخ كمال الدين بن طلحة الذي ولي الخطابة بدمشق بعد الدولعي، ثم عزل وصار إلى الجزيرة فولي قضاء نصيبين، ثم صار إلى حلب فتوفي بها في هذه السنة.
قال أبو شامة: وكان فاضلا عالما طلب أن يلي الوزارة فامتنع من ذلك، وكان هذا من التأييد رحمه الله تعالى.
السيد (1) بن علان آخر من روى عن الحافظ ابن عساكر سماعا بدمشق.
الناصح فرج بن عبد الله الحبشي كان كثير السماع مسندا خيرا صالحا مواظبا على سماع الحديث وإسماعه إلى أن مات بدار الحديث النورية بدمشق رحمه الله.
النصرة بن صلاح الدين يوسف بن أيوب توفي بحلب في هذه السنة.
وآخرون رحمهم الله أجمعين.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة قال السبط: فيها عاد الناصر داود من الانبار إلى دمشق، ثم عاد وحج من العراق وأصلح بين العراقيين، وأهل مكة، ثم عاد معهم إلى الحلة.
قال أبو شامة: وفيها في ليلة الاثنين ثامن عشر صفر توفي بحلب الشيخ الفقيه: ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم وكان فاضلا دينا، ومن شعره قوله رحمه الله تعالى: من ادعى أن له حالة * تخرجه عن منهج الشرع
__________
= الزاهرة.
" وقال الذهبي في العبر: انه ربي يتيما وانه سافر مع ابن عمه إلى العراق وهو ابن ثلاث عشرة فسمع مسائل الخلاف وحفظها، وألين له الفقه كما ألين الحديد لداود، إلى قوله فيه: كان معدوم النظير في زمانه رأسا في
الفقه وأصوله بارعا في الحديث ومعانيه أشتهر اسمه وبعد صيته.
(1) في شذرات الذهب 5 / 260: السديد بن مكي بن المسلم بن مكي بن خلف بن علان القيسي الدمشقي.
(*)

(13/218)


فلا تكونن له صاحبا * فإنه ضر بلا نفع وهو واقف القوصية.
أبو العز إسماعيل بن حامد ابن عبد الرحمن الانصاري القوصي، واقف داره بالقرب من الرحبة على أهل الحديث وبها قبره، وكان مدرسا بحلقة جمال الاسلام تجاه البدارة (2)، فعرفت به، وكان ظريفا مطبوعا حسن المحاضرة، وقد جمع له معجما حكى فيه عن مشايخه أشياء كثيرة مفيدة.
قال أبو شامة: وقد طالعته بخطه فرأيت فيه أغاليط وأوهاما في أسماء الرجال وغيرها، فمن ذلك أنه انتسب إلى سعد بن عبادة بن دلم فقال سعد بن عبادة بن الصامت وهذا غلط، وقال في شدة خرقة التصوف فغلط وصحف حييا أبا محمد حسينا.
قال أبو شامة: رأيت ذلك بخطه، توفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله.
وقد توفي الشريف المرتضى نقيب الاشراف بحلب، وكانت وفاته بها، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة
فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الابل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الامام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه الذيل وشرحه، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها، وهذا محرر في كتاب: دلائل النبوة من السيرة النبوية، في أوائل هذا الكتاب ولله الحمد والمنة.
وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال: وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب، والنار بحالها،
ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال: " بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضئ لها أعناق الابل ببصرى " فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب.
قال وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكان في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عزوجل ".
قال أبو شامة: وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها.

(13/219)


" لما كانت ليلة الاربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الارض والحيطان والسقوف والاخشاب والابواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء، وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيرانا، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجئ إلينا، ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة، فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) [ المرسلات: 32 ] وقد أكلت الارض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج.
وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر، والام الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شئ يتم بعد ذلك، والله
يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار ".
قال أبو شامة: " وفي كتاب آخر فظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم: انفجرت من الارض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة والسلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة ".
قال " وفي كتاب آخر: لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الاربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل، فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي برأي العين من المدينة، نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى، وهي بموضع يقال له أجيلين (1) وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربع فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الارض ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الارض وهو صخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك.
فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه
__________
(1) بهامش المطبوعة: " وفي النسخة المصرية: الراجلين.
وفي النجوم الزاهرة " اجيلين " وبهامشه: في تاريخ مكة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة: أخيلين ".
(*)

(13/220)


احمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها ".
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: " ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه: لما كانت ليلة الاربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الاخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة
قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه [ إذ سمعنا ] صوتا للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما، وطلعت إلى الامير كلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت: اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سار منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسد الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري، وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشفا، وما عاد يجئ في الوادي سيل قط لانها حضرته نحو قامتين وثلث علوها، والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج، وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفئ بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الاهوال، وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها، وما صبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب، وهي على حالها، والناس منها خائفون، والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية ".
قال أبو شامة: وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إيش هو ؟ إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار.
قلت: وكان أبو شامة قد أرخ قبل مجئ الكتب بأمر هذه النار، فقال: وفيها في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى،
وكسفت الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك أياما متغيرة اللون ضعيفة النور، والله على كل شئ قدير، ثم قال: واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد، واستبعده أهل النجامة.

(13/221)


ثم قال أبو شامة: " ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه: وصل إلينا في جمادى الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون دارا، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شئ كثير، وأشرف الناس على الهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد.
قال وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم: لما كان بتاريخ ليلة الاربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها بيومين، عاد الناس يسمعون صوتا مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى، وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الاربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الارض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر، ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الارض، فارتاع لها الناس روعة عظيمة، ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الابيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة، ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة، واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى واستجاروا بنبيه عليه الصلاة والسلام، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله،
وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد، وداع إلى الله عزوجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الامير يعظونه، فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، ورد علينا كل ما لنا تحت يده، وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهابا، وهي كالجبل العظيم [ ارتفاعا و ] كالمدينة عرضا، يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوي فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد.
وبقيت كذلك أياما ثم سالت سيلانا إلى وادي أجيلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا، حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض، ثم سكنت ووقفت أياما، ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها، حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياما، ثم إنها عظمت وسناءها إلى الآن، وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي.
والشمس والقمر كأنهما

(13/222)


