البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة في ذي القعدة منها كانت وفاة شيخ الاسلام أبي العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه كما ستأتي ترجمة وفاته في الوفيات إن شاء الله تعالى.
استهلت هذه السنة وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها سوى نائب مصر وقاضي حلب.
وفي يوم الاربعاء ثاني المحرم درس بحلقة صاحب حمص الشيخ الحافظ صلاح الدين العلائي، نزل له عنها شيخنا الحافظ المزي، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والاعيان، وذكر درسا حسنا مفيدا.
وفي يوم الجمعة رابع المحرم حضر قاضي القضاة علاء الدين القونوي مشيخة الشيوخ بالسمساطية عوضا عن القاضي المالكي شرف الدين، وحضر عنده الفقهاء والصوفية على العادة.
وفي يوم الاحد ثامن عشر صفر درس بالمسرورية تقي الدين عبد الرحمن بن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عوضا عن جمال الدين بن الشريشي بحكم انتقاله إلى قضاء حمص، وحضر الناس عنده وترحموا على والده.
وفي يوم الاحد خامس عشرين صفر وصل إلى دمشق الامير الكبير صاحب بلاد الروم تمرتاش ابن جوبان، قاصدا إلى مصر، فخرج نائب السلطنة.
والجيش إلى تلقيه، وهو شاب حسن الصورة تام الشكل مليح الوجه.
ولما انتهى إلى السلطان بمصر أكرمه وأعطاه تقدمة ألف، وفرق أصحابه على الامراء وأكرموا إكراما زائدا، وكان سبب قدومه إلى مصر أن صاحب العراق الملك أبا سعيد (1) كان قد قتل أخاه جواجا رمشتق في شوال من السنة الماضية، فهم والده جوبان بمحاربة السلطان أبي سعيد فلم يتمكن من ذلك (2)، وكان جوبان إذ ذاك مدبر الممالك، فخا ف تمرتاش هذا عند ذلك من السلطان ففر هاربا بدمه إلى السلطان الناصر بمصر.
وفي ربيع الاول توجه نائب الشام سيف الدين تنكز إلى الديار المصرية لزيارة السلطان فأكرمه
واحترمه واشترى في هذه السفرة دار الفلوس التي بالقرب من البزوريين والجوزية، وهي شرقيها، وقد كان سوق البزورية اليوم يسمى سوق القمح، فاشترى هذه الدار وعمرها دارا هائلة ليس
__________
(1) وهو أبو سعيد بهادر بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ولي الحكم نحو عشرين سنة 716 - 736 ه (الدرر الكامنة 2 / 34 معجم زامباور 2 / 362).
__________
(2) ثم قتله صاحب هراة (مختصر أخبار البشر 4 / 96 وفي تذكرة النبيه تم قتله هذه السنة 728 ه).

(14/153)


بدمشق دار أحسن منها، وسماها دار الذهب، وهدم حمام سويد تلقاءها وجعله دار قرآن وحديث في غاية الحسن أيضا، ووقف عليها أماكن ورتب فيها المشايخ والطلبة كما سيأتي تفصيله في موضعه، واجتاز برجوعه من مصر بالقدس الشريف وزاره وأمر ببناء حمام به، وبناء دار حديث أيضا به، وخانقاه كما يأتي بيانه.
وفي آخر ربيع الاول وصلت القناة إلى القدس التي أمر بعمارتها وتجديدها سيف الدين تنكز قطلبك، فقام بعمارتها مع ولاة تلك النواحي، وفرح المسلمون بها ودخلت حتى إلى شط المسجد الاقصى، وعمل به بركة هائلة، وهي مرخمة ما بين الصخرة والاقصى، وكان ابتداء عملها من شوال من السنة الماضية.
وفي هذه المدة عمر سقوف شرافات المسجد الحرام وإيوانه، وعمرت بمكة طهارة مما يلي باب بني شيبة.
قال البرزالي: وفي هذا الشهر كملت عمارة الحمام الذي بسوق باب توما، وله بابان.
وفي ربيع الآخر نقض الترخيم الذي بحائط جامع دمشق القبلي من جهة الغرب مما يلي باب الزيادة، فوجدوا الحائط متجافيا فخيف من أمره، وحضر تنكز بنفسه ومعه القضاة وأرباب الخبرة، فاتفق رأيهم على نقضه وإصلاحه، وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين ربيع الآخر وكتب نائب السلطنة إلى السلطان يعلمه بذلك ويستأذنه في عمارته، فجاء المرسوم بالاذن بذلك، فشرع في نقضه يوم الجمعة خامس عشرين جمادى الاولى، وشرعوا في عمارته يوم الاحد تاسع جمادى الآخرة، وعمل محراب فيما بين الزيادة ومقصورة الخطابة يضاهي محراب الصحابة، ثم جدوا ولازموا في عمارته، وتبرع كثير من الناس بالعمل فيه من سائر الناس، فكان يعمل فيه
كل من مائة رجل، حتى كملت عمارة الجدار وأعيدت طاقاته وسقوفه في العشرين من رجب وذلك بهمة تقي الدين بن مراجل وهذا من العجب فإنه نقض الجدار وما يسامته من السقف، وأعيد في مدة لا يتخيل إلى أحد أن عمله يفرغ فيما يقارب هذه المدة جزما، وساعدهم على سرعة الاعادة حجارة وجدوها في أساس الصومعة الغربية التي عند الغزالية، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة كما في الغربية والشرقية القبلتين منه فأبيدت السماليتين قديما ولم يبق منهما من مدة ألوف من السنين سوى أس هذا المأذنة الغربية الشمالية، فكانت من أكبر العون على إعادة هذا الجدار سريعا.
ومن العجب أن ناظر الجامع ابن مراجل لم ينقص أحدا من أرباب المرتبات على الجامع شيئا مع هذه العمارة.
وفي ليلة السبت خامس جمادى الاولى وقع حريق عظيم بالقرايين واتصل بالرماحين، واحترقت القيسارية والمسجد الذي هناك، وهلك للناس شئ كثير من الفرا والجوخ والاقمشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي يوم الجمعة عاشره بعد الصلاة صلي على القاضي شمس الدين بن الحريري قاضي قضاة الحنفية بمصر، وصلي عليه صلاة الغائب بدمشق.
وفي هذا اليوم قدم البريد يطلب برهان

(14/154)


الدين بن عبد الحق الحنفي إلى مصر ليلي القضاء بها بعد ابن الحريري، فخرج مسافرا إليها، ودخل مصر في خامس عشرين جمادى الاولى، واجتمع بالسلطان فولاه القضاء وأكرمه وخلع عليه وأعطاه بغلة بزناري، وحكم بالمدرسة الصالحية بحضرة القضاة والحجاب، ورسم له بجميع جهات ابن الحريري.
وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين بن تيمية من الكتب والاوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتب والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة.
قال البرزالي: وكانت نحو ستين مجلدا، وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفوقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان رد عليه
التقي ابن الاخنائي المالكي في مسألة الزيارة فرد عليه الشيخ تقي الدين واستجهله وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الاخنائي إلى السلطان وشكاه، فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك وكان ما كان، كما ذكرنا.
وفي أواخره رسم لعلاء الدين بن القلانسي في الدست، مكان أخيه جمال الدين توقيرا لخاطره عن المباشرة، وأن يكون معلومه على قضاء العساكر والوكالة، وخلع عليهما بذلك.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرين رجب رسم للائمة الثلاثة الحنفي والمالكي والحنبلي بالصلاة في الحائط القبلي من الاموي، فعين المحراب الجديد الذي بين الزيادة والمقصورة للامام الحنفي، وعين محراب الصحابة للمالكي وعين محراب مقصورة الخضر الذي كان يصلي فيه المالكي للحنبلي، وعوض إمام محراب الصحابة بالكلاسة، وكان قبل ذلك في حال العمارة قد بلغ محراب الحنفية من المقصورة المعروفة بهم، ومحراب الحنابلة من خلفهم في الرواق الثالث الغربي وكانا بين الاعمدة، فنقلت تلك المحاريب، وعوضوا بالمحاريب المستقرة بالحائط القبلي واستقر الامر كذلك.
وفي العشرين من شعبان مسك الامير تمرتاش بن جوبان الذي أتى هاربا إلى السلطان الناصر بمصر وجماعة من أصحابه، وحبسوا بقلعة مصر، فلما كان ثاني (1) شوال أظهر موته، يقال إنه قتله السلطان وأرسل رأسه إلى أبي سعيد صاحب العراق ابن خربندا ملك التتار.
وفي يوم الاثنين ثاني شوال خرج الركب الشامي وأميره فخر الدين عثمان بن شمس الدين
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 4 / 99: رابع شوال.
وعن سبب قتله قال: أن أبا سعيد كاتب السلطان في أمر تمرتاش بحكم الصلح، إلى جانب أن السلطان قد بلغه عنه انه أخذ أموال أهل بلاد الروم وظلمهم الظلم الفاحش، وحضور أباجي رسول أبي سعيد فبالغ في طلب تمرتاش فاقتضت المصلحة إعدامه، فأعدم بحضور أباجي (وانظر السلوك 2 / 292 النجوم الزاهرة 9 / 272).

(14/155)


لؤلؤ الحلبي أحد أمراء دمشق، وقاضيه قاضي قضاة الحنابلة عز الدين بن التقي سليمان.
وممن
حج الامير حسام الدين الشبمقدار، والامير قبجق والامير حسام الدين بن النجيبي وتقي الدين بن السلعوس وبدر الدين بن الصائغ وابنا جهبل والفخر المصري، والشيخ علم الدين البرزالي، وشهاب الدين الطاهري.
وقبل ذلك بيوم حكم القاضي المنفلوطي الذي كان حاكما ببعلبك بدمشق نيابة عن شيخه قاضي القضاة علاء الدين القونوي، وكان مشكور السيرة، تألم أهل بعلبلك لفقده، فحكم بدمشق عوضا عن القونوي بسبب عزمه على الحج، ثم لما رجع الفخر من الحج عاد إلى الحكم واستمر المنفلوطي يحكم أيضا، فصاروا ثلاث نواب: ابن جملة والفخر المصري والمنفلوطي.
وسافر ابن الحشيشي في ثاني عشرين شوال إلى القاهرة لينوب عن القاضي فخر الدين كاتب المماليك إلى حين رجوعه من الحجاز، فلما وصل ولى حجابة ديوان الجيش، واستمر هناك، واستقل قطب الدين ابن الشيخ السلامية بنظر الجيش بدمشق على عادته.
وفي شوال خلع على أمين الملك بالديار المصرية وولي نظر الدواوين فباشره شهرا ويومين وعزل عنه.

وفاة شيخ الاسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية
قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه: وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي الشيخ الامام العالم العلم العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد القدوة شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن شيخنا الامام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الامام شيخ الاسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوسا بها، وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله، فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلا بالجامع أيضا وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في
الجامع، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلي عليه أولا بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه أولا الشيخ محمد بن تمام، ثم صلي عليه بالجامع الاموي عقيب صلاة الظهر، وقد تضاعف اجتماع الناس على ما تقدم ذكره، ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والازقة والاسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن يصلي عليه على الرؤوس والاصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الاصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل

(14/156)


الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام فيها، لكن كان معظم الزحام من الابواب الاربعة: باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية.
وعظم الامر بسوق الخيل وتضاعف الخلق وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرحمن، فلم قضيت الصلاة حمل إلى مقبرة الصوفية فدفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله، وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأنه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حزرن بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كن على الاسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فما قيل.
وأما الرجال فحرزوا بستين ألفا إلى مائة ألف إلى أكثر من ذلك إلى مائتي ألف وشرب جماع الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهما، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهما.
وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرع
وختمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياما كثيرة ليلا ونهارا يبيتون عنده ويصبحون، ورئيت له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة.
وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الاول بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان والشيخ شمس الدين الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر والشيخ جمال الدين البغدادي والنجيب بن المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان وابن أبي بكر اليهودي والكمال عبد الرحيم والفخر علي وابن شيبان والشرف ابن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث، وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والاثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وقل أن سمع شيئا إلا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم، وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذي كانوا في زمانه وغيره، وكان عالما باختلاف العلماء، عالما في الاصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفا به متقنا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الاصول والفروع، كمل منها جملة وبيضت

(14/157)


وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها، وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن.
وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين، وكتب على تصنيف له هذه الابيات:
ماذا يقول الواصفون له * وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة * هو بيننا (1) أعجوبة الدهر هو آية في الخلق ظاهرة (2) * أنوارها أربت على الفجر وهذا الثناء عليه، وكان عمره يومئذ نحو ستين سنة، وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر، وسماع الحديث والطلب من نحو سنة وله فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الموضع، وهذا الكتاب.
ولما مات كنت غائبا عن دمشق بطريق الحجاز، ثم بلغنا خبر موته بعد وفاته بأكثر من خمسين يوما لما وصلنا إلى تبوك، وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى.
هذا لفظه في هذا الموضع من تاريخه.
ثم ذكر الشيخ علم الدين بعد إيراد هذه الترجمة جنازة أبي بكر بن أبي داود وعظمها، وجنازة الامام أحمد ببغداد وشهرتها، وقال الامام أبو عثمان الصابوني: سمعت أبا عبد الرحمن السيوفي يقول: حضرت جنازة أبي الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدار قطني فلما بلغ إلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: قولوا لاهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، قال ولا شك أن جنازة أحمد ابن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه، والشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها.
هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 187: هو بيت.
__________
(2) في عقد الجمان وفيات سنة 728 ه وشذرات الذهب 6 / 83: هو آية للخلق ظاهرة.

(14/158)


الاديان، فضلا عن أهل الاسلام.
وهذه كانت جنازته.
قال: وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها وتكلم به الحراس على الابرجة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطيب العظيم والامر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجئ منه، حتى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الاسواق شيئا، ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة، وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الامكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والاصحاب والاحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا عنده يبكون ويثنون * على مثل ليلى يقتل المرء نفسه * وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه.
وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر) [ القمر: 55 ] فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبد الله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.
ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت إلى مسجد هناك ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين والاخيار، أهل العلم والايمان، فما فرغ منه حتى امتلات القلعة وضج الناس بالبكا والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثم عطفوا على ثلث الناطفانيين، وذلك أن سويقة باب البريد كانت قد هدمت لتصلح، ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الاموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن
يمينها وشمالها ما لا يحصي عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح هكذا تكون جنائز أئمة السنة فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصا لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة جو الجامع وبرى الازقة والاسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، وقوي خلق الصيام لانهم لا يتفرغون في هذا اليوم لاكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماما، وهو الشيخ علاء الدين الخراط، ثم خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتموا

(14/159)


بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل بعد أن صلى في الجامع إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الاسطحة من هناك إلى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم.
وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دفن عند أخيه قريبا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الصغار والمخدرات، وما علمت أحدا من أهل العلم إلا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثة أنفس: وهم ابن جملة، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، بحيث إنهم علموا متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس، وتردد شيخنا الامام العلامة برهان الدين الفزاري إلى قبره في الايام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكبا على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله.
وعملت له ختمات كثيرة ورئيت له منامات صالحة عجيبة، ورثي بأشعار كثيرة وقصائد مطولة
جدا.
وقد أفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسألخص من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، التي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات التي نصرها بالكتاب والسنة وأفتى بها.
وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطأه أيضا مغفور له كما في صحيح البخاري: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " فهو مأجور.
وقال الامام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.
وفي سادس عشرين ذي القعدة نقل تنكز حواصله وأمواله من دار الذهب داخل باب الفراديس إلى الدار التي أنشأها، تعرف بدار فلوس، فسميت دار الذهب، وعزل خزنداره ناصر الدين محمد ابن عيسى، وولي مكانه مملوكه أباجي.
وفي ثامن عشرين ذي القعدة جاء إلى مدينة عجلون سيل عظيم من أول النهار إلى وقت العصر، فهدم من جامعها وأسواقها ورباعها ودورها شيئا كثيرا، وغرق سبعة نفر، وهلك للناس شئ كثير من الاموال والغلات والامتعة والمواشي ما يقارب قيمته ألف ألف درهم (1) وإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 190: خمسمائة ألف درهم.

(14/160)


وفي يوم الاحد ثامن عشر ذي الحجة ألزم القاضي الشافعي الشيخ علاء الدين القونوي جماعة الشهود بسائر المراكز أن يرسلوا في عمائمهم العذبات ليتميزوا بذلك عن عوام الناس، ففعلوا ذلك أياما ثم تضرروا من ذلك فأرخص لهم في تركها، ومنهم من اشتمر بها.
وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أفرج عن الشيخ الامام العالم العلامة أبي عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية، وكان معتقلا بالقلعة أيضا، من بعد اعتقال الشيخ تقي الدين بأيام من شعبان سنة ست وعشرين إلى هذا الحين، وجاء الخبر بأن السلطان أفرج عن الجاولي والامير فرج بن قراسنقر، ولاجين المنصوري، وأحضروا
بعد العيد بين يديه، وخلع عليهم.
وفيه وصل الخبر بموت الامير الكبير جوبان نائب السلطان أبي سعيد على تلك البلاد، ووفاة قراسنقر المنصوري أيضا كلاهما في القعدة من هذه السنة.
وجوبان هذا هو الذي ساق القناة الواصلة إلى المسجد الحرام، وقد غرم عليها أموالا جزيلة كثيرة، وله تربة بالمدينة النبوية، ومدرسة مشهورة، وله أثار حسنة، وكان جيد الاسلام له همه عالية وقد دبر الممالك في أيام أبي سعيد مدة طويلة على السداد، ثم أراد أبو سعيد مسكه فتخلص من ذلك كما ذكرنا، ثم إن أبا سعيد قتل ابنه خواجا رمشق في السنة الماضية ففر ابنه الآخر تمرتاش هاربا إلى سلطان مصر، فآواه شهرا ثم ترددت الرسل بين الملكين في قتله فقتله صاحب مصر فيما قيل وأرسل برأسه إليه، ثم توفي أبوه بعده بقليل، والله أعلم بالسرائر.
وإما قراسنقر المنصوري فهو من جماعة كبار أمراء مصر والشام، وكان من جملة من قتل الاشرف خليل بن المنصور كما تقدم، ثم ولي نيابة مصر مدة، ثم صار إلى نيابة دمشق ثم إلى نيابة حلب، ثم فر إلى التتر هو الافرم والزركاشي فآواهم ملك التتار خربندا وأكرمهم وأقطعهم بلادا كثيرة، وتزوج قراسنقر بنت هولاكو ثم كانت وفاته بمراغة (1) بلده التي كان حاكما بها في هذه السنة، وله نحو تسعين (2) سنة والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان شيخ الاسلام العلامة تقي الدين بن تيمية كما تقدم ذكر ذلك في الحوادث وسنفرد له ترجمة على حدة إن شاء الله تعالى.
الشريف العالم عز الدين عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن العلوي الحسيني العراقي الاسكندري الشافعي، سمع الكثير وحفظ الوجيز في الفقه، والايضاح في النحو، وكان زاهدا متقللا من الدنيا وبلغ تسعين سنة وعقله وعلمه وذهنه ثابت متيقظ، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وتوفي يوم الجمعة خامس المحرم، ودفن بالاسكندرية بين المادين رحمه الله.
__________
(1) مراغة: بلدة مشهور وعظيمة، من أشهر بلاد أذربيجان (تقويم البلدان لابي الفداء ص 399).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 183: سبعين.

(14/161)


الشمس محمد بن عيسى التكريدي كانت فيه شهامه وحزامه، وكان يكون بين يدي الشيخ تقي الدين بن تيمية كالمنفذ لما يأمر به وينهى عنه.
ويرسله الامراء وغير هم في الامور المهمة، وله معرفة وفهم بتبليغ رسالته على أتم الوجوه توفي في الخامس صفر بالقبيبات ودفن عند الجامع الكريمي رحمه الله تعالى.
الشيخ أبو بكر الصالحالي أبو بكر بن شرف بن محسن بن معن بن عمان الصالحي، ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وسمع الكثير صحبة الشيخ تقي الدين بن تيمية والمزي، كان ممن يحب الشيخ تقي الدين، وكان معهما كالخادم لهما، وكان فقيرا ذا عيال يتناول من الزكاة والصدقات ما يقوم بأوده، وأقام في آخر عمره بحمص، وكان فصيحا مفوها، له تعاليق وتصانيف في الاصول وغيرها، وكان له عبادة وفيه خير وصلاح، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة الجمعة إلى العصر من حفظه، وقد اجتمعت بأمره صحبة شيخنا المزي حين قدم من حمص فكان قوي العبارة فصيحها متوسطا بالعلم، له ميل إلى التصوف والكلام في الاحوال والاعمال والقلوب وغير ذلك، وكان يكثر ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية.
توفي بحمص في الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة، وقد كان الشيخ يحض الناس على الاحسان إليه، وكان يعطيه ويرفده.
ابن الدواليبي البغدادي الشيخ الصالح العالم العابد الرحلة المسند المعمر عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسين (1) بن عبد الغفار البغدادي الارجي الحنبلي المعروف بابن الدواليبي، شيخ دار الحديث المستنصرية (2)، ولد في ربيع الاول سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الكثير، وله إجازات عالية، واشتغل بحفظ الخرقي، وكان فاضلا في النحو وغيره، وله شعر حسن، وكان رجلا صالحا جاوز التسعين وصار رحلة العراق، وتوفي يوم الخميس رابع جمادى الاولى ودفن بمقبرة الامام أحمد مقابر الشهداء رحمه الله، وقد أجازني فيمن أجاز من مشايخ بغداد ولله الحمد.
قاضي القضاة شمس الدين ابن الحريري أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي عمرو عثمان بن أبي الحسن عبد الوهاب الانصاري
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 184 وشذرات الذهب 6 / 88: أبي الحسن.
__________
(2) المدرسة المستنصرية ببغداد، أنشأها الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر المنصور المتوفى سنة 640 ه ووقفها على المذاهب الاربعة، وهي أول مدرسة في الدولة الاسلامية تدرس المذاهب الاربعة (شذرات الذهب 6 / 209) وقد بدأ بتشييدها سنة 625 وانتهى من بنائها سنة 631 ه.

