البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة فيها ترددت الرسل بين الصالح أيوب صاحب مصر وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق، على أن يرد إليه ولده المغيث عمر بن الصالح أيوب المعتقل في قلعة دمشق، وتستقر دمشق في يد الصالح إسماعيل، فوقع الصلح على ذلك، وخطب للصالح أيوب بدمشق، فخاف الوزير أمين الدولة أبو الحسن غزال المسلماني، وزير الصالح إسماعيل من غائلة هذا الامر، فقال لخدومه: لا ترد هذا الغلام لابيه تخرج البلاد من يدك، هذا خاتم سليمان بيدك للبلاد، فعند ذلك أبطل ما كان وقع من الصلح ورد الغلام إلى القلعة، وقطعت الخطبة للصالح أيوب، ووقعت الوحشة بين الملكين، وأرسل الصالح أيوب إلى الخوارزمية يستحضرهم لحصار دمشق فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكانت الخوارزمية قد فتحوا في هذه السنة بلاد الروم وأخذوها من أيدي ملكها ابن علاء الدين، وكان قليل العقل يلعب
بالكلاب والسباع، ويسلطها على الناس، فاتفق أنه عضه سبع فمات فتغلبوا على البلاد حينئذ.
وفيها احتيط على أعوان القاضي الرفيع الجيلي، وضرب بعضهم بالمقارع، وصودروا ورسم على القاضي الرفيع بالمدرسة المقدمية داخل باب الفراديس، ثم أخرج ليلا وذهب به فسجن بمغارة أفقه من نواحي البقاع، ثم انقطع خبره.
وذكر أبو شامة: أنه توفي، ومنهم من قال إنه ألقي من شاهق، ومنهم من قال خنق، وذلك كله بذي الحجة من هذه السنة.
وفي يوم الجمعة الخامس
__________
(1) ولدت بقلعة حلب.
ودفنت بها - سنة 581 وماتت ليلة الجمعة لاحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى وكان مرضها قرحة في مراق البطن وحمى.
وكان عمرها نحو 59 سنة (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 171).
(*)

(13/189)


والعشرين منه قرئ منشور ولاية القضاء بدمشق لمحيي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى القرشي، بالشباك الكمالي من الجامع، كذا قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة.
وزعم السبط أن عزله إنما كان في السنة الآتية، وذكر أن سبب هلاكه أنه كتب إلى الملك الصالح يقول له: إنه قد أورد إلى خزانته من الاموال ألف ألف دينار من أموال الناس.
فأنكر الصالح ذلك، ورد عليه الجواب أنه لم يرد سوى ألف ألف درهم، فأرسل القاضي يقول فأنا أحاقق الوزير، وكان الصالح لا يخالف الوزير، فأشار حينئذ على الصالح فعزله لتبرأ ساحة السلطان من شناعات الناس، فعزله وكان من أمره ما كان.
وفوض أمر مدارسه إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح فعين العادلية للكمال التفليسي، والعذراوية لمحيي الدين بن الزكي الذي ولي القضاء بعده، والامينية لابن عبد الكافي، والشامية البرانية للتقي الحموي، وغيب القاضي الرفيع وأسقط عدالة شهوده، قال السبط: أرسله الامين مع جماعة على بغل باكاف لبعض النصارى إلى مغارة أفقه في جبل لبنان من ناحية الساحل، فأقام بها أياما ثم أرسل إليه عدلين من بعلبك ليشهدا عليه ببيع أملاكه من أمين الدولة، فذكر أنهما شاهداه وعليه يخفيفة وقندورة، وأنه استطعمهما شيئا من الزاد وذكر أن له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا، فأطعماه من زوادتهما وشهدا عليه وانصرفا، ثم جاءه داود النصراني فقال له قم فقد أمرنا بحملك إلى بعلبك، فأيقن بالهلاك حينئذ، فقال دعوني أصلي ركعتين، فقال له:
قم، فقام يصلي فأطال الصلاة فرفسه النصراني فألقاه من رأس الجبل إلى أسفل الوادي الذي هناك، فما وصل حتى تقطع، وحكي أنه تعلق ذيله بسن الجبل فما زال داود يرميه بالحجارة حتى ألقاه إلى أسفل الوادي، وذلك عند السقيف المطل على نهر إبراهيم.
قال السبط: وقد كان فاسد العقيدة دهريا مستهزئا بأمور الشرع، يخرج إلى المجلس سكرانا ويحضر إلى الجمعة كذلك، وكانت داره كالحانات.
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال: وأخذ الموفق الواسطي أحد أمنائه - وكان من أكبر البلايا - أخذ لنفسه من أموال الناس ستمائة ألف درهم، فعوقب عقوبة عظيمة حتى أخذت منه، وقد كسرت ساقاه ومات تحت الضرب، فألقي في مقابر اليهود والنصارى، وأكلته الكلاب.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ شمس الدين أبو الفتوح أسعد بن المنجى التنوخي المعري الحنبلي، قاضي حران قديما، ثم قدم دمشق ودرس بالمسمارية وتولى خدما في الدولة المعظمية، وكانت له رواية عن ابن صابر والقاضيين الشهرزوري وابن أبي عصرون، وكانت وفاته في سابع ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله تعالى.

(13/190)


الشيخ الحافظ الصالح تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الازهر الصريفيني (1)، كان يدري الحديث وله به معرفة جيدة، أثنى عليه أبو شامة وصلي عليه بجامع دمشق ودفن بقاسيون رحمه الله.
واقف الكروسية محمد بن عقيل بن كروس، جمال الدين محتسب دمشق، كان كيسا متواضعا، توفي بدمشق في شوال ودفن بداره التي جعلها مدرسة، وله دار حديث رحمه الله تعالى وعفا عنه.
الملك الجواد يونس بن ممدود ابن العادل أبي بكر بن أيوب الملك الجواد، وكان أبوه أكبر أولاد العادل، تقلبت به
الاحوال وملك دمشق بعد عمه الكامل محمد بن العادل، وكان في نفسه جيدا محبا للصالحين، ولكن كان في بابه من يظلم الناس وينسب ذلك إليه، فأبغضته العامة وسبوه وألجأوه إلى أن قايض بدمشق الملك الصالح أيوب بن الكامل إلى سنجار وحصن كيفا، ثم لم يحفظهما بل خرجتا عن يده، ثم آل به الحال إلى أن سجنه الصالح إسماعيل بحصن عزتا، حتى كانت وفاته في هذه السنة، ونقل في شوال إلى تربة المعظم بسفح قاسيون، وكان عنده ابن يغمور معتقلا فحوله الصالح إسماعيل إلى قلعة دمشق، فلما ملكها الصالح أيوب نقله إلى الديار المصرية وشنقه مع الامين غزال وزير الصالح إسماعيل، على قلعة القاهرة، جزاء على صنعهما في حق الصالح أيوب رحمه الله تعالى.
أما ابن يغمور فإنه عمل عليه حتى حول ملك دمشق إلى الصالح إسماعيل، وأما أمين الدولة فإنه منع الصالح من تسليم ولده عمر إلى أبيه فانتقم منهما بهذا، وهو معذور بذلك.
مسعود بن أحمد بن مسعود ابن مازه المحاربي أحد الفقهاء الحنفية الفضلاء، وله علم بالتفسير وعلم الحديث، ولديه فضل غزير قدم بغداد صحبة رسول التتار للحج، فحبس مدة سنين ثم أفرج عنه، فحج ثم عاد، فمات ببغداد في هذه السنة، رحمه الله تعالى.
أبو الحسن علي بن يحيى بن الحسن ابن الحسين بن علي بن محمد البطريق بن نصر بن حمدون بن ثابت الاسدي الحلي، ثم
__________
(1) الصريفيني: نسبة إلى صريفين قرية ببغداد، وصريفين أخرى من قرى واسط.
(*)