منكسفان إلى الآن.
وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر ".
وقد قال فيها بعضهم أبياتا: يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا * لقد أحاطت بنا يا رب بأساء (1) نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها * حملا ونحن بها حقا أحقاء زلازل تخشع الصم الصلاب لها * وكيف يقوى على الزلزال شماء (2) أقام سبعا يرج الارض فانصدعت * عن منظر منه عين الشمس عشواء (3) بحر من النار تجري فوقه سفن * من الهضاب لها في الارض أرساء كأنما فوقه الاجبال طافية * موج عليه لفرط البهج وعثاء ترمي لها شررا كالقصر طائشة * كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت * رعبا وترعد مثل السعف أضواء منها تكاثف في الجو الدخان إلى * أن عادت الشمس منه وهي دهماء قد أثرت سفعة (4) في البدر لفحتها * فليلة التيم بعد النور ليلاء تحدث النيرات السبع ألسنها * بما يلاقي بها تحت الثرى الماء وقد أحاط لظاها بالبروج إلى * أن كاد يلحقها بالارض إهواء فيا لها آية من معجزات رسو * ل الله يعقلها القوم الالباء (5) فباسمك الاعظم المكنون إن عظمت * منا الذنوب وساء القلب أسواء فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد * واصفح فكل لفرط الجهل خطاء فقوم يونس لما آمنوا كشف ال * عذاب عنهم وعم القوم نعماء ونحن أمة هذا المصطفى ولنا * منه إلى عفوك المرجو دعاء هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت * محجة في سبيل الله بيضاء فارحم وصل على المختار ما خطبت * على علا منبر الاوراق ورقاء قلت: والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضئ أعناق الابل ببصرى " (6) وهذا لفظ البخاري.
__________
(1) الضر: السوء والضرر، والبأساء: الضائقة والشدة.
(2) في بدائع الزهور 1 / 1 / 299: شملاء.
(3) في بدائع الزهور: عوراء.
(4) في بدائع الزهور: شنعة..فنوره التم بعد الضوء ليلاء.
(5) البيت في البدائع: فيالها معجزات عن رسول الله قد ظهرت والناس أحياء.
(6) أخرجه البخاري في كتاب: الفتن باب (24).
ومسلم في الفتن ح (42) والامام أحمد في مسنده (5 / 114).
(*)

(13/223)


وقد وقع هذا في هذه السنة - أعني سنة أربع وخمسين وستمائة - كما ذكرنا، وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الايام في المذاكرة، وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال: سمعت رجلا من الاعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الابل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز.
قلت: وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرسا للحنفية ببصرى وكذلك كان جده، وهو قد درس بها أيضا ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولي قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الاحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الاعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية وغرق بغداد قوله: سبحان من أصبحت مشيئته * جارية في الورى بمقدار أغرق بغداد بالمياه كما * أحرق أرض الحجاز بالنار قال أبو شامة: والصواب أن يقال: في سنة أغرق العراق وقد * أحرق أرض الحجاز بالنار وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة: في يوم الجمعة ثامن عشررجب - يعني من هذه السنة - كنت جالسا بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوي الحسني المدني، فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم زلزلت يوم الثلاثاء ثانى جمادى الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة، وكانت ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوما.
قال القاصد: وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي
الجهات ترمي ؟ فقال: إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها.
وأخرج قيماز المذكور شيئا من الصخر المحترق وهو كالفحم لونا وخفة.
قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رؤوسهم واستغفروا وأن نائب المدينة أعتق جميع مماليكه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة، إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع.
وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوما وإلى الآن.
قال ابن الساعي: وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الا معاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول: إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله عزوجل قبل الموت.
وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت،

(13/224)


وهي تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين.
قال أبو شامة: وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان من هذه السنة (1) احترق مسجد المدينة على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، ابتدأ حريقه من زاويته الغربية من الشمال، وكان دخل أحد القومة (2) إلى خزانة ثم ومعه نار فعلقت في الابواب ثم، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف، وأخذت قبلة فأعجلت الناس عن قطعها، فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، ووقعت بعض أساطينه وذاب رصاصها، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق سقف الحجرة النبوية ووقع ما وقع منه في الحجرة، وبقي على حاله حتى شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وأصبح الناس فعزلوا موضعا للصلاة، وعد ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الآيات، وكأنها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الآتية من الكائنات على ما سنذكره.
هذا كلام الشيخ شهاب الدين أبي شامة.
وقد قال أبو شامة:
في الذي وقع في هذه السنة وما بعدها شعرا وهو قوله: بعد ست من المئين والخمس * ين لذي أربع جرى في العام نار أرض الحجاز مع حرق المس * جد معه تغريق دار السلام ثم أخذ التتار بغداد في أو * ل عام، من بعد ذاك وعام لم يعن أهلها وللكفر أعوا * ن عليهم، يا ضيعة الاسلام وانقضت دولة الخلافة منها * صار مستعصم بغير اعتصام فحنانا على الحجاز ومصر * وسلاما على بلاد الشآم رب سلم وصن وعاف بقايا * المدن، يا ذا الجلال والاكرام وفي هذه السنة كملت المدرسة الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس، وحضر فيها الدرس واقفها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس، ودرس فيها قاضي البلد صدر الدين بن سناء الدولة، وحضر عنده الامراء والدولة والعلماء وجمهور أهل الحل والعقد بدمشق.
وفيها أمر بعمارة الرباط الناصري بسفح قاسيون.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان:
__________
(1) أرخ ابن إياس في البدائع هذا الحريق سنة 651 ه.
(2) قال في شذرات الذهب 5 / 263: حرقه الفراش أبي بكر المراغي بسقوط ذبالة من يده فأتت النار على جميع سقوفه...(*)

(13/225)


الشيخ عماد الدين عبد الله بن الحسن بن النحاس ترك الخلائق وأقبل على الزهادة والتلاوة والعبادة والصيام المتتابع والانقطاع بمسجده بسفح قاسيون نحوا من ثلاثين سنة، وكان من خيار الناس.
ولما توفي دفن عند مسجده بتربة مشهورة به، وحمام ينسب إليه في مساريق الصالحية، وقد أثنى عليه السبط، وأرخوا وفاته كما ذكرت (1).
يوسف بن الامير حسام الدين قزأوغلي بن عبد الله عتيق الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الحنبلي رحمه الله تعالى.
الشيخ شمس الدين.
أبو المظفر الحنفي البغدادي ثم الدمشقي، سبط ابن الجوزي، أمه رابعة بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ، وقد كان حسن الصورة طيب الصوت حسن الوعظ كثير الفضائل والمصنفات، وله مرآة الزمان في عشرين مجلدا من أحسن التواريخ، نظم فيه المنتظم لجده وزاد عليه وذيل إلى زمانه، وهو من أبهج التواريخ، قدم دمشق في حدود الستمائة وحظي عند ملوك بني أيوب، وقدموه وأحسنوا إليه، وكان له مجلس وعظ كل يوم سبت بكرة النهار عند السارية التي تقوم عندها الوعاظ اليوم عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين، وقد كان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يسرعون إلى بساتينهم فيتذاكرون ما قاله من الفوائد والكلام الحسن، على طريقة جده.
وقد كان الشيخ تاج الدين الكندي، وغيره من المشايخ، يحضرون عنده تحت قبة يزيد، التي عند باب المشهد، ويستحسنون ما يقول.
ودرس بالعزية البرانية التي بناها الامير عز الدين أيبك المعظمي، أستاذ دار المعظم، وهو واقف العزية الجوانية التي بالكشك أيضا، وكانت قديما تعرف بدور ابن منقذ.
ودرس السبط أيضا بالشبلية التي بالجبل عند جسر كحيل، وفوض إليه البدرية التي قبالتها، فكانت سكنه، وبها توفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحضر جنازته سلطان البلد الناصر بن العزيز فمن دونه.
وقد أثنى عليه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في علومه وفضائله ورياسته وحسن وعظه وطيب صوته ونضارة وجهه، وتواضعه وزهده وتودده، لكنه قال: وقد كنت مريضا ليلة وفاته فرأيت وفاته في المنام قبل اليقظة، ورأيته في حالة منكرة، ورآه غيري أيضا، فنسأل الله العافية.
ولم أقدر على حضور جنازته، وكانت جنازته حافلة حضره السلطان والناس، ودفن هناك.
وقد كان فاضلا عالما ظريفا منقطعا منكرا على أرباب الدول ما هم عليه من المنكرات، وقد كان مقتصدا في لباسه مواظبا على المطالعة والاشتغال والجمع والتصنيف، منصفا لاهل العلم والفضل، مباينا لاولي الجهل، وتأتي الملوك وأرباب
__________
(1) كان مولده سنة 572 ومات في 22 صفر من هذه السنة.
(*)