(14/162)


الحنفي، ولد سنة ثلاث وخمسين، وسمع الحديث واشتغل وقرأ الهداية، وكان فقيها جيدا، ودرس بأماكن كثيرة (1) بدمشق، ثم ولي القضاء بها، ثم خطب إلى قضاء الديار المصرية فاستمر بها مدة طويلة محفوظ العرض، لا يقبل من أحد هدية ولا تأخذه في الحكم لومة لائم، وكان يقول إن لم يكن ابن تيمية شيخ الاسلام فمن ؟ وقال لبعض أصحابه: أتحب الشيخ تقي الدين ؟ قال: نعم، قال: والله لقد أحببت شيئا مليحا.
توفي رحمه الله يوم السبت رابع جمادى الآخرة ودفن بالقرافة، وكان قد عين لمنصبه القاضي برهان الدين بن عبد الحق فنفذت وصيته بذلك، وأرسل إليه إلى دمشق فأحضر فباشر الحكم بعده وجميع جهاته.
الشيخ الامام العالم المقري شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام تقي الدين محمد بن جبارة بن عبد الولي بن جبارة المقدسي المرداوي الحنبلي، شارح الشاطبية، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وعني بفن القراءات فبرز فيه، وانتفع الناس به، وقد أقام بمصر مدة واشتغل بها على الفزاري في أصول الفقه، وتوفي بالقدس رابع رجب رحمه الله، كان يعد من الصلحاء الاخيار، سمع عن خطيب مردا وغيره.
ابن العاقولي البغدادي الشيخ الامام العلامة جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن حماد بن تائب (2)
لواسطي العاقولي ثم البغدادي الشافعي، مدر س المستنصرية مدة طويلة نحوا من أربعين سنة، وباشر نظر الاوقاف وعين لقضاء القضاة في وقت.
ولد ليلة الاحد عاشر رجب سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وسمع الحديث وبرع واشتغل وأفتى من سنة سبع وخمسين إلى أن مات، وذلك مدة إحدى وسبعين سنة، وهذا شئ غريب جدا، وكان قوي النفس له وجاهة في الدولة، فكم كشف كربة عن الناس بسعيه وقصده، توفي ليلة الاربعاء رابع عشرين شوال، وقد جاوز التسعين سنة، ودفن بداره، وكان قد وقفها على شيخ وعشرة صبيان يسمعون القرآن ويحفظونه، ووقف عليها أملاكه كلها.
تقبل الله منه ورحمه، ودرس بعده بالمستنصرية قاضي القضاة قطب الدين.
الشيخ الصالح شمس الدين السلامي شمس الدين محمد بن داود بن محمد بن ساب، السلامي البغدادي، أحد ذوي اليسار،
__________
(1) درس بالصادرية والظاهرية والخاتونية الجوانية والبرانية (تذكرة النبيه 2 / 182).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 188: ثابت.

(14/163)


وله بر تام بأهل العلم، ولا سيما أصحاب الشيخ تقي الدين، وقد وقف كتبا كثيرة، وحج مرات، وتوفي ليلة الاحد رابع عشرين ذي القعدة بعد وفاة الشيخ تقي الدين بأربعة أيام، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة ودفن باب الصغير رحمه الله وأكرم مثواه.
وفي هذه الليلة توفيت الوالدة مريم بنت فرج بن علي بن قرية كان الوالد خطيبها، وهي مجيدل القرية سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وصلي عليها بعد الجمعة ودفنت بالصوفية شرقي قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهما الله تعالى.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وسبعمائة استهلت والخليفه والحكام هم المباشرون في التي قبلها، غير أن قطب الدين ابن الشيخ السلامية اشتغل بنظر الجيش.
وفي المحرم طلب القاضي محيي الدين بن فضل الله كاتب سر دمشق وولده شهاب الدين، وشرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى مصر على
البريد، فباشر القاضي الصدر الكبير محيي الدين المذكور كتابة السر بها عوضا عن علاء الدين بن الاثير لمرض اعتراه، وأقام عنده ولده شهاب الدين، وأقبل شرف الدين الشهاب محمود إلى دمشق على كتابة السر عوضا عن ابن فضل الله.
وفيه ذهب ناصر الدين مشد الاوقاف ناظرا على القدس والخليل، فعمر هنالك عمارات كثيرة لملك الامراء تنكز، وفتح في الاقصى شباكين عن يمين المحراب وشماله وجاء الامير نجم الدين داود بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن يوسف بن الزيبق من شد الدواوين بحمص إلى شدها بدمشق.
وفي الحادي والعشرين من صفر كمل ترخيم الحائط القبلي من جامع دمشق وبسط الجامه جميعه، وصلى الناس الجمعة به من الغد، وفتح باب الزيادة، وكان له أياما مغلقا وذلك في مباشرة تقي الدين بن مراجل.
وفي ربيع الآخر قدم من مصر أولاد الامير شمس الدين قراسنقر إلى دمشق فسكنوا في دار أبيهم داخل باب الفراديس، في دهليز المقدمية، وأعيدت عليهم أملاكهم المخلفة عن أبيهم، وكانت تحت الحوطة، فلما مات في تلك البلاد أفرج عنها أو أكثرها.
وفي يوم الجمعة آخر شهر ربيع الآخر أنزل الامير جوبان وولده من قلعة المدينة النبوية وهما ميتان مصبران في توابيتهما، فصلي عليهما بالمسجد النبوي، ثم دفنا بالبقيع عن مرسوم السلطان، وكان مراد جوبان أن يدفن في مدرسته فلم يمكن من ذلك.
وفي هذا اليوم صلي بالمدينة النبوية على الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وعلى القاضي نجم الدين البالسي المصري صلاة الغائب.
وفي يوم الاثنين منتصف جمادى الآخرة درس القاضي شهاب الدين أحمد بن جهبل بالمدرسة البادرائية عوضا عن شيخنا برهان الدين الفزاري توفي إلى رحمة الله تعالى، وأخذ مشيخة دار الحديث منه الحافظ شمس الدين الذهبي، وحضرها في يوم

(14/164)


الاربعاء سابع عشره، ونزل عن خطابة بطنا للشيخ جمال الدين الملاتي المالكي، فخطب بها يوم الجمعة تاسع عشره.
وفي أواخر هذا الشهر قدم نائب حلب الامير سيف الدين أرغون إلى دمشق قاصدا باب السلطان، فتلقاه نائب دمشق وأنزله بداره التي عند جامعه، ثم سار نحو مصر فغاب
نحوا من أربعين يوما، ثم عاد راجعا إلى نيابة حلب.
وفي عاشر رجب طلب الصاحب تقي الدين ابن عمر بن الوزير شمس الدين بن السلعوس إلى مصر فولي نظر الدواوين بها حتى مات عن قريب.
وخرج الركب يوم السبت تاسع شوال وأميره سيف الدين بلطي، وقاضيه شهاب الدين القيمري وفي الحجاج زوجة ملك الامراء تنكز، وفي خدمتها الطواشي شبل الدولة وصدر الدين المالكي، وصلاح الدين ابن أخي الصاحب تقي الدين توبة، وأخوه شرف الدين، والشيخ علي المغربي، والشيخ عبد الله الضرير وجماعة.
وفي بكرة الاربعاء ثالث شوال جلس القاضي ضياء الدين علي بن سليم بن ربيعة للحكم بالعادلية الكبيرة نيابة عن قاضي القضاة القونوي، وعوضا عن الفخر المصري بحكم نزوله عن ذلك وإعراضه عنه تاسع عشر رمضان من هذه السنة.
وفي يوم الجمعة سادس ذي القعدة بعد أذان الجمعة صعد إلى منبر جامع الحكم بمصر شخص من مماليك الجاولي يقال له أرصى، فادعى أنه المهدي وسجع سجعات يسيرة على رأي الكهان، فأنزل في شرخيبة، وذلك قبل حضور الخطيب بالجامع المذكور.
وفي ذي القعدة وما قبله وما بعده من أواخر هذه السنة وأوائل الاخرى وسعت الطرقات والاسواق داخل دمشق وخارجها، مثل سوق السلاح والرصيف والسوق الكبير وباب البريد ومسجد القصب إلى الزنجبيلية (1)، وخارج باب الجابية إلى مسجد الدبان، وغير ذلك من الاماكن التي كانت تضيق عن سلوك الناس، وذلك بأمر تنكز، وأمر بإصلاح القنوات، واستراح الناس من ترتيش الماء عليهم بالنجاسات.
ثم في العشر الاخير من ذي الحجة رسم بقتل الكلاب فقتل منه شئ كثير جدا، ثم جمعوا خارج باب الصغير مما يلي باب كيسان في الخندق، وفرق بين الذكور منهم والاناث ليموتوا سريعا، ولا يتوالدوا، وكانت الجيف والميتات تنقل إليهم فاستراح الناس من النجاسة من الماء والكلاب، وتوسعت لهم الطرقات.
وفي يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة حضر مشيخة الشيوخ بالسمساطية قاضي القضاة شرف الدين المالكي بعد وفاة قاضي القضاة القونوي الشافعي، وقرئ تقليده بالسبحة بها وحضره
الاعيان وأعيد إلى ما كان عليه.
__________
(1) المدرسة الزنجبيلية (الزنجيلية) هي المدرسة الزنجارية، أنشأها الامير عثمان بن علي الزنجيلي (الزنجبيلي) المتوفى سنة 626 ه.
(الدارس 1 / 526).

(14/165)


وممن توفي فيها من الاعيان: الامام العالم نجم الدين نجم الدين أبو عبد الله محمد بن عقيل بن أبي الحسن بن عقيل البالسي الشافعي، شارح التنبيه (1)، ولد سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه وغيره من فنون العلم، فبرع فيها ولازم ابن دقيق العيد وناب عنه في الحكم، ودرس بالمغربية والطيبرسية وجامع مصر، وكان مشهورا بالفضيلة والديانة وملازمة الاشتغال.
توفي ليلة الخميس رابع عشر المحرم ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة، رحمه الله.
الامير سيف الدين قطلوبك التشنكير الرومي كان من أكابر الامراء وولي الحجوبية في وقت، وهو الذي عمر القناة بالقدس، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الاول ودفن بتربته شمال باب الفراديس، وهي مشهورة حسنة، وحضر جنازته بسوق الخيل النائب والامراء.
محدث اليمن شرف الدين أحمد بن فقيه زبيد أبي الحسين بن منصور الشماخي المذحجي، روى عن المكيين وغيرهم، وبلغت شيوخه خمسمائة أو أزيد، وكان رحلة تلك البلاد ومفيدها الخير، وكان فاضلا في صناعة الحديث والفقه وغير ذلك، توفي في ربيع الاول من هذه السنة.
نجم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الواحد أبو محمد بن المسلم أحد رؤساء دمشق المشهورين، له بيت كبير ونسب عريق، ورياسة باذخة وكرم زائد، باشر نظر الايتام مدة،
وسمع الكثير وحدث، وكان لديه فضائل وفوائد، وله الثروة الكثيرة، وله سنة تسع وأربعين وستمائة، ومات يوم الاثنين ضحوة خامس ربيع الآخر، وصلي عليه بعد الظهر بالاموي، ودفن بسفح قاسيون بتربة أعدها لنفسه، وقبران عنده، وكتب على قبره (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) الآية [ الزمر: 53 ]، وسمعنا عليه الموطأ وغيره.
__________
(1) وهو كتاب التنبيه في فروع الشافعية للشيخ أبي إسحاق ابراهيم بن علي الفقيه الشافعي المتوفى سنة 476 ه (كشف الظنون 1 / 489).

(14/166)


الامير بكتمر الحاجب صاحب الحمام المشهور خارج باب النصر في طريق مقابر الصوفية من ناحية الميدان، كانت وفاته بالقاهرة في عشرين ربيع الآخر، ودفن بمدرسته التي أنشأها إلى جانب داره هناك.
الشيخ شرف الدين عيسى بن محمد بن قراجا بن سليمان السهروردي الصوفي الواعظ، له شعر ومعرفة بالالحان والانغام، ومن شعره قوله: بشراك يا سعد هذا الحي قد بانا * فحلها سيبطل الابل والبانا (1) منازل ما وردنا طيب منزلها * حتى شربنا كؤوس الموت أحيانا متنا غراما وشوقا في المسير لها * فمنذوا في نسيم القرب أحيانا توفي في ربيع الآخر.
شيخنا العلامة برهان الدين الفزاري هو الشيخ الامام العالم العلامة شيخ المذهب وعلمه ومفيد أهله، شيخ الاسلام مفتي الفرق بقية السلف برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ تاج الدين أبي محمد عبد الرحمن ابن الشيخ الامام المقري المفتي برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري المصري الشافعي، ولد في ربيع الاول سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على أبيه وأعاد
في حلقته وبرع وساد أقرانه، وسائر أهل زمانه من أهل مذهبه في دارية المذهب ونقله وتحريره، ثم كان في منصب أبيه في التدريس بالبادرائية، وأشغل الطلبة بالجامع الاموي فانتفع به المسلمون، وقد عرضت عليه المناصب الكبار فأباها، فمن ذلك أنه باشر الخطابة بعد عمه العلامة شرف الدين مدة ثم تركها وعاد إلى البادرائية، وعرض عليه قضاء قضاة الشام بعد ابن صصرى وألح نائب الشام عليه بنفسه وأعوانه من الدولة فلم يقبل، وصمم وامتنع أشد الامتناع، وكان مقبلا على شأنه عارفا بزمانه مستغرقا أوقاته في الاشتغال والعبادة ليلا ونهارا، كثير المطالعة وإسماع الحديث، وقد سمعنا عليه صحيح مسلم وغيره، وكان يدرس بالمدرسة المذكورة، وله تعليق كثير على التنبيه، فيه من الفوائد ما ليس يوجد في غيره، وله تعليق على مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وله مصنفات في غير ذلك كبار.
وبالجملة فلم أر شافعيا من مشايخنا مثله، وكان حسن الشكل عليه البهاء والجلالة والوقار، حسن الاخلاق، فيه حدة ثم يعود قريبا، وكرمه زائد
__________
(1) كذا بالاصل، العجز غير مستقيم الوزن.

(14/167)


وإحسانه إلى الطلبة كثير، وكان لا يقتني شيئا ويصرف مرتبه وجامكية مدرسته في مصالحه، وقد درس بالادرائية من سنة سبعين وستمائة إلى عامه هذا، توفي بكرة يوم الجمعة سابع جمادى الاولى بالمدرسة المذكورة، وصلي عليه عقب الجمعة بالجامع وحملت جنازته على الرؤوس وأطراف الانامل، وكانت حافلة، ودفن عند أبيه وعمه وذويه بباب الصغير رحمه الله تعالى.
الشيخ الامام العالم الزاهد الورع مجد الدين إسماعيل الحراني الحنبلي، ولد سنة ثمان (1) وأربعين وستمائة، وقرأ القراءات وسمع الحديث في دمشق حين انتقل مع أهله إليها سنة إحدى وسبعين، واشتغل على الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، ولازمه وانتفع به، وبرع في الفقه وصحة النقل وكثرة الصمت عما لا يعنيه، ولم يزل مواظبا على جهاته ووظائفه لا ينقطع عنها إلا من عذر شرعي، إلى أن توفي ليلة الاحد تاسع جمادى الاولى ودفن بباب الصغير رحمه الله.
وفي هذا الحين توفي:
الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الله (2) الذي كان ناظر الدواوين بحلب، ثم انتقل إلى نظرها بطرابلس.
توفي بحماة، وكان محبا للعلماء وأهل الخير، وفيه كرم وإحسان، وهو والد القاضي ناصر الدين كاتب السر بدمشق، وقاضي العساكر الحلبية ومشيخة الشيوخ بالسمساطية، ومدرس الاسدية بحلب، والناصرية والشامية الجوانية بدمشق.
القاضي معين الدين هبة الله بن علم الدين مسعود بن أبي المعالي عبد الله بن أبي الفضل بن الخشيشي (3) الكاتب وناظر الجيش بمصر في بعض الاحيان، ثم بدمشق مدة طويلة مستقلا ومشاركا لقطب الدين ابن شيخ السلامية، وكان خبيرا بذلك يحفظه على ذهنه، وكانت له يد جيدة في العربية والادب والحساب وله نظم جيد، وفيه تردد وتواضع.
توفي بمصر (4) في نصف جمادى الآخرة ودفن بتربة الفخر كاتب المماليك.
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 89: سنة خمس أو ست وأربعين وستمائة.
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 196 ورد اسمه: يعقوب بن عبد الكريم المصري.
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 197 وشذرات الذهب 6 / 92: ابن حشيش.
__________
(4) في تذكرة النبيه 2 / 197: بالقاهرة، ومولده سنة 666 ه.

(14/168)


قاضي القضاة علاء الدين القونوي علاء الدين القونوي، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي التبريزي الشافعي ولد بمدينة قونية في سنة ثمان وستين وستمائة تقريبا واشتغل هناك، وقدم دمشق سنة ثلاث وتسعين، وهو معدود من الفضلاء فازداد بها اشتغالا، وسمع الحديث وتصدر للاشتغال بجامعها ودرس بالاقبالية ثم سافر إلى مصر فدرس بها في عدة مدارس كبار، وولي مسيخة الشيوخ بها وبدمشق، ولم يزل يشتغل بها وينفع الطلبة إلى أن قدم دمشق قاضيا عليها في سنة سبع وعشرين،
وله تصانيف في الفقه وغيره، وكان يحرز علوما كثيرة منها النحو والتصريف والاصلان والفقه، وله معرفة جيدة بكشاف الزمخشري، وفهم الحديث، وفيه إنصاف كثير وأوصاف حسنة، وتعظيم لاهل العلم، وخرجت له مشيخة سمعناها عليه، وكان يتواضع لشيخنا المزي كثيرا، توفي ببستانه بالسهم يوم سبت بعد العصر رابع عشر ذي القعدة، وصلي عليه من الغد، ودفن بسفح قاسيون سامحه الله.
الامير حسام الدين لاجين المنصور الحسامي ويعرف بلاجين الصغير، ولي البر بدمشق مدة، ثم نيابة غزة ثم نيابة البيرة، وبها مات في ذي القعدة، ودفن هناك، وكان ابنتى تربة لزوجته ظاهر باب شرقي فلم يتفق دفنه بها (وما تدري نفس بأي أرض تموت) [ لقمان: 34 ].
الصاحب عز الدين أبو يعلى حمزة بن مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن عز الدين أبي غالب المظفر ابن الوزير مؤيد الدين أبي المعالي بن أسعد بن العميد أبي يعلى بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، أحد رؤساء دمشق الكبار، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الحديث من جماعة، ورواه وسمعنا عليه، وله رياسة باذخة وأصالة كثيرة وأملاك هائلة كافية لما يحتاج إليه من أمور الدنيا ولم يزل معه صناعة للوظائف إلى أن ألزم بوكالة بيت السلطان ثم بالوزارة في سنة عشر كما تقدم، ثم عزل، وقد صودر في بعض الاحيان، وكانت له مكارم على الخواص والكبار، وله إحسان إلى الفقراء والمحتاجين.
ولم يزل معظما وجيها عند الدولة من النواب والملوك والامراء وغيرهم إلى أن توفي ببستانه ليلة السبت سادس الحجة، وصلي عليه من الغد ودفن بتربته بسفح قاسيون، وله في الاملحية رباط حسن بمأذنة، وفيه دار حديث وبر وصدقة رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثلاثون وسبعمائة استهلت بالاربعاء والحكام بالبلاد هم المذكورون بالتي قبلها سوى الشافعي فإنه توفي وولي

(14/169)


مكانه في رابع المحرم منها علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السبكي الاخنائي الشافعي وقدم دمشق في الرابع والعشرين منه صحبة نائب السلطنة تنكز، وقد زار القدس وحضر معه تدريس التنكزية التي أنشأها بها.
ولما قدم دمشق نزل بالعادلية الكبيرة على العادة، ودرس بها وبالغزالية، واستمر نيابة المنفلوطي، ثم استناب زين الدين بن المرحل، وفي صفر باشر شرف الدين محمود بن الخطيري شد الاوقاف وانفصل عنها نجم الدين بن الزيبق إلى ولاية نابلس.
وفي ربيع الآخر شرع بترخيم الجانب الشرقي من الاموي نسبة الجانب الغربي، وشاور ابن مراجل النائب والقاضي على جمع الفصوص من سائر الجامع في الحائط القبلي، فرسما له بذلك.
وفي يوم.
الجمعة أقيمت الجمعة في إيوان الشافعية بالمدرسة الصالحية بمصر، وكان الذي أنشأها ذلك الامير جمال الدين نائب الكرك، بعد أن استفتى العلماء في ذلك.
وفي ربيع الآخر تولى القضاء بحلب شمس الدين بن النقيب (1) عوضا عن فخر الدين بن البارزي (2)، توفي، وولي شمس الدين بن مجد البعلبكي قضاء طرابلس عوضا عن ابن النقيب.
وفي آخر جمادى الاولى باشر نيابة الحكم عن الاخنائي محيي الدين بن جميل عوضا عن المنفلوطي توفي وفي هذا الشهر وقف الامير الوزير علاء الدين مغلطاي الناصري مدرسة على الحنفية وفيها صوفية أيضا، ودرس بها القاضي علاء الدين بن التركماني، وسكنها الفقهاء.
وفي جمادى الآخرة زينت البلاد المصرية والشامية ودقت البشائر بسبب عافية السلطان من وقعة انصدعت منها يده، وخلع على الامراء والاطباء بمصر، وأطلقت الحبوس.
وفي جمادى الآخرة قدم على السلطان رسل من الفرنج (3) يطلبون منه بعض البلاد الساحلية فقال لهم: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، ثم سيرهم إلى بلادهم خاسئين.
وفي يوم الاحد سادس رجب حضر الدرس الذي أنشأه القاضي فخر الدين كاتب المماليك على الحنفية بمحرابهم بجامع دمشق، ودرس به الشيخ شهاب الدين ابن قاضي الحصين، أخو قاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق بالديار المصرية، وحضر عنده القضاة والاعيان، وانصرفوا من عنده إلى عند ابن أخيه صلاح الدين بالجوهرية، ودرس بها عوضا عن حموه شمس
الدين بن الزكي نزل له عنها وفي آخر رجب خطب بالجامع الذي أنشأها الامير سيف الدين
__________
(1) وهو قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ بدر الدين أبي بكر بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن نجدة بن حمدان النقيب المتوفى سنة 745 ه.
__________
(2) وهو أبو عمرو عثمان بن كمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن ابراهيم بن هبة الله بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، توفي فجأة بعد وضوئه لصلاة العصر في صفر، وكان مولده سنة 668 ه.
__________
(3) وهم رسل فيليب السادس ملك فرنسا، وقد بلغ عددهم 120 رجلا، وطالبوا السلطان ناصر محمد بتسليم القدس وسواحل الشام (انظر السلوك 2 / 2 / 319).

