البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة استهلت وسلطان البلاد الشامية والمصرية الظاهر بيبرس، وعلى الشام نائبه آقوش النجيبي، وقاضي دمشق ابن خلكان والوزير بها عز الدين بن وداعة، وليس للناس خليفة، وإنما تضرب السكة باسم المستنصر الذي قتل.

(13/274)


ذكر خلافة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الامير أبي علي القبي بن الامير علي بن الامير أبي بكر بن الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين أبي منصور الفضل بن الامام المستظهر بالله أحمد العباسي الهاشمي.
لما كان ثاني المحرم وهو يوم الخميس، جلس السلطان الظاهر والامراء في الايوان الكبير بقلعة الجبل، وجاء الخليفة
الحاكم بأمر الله راكبا حتى نزل عند الايوان، وقد بسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه، ثم قرئ نسبه على الناس ثم أقبل عليه الظاهر بيبرس فبايعه وبايعه الناس بعده، وكان يوما مشهودا.
فلما كان يوم الجمعة ثانيه خطب الخليفة بالناس فقال في خطبته " الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا ظهيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء، وأستنصره على دفع الاعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الاقتداء، لا سيما الاربعة، وعلى العباس كاشف غمه أبي السادة الخلفاء وعلى بقية الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أيها الناس اعلموا أن الامامة فرض من فروض الاسلام، والجهاد محتوم على جميع الانام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب الجرائم (1)، فلو شاهدتم أعداء الاسلام لما دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والاموال وقتلوا الرجال والاطفال (2)، وسبوا الصبيان والبنات، وأيتموهم من الآباء والامهات، وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وعلت الصيحات (3) من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه، فشمروا عباد الله عن ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد (واتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [ التغابن: 16 ] فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين.
وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الاجل، العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الامامة عند قلة الانصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، وأصبحت البيعة بهمته (4) منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا، ولا يروعكم ما جرى فالحرب
__________
(1) في الروض الزاهر ص 143: المآثم.
(2) زيد في الروض: والابطال.
(3) في الروض الزاهر: الضجات.
(4) كذا بالاصل ومفرج الكروب 2 / 411، وفي الروض الزاهر: باهتمامه.
(*)

(13/275)


سجال والعاقبة للمتقين، والدهر يومان والاجر للمؤمنين، جمع الله على الهدى (1) أمركم، وأعز بالايمان نصركم، واستغفر الله لي ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ".
ثم خطب الثانية (2) ونزل فصلى.
وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له وضربت السكة باسمه.
قال أبو شامة: فخطب له بجامع دمشق وسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السنة.
وهذا الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، ولم يل الخلافة من بني العباس من ليس والده وجده خليفة بعد السفاح والمنصور سوى هذا، فأما من ليس والده خليفة فكثير منهم المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم، والمعتضد بن طلحة بن المتوكل، والقادر بن إسحاق بن المقتدر، والمقتدي بن الذخيرة بن القائم بأمر الله.
ذكر أخذ الظاهر الكرك وإعدام صاحبها ركب الظاهر من مصر (3) في العساكر المنصورة قاصدا ناحية بلاد الكرك، واستدعى صاحبها الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، فلما قدم عليه بعد جهد أرسله إلى مصر معتقلا فكان آخر العهد به، وذلك أنه كاتب هولاكو وحثه على القدوم إلى الشام مرة أخرى، وجاءته كتب التتار بالثبات ونيابة البلاد، وأنهم قادمون عليه عشرون ألفا لفتح الديار المصرية، وأخرج السلطان فتاوى الفقهاء بقتله وعرض ذلك على ابن خلكان، وكان قد استدعاه من دمشق، وعلى جماعة من الامراء، ثم سار فتسلم الكرك يوم الجمعة ثالث عشر (4) جمادى الاولى ودخلها يومئذ في أبهة الملك، ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا.
وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الظاهر يقول له: قد علمت محبتي للاسلام، وعلمت ما فعل هولاكو بالمسلمين، فاركب أنت من ناحية حتى آتيه أنا من ناحية حتى نصطلمه أو نخرجه من
البلاد وأعطيك جميع ما كان بيده من البلاد، فاستصوب الظاهر هذا الرأي وشكره وخلع على رسله وأكرمهم.
وفيها زلزلت الموصل زلزلة عظيمة وتهدمت أكثر دورها، وفي رمضان جهز الظاهر صناعا وأخشابا وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حريقه فطيف بتلك الاخشاب والآلات بمصر فرحة وتعظيما لشأنها، ثم ساروا بها إلى المدينة النبوية، وفي شوال سار الظاهر إلى
__________
(1) في الروض الزاهر: التقوى.
(2) نص الخطبة الثانية في الروض الزاهر ص 145.
(3) في الروض الزاهر ص 149: في سابع شهر ربيع الآخرة، وفي تاريخ أبي الفداء: حادي عشر ربيع الآخرة.
(4) في تاريخ أبي الفداء والروض الزاهر: سابع وعشرين.
(*)

(13/276)


الاسكندرية (1) فنظر في أحوالها وأمورها، وعزل قاضيها وخطيبها ناصر الدين أحمد بن المنير وولى غيره.
وفيها التقى بركه خان وهولاكو ومع كل واحد جيوش كثيرة فاقتتلوا فهزم الله هولاكو هزيمة فظيعة وقتل أكثر أصحابه وغرق أكثر من بقي وهرب هو في شرذمة يسيرة ولله الحمد.
ولما نظر بركه خان كثرة القتلى قال: يعز علي أن يقتل المغول بعضهم بعضا ولكن كيف الحيلة فيمن غير سنة جنكيز خان ثم أغار بركه خان على بلاد القسطنطينية فصانعه صاحبها وأرسل الظاهر هدايا عظيمة إلى بركه خان، وقد أقام التركي بحلب خليفة آخر لقبه بالحاكم، فلما اجتاز به المستنصر سار معه إلى العراق واتفقا على المصلحة وإنفاذ الحاكم المستنصر لكونه أكبر منه ولله الحمد، ولكن خرج عليهما طائفة من التتار ففرقوا شملهما وقتلوا خلقا ممن كان معهما، وعدم المستنصر وهرب الحاكم مع الاعراب.
وقد كان المستنصر هذا فتح بلدانا كثيرة في مسيره من الشام إلى العراق، ولما قاتله بهادر على شحنة بغداد كسره المستنصر وقتل أكثر أصحابه، ولكن خرج كمين من التتار نجدة فهرب العربان والاكراد الذين كانوا مع المستنصر وثبت هو في طائفة ممن كان معه من الترك فقتل
أكثرهم وفقد هو من بينهم، ونجا الحاكم في طائفة، وكانت الوقعة في أول المحرم من سنة ستين وستمائة، وهذا هو الذي أشبه الحسين بن علي في توغله في أرض العراق مع كثرة جنودها، وكان الاولى له أن يستقر في بلاد الشام حتى تتمهد له الامور ويصفو الحال، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
وجهز السلطان جيشا آخر من دمشق إلى بلاد الفرنج فأغاروا وقتلوا وسبوا ورجعوا سالمين، وطلبت الفرنج منه المصالحة فصالحهم مدة لاشتغاله بحلب وأعمالها، وكان قد عزل في شوال قاضي مصر تاج الدين ابن بنت الاعز وولى عليها برهان الدين الخضر بن الحسين السنجاري، وعزل قاضي دمشق نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين أحمد بن شمس الدين بن هبة الله بن سنى الدولة، وولى عليها شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، وقد ناب في الحكم بالقاهرة مدة طويلة عن بدر الدين السنجاري، وأضاف إليه مع القضاء نظر الاوقاف، والجامع والمارستان، وتدريس سبع مدارس.
العادلية والناصرية والغدراوية والفلكية والركنية والاقبالية والبهنسية، وقرئ تقليده يوم عرفة يوم الجمعة بعد الصلاة بالشباك الكمالي من جامع دمشق، وسافر القاضي المعزول مرسما عليه.
وقد تكلم فيه الشيخ أبو شامة وذكر أنه خان في وديعة ذهب جعلها فلوسا فالله أعلم، وكانت مدة ولايته سنة وأشهرا.
وفي يوم العيد يوم السبت سافر السلطان إلى مصر، وقد كان رسول الاسماعيلية قدم على السلطان بدمشق يتهددونه ويتوعدونه، ويطلبون منه إقطاعات كثيرة، فلم يزل السلطان يوقع بينهم حتى استأصل شأفتهم واستولى على بلادهم.
__________
(1) وكان دخوله إليها يوم الاربعاء مستهل ذي القعدة، من باب رشيد.
(*)

(13/277)


وفي السادس والعشرين من ربيع الاول عمل عزاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس وكان عمل هذا العزاء بقلعة الجبل بمصر، بأمر السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس، وذلك لما بلغهم أن هولاكو ملك التتار قتله، وقد كان في قبضته منذ مدة، فلما بلغ هولاكو أن
أصحابه قد كسروا بعين جالوت طلبه إلى بين يديه وقال له: أنت أرسلت إلى الجيوش بمصر حتى جاؤوا فاقتتلوا مع المغول فكسروهم ثم أمر بقتله، ويقال إنه اعتذر إليه وذكر له أن المصريين كانوا أعداءه وبينه وبينهم شنآن، فأقاله ولكنه انحطت رتبته عنده، وقد كان مكرما في خدمته، وقد وعده أنه إذا ملك مصر استنابه في الشام فلما كانت وقعة حمص في هذه السنة وقتل فيها أصحاب هولاكو مع مقدمهم بيدرة غضب وقال له: أصحابك في العزيزية أمراء أبيك، والناصرية من أصحابك قتلوا أصحابنا، ثم أمر بقتله.
وذكروا في كيفية قتله أنه رماه بالنشاب وهو واقف بين يديه يسأله العفو فلم يعف عنه حتى قتله وقتل أخاه شقيقه الظاهر عليا، وأطلق ولديهما العزيز محمد بن الناصر وزبالة بن الظاهر، وكانا صغيرين من أحسن أشكال بني آدم.
فأما العزيز فإنه مات هناك في أسر التتار، وأما زبالة فإنه سار إلى مصر وكان أحسن من بها، وكانت أمه أم ولد يقال لها وجه القمر، فتزوجها بعض الامراء بعد أستاذها، ويقال إن هولاكو لما أراد قتل الناصر أمر بأربع من الشجر متباعدات بعضها عن بعض، فجمعت رؤوسها بحبال ثم ربط الناصر في الاربعة بأربعته ثم أطلقت الحبال فرجعت كل واحدة إلى مركزها بعضو من أعضائه رحمه الله.
وقد قيل إن ذلك كان في الخامس والعشرين من شوال في سنة ثمان وخمسين، وكان مولده في سنة سبع وعشرين بحلب.
ولما توفي أبوسنة أربع وثلاثين بويع بالسلطنة بحلب وعمره سبع سنين، وقام بتدبير مملكته جماعة من مماليك أبيه، وكان الامر كله عن رأي جدته أم خاتون بنت العادل أبي بكر ابن أيوب، فلما توفيت في سنة أربعين وستمائة استقل الناصر بالملك، وكان جيد السيرة في الرعية محببا إليهم، كثير النفقات، ولا سيما لما ملك دمشق مع حلب وأعمالها وبعلبك وحران وطائفة كبيرة من بلاد الجزيرة، فيقال إن سماطه كان كل يوم يشتمل أربعمائة رأس غنم سوى الدجاج والاوز وأنواع الطير، مطبوخا بأنواع الاطعمة والقلويات غير المشوي والمقلي، وكان مجموع ما يغرم على السماط في كل يوم عشرين ألفا وعامته يخرج من يديه كما هو كأنه لم يؤكل منه شئ، فيباع على باب القلعة بأرخص الاثمان حتى إن كثيرا من أرباب البيوت كانوا لا يطبخون في بيوتهم شيئا من الطرف والاطعمة بل يشترون برخص ما لا يقدرون على مثله إلا بكلفة ونفقة كثيرة، فيشتري
أحدهم بنصف درهم أو بدرهم ما لا يقدر عليه إلا بخسارة كثيرة، ولعله لا يقدر على مثله، وكانت الارزاق كثيرة دارة في زمانه وأيامه، وقد كان خليعا ظريفا حسن الشكل أديبا يقول الشعر المتوسط القوي بالنسبة إليه، وقد أورد له الشيخ قطب الدين في الذيل قطعة صالحة من شعره وهي رائقة لائقة.
قتل ببلاد المشرق ودفن هناك، وقد كان أعد له تربة برباطه الذي بناه بسفح قاسيون