(13/226)


المناصب إليه زائرين وقاصدين، وربي في طول زمانه في حياة طيبة وجاه عريض عند الملوك والعوام نحو خمسين سنة، وكان مجلس وعظه مطربا، وصوته فيما يورده حسنا طيبا، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وقد سئل في يوم عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكر للناس شيئا من مقتل الحسين فصعد المنبر وجلس طويلا لا يتكلم، ثم وضع المنديل على وجهه وبكى شديدا ثم أنشأ يقول وهو يبكي: ويل لمن شفعاؤه خصماؤه * والصور في نشر الخلائق ينفخ لا بد أن ترد القيامة فاطم * وقميصها بدم الحسين ملطخ ثم نزل عن المنبر وهو يبكي وصعد إلى الصالحية وهو كذلك رحمه الله.
واقف مرستان الصالحية الامير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك القيمري الكردي، أكبر أمراء القيمرية، كانوا يقفون بين يديه كما تعامل الملوك، ومن أكبر حسناته وقفه المارستان الذي بسفح قاسيون، وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبة التي تجاه المارستان المذكور، وكان ذا مال كثير وثروة رحمه الله.
مجير الدين يعقوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب دفن عند والده بتربة العادلية (1).
الامير مظفر الدين إبراهيم ابن صاحب صرخد عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم واقف المعزيتين البرانية والجوانية على الحنفية، ودفن عند والده بالتربة تحت القبة عند الوراقة رحمهما الله تعالى.
الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي الفقيه الشافعي مدرس الرواحية بعد شيخه تقي الدين بن الصلاح، ودفن
بالصوفية أيضا، وكانت له جنازة حافلة رحمه الله.
قال أبو شامة، وكثر في هذه السنة موت الفجأة.
فمات خلق كثير بسبب ذلك، وممن توفي
__________
(1) يلقب بالملك المعز كان فاضلا أجاز له أبو روح الهروي وطائفة توفي في ذي القعدة.
(*)

(13/227)


فيها زكي الدين أبو الغورية أحد المعدلين بدمشق.
وبدر الدين بن السني أحد رؤسائها.
وعز الدين عبد العزيز بن أبي طالب بن عبد الغفار الثعلبي أبي الحسين، وهو سبط القاضي جمال الدين بن الحرستاني، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم أجمعين.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة فيها أصبح الملك المعظم صاحب مصر عز الدين أيبك بداره ميتا وقد ولي الملك بعد أستاذ الصالح نجم الدين أيوب بشهور.
كان فيها ملك توران شاه المعظم بن الصالح، ثم خلفته شجرة الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ثم أقيم هو في الملك، ومعه الملك الاشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس بن الكامل مدة، ثم استقل بالملك بلا منازعة، وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية وقتل الفارس إقطاي في سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الاشرف واستقل بالملك وحده، ثم تزوج بشجرة الدر أم خليل.
وكان كريما شجاعا حييا دينا، ثم كان موته في يوم الثلاثاء (1) الثالث والعشرين من ربيع الاول، وهو واقف المدرسة المعزية بمصر ومجازها من أحسن الاشياء، وهي من داخل ليست بتلك الفائقة.
وقد قال بعضهم: هذه مجاز لا حقيقة له.
ولما قتل رحمه الله فاتهم مماليكه زوجته أم خليل شجرة الدر به، وقد كان عزم على تزوج ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقيبها والجواري يعركن في معاربه حتى مات وهو كذلك (2)، ولما سمعوا مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الاكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلة غير مستورة العورة، بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع، وقد علمت على المناشير والتواقيع، وخطب الخطباء باسمها، وضربت السكة برسمها، فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن
تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شئ قدير) [ آل عمران: 26 ] وأقامت الاتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني، بإشارة أكبر مماليكه الامير سيف الدين قطز، ولده نور الدين عليا (3) ولقبوه الملك المنصور، وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وجرت الامور على ما يختاره برأيه ورسمه.
وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 294: يوم الاربعاء خامس وعشرين ربيع الاول.
(2) في تاريخ أبي الفداء 3 / 192: قتله سنجر الجوهري مملوك الطواشي والخدام.
وفي بدائع ابن إياس، ندبت له خمسة من الخدام الروم، فدخل عليهما هؤلاء وبأيديهم سيوف مسلولة، فدخلوا عليه الحمام فقتلوه في الحمام خنقا.
(1 / 1 / 294).
(3) قال ابن إياس: بويع بالسلطنة يوم الخميس سادس عشرين ربيع الاول 655 وكان له من العمر إحدى وعشرين سنة (1 / 1 / 296) وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 192: و عمره يومئذ خمس عشرة سنة.
(*)

(13/228)


دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وأن ذلك من أقوى الاسباب في ممالاته للتتار.
وفيها دخلت الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنة، تركوها لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتركوا شواربه، فاقتدوا به في ذلك، وهو معذور مأجور.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وليس لهم في شيخهم قدوة.
وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريبا من العونية.
وفي يوم الاربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف البادرائية بها الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي (1) البغدادي مدرس النظامية، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الامور المهمة، وإصلاح الاحوال المدلهمة، وقد كان فاضلا بارعا رئيسا وقورا متواضعا، وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الامير أسامة، وشرط على المقيم بها العزوبة وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس، وإنما أراد بذلك توفر خاطر الفقيه وجمعه على طلب العلم، ولكن حصل
بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير وقد كان شيخنا الامام العلامة شيخ الشافعية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الناصري، قرأ كتاب الوقف وفيه ولا تدخلها امرأة.
فقال السلطان ولا صبي ؟ فقال الواقف: يا مولانا السلطان ربنا ما يضرب بعصاتين.
فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم عندها رحمه الله تعالى.
وكان هو أول من درس بها ثم ولده كمال الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد، ثم صار في ذريته إلى الآن.
وقد نظر فيه بعض الاوقات القاضي شمس الدين بن الصائغ ثم انتزع منه حيث أثبت لهم النظر، وقد أوقف البادرائي على هذه المدرسة أوقافا حسنة دارة، وجعل فيها خزانة كتب حسنة نافعة، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة فولي بها قضاء القضاة كرها منه، فأقام فيه سبعة عشر يوما ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة.
ودفن بالشونيزية رحمه الله تعالى.
وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيزخان عليهم لعائن الرحمن، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله - وبالله المستعان.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان البادرائي واقف البادرائية التي بدمشق كما تقدم بيانه رحمه الله تعالى.
__________
(1) البادرائي نسبة إلى بادرايا قرية من أعمال واسط.
(*)