(14/170)


ألماس (1) الحاجب ظاهر القاهرة بالشارع، وخطب بالجامع الذي أنشأه قوصون (2) بين جامع طولون والصالحية، يوم الجمعة حادي عشر رمضان وحضر السلطان وأعيان الامراء الخطبة، خطب به يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني الشافعي، وخلع عليه خلعة سنية، واستقل في خطابته بدر الدين بن شكري.
وخرج الركب الشامي يوم السبت حادي عشر شوال وأميره سيف الدين المرساوي صهر بلبان البيري، وقاضيه شهاب الدين ابن المجد عبد الله مدرس الاقبالية، ثم تولى قضاء القضاة كما سيأتي، وممن حج في هذه السنة رضي الدين بن المنطيقي، والشمس الاردبيلي شيخ الجاروخية (3) (*) وصفي الدين بن الحريري، وشمس الدين ابن خطيب بيروذ، والشيخ محمد النيرباني وغيرهم، فلما قضوا مناسكهم رجعوا إلى مكة لطوا ف الوداع، فبينما هم في سماع الخطبة إذ سمعوا جلبة الخيل من بني حسن وعبيدهم، قد حطموا على الناس في المسجد الحرام، فثار إلى قتالهم الاتراك فاقتتلوا فقتل أمير من الطبلخانات بمصر، يقال له سيف الدين جخدار وابنه خليل، ومملوك له، وأمير عشيرة يقال له الباجي، وجماعة من الرجال والنساء ونهبت أموال كثيرة، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وتهارب الناس إلى منازلهم بأبيار الزاهر، وما كادوا يصلون إليها وما أكملت الجمعة إلا بعد جهد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واجتمعت الامراء كلهم على الرجعة
إلى مكة للاخذ بالثأر منهم، ثم كروا راجعين وتبعهم العبيد حتى وصلوا إلى مخيم الحجيج، وكادوا ينهبون الناس عامة جهرة، وصار أهل البيت في آخر الزمان يصدون الناس عن المسجد الحرام، وبنو الاتراك هم الذين ينصرون الاسلام وأهله ويكفون الاذية عنهم بأنفسهم وأموالهم، كما قال تعالى (إن أولياؤه إلا المتقون) [ الانفال: 34 ].
وممن توفي فيها من الاعيان: علاء الدين بن الاثير كاتب السر بمصر، علي بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الاثير الحلبي الاصل، ثم المصري، كانت له حرمة ووجاهة وأموال وثروة ومكانة عند السلطان، حتى ضربه الفالج في آخر عمره فانعزل عن الوظيفة وباشرها ابن فضل الله في حياته.
__________
(1) في الاصل، الماشي، وهو ألماس بن عبد الله الحاجب الناصري، الامير سيف الدين، قتل سنة 734 ه كما في السلوك 2 / 365 والدرر 1 / 438 وفي درة الاسلاك ص 279 ذكر انه توفي سنة 733، وعن جامع ألماس انظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 307).
__________
(2) هو قوصون بن عبد الله الناصري الساقي، الامير سيف الدين، قتل في الحبس بالاسكندرية سنة 742 (النجوم الزاهرة 10 / 75 وعن جامعه انظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 307).
__________
(3) في الاصل، الجاروضية وقد تقدمت الاشارة إليها

(14/171)


الوزير العالم أبو القاسم محمد بن محمد بن سهل بن محمد بن سهل الازدي الغرناطي الاندلسي، من بيت الرياسة والحشمة ببلاد المغرب، قدم علينا إلى دمشق في جمادى الاولى سنة أربع وعشرين، وهو بعزم الحج، سمعت بقراءته صحيح مسلم في تسعة مجالس على الشيخ نجم الدين بن العسقلاني.
قراءة صحيحة، ثم كانت وفاته في القاهرة في ثاني عشرين المحرم، وكانت له فضائل كثيرة في الفقه والنحو والتاريخ والاصول، وكان عالي الهمة شريف النفس محترما ببلاده جدا، بحيث إنه
يولي الملوك ويعزلهم، ولم يل هو مباشرة شئ ولا أهل بيته، وإنما كان يلقب بالوزير مجازا.
شيخنا الصالح العباد الناسك الخاشع شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح العابد شرف الدين أبي الحسن بن حسين ابن غيلان البعلبكي الحنبلي، إمام مسجد السلالين بدار البطيخ العتيقة، سمع الحديث وأسمعه، وكان يقرئ القرآن طرفي النهار، وعليه ختمت القرآن في سنة أحد عشر وسبعمائة، وكان من الصالحين الكبار، والعباد الاخيار، توفي يوم السبت سادس صفر وصلي عليه بالجامع ودفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة.
وفي هذا الشهر - أعني صفر - كانت وفاة والي القاهرة القديدار وله آثار غريبة ومشهورة.
بهادرآص الامير الكبير رأس ميمنة الشام، سيف الدين بهادرآص المنصوري أكبر أمراء دمشق، وممن طال عمره في الحشمة والثروة، وهو ممن اجتمعت فيه الآية الكريمة (زين للناس حب الشهوات من النساء) الآية [ آل عمران: 14 ]، وقد كان محببا إلى العامة، وله بر وصدقة وإحسان، توفي ليلة الثلاثاء ودفن بتربته خارج الجابية، وهي مشهورة أيضا.
الحجار ابن الشحنة الشيخ الكبير المسند المعمر الرحلة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن بن علي بن بيان الدير مقرني ثم الصالحي الحجار المعروف بابن الشحنة، سمع البخاري على الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة بقاسيون، وإنما ظهر سماعه سنة ست وسبعمائة ففرح بذلك المحدثون وأكثروا السماع عليه، فقرئ البخاري عليه نحوا من ستين (1) مرة وغيره، وسمعنا
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 200: سبعين مرة.

(14/172)


عليه بدار الحديث الاشرفية في أيام الشتويات نحوا من خمسمائة جزء بالاجازات والسماع، وسماعه من الزبيدي وابن اللتي، وله إجازة من بغداد فيها مائة وثمانية وثلاثون شيخا من العوالي
المسندين، وقد مكث مدة مقدم الحجارين نحوا من خمس وعشرين سنة، ثم كان يخيط في آخر عمره، واستقرت عليه جامكيته لما اشتغل بإسماع الحديث، وقد سمع عليه السلطان الملك الناصر، وخلع عليه وألبسه الخلعة بيده، وسمع عليه من أهل الديار المصرية والشامية أمم لا يحصون كثيرا، وانتفع الناس بذلك، وكان شيخا حسنا بهي المنظر سليم الصدر ممتعا بحواسه وقواه، فإنه عاش مائة سنة محققا، وزاد عليها، لانه سمع البخاري من الزبيدي في سنة ثلاثين وستمائة وأسمعه هو في ثلاثين وسبعمائة في تاسع صفر بجامع دمشق، وسمعنا عليه يومئذ ولله الحمد، ويقال إنه أدرك موت المعظم عيسى بن العادل لما توفي، والناس يسمعهم يقولون مات المعظم، وقد كانت وفاة المعظم في سنة أربع وعشرين وستمائة، وتوفي الحجار يوم الاثنين خامس عشرين صفر من هذه السنة، وصلي عليه بالمظفري يوم الثلاثاء ودفن بتربة له عند زاوية الدومي، بجوار جامع الافرم.
وكانت جنازته حافلة رحمه الله.
الشيخ نجم الدين بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن أبي نصر المحصل المعروف بابن الشحام، اشتغل ببلده ثم سافر وأقام بمدينة سراي من مملكة إربل، ثم قدم دمشق في سنة أربع وعشرين فدرس بالظاهرية البرانية ثم بالجاروخية، وأضيف إليه مشيخة رباط القصر، ثم نزل عن ذلك لزوج ابنته نور الدين الاردبيلي، توفي في ربيع الاول وكان يعرف طرفا من الفقه والطب.
الشيخ إبراهيم الهدمة أصله كردي من بلاد المشرق، فقدم الشام، وأقام بين القدس والخليل، في أرض كانت مواتا فأحياها وغرسها وزرع فيها أنواعا، وكان يقصد للزيارة، ويحكي الناس عنه كرامات صالحة، وقد بلغ مائة سنة، وتزوج في آخر عمره ورزق أولادا صالحين توفي في جمادى الآخرة رحمه الله.
الست صاحبة التربة بباب الخواصين الخوندة المعظمة المحجة المحرمة: ستيته بنت الامير سيف الدين
كركاي المنصوري، زوجة نائب الشام تنكز، توفيت بدار الذهب وصلي عليها بالجامع ثالث رجب، ودفنت بالتربة التي أمرت بإنشائها بباب الخواصين، وفيها مسجد وإلى جانبها رباط

(14/173)


للنساء ومكتب للايتام.
وفيها صدقات وبر وصلات، وقراء عليها، كل ذلك أمرت به، وكانت قد حجت في العام الماضي رحمها الله.
قاضي قضاة طرابلس شمس الدين محمد بن عيسى بن محمود البعلبكي المعروف بابن المجد الشافعي، اشتغل ببلده وبرع في فنون كثيرة، وأقام بدمشق مدة يدرس بالقوصية وبالجامع، ويؤم بمدرسة أم الصالح، ثم انتقل إلى قضاء طرابلس فأقام بها أربعة أشهر، ثم توفي سادس رمضان وتولاها بعده ولده تقي الدين وهو أحد الفضلاء المشهورين، ولم تطل مدته حتى عزل عنها وأخرج منها.
الشيخ الصالح عبد الله بن أبي القاسم بن يوسف بن أبي القاسم الحوراني، شيخ طائفتهم وإليه مرجع زاويتهم بحوران، كان عنده تفقه بعض شئ، وزهادة ويزار، وله أصحاب يخدمونه، وبلغ السبعين سنة، وخرج لتوديع بعض أهله إلى ناحية الكرك من ناحية الحجاز فأدركه الموت هناك، فمات في أول ذي القعدة.
الشيخ حسن بن علي ابن أحمد الانصاري الضرير كان بفرد عين أولا، ثم عمي جملة، وكان يقرأ القرآن ويكثر التلاوة ثم انقطع إلى المنارة الشرقية، وكان يحضر السماعات ويستمع ويتواجد، ولكثير من الناس فيه اعتقاد على ذلك، ولمجاورته في الجامع وكثرة تلاوته وصلاته والله يسامحه، توفي يوم السبت في العشر الاول من ذي الحجة بالمأذنة الشرقية، وصلي عليه بالجامع، ودفن بباب الصغير.
محيي الدين أبو الثناء محمود ابن الصدر شرف الدين القلانسي، توفي في ذي الحجة ببستانه، ودفن بتربتهم بسفح
قاسيون وهو جد الصدر جلال الدين بن القلانسي، وأخيه علاء، وهم ثلاثتهم رؤساء.
الشاب الرئيس صلاح الدين يوسف بن القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية، ناظر الجيش أبوه، نشأ هذا الشاب في نعمة وحشمة وترفه وعشرة واجتماع بالاصحاب، توفي يوم السبت تاسع

(14/174)


عشرين ذي الحجة فاستراح من حشمته وعشرته إن لم تكن وبالا عليه، ودفن بتربتهم تجاه الناصرية بالسفح، وتأسف عليه أبواه ومعارفه وأصحابه سامحه الله.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد ذكرنا ما كان من عبيد مكة إلى الحجاج، وأنه قتل من المصريين أميران، فلما بلغ الخبر السلطان عظم عليه ذلك، وامتنع من الاكل على السماط فيما يقال أياما، ثم جرد ستمائة فارس وقيل ألفا، والاول أصح، وأرسل إلى الشام أن يجرد مقدما آخر، فجرد الامير سيف الدين الجي بغا العادلي.
وخرج من دمشق يوم دخلها الركب في سادس عشرين المحرم، وأمر أن يسير إلى إيلة ليجتمع مع المصريين، وأن يسيروا جميعا إلى الحجاز.
وفي يوم الاربعاء تاسع صفر وصل نهر الساجور (1) إلى مدينة حلب، وخرج نائب حلب أرغون ومعه الامراء مشاة إليه في تهليل وتكبير وتحميد، يتلقون هذ النهر، ولم يكن أحد من المعالي ولا غيرهم أن يتكلم بغير ذكر الله تعالى، وفرح الناس بوصوله إليهم فرحا شديدا، وكانوا قد وسعوا في تحصيله من أماكن بعيدة احتاجوا فيها إلى نقب الجبال، وفيها ضخور ضخام وعقدوا له قناطر على الاودية، وما وصل إلا بعد جهد جهيد، وأمر شديد، فلله الحمد وحده لا شريك له.
وحين رجع نائب حلب أرغون مرض مرضا شديدا ومات (2) رحمه الله.
وفي سابع صفر وسع تنكز الطرقات بالشام ظاهر باب الجابية، وخرب كل ما يضيق الطرقات.
وفي ثاني ربيع الاول لبس علاء الدين القلانسي خلعة سنية لمباشرة نظر الدواوين ديوان
ملك الامراء، وديوان نظر المارستان، عوضا عن ابن العادل، ورجع ابن العادل إلى حجابة الديوان الكبير.
وفي يوم ثاني ربيع الاول لبس عماد الدين بن الشيرازي خلعة نظر الاموي عوضا عن ابن مراجل عزل عنه لا إلى بدل عنه، وباشر جمال الدين بن القويرة نظر الاسرى بدلا عن ابن الشيرازي.
وفي يوم الخميس آخر ربيع الاول لبس القاضي شرف الدين بن عبد الله بن شرف الدين حسن بن الحافظ أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي خلعة قضاء الحنابلة عوضا عن عز الدين بن التقي سليمان، توفي رحمه الله، وركب من دار السعادة إلى الجامع، فقرئ تقليده تحت النسر بحضرة القضاة والاعيان، ثم ذهب إلى الجوزية فحكم بها، ثم إلى الصالحية وهو لابس الخلعة، واستناب يومئذ ابن أخيه النقي عبد الله بن شهاب الدين أحمد.
وفي
__________
(1) نهر الساجور: نهر بمنبج (معجم البلدان).
__________
(2) وكانت وفاته في ربيع الاول (مختصر أخبار البشر 4 / 102 - شذرات الذهب 6 / 95 - تذكرة النبيه 2 / 211).

(14/175)


سلخ ربيع الآخر اجتاز الامير علاء الدين الطنبغا بدمشق وهو ذاهب إلى بلاد حلب نائبا عليها، عوضا عن أرغون توفي إلى رحمة الله، وقد تلقاه النائب والجيش.
وفي مستهل جمادى الاولى حضر الامير الشريف رميثة بن أبي نمي إلى مكة، فقرئ تقليده بأمرة مكة من جهة السلطان، صحبة التجريدة (1)، وخلع عليه وبايعه الامراء المجردون من مصر والشام داخل الكعبة، وقد كان وصول التجاريد إلى مكة في سابع ربيع الاول (2)، فأقاموا بباب المعلى، وحصل لهم خير كثير من الصلاة والطواف، وكانت الاسعار رخيصة معهم.
وفي يوم السبت سابع ربيع الآخر خلع على القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة بوكالة السلطان ونظر جامع طولون ونظر الناصرية، وهنأه الناس عوضا عن التاج ابن إسحاق عبد الوهاب، توفي ودفن بالقرافة.
وفي هذا الشهر تولى عماد الدين ابن قاضي القضاة الاخنائي تدريس الصارمية وهو صغير بعد وفاة النجم هاشم بن عبد الله البعلبكي الشافعي، وحضرها في رجب وحضر عنده الناس خدمة لابيه، وفي حادي عشرين جمادي الآخرة رجعت التجريدة من
الحجاز صحبة الامير سيف الدين الجي بغا، وكانت غيبتهم خمسة أشهر وأياما (3) وأقاموا بمكة شهرا واحدا ويوما واحدا وحصل للعرب منهم رعب شديد، وخوف أكيد، وعزلوا عن مكة عطية وولوا أخاه رميثة وصلوا وطافوا واعتمروا، ومنهم من أقام هناك ليحج.
وفي ثاني رجب خلع على ابن أبي الطيب بنظر ديوان بيت المال عوضا عن ابن الصاين توفي.
وفي أوائل شعبان حصل بدمشق هواء شديد مزعج كسر كثيرا من الاشجار والاغصان، وألقى بعض الحيطان والجدران، وسكن بعد ساعة بإذن الله، فلما كان كان يوم تاسعه سقط برد كبار مقدار بيض الحمام، وكسر بعض جامات الحمام.
وفي شهر شعبان هذا خطب بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل أنشأها الامير سيف الدين طغزدمر، أمير مجلس الناصري، وكان الخطيب عز الدين عبد الرحيم بن الفرات الحنفي.
وفي نصف رمضان قدم الشيخ تاج الدين عمر بن علي بن سالم الملحي بن الفاكهاني المالكي، نزل عند القاضي الشافعي، وسمع عليه شيئا من مصنفاته، وخرج إلى الحج عامئذ مع الشاميين، وزار القدس قبل وصوله إلى دمشق.
وفي هذا الشهر وطئ سوق الخيل وركبت فيه حصبات كثيرة، وعمل فيه نحو من أربعمائة نفس في أربعة أيام حتى ساووه وأصلحوه، وقد كان قبل ذلك يكون فيها مياه كثيرة، وملقات.
وفيه أصلح سوق الدقيق داخل باب الجابية إلى الثابتية وسقف عليه السقوف.
__________
(1) التجريدة دوريات منظمة لمنع قرصنة العدو في البحر، أو فرقة من الجيش (التعريف بمصطلحات صبح الاعشى ص 73).
__________
(2) في مختصر أخبار البشر 4 / 103: سابع عشر ربيع الآخرة.
__________
(3) في مختصر اخبار البشر 4 / 103: خمسة اشهر سوى اربعة أيام.

(14/176)


وخر الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره عز الدين أيبك، أمير علم، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.
وممن حج فيه شهاب الدين بن جهبل وأبو النسر وابن جملة والفخر المصري والصدر المالكي وشرف الدين الكفوي الحنفي، والبهاء ابن إمام المشهد وجلال الدين
الاعيالي ناظر الايتام، وشمس الدين الكردي، وفخر الدين البعلبكي، ومجد الدين بن أبي المجد، وشمس الدين بن قيم الجوزية، وشمس الدين ابن خطيب بيرة، وشرف الدين قاسم العجلوني، وتاج الدين بن الفاكهاني والشيخ عمر السلاوي وكاتبه إسماعيل بن كثير، وآخرون من سائر المذاهب، حتى كان الشيخ بدر الدين يقول: اجتمع في ركابنا هذا أربعمائة فقيه وأربع مدارس وخانقاه، ودار حديث، وقد كان معنا من المفتيين ثلاثة عشر نفسا، وكان في المصريين جماعة من الفقهاء منهم قاضي المالكية تقي الدين الاخنائي، وفخر الدين النويري، وشمس الدين بن الحارثي، ومجد الدين الاقصرائي، وشيخ الشيوخ الشيخ محمد المرشدي.
وفي ركب العراق الشيخ أحمد السروجي أشد وكان من المشاهير.
وفي الشاميين الشيخ علي الواسطي صحبة ابن المرجاني، وأمير المصريين مغلطاي الجمالي الذي كان وزيرا في وقت، وكان إذ ذاك مريضا، ومررنا بعين تبوك وقد أصلحت في هذه السنة، وصينت إمن دوس الجمال والجمالين، وصار ماؤها في غاية الحسن والصفاء والطيب، وكانت وقفة الجمعة ومطرنا بالطواف، وكانت سنة مرخصة آمنة.
وفي نصف ذي الحجة رجع تنكز من ناحية قلعة جعبر، وكان في خدمته أكثر الجيش الشامي، وأظهر أبهة عظيمة في تلك النواحي.
وفي سادس عشر ذي الحجة وصل توقيع القاضي علاء الدين بن القلانسي بجميع جهات أخيه جمال الدين بحكم وفاته مضافا إلى جهاته، فاجتمع له من المناصب الكبار ما لم يجتمع لغيره من الرؤساء في هذه الاعصار، فمن ذلك: وكالة بيت المال، وقضاء العسكر وكتابة الدست، ووكالة ملك الامراء، ونظر البمارستان، ونظر الحرمين، ونظر ديوان السعيد، وتدريس الامينية (1) والظاهرية (2) والعصرونية (3) وغير ذلك انتهى.
وممن توفي فيها من الاعيان: قاضي القضاة عز الدين المقدسي عز الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر
__________
(1) المدرسة الامينية: أول مدرسة للشافعية بدمشق أنشأها أتابك العساكر بدمشق ابن الدولة كمشتكين بن عبد الله
الطغتكيني المتوفى سنة 541 (الدارس في تاريخ المدارس 1 / 178).
__________
(2) هي الظاهرية الجوانية التي أنشأها الملك الظاهر بيبرس وكانت للحنفية والشافعية، قيل إن أول من درس بها زكي الدين أبو إسحاق من المالكية (الدارس 1 / 348 كرد علي: خطط الشام 6 / 82).
__________
(3) العصرونية بدمشق أنشأها فقيه الشام عبد الله بن محمد بن أبي عصرون المتوفى سنة 585 (الدارس 1 / 391).

(14/177)


ابن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي، ولد سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على والده واستنابه في أيام ولايته، فلما ولي ابن مسلم (1) لزم بيته يحصر درس الجوزية ودار الحديث الاشرفية بالجبل ويأوي إلى بيته، فلما توفي ابن مسلم ولي قضاء الحنابلة بعده نحوا من أربع سنين، وكان فيه تواضع وتودد وقضاء لحوائج الناس، وكانت وفاته يوم الاربعاء تاسع صفر، وكان يوما مطيرا، ومع هذا شهد الناس جنازته، ودفن بتربتهم رحمهم الله، وولي بعده نائبه شرف الدين ابن الحافظ، وقد قارب الثمانين.
وفي نصف صفر توفي: الامير سيف الدين قجليس سيف النعمة، وقد كان سمع على الحجار ووزيرة بالقدس الشريف.
وفي منتصف صفر (2) توفي الامير الكبير سيف الدين أرغون بن عبد الله الدويدار الناصري، وقد عمل على نيابة مصر مدة طويلة، ثم غضب عليه السلطان فأرسله إلى نيابة حلب، فمكث بها مدة ثم توفي بها في سابع ربيع الاول، ودفن بتربة اشتراها بحلب، وقد كان عنده فهم وفقه، وفيه ديانة واتباع للشريعة، وقد سمع البخاري على الحجار وكتبه جميعه بخطه، وأذن له بعض العلماء في الافتاء، وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وهو بمصر، توفي ولم يكمل الخمسين سنة، وكان يكره اللهو رحمه الله.
ولما خرج يلتقي نهر الساجور خرج في ذل ومسكنة، وخرج معه الامراء كذلك مشاة في تكبير وتهليل وتحميد، ومنع المغاني ومنت اللهو واللعب في ذلك رحمه الله.
القاضي ضياء الدين
أبو الحسن علي بن سليم بن ربيع (3) بن سليمان الاذرعي (4) الشافعي، تنقل في ولاية الاقضية بمدارس كثيرة، مدة ستين سنة، وحكم بطرابلس وعجلون وزرع وغيرها، وحكم بدمشق نيابة عن القونوي نحوا من شهر، وكان عنده فضيلة وله نظم كثير.
نظم التنبيه في نحو ستة عشر (5) ألف بيت، وتصحيحها في ألف وثلثمائة بيت، وله مدائح ومواليا وأزجال وغير ذلك، ثم كانت وفاته بالرملة يوم الجمعة ثالث عشرين ربيع الاول عن خمس وثمانين سنة رحمه
__________
(1) وهو محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع بن جعفر الصالحي الحنبلي المتوفى سنة 729 ه.
__________
(2) كذا بالاصل وهو تصحيف، وسيرد بعد قليل وفاته في ربيع الاول
__________
(3) في تذكرة النبيه 2 / 212 وشذرات الذهب 6 / 96 والدرر 3 / 123: ربيعة.
__________
(4) في البداية المطبوعة: الازرعي وهتحريف، والاذرعي نسبة إلى أذرعات: وهي بلد في أطراف الشام يجاور البلقاء وعمان.
(معجم البلدان).
__________
(5) في الاصل ست عشرة.