(13/191)


الواسطي، ثم البغدادي، الكاتب الشاعر الشيعي، فقيه الشيعة، أقام بدمشق مدة وامتدح كثيرا من الامراء والملوك، منهم الكامل صاحب مصر غيره، ثم عاد إلى بغداد فكان يشغل الشيعة في مذهبهم، وكان فاضلا ذكيا جيد النظم والنثر، لكنه مخذول محجوب عن الحق.
وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من أشعاره الدالة على غزارة مادته في العلم والذكاء رحمه الله وعفا عنه.
ثم دخلت سنة اثنين وأربعين وستمائة فيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي (1) المشؤم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضى الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده قبحه الله وإياهم، وقد كان ابن العلقمي قبل هذه الوزارة أستاذ دار الخلافة، فلما مات نصر الدين محمد بن الناقد استوزر ابن العلقمي وجعل مكانه في الاستادارية الشيخ محيي الدين يوسف ابن أبي الفرج بن الجوزي، وكان من خيار الناس، وهو واقف الجوزية التي بالنشابين بدمشق تقبل الله منه.
وفيها جعل الشيخ شمس الدين علي بن محمد بن الحسين بن النيار مؤدب الخليفة شيخ الشيوخ ببغداد، وخلع عليه، ووكل الخليفة عبد الوهاب بن المطهر وكالة مطلقة، وخلع عليه.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر استقدمهم ليستنجد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق، فنزلوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والاموال والاقمشة والعساكر، فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك، والمنصور صاحب حمص، مع الفرنج (2) واقتتلوا مع الخوارزمية قتالا شديدا، فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة، هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية، على رؤوس أطلاب المسلمين، وكانت كؤوس الخمر دائرة بين الجيوش فنابت كؤوس المنون عن كؤوس الزرجون، فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين ألف، وأسروا جماعة من ملوكهم وقسوسهم وأساقفتهم، وخلقا من أمراء المسلمين، وبعثوا بالاسارى إلى الصالح أيوب بمصر، وكان يومئذ يوما مشهودا وأمرا محمودا، ولله الحمد.
وقد قال بعض أمراء المسلمين قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح.
وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كان معهم شيئا كثيرا، وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليحاصرها، فحصنها الصالح إسماعيل وخرب من حولها رباعا كثيرة،
__________
(1) جاء في الفخري ص 337: وقيل لجده العلقمي لانه حفر النهر المسمى بالعلقمي.
(2) كان الصالح اسماعيل اتفق سنة 641 مع الفرنج - لما علم باستدعاء الصالح أيوب للخوارزمية - لمساعدته في
الاستيلاء على دمشق مقابل تسليمهم القدس بما فيها من المزارات، وعسقلان وطبريا فعمر الافرنج قلعتيهما (انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 172 وابن خلدون 5 / 358).
(*)

(13/192)


وكسر جسر باب توما فسار النهر فتراجع الماء حتى صار بحيرة من باب توما وباب السلامة، فغرق جميع ما كان بينهما من العمران، وافتقر كثير من الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك المغيث عمر بن الصالح أيوب كان الصالح إسماعيل قد أسره وسجنه في برج قلعة دمشق، حين أخذها في غيبة الصالح أيوب.
فاجتهد أبوه بكل ممكن في خلاصه فلم يقدر، وعارضه فيه أمين الدولة غزال المسلماني، واقف المدرسة الامينية التي ببعلبك، فلم يزل الشاب محبوسا في القلعة من سنة ثمان وثلاثين إلى ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر من هذه السنة، فأصبح ميتا في محبسه غما وحزنا، ويقال إنه قتل فالله أعلم.
وكان من خيار أبناء الملوك، وأحسنهم شكلا، وأكملهم عقلا.
ودفن عند جده الكامل في تربته شمالي الجامع، فاشتد حنق أبيه أيوب على صاحب دمشق.
وممن توفي فيها شيخ الشيوخ بدمشق: تاج الدين أبو عبد الله بن عمر بن حمويه أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين، له كتاب في ثماني مجلدات، ذكر فيه أصول، وله السياسة الملوكية صنفها للكامل محمد وغير ذلك، وسمع الحديث وحفظ القرآن، وكان قد بلغ الثمانين، وقيل إنه لم يبلغها، وقد سافر إلى بلاد المغرب في سنة ثلاث وتسعين، واتصل بمراكش عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، فأقام هناك إلى سنة ستمائة، فقدم إلى ديار مصر وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن حمويه رحمه الله تعالى.
الوزير نصر الدين أبو الازهر أحمد بن محمد بن علي بن أحمد الناقد البغدادي وزير المستنصر ثم ابنه المستعصم، كان من
أبناء التجار، ثم توصل إلى أن وزر لهذين الخليفتين، وكان فاضلا بارعا حافظا للقرآن كثير التلاوة، نشأ في حشمة باذخة، ثم كان في وجاهة هائلة، وقد أقعد في آخر أمره، وهو مع هذا في غاية الاحترام والاكرام، وله أشعار حسنة أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة، توفي في هذه السنة وقد جاوز الخمسين رحمه الله تعالى.
نقيب النقباء خطيب الخطباء وكيل الخلفاء أبو طالب الحسين بن أحمد بن علي بن أحمد بن معين بن هبة الله بن محمد بن

(13/193)