(13/278)


فلم يقدر دفنه بها، والناصرية البرانية بالسفح من أغرب الابنية وأحسنها بنيانا من الموكد المحكم قبلي جامع الافرم، وقد بني بعدها بمدة طويلة، وكذلك الناصرية الجوانية التي بناها داخل باب الفراديس هي من أحسن المدارس، وبني الخان الكبير تجاه الزنجاري وحولت إليه دار الطعم، وقد كانت قبل ذلك غربي القلعة في اصطبل السلطان اليوم رحمه الله.
وفيها توفي من الاعيان: أحمد بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى بن سيد الناس أبو بكر اليعمري الاندلسي الحافظ ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة وسمع الكثير، وحصل كتبا عظيمة، وصنف أشياء حسنة، وختم به الحفاظ في تلك البلاد، توفي بمدينة تونس في سابع عشرين رجب من هذه السنة.
وممن توفي فيها أيضا: عبد الرزاق بن عبد الله ابن أبي بكر بن خلف عز الدين أبو محمد الرسعني (1) المحدث المفسر، سمع الكثير، وحدث وكان من الفضلاء والادباء، له مكانة عند البدر لؤلؤ صاحب الموصل، وكان له منزلة أيضا عند صاحب سنجار، وبها توفي في ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر (2) وقد جاوز السبعين، ومن شعره: نعب الغراب فدلنا بنعيبه * أن الحبيب دنا أوان مغيبه يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم * جدلي بعيش ثم سل عن طيبه
محمد بن أحمد بن عنتر السلمي الدمشقي محتسبها، ومن عدولها وأعيانها، وله بها أملاك وأوقاف، توفي بالقاهرة ودفن بالمقطم.
علم الدين أبو القاسم (3) بن أحمد ابن الموفق بن جعفر المرسي البورقي (4) اللغوي النحوي المقري، شرح الشاطبية شرحا
__________
(1) الرسعني: نسبة إلى رأس عين - الخابور من مدن الجزيرة - قاله الذهبي في العبر.
(2) قال الداودي في طبقات المفسرين 1 / 301: توفي في رجب، وقيل في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة 660 ه.
(3) صحح اسمه في الشذرات: أبو محمد القاسم.
(4) في شذرات الذهب: اللورقي نسبة إلى لورقة بلدة بالاندلس.
(*)

(13/279)


مختصرا، وشرح المفصل في عدة مجلدات، وشرح الجزولية وقد اجتمع بمصنفها وسأله عن بعض مسائلها، وكان ذا فنون عديدة حسن الشكل مليح الوجه له هيئة حسنة وبزة وجمال، وقد سمع الكندي وغيره.
الشيخ أبو بكر الدينوري وهو باني الزاوية بالصالحية، وكان له فيها جماعة مريدون يذكرون الله بأصوات حسنة طيبة رحمه الله.
مولد الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ الاسلام قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وفي هذه السنة ولد شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن أبي القاسم بن تيمية الحراني بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الاول من سنة إحدى وستين وستمائة.
الامير الكبير مجير الدين أبو الهيجاء عيسى بن حثير الازكشي الكردي الاموي، كان من أعيان الامراء وشجعانهم، وله يوم
عين جالوت اليد البيضاء في كسر التتار، ولما دخل الملك المظفر إلى دمشق بعد الوقعة جعله مع الامير علم الدين سنجر الحلبي نائبا على دمشق مستشارا ومشتركا في الرأي والمراسيم والتدبير، وكان يجلس معه في دار العدل وله الاقطاع الكامل والرزق الواسع، إلى أن توفي في هذه السنة.
قال أبو شامة: ووالده الامير حسام الدين توفي في جيش الملك الاشرف ببلاد الشرق هو والامير عماد الدين أحمد بن المشطوب.
قلت وولده الامير عز الدين تولى هذه المدينة أعني دمشق مدة، وكان مشكور السيرة وإليه ينسب درب ابن سنون بالصاغة العتيقة، فيقال درب ابن أبي الهيجاء لانه كان يسكنه وكان يعمل الولاية فيه فعرف به، وبعد موته بقليل كان فيه نزولنا حين قدمنا من حوران وأنا صغير فختمت فيه القرآن، ولله الحمد.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وستمائة استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، والسلطان الظاهر بيبرس، ونائب دمشق الامير جمال الدين آقوش النجيبي وقاضيه ابن خلكان.

(13/280)


وفيها في أولها (1) كملت المدرسة الظاهرية التي بين القصرين، ورتب لتدريس الشافعية بها القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، ولتدريس الحنفية مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر بن العديم، ولمشيخة الحديث بها الشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الحافظ الدمياطي.
وفيها عمر الظاهر بالقدس خانا ووقف عليه أوقافا للنازلين به من إصلاح نعالهم وأكلهم وغير ذلك، وبنى به طاحونا وفرنا.
وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الملك الظاهر ومعهم الاشرف ابن الشهاب غازي بن العادل، ومعهم من الكتب والمشافهات ما فيه سرور للاسلام وأهله مما حل بهولاكو وأهله.
وفي جمادى الآخرة منها درس الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي بدار الحديث الاشرفية، بعد وفاة عماد الدين بن الحرستاني، وحضر عنده القاضي ابن
خلكان وجماعة من القضاة والاعيان، وذكر خطبة كتابه المبعث، وأورد الحديث بسنده ومتنه وذكر فوائد كثيرة مستحسنة، ويقال إنه لم يراجع شيئا حتى ولا درسه ومثله لا يستكثر ذلك عليه والله أعلم.
وفيها قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو، فنظر في الاوقاف وأحوال البلد، وأخذ كتبا كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الذي بناه بمراغة، ثم انحدر إلى واسط والبصرة.
وفيها كانت وفاة:
الملك الاشرف موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد (2) بن أسد الدين شيركوه الكبير، كانوا ملوك حمص كابرا عن كابر إلى هذا الحين، وقد كان من الكرماء الموصوفين، وكبراء الدماشقة المترفين، معتنيا بالمأكل والمشرب والملابس والمراكب وقضاء الشهوات والمآرب وكثرة التنعم بالمغاني والحبائب، ثم ذهب ذلك كأن لم يكن أو كأضغاث أحلام، أو كظل زائل، وبقيت تبعاته وعقوباته وحسابه وعاره.
ولما توفي (3) وجدت له حواصل
__________
(1) في الروض الزاهر: يوم الاحد الخامس من صفر.
(2) كذا بالاصل وتاريخ أبي الفداء، وفي الروض الزاهر ص 186: محمود.
(3) في تاريخ أبي الفداء: مرض واشتد به المرض وتوفي في أواخر هذه السنة (يعني سنة إحدى وستين).
وفي الروض الزاهر: يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة اثنتين وستين.
(*)

(13/281)


من الجواهر النفيسة والاموال الكثيرة، وصار ملكه إلى الدولة الظاهرية، وتوفي معه في هذه السنة الامير حسام الدين الجوكندار نائب حلب (1).
وفيها كانت كسرة التتار على حمص وقتل مقدمهم بيدرة بقضاء الله وقدره الحسن الجميل.
وفيها توفي الرشيد العطار المحدث بمصر (2).
والذي حضر مسخرة الملك الاشرف موسى بن
العادل والتاجر المشهور الحاج نصر بن دس وكان ملازما للصلوات بالجامع، وكان من ذوي اليسار والخير.
الخطيب عماد الدين بن الحرستاني عبد الكريم بن جمال الدين عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني، كان خطيبا بدمشق وناب في الحكم عن أبيه في الدولة الاشرفية، بعد ابن الصلاح إلى أن توفي في دار الخطابة في تاسع عشرين جمادى الاولى، وصلي عليه بالجامع ودفن عند أبيه بقاسيون، وكانت جنازته حافلة، وقد جاوز الثمانين بخمس سنين، وتولى بعده الخطابة والغزالية ولده مجد الدين، وباشر مشيخة دار الحديث الشيخ شهاب الدين أبو شامة.
محيي الدين محمد بن أحمد (3) بن محمد ابن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الحافظ المحدث الانصاري الشاطبي أبو بكر المغربي، عالم فاضل دين أقام بحلب مدة، ثم اجتاز بدمشق قاصدا مصر.
وقد تولى دار الحديث الكاملية بعد زكي الدين عبد العظيم المنذري، وقد كان له سماع جيد ببغداد وغيرها من البلاد، وقد جاوز السبعين.
الشيخ الصالح محمد بن منصور بن يحيى الشيخ أبي القاسم القباري الاسكندراني كان مقيما بغيط له يقتات منه ويعمل فيه ويبدره، ويتورع جدا ويطعم الناس من ثماره.
توفي في سادس شعبان بالاسكندرية وله خمس وسبعون سنة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويردع الولاة عن الظلم فيسمعون منه ويطيعونه لزهده، وإذا جاء الناس إلى زيارته إنما يكلمهم من طاقة المنزل وهم راضون منه بذلك، ومن غريب ما حكي عنه أنه باع دابة له من رجل، فلما كان
__________
(1) قال في العبر: من أكبر أمراء دمشق كان محبا للفقراء توفي في المحرم كهلا (شذرات الذهب 5 / 311).
(2) وهو أبو الحسين، يحيى بن علي بن عبد الله بن علي بن مفرج القرشي الاموي (شذرات الذهب).
(3) سقط من عمود نسبه في الوافي 1 / 208.
(*)

(13/282)