(14/178)


الله، وله عدة أولاد منهم عبد الرزاق أحد الفضلاءة، وهو ممن جمع بين علمي الشريعة والطبيعة.
أبو دبوس عثمان بن سعيد المغربي تملك في وقت بلاد قابس ثم تغلب عليه جماعة فاتنزعوها منه فقصد مصر فأقام بها وأقطع اقطاعا، وكان يركب مع الجند في زي المغاربة متقلدا سيفا، وكان حسن الهيئة يواظب على الخدمة إلى أن توفي في جمادى الاولى.
الامام العلامة ضياالدين أبو العباس أحمد بن قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي الشافعي، مدرس لحسامية ونائب الحكم بمصر، وأعاد في أماكن كثيرة، وتفقه على والده، توفي في جمادى الآخرة وتولى الحسامية بعده ناصر الدين التبريزي.
الصدر الكبير تاج الدين الكارمي المعروف بان الرهايلي، كان أكبر تجار دمشق الكارمية وبمصر، توفي في جمادى الآخرة، يقال إنه خلف مائة ألف دينار غير البضائع والاثاث والاملاك.
الامام العلامة فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن مصطفى بن سليمان بن المارداني التركماني الحنفي شرخ فخر الدين هذا الجامع (1) وألقاه دروسا في مائة كراس، توفي في رجب وله إحدى وسبعون سنة، كان شجاعا عالما فاضلا، وقورا فصيحا حسن المفاكهة، وله نظم حسن.
وولي بعده المنصورية (2) (*) ولده تاج الدين.
تقي الدين عمر ابن الوزير شمس الدين محمد بن عثمان بن السلعوس، كان صغيرا لما مات أبوه تحت العقوبة، ثم نشأ في الخدم ثم
__________
(1) وهو كتاب " الجامع الكبير في الفروع " للامام محمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة 187 ه (كشف الظنون 1 / 569).
__________
(2) المدرسة المنصورية بالقاهرة، أنشأها الملك منصور قلاوون الصالحي، وهي داخل باب المارستان المنصوري الكبير (انظر المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 379).

(14/179)


طلبه السلطان في آخر وقت فولاه نظر الدواوين بمصر، فباشره يوما واحدا وحضر بين يدي السلطان يوم الخميس، ثم خرج من عنده وقد اضطرب حاله فما وصل إلى منزله إلا في محفة، ومات بكرة يوم السبت سادس عشرين ذي القعدة، وصلي عليه بجامع عمرو بن العاص، ودفن عند والده بالقرافة وكانت جنازته حافلة.
جمال الدين أبو العباس أحمد بن شرف الدين بن جمال الدين محمد بن أبي الفتح نصر الله بن أسد بن حمزة بم أسد ابن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، قاضي العساكر ووكيل بيت المال ومدرس
الامينية وغيرها حفظ التنبيه ثم المحرر للرافعي، وكا يستحضره، واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وتقدم لطلب العلم والرئاسة، وباشر جهات كبارا، ودرس بأماكن وتفرد في وقته بالرياسة والبيت والمناصب الدينية والدنيوية، وكان فيه تواضع وحسن سمت وتودد وإحسان وبر بأهل العلم والفقراء والصالحين وهو ممن أذن له في الافتاء وكتب إنشاء ذلك وأنا حاضر على البديهة فأفاد وأجاد، وأحسن التعبير وعظم في عيني.
توفي يوم الاثنين ثامن عشرين ذي القعدة، ودفن بتربتهم بالسفح، وقد سمع الحديث على جماعة من المشايخ وخرج له فخر الدين البعلبكي مشيخة سمعناها عليه رحمه الله.
ثم دخلت سنة اثنتي وثلاثين وسيعمائة استهلت وحكام البلاد هم هم، وفي أولها فتحت القيسارية التي كانت مسبك الفولاذ جوا باب الصغير حولها تنكز قيسارية ببركة.
وفي يوم الاربعاء ذكر الدرس بالامينية والظاهرية علاء الدين بن القلانسي عوضا عن أخيه جمال الدين، وذكر ابن أخيه أمين الدين محمد بن جمال الدين الدرس في العصرونية، تركها له عمه، وحضر عندهما جماعة من الاعيان.
وفي تاسع المحرم جاء إلى حمص سيل عظيم غرق بسببه خلق كثير وجم غفير، وهلك للناس أشياء كثيرة.
وممن مات فيه نحو مائتي امرأة (1) بحمام النائب، كن مجتمعات على عروس أو عروسين فهلكن جميعا.
وفي صفر أمر تنكز ببياض الجدران المقابلة لسوق الخيل إلى باب الفراديس، وأمر بتجديد خان الظاهر، فغرم عليه نحوا من سبعين ألفا.
وفي هذا الشهر وصل تابوت لاجين الصغير من البيرة فدفن بتربته خارج باب شرقي.
وفي تاسع ربيع الآخر حضر الدرس بالقيمازية عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضا عن الشيخ رضي الدين المنطيقي، توفي، وحضر عنده القضاة
__________
(1) في مختصر أخبار البشر 4 / 104، مات بحمام تنكز نحو مائتي امرأة وصغير وصغيرة وجماعة رجال دخلوا ليخلصوا النساء (انظر تذكرة النبيه 2 / 219).

(14/180)


والاعيان.
وفي أول ربيع الآخر خلع على الملك الافضل محمد (1) بن الملك المؤيد صاحب حماة
وولاة السلطان الملك الناصر مكان أبيه بحكم وفاته، وركب بمصر بالعصائب (2) والشبابة والغاشية أمامه.
وفي نصف هذا الشهر سافر الشيخ شمس الدين الاصفهاني شارح المختصر ومدرس الرواحية إلى الديار المصرية على خيل البريد وفارق دمشق وأهلها واستوطن القاهرة.
وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب بالجامع الذي أنشأه الامير سيف الدين آل ملك واستقر فيه خطيبا نور الدين علي بن شبيب الحنبلي.
وفيه أرسل السلطان جماعة من الامراء إلى الصعيد فأحاطوا على ستمائة رجل ممن كان يقطع الطريق فأتلف بعضهم.
وفي جماى الآخرة تولى شد الدواوين بدمشق نور الدين بن الخشاب عوضا عن الطرقشي.
وفي يوم الاربعاء حادي عشر رجب خلع على قاضي القضاة علاء الدين بن الشيخ زين الدين بن المنجا بقضاء الحنابلة عوضا عن شرف الدين بن الحافظ، وقرئ تقليده بالجامع، وحضر القضاة والاعيان.
وفي اليوم الثاني استناب برهان الدين الزرعي.
وفي رجب باشر شمس الدين موسى بن التاج إسحاق نظر الجيوش بمصر عوضا عن فخر الدين (3) كاتب المماليك توفي، وباشر ألنشو مكانه في نظر الخاص، وخلع عليه بطرحه، فلما كان في شعبان عزل هو وأخوه العلم ناظر الدواوين وصودروا وضربوا ضربا عظيما، وتولى نظر الجيش المكين بن قروينة، ونظر الدواوين أخوه شمس الدين بن قروينة.
وفي شعبان كان عرش أنوك، ويقال كان اسمه محمد بن السلطان الملك الناصر، على بنت الامير سيف الدين بكتمر الساقي، وكان جهازها بألف ألف دينار، وذبح في هذا العرس من الاغنام والدجاج والاوز والخيل والبقر نحو من عشرين ألفا، وحملت حلوى بنحو ثمانية عشر ألف قنطار، وحمل له من الشمع ثلاثة آلاف قنطار (4)، قاله الشيخ أبو بكر، وكان هذا العرس ليلة الجمعة حادي عشر شعبان.
وفي شعبان هذا حول القاضي محيي الدين بن فضل الله من كتابة السر بمصر إلى كتابة السر بالشام، ونقل شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة السر بمصر، وأقيمت الجمعة بالشامية البرانية في خامس عشر شعبان، وحضرها القضاة والامراء، وخطب بها الشيخ زين الدين عبدالنور المغربي وذلك بإشارة الامير حسام الدين اليشمقدار الحاجب بالشام، ثم خطب عنه كمال الدين بن الزكي، وفيه أمر نائب السلطنة
__________
(1) من مختصر أخبار البشر 4 / 104 وتذكرة النبيه 2 / 225 والدرر 4 / 8، وفي الاصل: علي تصحيف.
وقد ولي حكم حماه حتى عزله الاشرف كجك سنة 742 ه وقرره أمير مائة بدمشق فتوفي في نفس السنة.
__________
(2) العصائب جمع عصابة وهي راية عظيمة من حرير أصفر مطرزة بالذهب عليها ألقابه واسمه (صبح الاعشى 4 / 7).
__________
(3) وهو فخر الدين محمد بن فضل الله المصري ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية، مولده في حدود 660 (الدرر 4 / 255 تذكرة النبيه 2 / 227).
__________
(4) في مختصر أخبار البشر 4 / 106: ألف قنطار من الشمع، وفي تذكرة النبيه 2 / 221: ثلاثة الآف شمعة.

(14/181)


بتبييض البيوت من سوق الخيل إلى ميدان الحصا، ففعل ذلك.
وفيه زادت الفرات زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها، واستمرت نحوا من اثني عشر يوما فأتلفت بالرحبة أموالا كثيرة، وكسرت الجسر الذي عند دير بسر، وغلت الاسعار هناك فشرعوا في إصلاح الجسر، ثم انكسر مرة ثانية.
وفي يوم السبت تاسع شوال خرج الركب الشامي وأميره سيف الدين أوزان، وقاضيه جمال الدين بن الشريشي، وهو قاضي حمص الآن، وحج السلطان في هذه السنة وصحبته قاضي القضاة القزويني وعز الدين بن جماعة، وموفق الدين الحنبلي، وسبعون أميرا.
وفي ليلة الخميس حادي عشرين شوال رسم على الصاحب عز الدين غبريال بالمدرسة النجيبية الجوانية، وصودر وأخذت منه أموال كثيرة، وأفرج عنه في المحرم من السنة الآتية.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ عبد الرحمن بن أبي محمد بن محمد ابن سلطان القرامذي، أحد المشاهير بالعبادة والزهادة وملازمة الجامع الاموي، وكثرة التلاوة والذكر، وله أصحاب يجلسون إليه، وله مع هذا ثروة وأملاك، توفي في مستهل المحرم عن خمس أو ست وثمانين سنة، ودفن بباب الصغير، وكان قد سمع الحديث واشتغل بالعلم ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة إلى أن مات.
الملك المؤيد صاحب حماه عماد الدين إسماعيل بن الملك الافضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، كانت له فضائل كثيرة في علوم متعددة من الفقه والهيئة والطب وغير ذلك، وله مصنفات عديدة، منها تاريخ حافل في مجلدين كبيرين، وله نظم الحاوي وغير ذلك، وكان يحب العلماء ويشاركهم في فنون كثيرة، وكان من فضلاء بني أيوب، ولي ملك حماه من سنة إحدى وعشرين إلى هذا الحين، وكان الملك الناصر يكرمه ويعظمه، وولي بعده ولده الافضل علي (1) (*)، توفي في سحر يوم الخميس ثامن عشرين المحرم، ودفن ضحوة عند والديه بظاهر حماه.
القاضي الامام تاج الدين السعدي تاج الدين أبو القاسم عبد الغفار بن محمد بن عبد الكافي بن عوض بن سنان بن عبد الله
__________
(1) انظر حاشية 1 ص 181.
(وانظر بدائع الزهور 1 / 463).

(14/182)


السعدي الفقيه الشافعي، سمع الكثير وخرج لنفسه معجما في ثلات مجلدات، وقرأ بنفسه الكثير، وكتب الخط الجيد، وكان متقنا عارفا بهذا الفن، يقال إنه كتب بخطه نحوا من خمسمائة مجلد، وقد كان شافعيا مفتيا، ومع هذا ناب في وقت عن القاضي الحنبلي، وولي مشيخة الحديث بالمدرسة الصاحبية، وتوفي بمصر في مستهل ربيع الاول عن ثنتين وثمانين سنة، رحمه الله.
الشيخ رضي الدين بن سليمان (1) (*) المنطقي الحنفي، أصله من أب كرم، من بلاد قونية، وأقام بحماه ثم بدمشق.
ودرس بالقيمازية، وكان فاضلا في المنطق والجدل، واشتغل عليه جماعة في ذلك، وبلغ من العمر ستا ثمانين سنة، وحج سبع مرات، توفي ليلة الجمعة سادس عشرين ربيع الاول، وصلي عليه بعد الصلاة ودفن بالصوفية.
وفي ربيع الاول توفي:
الامام علاء الدين طنبغا (2) ودفن بتربته بالصالحية.
وكذلك الامير سيف الدين زولاق، ودفن بتربته أيضا.
قاضي القضاة شرف الدين أبو محمد عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي، ولد سنة ست وأربعين وستمائة، وباشر نيابة ابن مسلم مدة، ثم ولي القضاء في السنة الماضية، ثم كانت وفاته فجأة في مستهل جمادى الاولى ليلة الخميس، ودفن من الغد بتربة الشيخ أبي عمر.
الشيخ ياقوت الحبشي الشاذلي الاسكندراني، بلغ الثمانين، وكان له أتباع، وأصحاب منهم شمس الدين بن اللبان الفقيه الشافعي، وكان يعظمه ويطريه وينسب إليه مبالغات الله أعلم بصحتها وكذبها، توفي في جماد وكانت جنازته حافلة جدا.
__________
(1) وهو ابراهيم بن سليمان الرومي الحنفي المعروف بالمنطقي.
__________
(2) من مختصر أخبار البشر 4 / 105، وفي الاصل: طيبغا.
وهو علاء الدين الطنبغا الصالحي العلائي السلحدار عمل نيابة حمص ثم غزة وبها مات (الدرر 1 / 436).

(14/183)


النقيب ناصح الدين محمد بن عبد الرحيم بن قاسم بن إسماعيل الدمشقي، نقيب المتعممين، تتلمذ أولا للشهاب المقري ثم كان بعده في المحافل العزاء والهناء، وكان يعرف هذ الفن جيدا، وكان كثير الطلب من الناس، ويطلبه الناس لذلك، ومع هذا مات وعليه ديون كثيرة، توفي في أواخر رجب.
القاضي فخر الدين كاتب المماليك وهو محمد بن فضل الله ناظر الجيوش بمصر، أصله قبطي فأسلم وحسن إسلامه، وكانت له أوقاف كثيرة، وبر وإحسان إلى أهل العلم، وكان صدرا معظما، حصل له من السلطان حظ
وافر، وقد جاوز السبعين وإليه تنسب الفخرية بالقدس الشريف، توفي في نصف رجب واحتيط على أمواله وأملاكه بعد وفاته رحمه الله.
الامير سيف الدين الجاي الدويدآر الملكي الناصري كان فقيها حنفيا فاضلا، كتب بخطه ربعة وحصل كتبا كثيرة معتبرة، وكان كثير الاحسان إلى أهل العلم، توفي في سلخ رجب رحمه الله.
الطبيب الماهر الحاذق الفاضل أمين الدين سليمان بن داود بن سليمان، كان رئيس الاطباء بدمشق ومدرسهم مدة، ثم عزل بجمال الدين بن الشهاب الكحال مدة قبل موته لامر تعصب عليه فيه نائب السلطنة، توفي يوم السبت سادس عشرين شوال ودفن بالقبيبات.
الشيخ الامام العالم المقري شيخ القراء برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عمر إبراهيم بن خليل الجعبري، ثم الخليلي الشافعي، صاحب المصنفات الكثيرة في القراءات وغيرها، ولد سنة أربعين وستمائة بقلعة جعبر، واشتغل ببغداد، ثم قدم دمشق وأقام ببلد الخليل نحو أربعين سنة يقرئ الناس، وشرح الشاطبية وسمع الحديث، وكانت له إجازة من يوسف بن خليل الحافظ، وصنف بالعربية والعروض والقراءات نظما ونثرا، وكان من المشايخ المشهورين بالفضائل والرياسة والخير والديانة

(14/184)


والعفة والصيانة، توفي يوم الاحد خامس شهر رمضان، ودفن ببلد الخليل تحت الزيتونة، وله ثنتان وتسعون سنة رحمه الله.
قاضي القضاة علم الدين أبو عبد الله محمد بن القاضي شمس الدين أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة الاخنائي السعدي المصري الشافعي الحاكم بدمشق وأعمالها، كان عفيفا نزها ذكيا سار العبارة محبا للفضائل، معظما لاهلها كثير الاسماع الحديث في العادلية الكبيرة، توفي يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون عند زوجته تجاه تربة العادل كتبغا من ناحية الجبل.
قطب الدين موسى ابن أحمد بن الحسين ابن شيخ السلامية ناظر الجيوش الشامية، كانت له ثروة وأموال كثيرة، وله فضائل وإفضال وكرم وإحسان إلى أهل الخير، وكان مقصدا في المهمات، توفي يوم الثلاثاء ثاني [ ذي ] الحجة وقد جاوز السبعين، ودفن بتربته تجاه الناصرية بقاسيون، وهو والد الشيخ الامام العلامة عز الدين حمزة مدرس الحنبلية (1).
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة استهلت يوم الاربعاء والحكام هو المذكورون في التي قبلها، وليس للشافعية قاض، وقاضي الحنفية عماد الدين الطرسوسي، وقاضي المالكية شرف الدين الهمداني، وقاضي الحنابلة علاء الدين بن المنجا، وكاتب السر محيي الدين بن فضل الله، وناظر الجامع عماد الدين بن الشيرازي.
وفي ثاني المحرم قدم البشير بسلامة السلطان من الحجاز وباقتراب وصوله إلى البلاد، فدقت البشائر وزينت البلد.
وأخبر البشير بوفاة الامير سف الدين بكتمر الساقي وولده شهاب الدين أحمد وهما راجعان في الطريق، بعد أن حجا قريبا من مصر: الوالد أولا، ثم من بعده ابنه (2) بثلاثة أيام بعيون القصب، ثم نقلا إلى تربتهما بالقرافة (3)، ووجد لبكتمر من الاموال والجواهر
__________
(1) وهي المدرسة الحنبلية الشريفة، بدمشق (الدارس 2 / 60 خطط الشام 6 / 100).
__________
(2) في الاصل، أبوه تحريف، وما أثبتناه يقتضيه السياق - انظر بدائع الزهور 1 / 1 / 464.
__________
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 464: مات بكتمر بعيون القصب ودفن بها، ومات ولده أحمد بنخل ودفن بها.
وفي السنة التالية رسم السلطان بنقلهما ودفنا في الخانقاه بالقرافة الصغرى وعن سبب موت بكتمر وولده - وهو صهر السلطان =.

(14/185)


واللآلي والقماش والامتعة والحواصل شئ كثير، لا يكا ينحصر ولا ينضبط، وأفرج عن الصاحب شمس الدين غبريال في المحرم، وطلب في صفر إلى مصر فتوجه على خيل البريد، واحتيط على أهله بعد مسيره وأخذت منهم أموال كثيرة لبيت المال.
وفي أواخر صفر قدم الصاحب أمين الملك (1) على نظر الدواوين بدمشق عوضا عن غبريال، وبعده بأربعة أيام قدم القاضي فخر الدين بن الحلي على نظر الجيش بعد وفاة قطب الدين ابن شيخ السلامية.
وفي نصف ربيع الاول لبس ابن جملة خلعة القضاء للشافعية بدمشق بدار السعادة، ثم جاء إلى الجامع وهي عليه، وذهب إلى العادلية وقرئ تقليده بها بحضرة الاعيان، ودرس بالعادلية والغزالية يوم الاربعاء ثاني عشر الشهر المذكور.
وفي يوم الاثنين رابع عشرينه حضر ابن أخيه جمال الدين محمود إعادة القيمرية نزل له عنها، ثم استنابه بعد ذلك في المجلس، وخرج إلى العادلية فحكم بها، ثم لم يستمر بعد ذلك، عزل عن النيابة بيومه، واستناب بعده جمال الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن يوسف الحسباني، وله همة وعنده نزاهة وخبرة بالاحكام.
وفي ربيع الاول ولي شهاب قرطاي نيابة طرابلس وعزل عنها طينال (2) إلى نيابة غزة وتولى نائ ب غزة حمص، وحصل للذي جاء بتقاليدهم مائة ألف درهم منهم، وفي ربيع الآخر أعيد القاضي محيي الدين بن فضل الله وولده إلى كتابة سر مصر، ورجع شرف الدين بن الشهاب محمود إلى كتابة سر الشام كما كان.
وفي منتصف هذا الشهر ولي نقابة الاشراف عماد الين موسى الحسيني عوضا عن أخيه شرف الين عدنان توفي في الشهر الماضي ودفن بتربتهم عند مسجد الدبان.
وفيه درس الفخر المصري بالدولعية عوضا عن ابن جملة بحكم ولايته القضاء.
وفي خامس عشرين رجب درس بالبادرائية القاضي علاء الدين علي بن شريف ويعرف بابن الوحيد، عوضا عن ابن جهبل توفي في الشهر الماضي، وحضر عنده القضاة والاعيان، وكنت إذ ذاك بالقدس أنا والشيخ شمس الدين بن عبد الهادي وآخرون، وفيه رسم السلطان الملك الناصر =
__________
زوح أخته - أنه بلغ السلطان أن بكتمر يقصد الوثوب عليه هناك، فدس عليه من أسقاه سما.
وكان الاتابكي بكتمر يحجر على السلطان إذا رأى منه الجور في حق الرعية، وكان السلطان يخشى منه ولا يخالفه فيما يأمره به، وكان لا يتصرف في شئ من أمور المملكة إلا بعد مشورة الاتابكي بكتمر.
ولما صار صاحب الحل والعقد في دولة الملك الناصر ثقل أمره عليه إلى الغاية (تذكرة النبيه 2 / 236).
ولما لم يمكن السلطان من القبض عليه دس عليه من سقاه السم (بدائع الزهور 1 / 1 / 236).
__________
(1) كذا بالاصل، والصواب أمين الدين، ففي دولة المماليك جرت العادة على تغيير أسماء رجال الدولة من القبط الذين أسلموا باضافة الاسم الاصلي إلى لفظ الدين (صبح الاعشى 5 / 490).
__________
(2) في الاصل طبلان تصحيف، وهو طينال الاشرفي الحاجب، سيف الدين الناصري المتوفي سنة 743 (الدرر 2 / 334 السلوك 2 / 637.