علي بن الخليفة المهتدي بالله العباسي، كان من سادات العباسيين وأئمة المسلمين، وخطباء المؤمنين، استمرت أحواله على السداد والصلاح، لم ينقطع قط عن الخطابة ولم يمرض قط حتى كانت ليلة السبت الثامن والعشرين من هذه السنة، قام في أثناء الليل لبعض حاجاته فسقط على أم رأسه، فسقط من فمه دم كثير وسكت فلم ينطق كلمة واحدة يومه ذلك إلى الليل، فمات وكانت له جنازة حافلة رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة وهي سنة الخوارزمية، وذلك أن الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر بعث الخوارزمية ومعهم ملكهم بركات خان في صحبة معين الدين ابن الشيخ، فأحاطوا بدمشق يحاصرون عمه الصالح أبا الجيش صاحب دمشق، وحرق قصر حجاج، وحكر السماق، وجامع جراح خارج باب الصغير، ومساجد كثيرة، ونصب المنجنيق عند باب الصغير وعند باب الجابية، ونصب من داخل البلد منجنيقان أيضا، وتراأى الفريقان وأرسل الصالح إسماعيل إلى الامير معين الدين بن الشيخ بسجادة وعكاز وإبريق وأرسل يقول: اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بمحاصرة الملوك، فأرسل إليه المعين بزمر وجنك وغلالة حرير أحمر أصفر، وأرسل يقول له: أما السجادة فإنها تصلح لي، وأما أنت فهذا أولى بك.
ثم أصبح ابن الشيخ فاشتد الحصار بدمشق، وأرسل الصالح إسماعيل فأحرق جوسق قصر والده العادل، وامتد الحريق في زقاق الرمان إلى العقيبة
فأحرقت بأسرها، وقطعت الانهار وغلت الاسعار، وأخيفت الطرق وجرى بدمشق أمور بشعة جدا، لم يتم عليها قط، وامتد الحصار شهورا من هذه السنة إلى جمادى الاولى، فأرسل أمين الدولة يطلب من ابن الشيخ شيئا من ملابسه، فأرسل إليه بفرجية وعمامة وقميص ومنديل، فلبس ذلك الامين وخرج إلى معين الدين، فاجتمع به بعد العشاء طويلا، ثم عاد ثم خرج مرة أخرى فاتفق الحال على أن يخرج الصالح إسماعيل إلى بعلبك ويسلم دمشق إلى الصالح أيوب، فاستبشر الناس بذلك وأصبح الصالح إسماعيل خارجا إلى بعلبك ودخل معين الدين بن الشيخ فنزل في دار أسامة، فولى وعزل وقطع ووصل، وفوض قضاء القضاة إلى صدر الدين بن سنى الدولة، وعزل القاضي محيي الدين بن الزكي، واستناب ابن سنى الدولة التفليسي الذي ناب لابن الزكي والفرز السنجاري، وأرسل معين الدين بن الشيخ أمين الدولة غزال بن المسلماني وزير الصالح إسماعيل تحت الحوطة إلى الديار المصرية.
وأما الخوارزمية فإنهم لم يكونوا حاضرين وقت الصلح، فلما علموا بوقوع الصلح غضبوا وساروا نحو داريا فنهبوها وساقوا نحو بلاد الشرق، وكاتبوا الصالح إسماعيل فحالفوه على الصالح أيوب، ففرح بذلك ونقض الصلح الذي كان وقع منه، وعادت الخوارزمية فحاصروا دمشق، وجاء إليهم الصالح إسماعيل من بعلبك فضاق الحال على الدماشقة، فعدمت الاموال وغلت

(13/194)


الاسعار جدا، حتى إنه بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل وقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة وبيعت الاملاك بالدقيق، وأكلت القطاط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات وعجزوا عن التغسيل والتكفين والاقبار، فكانوا يلقون موتاهم في الآبار، حتى أنتنت المدينة وضجر الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي هذه الايام توفي الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، شيخ دار الحديث وغيرها من المدارس، فما أخرج من باب الفرج إلا بعد جهد جهيد، ودفن بالصوفية رحمه الله.
قال ابن السبط: ومع هذا كانت الخمور دائرة والفسق ظاهرا، والمكوس بحالها وذكر
الشيخ شهاب الدين أن الاسعار غلت في هذه السنة جدا، وهلك الصعاليك بالطرقات، كانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابة ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها، كالدجاج.
قال: وأنا شاهدت ذلك.
وذكر تفاصيل الاسعار وغلاءها في الاطعمة وغيرها، ثم زال هذا كله في آخر السنة بعد عيد الاضحى ولله الحمد.
ولما بلغ الصالح أيوب أن الخوارزمية قد مالؤا عليه وصالحوا عمه الصالح إسماعيل، كانت الملك المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، فاستماله إليه وقوي جانب نائب دمشق معين الدين حسين بن الشيخ، ولكنه توفي في رمضان من هذه السنة كما سيأتي في الوفيات.
ولما رجع المنصور صاحب حمص عن موالاة الصالح إسماعيل شرع في جمع الجيوش من الحلبيين والتركمان والاعراب لاستنقاذ دمشق من الخوارزمية، وحصارهم إياها، فبلغ ذلك الخوارزمية فخافوا من غائلة ذلك، وقالوا دمشق ما تفوت، والمصلحة قتاله عند بلده، فساروا إلى بحيرة حمص، وأرسل الناصر دواد جيشه إلى الصالح إسماعيل مع الخوارزمية، وساق جيش دمشق فانضافوا إلى صاحب حمص، والتقوا مع الخوارزمية عند بحيرة حمص، وكان يوما مشهودا، قتل فيه عامة الخوارزمية، وقتل ملكهم بركات خان، وجئ برأسه على رمح، فتفرق شملهم وتمزقوا شذر مذر، وساق المنصور صاحب حمص إلى بعلبك فتسلمها الصالح أيوب، وجاء إلى دمشق فنزل ببستان سامة خدمة للصالح أيوب، ثم حدثته نفسه بأخذها فاتفق مرضه، فمات رحمه الله في السنة الآتية، ونقل إلى حمص، فكانت مدة ملكه بعد أبيه عشر سنين، وقام من بعده فيها ابنه الملك الاشرف مدة سنتين، ثم أخذت منه على ما سيأتي وتسلم نواب الصالح أيوب بعلبك وبصرى، ولم يبق بيد الصالح إسماعيل بلد يأوي إليه ولا أهل ولا ولد ولا مال، بل أخذت جميع أمواله ونقلت عياله تحت الحوطة إلى الديار المصرية، وسار هو فاستجار بالملك الناصر بن العزيز بن الظاهر غازي صاحب حلب، فآواه وأكرمه واحترمه، وقال الاتابك لؤلؤ الحلبي لابن أستاذه الناصر، وكان شابا صغيرا: انظر إلى عاقبة الظلم.
وأما الخوارزمية فإنهم ساروا إلى ناحية الكرك فأكرمهم الناصر داود صاحبها، وأحسن إليهم وصاهرهم وأنزلهم بالصلت

(13/195)


فأخذوا معها نابلس، فأرسل إليهم الصالح أيوب جيشا مع فخر الدين ابن الشيخ فكسرهم على الصلت وأجلاهم عن تلك البلاد، وحاصر الناصر بالكرك وأهانه غاية الاهانة، وقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية فدخل دمشق في أبهة عظيمة، وأحسن إلى أهلها، وتصدق على الفقراء والمساكين، وسار إلى بعلبك وإلى بصرى وإلى صرخد، فتسلمها من صاحبها عز الدين أيبك المعظمي، وعوضه عنها ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا.
وهذا كله في السنة الآتية.
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم، خوفا من غائلة مكرهم وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم " اتركوا الترك ما تركوكم " (1).
وفي هذه السنة ظهر ببلاد خوزستان على شق جبل داخله من الابنية الغريبة العجيبة ما يحار فيه الناظر، وقد قيل إن ذلك من بناء الجن، وأورد صفته ابن الساعي في تاريخه.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: الشيخ تقي الدين ابن (2) الصلاح عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الامام العلامة، مفتي الشام ومحدثها، الشهرزوري ثم الدمشقي، سمع الحديث ببلاد الشرق وتفقه هنالك بالموصل وحلب وغيرها، وكان أبوه مدرسا بالاسدية التي بحلب، وواقفها أسد الدين شيركوه بن شادي، وقدم هو الشام وهو في عداد الفضلاء الكبار.
وأقام بالقدس مدة ودرس بالصلاحية، ثم تحول منه إلى دمشق، ودرس بالرواحية ثم بدار الحديث الاشرفية، وهو أول من وليها من شيوخ الحديث، وهو الذي صنف كتاب وقفها، ثم بالشامية الجوانية، وقد صنف كتبا كثيرة مفيدة في علوم الحديث والفقه [ وله ] تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها.
وكان دينا زاهدا ورعا ناسكا، على طريق السلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدثين، مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة،
ولم يزل على طريقة جيدة حتى كانت وفاته بمنزله في دار الحديث الاشرفية ليلة الاربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وصلي عليه بجامع دمشق وشيعه الناس إلى داخل باب الفرج، ولم يمكنهم البروز لظاهره لحصار الخوارزمية، وما صحبه إلى جبانة الصوفية إلا نحو العشرة رحمه الله وتغمده برضوانه.
وقد أثنى عليه القاضي شمس الدين بن خلكان، وكان من شيوخه.
قال السبط أنشدني الشيخ تقي الدين من لفظه رحمه الله:
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) من تاريخ أبي الفداء 3 / 174 من شذرات الذهب: وفي الاصل " أبو ".
(*)