(13/229)


والشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم اليلداني (1) بها في ثامن ربيع الاول ودفن فيها، وكان شيخا صالحا مشتغلا بالحديث سماعا وكتابة وإسماعا، إلى أن توفي وله نحو مائة سنة.
قلت: وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية من الكلاسة، وقد رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله ما أنا رجل
جيد ؟ قال: بلى أنت رجل جيد، رحمه الله وأكرم مثواه.
الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي، وكان شيخا فاضلا متقنا محققا للبحث كثير الحج، له مكانة عند الاكابر، وقد اقتنى كتبا كثيرة، وكان أكثر مقامه بالحجاز، وحيث حل عظمه رؤساء تلك البلدة وكان مقتصدا في أموره وكانت وفاته رحمه الله بالذعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله.
المشد الشاعر الامير سيف الدين علي بن عمر بن قزل مشد الديوان بدمشق، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وقد رآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فأنشده: نقلت إلى رمس القبور وضيقها * وخوفي ذنوبي أنها بي تعثر فصادفت رحمانا رؤوفا وأنعما * حباني بها سقيا لما كنت أحذر ومن كان حسن الظن في حال موته * جميلا بعفو الله فالعفو أجدر بشارة بن عبد الله الارمني الاصل بدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي، سمع الكندي وغيره، وكان يكتب خطا جيدا، وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله في ذريته، فهم إلى الآن ينظرون في الشبليتين، وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة.
القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة جمال الدين المصري ناب عن أبيه ودرس بالشامية، وله شعر فمنه قوله:
__________
(1) اليلداني: نسبة إلى يلدا قرية من قرى دمشق، وفي معجم البلدان: يلدان، وقيل يلدا دون نون وهي من دمشق على ثلاثة أميال.
قال ياقوت: ولا أدرى أهما واحد أم اثنان.
(*)

(13/230)


صيرت فمي لفيه باللثم لثام * عمدا ورشفت من ثناياه مدام فأزور وقال أنت في الفقه إمام * ريقي خمر وعندك الخمر حرام الملك الناصر داود بن المعظم عيسى بن العادل، ملك دمشق بعد أبيه، ثم انتزعت من يده وأخذها عمه الاشرف واقتصر على الكرك ونابلس، ثم تنقلت به الاحوال وجرت له خطوب طوال حتى لم يبق معه شئ من المحال، وأودع وديعة تقارب مائة ألف دينار عند الخليفة المستنصر فأنكره إياها ولم يردها عليه، وقد كان له فصاحة وشعر جيد، ولديه فضائل جمة، واشتغل في علم الكلام على الشمس الخسر وشاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الاوائل جدا، وحكوا عنه أشياء تدل إن صحت على سوء عقيدته فالله أعلم.
وذكر أنه حضر أول درس ذكر بالمستنصرية في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة، وأن الشعراء أنشدوا المستنصر مدائح كثيرة، فقال بعضهم في جملة قصيدة له: لو كنت في يوم السقيفة شاهدا * كنت المقدم والامام الاعظما فقال الناصر داود للشاعر: اسكت فقد أخطأت، قد كان جد أمير المؤمنين العباس شاهدا يومئذ، ولم يكن المقدم، وما الامام الاعظم إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال الخليفة: صدقت فكان هذا من أحسن ما نقل عنه رحمه الله تعالى، وقد تقاصر أمره إلى أن رسم عليه الناصر بن العزيز بقرية البويضا لعمه مجد الدين يعقوب حتى توفي بها في هذه السنة، فاجتمع الناس بجنازته، وحمل منها فصلي عليه ودفن عند والده بسفح قاسيون.
الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، أول ملوك الاتراك، كان من أكبر مماليك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وكان دينا صينا عفيفا كريما، مكث في الملك نحوا من سبع سنين (1) ثم قتلته زوجته شجرة الدر أم خليل، وقام في الملك من بعده ولده نور الدين علي، ولقب بالملك المنصور، وكان مدير مملكته مملوك أبيه سيف الدين قطز، ثم عزله واستقل بالملك بعده نحوا من
سنة وتلقب بالمظفر، فقدر الله كسرة التتار على يديه بعين جالوت.
وقد بسطنا هذا كله في الحوادث فيما تقدم وما سيأتي.
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 295: سبع سنين وثلاثة أشهر.
منها مدة انفراده بالسلطنة خمس سنين وثلاثة أشهر.
وفي ابن خلدون 5 / 377: لثلاث سنين من ولايته.
(*)

(13/231)


شجرة الدر بنت عبد الله أم خليل التركية، كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان ولدها منه خليل من أحسن الصور، فمات صغيرا، وكانت تكون في خدمته لا تفارقه حضرا ولا سفرا من شدة محبته لها وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها المعظم توران شاه، فكان يخاطب لها وتضرب لسكة باسمها وعلمت على المناشير (1) مدة ثلاثة أشهر، ثم تملك المعز كما ذكرنا، ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية بسنوات، ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج بنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فعملت عليه حتى قتلته كما تقدم ذكره، فتمالا عليها مماليكه المعزية فقتلوها (2) وألقوها على مزبلة ثلاثة أيام، ثم نقلت إلى تربة لها (3) بالقرب من قبر السيدة نفيسة رحمها الله تعالى، وكانت قوية النفس، لما علمت أنه قد أحيط بها أتلفت شيئا كثيرا من الجواهر النفيسة واللآلئ المثمنة، كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها، وكان وزيرها في دولتها الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان المعروف بابن حنا وهو أول مناصبه.
الشيخ الاسعد هبة الله بن صاعد شرف الدين الفائزي لخدمته قديما الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل، وكان نصرانيا فأسلم، وكان كثير الصدقات والبر والصلات، استوزره المعز وكان حظيا عنده جدا، لا يفعل شيئا إلا بعد مراجعته ومشاورته، وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز (4)، وقبله القاضي بدر الدين السنجاري (5)، ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الاسعد المسلماني، وقد كان الفائزي يكاتبه المعز بالمملوك، ثم لما قتل المعز أهين الاسعد حتى صار
شقيا، وأخذ الامير سيف الدين قطز خطه بمائة ألف دينار، وقد هجاه بهاء الدين زهير بن علي، فقال: لعن الله صاعدا * وأباه، فصاعدا
__________
(1) اصطلح كتاب ذلك الزمان على تسمية (أي المنشور) جميع ما يكتب في الاقطاعات من عاليها ودانيها للامراء والجند والعربان والتركمان وغيرهم مناشير جمع منشور.
(انظر صبح الاعشى 13 / 157، المواعظ 2 / 217).
(2) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 1 / 294: ان الامير علي قبض على شجرة الدر، وسلمها إلى أمه، فأمرت جواريها ان يقتلوها بالقباقيب والنعال، فقتلوها حتى ماتت.
(3) دفنت في المدرسة التي بجوار بيت الخليفة (بدائع الزهور).
(4) في بدائع الزهور: كان قبله بهاء الدين زهير محمد بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسن الازدي فلما مات تولى الوزارة الاسعد هبة الله الفائزي (1 / 1 / 301).
(5) في بدائع الزهور: السخاوي: تابع ابن إياس قائلا: واستقر به وزيرا عوضا عن الفائزي، وقد جمع بين الوزارة وقضاء الشافعية (1 / 1 / 301).
(*)