بعد أيام جاء الرجل الذي اشتراها فقال: يا سيدي إن الدابة التي اشتريتها منك لا تأكل عندي شيئا، فنظر إليه الشيخ فقال له: ماذا تعاني من الاسباب ؟ فقال رقاص عند الوالي، فقال له: إن دابتنا لا تأكل الحرام، ودخل منزله فأعطاه دراهم ومعها دراهم كثيرة قد اختلطت بها فلا تميز، فاشترى الناس من الرقاص كل درهم بثلاثة لاجل البركة، وأخذ دابته، ولما توفي ترك من الاساس ما يساوي خمسين درهما فبيع بمبلغ عشرين ألفا.
قال أبو شامة: وفي الرابع والعشرين من ربيع الآخر توفي: محيي الدين عبد الله بن صفي الدين إبراهيم بن مرزوق بداره بدمشق المجاورة للمدرسة النورية رحمه الله تعالى.
قلت: داره هذه هي التي جعلت مدرسة للشافعية وقفها الامير جمال الدين آقوش النجيبي التي يقال لها النجيبية تقبل الله منه.
وبها إقامتنا جعلها الله دارا تعقبها دار القرار في الفوز العظيم.
وقد كان أبو جمال الدين النجيبي وهو صفي الدين وزير الملك الاشرف، وملك من الذهب ستمائة ألف دينار خارجا عن الاملاك والاثاث والبضائع، وكانت وفاة أبيه بمصر سنة تسع وخمسين، ودفن بتربته عند المقطم.
قال أبو شامة: وجاء الخبر من مصر بوفاة الفخر عثمان المصري المعروف بعين غين.
وفي ثامن عشر ذي الحجة توفي الشمس الوبار الموصلي، وكان قد حصل شيئا من علم الادب، وخطب بجامع المزة مدة فأنشدني لنفسه في الشيب وخضابه قوله: وكنت وإياها مذ اختط عارضي * كروحين في جسم وما نقضت عهدا فلما أتاني الشيب يقطع بيننا * توهمته سيفا فألبسته غمدا وفيها استحضر الملك هولاكو خان الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي، وقال له: قد ثبت عندي خيانتك، وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالا على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم، حتى سلطهم الله عليه بأنواع العقوبات والمثلات (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) [ الانعام: 129 ] ومن أعان ظالما سلط عليه، فإن الله ينتقم من الظالم بالظالم ثم ينتقم من الظالمين جميعا، نسأل الله العافية من انتقامه وغضبه وعقابه
وشر عباده.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة
فيها جهز السلطان الظاهر عسكرا جما كثيفا إلى ناحية الفرات لطرد التتار النازلين بالبيرة، فلما سمعوا بالعساكر قد أقبلت ولوا مدبرين، فطابت تلك الناحية وأمنت تلك المعاملة، وقد كانت قبل ذلك لا تسكن من كثرة الفساد والخوف، فعمرت وأمنت.

(13/283)


وفيها خرج الملك الظاهر في عساكره فقصد بلاد الساحل لقتال الفرنج ففتح قيسارية في ثلاث ساعات من يوم الخميس ثامن (1) جمادى الاولى يوم نزوله عليها، وتسلم قلعتها في يوم الخميس الآخر خامس عشره فهدمها وانتقل إلى غيرها، ثم جاء الخبر بأنه فتح مدينة أرسوف وقتل من بها من الفرنج وجاءت البريدية بذلك (2).
فدقت البشائر في بلاد المسلمين وفرحوا بذلك فرحا شديدا.
وفيها ورد خبر من بلاد المغرب بأنهم انتصروا على الفرنج وقتلوا منهم خمسة وأربعين ألفا، وأسروا عشرة آلاف، واسترجعوا منهم ثنتين وأربعين بلدة منها برنس وإشبيلية وقرطبة ومرسية، وكانت النصرة في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثنتين وستين.
وفي رمضان من هذه السنة شرع في تبليط باب البريد من باب الجامع إلى القناة التي عند الدرج وعمل في الصف القبلي منها بركة وشاذروان.
وكان في مكانها قناة من القنوات ينتفع الناس بها عند انقطاع نهر ماناس فغيرت وعمل الشاذروان، ثم غيرت وعمل مكانها دكاكين.
وفيها استدعى الظاهر نائبه على دمشق الامير آقوش، فسار إليه سامعا مطيعا، وناب عنه الامير علم الدين الحصني حتى عاد مكرما معزوزا.
وفيها ولى الظاهر قضاة من بقية المذاهب في مصر مستقلين بالحكم يولون من جهتهم في البلدان أيضا كما يولى الشافعي، فتولى قضاء الشافعية التاج عبد الوهاب ابن بنت الاعز، والحنفية شمس الدين سليمان، والمالكية شمس الدين السبكي، والحنابلة شمس الدين محمد المقدسي، وكان ذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة بدار العدل، وكان سبب ذلك كثرة توقف
القاضي ابن بنت الاعز في أمور تخالف مذهب الشافعي، وتوافق غيره من المذاهب، فأشار الامير جمال الدين أيد غدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضيا مستقلا يحكم بمقتضى مذهبه، فأجابه إلى ذلك، وكان يحب رأيه ومشورته، وبعث بأخشاب ورصاص وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل منبرا فنصب هنالك.
وفيها وقع حريق عظيم ببلاد مصر واتهم النصارى فعاقبهم الملك الظاهر عقوبة عظيمة (3).
وفيها جاءت الاخبار بأن سلطان التتار هولاكو هلك إلى لعنة الله وغضبه في سابع (4) ربيع الآخر بمرض الصرع بمدينة مراغة، ودفن بقلعة تلا وبنيت عليه قبة واجتمعت التتار على ولده
__________
(1) في الروض الزاهر: ص 230: تاسع.
(2) نزل بها مستهل جمادى الآخرة.
(3) قال في بدائع الزهور 1 / 1 / 324: أمر بجمع سائر النصارى من مصر والقاهرة فلما جمعوا أمر بحرقهم، فشفع بهم اقطاي المستعرب فرسم السلطان أن يوردوا إلى الخزائن الشريفة خمسين ألف دينار وأن يصلحوا ما قد فسد من الدور التي احترقت.
(4) في تاريخ أبي الفداء: تاسع عشر، وفي بدائع الزهور ذكر وفاته سنة 661 ه.
(*)

(13/284)


أبغا، فقصده الملك بركه خان فكسره وفرق جموعه، ففرح الملك الظاهر بذلك، وعزم على جمع العساكر ليأخذ بلاد العراق فلم يتمكن من ذلك لتفرق العساكر في الاقطاعات.
وفيها في ثاني عشر (1) شوال سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد محمد بركه خان، وأخذ له البيعة من الامراء وأركبه ومشى الامراء بين يديه، وحمل والده الظاهر الغاشية (2) بنفسه والامير بدر الدين بيسرى حامل الخبز، والقاضي تاج الدين والوزير بهاء الدين بن حنا راكبان وبين يديه، وأعيان الامراء ركبان وبقيتهم مشاة حتى شقوا القاهرة وهم كذلك.
وفي ذي القعدة ختن الظاهر ولده الملك السعيد المذكور، وختن معه جماعة من أولاد الامراء وكان يوما مشهودا (3).
وفيها توفي: خالد بن يوسف بن سعد النابلسي الشيخ زين الدين بن الحافظ شيخ دار الحديث النورية بدمشق، كان عالما بصناعة الحديث حافظا لاسماء الرجال، وقد اشتغل عليه في ذلك الشيخ محيي الدين النواوي وغيره، وتولى بعده مشيخة دار الحديث النورية الشيخ تاج الدين الفزاري، كان الشيخ زين الدين حسن الاخلاق فكه النفس كثير المزاح على طريقة المحدثين، رحل إلى بغداد واشتغل بها، وسمع الحديث وكان فيه خير وصلاح وعبادة، وكانت جنازته حافلة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.
الشيخ أبو القاسم الحواري هو أبو القاسم يوسف بن أبي القاسم بن عبد السلام الاموي الشيخ المشهور صاحب الزاوية بحواري، توفي ببلده، وكان خيرا صالحا له أتباع وأصحاب يحبونه، وله مريدون كثير من قرايا حوران في الجبل والبثنية وهم حنابلة لا يرون الضرب بالدف بل بالكف، وهم أمثل من غيرهم.
القاضي بدر الدين الكردي السنجاري الذي باشر القضاء بمصر مرارا توفي بالقاهرة.
قال أبو شامة: وسيرته معروفة في أخذ الرشا
__________
(1) في الروض الزاهر: يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة 662 (ص 204).
(2) الغاشية: أصل الغاشية السرج أو الغطاء المزركش الذي يوضع على ظهر الفرس فوق البرذعة.
ويقول القلقشندي: وهي غاشية سرج من أديم مخزوزة بالذهب تحمل بين يديه (السلطان) عند الركوب في المواكب الحفلة رافعا على يديه يلفتها يمينا وشمالا (الصبح 4 / 7 والتعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 254).
(3) في الروض الزاهر وابن إياس: تم ذلك في سنة 662.
قال ابن إياس وختن معه من أولاد الناس 1645 ولدا خارجا عن أولاد الامراء وأعيان الناس 1 / 1 / 323.
(*)

(13/285)


من قضاة الاطراف والمتحاكمين إليه، إلا أنه كان جوادا كريما صودر هو وأهله.
ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم العباسي والسلطان الملك الظاهر وقضاة مصر أربعة.
وفيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل مصر عام أول، ونائب الشام آقوش النجيبي، وكان قاضي قضاة الشافعية ابن خلكان، والحنفية شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطا والحنابلة شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر، والمالكية عبد السلام بن الزواوي، وقد امتنع من الولاية فألزم بها حتى قبل ثم عزل نفسه، ثم ألزم بها فقبل بشرط أن لا يباشر أوقافا ولا يأخذ جامكية على أحكامه، وقال: نحن في كفاية فأعفي من ذلك أيضا رحمهم الله.
وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الاول بمصر كما تقدم، واستقرت الاحوال على هذا المنوال.
وفيها كمل عمارة الحوض الذي شرقي قناة باب البريد وعمل له شاذروان وقبة وأنابيب يجري منها الماء إلى جانب الدرج الشمالية.
وفيها نازل الظاهر صفد واستدعى بالمنجانيق من دمشق وأحاط بها ولم يزل حتى افتتحها، ونزل أهلها على حكمه، فتسلم البلد في يوم الجمعة ثامن عشر شوال (1)، وقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقد افتتحها الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب في شوال أيضا في أربع وثمانين وخمسمائة، ثم استعادها الفرنج فانتزعها الظاهر منهم قهرا في هذه السنة ولله الحمد، وكان السلطان الظاهر في نفسه منهم شئ كثير، فلما توجه إلى فتحها طلبوا الامان، فأجلس على سرير مملكته الامير سيف الدين كرمون التتري، وجاءت رسلهم فخلعوه وانصرفوا ولا يشعرون أن الذي أعطاهم العهود بالامان إنما هو الامير الذي أجلسه على السرير والحرب خدعة، فلما خرجت الاسبتارية والداوية من القلعة وقد فعلوا بالمسلمين الافاعيل القبيحة، فأمكن الله منهم فأمر السلطان بضرب رقابهم عن آخرهم، وجاءت البريدية إلى البلاد بذلك، فدقت البشائر وزينت البلاد، ثم بث السرايا يمينا وشمالا في بلاد الفرنج فاستولى المسلمون على حصون كثيرة تقارب عشرين حصنا، وأسروا قريبا من ألف أسير ما بين امرأة وصبي، وغنموا شيئا كثيرا.
وفيها قدم ولد الخليفة المستعصم بن المستنصر من الاسر واسمه علي، فأكرم وأنزل بالدار
الاسدية تجاه العزيزية، وقد كان أسيرا في أيدي التتار، فلما كسرهم بركه خان تخلص من أيديهم وسار إلى دمشق، ولما فتح السلطان صفدا أخبره بعض من كان فيها من أسرى المسلمين أن سبب
__________
(1) في تاريخ أبي الفداء 4 / 3 تاسع عشر شعبان، وفي الروض الزاهر: ص 260: مستهل ثامن عشر شوال.
(*)