(13/196)


احذر من الواوات أربعة * فهن من الحتوف واو الوصية والوديعة * والوكالة والوقوف وحكى ابن خلكان عنه أنه قال: ألهمت في المنام هؤلاء الكلمات: ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك فإن لكل يوم رزقا جديدا، والالحاح في الطلب يذهب البهاء، وما أقرب الصنيع من الملهوف، وربما كان العسر نوعا من آداب الله، والحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة قبل أن تدرك، فإنك ستنالها في أوانها، ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعا، ويغشاك القنوط.
ابن النجار الحافظ صاحب التاريخ محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار، أبو عبد الله البغدادي الحافظ الكبير، سمع الكثير ورحل شرقا وغربا، ولد (1) سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وشرع في كتابة التاريخ وعمره خمس عشرة (2) سنة، والقراءات وقرأ بنفسه على المشايخ كثيرا حتى حصل نحوا من ثلاثة آلاف شيخ، من ذلك نحو من أربعمائة امرأة، وتغرب ثمانيا وعشرين سنة، ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياء كثيرة، من ذلك القمر المنير في المسند الكبير، يذكر لكل صحابي ما روى.
وكنز الايام (3) في معرفة السنن والاحكام، والمختلف والمؤتلف، والسابق واللاحق، والمتفق والمفترق، وكتاب الالقاب، ونهج الاصابة في معرفة الصحابة، والكافي في أسماء الرجال، وغير
ذلك مما لم يتم أكثره وله كتاب الذيل على تاريخ مدينة السلام، في ستة عشر مجلدا كاملا، وله أخبار مكة والمدينة وبيت المقدس، وغرر الفوائد في خمس مجلدات، وأشياء كثيرة جدا سردها ابن الساعي في ترجمته، وذكر أنه لما عاد إلى بغداد عرض عليه الاقامة في المدارس فأبى وقال: معي ما أستغني به عن ذلك فأشتري جارية وأولدها وأقام برهة ينفق مدة على نفسه من كيسه، ثم احتاج إلى أن نزل محدثا في جماعة المحدثين بالمدرسة المستنصرية حين وضعت، ثم مرض شهرين وأوصى إلى ابن الساعي في أمر تركته وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس من شعبان من هذه السنة، وله من العمر خمس وسبعون سنة وصلي عليه بالمدرسة النظامية، وشهد جنازته خلق كثير، وكان ينادى حول جنازته هذا حافظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان ينفي الكذب عنه.
ولم يترك وارثا، وكانت تركته عشرين دينارا وثياب بدنه، وأوصى أن يتصدق بها، ووقف خزانتين من الكتب بالنظامية تساوي ألف دينار، فأمضى ذلك الخليفة المستعصم، وقد أثنى عليه الناس ورثوه بمراث كثيرة، سردها ابن الساعي في آخر ترجمته.
__________
(1) في الوافي بالوفيات 5 / 9 وفوات الوفيات 4 / 36: ولد في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة.
(2) في الاصل: خمسة عشر.
(3) في الوافي والفوات: كنز الامام، وفي شذرات الذهب: كنز الانام.
(*)

(13/197)


الحافظ ضياء الدين المقدسي ابن الحافظ محمد بن عبد الواحد [ بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل ] (1) سمع الحديث الكثير وكتب كثيرا وطوف وجمع وصنف وألف كتبا مفيدة حسنة كثيرة الفوائد، من ذلك كتاب الاحكام ولم يتمه، وكتاب المختارة وفيه علوم حسنة حديثية، وهي أجود من مستدرك الحاكم لو كمل، وله فضائل الاعمال وغير ذلك من الكتب الحسنة الدالة على حفظه واطلاعه وتضلعه من علوم الحديث متنا وإسنادا.
وكان رحمه الله في غاية العبادة والزهادة والورع والخير، وقد وقف كتبا كثيرة عظيمة لخزانة المدرسة الضيائية التي وقفها على أصحابهم من المحدثين والفقهاء، وقد وقفت
عليها أوقاف أخر كثيرة بعد ذلك (2).
الشيخ علم الدين أبو الحسن السخاوي (3) علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الاحد بن عبد الغالب الهمذاني المصري، ثم الدمشقي شيخ القراء بدمشق، ختم عليه ألوف من الناس، وكان قد قرأ على الشاطبي وشرح قصيدته، وله شرح المفصل وله تفاسير وتصانيف كثيرة، ومدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له حلقة بجامع دمشق، وولي مشيخة الاقراء بتربة أم الصالح، وبها كان مسكنه وبه توفي ليلة الاحد ثاني عشر جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون.
وذكر القاضي ابن خلكان أن مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وذكر من شعره قوله: قالوا غدا نأتي ديار الحمى * وينزل الركب بمغناهم وكل من كان مطيعا لهم * أصبح مسرورا بلقياهم قلت فلي ذنب فما حيلتي * بأي وجه أتلقاهم قالوا أليس العفو من شأنهم * لا سيما عمن ترجاهم ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان صلاح الدين، زوجها أخوها أولا بالامير سعد الدين مسعود بن معين الدين وتزوج هو بأخته عصمة الدين خاتون، التي كانت زوجة الملك نور الدين واقفة الخاتونية الجوانية،
__________
(1) ما بين معكوفين، مكانه بياض بالاصول، استدرك من الوافي بالوفيات 4 / 65.
(2) كانت ولادته بالدير المبارك بدمشق سنة 569 وتوفي يوم الاثنين 28 جمادى الآخرة سنة 643 وله من العمر 84 سنة ودفن بسفح قاسيون.
(3) السخاوي: نسبة إلى سخا بليدة من أعمال مصر، وقياسه سخوي ولكن الناس أطبقوا على النسبة الاولى.
(*)

(13/198)