(13/232)


وبنيه فنازلا * واحدا ثم واحدا ثم قتل بعد ذلك كله ودفن بالقرافة، وقد رثاه القاضي ناصر الدين ابن المنير، وله فيه مدائح وأشعار حسنة فصيحة رائقة.
ابن أبي الحديد الشاعر العراقي عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح نهج البلاغة في عشرين مجلدا، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والادب والفضيلة، وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة،
وكان أكثر فضيلة وأدبا من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلا بارعا أيضا، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.
استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الاميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا، كما ورد في الاثر " لن يغني حذر عن قدر " وكما قال تعالى (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) [ نوح: 4 ] وقال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) [ الرعد: 11 ] وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة - وكان قدوم هلاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل - إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الامر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو

(13/233)


أن هلاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجها إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك
التتار بما يبعثه إليه من الاموال، وأشاروا بأن يبعث بشئ يسير، فأرسل شيئا من الهدايا فاحتقرها هلاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولا بالا به حتى أزف قدومه، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الاسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الاسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الاسلام وأهله ما وقع من الامر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الاوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هلاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤس الامراء والدولة والاعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هلاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الاهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والاشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملا من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الامر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى
السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الالموت، وانتزعها من أيدي الاسماعيلية، وكان النصير وزيرا لشمس الشموس ولابيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فقتلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الارض شئ من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق،

(13/234)


ويقال بل أغرق فالله أعلم، فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والاكابر والرؤساء والامراء وأولي الحل والعقد ببلاده - وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات - ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الابواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الامكنة فيقتلونهم بالاسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الازقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الامراء من هو كالملوك الاكابر الاكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر
البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والاطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الارض والسماء.
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا.
فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا) الآيات [ الاسراء: 17 - 22 ].
وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الانبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معمورا بالعباد والزهاد والاحبار والانبياء، فصار خاويا على عروشه واهي البناء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة.
فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الاربعاء

(13/235)


رابع عشر صفر وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر (1)، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام (2)، وقتل معه ولده الاكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الاوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الاصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الابكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدا
بعد واحده، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.
وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.
وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والائمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الاسفل من النار.
ولما انقضى الامر المقدر وانقضت الاربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالامان خرج من تحت الارض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده ولا الاخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى.
وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الاولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الامير علي بهادر، فوض
__________
(1) في فوات الوفيات 2 / 231: سبعا وأربعين سنة.
(2) كذا بالاصل ومرآة الزمان 1 / 254 وفوات الوفيات 2 / 231 وفي نهاية الارب 23 / 324: خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام.
وفي تاريخ أبي الفداء 3 / 194: نحو ست عشرة سنة تقريبا.
(*)

(13/236)


إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الانشاء ولديه فضيلة في الادب، ولكنه كان شيعيا جلدا رافضيا خبيثا، فمات جهدا وغما وحزنا وندما، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.
وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم.
وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل الكبير، وكان في حبسه جماعة من أمراء البحرية، منهم ركن الدين بيبرس البند قداري، فكسرهم المصريون ونهبوا ما كان معهم من الاثقال والاموال، وأسروا جماعة من رؤس الامراء فقتلوا صبرا، وعادوا إلى الكرك في أسوأ حال وأشنعه، وجعلوا يفسدون في الارض ويعيثون في البلاد، فأرسل الله الناصر صاحب دمشق فبعث جيشا ليكفهم عن ذلك، فكسرهم البحرية واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه فلم يلتفتوا إليه وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور، وجرت حروب وخطوب يطول بسطها وبالله المستعان.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: خليفة الوقت المستعصم بالله أمير المؤمنين آخر خلفاء بني العباس بالعراق رحمه الله، وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضئ بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لامر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي
العباس محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الامير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الامير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي، مولده سنة تسع وستمائة، وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادى الاولى (1) سنة أربعين، وكان مقتله في يوم الاربعاء الرابع عشر من صفر (2) سنة ست
__________
(1) في مآثر الانافة 2 / 89: لعشر خلون من جمادى الآخرة.
(2) في مآثر الانافة 2 / 89 والجوهر الثمين 1 / 220: في المحرم.
(*)

(13/237)


وخمسين وستمائة، فيكون عمره يوم قتل سبعا وأربعين سنة رحمه الله تعالى.
وقد كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة مقتديا بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان منهم المؤيد الطوسي، وأبو روح عبد العزيز بن محمد الهروي وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم، وحدث عنه جماعة منهم مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن النيار، وأجاز هو للامام محيي الدين بن الجوزي، وللشيخ نجم الدين البادرائي، وحدثا عنه بهذه الاجازة.
وقد كان رحمه الله سنيا على طريقة السلف واعتقاد الجماعة كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار فاستقبح هذا من مثل الخليفة، وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، كما قال الله تعالى (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) [ آل عمران: 75 ].
قتلته التتار مظلوما مضطهدا في يوم الاربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة، وله من العمر
ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر.
وكانت مدة خلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياما (1)، فرحمه الله وأكرم مثواه، وبل بالرأفة ثراه.
وقد قتل بعده ولداه وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه، وشغر منصب الخلافة بعده، ولم يبق في بني العباس من سد مسده، فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يرتجى منهم النوال ويخشى البأس، وختموا بعبد الله المستعصم كما فتحوا بعبد الله السفاح، بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بني أمية كما تقدم بيانه، وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام، فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وزال ملكهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة، ثم عادت كما كانت.
وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله ولله الحمد.
ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والاقطار والامصار، فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب، ملكها في أوائل الامر بعض بني أمية ممن بقي منهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا، وقارن بني العباس دولة المدعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب، وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الاحيان والحرمين في أزمان طويلة وكذلك أخذت من أيديهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وتداولتها الملوك دولا بعد دول، حتى لم يبق مع الخليفة
__________
(1) تقدم التعليق على مدة خلافته ومقدار عمره عند وفاته.
انظر هوامش صفحة 236.
(*)

(13/238)