(13/286)


أسرهم أن أهل قرية فأرا (1) كانوا يأخذونهم فيحملونهم إلى الفرنج فيبيعونهم منهم، فعند ذلك ركب السلطان قاصدا فأرا (1) فأوقع بهم بأسا شديدا وقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر من أبنائهم ونسائهم أخذا بثأر المسلمين جزاه الله خيرا، ثم أرسل السلطان جيشا هائلا إلى بلاد سيس، فجاسوا خلال الديار وفتحوا سيس عنوة (2) وأسروا ابن ملكها (3) وقتلوا أخاه ونهبوها، وقتلوا أهلها وأخذوا بثأر الاسلام وأهله منهم، وذلك أنهم كانوا أضر شئ على المسلمين زمن التتار، لما أخذوا مدينة حلب وغيرها أسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقا كثيرا، ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الاسلام، هو وأميره كتبغا، وكان أخذ سيس يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وجاءت الاخبار بذلك إلى البلاد وضربت البشائر، وفي الخامس والعشرين من ذي الحجة دخل السلطان وبين يديه ابن صاحب سيس وجماعة من ملوك الارمن أسارى أذلاء صغرة، والعساكر صحبته وكان يوما مشهودا.
ثم سار إلى مصر مؤيدا منصورا، وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده، فقال السلطان لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له سنقر الاشقر، فذهب صاحب سيس إلى ملك التتر فتذلل له وتمسكن وخضع له، حتى أطلقه له، فلما وصل سنقر الاشقر إلى السلطان أطلق ابن صاحب سيس.
وفيها عمر الظاهر الجسر المشهور بين قرارا ودامية، تولى عمارته الامير جمال الدين محمد بن بهادر وبدر الدين محمد بن رحال والي نابلس والاغوار، ولما تم بناؤه اضطرب بعض أركانه فقلق السلطان من ذلك وأمر بتأكيده فلم يستطيعوا من قوة جري الماء حينئذ، فاتفق بإذن الله أن انسالت على النهر أكمة من تلك الناحية، فسكن الماء بمقدار أن أصلحوا ما يريدون، ثم عاد الماء كما كان وذلك بتيسير الله وعونه وعنايته العظيمة.
وفيها توفي من الاعيان: أيد غدي بن عبد الله الامير جمال الدين العزيزي، كان من أكابر الامراء وأحظاهم عند الملك الظاهر، لا يكاد الظاهر يخرج عن رأيه، وهو الذي أشار عليه بولاية القضاة من كل مذهب قاض على سبيل الاستقلال وكان متواضعا لا يلبس محرما، كريما وقورا رئيسا معظما في الدولة، أصابته جراحة في حصار صفد فلم يزل مريضا منها حتى مات ليلة عرفة، ودفن بالرباط الناصري بسفح قاسيون من صلاحية دمشق رحمه الله.
__________
(1) في تاريخ ابي الفداء: قارا، وفي معجم البلدان: قارة: وهي قرية كبيرة على قارعة الطريق وهي المنزل الاول من حمص للقاصد إلى دمشق وهي كانت آخر حدود حمص وما عداها من أعمال دمشق.
وأهلها كلهم نصارى.
(2) أسر الملك ليفون بن هيثوم.
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 325: سلموا المدينة بالامان.
(*)

(13/287)


هولاكو خان بن تولى (1) خان بن جنكيز خان ملك التتار ابن ملك التتار، وهو والد ملوكهم، والعامة يقولون هو لاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكا جبارا فاجرا كفارا لعنه الله، قتل من المسلمين شرقا وغربا ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم وسيجازيه على ذلك شر الجزاء، كان لا يتقيد بدين من الاديان، وإنما كانت زوجته ظفر خاتون قد تنصرت وكانت تفضل النصارى على سائر الخلق، وكان هو يترامى على محبة المعقولات، ولا يتصور منها شيئا، وكان أهلها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة، وإنما كانت همته في تيسير مملكته وتملك البلاد شيئا فشيئا، حتى أباده الله في هذه السنة، وقيل في سنة ثلاث وستين، ودفن في مدينة تلا، لا رحمه الله، وقام في الملك من بعده ولده أبغا خان وكان أبغا أحد إخوة عشرة ذكور.
والله سبحانه أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة
في يوم الاحد ثاني المحرم توجه الملك الظاهر من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته العساكر المنصورة، وقد استولت الدولة الاسلامية على بلاد سيس بكمالها، وعلى كثير من معاقل الفرنج في هذه السنة، وقد أرسل العساكر بين يديه إلى غزة، وعدل هو إلى ناحية الكرك لينظر في أحوالها، فلما كان عند بركة زيزي تصيد هنالك فسقط عن فرسه (2) فانكسرت فخذه، فأقام هناك أياما يتداوى حتى أمكنه أن يركب في المحفة، وسار إلى مصر فبرأت رجله في أثناء الطريق فأمكنه الركوب وحده على الفرس.
ودخل القاهرة في أبهة عظيمة، وتجمل هائل، وقد زينت البلد، واحتفل الناس له احتفالا عظيما، وفرحوا بقدومه وعافيته فرحا كثيرا، ثم في رجب (3) منها رجع من القاهرة إلى صفد، وحفر خندقا حول قلعتها وعمل فيه بنفسه وأمرائه وجيشه وأغار على ناحية عكا، فقتل وأسر وغنم وسلم وضربت لذلك البشائر بدمشق.
وفي ثاني عشر (4) ربيع الاول صلى الظاهر بالجامع الازهر الجمعة , ولم يكن تقام به الجمعة من زمن العبيديين إلى هذا الحين، مع أنه أول مسجد بني بالقاهرة، بناه جوهر القائد وأقام فيه الجمعة، فلما بنى الحاكم جامعه حول الجمعة منه إليه، وترك الازهر لا جمعة فيه فصار في حكم بقية المساجد وشعث حاله وتغيرت أحواله، فأمر السلطان بعمارته وبياضه وإقامة الجمعة وأمر بعمارة جامع الحسينية وكمل في سنة سبع وستين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في تاريخ الذهبي: قولى خان.
(2) وكان ذلك يوم الاحد ثامن المحرم (الروض الزاهر، ص 271).
(3) في الروض الزاهر: في رابع وعشرين رجب.
(4) في الروض ص 277: يوم الجمعة ثامن عشر، وفي السلوك 1 / 556: ثامن عشر ربيع الآخر.
(*)

(13/288)


وفيها أمر الظاهر أن لا يبيت أحد من المجاورين بجامع دمشق فيه وأمر بإخراج الخزائن منه، والمقاصير التي كانت فيه، فكانت قريبا من ثلاثمائة، ووجدوا فيها قوارير البول والفرش والسجاجيد الكثيرة، فاستراح الناس والجامع من ذلك واتسع على المصلين.
وفيها أمر السلطان بعمارة أسوار صفد وقلعتها، وأن يكتب عليها (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون) [ الانبياء: 105 ] (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) [ المجادلة: 22 ].
وفيها التقى أبغا ومنكو تمر الذي قام مقام بركه خان فكسره أبغا وغنم منه شيئا كثيرا.
وحكى ابن خلكان فيما نقل من خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال: بلغنا أن رجلا يدعى أبا سلامة (1) من ناحية بصرى، كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة، فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج - يعني دبره - فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه ثم أخرجه، فمكث بعده تسعة أشهر (2) فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم، ورأسه كرأس السمكة (3)، وله دبر كدبر الارنب.
ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل فرضخت رأسه فمات، وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث، وكان يقول هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان، ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا، ومنهم من رآه بعد موته.
وممن توفي فيها من الاعيان: السلطان بركه (4) خان بن تولى بن جنكيز خان وهو ابن عم هولاكو، وقد أسلم بركه خان هذا، وكان يحب العلماء والصالحين ومن أكبر حسناته كسره لهولاكو وتفريق جنوده، وكان يناصح الملك الظاهر ويعظمه ويكرم رسله إليه، ويطلق لهم شيئا كثيرا، وقد قام في الملك بعده بعض أهل بيته وهو منكوتمر بن طغان بن بابو (5) بن تولى بن جنكيزخان، وكان على طريقته ومنواله ولله الحمد.
__________
(1) في شذرات الذهب نقلا عن ابن خلكان 5 / 317: قرية يقال لها دير أبي سلامة.
كان بها رجل من العربان فيه استهتار.
(2) زيد في رواية الشذرات: وهو يشكو من ألم البطن والمخرج.
(3) زيد في رواية الشذرات: وله أربعة أنياب بارزة وذنب طويل مثل شبر وأربع أصابع..(4) في تاريخ أبي الفداء: بركه بن باطوخان بن دوشي خان بن جنكيزخان.
(5) في تاريخ أبي الفداء: باطو بن دوشي خان بن جنكيزخان.
(*)

(13/289)


قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر ابن بنت الاعز الشافعي، كان دينا عفيفا نزها لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يقبل شفاعة أحد، وجمع له قضاء الديار المصرية بكمالها، والخطابة، والحسبة ومشيخة الشيوخ، ونظر الاجياش، وتدريس الشافعي والصالحية وإمامة الجامع، وكان بيده خمس عشرة (1) وظيفة، وباشر الوزارة في بعض الاوقات، وكان السلطان يعظمه، والوزير ابن حنا يخاف منه كثيرا، وكان يحب أن ينكبه عند السلطان ويضعه فلا يستطيع ذلك، وكان يشتهي أن يأتي داره ولو عائدا، فمرض في بعض الاحيان فجاء القاضي عائدا، فقام إلى تلقيه لوسط الدار، فقال له القاضي: إنما جئنا لعيادتك فإذا أنت سوي صحيح، سلام عليكم، فرجع ولم يجلس عنده.
وكان مولده في سنة أربع وستمائة، وتولى بعده القضاء تقي الدين بن رزين (2).
واقف القيمرية الامير الكبير ناصر الدين أبو المعالي الحسين بن العزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي، كان من أعظم الامراء مكانة عند الملوك، وهو الذي سلم الشام إلى الملك الناصر صاحب حلب، حين قتل توران شاه بن الصالح أيوب بمصر، وهو واقف المدرسة القيمرية عند مأذنة فيروز (3)، وعمل على بابها الساعات التي لم يسبق إلى مثلها، ولا عمل على شكلها، يقال إنه غرم عليها أربعين ألف درهم (4).
الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس أبو محمد وأبو القاسم المقدسي الشيخ الامام العالم الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ المعروف بأبي شامة شيخ دار الحديث
الاشرفية، ومدرس الركنية، وصاحب المصنفات العديدة المفيدة، له اختصار تاريخ دمشق في مجلدات كثيرة، وله شرح الشاطبية، وله الرد إلى الامر الاول، وله في المبعث وفي الاسراء، وكتاب الروضتين في الدولتين النورية والصلاحية، وله الذيل على ذلك، وله غير ذلك من الفوائد
__________
(1) في الاصل: خمسة عشر، وفي بدائع الزهور: أربع عشرة من الوظائف السنية.
(2) في بدائع الزهور: محيي الدين عبد الله بن عز الدولة.
(3) في الوافي 12 / 422: بسوق الخريميين، وفي شذرات الذهب: شرقي جامع بني أمية.
(4) مات مرابطا بالساحل، وعمل عزاؤه بالجامع (جامع دمشق) وكان ذلك يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الاول 665 (الوافي 12 / 442 - ذيل مرآة الزمان 2 / 366).
(*)

(13/290)


الحسان والغرائب التي هي كالعقيان.
ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وذكر لنفسه ترجمة في هذه السنة في الذيل، وذكر مرباه ومنشأه، وطلبه العلم، وسماعه الحديث، وتفقهه على الفخر بن عساكر وابن عبد السلام، والسيف الآمدي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وما رئي له من المنامات الحسنة.
وكان ذا فنون كثيرة، أخبرني علم الدين البرزالي الحافظ عن الشيخ تاج الدين الفزاري، أنه كان يقول: بلغ الشيخ شهاب الدين أبو شامة رتبة الاجتهاد، وقد كان ينظم أشعارا في أوقات، فمنها ما هو مستحلى، ومنها ما لا يستحلى، فالله يغفر لنا وله.
وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، وكانت وفاته بسبب محنة ألبوا عليه، وأرسلوا إليه من اغتاله وهو بمنزل له بطواحين الاشنان، وقد كان اتهم برأي، الظاهر براءته منه، وقد قال جماعة من أهل الحديث وغيرهم: إنه كان مظلوما، ولم يزل يكتب في التاريخ حتى وصل إلى رجب من هذه السنة، فذكر أنه أصيب بمحنة في منزله بطواحين الاشنان، وكان الذين قتلوه جاؤوه قبل فضربوه ليموت فلم يمت، فقيل له: ألا تشتكي عليهم، فلم يفعل وأنشأ يقول: قلت لمن قال: ألا تشتكي * ما قد جرى فهو عظيم جليل
يقيض الله تعالى لنا * من يأخذ الحق ويشفي الغليل إذا توكلنا عليه كفى * فحسبنا الله ونعم الوكيل وكأنهم عادوا إليه مرة ثانية وهو في المنزل المذكور فقتلوه بالكلية في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان رحمه الله.
ودفن من يومه بمقابر دار الفراديس، وباشر بعده مشيخة دار الحديث الاشرفية الشيخ محيي الدين النووي.
وفي هذه السنة كان مولد الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي، وقد ذيل على تاريخ أبي شامة لان مولده في سنة وفاته، فحذا حذوه وسلك نحوه، ورتب ترتيبه وهذب تهذيبه.
وهذا أيضا ممن ينشد في ترجمته: ما زلت تكتب في التاريخ مجتهدا * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا ويناسب أن ينشد هنا: إذا سيد منا خلا قام سيد * قؤول لما قال الكرام فعول ثم دخلت سنة ست وستين وستمائة استهلت هذه السنة والحاكم العباسي خليفة، وسلطان البلاد الملك الظاهر، وفي أول جمادى الآخرة خرج السلطان من الديار المصرية بالعساكر المنصورة، فنزل على مدينة يافا بغتة فأخذها عنوة، وسلم إليه أهلها قلعتها صلحا، فأجلاهم منها إلى عكا وخرب القلعة والمدينة وسار

(13/291)


منها في رجب (1) قاصدا حصن الشقيف، وفي بعض الطريق أخذ من بعض بريدية الفرنج كتابا من أهل عكا إلى أهل الشقيف يعلمونهم قدوم السلطان عليهم، ويأمرونهم بتحصين البلد، والمبادرة إلى إصلاح أماكن يخشى على البلد منها.
ففهم السلطان كيف يأخذ البلد وعرف من أين تؤكل الكتف، واستدعى من فوره رجلا من الفرنج فأمره أن يكتب بدله كتابا على ألسنتهم إلى أهل الشقيف، يحذر الملك من الوزير، والوزير من الملك، ويرمي الخلف بين الدولة.
فوصل إليهم فأوقع الله الخلف بينهم بحوله وقوته، وجاء السلطان فحاصرهم ورماهم بالمنجنيق فسلموه الحصن في التاسع والعشرين (2) من رجب وأجلاهم إلى صور، وبعث بالانفال إلى دمشق، ثم ركب
جريدة فيمن نشط من الجيش فشن الغارة على طرابلس وأعمالها، فنهب وقتل وأرعب وكر راجعا مؤيدا منصورا، فنزل على حصن الاكراد لمحبته في المرج، فحمل إليه أهله من الفرنج الاقامات فأبى أن يقبلها وقال: أنتم قتلتم جنديا من جيشي وأريد ديته مائة ألف دينار، ثم سار فنزل على حمص، ثم منها إلى حماة، ثم إلى فامية ثم سار منزلة أخرى، ثم سار ليلا وتقدم العسكر فلبسوا العدة وساق حتى أحاط بمدينة إنطاكية.
فتح إنطاكية على يد السلطان الملك الظاهر وهي مدينة عظيمة كثيرة الخير، يقال إن دور سورها اثنا عشر ميلا، وعدد بروجها مائة وستة وثلاثون برجا، وعدد شرافاتها أربعة وعشرون ألف شرافة، كان نزوله عليها في مستهل شهر رمضان، فخرج إليه أهلها يطلبون منه الامان، وشرطوا شروطا له عليهم فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها، ففتحها يوم السبت رابع عشر رمضان بحول الله وقوته وتأييده ونصره، وغنم منها شيئا كثيرا، وأطلق للامراء أموالا جزيلة، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقا كثيرا، كل هذا في مقدار أربعة أيام.
وقد كان الاغريس صاحبها وصاحب طرابلس، من أشد الناس أذية للمسلمين، حين ملك التتار حلب وفر الناس منها، فانتقم الله سبحانه منه بمن أقامه للاسلام ناصرا وللصليب دامغا كاسرا، ولله الحمد والمنة، وجاءت البشارة بذلك مع البريدية، فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة، وأرسل أهل بغراس حين سمعوا بقصد السلطان إليهم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يتسلمها، فأرسل إليهم أستاذ داره الامير آقسنقر الفارقاني في ثالث عشر رمضان فتسلمها، وتسلموا حصونا كبيرة وقلاعا كثيرة، وعاد السلطان مؤيدا منصورا، فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة في أبهة عظيمة وهيبة هائلة، وقد زينت له البلد ودقت له البشائر فرحا بنصرة الاسلام على الكفرة
__________
(1) في الروض الزاهر ص 295: في ثاني عشر رجب.
(2) في الروض الزاهر ص 298: يوم الاحد سلخ رجب.
(*)

(13/292)


الطغام، لكنه كان قد عزم على أخذ أراضي كثيرة من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها بزعم أنه قد كانت التتار استحوذوا عليها ثم استنقذها منهم، وقد أفتاه بعض الفقهاء من الحنفية تفريعا على أن الكفار إذا أخذوا شيئا من أموال المسلمين ملكوها، فإذا استرجعت لم ترد إلى أصحابها، وهذه المسألة مشهورة وللناس فيها قولان (أصحها) قول الجمهور أنه يجب ردها إلى أصحابها لحديث العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استرجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أخذها المشركون، استدلوا بهذا وأمثاله على أبي حنيفة، وقال بعض العلماء إذا أخذ الكفار أموال المسلمين وأسلموا وهي في أيديهم استقرت على أملاكهم، واستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام " وهل ترك لنا عقيل من رباع " وقد كان استحوذ على أملاك المسلمين الذين هاجروا وأسلم عقيل وهي في يده، فلم تنتزع من يده، وأما إذا انتزعت من أيديهم قبل، فإنها ترد إلى أربابها لحديث العضباء، والمقصود أن الظاهر عقد مجلسا اجتمع فيه القضاة والفقهاء من سائر المذاهب وتكلموا في ذلك وصمم السلطان على ذلك اعتمادا على ما بيده من الفتاوى، وخاف الناس من غائلة ذلك فتوسط الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين بن احنا، وكان قد درس بالشافعي بعد ابن بنت الاعز، فقال: يا خوند أهل البلد يصالحونك عن ذلك كله بألف ألف درهم، تقسط كل سنة مائتي ألف درهم، فأبى إلا أن تكون معجلة بعد أيام، وخرج متوجها إلى الديار المصرية، وقد أجاب إلى تقسيطها، وجاءت البشارة بذلك، ورسم أن يعجلوا من ذلك أربعمائة ألف درهم، وأن تعاد إليه الغلات التي كانوا قد احتاطوا عليها في زمن القسم والثمار، وكانت هذه الفعلة مما شعثت خواطر الناس على السلطان.
ولما استقر أمر ابغا على التتار أمر باستمرار وزيره نصير الدين الطوسي، واستناب على بلاد الروم البرواناه (1) وارتفع قدره عنده جدا واستقل بتدبير تلك البلاد وعظم شأنه فيها.
وفيها كتب صاحب اليمن إلى الظاهر بالخضوع والانتماء إلى جانبه وأن يخطب له ببلاد اليمن، وأرسل إليه هدايا وتحفا كثيرة، فأرسل إليه السلطان هدايا وخلعا وسنجقا وتقليدا.
وفيها رافع ضياء الدين بن القفاعي للصاحب بهاء الدين بن الحنا عند الظاهر واستظهر عليه
ابن الحنا، فسلمه الظاهر إليه، فلم يزل يضربه بالمقارع ويستخلص أمواله إلى أن مات، فيقال إنه ضربه قبل أن يموت سبعة عشر ألف مقرعة وسبعمائة فالله أعلم.
__________
(1) البرواناه: لفظ فارسي معناه في الاصل الحاجب، وقد أطلق في دولة السلاجقة الروم بآسيا الصغرى على الوزير الاكبر (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 64).
(2) وهو معين الدين سليمان.
(*)

(13/293)