والخانقاه البرانية، ثم لما مات الامير سعد الدين زوجها من الملك مظفر الدين صاحب إربل، فأقامت عنده بإربل أزيد من أربعين سنة حتى مات، ثم قدمت دمشق فسكنت بدار العقيقي حتى
كانت وفاتها في هذه السنة وقد جاوزت الثمانين، ودفنت بقاسيون، وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي، وكانت فاضلة، ولها تصانيف، وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة، ووقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى وهي الآن شرقي الرباط الناصري، ثم لما ماتت الخاتون وقعت العالمة بالمصادرات وحبست مدة ثم أفرج عنها وتزوجها الاشرف صاحب حمص، وسافرت معه إلى الرحبة وتل راشد، ثم توفيت في سنة ثلاث وخمسين، ووجد لها بدمشق ذخائر كثيرة وجواهر ثمينة، تقارب ستمائة ألف درهم، غير الاملاك والاوقاف رحمها الله تعالى.
معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ (1) وزير الصالح نجم الدين أيوب، أرسله إلى دمشق فحاصرها مع الخوارزمية أول مرة حتى أخذها من يد الصالح إسماعيل، وأقام بها نائبا من جهة الصالح أيوب، ثم مالا الخوارزمية مع الصالح إسماعيل عليه فحصروه بدمشق، ثم كانت وفاته في العشر الاخر من رمضان هذه السنة، عن ست وخمسين سنة، فكانت مدة ولايته بدمشق أربعة أشهر ونصف.
وصلي عليه بجامع دمشق، ودفن بقاسيون إلى جانب أخيه عماد الدين.
وفيها كانت وفاة القليجية للحنفية.
وهو الامير: سيف الدين بن قلج ودفن بتربته التي بمدرسته المذكورة، التي كانت سكنه بدار فلوس تقبل الله تعالى منه.
وخطيب الجبل شرف الدين عبد الله بن الشيخ أبي عمر رحمه الله.
والسيف أحمد بن عيسى بن الامام موفق الدين بن قدامة (2) وفيها توفي إمام الكلاسة الشيخ تاج الدين أبو الحسن محمد بن أبي جعفر (3) مسند وقته، وشيخ الحديث في زمانه رواية وصلاحا رحمه الله تعالى.
والمحدثان الكبيران
__________
(1) وهو صدر الدين محمد بن عمر الجويني.
(2) وهو أبو العباس أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي المحدث الحافظ ولد سنة 605 توفي في مستهل شعبان بسفح قاسيون ودفن به.
(3) وهو محمد بن أبي جعفر أحمد بن علي القرطبي ولد بدمشق أول سنة 575 سمع من عبد المنعم الفراوي بمكة ومن يحيى الثقفي والفضل البانياسي بدمشق، وكان حافظا ذا دين ووقار.
توفي في جمادى الاولى (شذرات الذهب 5 / 226).
(*)

(13/199)


الحافظان المفيدان شرف الدين أحمد بن الجوهري (1) وتاج الدين عبد الجليل الابهري.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة فيها كسر المنصور الخوارزمية عند بحيرة حمص واستقرت يد نواب الصالح أيوب على دمشق وبعلبك وبصرى، ثم في جمادى الآخرة كسر فخر الدين بن الشيخ الخوارزمية على الصلت كسرة فرق بقية شملهم، ثم حاصر الناصر بالكرك ورجع عنه إلى دمشق.
وقدم الصالح أيوب إلى دمشق في ذي القعدة فأحسن إلى أهلها وتسلم هذه المدن المذكورة، وانتزع صرخد من يد عز الدين أيبك، وعوضه عنها، وأخذ الصلت من الناصر داود بن المعظم وأخذ حصن الصبية من السعيد بن العزيز بن العادل، وعظم شأنه جدا، وزار في رجوعه بيت المقدس وتفقد أحواله وأمر بإعادة أسواره أن تعمر كما كانت في الدولة الناصرية، فاتح القدس، وأن يصرف الخراج وما يتحصل من غلات بيت المقدس في ذلك، وإن عاز شيئا صرفه من عنده.
وفيها قدمت الرسل من عند البابا الذي للنصارى تخبر بأنه قد أباح دم الا بدور ملك الفرنج لتهاونه في قتال المسلمين، وأرسل طائفة من عنده ليقتلوه، فلما انتهوا إليه كان استعد لهم وأجلس مملوكا له على السرير فاعتقدوه الملك فقتلوه، فعند ذلك أخذهم الا بدور فصلبهم على باب قصره بعد ما ذبحهم وسلخهم وحشى جلودهم تبنا، فلما بلغ ذلك البابا أرسل إليه جيشا كثيفا لقتاله فأوقع الله الخلف بينهم بسبب ذلك، وله الحمد والمنة.
وفيها هبت رياح عاصفة شديدة بمكة في يوم الثلاثاء من عشر ربيع الآخر، فألقت ستارة الكعبة المشرفة، وكانت قد عتقت، فإنها من سنة أربعين لم تجدد لعدم الحج في تلك السنين من ناحية الخليفة، فما سكنت الريح إلا والكعبة عريانة قد زال عنها شعار السواد، وكان هذا فألا على
زوال دولة بني العباس، ومنذرا بما سيقع بعد هذا من كائنة التتار لعنهم الله تعالى.
فاستأذن نائب اليمن عمر بن سول شيخ الحرم العفيف بن منعة في أن يكسو الكعبة، فقال لا يكون هذا إلا من مال الخليفة، ولم يكن عنده مال فاقترض ثلثمائة دينار واشترى ثياب قطن وصبغها سوادا وركب عليها طرازاتها العتيقة وكسى بها الكعبة ومكثت الكعبة ليس عليها كسوة إحدى وعشرين ليلة.
وفيها فتحت دار الكتب التي أنشأها الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي بدار الوزارة، وكانت في نهاية الحسن، ووضع فيها من الكتب النفيسة والنافعة شئ كثير، وامتدحها الشعراء بأبيات وقصائد حسانا وفي أواخر ذي الحجة طهر الخليفة المستعصم بالله ولديه الاميرين أبا العباس أحمد، وأبا الفضائل عبد الرحمن، وعملت ولائم فيها كل أفراح ومسرة، لا يسمع بمثلها من
__________
(1) وهو أحمد بن محمد بن ابراهيم بن نبهان الدمشقي " أبو العباس " سمع من أبي المجد القزويني كان ذكيا متقنا رئيسا ثقة مات وله أربعون سنة.
(*)

(13/200)


أزمان متطاولة، وكان ذلك وداعا لمسرات بغداد وأهلها في ذلك الزمان.
وفيها احتاط الناصر داود صاحب الكرك على الامير عماد الدين داود بن موسك بن حسكو، وكان من خيار الامراء الاجواد، واصطفى أمواله كلها وسجنه عنده في الكرك، فشفع فيه فخر الدين بن الشيخ لما كان محاصره في الكرك فأطلقه، فخرجت في حلقه جراحة فبطها فمات ودفن عند قبر جعفر والشهداء بمؤته (1) رحمه الله تعالى.
وفيها توفي ملك الخوارزمية قبلا بركات خان لما كسرت أصحابه عند بحيرة حمص كما تقدم ذكره وفيها توفي: الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص بدمشق، بعد أن سلم بعلبك للصالح أيوب، ونقل إلى حمص، وكان نزوله أولا ببستان أسامة (2)، فلما مرض (3) حمل إلى الدهشة بستان الاشرف بالنيرب فمات فيه.
وفيها توفي:
الصائن محمد بن حسان ابن رافع العامري الخطيب، وكان كثير السماع مسندا، وكانت وفاته بقصر حجاج رحمه الله تعالى.
وفيها توفي: الفقيه العلامة محمد بن محمود بن عبد المنعم المرامي (4) الحنبلي وكان فاضلا ذا فنون، أثنى عليه أبو شامة.
قال: صحبته قديما ولم يترك بعده بدمشق مثله في الحنابلة، وصلي عليه بجامع دمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله.
والضياء عبد الرحمن الغماري المالكي الذي ولي وظائف الشيخ أبي عمرو بن الحاجب حين خرج من دمشق سنة ثمان
__________
(1) في المطبوعة: بحوته وهو تحريف.
(2) في الاصل: سامة.
(3) وكان مرضه السل وقد مات في 11 صفر وحمل تابوته إلى حمص فدفن عند أبيه (شذرات الذهب - تاريخ أبي الفداء).
(4) في الوافي بالوفيات 5 / 11: المراتبي، والمراتبي نسبة إلى باب المراتب ببغداد.
(*)