منهم إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الاموال في أكثر الاوقات، كما ذكر ذلك مبسوطا في الحوادث والوفيات.
واستمرت دولة الفاطميين قريبا من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية القدسية، وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكا متخلفا، ومدة ملكهم تحريرا من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد سنة بضع
وستين وخمسمائة، والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح (1)، فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكا فكان أول ملوك الاسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، ثم ابنه عبد الملك، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضا، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم، فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم.
وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم.
وكذلك أول خلفاء الفاطميين فالاول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جدا قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم.
وهذه أرجوزة لبعض الفضلاء ذكر فيها جميع الخلفاء: الحمد لله العظيم عرشه * القاهر الفرد القوي بطشه مقلب الايام والدهور * وجامع الانام للنشور ثم الصلاة بدوام الابد * على النبي المصطفى محمد وآله وصحبه الكرام * السادة الائمة الاعلام وبعد فإن هذه أرجوزة * نظمتها لطيفة وجيزة نظمت فيها الراشدين الخلفا * من قام بعد النبي المصطفى ومن تلاهم وهلم جرا * جعلتها تبصرة وذكرى ليعلم العاقل ذو التصوير * كيف جرت حوادث الامور وكل ذي مقدرة وملك * معرضون للفنا والهلك
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة 4 / 221 والامام أحمد في مسنده 4 / 273 و 5 / 220 والترمذي في الفتن 4 / 503.
وقد تقدم الحديث في كتابنا في الجزء السادس: وعزاه المؤلف هناك لابي داود والترمذي والنسائي.
(*)

(13/239)


وفي اختلاف الليل والنهار * تبصرة لكل ذي اعتبار والملك الجبار في بلاده * يورثه من شاء من عباده وكل مخلوق فللفناء * وكل ملك فإلى انتهاء ولا يدوم غير ملك الباري * سبحانه من ملك قهار منفرد بالعز والبقاء * وما سواه فإلى انقضاء أول من بويع بالخلافة * بعد النبي ابن أبي قحافة أعني الامام الهادي الصديقا * ثم ارتضى من بعده الفاروقا ففتح البلاد والامصارا * واستأصلت سيوفه الكفارا وقام بالعدل قياما يرضي * بذاك جبار السما والارض ورضي الناس بذي النورين * ثم علي والد السبطين ثم أتت كتائب مع الحسن * كادوا بأن يجددوا بها الفتن فأصلح الله على يديه * كما عزا نبينا إليه (1) وجمع الناس على معاوية * ونقل القصة كل راويه فمهد الملك كما يريد * وقام فيه بعده يزيد ثم ابنه وكان برا راشدا * أعني أبا ليلى وكان زاهدا فترك الامرة لا عن غلبه * ولم يكن إليها منه طلبه وابن الزبير بالحجاز يدأب * في طلب الملك وفيه ينصب وبالشام بايعوا مروانا * بحكم من يقول كن فكانا ولم يدم في الملك غير عام * وعافصته أسهم الحمام
واستوثق الملك لعبد الملك * ونار نجم سعده في الفلك وكل من نازعه في الملك * خر صريعا بسيوف الهلك وقتل المصعب (2) بالعراق * وسير الحجاج ذا الشقاق إلى الحجاز بسيوف النقم * وابن الزبير لائذ بالحرم فجار بعد قتله بصلبه * ولم يخف في أمره من ربه وعندما صفت له الامور * تقلبت بجسمه الدهور ثم أتى من بعده الوليد * ثم سليمان الفتى الرشيد
__________
(1) اشارة إلى الحديث الشريف قال فيه: ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
لفظ البخاري.
في كتاب الصلح بين الناس، وأعاده في باب علامات النبوة في الاسلام - كتاب المناقب وأخرجه محمد في مسنده 5 / 49.
(2) يعني مصعب بن الزبير.
(*)

(13/240)


ثم استفاض في الورى عدل عمر * تابع أمر ربه كما أمر وكان يدعى بأشج القوم * وذي الصلاة والتقى والصوم فجاء بالعدل والاحسان * وكف أهل الظلم والطغيان مقتديا بسنة الرسول * والراشدين من ذوي العقول فجرع الاسلام كأس فقده * ولم يروا مثلا له من بعده ثم يزيد بعده هشام * ثم الوليد فت منه الهام ثم يزيد وهو يدعى الناقصا * فجاءه حمامه معافصا ولم تطل مدة إبراهيما * وكان كل أمره سقيما وأسند الملك إلى مروانا * فكان من أموره ما كانا وانقرض الملك على يديه * وحادث الدهر سطا عليه
وقتله قد كان بالصعيد * ولم تفده كثرة العديد وكان فيه حتف آل الحكم * واستنزعت عنهم ضروب النعم ثم أتى ملك بني العباس * لا زال فينا ثابت الاساس وجاءت البيعة من أرض العجم * وقلدت بيعتهم كل الامم وكل من نازعهم من أمم * خر صريعا لليدين والفم وقد ذكرت من تولى منهم * حين تولى القائم المستعصم أولهم ينعت بالسفاح * وبعده المنصور ذو الجناح ثم أتى من بعده المهدي * يتلوه موسى الهادي الصفي وجاء هارون الرشيد بعده * ثم الامين حين ذاق فقده وقام بعد قتله المأمون * وبعده المعتصم المكين واستخلف الواثق بعد المعتصم * ثم أخوه جعفر موفي الذمم وأخلص النية في المتوكل * لله ذي العرش القديم الاول فأدحض البدعة في زمانه * وقامت السنة في أوانه ولم يبق فيها بدعة مضلة * وألبس المعتزلي ثوب ذله فرحمة الله عليه أبدا * ما غار نجم في السماء أو بدا وبعده استولى وقام المعتمد * ومهد الملك وساس المقتصد وعندما استشهد قام المنتصر * والمستعين بعده كما ذكر وجاء بعد موته المعتز * والمهتدي الملتزم الاعز والمكتفي في صحف العلا أسطر * وبعده ساس الامور المقتدر واستوثق الملك بعز القاهر * وبعده الراضي أخو المفاخر والمتقي من بعد ذا المستكفي * ثم المطيع ما به من خلف

(13/241)


والطائع الطائع ثم القادر * والقائم الزاهد وهو الشاكر والمقتدي من بعده المستظهر * ثم أتى المسترشد الموقر وبعده الراشد ثم المقتفي * وحين مات استنجدوا بيوسف المستضئ العادل في أفعاله * الصادق الصدوق في أقواله والناصر الشهم الشديد الباس * ودام طول مكثه في الناس ثم تلاه الظاهر الكريم * وعدله كل به عليم ولم تطل أيامه في المملكة * غير شهور واعترته الهلكه وعهده كان إلى المستنصر * العادل البر الكريم العنصر دام يسوس الناس سبع عشرة * وأشهرا بعزمات بره ثم توفي عام أربعينا * وفي جمادى صادف المنونا وبايع الخلائق المستعصما * صلى عليه ربنا وسلما فأرسل الرسل إلى الآفاق * يقضون بالبيعة والوفاق وشرفوا بذكره المنابرا * ونشروا في جوده المفاخرا وسار في الآفاق حسن سيرته * وعدله الزائد في رعيته قال الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قلت أنا بعد ذلك أبياتا: ثم ابتلاه الله بالتتار * أتباع جنكيزخان الجبار صحبته ابن ابنه هولاكو * فلم يكن من أمره فكاك فمزقوا جنوده وشمله * وقتلوه نفسه وجهله ودمروا بغداد والبلادا * وقتلوا الاحفاد والاجدادا وانتهبوا المال مع الحريم * ولم يخافوا سطوة العظيم وغرهم إنظاره وحلمه * وما اقتضاه عدله وحكمه وشغرت من بعده الخلافة * ولم يؤرخ مثلها من آفة
ثم أقام الملك أعني الظاهرا * خليفة أعني به المستنصرا ثم ولي من بعد ذاك الحاكم * مسيم بيبرس الامام العالم ثم ابنه الخليفة المستكفي * وبعض هذا للبيب يكفي ثم ولي من بعده جماعة * ما عندهم علم ولا بضاعة ثم تولى وقتنا المعتضد * ولا يكاد الدهر مثله يجد في حسن خلق واعتقاد وحلى * وكيف لا وهو من السيم الاولى سادوا البلاد والعباد فضلا * وملاوا الاقطار حكما وعدلا