(14/186)


بالمنع من رمي البندق، وأن لا تباع قسيها ولا تعمل، وذلك لافساد رماة البندق أولاد الناس، وأن الغالب على من تعاناه اللواط والفسق وقلة الدين، ونودي بذلك في البلاد المصرية والشامية.
قال البرزالي: وفي نصف شعبان أمر السلطان بتسليم المنجمين إلى والي القاهرة فضربوا وحبسوا لافسادهم حال النساء، فمات منهم أربعة تحت العقوبة، وثلاثة من المسلمين ونصراني، وكتب إلي بذلك الشيخ أبو بكر الرحبي.
وفي أول رمضان وصل البريد بتولية الامير فخر الين ابن الشمس لؤلؤ ولاية البر بدمشق بعد وفاة شهاب الدين بن المرواني، ووصل كتاب من مكة إلى دمشق في رمضان يذكر فيه أنها وقعت صواعق ببلاد الحجاز فقتلت جماعة متفرقين في أماكن شتى، وأمطار كثيرة جدا، وجاء البريد في رابع رمضان بتولية القاضي محيي الدين بن جميل قضاء طرابلس فذهب إليها، ودرس ابن المجد عبد الله بالرواحية عوضا عن الاصبهاني بحكم إقامته بمصر.
وفي آخر رمضان أفرج عن الصاحب علاء الدين وأخيه شمس الدين موسى بن التاج إسحاق بعد سجنهما سنة ونصفا.
وخرج الركب الشامي يوم الخميس عاشر شوال وأميره بدر الدين بن معبد وقاضيه علاء الدين بن منصور مدرس الحنفية بمدرسة تنكز، وفي الحجاج صدر الدين المالكي، وشهاب الدين الظهيري، ومحيي الدين بن الاعقف وآخرون وفي يوم الاحد ثالث عشرة درس بالاتابكية ابن جملة عوضا عن ابن جميل تولى قضاء طرابلس، وفي يوم الاحد عشرينه حكم القاضي شمس الدين محمد بن كامل التدمري، الذي كان في خطابة الخليل بدمشق نيابة عن ابن جملة، وفرح الناس بدينه وفضيلته.
وفي ذي القعدة مسك تنكز دواداره ناصر الدين محمد، وكان عنده بمكانة عظيمة جدا، وضربه بين يديه ضربا مبرحا، واستخلص منه أموالا كثيرة، ثم حسبه بالقلعة ثم نفاه إلى القدس، وضرب جماعة من أصحابه منهم علاء الدين بن مقلد حاجب العرب، وقطع لسانه مرتين، ومات وتغيرت الدولة وجاءت دولة أخرى مقدمها عنده حمزة الذي كان سميره وعشيره في هذه المدة الاخيرة، وانزاحت النعمة عن الدوادار ناصر الدين وذويه ومن يليه.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة ركب على الكعبة باب حديد أرسله السلطان مرصعا من البسط (1) الاحمر كأنه آبنوس، مركب عليه صفائح من فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وكسر، وقلع الباب العتيق، وهو من خشب الساج (2)، وعليه صفائح تسلمها بنو
__________
(1) كذا بالاصل، وفي تذكرة النبيه 2 / 246: السنط، والسنط قرظ ينبت في الصعيد، وهو أجود حطب يستوقد به الناس (لسان العرب).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 247: من خشب الساسم، قال في حاشية رقم 2: وهو خشب أسود يشبه الابنوس.

(14/187)


شيبة، وكان زنتها ستين رطلا فباعوها كل درهم بدرهمين، لاجل التبرك.
وهذا خطأ وهو ربا وكان ينبغي أن يبيعوها بالذهب لئلا يحصل ربا بذلك - وترك خشب الباب العتيق داخل الكعبة، وعليه اسم صاحب اليمن في الفردتين، واحدة عليها: اللهم يا ولي يا علي اغفر ليوسف بن عمر ابن علي.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ العالم تقي الدين محمود علي ابن محمود بن مقبل الدقوقي أبو الثناء البغدادي محدث بغداد منذ خمسين سنة، يقرأ لهم الحديث وقد ولي مشيخة الحديث بالمستنصرية، وكان ضابطا محصلا بارعا، وكان يعظ ويتكلم في الاعزية والاهنية، وكان فردا في زمانه وبلاده رحمه الله، توفي في المحرم وله قريب السبعين سنة، وشهد جنازته خلق كثير، ودفن بتربة الامام أحمد، ولم يخلف درهما واحدا، وله قصيدتان رثا بهما
الشيخ تقي الدين بن تيمية كتب بهما إلى الشيخ الحافظ البرزالي رحمه الله تعالى.
الشيخ الامام العالم عز القضاة فخر الدين أبو محمد عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير المالكي الاسكندري، أحد الفضلاء المشهورين، له تفسير في ست مجلدات، وقصائد في رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنة، وله في كان وكان، وقد سمع الكثير وروى، توفي في جماد الاولى عن ثنتين وثمانين سنة، ودفن بالاسكندرية رحمه الله.
ابن جماعة قاضي القضاة العالم شيخ الاسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الامام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم ابن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الاصل، ولد ليلة السبت رابع ربيع لآخر سنة تسع وثلاثين وستمائة بحماة، وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وحصل علوما متعددة، وتقدم وساد أقرانه، وباشر تدريس القيمرية، ثم ولي الحكم والخطابة بالقدس الشريف، ثم نقل منه إلى قضاء مصر في الايام الاشرفية، ثم باشر تداريس كباريها في ذلك الوقت، ثم ولي قضاء الشام وجمع له معه الخطابة ومشيخة الشيوخ وتدريس العادلية وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسة والديانة والصيانة والورع، وكف الاذى، وله التصانيف الفائقة النافعة، وجمع له خطبا كان يخطب بها في طيب صوت فيها وفي قراءته في المحراب وغيره، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يزل حاكما بها إلى أن أضر

(14/188)


وكبر وضعفت أحواله، فاستقال فأقيل وتولى مكانه القزويني، وبقيت منه بعض الجهات ورتبت له الرواتب الكثيرة الدارة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الاولى، وقد أكمل أربعا وتسعين سنة وشهرا وأياما، وصلي عليه من الغ الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازته حافلة هائلة رحمه الله.
الشيخ الامام الفاضل مفتي المسلمين
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محيي الدين يحيى بن تاج الدين إسماعيل بن طاهر بن نصر الله بن جهبل الحلبي الاصل ثم الدمشقي الشافعي، كان من أعيان الفقهاء، ولد سنة سبعين وستمائة واشتغل بالعلم ولزم المشايخ ولزم الشيخ الصدر بن الوكيل، ودرس بالصلاحية (1) بالقدس، ثم تركها إلى دمشق فباشر مشيخة دار الحديث الظاهرية مدة، ثم ولي مشيخة البادرائية فترك الظاهرية وأقام بتدريس البادرائية إلى أن مات، ولم يأخذ معلوما من واحدة منهما، توفي يوم الخميس بعد العصر تاسع جمادى الآخرة وصلي عليه بعد الصلاة ودفن بالصوفية، وكانت جنازته حافلة.
تاج الدين عبد الرحمن بن أيوب مغسل الموتى في سنة ستين وستمائة، يقال إنه غسل ستين ألف ميت، وتوفي في رجب وقد جاوز الثمانين.
الشيخ فخر الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد العظيم بن السقطي الشافعي، كان مباشرا شهادة الخزانة، وناب في الحكم عند باب النصر ودفن بالقرافة.
الامام الفاضل مجموع الفضائل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الوهاب البكري، نسبة إلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كان لطيف المعاني ناسخا مطيقا يكتب في ثلاث كراريس، وكتب البخاري ثماني مرات ويقابله ويجلده ويبيع النسخة من ذلك بألف ونحوه، وقد جمع تاريخا في ثلاثين مجلدا، وكان
__________
(1) المدرسة الصلاحية بالقدس أوقفها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب للفقهاء الشافعية سنة 588 (محمد كرد علي: خطط الشام 6 / 122).

(14/189)


ينسخه ويبيعه أيضا بأزيد من ألف، وذكر أن له كتابا سماه منتهى الارب في علم الادب في ثلاثين مجلدا أيضا وبالجملة كام نادرا في وقته، توفي يوم الجمعة عشرين رمضان رحمه الله.
الشيخ الصالح الزاهد الناسك الكثير الحج علي بن الحسن بن أحمد الواسطي المشهور بالخير والصلاح، وكثرة العبادة والتلاوة والحج، يقال إنه حج أزيد من أربعين حجة، وكانت عليه مهابة ولديه فضيلة، توفي وهو محرم يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذي القعدة، وقد قارب الثمانين رحمه الله.
الامير عز الدين إبراهيم بن عبد الرحمن ابن أحمد بن القواس، كان مباشرا الشد في بعض الجهات السلطانية، وله دار حسنة بالعقيبة الصغيرة، فلما جاءت الوفاة أوصى أن تجعل مدرسة، ووقف عليها أوقافا، وجعل تدريسها للشيخ عماد الدين الكردي الشافعي، توفي يوم الاربعاء عشرين [ ذي ] الحجة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وسبعمائة استهلت بيوم الاحد وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفي يوم الجمعة ثاني ربيع الاول أقيمت الجمعة بالخاتونية البرانية، وخطب بها شمس الدين النجار المؤذن المؤقت بالاموي، وترك خطابة جامع القابون.
وفي مستهل هذا الشهر سافر الامير شمس الدين محمد التدمري إلى القدس حاكما به، وعزل عن نيابة الحكم بدمشق.
وفي ثالثه قدم من مصر زين الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بخطابة القدس، فخلع عليه من دمشق ثم سافر إليها.
وفي آخر ربيع الاول باشر الامير ناصر الدين بن بكتاش الحسامي شد الاوقاف عوضا عن شرف الدين محمود بن الخطيري، سافر بأهله إلى مصر أميرا نيابة بها عن أخيه بدر الدين مسعود، وعزل القاضي علاء الدين بن القلانسي، وسائر الدواوين والمباشرين الذين في باب ملك الامراء تنكز وصودروا بمائتي ألف درهم، واستدعي من غزة ناظرها جمال الدين يوسف صهر السني المستوفي، فباشر نظر ديوان النائب ونظر المارستان النوري أيضا على العادة.
وفي شهر ربيع الاول أمر تنكز بإصلاح باب توما فشرع فيه بابه عشرة أذرع، وجددت حجارته وحديده في أسرع وقت، وفي هذا الوقت حصل بدمشق سيل خرب بعض الجدران ثم تناقص، وفي أوائل ربيع الآخر قدم من مصر جمال الدين آقوش نائب الكرك مجتازا إلى طرابلس

(14/190)


نائبها عوضا عن قرطاي (1) توفي.
وفي جمادى الاولى طلب القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله إلى دار السعادة فولي وكالة بيت المال عوضا عن بن القلانسي، ووصل تقليده من مصر بذلك، وهنأه الناس.
وفيه طلب الامير نجم الدين بن الزيبق من ولاية نابلس فولي شد الدواوين بدمشق، وقد شغر منصبه شهورا بعد ابن الخشاب.
وفي رمضان خطب الشيخ بدر الدين أبو اليسر بن الصائغ بالقدس عوضا عن زين الدين بن جماعة لاعراضه عنها واختياره العود إلى بلده.
قضية القاضي ابن جملة لما كان في العشر الاخير من رمضان وقع بين القاضي ابن جملة وبين الظهير شيخ مالك الامراء - وكان هو السفير في تولية ابن جملة القضاء - فوقع بينهما منافسة ومحاققة في أمور كانت بينه وبين الدوادار المتقدم ذكره ناصر الدين، فحلف كل واحد منهما على خلاف ما حلف به الآخر عليه، وتفاضلا من دار السعادة في المسجد، فلما رجع القاضي إلى منزله بالعادلية أرسل إليه الشيخ الظهير ليحكم فيه بما فيه المصلحة، وذلك عن مرسوم النائب، وكأنه خديعة في الباطن وإظهارا لنصرة القاضي عليه في الظاهر، فبدر به القاضي بادي الرأي فعزره بين يديه، ثم خرج من عنده فتسلمه أعوان ابن جملة فطافوا به البلد على حمار يوم الاربعاء سابع عشرين رمضان، وضربوه ضربا عنيفا، ونادوا عليه: هذا جزاء من يكذب ويفتات على الشرع، فتألم الناس له لكونه في الصيام.
وفي العشر الاخير من رمضان، يوم سبع وعشرين، وهو شيخ كبير صائم، فيقال: إنه ضرب يومئذ ألفين ومائة وإحدى وسبعين درة والله أعلم، فما أمسى حتى استفتى على القاضي المذكور وداروا على المشايخ بسبب ذلك عن مرسوم النائب، فلما كان يوم تاسع عشرين رمضان عقد نائب السلطنة بين يديه بدار السعادة مجلسا حافلا بالقضاة وأعيان المفتيين من سائر المذاهب، وأحضر ابن حملة قاضي الشافعية والمجلس قد احتفل بأهله، ولم يأذنوا لابن جملة في الجلوس، بل قام قائما ثم أجلس بعد ساعة جيدة في طرف الحلقة، إلى جانب المحفة التي فيها
الشيخ الظهير، وادعى عليه عند بقية القضاة أنه حكم فيه لنفسه، واعتدى عليه في العقوبة، وأفاض الحاضرون في ذلك، وانتشر الكلام وفهموا من نفس النائب الحط على ابن جملة، والميل عنه بعد أن كان إليه، فما انفصل المجلس حتى حكم القاضي شرف الدين المالكي بفسقه وعزله وسجنه، فانفض المجلى على ذلك، ورسم على ابن جملة بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة جزاء وفاقا والحمد لله وحده، وكان له في القضاء سنة ونصف إلا أياما، وكان يباشر الاحكام جيدا،
__________
(1) هو قرطاي بن عبد الله الاشرفي المنصوري الجوكندار، الامير شهاب الدين الناصري، كان كبيرا خبيرا، عمر بطرابلس مدرسة محكمة البناء في غاية الحسن " وهي المدرسة القرطائية " وهي من أفخم مدارس طرابلس وبها دفن.

(14/191)


وكذا الاقاف المتعلقة به، وفيه نزاهة وتمييز الاوقاف بين الفقهاء والفقراء، وفيه صرامة وشهامة وإقدام، لكنه أخطأ في هذه الواقعة، وتعدى فيها فآل إلى هذا.
وخرج الركب يوم الاثنين عاشر شوال وأميره الجي بغا وقاضيه مجد الدين بن حيان المصري.
وفي يوم الاثنين رابع عشرينه درس بالاقبالية الحنفية نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضا عن شمس الدين محمد بن عثمان بن محمد الاصبهاني بن العجمي الحبطي، ويعرف بابن الحنبلي، وكان فاضلا دينا متقشفا كثير الوسوسة في الماء جدا، وأما المدارس مكانه وهو نجم الدين بن الحنفي فإنه ابن خمس عشرة سنة، وهو في النباهة والفهم، وحسن الاشتغال والشكل والوقار، بحيث غبط الحاضرون كلهم أباه على ذلك، ولذا آل أمره أن تولى قضاء القضاة في حياة أبيه، نزل له عنه وحمدت سيرته وأحكامه.
وفي هذا الشهر أثبت محضر في حق الصاحب شمس الدين غبريال المتوفى هذه السنة أنه كان يشتري أملاكا من بيت المال ويوقفها ويتصرف فيها تصرف الملاك بنفسه، وشهد بذلك كمال الدين الشيرازي وابن أخيه عماد الدين وعلاء الدين القلانسي وابن خاله عماد الدين القلانسي،
وعز الدين بن المنجا، وتقي الدين بن مراجل، وكمال الدين بن الغويرة، وأثبت على القاضي برهان الدين الزرعي الحنبلي ونفذه بقية القضاة، وامتنع المحتسب عز الدين بن القلانسي من الشهادة فرسم عليه بالعذراوية قريبا من شهر، ثم أفرج عنه وعزل عن الحسبة، واستمر على نظر الخزانة.
وفي يوم الاحد ثامن عشرين ذي القعدة حملت خلعة القضاء إلى الشيخ شهاب الدين بن المجد وكيل بيت المال يومئذ، فلبسها وركب إلى دار السعادة وقرئ تقليده بحضرة نائب السلطنة والقضاة ثم رجع إلى مدرسته الاقبالية فقرئ بها أيضا وحكم بين خصمين، وكتب على أوراق السائلين، ودرس بالعادلية والغزالية والاتابكيتين مع تدريس الاقبالية عوضا عن ابن جملة.
وفي يوم الجمعة حضر الامير حسام الدين مهنا بن عيسى وفي صحبته صاحب حماة الافضل، فتلقاهما تنكز وأكرمهما، وصليا الجمعة عند النائب ثم توجها إلى مصر، فتلقاهما أعيان الامراء وأكرم السلطان منها بن عيسى وأطلق له أموالا جزيلة كثيرة، من الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى ورسم له بالعود إلى أهله، ففرح الناس بذلك، قالوا وكان جميع ما أنعم به عليه السلطان قيمة مائة ألف دينار، وخلع عليه وعلى أصحابه مائة سبعين خلعة.
وفي يوم الاحد سادس [ ذي ] الحجة حضر درس الرواحية الفخر المصري عوضا عن قاضي القضاة ابن المجد وحضر عنده القضاة الاربعة وأعيان الفضلاء.
وفي يوم عرفة خلع على نجم

(14/192)


الدين بن أبي الطيب بوكالة بيت المال، عوضا عن ابن المجد، وعلى عماد الدين بن الشيرازي بالحسبة عوضا عن عز الدين بن القلانسي وخرج الثلاثة من دار السعادة بالطرحات.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ الاجل التاجر بدر الدين بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله عتيق النقيب شجاع الدين إدريس، وكان رجلا حسنا يتجر في الجوخ، مات فجأة عصر يوم الخميس خامس محرم، وخلف أولادا وثروة، ودفن بباب الصغير،
وله بروصدقة ومعروف، وسبع بمسجد ابن هشام.
الصدر أمين الدين محمد بن فخر الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن أبي العيش الانصاري الدمشقي باني المسجد المشهور بالربوة، على حافة بردى، والطهارة الحجارة إلى جانبه، والسوق الذي هناك، وله بجامع النيرب ميعاد.
ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة، وسمع البخاري وحدث به، وكان من أكابر التجار ذوي اليسار، توفي بكر ة الجمعة سادس المحرم ودفن بتربته بقاسيون رحمه الله.
الخطيب الامام العالم عماد الدين أبو حفص عمر الخطيب، ظهير الدين عبد الرحيم بن يحيى بن إبراهيم بن علي ابن جعفر بن عبد الله بن الحسن القرشي الزهري النابلسي، خطيب القدس، وقاضي طرابلس مدة طويلة، ثم جمع له بين خطابة القدس وقضائها، وله اشتغال وفيه فضيلة، وشرح صحيح مسلم في مجلدات، وكان سريع الحفظ سريع الكتابة، توفي ليلة الثلاثاء عاشر المحرم ودفن بماملا رحمه الله.
الصدر شمس الدين محمد بن إسماعيل بن حماد التاجر بقيسارية الشرب، كتب المنسوب وانتفع به الناس، وولي التجار لامانته وديانته، وكانت له معرفة ومطالعة في الكتب، توفى تاسع صفر عن نحو ستين سنة.
ودفن بقاسيون رحمه الله.

(14/193)


جمال الدين قاضي القضاة الزرعي هو أبو الربيع سليمان بن الخطيب مجد الدين (1) عمر بن سالم بن عمر بن عثمان الاذرعي الشافعي ولد سنة خمس وأربعين وستمائة بأذرعات، واشتغل بدمشق فحصل، وناب في الحكم بزرع مدة فعرف بالزرعي لذلك، وإنما هو من أذرعات وأصله من بلاد المغرب، ثم ناب بدمشق
ثم انتقل إلى مصر فناب في الحكم بها، ثم استقل بولاية القضاء بها نحوا من سنة، ولي قضاء الشام مدة مع مشيخة نحوا من سنة، ثم عزل وبقي على مشيخة الشيوخ نحوا من سنة مع تدريس الاتابكية، ثم تحول إلى مصر فولي بها التدريس وقضاء العسكر، ثم توفي بها يوم الاحد سادس صفر وقد قارب السبعين رحمه الله، وقد خرج له البرزالي مشيخة سمعناها عليه وهو بدمشق عن اثنتين وعشرين شيخا.
الشيخ الامام العالم الزاهد زين الدين أبو محمد عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي الحنبلي، أحد فضلاء الحنابلة، ومن صنف في الحديث والفقه والتصوف وأعمال القلوب وغير ذلك، كان فاضلا له أعمال كثيرة، وقد وقعت له كائنة في أيام الظاهر أنه أصيب في عقله أو زوال فكره، أو قد عمل على الرياضة فاحترق باطنه من الجوع، فرأى خيالات لا حقيقة لها فاعتقد أنها أمر خارجي، وإنما هو خيال فكري فاسد.
وكانت وفاته في نصف صفر ببعلبك، ودفن بباب سطحا ولم يكمل الستين، وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب، وعلى القاضي الزرعي معا.
الامير شهاب الدين نائب طرابلس له أوقاف وصدقات، وبروصلات، توفي بطرابلس يوم الجمعة ثامن عشر صفر ودفن هناك رحمه الله.
الشيخ عبد الله بن يوسف بن أبي بكر الاسعردي الموقت كان فاضلا في صناعة الميقات وعلم الاصطرلاب وما جرى مجراه، بارعا في ذلك، غير أنه لا ينفع به لسوء أخلاقه وشراستها، ثم إنه ضعف بصره فسقط من قيسارية بحسى عشية السبت عاشر ربيع الاول، ودفن بباب الصغير.
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 249: سراج الدين، وفي النجوم الزاهرة 9 / 4 ذكره مجد الدين.