(13/201)


وثلاثين وجلس في حلقته ودرس مكانه بزاوية المالكية والفقيه تاج الدين إسماعيل بن جميل بحلب، وكان فاضلا دينا سليم الصدر رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة فيها كان عود السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل من الشام إلى الديار المصرية، وزار في طريقه بيت المقدس وفرق في أهله أموالا كثيرة، وأمر بإعادة سوره كما كان في أيام عم أبيه الملك الناصر فاتح القدس.
ونزل الجيوش لحصار الفرنج ففتحت طبرية في عاشر صفر وفتحت عسقلان في أواخر جمادى الآخرة، وفي رجب عزل الخطيب عماد الدين داود بن خطيب بيت الابار عن الخطابة بجامع الاموي، وتدريس الغزالية، وولي ذلك للقاضي عماد الدين بن عبد
الكريم بن الحرستاني شيخ دار الحديث بعد ابن الصلاح.
وفيها أرسل الصالح أيوب يطلب جماعة من أعيان الدماشقة اتهموا بممالاة الصالح إسماعيل، منهم القاضي محيي الدين بن الزكي، وبنو صصرى وابن العماد الكاتب، والحليمي مملوك الصالح إسماعيل، والشهاب غازي والي بصرى، فلما وصلوا إلى مصر لم يكن إليهم شئ من العقوبات والاهانة، بل خلع على بعضهم وتركوا باختيارهم مكرمين.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحسين بن الحسين بن علي ابن حمزة العلوي الحسيني، أبو عبد الله الافساسي النقيب قطب الدين، أصله من الكوفة وأقام ببغداد، وولي النقابة، ثم اعتقل بالكوفة، وكان فاضلا أديبا شاعرا مطبقا، أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة رحمه الله.
الشلوبين (1) النحوي هو عمر بن محمد بن عبد الله الازدي، أبو علي الاندلسي الاشبيلي، المعروف بالشلوبين.
وهو بلغة الاندلسيين الابيض الاشقر.
قال ابن خلكان: ختم به أئمة النحو، وكان فيه تغفل، وذكر له شعرا ومصنفات منها شرح الجزولية وكتاب التوطئة.
وأرخ وفاته بهذه السنة.
وقد جاوز الثمانين رحمه الله تعالى وعفا عنه.
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء: الشلوبيني، قال: والشلوبيني نسبة إلى شلوبين وهو حصن منيع من حصون الاندلس من معاملة سواحل غرناطة على بحر الروم.
فقد وهم القاضي ابن خلكان ومن تابعه أن الشلوبين هو الابيض الاشقر.
بلغة أهل الاندلس لعدم وقوفهم على كتاب المغرب في حلى أهل المغرب لابن سعيد المغربي (3 / 177).
(*)

(13/202)


الشيخ علي المعروف بالحريري (1) أصله من قرية بسر شرقي ذرع، وأقام بدمشق مدة يعمل صنعة الحرير، ثم ترك ذلك وأقبل يعمل الفقيري على يد الشيخ علي المغربل، وابتنى له زاوية على الشرف القبلي، وبدرت منه
أفعال أنكرها عليه الفقهاء، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام، والشيخ تقي الدين بن الصلاح، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية وغيرهم، فلما كانت الدولة الاشرفية حبس في قلعة عزتا مدة سنين ثم أطلقه الصالح إسماعيل واشترط عليه أن لا يقيم بدمشق، فلزم بلده بسر مدة حتى كانت وفاته في هذه السنة، قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل: وفي رمضان أيضا توفي الشيخ علي المعروف بالحريري المقيم بقرية بسر في زاويته، وكان يتردد إلى دمشق، وتبعه طائفة من الفقراء وهم المعروفون بأصحاب الحريري أصحاب المنافي للشريعة، وباطنهم شر من ظاهرهم، إلا من رجع إلى الله منهم، وكان عند هذا الحريري من الاستهزاء بأمور الشريعة والتهاون فيها من إظهار شعائر أهل الفسوق والعصيان شئ كثير، وانفسد بسببه جماعة كبيرة من أولاد كبراء دمشق وصاروا على زي أصحابه، وتبعوه بسبب أنه كان خليع العذار، يجمع مجلسه الغنا الدائم والرقص والمردان، وترك الانكار على أحد فيما يفعله، وترك الصلوات وكثرت النفقات، فأضل خلقا كثيرا وأفسد جما غفيرا، ولقد أفتى في قتله مرارا جماعة من علماء الشريعة، ثم أراح الله تعالى منه.
هذا لفظه بحروفه.
واقف العزيه الامير عز الدين أيبك أستاذ دار المعظم، كان من العقلاء الاجواد الامجاد، استنابه المعظم على صرخد وظهرت منه نهضة وكفاية وسداد، ووقف العزيتين الجوانية والبرانية، ولما أخذ منه الصالح أيوب صرخد عوضه عنها وأقام بدمشق ثم وشي عليه بأنه يكاتب الصالح إسماعيل فاحتيط عليه وعلى أمواله وحواصله فمرض وسقط إلى الارض، وقال: هذا آخر عهدي.
ولم يتكلم حتى مات ودفن بباب النصر بمصر رحمه الله تعالى، ثم نقل إلى تربته التي فوق الوراقة.
وإنما أرخ السبط وفاته في سنة سبع وأربعين فالله أعلم.
الشهاب غازي بن العادل صاحب ميافارقين وخلاط وغيرهما من البلدان، كان من عقلاء بني أيوب وفضلائهم، وأهل الديانة منهم، ومما أنشد قوله:
__________
(1) وهو أبو محمد، علي بن منصور الدمشقي مات فجأة يوم الجمعة 26 رمضان وقد نيف على التسعين.
(*)

(13/203)


ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة فيها قدم السلطان الصالح نجم الدين من الديار المصرية إلى دمشق وجهز الجيوش والمجانيق إلى حمص، لانه كان صاحبها الملك الاشرف بن موسى بن المنصور بن أسد الدين قد قايض بها إلى تل باشر لصاحب حلب الناصر يوسف بن العزيز، ولما علمت الحلبيون بخروج الدماشقة برزوا أيضا في جحفل عظيم ليمنعوا حمص منهم، واتفق الشيخ نجم الدين البادزاي (1) مدرس النظامية ببغداد في رسالة فأصلح بين الفريقين، ورد كلا من الفئتين إلى مستقرها ولله الحمد.
وفيها قتل مملوك تركي شاب صبي لسيده علي دفعه عنه لما أراد به من الفاحشة، فصلب الغلام مسمرا، وكان شابا حسنا جدا فتأسف الناس له لكونه صغيرا ومظلوما وحسنا، ونظموا فيه قصائد، وممن نظم فيه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل، وقد أطال قصته جدا، وفيها سقطت قنطرة رومية قديمة البناء بسوق الدقيق من دمشق، عند قصر أم حكيم، فتهدم بسببها شئ كثير من الدور والدكاكين، وكان سقوطها نهارا.
وفي ليلة الاحد الخامس والعشرين من رجب وقع حريق بالمنارة الشرقية فأحرق جميع حشوها، وكانت سلالمها سقالات من خشب، وهلك للناس ودائع كثيرة كانت فيها، وسلم الله الجامع وله الحمد.
وقدم السلطان بعد أيام إلى دمشق فأمر بإعادتها كما كانت، قلت: ثم احترقت وسقطت بالكلية بعد سنة أربعين وسبعمائة وأعيدت عمارتها أحسن مما كانت ولله الحمد.
وبقيت حينئذ المنارة البيضاء الشرقية بدمشق كما نطق به الحديث في نزول عيسى عليه السلام عليها، كما سيأتي بيانه وتقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.
ثم عاد السلطان الصالح أيوب مريضا في محفة إلى الديار المصرية وهو ثقيل مدنف، شغله ما هو فيه عن أمره بقتل أخيه العادل أبي بكر بن الكامل الذي كان صاحب الديار المصرية بعد أبيه، وقد كان سجنه سنة استحوذ على مصر، فلما كان في هذه السنة في شوالها أمر بخنقه فخنق بتربة شمس الدولة، فما عمر بعده إلا إلى النصف من شعبان في العام القابل في أسوأ حال، وأشد مرض،
فسبحان من له الخلق والامر.
وفيها كانت وفاة قاضي القضاة بالديار المصرية:
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب الباذراي، وهو عبد الله بن محمد بن الحسن البغدادي، كان رئيسا للقضاة اعتاد الخليفة بعثه رسولا عنه - النجوم الزهراء 7 / 57.
(*)

(13/204)


فضل الدين الخونجي (1) الحكيم المنطقي البارع في ذلك، وكان مع ذلك جيد السيرة في أحكامه.
قال أبو شامة: أثنى عليه غير واحد.
علي بن يحيى جمال الدين أبو الحسن المحرمي كان شابا فاضلا أديبا شاعرا ماهرا، صنف كتابا مختصرا وجيزا جامعا لفنون كثيرة في الرياضة والعقل وذم الهوى، وسماه نتائج الافكار.
قال فيه من الكلم المستفادة الحكمية: السلطان إمام متبوع، ودين مشروع، فإن ظلم جارت الحكام لظلمه، وإن عدل لم يجر أحد في حكمه، من مكنه الله في أرضه وبلاده وأئتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محله ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدي الامانة، ويخلص الديانة، ويجمل السريرة، ويحسن السيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود، والاجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب الفقر، ويهلك الامم.
وقال أيضا: معارضة الطبيب توجب التعذيب، رب حيلة أنفع من قبيلة، سمين الغضب مهزول، ووالي الغدر معزول، قلوب الحكماء تستشف الاسرار من لمحات الابصار، أرض من أخيك في ولايته بعشر ما كنت تعهده في مودته، التواضع من مصائد الشرف، ما أحسن حسن الظن لولا أن فيه العجز.
ما أقبح سوء الظن لولا أن فيه الحزم.
وذكر في غضون كلامه: أن خادما لعبد الله بن عمر أذنب فأراد ابن عمر أن يعاقبه على ذنبه فقال: يا سيدي أما لك ذنب تخاف من الله فيه ؟ قال: بلى، قال بالذي أمهلك لما أمهلتني، ثم أذنب العبد ثانيا فأراد عقوبته فقال له مثل ذلك فعفا عنه، ثم أذنب الثالثة فعاقبه وهو لا يتكلم فقال له ابن
عمر: ما لك لم تقل مثل ما قلت في الاولتين ؟ فقال: يا سيدي حياء من حلمك مع تكرار جرمي.
فبكى ابن عمر وقال: أنا أحق بالحياء من ربي، أنت حر لوجه الله تعالى.
ومن شعره يمدح الخليفة: يا من إذا بخل السحاب بمائه * هطلت يداه على البرية عسجدا جورت كسرى يا مبخل حاتم * فغدت بنو الآمال نحوك سجدا وقد أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة حسنة رحمه الله تعالى.
__________
(1) وهو محمد بن ناماور بن عبد الملك قاضي القضاة أبو عبد الله الشافعي، مولده في جمادى الاولى سنة 590 مات في رمضان ودفن بسفح المقطم، له: الموجز في المنطق وكتاب أدوار الحميات.
(*)

(13/205)


الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الرويني ثم المصري، العلامة أبو عمرو شيخ المالكية كان أبوه صاحبا (1) للامير عز الدين موسك الصلاحي، واشتغل هو بالعلم فقرأ القراءات وحرر النحو تحريرا بليغا، وتفقه وساد أهل عصره، ثم كان رأسا في علوم كثيرة، منها الاصول والفروع والعربية والتصريف والعروض والتفسير وغير ذلك.
وقد كان استوطن دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة، ودرس بها للمالكية بالجامع حتى كان خروجه بصحبة الشيخ عز الدين بن عبد السلام في سنة ثمان وثلاثين، فصارا إلى الديار المصرية حتى كانت وفاة الشيخ أبي عمرو في هذه السنة بالاسكندرية، ودفن بالمقبرة التي بين المنارة والبلد.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وكان من أذكى الائمة قريحة، وكان ثقة حجة متواضعا عفيفا كثير الحياء منصفا محبا للعلم وأهله، ناشرا له محتملا للاذى صبورا على البلوى، قدم دمشق مرارا آخرها سنة سبع عشرة، فأقام بها مدرسا للمالكية وشيخا للمستفيدين عليه في علمي القراءات والعربية، وكان ركنا من أركان الدين في العلم والعمل، بارعا في العلوم متقنا لمذهب مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا، وذكر أنه جاء إليه في أداء شهادة حين كان نائبا في الحكم بمصر وسأله عن مسألة
اعتراض الشرط على الشرط، إذا قال: إن أكلت إن شربت فأنت طالق، لم كان يقع الطلاق حين شربت أولا ؟ وذكر أنه أجاب عن ذلك في تؤدة وسكون.
قلت ومختصره في الفقه من أحسن المختصرات، انتظم فيه فوائد ابن شاش، ومختصره في أصول الفقه، استوعب فيه عامة فوائد الاحكام لسيف الدين الآمدي، وقد من الله تعالى علي بحفظه وجمعت كراريس في الكلام على ما أودعه فيه من الاحاديث النبوية، ولله الحمد.
وله شرح المفصل والامالي في العربية والمقدمة المشهورة في النحو، اختصر فيها مفصل الزمخشري وشرحها، وقد شرحها غيره أيضا، وله التصريف وشرحه، وله عروض على وزن الشاطبية رحمه الله ورضي عنه.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة
فيها كانت وفاة الملك الصالح أيوب (2)، وقتل ابنه توران شاه (3) وتولية المعز عز الدين أيبك التركماني (4).
وفي رابع المحرم يوم الاثنين توجه الملك الصالح من دمشق إلى الديار المصرية في
__________
(1) في بدائع الزهور 1 / 1 / 277: حاجبا للامير يوشك الصلاحي.
(انظر تاريخ أبي الفداء 3 / 178).
(2) توفي ليلة الاحد ل 14 ليلة مضت من شعبان وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما وكان عمره نحو 44 سنة.
(تاريخ أبي الفداء - بدائع الزهور).
(3) وكان ذلك 9 محرم سنة ثمان وأربعين، (بدائع الزهور 1 / 1 / 285) وقال أبو الفداء في تاريخه: يوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم يعني سنة 648 (3 / 181).
(4) بعد قتل تورانشاه اتفق الامراء والعسكر على تولية شجرة الدر زوجة الملك الصالح أيوب وعلى أن يكون أيبك = (*)