(13/242)


أولاد عم المصطفى محمد * وأفضل الخلق بلا تردد صلى عليه الله ذو الجلال * ما دامت الايام والليالي فصل والفاطميون قليلوا العدة * لكنهم مد لهم في المدة فملكوا بضعا وستين سنة * من بعده مائتين وكان كالسنة والعدة أربع عشرة المهدي * والقائم المنصور المعدي أعني به المعز باني القاهرة * ثم العزيز الحاكم الكوافرة والظاهر المستنصر المستعلي * فالآمر الحافظ عنه سوء الفعل والظافر الفائز ثم العاضد * آخرهم وما لهذا جاحد أهلك بعد البضع والسنينا * من قبلها خمسمائة سنينا وأصلهم يهود ليسوا شرفا * بذاك أفتى السادة الائمة * أنصار دين الله من ذي الامة * فصل وهكذا خلفاء بني أمية * عدتهم كعدة الرافضية
ولكن المدة كانت ناقصة * عن مائة من السنين خالصة وكلهم قد كان ناصبيا * إلا الامام عمر التقيا معاوية ثم ابنه يزيد * وابن ابنه معاوية السديد مروان ثم ابن له عبد الملك * منابذ لابن الزبير حتى هلك ثم استقل بعده بالملك * في سائر الارض بغير شك ثم الوليد النجل باني الجامع * وليس مثله بشكله من جامع ثم سليمان الجواد وعمر * ثم يزيد وهشام وغدر أعني الوليد بن يزيد الفاسقا * ثم يزيد بن الوليد فائقا يلقب الناقص وهو كامل * ثم إبراهيم وهو عاقل ثم مروان الحمار الجعدي * آخرهم فاظفر بذا من عندي والحمد لله على التمام * كذاك نحمده على الانعام ثم الصلاة مع تمام العدد * على النبي المصطفى محمد وآله وصحبه الاخيار * في سائر الاوقات والاعصار وهذه الابيات نظم الكاتب * ثمانية تتمة المناقب

(13/243)


وممن قتل مع الخليفة واقف الجوزية بدمشق أستاذ دار الخلافة محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حماد بن أحمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي، ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة، ونشأ شابا حسنا، وحين توفي أبوه وعظ في موضعه فأحسن وأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدما في مناصب الدنيا، فولي حسبة بغداد مع الوعظ الفائق والاشعار الحسنة، ثم ولي تدريس الحنابلة بالمستنصرية سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وكانت له تداريس أخر، ولي أستاذ دار الخلافة، وكان رسولا للملوك
من بني أيوب وغيرهم من جهة الخلفاء، وانتصب ابنه عبد الرحمن مكانه للحسبة والوعظ، ثم كانت الحسبة تتنقل في بنيه الثلاثة عبد الرحمن، وعبد الله، وعبد الكريم.
وقد قتلوا معه في هذه السنة رحمهم الله.
ولمحيي الدين هذا مصنف في مذهب أحمد، وقد ذكر له ابن الساعي أشعارا حسنة يهنئ بها الخليفة في المواسم والاعياد، تدل على فضيلة وفصاحة، وقد وقف الجوزية بدمشق وهي من أحسن المدارس، تقبل الله منه.
الصرصري المادح رحمه الله يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر عبد السلام الشيخ الامام العلامة البارع الفاضل في أنواع من العلوم، جمال الدين أبو زكريا الصرصري (1)، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وديوانه في ذلك مشهور معروف غير منكر، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة.
وصحب الشيخ علي بن إدريس تلميذ الشيخ عبد القادر، وكان ذكيا يتوقد نورا، وكان ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم الكافي الذي ألفه موفق الدين بن قدامة، ومختصر الخرقي، وأما مدائحه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إنها تبلغ عشرين مجلدا، وما اشتهر عنه أنه مدح أحدا من المخلوقين من بني آدم إلا الانبياء، ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هلاكو فأبى أن يجيب إليه، وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الاحجار فهشم منهم جماعة، فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم (2)، ثم قتلوه شهيدا رحمه الله تعالى، وله من العمر ثمان وستون سنة.
وقد أورد له قطب الدين اليونيني من ديوانه قطعة صالحة في ترجمته في الذيل، استوعب حروف المعجم، وذكر غير ذلك قصائد طوالا كثيرة حسنة.
__________
(1) الصرصري: نسبة إلى صرصر قرية على فرسخين من بغداد.
(2) في شذرات الذهب 5 / 286: نحو اثني عشر نفسا.
(*)

(13/244)


البهاء زهير صاحب الديوان
وهو زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين (1) بن جعفر المهلبي العتكي المصري، ولد بمكة (2) ونشأ بقوص، وأقام بالقاهرة، الشاعر المطبق الجواد في حسن الخط له ديوان مشهور، وقدم على السلطان الصالح أيوب، وكان غزير المروءة حسن التوسط في إيصال الخير إلى الناس، ودفع الشر عنهم، وقد أثنى عليه ابن خلكان وقال أجاز لي رواية ديوانه، وقد بسط ترجمته القطب اليونيني.
الحافظ زكي الدين المنذري عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد، الامام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري الشافعي المصري، أصله من الشام وولد بمصر، وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة، إليه الوفادة والرحلة من سنين متطاولة، وقيل إنه ولد بالشام سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وطلب وعني بهذا الشأن، حتى فاق أهل زمانه فيه، وصنف وخرج، واختصر صحيح مسلم، وسنن أبي داود، وهو أحسن اختصارا من الاول، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، وكان ثقة حجة متحريا زاهدا، توفي يوم السبت رابع ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية بمصر.
ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
النور أبو بكر بن محمد بن محمد بن عبد العزيز ابن عبد الرحيم (3) بن رستم الاسعردي (4) الشاعر المشهور الخليع، كان القاضي صدر الدين بن سناء الدولة قد أجلسه مع الشهود تحت الساعات، ثم استدعاه الناصر صاحب البلد فجعله من جلسائه وندمائه، وخلع عليه خلع الاجناد، فانسلخ من هذا الفن إلى غيره، وجمع كتابا سماه " الزرجون (5) في الخلاعة والمجون " وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر والخلاعة، ومن شعره الذي لا يحمد:
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 300: الحسن (انظر ابن خلكان 2 / 332).
(2) في ابن خلكان: سنة 551 في خامس ذي الحجة بوادي نخلة بالقرب من مكة.
وتوفي يوم الاحد رابع ذي القعدة (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 197).
(3) في الوافي بالوفيات: عبد الصمد.
(4) من فوات الوفيات 2 / 161 والوافي بالوفيات 1 / 188 وفي الاصل: الاشعري.
قال في الوافي: ولد سنة تسع عشرة وستمائة.
(5) في الوافي والفوات: سلافة الزرجون في الخلاعة والمجون.
(*)