(14/194)


الامير سيف الدين بلبان
طرفا بن عبد الله الناصري، كان من المقدمين بدمشق، وجرت له فصول يطول ذكرها، ثم توفي بداره عند مأذنة فيروز ليلة الابعاء حادي عشرين ربيع الاول، ودفن بتربة اتخذها إلى جانب داره، ووقف عليها مقرئين، وبنى عندها مسجدا بإمام ومؤذن.
شمس الدين محمد بن يحيى بن محمد بن قاضي حران ناظر الاوقاف بدمشق، مات الليلة التي مات فيها الذي قبله، ودفن بقاسيون، وتولى مكانه عماد الدين الشيرازي.
الشيخ الامام ذو الفنون تاج الدين أبو حفص عمر بن علي بن سالم بن عبد الله اللخمي الاسكندراني، المعروف بابن الفاكهاني، ولد سنة أربع وخمسين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل بالفقه على مذهب مالك، وبرع وتقدم بمعرفة النحو وغيره، وله مصنفات في أشياء متفرقة، قدم دمشق في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة في أيام الاخنائي، فأنزله في دار السعادة وسمعنا عليه ومعه، وحج من دمشق عامئذ وسمع عليه في الطريق، ورجع إلى بلاده، توفي ليلة الجمعة سابع جمادى الاولى، وصلي عليه بدمشق حين بلغهم خبر موته.
الشيخ الصالح العابد الناسك أيمن أمين الدين أيمن بن محمد، وكان يذكر أن اسمه محمد بن محمد إلى سبعة (1) عشر نفسا كلهم اسمه محمد، وقد جاور بالمدينة مدة سنين إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن ربيع الاول، ودفن بالبقيع وصلي عليه بدمشق صلاة الغائب.
الشيخ نجم الدين القباني الحموي عبد الرحمن بن الحسن بن يحيى اللخمي القبابي، قرية من قرى أشمون الرمان، أقام بحماة في زاوية يزار ويلتمس دعاؤه، وكان عابدا ورعا زاهدا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، حسن الطريقة إلى أن توفي بها آخر نهار الاثنين رابع عشر رجب، عن ست وستين سنة، وكانت جنازته حافلة هائلة جدا، ودفن شمالي حماة، وكان عنده فضيلة، واشتغل على مذهب الامام
أحمد بن حنبل، وله كلام حسن يؤثر عنه رحمه الله.
__________
(1) في الاصل سبع.

(14/195)


الشيخ فتح الدين بن سيد الناس الحافظ العلامة البارع، فتح الدين بن أبي الفتح محمد بن الامام أبي عمروا محمد بن الامام الحافظ الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الربعي اليعمري الاندلسي الاشبيلي ثم المصري، ولد في العشر الاول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وستمائة، وسمع الكثير وأجاز له الرواية عنهم جماعات من المشايخ، ودخل دمشق سنة تسعين فسمع من الكندي وغيره، واشتغل بالعلم فبرع وساد أقرانه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو من العربية، وعلم السير والتواريخ وغير ذلك من الفنون، وقد جمع سيرة حسنة في مجلدين، وشرح قطعة حسنة من أول جامع الترمذي، رأيت منها مجلدا بخطه الحسن، وقد حرر وحبر وأفاد وأجاد، ولم يسلم من بعض الانتقاد، وله الشعر الرائق والفائق، والنثر الموافق، والبلاغة التامة، وحسن الترصيف والتصنيف، وجودة البديهية، وحسن الطويلة، وله العقيدة السالفية الموضوعة على الآي والاخبار والآثار والاقتفاء بالآثار النبوية، ويذكر عنه سوء أدب في أشياء أخر (1) سامحه الله فيها، وله مدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان، وكان شيخ الحديث بالظاهرية بمصر، وخطب بجامع الخندق، ولم يكن في مصر في مجموعه مثله في حفظ الاسانيد والمتون والعلل والفقه والملح والاشعار والحكايات، توفي فجأة يوم السبت حادي عشر شعبان، وصلي عليه من الغد، وكانت جنازته حافلة، ودفن عند ابن أبي حمزة رحمه الله.
القاضي مجد الدين بن حرمي ابن قاسم بن يوسف العامري الفاقوسي الشافعي، وكيل بيت المال، ومدرس الشافعي وغيره، كانت له همة ونهضة، وعلت سنه وهو مع ذلك يحفظ ويشغل ويشتغل، ويلقي الدروس من حفظه إلى أن توفي ثاني ذي الحجة، وولي تدريس الشافعي بعده شمس الدين بن القماح،
والقطبية بهاء الدين بن عقيل، والوكالة نجم الدين الاسعردي المحتسب، وهو كان وكيل بيت الظاهر.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها، وناظر الجامع عز الدين بن المنجا.
والمحتسب عماد الدين الشيرازي وغيرهم.
وفي مستهل المحرم يوم الخميس درس بأم الصالح الشيخ خطيب تبرور عوضا عن قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وحضر عنده القضاة والاعيان.
وفي سادس رجع مهنا بن عيسى من عند السلطان فتلقاه النائب والجيش، وعاد
__________
(1) العبارة في شذرات الذهب 6 / 109: " وتذكر عنه شؤون أخر الله يتولاه فيها ".

(14/196)


إلى أهله في عز وعافية.
وفيه أمر السلطان بعمارة جامع القلعة وتوسيعه، وعمارة جامع مصر العتيق.
وقدم إلى دمشق القاضي جمال الدين محمد (1) بن عماد الدين بن الاثير كاتب سر بها عوضا عن ابن الشهاب محمود (2).
ووقع في هذا لشهر والذي بعده موت كثير في الناس بالخانوق.
وفي ربيع الاول مسك الامير نجم الدين بن الزيبق مشد الدواوين، وصودر وبيعت خيوله وحواصله، وتولاه بعده سيف الدين تمر مملوك بكتمر الحاجب، وهو مشاد الزكاة.
وفيه كملت عمارة حمام الامير شمس الدين حمزة الذي تمكن عند تكنز بعد ناصر الدين الدوادار، ثم وقعت الشناعة عليه بسبب ظلمه في عمارة هذا الحمام فقابله النائب على ذلك وانتصف للناس منه، وضربه بين يديه وضربه بالبندق بيده في وجهه، وسائر جسده، ثم أودعه القلعة ثم نقله إلى بحيرة طبرية فغرقه فيها، وعزل الامير جمال الدين نائب الكرك عن نيابة طرابلس حسب سؤاله في ذلك، وراح إليها طيغال وقدم نائب الكرك إلى دمشق وقد رسم له بالاقامة في سلخد، فلما تلقاه نائب السلطنة والجيش نزل في دار السعادة وأخذ سيفه بها نقل إلى القلعة، ثم نقل إلى صفد (3) ثم إلى الاسكندرية، ثم كان آخر العهد به.
وفي جمادى الاولى احتيط على دار الامير بكتمر الحاجب الحسامي بالقاهرة، ونبشت وأخذ
منها شئ كثير جدا، وكان جد أولاده نائب الكرك المذكور.
وفي يوم السبت تاسع جمادى الآخرة باشر حسام الدين أبو بكر بن الامير عز الدين أيبك النجيبي شد الاوقاف عوضا عن ابن بكتاش، اعتقل، وخلع على المتولي وهنأه الناس.
وفي منتصف هذا الشهر علق الستر الجديد على خزانة المصحف العثماني، وهو من خز طويلة ثمانية أذرع وعرضه أربعة أذرع ونصف، غرم عليه أربعة آلاف وخمسمائة، وعمل في مدة سنة ونصف.
وخرج الركب الشامي يوم الخميس تاسع شوال وأميره علاء الدين المرسي، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.
وفيه رجع جيش حلب إليها وكانوا عشرة آلاف سوى من تبعهم من التركمان، وكانوا في بلاد أذنة وطرسوس وإياس، وقد خربوا وقتلوا خلقا كثيرا، ولم يعدم منهم سوى رجل واحد غرق بنهر جاهان، ولكن كان قتل الكفار من كان عندهم من المسلمين نحوا من ألف رجل، يوم عيد الفطر فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيه وقع حريق عظيم بحماة فاحترق منه أسواق كثيرة، وأملاك وأوقاف، وهلكت أموال
__________
(1) ذكره صاحب مختصر أخبار البشر 4 / 114 وتذكرة النبيه 2 / 258: جمال الدين عبد الله بن القاضي كمال الدين محمد بن المولى عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الاثير المتوفى سنة 778 (انظر شذرات الذهب 6 / 257).
__________
(2) وهو حفيد الامام شهاب الدين محمود بن سلمان الحلبي، المولى شهاب الدين أبي بكر بن شمس الدين محمد.
المتوفى سنة 744 ه (مختصر أخبار البشر 4 / 115 تذكرة النبيه 2 / 258)
__________
(3) في الاصل صفت.

(14/197)


لا تحصر، وكذلك احترق أكثر مدينة إنطاكية، فتألم المسلمون لذلك.
وفي ذي الحجة خرب المسجد الذى كان في الطريق بين باب النصر وبين باب الجابية، عن حكم القضاة بأمر نائب السلطنة، وبنى غربيه مسجد أحسن وأنفع من الاول.
وتوفي فيها من الاعيان:
الشيخ الصالح المعمر رئيس المؤذنين بجامع دمشق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد الواني، ولد سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وسمع الحديث، وروى، وكان حسن الصوت والشكل، محببا إلى العوام، توفي يوم الخميس سادس صفر ودفن الصغير، وقام من بعده في الرياسة ولده أمين الدين محمد الواني المحدث المفيد، وتوفي بعده ببضع (1) وأربعين يوما رحمهما الله.
الكاتب المطبق المجود المحرر بهاء الدين محمود ابن خطيب بعلبك محيي الدين محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهاب السلمي، ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة، واعتنى بهذه الصناعة فبرع فيها، وتقدم على أهل زمانه قاطبة في النسخ وبقية الاقلام، وكان حسن الشكل طيب الاخلاق، طيب الصوت حسن التودد، توفي في سلخ ربيع الاول ودفن بتربة الشيخ أبي عمر رحمه الله.
علاء الدين السنجاري واقف دار القرآن عند باب الناطفانيين شمالس الاموي بدمشق، علي بن إسماعيل بن محمود كان أحد التجار الصدق الاخيار، ذوي اليسار المسارعين إلى الخيرات، توفي بالقاهرة ليلة الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن عند قبر القاضي شمس الدين بن الحريري.
العدل نجم الدين التاجر عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الرحمن الرحبي باني التربة المشهورة بالمزة، وقد جعل لها مسجدا ووقف عليها أوقافا دارة، وصدقات هناك، وكان من أخيار أبناء جنسه، عدل مرضى
__________
(1) في شذرات الذهب 6 / 111: مات بعد والده بشهر، وكان مولده - كما في تذكرة النبيه - سنة 684 ه بدمشق وانظر الدرر 3 / 379.

(14/198)


عند جميع الحكام، وترك أولادا وأموالا جمة، ودارا هائلة، وبساتين بالمزة، وكانت وفاته يوم الاربعاء سابع عشرين جمادى الآخرة ودفن بتربته المذكورة بالمزة رحمه الله.
الشيخ الامام الحافظ قطب الدين أبو محمد عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم بن علي بن عبد الحق بن عبد الصمد بن عبدالنور الحلبي الاصل ثم المصري، أحد مشاهير المحدثين بها، والقائمين بحفظ الحديث وروايته وتدوينه وشرحه والكلام عليه، ولد سنة أربع وستين وستمائة بحلب، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث وقرأ الشاطبية والالفية، وبرع في فن الحديث، وكان حنفي المذهب وكتب كثيرا وصنف شرحا لاكثر البخاري، وجمع تاريخا لمصر ولم يكملهما، وتكلم على السيرة التي جمعها الحافظ عبد الغني وخرج لنفسه أربعين حديثا متباينة الاسناد، وكان حسن الاخلاق مطرحا للكلفة طاهر اللسان كثير المطالعة والاشتغال، إلى أن توفي يوم الاحد سلخ رجب، ودفن من الغد مستهل شعبان عند خاله نصر المنبجي، وخلف تسعة أولاد رحمه الله.
القاضي الامام زين الدين أبو محمد عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف السبكي، قاضي المحلة، ووالده العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، سمع من ابن الانماطي وابن خطيب المزة، وحدث وتوفي تاسع شعبان، وتبعته زوجته ناصرية بنت القاضي جمال الدين إبراهيم بن الحسين السبكي، ودفنت القرافة، وقد سمعت من ابن الصابوني شيئا من سنن النسائي، وكذلك إبنتها محمدية، وقد توفيت قبلها.
تاج الدين علي بن إبرهيم ابن عبد الكريم المصري، ويعرف بكاتب قطلبك، وهو والد العلامة فخر الدين شيخ الشافعية ومدرسهم في عدة مدارس، ووالده هذا لم يزل في الخدمة والكتابة إلى أن توفي عنده بالعادلية الصغيرة ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان، وصلي عليه من الغد بالجامع، ودفن بباب الصغير.
الشيخ الصالح عبد الكافي ويعرف بعبيد بن أبي الرجال بن حسين بن سلطان بن خليفة المنيني، ويعرف بابن أبي

(14/199)


الازرق، مولده في سنة أربع وأربعين وستمائة بقريته من بلاد بعلبك، ثم أقام بقرية منين، وكان مشهورا بالصلاح وقرئ عليه شئ من الحديث وجاوز التسعين.
الشيخ محمد بن عبد الحق ابن شعبان بن علي الانصاري، المعروف بالسياح، له زاوية بسفح قاسيون بالوادي الشمالي مشهورة به، وكان قد بلغ التسعين، وسمع الحديث وأسمعه، وكانت له معرفة بالامور وعنده بعض مكاشفة، وهو رجل حسن، توفي أواخر شوال من هذه السنة.
الامير سلطان العرب حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا، أمير العرب بالشام، وهم يزعمون أنهم من سلالة جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، من ذرية الولد الذي جاء من العباسة أخت الرشيد فالله أعلم.
وقد كان كبير القدر محترما عند الملوك كلهم، بالشام ومصر والعراق، وكان دينا خيرا متحيزا للحق، وخلف أولادا وورثة وأموالا كثيرة، وقد بلغ سنا عالية، وكان يحب الشيخ تقي الدين بن تيمية حبا زائدا، هو وذريته وعربه، وله عندهم منزلة وحرمة وإكرام، يسمعون قوله ويمتثلونه، وهو الذي نهاهم أن يغير بعضهم على بعض، وعرفهم أن ذلك حرام، وله في ذلك مصنف جليل، وكانت وفاة مهنا هذا ببلاد سلمية (1) في ثامن عشر ذي القعدة، ودفن هناك رحمه الله.
الشيخ الزاهد فضل العجلوني فضل بن عيسى بن قنديل العجلوني الحنبلي المقيم بالمسمارية، أصله ؟ بلاد حبراحي، كان متقللا من الدنيا يلبس ثيابا طوالا وعمامة هائلة، وهي بأرخص الاثمان، وكان يعرف تعبير الرؤيا ويقصد لذلك، وكان لا يقبل من أحد شيئا، وقد عرضت عليه وظائف بجوامك كثيرة فلم يقبلها.
بل رضي بالرغيد الهني من العيش الخشن إلى أن توفي في ذي الحجة، وله نحو تسعين
سنة، ودفن بالقرب من قبر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمهما الله، وكانت جنازته حافلة جدا.
__________
(1) سلمية: من أعمال حماة، وكانت تعد من أعمال حمص (تقويم البلدان لابي الفداء ص 264، معجم البلدان ياقوت الحموي).

(14/200)


ثم دخلت سنة ست وثلاثين وسبعمائة استهلت بيوم الجمعة والحكام هم المذكورون في التي قبلها.
وفي أول يوم منها ركب تنكز إلى قلعة جعبر ومعه الجيش والمناجنيق فغابوا شهرا وخمسة أيام وعادوا سالمين.
وفي ثامن صفر فتحت الخانقاه التي أنشأها سيف الدين قوصون الناصري خارج باب القرافة (1)، وتولى مشيختها الشيخ شمس الدين الاصبهاني المتكلم.
وفي عاشر صفر خرج ابن جملة من السجن بالقلعة وجاءت الاخبار بموت ملك التتار أبي سعيد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى بن جنكزخان، في يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر بدار السلطنة بقراباغ، وهي منزلهم في الشتاء، ثم نقل إلى تربته بمدينته التي أنشأها قريبا من السلطانية (2) مدينة أبيه، وقد كان من خيار ملوك التتار وأحسنهم طريقة وأثبتهم على السنة وأقومهم بها، وقد عز أهل السنة بزمانه وذلت الرافضة، بخلاف دولة أبيه، ثم من بعده لم يقم للتتار قائمة، بل اختلفوا فتفرقوا شذر مذر إلى زماننا هذا، وكان القائم من بعده بالامر ارتكاوون من ذرية أبغا، ولم يستمر له الامر إلا قليلا (3).
وفي يوم الاربعاء عاشر جمادى الاولى درس بالناصرية الجوانية بدر الدين الاردبيلي عوضا عن كمال الدين بن الشيرازي توفي، وحضر عنده القضاة.
وفيه درس بالظاهرية البرانية الشيخ الامام المقري سيف الدين أبو بكر الحريري عوضا عن بدر الدين الاردبيلي، تركها لما حصلت له الناصرية الجوانية، وبعده بيوم درس بالنجيبية كاتبه إسماعيل بن كثير عوضا عن الشيخ جمال الدين ابن قاضي الزبداني تركها حين تعين له تدريس الظاهرية الجوانية، وحضر عنده القضاة والاعيان وكان درسا حافلا أثنى عليه الحاضرون وتعجبوا من جمعه وترتيبه، وكان ذلك في تفسير قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [ فاطر: 28 ] وانساق الكلام إلى مسألة ربا الفضل
وفي يوم الاحد رابع عشره ذكر الدرس بالظاهرية المذكورة ابن قاضي الزبداني عوضا عن علاء الدين بن القلانسي توفي، وحضر عنده القضاة والاعيان، وكان يوما مطيرا.
وفي أول جمادى الآخرة وقع غلاء شديد بديار مصر واشتد ذلك إلى شهر رمضان، وتوجه خلق كثير في رجب إلى مكة نحوا من ألفين وخمسمائة، منهم عز الدين بن جماعة، وفخر الدين النويري وحسن السلامي، وأبو الفتح السلامي، وخلق وفي رجب كملت عمارة جسر باب الفرج وعمل عليه باشورة (4) ورسم باستمرار فتحه إلى بعد العشاء الآخرة كبقية سائر الابواب،
__________
(1) وتقع شمال القرافة مما يلي قلعة الجبل تجاه جامع قوصون (المواعظ والاعتبار للمقريزي 2 / 325) وهي محكمة البناء حسنة العمارة والترتيب.
__________
(2) السلطانية: وهي فنغرلان، وهي مدينة محدثة بناها خربندا بن ارغون، وجعلها عاصمة ملكه وهي بالقرب من جبال كيلان (تقويم البلدان لابي الفداء ص 306).
__________
(3) لم يتم له الامر، فاستمر مدة يسيرة نحو شهرين.
__________
(4) في الاصل " باسورة " تحريف.
والباشورة بناء ذو منعطفات أمام كل باب أو خلفه، يقصد به تعويق هجوم =.

(14/201)


وكان قبل ذلك يغلق من المغرب.
وفي سلخ رجب أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه نجم الدين ابن خيلخان تجاه باب كيسان من القبلة، وخطب فيه الشيخ الامام العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية.
وفي ثاني شعبان باشركتابة السر بدمشق القاضي علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد ابن مفضل، عوضا عن كمال الدين (1) ابن الاثير، عزل وراح إلى مصر.
وفي يوم الاربعاء رابع رمضان ذكر الدرس بالامينية الشيخ بهاء الدين ابن إمام المشهد عوضا عن علاء الدين بن القلانسي.
وفي العشرين منه خلع على الصدر نجم الدين بن أبي الطيب بنظر الخزانة مضافا إلى ما بيده من وكالة بيت المال، بعد وفاة ابن القلانسي بشهور.
وخرج الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره قطلودمر الخليلي.
وممن حج فيه قاضي طرابلس محيي الدين بن جهبل، والفخر المصري، وابن قاضي الزبداني، وابن العز الحنفي،
وابن غانم والسخاوي وابن قيم الجوزية، وناصر الدين بن البربوه الحنفي، وجاءت الاخبار بوقعة جرت بين التتار قتل فيها خلق كثير منهم، وانتصر علي باشا وسلطانه الذى كان قد أقامه، وهو موسى كاوون على اربا كاوون وأصحابه، فقتل هو ووزيره ابن رشيد الدولة، وجرت خطوب كثيرة طويلة، وضربت البشائر بدمشق.
وفي ذي القعدة خلع على ناظر الجامع الشيخ عز الدين بن المنجا بسبب إكماله البطائن في الرواق الشمالي والغربي والشرقي، ولم يكن قبل ذلك له بطائن.
وفي يوم الاربعاء سابع الحجة ذكر الدرس بالشبلية القاضي نجم الدين ابن قاضى القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي، وهو ابن سبع عشرة سنة، وحضر عند القضاة والاعيان، وشكروا من فضله ونباهته، وفرحوا لابيه فيه.
وفيها عزل ابن النقيب عن قضاء حلب ووليها ابن خطيب جبرين (2)، وولي الحسبة بالقاهرة ضياء الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد خطيب بيت الابار، خلع عليه السلطان.
وفي ذي القعدة رسم السلطان باعتقال الخليفة المستكفي وأهله، وأن يمنعوا من الاجتماع، فآل أمرهم كما كان أيام الظاهر والمنصور (3).
__________
= العساكر على الباب وقت الحصار، وتعويق دخول الخيل إلى المدينة في مجموعة كبيرة دفعة واحدة.
وفي معجم دوزي: الباشورة والجمع بواشير: هي الحائط الظاهري من الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال.
(انظر ألفاظ الحنفا ص 180 حاشية 3).
__________
(1) كذا بالاصل، وقد تقدم انه جمال الدين عبد الله بن كمال الدين محمد..انظر صفحة 197 حاشية رقم 1.
__________
(2) في الاصل " جسرين " تصحيف، وجبرين قرية من قرى حلب، وابن خطيب جبرين هو: قاضي القضاة فخر الدين أبو محمد عثمان بن الخطيب زين الدين أبي الحسن علي بن عثمان بن اسماعيل الطائي الشافعي المتوفى سنة 739 ه.
(الدرر 3 / 58).
__________
(3) استمر منعه عن الناس ومنعهم من الاجتماع بالخليفة نحو خمسة أشهر حتى شفع فيه بعض الامراء عند السلطان فرسم له بالنزول إلى مناظر الكبش، على عادته والسكن بها.
(بدائع الزهور 1 / 1 / 472).