(13/206)


محفة.
قاله ابن السبط.
وكان قد نادى في دمشق: من له عندنا شئ فليأت، فاجتمع خلق كثير بالقلعة، فدفعت إليهم أموالهم وفي عاشر صفر دخل إلى دمشق نائبها الامير جمال الدين بن يغمور من جهة الصالح أيوب فنزل بدرب الشعارين داخل باب الجابية، وفي جمادى الآخرة أمر النائب بتخريب الدكاكين المحدثة وسط باب البريد، وأمر أن لا يبقى فيها دكان سوى ما في جانبيه إلى جانب الخياطين القبلي والشامي، وما في الوسط يهدم.
قال أبو شامة: وقد كان العادل هدم ذلك
ثم أعيد ثم هدمه ابن يغمور، والمرجو استمراره على هذه الصفة.
وفيها توجه الناصر داود من الكرك إلى حلب فأرسل الصالح أيوب إلى نائبه بدمشق جمال الدين بن يغمور بخراب دار أسامة المنسوبة إلى الناصر بدمشق، وبستانه الذي بالقابون، وهو بستان القصر، وأن تقلع أشجاره ويخرب القصر، وتسلم الصالح أيوب الكرك من الامجد حسن بن الناصر، وأخرج من كان بها من بيت المعظم (1)، واستحوذ على حواصلها وأموالها، فكان فيها من الذهب ألف ألف دينار، وأقطع الصالح الامجد هذا إقطاعا جيدا.
وفيها طغى الماء ببغداد حتى أتلف شيئا كثيرا من المحال والدور الشهيرة، وتعذرت الجمع في أكثر الجوامع بسبب ذلك سوى ثلاث جوامع، ونقلت توابيت جماعة من الخلفاء إلى الترب من الرصافة خوفا عليهم من أن تغرق محالهم، منهم المقتصد بن الامير أبي أحمد المتوكل، وذلك بعد دفنه بنيف وخمسين سنة وثلثمائة سنة، وكذا نقل ولده المكتفي وكذا المقتفي بن المقتدر بالله رحمهم الله تعالى.
وفيها هجمت الفرنج على دمياط فهرب من كان فيها من الجند والعامة (2) واستحوذ الفرنج على الثغر وقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين، وذلك في ربيع الاول منها، فنصب السلطان المخيم تجاه العدو بجميع الجيش، وشنق خلقا ممن هرب من الفرنج، ولامهم على ترك المصابرة قليلا ليرهبوا عدو الله وعدوهم، وقوي المرض وتزايد بالسلطان جدا، فلما كانت ليلة النصف من شعبان توفي إلى رحمة الله تعالى بالمنصورة، فأخفت جاريته أم خليل المدعوة شجرة الدر موته، وأظهرت أنه مريض مدنف لا يوصل إليه، وبقيت تعلم عنه بعلامته سواء.
وأعلمت إلى أعيان الامراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا،
__________
= التركماني مدبر المملكة معها.
ثم تنازلت شجرة الدر وتزوجت بأيبك وبويع بالسلطنة له بعد خلع شجرة الدر وذلك يوم السبت آخر ربيع الآخرة سنة 648.
(بدائع الزهور - تاريخ أبي الفداء).
(1) والمعظم عيسى هو ابن الملك الناصر داود، وقد استنابه على الكرك عندما ذهب مستجيرا بصاحب حلب الملك الناصر.
وكان للمعظم أخوان هما الامجد حسن والظاهر شاذي - وهما أكبر منه - وقد غضبا لتقديمه عليهما، فتوجه الامجد حسن إلى الصالح أيوب وهو مريض بالمنصورة وعرض عليه تسليمه الكرك مقابل اعطاءه وأخيه اقطاعا لهما بديار مصر.
وتسلمها الصالح أيوب لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة 647 ه (ابن خلدون - أبي
الفداء).
(2) وخاصة بنو كنانة الذين جعلهم الصالح أيوب على ثغر دمياط لحمايته، وقد هربوا وتركوا أبواب دمياط مفتحة فتملكها الفرنج بغير قتال.
وقد لجأ الصالح أيوب إلى القبض على بني كنانة وأمر بشنقهم فشنقوا عن أخرهم (تاريخ أبي الفداء - بدائع الزهور).
(*)

(13/207)


فأقدموه إليهم سريعا، وذلك بإشارة أكابر الامراء منهم فخر الدين بن الشيخ، فلما قدم عليهم ملكوه عليهم وبايعوه أجمعين، فركب في عصائب الملك وقاتل الفرنج فكسرهم وقتل منهم ثلاثين ألفا ولله الحمد.
وذلك في أول السنة الداخلة.
ثم قتلوه بعد شهرين من ملكه، ضربه بعض الامراء وهو عز الدين أيبك التركماني، فضربه في يده فقطع بعض أصابعه فهرب إلى قصر من خشب في المخيم فحاصروه فيه وأحرقوه عليه، فخرج من بابه مستجيرا برسول الخليفة فلم يقبلوا منه، فهرب إلى النيل فانغمر فيه ثم خرج فقتل سريعا شر قتلة وداسوه بأرجلهم ودفن كالجيفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان فيمن ضربه البند قداري على كتفه فخرج السيف من تحت إبطه الآخر وهو يستغيث فلا يغاث.
وممن قتل في هذه السنة: فخر الدين يوسف بن الشيخ بن حمويه وكان فاضلا دينا مهيبا وقورا خليقا بالملك، كانت الامراء تعظمه جدا، ولو دعاهم إلى مبايعته بعد الصالح لما اختلف عليه اثنان، ولكنه كان لا يرى ذلك حماية لجانب بني أيوب، قتلته الداوية من الفرنج شهيدا قبل قدوم المعظم توران شاه إلى مصر، في ذي القعدة، ونهبت أمواله وحواصله وخيوله، وخربت داره ولم يتركوا شيئا من الافعال الشنيعة البشعة إلا صنعوه به، مع أن الذين تعاطوا ذلك من الامراء كانوا معظمين له غاية التعظيم.
ومن شعره: عصيت هوى نفسي صغيرا فعندما * رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر أطعت الهوى عكس القضية ليتني * خلقت كبيرا ثم عدت إلى الصغر