وفيها عمل البرواناه على قتل الملك علاء الدين (1) صاحب قونية وأقام ولده غياث الدين مكانه وهو ابن عشر سنين (2) وتمكن البرواناه في البلاد والعباد وأطاعه جيش الروم.
وفيها قتل الصاحب علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة، منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية حضر ابن الخشكري عنده وأنشده قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب، فقال ابن الخشكري: يا مولانا اسمع شيئا جديدا، وأعرض عن شئ له سنين، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه، ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئا مما قال حتى استعلم ما عنده، فإذا هو زنديق، فلما ركب قال لانسان معه استفرده في أثناء الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه: أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنهم، ثم قال انزعوا عنه ثيابه فسلبوها وهو يخاصمهم، ويقول إنكم أجلاف، وإن هذا لعب بارد، ثم قال: اضربوا عنقه، فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه.
وفيها توفي: الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال شيخ رباط المرزبانية، كان صالحا ورعا زاهدا حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب كيف هذا وفيهم
الاطفال ومن لا ذنب له ؟ فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب فأخذته فقرأته فإذا فيه هذه الابيات فيها الانكار علي: دع الاعتراض فما الامر لك * ولا الحكم في حركات الفلك ولا تسأل الله عن فعله * فمن خاض لجة بحر هلك إليه تصير أمور العباد * دع الاعتراض فما أجهلك وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) وهو قليج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق.
(تاريخ أبي الفداء 4 / 5).
(2) في تاريخ أبي الفداء: أربع سنين.
(*)

(13/294)


الحافظ أبو إبراهيم إسحاق بن عبد الله ابن عمر المعروف بابن قاضي اليمن، عن ثمان وستين سنة (1)، ودفن بالشرف الاعلى، وكان قد تفرد بروايات جيدة وانتفع الناس به.
وفيها ولد الشيخ شرف الدين عبد الله بن تيمية أخو الشيخ تقي الدين بن تيمية، والخطيب القزويني.
ثم دخلت سنة سبع وستين وستمائة
في صفر (2) منها جدد السلطان الظاهر البيعة لولده من بعده الملك السعيد محمد بركه خان، وأحضر الامراء كلهم والقضاة والاعيان وأركبه ومشى بين يديه، وكتب له ابن لقمان تقليدا هائلا بالملك من بعد أبيه، وأن يحكم عنه أيضا في حال حياته، ثم ركب السلطان في عساكره في (3) جمادى الآخرة قاصدا الشام، فلما دخل دمشق جاءته رسل من أبغا ملك التتار معهم مكاتبات ومشافهات، فمن جملة المشافهات: أنت مملوك بعت بسيواس فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الارض ؟ واعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الارض ما تخلصت مني فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان إبغا.
فلم يلتفت إلى ذلك ولا عده شيئا بل أجاب عنه أتم جواب (4)، وقال
لرسله: أعلموه أني من وراءه بالمطالبة ولا أزال حتى أنتزع منه جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة، وسائر أقطار الارض.
وفي جمادى الآخرة رسم السلطان الملك الظاهر بإراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطئ بالبلاد كلها، فنهبت الخواطئ وسلبن جميع ما كان معهن حتى يتزوجن، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وأسقط المكوس التي كانت مرتبة على ذلك، وعوض من كان محالا على ذلك بغيرها ولله الحمد والمنة.
ثم عاد السلطان بعساكره إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق عند خربة اللصوص تعرضت له امرأة فذكرت له أن ولدها دخل مدينة صور، وأن صاحبها الفرنجي غدر به وقتله وأخذ ماله، فركب السلطان وشن الغارة على صور فأخذ منها شيئا كثيرا، وقتل خلقا، فأرسل إليه ملكها ما سبب هذا ؟ فذكر له غدره ومكره بالتجار ثم قال السلطان لمقدم الجيوش: أوهم الناس أني مريض وأني بالمحفة وأحضر الاطباء واستوصف لي منهم ما يصلح لمريض به كذا وكذا، وإذا وصفوا لك فأحضر الاشربة إلى المحفة وأنتم سائرون.
ثم ركب السلطان على البريد وساق مسرعا فكشف أحوال ولده وكيف الامر بالديار المصرية بعده، ثم عاد مسرعا إلى الجيش فجلس في
__________
(1) في شذرات الذهب 5 / 322: كان مولده سنة 606 ه.
(2) يوم الخميس تاسع صفر.
(الروض الزاهر ص 338).
(3) في ثاني عشر منه (الروض الزاهر ص 339).
(4) نسخة كتاب أبغا بن هولاكو وجواب السلطان الظاهر عليه في الروض الزاهر ص 339 وما بعدها.
(*)

(13/295)


المحفة وأظهروا عافيته وتباشروا بذلك.
وهذه جرأة عظيمة، وإقدام هائل.
وفيها حج السلطان الملك الظاهر وفي صحبته الامير بدر الدين الخزندار، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي، وفخر الدين بن لقمان، وتاج الدين بن الاثير ونحو من ثلاثمائة مملوك، وأجناد من الخلقة المنصورة، فسار على طريق الكرك ونظر في أحوالها ثم منها إلى المدينة النبوية، فأحسن إلى أهلها ونظر في أحوالها، ثم منها إلى مكة فتصدق على المجاورين ثم وقف
بعرفة وطاف طواف الافاضة وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده، ثم وقف بباب الكعبة فتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم، ثم رجع فرمى الجمرات ثم تعجل النفر (1) فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام أجمعين إلى يوم الدين.
ثم سار إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين (2) من ذي الحجة، وأرسل البشير إلى دمشق بقدومه سالما، فخرج الامير جمال الدين آقوش النجيبي نائبها ليتلقى البشير في ثاني المحرم، فإذا هو السلطان نفسه يسير في الميدان الاخضر، وقد سبق الجميع، فتعجب الناس من سرعة سيره وصبره وجلده، ثم ساق من فوره حتى دخل حلب في سادس المحرم ليتفقد أحوالها، ثم عاد إلى حماه ثم رجع إلى دمشق ثم سار إلى مصر فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر من السنة المقبلة رحمه الله.
وفي أواخر ذي الحجة هبت ريح شديدة أغرقت مائتي مركب في النيل، وهلك فيها خلق كثير، ووقع هناك مطر شديد جدا، وأصاب الشام من ذلك صاعقة أهلكت الثمار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها أوقع الله تعالى الخلف بين التتار من أصحاب إبغا وأصحاب ابن منكوتمر ابن عمه وتفرقوا واشتغلوا ببعضهم بعضا، ولله الحمد.
وفيها خرج أهل حران منها وقدموا الشام، وكان فيهم شيخنا العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين، وأخوه زين الدين عبد الرحمن وشرف الدين عبد الله، وهما أصغر منه.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير عز الدين أيدمر بن عبد الله الحلبي الصالحي، كان من أكابر الامراء وأحظاهم عند الملوك، ثم عند الملك الظاهر، كايستنيبه إذا غاب، فلما كانت هذه السنة أخذه معه وكانت وفاته بقلعة دمشق، ودفن بتربته
__________
(1) خرج من مكة في ثالث عشر ذي الحجة ووصل المدينة في العشرين من ذي الحجة وخرج باكر النهار الثاني (الروض الزاهر ص 357).
(2) في الروض الزاهر: سلخ ذي الحجة (تاريخ أبي الفداء).
(*)

(13/296)


بالقرب من اليغمورية، وخلف أموالا جزيلة، وأوصى إلى السلطان في أولاده، وحضر السلطان عزاءه بجامع دمشق.
شرف الدين أبو الظاهر محمد بن الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية المصري، ولد سنة عشر وستمائة وسمع أباه وجماعة، وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية مدة، وحدث وكان فاضلا.
القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن وثاب بن رافع البجيلي الحنفي، درس وأفتى عن ابن عطاء بدمشق، ومات بعد خروجه من الحمام على مساطب الحمام فجأة ودفن بقاسيون.
الطبيب الماهر شرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن حيدرة الرحبي شيخ الاطباء بدمشق (1)، ومدرس الدخوارية عن وصية واقفها بذلك وله التقدمة في هذه الصناعة على أقرانه من أهل زمانه، ومن شعره قوله: يساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوة * ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي كأنهم الانعام في جهل بعضها * بمأثم من سفك الدماء على بعض الشيخ نصير الدين المبارك بن يحيى بن أبي الحسن أبي البركات بن الصباغ الشافعي، العلامة في الفقه والحديث، درس وأفتى وصنف وانتفع به، وعمر ثمانين سنة، وكانت وفاته في حادي عشرة جمادى الاولى من هذه السنة، رحمه الله تعالى.
الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الكوفي المقري النحوي الملقب بسيبويه، وكان فاضلا بارعا في صناعة النحو، توفي بمارستان القاهرة في هذه السنة عن سبع وستين سنة رحمه الله.
ومن شعره: عذبت قلبي بهجر منك متصل * يا من هواه ضمير غير منفصل
__________
(1) ذكره صاحب الشذرات في وفيات سنة 668 ه.
(*)

(13/297)


فما زادني غير تأكيد صدك لي * فما عدو لك من عطف إلى بدل وفيها ولد شيخنا العلامة كمال الدين محمد بن علي الانصاري بن الزملكاني شيخ الشافعية.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وستمائة
في ثاني المحرم منها دخل السلطان من الحجاز على الهجن فلم يرع الناس إلا وهو في الميدان الاخضر يسير، ففرح الناس بذلك، وأراح الناس من تلقيه بالهدايا والتحف، وهذه كانت عادته، وقد عجب الناس من سرعة مسيره وعلو همته، ثم سار إلى حلب، ثم سار إلى مصر فدخلها في سادس (1) الشهر مع الركب المصري، وكانت زوجته أم الملك السعيد في الحجاز هذه السنة، ثم خرج في ثالث (2) عشر صفر هو وولده والامراء إلى الاسكندرية فتصيد هنالك، وأطلق للامراء الاموال الكثيرة والخلع، ورجع مؤيدا منصورا.
وفي المحرم منها قتل صاحب مراكش أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف الملقب بالواثق، قتله بنو مرين في حرب كانت بينه وبينهم بالقرب من مراكش.
وفي ثالث عشر (3) ربيع الآخر منها وصل السلطان إلى دمشق في طائفة من جيشه، وقد لقوا في الطريق مشقة كثيرة من البرد والوحل، فخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا يقصد جيش المسلمين، فركب إليه سريعا فوجده قريبا من عكا فدخلها خوفا منه.
وفي رجب تسلم نواب السلطان مصياف من الاسماعيلية، وهرب منها أميرهم الصارم مبارك بن الرضي، فتحيل عليه صاحب حماه حتى أسره وأرسله إلى السلطان فحبسه في بعض الابرجة في القاهرة.
وفيها أرسل السلطان الدرابزينات إلى الحجرة النبوية، وأمر أن تقام حول القبر صيانة له، وعمل لها أبوابا تفتح وتغلق من الديار المصرية، فركب ذلك عليها.
وفيها استفاضت الاخبار بقصد الفرنج بلاد الشام، فجهز السلطان العساكر لقتالهم، وهو مع ذلك مهتم بالاسكندرية خوفا عليها، وقد حصنها وعمل جسورة إليها إن دهمها العدو، وأمر بقتل الكلاب منها.
وفيها انقرضت دولة بني
عبد المؤمن من بلاد المغرب، وكان آخرهم إدريس بن عبد الله بن يوسف صاحب مراكش، قتله بنو مرين في هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) تقدم انه دخلها في ثالث صفر - وانظر الروض وتاريخ أبي الفداء.
(2) في الروض الزاهر ص 360: ثاني عشر، ووصلها في الحادي والعشرين منه ثم عاد منها إلى قلعته بالقاهرة ووصلها في ثامن ربيع الاول.
(3) في الروض: سابع ربيع الآخر.
(*)