(14/202)


وممن توفي فيها من الاعيان: السلطان أبو سعيد ابن خربندا وكان آخر من اجتمع شمل التتار عليه، ثم تفرقوا من بعده (1).
الشيخ البندنيجي شمس الدين علي بن محمد بن ممدود بن عيسى البندنيجي الصوفي، قدم علينا من بغداد شيخا كبيرا راويا لاشياء كثيرة، فيها صحيح مسلم والترمذي وغير ذلك، وعنده فوائد، وله سنة أربع وأربعين وستمائة، وكان والده محدثا فأسمعه أشياء كثيرة على مشايخ عدة، وكان موته بدمشق رابع المحرم.
قاضي قضاة بغداد قطب الدين أبو الفضائل محمد بن عمر بن الفضل التبريزي الشافعي المعروف بالاجوس، سمع شيئا من الحديث واشتغل بالفقه والاصول والمنطق والعربية والمعاني والبيان، وكان بارعا في فنون كثيرة ودرس بالمستنصرية بعد العاقولي.
وفي مدارس كبار، وكان حسن الخلق كثير الخير على الفقراء والضعفاء، متواضعا يكتب حسنا أيضا، توفي في آخر المحرم ودفن بتربة له عند داره ببغداد رحمه الله (2).
الامير صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم بن أبي الزهر، المعروف بالمغزال، كانت له مطالعة وعنده شئ من التاريخ، ويحاضر جيدا، ولما توفي يوم الجمعة وقت الصلاة السادس والعشرين من المحرم دفن بتربة له عند حمام العديم.
الامير علاء الدين مغلطاي الخازن نائب القلعة وصاحب التربة تجاه الجامع المظفري من الغرب، كان رجلا جيدا، له أوقاف وبر وصدقات، توفي يوم الجمعة بكرة عاشر صفر، ودفن بتربته المذكورة.
__________
(1) قال في مختصر أخبار البشر 4 / 118 مات وله بضع وثلاثون سنة - وفي تذكرة النبيه 2 / 272: ثلاثون - وكانت
دولته عشرين سنة.
__________
(2) كان مولده سنة 668 ه بتبريز وتوفي ببغداد (تذكرة النبيه 2 / 2 66).

(14/203)


القاضي كمال الدين أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن هبة الله بن الشيرازي الدمشقي، ولد سنة سبعين، وسمع الحديث وتفقه على الشيخ تاج الدين الفزاري، والشيخ زين الدين الفارقي، وحفظ مختصر المزني (1) ودرس في وقت بالبادرائية، وفي وقت بالشامية البرانية، ثم ولي تدريس الناصرية الجوانية مدة سنين إلى حين وفاته، وكان صدرا كبيرا، ذكر لقضاء قضاة دمشق غير مرة، وكان حسن المباشرة والشكل، توفي في ثالث صفر ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه الله.
الامير ناصر الدين محمد بن الملك المسعود جلال الدين عبد الله بن الملك الصالح إسماعيل بن العادل، كان شيخا مسنا قد اعتنى بصحيح البخاري يختصره، وله فهم جيد ولديه فضيلة، وكان يسكن المزة وبها توفي ليلة السبت خامس عشرين صفر، وله أربع وسبعون سنة، ودفن بتربتهم بالمزة رحمه الله.
علاء الدين علي بن شرف الدين محمد بن القلانسي قاضي العسكر ووكيل بيت المال، وموقع الدست، ومدرس الامينية (2) والظاهرية وغير ذلك من المناصب، ثم سلبها كلها سوى التدريسين، وبقي معزولا إلى حين أن توفي بكرة السبت خامس وعشرين صفر، ودفن بتربتهم.
عز الدين أحمد بن الشيج زين الدين محمد بن أحمد بن محمود العقيلي، ويعرف بابن القلانسي، محتسب دمشق وناظر الخزانة، كان محمود المباشرة، ثم عزل عن الحسبة واستمر بالخزانة إلى أن توفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الاولى ودفن بقاسيون.
الشيخ علي بن أبي المجد بن شرف بن أحمد الحمصي
ثم الدمشقي مؤذن البربوة خمسا وأربعين سنة، وله ديوان شعر وتعاليق وأشياء كثيرة مما ينكر أمرها، وكان محمولا في دينه، توفي في جمادى الاولى أيضا.
__________
(1) وهو مختصر المزني في فروع الشافعية، لاسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة 264 ه (كشف الظنون 2 / 1635).
__________
(2) المدرسة الامينية بدمشق، نشأها يمين الدين كمشتكين أتابك العساكر بدمشق، المتوفى سنة 541 ه (الدارس 1 / 178).

(14/204)


الامير شهاب الدين بن برق (1) متولي دمشق، شهد جنازته خلق كثير، توفي ثاني شعبان ودفن بالصالحية وأثنى عليه الناس.
الامير فخر الدين ابن الشمس لؤلؤ متولي البر، كان مشكورا أيضا، توفي رابع شعبان، وكان شيخا كبيرا، توفي ببستانه ببيت لهيا ودفن بتربته هناك وترك ذرية كثيرة رحمه الله.
عماد الدين إسماعيل ابن شرف الدين محمد بن الوزير فتح الدين عبد الله بن محمد بن أحمد (2) بن خالد بن صغير ابن القيسراني، أحد كتاب الدست، وكان من خيار الناس، محببا إلى الفقراء والصالحين، وفيه مروءة كثيرة، وكتب بمصر ثم صار إلى حلب كاتب سرها، ثم انتقل إلى دمشق فأقام بها إلى أن مات ليلة الاحد ثالث عشر القعدة، وصلي عليه من الغد بجامع دمشق، ودفن بالصوفية عن خمس وستين سنة، وقد سمع شيئا من الحديث على الابرقوهي وغيره.
وفي ذي القعدة توفي شهاب الدين ابن القديسة المحدث بطريق الحجاز الشريف.
وفي ذي الحجة توفي الشمس محمد المؤذن المعروف بالنجار ويعرف بالبتي، وكان يتكلم وينشد في المحافل والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة
استهلت بيوم الجمعة والخليفة المستكفي بالله قد اعتقله السلطان الملك الناصر، ومنعه من الاجتماع بالناس، ونائب الشام تنكز بن عبد الله الناصري، والقضاة والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها، سوى كاتب السر فإنه علم الدين بن القطب، ووالي البر الامير بدر الدين بن قطلوبك بن شنشنكير، ووالي المدينة حسام الدين طرقطاي الجو كنداري.
وفي أول منها يوم الجمعة وصلت الاخبار بأن علي باشا كسر جيشه، وقيل إنه قتل،
__________
(1) وهو أحمد بن سيف الدين أبي بكر بن برق الدمشقي، ولي دمشق ثلاث عشرة سنة توفي وله 64 سنة (شذرات الذهب 6 / 113).
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 60: محمد.

(14/205)


ووصلت كتب الحجاج في الثاني والعشرين من المحرم تصف مشقة كثيرة حصلت للحجاج من موت الجمال وإلقاء الاحمال ومشي كثير من النساء والرجال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله على كل حال.
وفي آخر المحرم قدم إلى دمشق القاضي حسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وكان والوزير نجم الدين محمود بن علي بن شروان الكردي، وشرف الدين عثمان بن حسن البلدي فأقاموا ثلاثة أيام ثم توجهوا إلى مصر فحصل لهم قبول تام من السلطان، فاستقضى الاول على الحنفية كما سيأتي، واستوزر الثاني وأمر الثالث.
وفي يوم عاشوراء أحضر شمس الدين محمد ابن الشيخ شهاب الدين بن اللبان الفقيه الشافعي إلى مجلس الحكم الجلالي، وحضر معه شهاب الدين بن فضل الله مجد الدين الاقصرائي شيخ الشيوخ، وشهاب الدين الاصبهاني، فادعى عليه بأشياء منكرة من الحلول والاتحاد والغلو في القرمطة وغير ذلك، فأقر ببعضها فحكم عليه بحقن دمه ثم توسط في أمره وأبقيت عليه جهاته، ومنع من الكلام على الناس، وقام في صفه جماعة من الامراء والاعيان.
وفي صفر احترق بقصر حجاج حريق عظيم أتلف دورا ودكاكين عديدة.
وفي ربيع الاول ولد للسلطان ولد فدقت البشائر وزينت البلد أياما.
وفي منتصف ربيع
الآخر أمر الامير صارم الدين إبراهيم الحاجب الساكن تجاه جامع كريم الدين طبلخاناه، وهو من كبار أصحاب الشيخ تقي الدين رحمه الله، وله مقاصد حسنة صالحة، وهو في نفسه رجل جيد.
وفيه أفرج عن الخليفة المستكفي وأطلق من البرج في حادي عشرين ربيع الآخر ولزم بيته (1).
وفي يوم الجمعة عشرين جمادى الآخرة أقيمت الجمعة في جامعين بمصر، أحدهما أنشأه الامير عز الدين أيدمر بن عبد الله الخطيري، ومات بعد ذلك بإثني عشر يوما رحمه الله، والثاني أنشأته امرأة يقال لها الست حدق دادة السلطان الناصر عند قنطرة السباع.
وفي شعبان سافر القاضي شهاب الدين أحمد بن شرف بن منصور النائب في الحكم بدمشق إلى قضاء طرابلس، وناب بعده الشيخ شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي.
وفيه خلع على عز الدين بن جماعة بوكالة بيت المال بمصر، وعلى ضياء الدين ابن الخطيب بيت الابار بالحسبة بالقاهرة، مع ما بيده من نظر الاوقاف وغيره.
وفيه أمر الامير ناظر القدس بطلب لخاناه ثم عاد إلى دمشق.
وفي عاشر رمضان قدمت من مصر مقدمتان ألفان إلى دمشق سائرة إلى بلاد سيس، وفيهم علاء الدين (2)، فاجتمع به أهل العلم وهو من أفاضل الحنفية، وله مصنفات في الحديث وغيره.
وخر الركب الشامي يوم الاثنين عاشر شوال وأميره بهادر قبجق، وقاضيه محيي الدين
__________
انظر صفحة 202 حاشية رقم 3

(14/206)


الطرابلسي مدرس الحمصية، وفي الركب تقي الدين شيخ الشيوخ وعماد الدين بن الشيرازي، ونجم الدين الطرسوسي، وجمال الدين المرداوي، وصاحبه شمس الدين بن مفلح، والصدر المالكي والشرف ابن القيسراني، والشيخ خالد المقيم عند دار الطعم، وجمال الدين بن الشهاب محمود.
وفي ذي القعدة وصلت الاخبار بأن الجيش تسلموا من بلاد سيس سبع قلاع (1)، وحصل لهم خير كثير ولله الحمد، وفرح المسلمون بذلك.
وفيه كانت وقعة هائلة بين التتار انتصر فيها الشيخ وذووه.
وفيها (2) نفى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الخليفة وأهله وذويه، وكانوا
قريبا من مائة نفس إلى بلاد قوص، ورتب لهم هناك ما يقوم بمصالحهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وممن توفي فيها من الاعيان: الشيخ علاء الدين بن غانم أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن حمائل بن علي المقدسي (3) أحد كبار المشهورين بالفضائل وحسن الترسل، وكثرة الادب والاشعار والمروءة التامة، مولده سنة إحدى وخمسين وستمائة، وسمع الحديث الكثير، وحفظ القرآن والتنبيه، وباشر الجهات، وقصده الناس في الامور المهمات وكان كثير الاحسان إلى الخاص والعام.
توفي مرجعه من الحج في منزلة تبوك يوم الخميس ثالث عشر المحرم، ودفن هناك رحمه الله، ثم تبعه أخوه شهاب الدين أحمد في شهر رمضان، وكان أصغر منه سنا بسنة، وكان فاضلا أيضا بارعا كثير الدعابة.
__________
(1) ذكر الخبر ابن حبيب في تذكرة النبيه 2 / 279 قال: " وتسلم المسلمون القلاع العامرة - شرقي نهر جيحان - وهي قلاع: إياس وكاورا وسوندكار والهارونية ونجيمة " وزاد عليها أبو الفداء في مختصره 4 / 118..والمصيصة وباناس والنقير ".
__________
(2) ذكر صاحب بدائع الزهور 1 / 1 / 474 أن: " ذلك يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة سنة 738 ه (انظر تذكرة النبيه 2 / 297 ومختصر أخبار البشر 4 / 122) وقال صاحب البدائع: فهو أول خليفة نفي من مصر من غير جنحة ولا سبب، فشق ذلك على الناس ولم يستحسنوا منه هذه الفعلة.
وتابع قائلا -: وكان سبب ذلك أن الخليفة رفعت إليه قصة بأن شخصا له على الملك الناصر دعوة شرعية فكتب عليها الخليفة " ليحضر أو ليوكل " وأرسلها إلى الملك الناصر، فلما قرأها شق ذلك عليه، وبقي في خاطره منه، فتغافل عنه مدة ثم رسم بإخراجه إلى قوص - إحدى قرى الصعيد وذكر صاحب السلوك سببا آخر في ذلك انظر 2 / 416 - 417.
__________
(3) في شذرات الذهب 6 / 114: المنشي.

(14/207)


الشرف محمود الحريري المؤذن بالجامع الاموي، بنى حماما بالنيرب، ومات في آخر المحرم.
الشيخ الصالح العابد ناصر الدين [ محمد ] بن الشيخ إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد بن مالك الجعبري ثم المصري، ولد سنة خمسين وستمائة بقلعة جعبر، وسمع صحيح مسلم وغيره، وكان يتكلم على الناس ويعظهم ويستحضر أشياء كثيرة من التفسير وغيره، وكان فيه صلاح وعبادة، توفي في الربع والعشرين من المحرم، ودفن بزاويتهم عند والده خارج باب النصر.
الشيخ شهاب الدين عبد الحق الحنفي أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن يوسف ابن قاضي الحنفيين ويعرف بابن عبد الحق الحنفي، شيخ المذهب ومدرس الحنفية وغيرها، وكان بارعا فاضلا دينا، توفي في ربيع الاول.
الشيخ عماد الدين إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي الامام العالم العابد شيخ الحنابلة بها وفقيههم من مدة طويلة، توفي في ربيع الاول.
الشيخ الامام العابد الناسك محب الدين عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المقدسي الحنبلي، سمع كثير وقرأ بنفسه، وكتب الطباق وانتفع الناس به، وكانت له مجالس وعظ من الكتاب والسنة في الجامع الاموي وغيره، وله صوت طيب بالقراءة جدا، وعليه روح وسمينة ووقار، وكانت مواعيده مفيدة ينتفع بها الناس، وكان شيخ الاسلام تقي الدين بن تيمية يحبه ويحب قراءته، توفي يوم الاثنين سابع ربيع الاول، وكانت جنازته حافلة، ودفن بقاسيون وشهد الناس له بخير، رحمه الله تعالى، وبلغ خمسا وخمسين سنة.
المحدث البارع المحصل المفيد المجيد
ناصر الدين محمد بن طغربل بن عبد الله الصيرفي أبوه، الخوارزمي الاصل، سمع الكثير

(14/208)


وقرأ بنفسه، وكان سريع القراءة، وقرأ الكتب الكبار والصغار، وجمع وخرج شيئا كثيرا، وكان بارعا في هذا الشأن، رجل فأدركته منيته بحماة يوم السبت ثاني ربيع الاول، ودفن من الغد بمقابر طيبة رحمه الله.
شيخنا الامام العالم العابد شمس الدين أبو محمد عبد الله بن العفيف محمد بن الشيخ تقي الدين يوسف بن عبد المنعم ابن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي، إمام مسجد الحنابلة بها، ولد سنة سبع وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وكان كثير العبادة حسن الصوت، عليه البهاء والوقار وحسن الشكل والسمت، قرأت عليه عام ثلاث وثلاثين وسبعمائة مرجعنا من القدس كثيرا من الاجزاء والفوائد، وهو والد صاحبنا الشيخ جمال الدين يوسف أحد مفتية الحنابلة وغيرهم، والمشهورين بالخير والصلاح، توفي يوم الخميس ثاني عشرين ربيع الآخر ودفن هناك رحمه الله.
الشيخ محمد بن عبد الله بن المجد إبراهيم المرشدي المقيم بمنية مرشد (1)، يقصده الناس للزيارة، ويضيف الناس على حسب مراتبهم وينفق نفقات كثيرة جدا، ولم يكن يأخذ من أحد شيئا فيما يبدوا للناس، والله أعلم بحاله، وأصله من قرية دهروط (2)، وأقام بالقاهرة مدة واشتغل بها، ويقال إنه قرأ التنبيه في الفقه، ثم انقطع بمنية مرشد واشتهر أمره في الناس وحج مرات، وكان إذا دخل القاهرة يزدحم عليه الناس، ثم كانت وفاته يوم الخميس ثامن رمضان ودفن بزاويته، وصلي عليه بالقاهرة ودمشق وغيرها.
الامير أسد الدين عبد القادر بن المغيث عبد العزيز بن الملك المعظم عيسى بن العادل، ولد سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وأسمع، وكان يأتي كل سنة من مصر إلى دمشق ويكرم أهل الحديث،
ولم يبق من بعده من بني أيوب أعلا سنا منه، توفي بالرملة في سلخ رمضان رحمه الله.
الشيخ الصالح الفاضل حسن بن إبراهيم بن حسن الحاكي الحكري إمام مسجد هناك، ومذكر الناس في كل
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 279: بديروط.
__________
(2) ديروط (دهروط) من القرى القديمة وكانت تابعة لثغر الاسكندرية ثم لمركز رشيد، وحاليا تابعة لمركز المحمودية (القاموس الجغرافي 2 / 2 / 270).

(14/209)


جمعة، ولديه فضائل، وفي كلامه نفع كثير إلى أن توفي في العشرين من شوال، ولم ير الناس مثل جنازته بديار مصر رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة استهلت بيوم الاربعاء والخليفة المستكفي منفي ببلاد قوص (1)، ومعه أهله وذووه، ومن يلوذ به، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن الملك المنصور، ولا نائب بديار مصر ولا وزير، ونائبه بدمشق تنكز، وقضاة البلاد ونوابها ومباشروها هم المذكورون في التي قبلها.
وفي ثالث ربيع الاول رسم السلطان بتسفير علي ومحمد ابني داود بن سليمان بن داود بن العاضد آخر خلفاء الفاظميين إلى الفيوم يقيمون به.
وفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر عزل القاضي علم الدين ابن القطب عن كتابة السر وضرب وصودر، ونكب بسببه القاضي فخر الدين المصري، وعزل عن مدرسته الدولعية وأخذها ابن جملة، والعادلية الصغيرة باشرها ابن النقيب، ورسم عليه بالعذراوية مائة يوم، وأخذ شئ من ماله.
وفي ليلة الاحد ثالث عشرين ربيع الاول بعد المغرب هبت ريح شديدة بمصر وأعقبها رعد وبرق وبرد بقدر الجوز، وهذا شئ لم يشاهدوا مثله من أعصار متطاولة بتلك البلاد.
وفي عاشر جمادى الاولى استهل الغيث بمكة من أول الليل، فلما انتصف الليل جاء سيل عظيم هائل لم ير مثله من دهر طويل، فخرب دورا كثيرة نحوا من ثلاثين أو أكثر، وغرق جماعة وكسر أبواب المسجد،
ودخل الكعبة وارتفع فيها نحوا من ذراع أو أكثر، وجرى أمر عظيم حكاه الشيخ عفيف الدين الطبري.
وفي سابع عشرين من جمادى الاولى عزل القاضي جلال الدين (2) عن قضاء مصر، واتفق وصول خبر موت قاضي الشام ابن المجد (3) بعد أن عزل بيسير، فولاه السلطان قضاء الشام فسار إليها راجعا عودا على بدء، ثم عزل السلطان برهان الدين بن عبد الحق قاضي الحنفية، وعزل قاضي الحنابلة تقي الدين، ورسم على ولده صدر الدين بأداء ديوان الناس إليهم، وكانت قريبا من ثلثمائة ألف، فلما كان يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة بعد سفر جلال الدين بخمسة أيام طلب السلطان أعيان الفقهاء إلى بين يديه فسألهم عن من يصلح للقضاء بمصر فوقع الاختيار على القاضي عز الدين بن جماعة، فولاه في الساعة الراهنة، وولى قضاء الحنفية لحسام الدين حسن بن محمد الغوري قاضي بغداد، وخرجا من بين يديه إلى المدرسة الصالحية (4)،
__________
(1) انظر ما سبق ص 207 حاشية رقم 2
__________
(2) وهو جلال الدين أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني الشافعي.
__________
(3) وهو قاضي القضاة شهاب الدين أبي عبد الله محمد بن مجد الدين عبد الله بن الحسين بن علي الاربلي الدمشقي الشافعي.
__________
(4) المدرسة الصالحية بالقاهرة وهي على يمنة الطالب إلى بين القصرين وباب النصر والخانقاه وخان برجوان والطرق المتفرقة، أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وقد بدأ ببنائها سنة 639 ه.
(تذكرة النبيه 1 / 342).

(14/210)


وعليهما الخلع، ونزل عز الدين بن جماعة عن دار الحديث الكاملية لصاحبه الشيخ عماد الدين الدمياطي، فدرس فيها وأورد حديث " إنما الاعمال بالنيات ".
بسنده، وتكلم عليه.
وعزل أكثر نواب الحكم واستمر بعضهم، واستمر بالمنادي الذي أشار بتوليته.
ولما كان يوم خامس عشرين منه ولي قضاء الحنابلة الامام العالم موفق الدين أبو محمد عبد الله بن محمد عبد الملك المقدسي عوضا عن المعزول، ولم يبق من القضاة سوى الاخنائي المالكي.
وفي رمضان فتحت الصبابية التي أنشأها شمس الدين بن تقي الدين بن الصباب التاجر دار
قرآن ودار حديث، وقد كانت خربة شنيعة قبل ذلك.
وفي رمضان باشر علاء الدين علي ابن القاضي محيي الدين بن فضل الله كتابة السر بمصر بعد وفاة أبيه كما سيأتي ترجمته، وخلع عليه وعلى أخيه بدر الدين، ورسم لهما أن يحضرا مجلس السلطان، وذهب أخوه شهاب الدين إلى الحج.
وفي هذا الشهر سقط بالجانب الغربي من مصر برد كالبيض وكالرمان، فأتلف شيئا كثيرا، ذكر ذلك البرزالي ونقله من كتاب الشهاب الدمياطي.
وفي ثالث عشرين رمضان درس بالقبة المنصورية بمشيخة الحديث شهاب الدين العسجدي عوضا عن زين الدين الكناني توفي، فأورد حديثا من مسند الشافعي بروايته عن الجاولي بسنده، ثم صرف عنها بالحجة بالشيخ أثير الدين أبي حيان، فساق حديثا عن شيخه ابن الزبير ودعا للسلطان وحضر عنده القضاة والاعيان، وكان مجلسا حافلا.
وفي ذي القعدة حضر تدريس الشامية البرانية قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب عوضا عن القاضي جمال الدين بن جملة توفي، وحضر خلق كثير من الفقهاء والاعيان، وكان مجلسا حافلا.
وفي ثاني ذي الحجة درس بالعادلية الصغيرة تاج الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني عوضا عن الشيخ شمس الدين بن النقيب بحكم ولايته الشامية البرانية، وحضر عنده القضاة والاعيان.
وفي هذا الشهر درس القاضي صدر الدين بن القاضي جلال الدين بالاتابكية، وأخوه الخطيب بدر الدين بالغزالية والعادلية نيابة عن أبيه.
انتهى والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: الامير الكبير بدر الدين محمد بن فخر الدين عيسى بن التركماني باني جامع المقياس بديار مصر في أيام وزارته بها، ثم عزل أميرا إلى الشام، ثم رجع إلى مصر إلى أن توفي بها في خامس ربيع الآخرة، وكان مشكورا رحمه الله.
انتهى.