(13/245)


لذة العمر خمسة فاقتنيها * من خليع غدا أديبا فقيها في نديم وقينة وحبيب * ومدام وسب من لام فيها الوزير ابن العلقمي الرافضي قبحه الله محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب، الوزير مؤيد الدين أبو طالب بن العلقمي، وزير المستعصم البغدادي، وخدمه في زمان المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة، ثم صار وزير المستعصم وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين، مع أنه من الفضلاء في الانشاء والادب، وكان رافضيا خبيثا ردئ الطوية على الاسلام وأهله، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء، ثم مالا على الاسلام وأهله الكفار هولاكو خان، حتى فعل ما فعل بالاسلام وأهله مما تقدم ذكره، ثم حصل له بعد ذلك من الاهانة والذل على أيدي التتار الذين مالاهم وزال عنه ستر الله، وذاق الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وقد رأته امرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذونا وهو مرسم عليه، وسائق يسوق به ويضرب فرسه، فوقفت إلى جانبه وقالت له: يا بن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك ؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا (1)، وقلة وذلة، في مستهل جمادى الآخرة (2) من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن في قبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الاهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف.
وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة، ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعا، وقد هجاه بعض الشعراء فقال فيه:
يا فرقة الاسلام نوحوا واندبوا * أسفا على ما حل بالمستعصم دست الوزارة كان قبل زمانه * لابن الفرات فصار لابن العلقمي محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة فتح الدين أبو عبد الله بن العدل محتسب دمشق، كان مشكورا حسن الطريقة، وجده العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدرة، وهو واقف المدرسة التي بالزبداني في سنة تسعين وخمسمائة تقبل الله منه وجزاه خيرا.
__________
(1) في مآثر الانافة 2 / 92: واستبقى هولاكو الوزير ابن العلقمي مدة يسيرة في الوزارة ثم قتله، وبهامشه: " في هامش الاصل ما يأتي بخط مختلف: وهولاكو احسن في قتله الوزير العلقمي ".
وفي الفخري ص 338: فمكث الوزير شهورا ثم مرض ومات.
(2) في الفخري ص 339: جمادى الاولى.
(*)

(13/246)


القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الانصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالاسكندرية، ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير هناك، واختصر الصحيحين، وشرح صحيح مسلم المسمى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محررة رحمه الله.
الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان أحد مشايخ الشافعية، أخذ عنه الشيخ محيي الدين النووي وغيره، وكان مدرسا بالرواحية، توفي في ذي القعدة من هذه السنة.
العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدي المقدسي ثم الدمشقي خطيب بيت الابار، وقد خطب بالاموي ست سنين بعد ابن عبد السلام، ودرس بالغزالية، ثم عاد إلى بيت الابار فمات بها.
علي بن محمد بن الحسين، صدر الدين أبو الحسن بن النيار شيخ الشيوخ ببغداد، وكان
أولا مؤدبا للامام المستعصم، فلما صارت الخلافة إليه برهة من الدهور رفعه وعظمه وصارت له وجاهة عنده، وانضمت إليه أزمة الامور، ثم إنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة على أيدي التتار.
الشيخ علي العابد الخباز كان له أصحاب وأتباع ببغداد، وله زاوية يزار فيها، قتلته التتار وألقي على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه، ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حال حياته.
محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفرج أبو عبد الله المقدسي خطيب براد (1)، سمع الكثير، وعاش تسعين سنة، ولد في سنة ثلاث وخمسين (2) فسمع الناس عليه الكثير بدمشق، ثم عاد فمات ببلده برادا (1) في هذه السنة، رحمه الله.
__________
(1) في الوافي 2 / 219: مردا، وفي معجم البلدان: مردا قرية قرب نابلس.
(2) في الوافي: ولد سنة 566 ه.
فيكون عمره عند وفاته تسعين سنة.
(*)

(13/247)


البدر لؤلؤ صاحب الموصل الملقب بالملك الرحيم، توفي في شعبان عن مائة سنة (1) وقد ملك الموصل نحوا من خمسين سنة (2)، وكان ذا عقل ودهاء ومكر، لم يزل يعمل على أولاد أستاذه حتى أبادهم، وأزال الدولة الاتابكية عن الموصل، ولما انفصل هولاكو خان عن بغداد - بعد الوقعة الفظيعة العظيمة - سار إلى خدمته طاعة له، ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه، ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيرة، ثم مات ودفن بمدرسته البدرية، وتأسف الناس عليه لحسن سيرته وجودة معدلته، وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى بالكامل في التاريخ فأجازه عليه وأحسن إليه، وكان يعطي لبعض الشعراء ألف دينار.
وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل.
وقد كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنيا اشتراه رجل خياط، ثم صار إلى الملك نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الاتابكي صاحب الموصل، وكان مليح الصورة، فحظي عنده وتقدم
في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه، والوفود من سائر جهات ملكهم إليه.
ثم إنه قتل أولاد أستاذه غيلة واحدا بعد واحد إلى أن لم يبق معه أحد منهم، فاستقل هو بالملك، وصفت له الامور، وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد علي قنديلا ذهبا زنته ألف دينار، وقد بلغ من العمر قريبا من تسعين سنة، وكان شابا حسن الشباب من نضارة وجهه، وحسن شكله، وكانت العامة تلقبه قضيب الذهب، وكان ذا همة عالية وداهية شديد المكر بعيد الغور، وبعثه إلى مشهد علي بذلك القنديل الذهب في كل سنة دليل على قلة عقله وتشيعه والله أعلم.
الملك الناصر داود المعظم ترجمه الشيخ قطب الدين اليونيني في تذييله على المرآة في هذه السنة، وبسط ترجمته جدا وما جرى له من أول أمره إلى آخره.
وقد ذكرنا ترجمته في الحوادث، وأنه أودع الخليفة المستعصم في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار فجحدها الخليفة، فتكرر وفوده إليه، وتوسله بالناس في ردها إليه، فلم يفد من ذلك شيئا، وتقدم أنه قال لذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله: لو كنت في يوم السقيفة حاضرا * كنت المقدم والامام الاورعا فقال له الناصر داود: أخطأت فقد كان جد أمير المؤمنين العباس حاضرا يوم السقيفة ولم يكن
__________
(1) كذا بالاصل، وفي نسخة: ثمانين سنة وسيأتي بعد قليل: نحو تسعين.
وفي تاريخ أبي الفداء: 3 / 198: جاوز الثمانين.
(2) في تاريخ أبي الفداء: ثلاث وأربعين سنة تقريبا.
(*)

(13/248)


المقدم، وهو أفضل من أمير المؤمنين، وإنما كان المقدم أبو بكر الصديق، فقال الخليفة صدق وخلع عليه، ونفى ذلك الشاعر - وهو الوجيه الفزاري - إلى مصر، وكانت وفاة الناصر داود بقرية البويضا (1) مرسما عليه وشهد جنازته صاحب دمشق.