(13/298)


الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الله الرفيع ابن زيد بن مالك المصري المعروف بابن الزبيري كان فاضلا رئيسا، وزر للملك المظفر قطز ثم للظاهر بيبرس في أول دولته، ثم عزله وولى بهاء الدين بن الحنا، فلزم منزله حتى أدركته منيته في الرابع عشر من ربيع الآخر من هذه السنة، وله نظم جيد.
الشيخ موفق الدين أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي الطبيب، المعروف بابن أبي أصيبعة، له تاريخ الاطباء في عشر مجلدات لطاف، وهو وقف بمشهد ابن عروة بالاموي، توفي بصرخد وقد جاوز التسعين.
الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم ابن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير، أبو العباس المقدسي النابلسي، تفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد سمع ورحل إلى بلدان شتى، وكان فاضلا يكتب سريعا، حكى الشيخ علم الدين أنه كتب مختصر الخرقي في ليلة واحدة، وخطه حسن قوي، وقد كتب تاريخ ابن عساكر مرتين، واختصره لنفسه أيضا، وأضر في آخر عمره أربع سنين، وله شعر أورد منه قطب الدين في تذييله، توفي بسفح قاسيون وبه دفن في بكرة الثلاثاء عاشر رجب (1)، وقد جاوز التسعين رحمه الله.
القاضي محيي الدين بن الزكي أبو الفضل يحيى بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم ابن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان القرشي الاموي بن الزكي، تولى قضاء دمشق غير مرة، وكذلك آباؤه من قبله، كل قد وليها، وقد سمع الحديث من حنبل وابن طبرزد والكندي وابن الحرستاني وجماعة، وحدث ودرس في مدارس كثيرة، وقد ولي قضاء الشام في الهلاوونية (2) فلم يحمد على ما ذكره أبو شامة، توفي بمصر في الرابع عشر (3) من رجب، ودفن بالمقطم وقد جاوز السبعين.
وله شعر جيد قوي، وحكى الشيخ قطب الدين في ذلك بعد ما نسبه
__________
(1) في الشذرات: يوم الاثنين سابع رجب.
(2) في الشذرات: ولاه هولاكو قضاء الشام.
(3) في العبر: سابع عشر رجب.
(*)

(13/299)


كما ذكرنا عن والده القاضي بهاء الدين أنه كان يذهب إلى تفضيل علي على عثمان موافقة لشيخه محيي الدين بن عربي، ولمنام رآه بجامع دمشق معرضا عنه بسبب ما كان من بني أمية إليه في أيام صفين، فأصبح فنظم في ذلك قصيدة يذكر فيها ميله إلى علي، وإن كان هو أموي: أدين بما دان الوصي ولا أرى * سواه وإن كانت أمية محتدي ولو شهدت صفين خيلي لا عذرت * وشاء بني حرب هنالك مشهدي لكنت أسن البيض عنهم تراضيا * وأمنعهم نيل الخلافة باليد ومن شعره: قالوا ما في جلق نزهة * تسليك عمن أنت به مغرا يا عاذلي دونك في لحظه * سهما وقد عارضه سطرا الصاحب (1) فخر الدين
محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن الحنا المصري، كان وزير الصحبة، وقد كان فاضلا، بنى رباطا بالقرافة الكبرى، ودرس بمدرسة والده بمصر، وبالشافعي بعد ابن بنت الاعز توفي بشعبان ودفن بسفح المقطم، وفوض السلطان وزارة الصحبة لولده تاج الدين.
الشيخ أبو نصر بن أبي الحسن ابن الخراز الصوفي البغدادي الشاعر، له ديوان حسن، وكان جميل المعاشرة حسن المذاكرة، دخل عليه بعض أصحابه فلم يقم له فأنشده قوله: نهض القلب حين أقبلت * إجلالا لما فيه من صحيح الوداد ونهوض القلوب بالود أولى * من نهوض الاجساد للاجساد ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة في مستهل (2) صفر منها ركب السلطان من الديار المصرية في طائفة من العسكر إلى عسقلان
__________
(1) الصاحب: في أصل اللغة اسم للصديق، وهو من ألقاب الوزراء المدنيين اختصوا به دون العسكريين وأول من لقب به من الوزراء كافي الكفاة: اسماعيل بن عماد.
وفي مصر اقتصر استعمال اللقب على الوزراء دون غيرهم.
(التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 212).
(2) في الروض الزاهر: سابع صفر (ص 373).
(*)

(13/300)


فهدم ما بقي من سورها مما كان أهمل في الدولة الصلاحية، ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألفا دينار ففرقهما على الامراء.
وجاءته البشارة وهو هنالك بأن منكوتمر كسر جيش أبغا ففرح بذلك، ثم عاد إلى القاهرة.
وفي ربيع الاول بلغ السلطان أن أهل عكا ضربوا رقاب من في أيديهم من أسرى المسلمين صبرا بظاهر عكا، فأمر بمن كان في يده من أسرى أهل عكا فضربت رقابهم في صبيحة واحدة، وكانوا قريبا من مائتي أسير.
وفيها كمل جامع المنشية وأقيمت فيه الجمعة في الثاني والعشرين من ربيع الآخر.
وفيها جرت حروب يطول ذكرها بين أهل تونس والفرنج، ثم
تصالحوا بعد ذلك على الهدنة (1) ووضع الحرب، بعد ما قتل من الفريقين خلق لا يحصون.
وفي يوم الخميس ثامن رجب دخل الظاهر دمشق وفي صحبته ولده الملك السعيد وابن الحنا الوزير وجمهور الجيش ثم خرجوا متفرقين وتواعدوا أن يلتقوا بالساحل ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية ومرقب وعرقا وما هنالك من البلاد، فلما اجتمعوا فتحوا صافينا والمجدل، ثم ساروا فنزلوا على حصن الاكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر (2) رجب، وله ثلاثة أسوار، فنصبوا المنجنيقات ففتحها قسرا يوم نصف شعبان، فدخل الجيش، وكان الذي يحاصره ولد السلطان الملك السعيد، فأطلق السلطان أهله ومن عليهم وأجلاهم إلى طرابلس، وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح، فأجلى أهلها أيضا وجعل كنيسة البلد جامعا، وأقام فيه الجمعة، وولى فيها نائبا وقاضيا وأمر بعمارة البلد، وبعث صاحب طرسوس بمفاتيح بلده يطلب منه الصلح على أن يكون نصف مغل بلاده للسلطان، وأن يكون له بها نائبا فأجابه إلى ذلك، وكذلك فعل صاحب المرقب فصالحه أيضا على المناصفة ووضع الحرب عشر سنين.
وبلغ السلطان وهو مخيم على حصن الاكراد أن صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفا من السلطان، فأراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة فبعث جيشا كثيفا في اثني عشرة شيني ليأخذوا جزيرة قبرص في غيبة صاحبها عنها، فسارت المراكب مسرعة فلما قاربت المدينة جاءتها ريح قاصف فصدم بعضها بعضا فانكسر فيها أربعة عشر مركبا بإذن الله فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريبا من ألف وثمانمائة إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم سار السلطان فنصب المجانيق على حصن عكا فسأله أهلها الامان على أن يخليهم فأجابهم إلى ذلك، ودخل البلد يوم عيد الفطر فتسلمه، وكان الحصن شديد الضرر على المسلمين، وهو واد بين جبلين، ثم سار السلطان نحو طرابلس فأرسل إليه صاحبها يقول: ما مراد السلطان في هذه الارض ؟ فقال جئت لارعى زروعكم وأخرب بلادكم، ثم أعود إلى حصاركم في العام الآتي.
فأرسل يستعطفه ويطلب منه المصالحة ووضع
__________
(1) في الروض الزاهر ص 374: تم الصلح على أن يقوم " صاحب تونس بما غرموه، ويمدهم بنجدة.
" وبعد اتمام الصلح رحل الفرنج عن تونس في خامس صفر.
(2) في الروض: تاسع رجب، وهو خطأ.
وحصن الاكراد: حصن منيع من جند حمص، تولى حمايته في بادئ الامر جماعة من الاكراد سنة 422 فنسب إليهم وكان يسمى قبل ذلك " حصن السفح ".
(*)

(13/301)


الحرب بينهم عشر سنين فأجابه إلى ذلك، وأرسل إليه الاسماعيلية يستعطفونه على والدهم، وكان مسجونا بالقاهرة، فقال: سلموا إلي العليقة وانزلوا فخذوا إقطاعات بالقاهرة، وتسلموا أباكم.
فلما نزلوا أمر بحبسهم بالقاهرة واستناب بحصن العليقة (1).
وفي يوم الاحد الثاني عشر (2) من شوال جاء سيل عظيم إلى دمشق فأتلف شيئا كثيرا، وغرق بسببه ناس كثير، لا سيما الحجاج من الروم الذين كانوا نزولا بين النهرين، أخذهم السيل وجمالهم وأحمالهم، فهلكوا وغلقت أبواب البلد، ودخل الماء إلى البلد من مراقي السور، ومن باب الفراديس فغرق خان ابن المقدم وأتلف شيئا كثيرا، وكان ذلك في زمن الصيف في أيام المشمش، ودخل السلطان إلى دمشق يوم الاربعاء خامس عشر شوال فعزل القاضي ابن خلكان، وكان له في القضاء عشر سنين، وولى القاضي عز الدين بن الصائغ، وخلع عليه، وكان تقليده قد كتب بظاهر طرابلس بسفارة الوزير ابن الحنا، فسار ابن خلكان في ذي القعدة إلى مصر.
وفي ثاني عشر شوال دخل حصن الكردي شيخ السلطان الملك الظاهر وأصحابه إلى كنيسة اليهود فصلوا فيها وأزالوا ما فيها من شعائر اليهود، ومدوا فيها سماطا وعملوا سماعا، وبقوا على ذلك أياما، ثم أعيدت إلى اليهود، ثم خرج السلطان إلى السواحل فافتتح بعضها وأشرف على عكا وتأملها ثم سار إلى الديار المصرية، وكان مقدار غرمه في هذه المدة وفي الغزوات قريبا من ثمانمائة ألف دينار، وأخلفها الله عليه، وكان وصوله إلى القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة.
وفي اليوم السابع عشر من وصوله أمسك على جماعة من الامراء منهم الحلبي وغيره بلغه أنهم أرادوا مسكه على الشقيف.
وفي اليوم السابع عشر من ذي الحجة أمر بإراقة الخمور من سائر بلاده وتهدد من يعصرها أو يعتصرها بالقتل، وأسقط ضمان ذلك، وكان ذلك بالقاهرة وحدها كل يوم ضمانه ألف دينار،
ثم سارت البرد بذلك إلى الآفاق.
وفيها قبض السلطان على العزيز بن المغيث صاحب الكرك، وعلى جماعة من أصحابه كانوا عزموا على سلطنته.
وممن توفي فيها من الاعيان: الملك تقي الدين عباس بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، وهو آخر من بقي من أولاد العادل، وقد سمع الحديث من الكندي وابن الحرستاني، وكان محترما عند الملوك لا يرفع عليه أحد في المجالس والمواكب، وكان
__________
(1) في اليونيني 2 / 473 وأبو شامة 81: القليعة.
(2) في الروض الزاهر: ص 384: تاسع شوال.
(*)