(14/211)


قاضي القضاة شهاب الدين
محمد بن المجد بن عبد الله بن الحسين بن علي الرازي الربلي الاصل، ثم الدمشقي الشافعي، قاضي الشافعية بدمشق، ولد سنه ثنتين وستين وستمائة، واشتغل وبرع وحصل وأفتى سنة ثلاث وتسعين، ودرس بالاقبالية ثم الرواحية وتربة أم الصالح، وولي وكالة بيت المال، ثم صار قاضي قضاة الشام إلى أن توفي بمستهل جمادى الاولى (1) بالمدرسة العادلية، ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله.
الشيخ الامام العالم ابن المرحل زين الدين محمد بن عبد الله بن الشيخ زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد بن المرحل مدرس الشامية البرانية والعذراوية بدمشق، وكان قبل ذلك بمشهد الحسين، وكان فاضلا بارعا فقيها أصوليا مناظرا، حسن الشكل طيب الاخلاق، دينا صينا، وناب في وقت بدمشق عن علم الدين الاخنائي فحمدت سيرته، وكانت وفاته ليلة الاربعاء تاسع عشر رجب، ودفن من الغد عند مسجد الديان في تربة لهم هناك، وحضر جنازته القاضي جلال الدين، وكان قد قدم من الديار المصرية له يومان فقط، وقدم بعده القاضي برهان الدين عبد الحق بخمسة أيام، هو وأهله وأولاده أيضا، وباشر بعده تدريس الشامية البرانية قاضي القضاة جمال الدين بن جملة، ثم كانت وفاته بعده بشهور، وذلك يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة.
وهذه ترجمته في تاريخ الشيخ علم الدين البرزالي: قاضي القضاة جمال الدين الصالحي جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن إبراهيم بن جمله بن مسلم بن همام (2) بن حسين بن يوسف الصالحي الشافعي المحجي والده، بالمدرسة السرورية وصلي عليه عقيب الظهر يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة، ودفن بسفح قاسيون، ومولده في أوائل سنة ثنتين وثمانين وستمائة، وسمع من ابن البخاري وغيره، وحدث وكان رجلا فاضلا في فنون، اشتغل وحصل وأفتى وأعاد ودرس، وله فضائل جمة ومباحث وفوائد وهمة عالية وحرمة وافرة، وفيه تودد وإحسان وقضاء للحقوق، وولي القضاء بدمشق نيابة واستقلالا، ودرس بمدارس كبار، ومات وهو مدرس
الشامية البرانية، وحضر جنازته خلق كثير من الاعيان رحمه الله.
__________
(1) في تذكرة النبيه 2 / 289: جمادى الآخرة.
__________
(2) في تذكرة النبيه 2 / 29 2 وشذرات الذهب 6 / 119: تمام.

(14/212)


شيخ الاسلام قاضي القضاة ابن البارزي شرف الدين أبو القاسم هبة الله بن قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن القاضي شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله الجهيني الحموي، المعروف بابن البارزي قاضي القضاة بحماة، صاحب التصانيف الكثيرة المفيدة في الفنون العديدة، ولد في خامس رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة، وسمع الكثير وحصل فنونا كثيرة، وصنف كتبا جما كثيرة (1)، وكان حسن الاخلاق كثير المحاضرة حسن الاعتقاد في الصالحين، وكان معظما عند الناس، وأذن الجماعة من البلد في الافتاء، وعمي في آخر عمره وهو يحكم مع ذلك مدة، ثم نزل عن المنصب لحفيده نجم الدين عبد الرحيم بن إبراهيم، وهو في ذلك لا يقطع نظره عن المنصب، وكانت وفاته ليلة الاربعاء العشرين من ذي القعدة بعد أن صلى العشاء والوتر، فلم تفته فريضة ولا نافلة، وصلي عليه من الغد ودفن بعقبة نقيرين، وله من العمر ثلاث وتسعون سنة.
الشيخ الامام العالم شهاب الدين أحمد بن البرهان شيخ الحنفية بحلب، شارح الجامع الكبير، وكان رجلا صالحا منقطعا عن الناس، وانتفع الناس به، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثامن والعشرين من رجب، وكانت له معرفة بالعربية والقراءات، ومشاركات في علوم أخر رحمه الله، والله أعلم.
القاضي محيي الدين بن فضل الله كاتب السر هو أبو المعالي يحيى بن فضل الله بن المحلي بن دعجان بن خلف العدوي العمر ي، ولد في حادي عشر شوال سنة خمس وأربعين وستمائة بالكرك، وسمع الحديث وأسمعه، وكان صدرا
كبيرا معظما في الدولة في حياة أخيه شرف الدين وبعده، وكتب السر بالشام وبالديار المصرية، وكانت وفاته ليلة الاربعاء تاسع رمضان بديار مصر، ودفن من الغد بالقرافة وتولى المنصب بعده، ولده علاء الدين، وهو أصغر أولاده الثلاثة المعينين لهذا المنصب.
الشيخ الامام العلامة ابن الكتاني زين الدين بن الكتاني، شيخ الشافعية بديار مصر، وهو أبو حفص عمر بن أبي الحزم بن
__________
(1) من مصنفاته: الاحكام على أبواب التنبيه، والاساس في معرفة آلة الناس، وتمييز التعجيز في الفروع، روضات جنات المحبين في تفسير القرآن المبين، وأسرار التنزيل، وتيسير الفتاوي من تحرير الحاوي (هدية العارفين 2 / 507).

(14/213)


عبد الرحمن بن يونس الدمشقي الاصل، ولد بالقاهرة في حدود سنة ثلاث وخمسين وستمائة، واشتغل بدمشق ثم رحل إلى مصر واستوطنها وتولى بها بعض الاقضية بالحكر، ثم ناب عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فحمد ت سيرته، ودرس بمدارس كبار، ولي مشيخة دار الحديث بالقبة المنصورية (1)، وكان بارعا فاضلا، عنده فوائد كثيرة جدا، غير أنه كان سئ الاخلاق منقبضا عن الناس، لم يتزوج قط، وكان حسن الشكل بهي المنظر، يأكل الطيبات ويلبس اللين من الثياب، وله فوائد وزوائد على الروضة (2) وغيرها، وكان فيه استهتار لبعض العلماء فالله يسامحه، وكانت وفاته يوم الثلاثاء المنتصف من رمضان، ودفن بالقرافة رحمه الله انتهى.
الشيخ الامام العلامة ابن القويع ركن الدين بن القويع، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الجليل الوسي الهاشمي الجعفري التونسي المالكي، المعروف بابن القويع، كان من أعيان الفضلاء وسادة الاذكياء، ممن جمع الفنون الكثيرة والعلوم الاخروية الدينية الشرعية الطيبة، وكان مدرسا بالمنكود مرية، وله وظيفة في المارستان المنصوري، وبها توفي في بكرة السابع عشر من ذي الحجة، وترك مالا وأثاثا ورثه بيت المال.
وهذا آخر ما أرخه شيخنا الحافظ علم الدين البرزالي في كتابه الذي ذيل به على تاريخ الشيخ شهاب الدين أبي شامة المقدسي، وقد ذيلت على تاريخه إلى زماننا هذا، وكان فراغي من الانتقاء من تاريخه في يوم الاربعاء من جمادى الآخرة من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها آمين.
وإلى هنا انتهى ما كتبته من لدن خلق آدم إلى زماننا هذا ولله الحمد والمنة.
وما أحسن ما قال الحريري.
وإن تجد عيبا فسد الخللا * فجل من لا عيب فيه وعلا كتبه إسماعيل بن كثير بن صنو القرشي الشافعي عفا الله عنه آمين.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وسبعمائة استهلت وسلطان الاسلام بالديار المصرية وما والاها والديار الشامية وما والاها والحرمين الشريفين الملك الناصر بن الملك المنصور قلاوون، ولا نائب له لا وزير أيضا
__________
(1) قال المقريزي في المواعظ: كان بالقبة المنصورية دروس للفقهاء على المذاهب الاربعة (2 / 380).
__________
(2) وهو كتاب الروضة في الفروع " روضة الطالبين وعمدة المتقين) للامام يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه (كشف الظنون 1 / 929).

(14/214)


بمصر، وقضاة مصر، أما الشافعي فقاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين محمد ابن إبراهيم بن جماعة، وأما الحنفي فقاضي القضاة حسام الدين الغوري، حسن بن محمد، وأما المالكي فتقي الدين الاخنائي، وأما الحنبلي فموفق الدين بن نجا المقدسي، ونائب الشام الامير سيف الدين تنكز وقضاته جلال الدين القزويني الشافعي المعزول عن الديار المصرية، والحنفي عماد الدين الطرسوسي، والمالكي شرف الدين الهمداني، والحنبلي علاء الدين بن المنجا التنوخي.
ومما حدث في هذه السنة إكمال دار الحديث السكرية وباشر مشيخة الحديث بها الشيخ الامام الحافظ مؤرخ الاسلام محمد بن شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، وقرر فيها ثلاثون
محدثا لكل منهم جراى وجامكية كل شهر سبعة دراهم ونصف رطل خبز، وقرر للشيخ ثلاثون ورطل خبز، وقرر فيها ثلاثون نفرا يقرأون القرآن ؟ لكل عشرة شيخ، ولكل واحد من القراء نظير ما للمحدثين، ورتب لها إمام وقارئ حديث ونواب، ولقارئ الحديث عشرون درهما وثمان أواق خبز، وجاءت في غاية الحسن في شكالاتها وبنائها، وهي تجاه دار الذهب التي أنشأها الواقف الامير تنكز، ووقف عليها عدة أماكن: منها سوق القشاشيين بباب الفرج، طوله عشرون ذراعا شرقا وغربا.
سماه في كتاب الوقف، وبندر زيدين، وحمام بحمص وهو الحمام القديم، ووقف عليها حصصا في قرايا أخر، ولكنه تغلب على ما عدا القشاشيين، وبندر زيدين، وحمام حمص.
وفيها قدم القاضي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي من الديار المصرية حاكما على دمشق وأعمالها، وفرح الناس به، ودخل الناس يسلمون عليه لعلمه وديانته وأمانته، ونزل بالعادلية الكبيرة على عادة من تقدمه، ودرس بالغزالية والاتابكية، واستناب ابن عمه القاضي بهاء الدين أبو البقاء، ثم استناب ابن عمه أبا الفتح، وكانت ولايته الشام بعد وفاة قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحيم القزويني الشافعي، على ما سيأتي بيانه في الوفيات من هذه السنة.
وممن توفي فيها من الاعيان في المحرم سنة تسع وثلاثين وسبعمائة: العلامة قاضي القضاة فخر الدين عثمان بن الزين علي بن عثمان الحلبي، ابن خطيب جبرين (1) الشافعي، ولي قضاء حلب وكان إماما صنف شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه، وشرح البديع لابن الساعاتي، وله فوائد
__________
(1) في الاصل جسرين، تحريف، وجبرين قرية من قرى حلب.

(14/215)


غزيرة ومصنفات جليلة، تولى حلب بعد عزل الشيخ ابن النقيب، ثم طلبه السلطان فمات هو وولده الكمال وله بضع وسبعون سنة.
وممن توفي فيها: قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن
القزويني الشافعي، قدم هو وأخوه أيام التتر من بلادهم إلى دمشق، وهما فاضلان، بعد التسعين وستمائة فدرس إمام الدين في تربة أم الصالح وأعاد جلال الدين بالباد رائية عند الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين شيخ الشافعية، ثم تقلبت بهم الاحوال إلى أن ولي إمام الدين قضاء الشافعية بدمشق، انتزع له من يد القاضي بدر الدين بن جماعة، ثم هرب سنة قازان إلى الديار المصرية مع الناس فمات هنالك، وأعيد ابن جماعة إلى القضاء، وخلت خطابة البلد سنة ثلاث وسبعمائة، فوليها جلال الدين المذكور، ثم ولي القضاء بدمشق سنة خمس وعشرين مع الخطابة، ثم انتقل إلى الديار المصرية سنة سبع وعشرين بعد أن عجر قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بسبب الضرر في عينيه فلما كان في سنة ثمان وثلاثين تعصب عليه السلطان الملك الناصر بسبب أمور يطول شرحها، ونفاه إلى الشام، واتفق موت قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد عبد الله كما تقدم، فولاه السلطان قضاء الشام عودا على بدء، فاستناب ولده بدر الدين على نيابة القضاء الذي هو خطيب دمشق، كانت وفاته في أواخر هذه السنة، ودفن بالصوفية، وكانت له يد طولى في المعاني والبيان، ويفتي كثيرا، وله مصنفات في المعاني (1) ومصنف مشهور اختصر فيه المفتاح للسكاكي، وكان مجموع الفضائل، مات وكان عمره قريبا من السبعين أو جاوزها (2).
وممن توفي فيها رابع [ ذي ] الحجة يوم الاحد: الشيخ الامام الحافظ ابن البرزالي علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد بن البرزالي مؤرخ الشام الشافعي، ولد سنة وفاة الشيخ ابن أبي شامة سنة خمس وستين وستمائة، وقد كتب تاريخا ذيل به على الشيخ شهاب الدين، من حين وفاته ومولد البرزالي إلى أن توفي في هذه السنة، وهو محرم، فغسل وكفن ولم يستر رأسه، وحمله الناس على نعشه وهم يبكون حوله، وكان يوما مشهودا، وسمع الكثير أزيد من ألف شيخ، وخرج له المحدث شمس الدين بن سعد مشيخة لم يكملها، وقرأ شيئا كثيرا،
__________
(1) هو كتاب تصانيف الايضاح على صاحب المفتاح في المعاني والبيان، ومن مؤلفاته المشذر المرجاني من شعر الارجاني (هدية العارفين 2 / 150).
__________
(2) كان مولده سنة 666 بالموصل، مات في جمادى الاولى وله ثلاث وسبعون سنة (تذكرة النبيه 2 / 299).

(14/216)


وأسمع شيئا كثيرا، وكان له خط حسن، وخلق حسن، وهو مشكور عند القضاة ومشايخه أهل ؟ العلم، سمعت العلامة ابن تيمية يقول: نقل البرزالي نقر في حجر.
وكان أصحابه من كل الطوائف يحبونه ويكرمونه، وكان له أولاد ماتوا قبله، وكتبت ابنته فاطمة البخاري في ثلاثة عشر مجلدا فقابله لها، وكان يقرأ فيه على الحافظ المزي تحت القبة، حتى صارت نسختها أصلا معتمدا يكتب منها الناس، وكان شيخ حديث بالنورية وفيها وقف كتبه بدار الحديث السنية، وبدار ؟ الحديث القوصية وفي الجامع وغيره وعلى كراسي الحديث، وكان متواضعا محببا إلى الناس، متوددا إليهم، توفي عن أربع وسبعين سنة رحمه الله.
المؤرخ شمس الدين محمد بن إبراهيم الجوزي، جمع تاريخا حافلا، كتب فيه أشياء يستفيد منها الحافظ كالمزي والذهبي والبرزالي يكتبون عنه ويعتمدون على نقله، وكان شيخا قد جاوز الثمانين، وثقل سمعه ؟ وضعف خطه، وهو والد الشيخ ناصر الدين محمد وأخوه مجد الدين.
ثم دخلت سنة أربعين وسبعمائة استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين الملك الناصر، وولاته وقضاته المذكورون في التي قبلها إلا الشافعي بالشام فتوفي القزويني وتولى العلامة السبكي.
ومما وقع من الحوادث العظمية الهائلة أن جماعة من رؤس النصارى اجتمعوا في كنيستهم وجمعوا من بينهم مالا جزيلا فدفعوه إلى راهبين قدما عليها من بلاد الروم، يحسنان صنعة النفط، اسم أحدهما ملاني الآخر عازر فعملا كحطا من نفط، وتلطفا حتى عملاه لا يظهر تأثيره إلا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوضعا في شقوق دكاكين التجار في سوق الرجال عند الدهشة في عدة دكاكين من آخر النهار، بحيث لا يشعر أحد بهما، وهما في زي المسلمين، فلما كان في أثناء الليل لم يشعر الناس إلا والنار قد عملت في تلك الدكاكين حتى تعلقت في درابزينات المأذنة الشرقية المتجهة للسوق المذكور،
وأحرقت الدرابزينات، وجاء نائب السلطنة تنكز والامراء أمراء الالوف، وصعدوا المنارة وهي تشعل نارا، واحترسوا عن الجامع فلم ينله شئ من الحريق ولله الحمد والمنة، وأما المأذنة فإنها تفجرت أحجارها واحترقت السقالات التي تدل السلالم وأعيد بناؤها بحجارة جدد، وهي المنارة الشرقية التي جاء في الحديث أنه ينزل عليها عيسى ابن مريم كما سيأتي الكلام عليه في نزول عيسى عليه السلام والبلد محاصر بالدجال.
والمقصود أن النصارى بعد ليال عمدوا إلى ناحية الجامع من المغرب إلى القيسارية بكمالها، وبما فيها من الاقواس والعدد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وتطاير شرر النار إلى ما حول

(14/217)


القيسارية من الدور والمساكن والمدارس، واحترق جانب من المدرسة الامينية إلى جانب المدرسة المذكورة وما كان مقصودهم إلا وصول النار إلى معبد المسلمين، فحال الله بينهم وبين ما يرومون، وجاء نائب السلطنة والامراء وحالوا بين الحريق والمسجد، جزاهم الله خيرا.
ولما تحقق نائب السلطنة أن هذا من فعلهم أمر بمسك رؤس النصارى فأمسك منهم نحوا من ستين رجلا، فأخذوا بالمصادرات (1) والضرب والعقوبات وأنواع المثلات، ثم بعد ذلك صلب منهم أزيد من عشرة (1) على الجمال، وطاف بهم في أرجاء البلاد وجلعوا يتماوتون واحدا بعد واحد، ثم أحرقوا بالنار حتى صارو رمادا لعنهم الله، انتهى والله أعلم.
سبب مسك تنكز لما كان يوم الثلاثاء (2) الرابع والعشرين من ذي الحجة جاء الامير طشتمر من صغد مسرعا وركب جيش دمشق ملبسا، ودخل نائب السلطنة من قصره مسرعا إلى دار السعادة، وجاء الجيش فوقفوا على باب النصر، وكان أراد أن يلبس ويقابل فعذلوه في ذلك، وقالوا: المصلحة الخروج إلى السلطان سامعا مطيعا، فخرج بلا سلاح، فلما برز إلى ظاهر البلد التف عليه الفخري وغيره، وأخذوه وذهبوا به إلى ناحية الكسوة، فلما كان عند قبة يلبغا نزلوا وقيدوه وخصاياه من قصره، ثم ركب البريد وهو مقيد وساروا به إلى السلطان، فلما وصل أمر بمسيره إلى
الاسكندرية، وسألوا عن ودائعه فأقر ببعض، ثم عوقب حتى أقر بالباقي، ثم قتلوه ودفنوه بالاسكندرية (3)، ثم نقلوه إلى تربته بدمشق رحمه الله، وقد جاوز الستين، وكان عادلا مهيبا عفيف الفرج واليد، والناس في أيامه في غاية الرخص والامن والصيانة فرحمه الله، وبل بالرحمة ثراه.
__________
(1) صودروا بنحو ألف درهم، وصلب منهم عشر نفرا (تذكرة النبيه 2 / 313).
__________
(2) في بدائع الزهور 1 / 1 / 478: يوم السبت ثالث عشر ذي الحجة.
وفي السلوك 2 / 495 والنجوم الزاهرة 9 / 113: نهار الثلاثاء الحادي والعشرين ذي الحجة.
وعن سبب القبض عليه أشار في بدائع الزهور إلى تمنعه عن الاجابة إلى طلب السلطان إليه بالمسير إلى القاهرة ورغم تكرار الطلب.
أما المقريزي فيرى لتغير السلطان عليه أسبابا أخرى، قال: أنه كان يكتب إلى السلطان يستأذنه في سيره إلى ناحية جعبر، فمنعه السلطان من ذلك لما في تلك البلاد من الغلاء، وألح في الطلب والجواب يرد بمنعه حتى حنق عليه السلطان - فقال تنكز: - والله لقد تغير عقل استاذنا وصار يسمع من الصبيان الذين حوله والله لو سمع مني لكنت أشرت عليه بأن يقيم أحد أولاده وأقوم أنا بتدبير أمره، فكتب بذلك إلى السلطان، وذكر سببا آخر: أن تنكز غضب على بعض مماليك الروم - ومنهم جوبان - فكتب السلطان يشفع بجوبان فلم يجبه تنكز في أمره رغم إلحاحه في أمره فاشتد غضب السلطان عليه.
__________
(3) وكان ذلك يوم الثلاثاء نصف المحرم سنة 741 ه (انظر تاريخ الشجاعي ص 71 - 89 والمصادر السابقة في الحاشية السابقة).

(14/218)


وله أوقاف كثيرة من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار الحديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الاقصى، وفتح شباكا في المسجد.
انتهى والله تعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: أمير المؤمنين المستكفي بالله
أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله بن العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر بن علي ابن أمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، البغدادي الاصل والمولد، مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة أو في التي قبلها، وقرأ واشتغل قليلا، وعهد إليه أبوه بالامر وخطب له عند وفاة والده سنة إحدى وسبعمائة، وفوض جميع ما يتعلق به من الحل والعقد إلى السلطان الملك لناصر، وسار إلى غزو التتر فشهد مصاف شقحب، ودخل دمشق في شعبان سنة اثنتين وسبعمائة وهو راكب مع السلطان، وجميع كبراء الجيش مشاة، ولما أعرض السلطان عن الامر وانعزل بالكرك ؟ التمس الامراء من المستكفي أن يسلطن من ينهض بالملك، فقلد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير وعقد له اللواء وألبسه خلعة السلطنة، ثم عاد الناصر إلى مصر وعذر الخليفة في فعله، ثم غضب عليه وسيره إلى قوص فتوفي في هذه السنة في قوص في مستهل شعبان.