(13/302)


لين الاخلاق حسن العشرة، لا تمل مجالسته.
توفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة بدرب الريحان، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
قاضي القضاة شرف الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكي المالكي، ولد سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث وتفقه وأفتى بالصلاحية، وولي حسبة القاهرة ثم ولي القضاء سنة ثلاث وستين، لما ولوا من كل مذهب قاضيا، وقد امتنع أشد الامتناع ثم أجاب بعد إكراه بشرط أن لا يأخذ على القضاء جامكية، وكان مشهورا بالعلم والدين، روى عنه القاضي بدر الدين ابن جماعة وغيره توفي لخمس بقين من ذي القعدة.
الطواشي شجاع الدين مرشد المظفري الحموي كان شجاعا بطلا من الابطال الشجعان، وكان له رأي سديد، كان أستاذه لا يخالفه، وكذلك الملك الظاهر، توفي بحماه ودفن بتربته بالقرب من مدرسته بحماه.
ابن سبعين: عبد الحق بن إبراهيم بن محمد ابن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي، نسبة إلى
رقوطة بلدة قريبة من مرسية، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الاوائل والفلسفة، فتولد له من ذلك نوع من الالحاد، وصنف فيه، وكان يعرف السيميا (1)، وكان يلبس بذلك على الاغبياء من الامراء والاغنياء، ويزعم أنه حال من أحوال القوم، وله من المصنفات كتاب البدوي , وكتاب الهو، وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها ابن سمي، وجاور في بعض الاوقات بغار حراء يرتجي فيما ينقل عنه أن يأتيه فيه وحي كما أتى النبي صلى الله عليه وسلم، بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك، وقد كان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم كأنهم الحمير حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضل من طوافهم بالبيت، فالله يحكم فيه وفي أمثاله.
وقد نقلت عنه عظائم من الاقوال والافعال، توفي في الثامن والعشرين من شوال بمكة.
__________
(1) لفظ سيمياء عبراني معرب، أصله سيم يه: ومعناه اسم الله.
وعلم السيمياء يطلق على غير الحقيقي من ال كما هو المشهور.
وحاصله احداث مثاليات خيالية في الجو لا وجود لها في الحس.
وقد يطلق على ايجاد تلك المثالات بصورها في الحس، ويكون صورا في جوهر الهواء، ولهذا يسرع زوالها لسرعة تغير جوهر الهواء، وعدم حفظه ما يقبله زمانا طويلا، لكنه سريع القبول وسريع الزوال لرطوبته.
(مفتاح السعادة لزاده - 1 / 316).
(*)

(13/303)


ثم دخلت سنة سبعين وستمائة من الهجرة استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بالعباسي، وسلطان الاسلام الملك الظاهر.
وفي يوم الاحد الرابع عشر من المحرم ركب السلطان إلى البحر لالتقاء الشواني التي عملت عوضا عما غرق بجزيرة قبرص، وهي أربعون شينيا، فركب في شيني منها ومعه الامير بدر الدين، فمالت بهم فسقط الخزندار في البحر فغاص في الماء فألقى إنسان نفسه وراءه فأخذ بشعره وأنقذه من الغرق، فخلع السلطان على ذلك الرجل وأحسن إليه.
وفي أواخر (1) المحرم ركب السلطان في نفر يسير من الخاصكية، والامراء من الديار المصرية حتى قدم الكرك، واستصحب نائبها معه إلى دمشق، فدخلها في ثاني عشر (2) صفر، ومعه الامير عز الدين أيدمر نائب
الكرك (3)، فولاه نيابة دمشق وعزل عنها جمال الدين آقوش النجيبي في رابع عشر صفر، ثم خرج إلى حماة وعاد بعد عشرة أيام.
وفي ربيع الاول وصلت الجفال من حلب وحماة وحمص إلى دمشق بسبب الخوف من التتار، وجفل خلق كثير من أهل دمشق.
وفي ربيع الآخر وصلت العساكر المصرية إلى حضرة السلطان إلى دمشق فسار بهم منها في سابع الشهر، فاجتاز بحماة واستصحب ملكها المنصور، ثم سار إلى حلب فخيم بالميدان الاخضر بها، وكان سبب ذلك أن عساكر الروم جمعوا نحوا من عشرة آلاف فارس وبعثوا طائفة منهم فأغاروا على عين تاب، ووصلوا إلى نسطون ووقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فلما سمع التتار بوصول السلطان ومعه العساكر المنصورة ارتدوا على أعقابهم راجعين، وكان بلغه أن الفرنج أغاروا على بلاد قاقون ونهبوا طائفة من التركمان، فقبض على الامراء الذين هناك حيث لم يهتموا بحفظ البلاد وعادوا إلى الديار المصرية.
وفي ثالث شعبان أمسك السلطان قاضي الحنابلة بمصر شمس الدين أحمد بن العماد المقدسي، وأخذ ما عنده من الودائع فأخذ زكاتها ورد بعضها إلى أربابها، واعتقله إلى شعبان من سنة ثنتين وسبعين، وكان الذي وشى به رجل من أهل حران يقال له شبيب (4)، ثم تبين للسلطان
__________
(1) في الروض الزاهر ص 391: ليلة سابع وعشرين.
(2) في الروض: ثالث عشر.
(3) تقدم انه مات سنة 667 ه.
وفي الروض الزاهر ص 391: صحبه السلطان معه هذه السنة - يعني انه لا يزال حيا حتى هذه السنة - وقلده نيابة السلطنة بالشام وكتب بتقليد نيابة السلطنة بالكرك إلى عز الدين أيدكين استاذ الدار وقد تسلمها في ثامن صفر، أما أبو الفداء فقال: انه ولى علاء الدين نيابة السلطنة في دمشق وتسلمها في مستهل ربيع الاول.
(4) وهو تقي الدين شبيب بن حمدان بن شبيب الحراني توفي بالقاهرة في ربيع الآخر سنة 695 ه.
وكان سبب الخلاف بينه وبين القاضي أنا أخا لشبيب - الامام نجم الدين أحمد - كان ينوب عن القاضي شمس الدين في المحلة - إحدى = (*)

(13/304)


نزاهة القاضي وبراءته فأعاده إلى منصبه في سنة ثنتين وسبعين، وجاء السلطان في شعبان إلى أراضي عكا فأغار عليها فسأله صاحبها المهادنة فأجابه إلى ذلك فهادنه عشر (1) سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر (1) ساعات، وعاد إلى دمشق فقرئ بدار السعادة كتاب الصلح، واستمر الحال على ذلك ثم عاد السلطان إلى بلاد الاسماعيلية فأخذ عامتها (2).
قال قطب الدين: وفي جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة.
قال وهذا شئ لم يعهد مثله.
وفيها توفي: الشيخ كمال الدين سلار بن حسن بن عمر (3) بن سعيد الاربلي الشافعي، أحد مشايخ المذهب، وقد اشتغل عليه الشيخ محيي الدين النووي، وقد اختصر البحر للروياني في مجلدات عديدة هي عندي بخط يده وكانت الفتيا تدور عليه بدمشق، توفي في عشر السبعين، ودفن بباب الصغير (4)، وكان مفيدا بالبادرائية من أيام الواقف، لم يطلب زيادة على ذلك إلى أن توفي في هذه السنة.
وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب ابن سويد التكريتي التاجر الكبير بين التجار بن سويد ذو الاموال الكثيرة، وكان معظما عند الدولة، ولا سيما عند الملك الظاهر، كان يجله ويكرمه لانه كان قد أسدى إليه جميلا في حال إمرته قبل أن يلي السلطنة، ودفن برباطه وتربته بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون، وكانت كتب الخليفة ترد إليه في كل وقت، وكانت مكاتباته مقبولة عند جميع الملوك، حتى ملوك الفرنج في السواحل.
وفي أيام التتار في أيام هولاكو، وكان كثير الصدقات والبر.
نجم الدين يحيى بن محمد بن عبد الواحد بن اللبودي واقف اللبودية التي عند حمام الفلك المبرر على الاطباء، ولديه فضيلة بمعرفة الطب، وقد
__________
= مدن مصر - فعزله، فحمله تعصبه لاخيه ان كتب رقعة للسلطان وشى بها القاضي.
(ابن رجب ذيل طبقات الحنابلة 2 / 332 المنهل الصافي 1 / 272).
(1) في الاصل: عشر.
وفي تاريخ الظاهر لابن شداد 2 / 3 (رسالة دكتوراه): في ثاني عشري رمضان.
(2) في تاريخ الظاهر لابن شداد 2 / 8: لم يبق خارج عن مملكة السلطان من جميع حصونهم سوى الكهف والقدموس والمينقة لا غير.
(3) في تاريخ الملك الظاهر: عمرو.
(4) في اليونيني 2 / 479: توفي ليلة الخميس 5 جمادى الآخرة بدمشق ودفن من الغد بباب الصغير، وفي تاريخ الظاهر لابن شداد 2 / 13: توفي ليلة الاحد 6 جمادى الآخرة ودفن من يومه...وكان مولده سنة 589 ه.
(*)

(13/305)


ولي نظر الدواوين بدمشق، ودفن بتربته عند اللبودية (1).
الشيخ علي البكاء صاحب الزاوية بالقرب من بلد الخليل عليه السلام، كان مشهورا بالصلاح والعبادة والاطعام لمن اجتاز به من المارة والزوار، وكان الملك المنصور قلاوون يثني عليه ويقول: اجتمعت به وهو أمير وأنه كاشفه في أشياء وقعت جميعها، ومن جملتها أنه سيملك.
نقل ذلك قطب الدين اليونيني، وذكر أن سبب بكائه الكثير أنه صحب رجلا كانت له أحوال وكرامات، وأنه خرج معه من بغداد فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسيرة سنة، وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني، فأشهدني في ذلك الوقت في البلد الفلاني.
قال: فلما كان ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السياق، وقد استدار إلى جهة الشرق فحولته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق فحولته أيضا ففتح عينيه وقال: لا تتعب فإني لا أموت إلا على هذه الجهة، وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم، فقلنا لهم: ما شأنكم ؟ فقالوا كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على الاسلام، فقلنا لهم: خذوا هذا بدله وسلمونا صاحبنا، قال فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وولوا هم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى، نسأل الله حسن الخاتمة.
مات الشيخ علي في رجب من هذه السنة.