البداية والنهاية، ط. دار إحياء التراث العربي
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وسبعمائة
استهلت يوم الاربعاء وسلطان المسلمين الملك الناصر محمد بن قلاوون بن
الملك المنصور قلاوون، وقضاته بمصر هم المذكورون في التي قبلها، وليس
في دمشق نائب سلطنة، وإنما الذي يسد الامور الامير سيف الدين طشتمر
الملقب بالحمص الاخضر، الذي جاء بالقبض على الامير سيف الدين تنكز، ثم
جاء المرسوم بالرجوع إلى صفد فركب من آخر النهار وتوجه إلى بلده،
وحواصل الامير تنكز تحت الحوطة كما هي.
وفي صبيحة يوم السبت رابع المحرم من السنة المذكورة قدم من الديار
المصرية خمسة أمراء الامير سيف الدين بشتك الناصري ومعه برصبغا الحاجب
(1)، وطاشار الدويدار (2) وبنعرا (3)
__________
(1) وهو سيف الدين برسبغا بن عبد الله الحاجب توفي سنة 742 ه (الدرر
الكامنة 1 / 474).
__________
(2) وهو سيف الدين طاجار بن عبد الله الناصري الدوادار توفي سنة 742
(النجوم الزاهرة 10 / 75 الدرر 2 / 213).
__________
(3) وقيل بيغرا، وهو سي ف الدين بيغرا الناصري وفاته سنة 754 (الدرر 1
/ 514).
(14/219)
وبطا (1)، فنزل
بشتاك بالقصر الابلق والميادين، وليس معه من مماليكه إلا القليل، وإنما
جاء لتجديد البيعة إلى السلطان لما توهموا من ممالاة بعض الامراء لنائب
الشام المنفصل، وللحوطة على حواصل الامير سيف الدين تنكز المنفصل عن
نيابة الشام وتجهيزها للديار المصرية.
وفي صبيحة يوم الاثنين سادسه دخل الامير علاء الدين الطنبغا إلى دمشق
نائبا، وتلقاه الناس وبشتك والامراء المصريون، ونزلوا إلى عتبته فقبلوا
العتبة الشريفة، ورجعوا معه إلى دار السعادة، وقرئ تقليده.
وفي يوم الاثنين ثالث عشره مسك من الامراء المقدمين أميران كبيران الجي
بغا العادلي، وطنبغا الحجي، ورفعا إلى القلعة المنصورة واحتيط على
حواصلهما.
وفي يوم الثلاثاء تحملوا بيت ملك الامراء سيف الدين تنكز وأهله وأولاده
إلى الديار المصرية.
وفي يوم الاربعاء خامس عشره ركب نائب السلطنة الامير علاء الدين طنبغا
ومعه الامير سيف الدين بشتك الناصري والحاجة رقطية وسيف الدين قطلوبغا
الفخري وجماعة من الامراء المقدمين واجتموا بسوق الخيل واستدعوا
بمملوكي الامير سيف الدين تنكز وهما بغاي وطغاي.
فأمر بتوسيطهما فوسطا وعلقا على الخشب ونودي عليهما: هذا جزاء من تجاسر
على السلطان الناصر.
وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين (2) من هذا الشهر كانت وفاة الامير
سيف الدين تنكز نائب الشام بقلعة اسكندرية، قيمخنوقا وقيل مسموما (3)
وهو الاصح، وقيل غير ذلك، وتأسف الناس عليه كثيرا، وطال حزنهم عليه،
وفي كل وقت يتذكرون ما كان منه من الهيبة والصيانة والغيرة على حريم
المسلمين ومحارم الاسلام، ومن إقامته على ذوي الحاجات وغيرهم، ويشتد
تأسفهم عليه رحمه الله.
وقد أخبر القاضي أمين الدين بن القلانسي رحمه الله شيخنا الحافظ
العلامة عماد الدين بن كثير رحمه الله أن الامير سيف الدين تنكز مسك
يوم الثلاثاء ودخل مصر يوم الثلاثاء ودخل الاسكندرية يوم الثلاثاء
وتوفي يوم الثلاثاء وصلي عليه بالاسكندرية ودفن بمقبرتها في الثالث
والعشرين من المحرم بالقرب من قبر القباري، وكانت له جنازة جيدة.
وفي يوم الخميس سابع شهر صفر قدم الامير سيف الدين طشتمر الذي مسك تنكز
إلى دمشق فنزل بوطأة برزة بجيشه ومن معه ثم توجه إلى حلب المحروسة
نائبا بها عوضا عن الطنبغا
المنفصل عنها.
وفي صبيحة يوم الخميس ثالث عشر ربيع الاول نودي في البلد بجنازة الشيخ
الصالح العابد
__________
(1) بطا أو بكا، وهو سيف الدين بكا بن عبد الله الخضري الناصري كانت
وفاته سنة 743 ه (النجوم الزاهرة 10 / 104 والدرر 1 / 480).
__________
(2) انظر حاشية 3 صفحة 218.
__________
(3) في بدائع الزهور 1 / 1 / 479: بعد سجنه أربعين يوما وهو مقيد، رسم
السلطان بخنقه، فأرسل إليه الحاج ابراهيم بن صابر، مقدم الدولة، فخنقه
وهو بالسجن.
(14/220)
الناسك القدوة
الشيخ محمد بن تمام توفي بالصالحية، فذهب الناس إلى جنازته إلى الجامع
المظفري، واجتمع الناس على صلاة الظهر فضاق الجامع المذكور عن أن
يسعهم، وصلى بالناس في الطرقات وأرجاء الصالحية، وكان الجمع كثيرا جدا
لم يشهد الناس جنازة بعد جنازة الشيخ تقي الدين بن تيمية مثلها، لكثرة
من حضرها من الناس رجالا ونساء، وفيهم القضاة والاعيان والامراء وجمهور
الناس يقاربون عشرين ألفا، وانتظر الناس نائب السلطنة فاشتغل بكتاب ورد
عليه من الديار المصرية، فصلى عليه الشيخ بعد صلاة الظهر بالجامع
المظفري، ودفن عند أخيه في تربة بين تربة الموفق وبين تربة الشيخ أبي
عمر رحمهم الله وإيانا.
وفي أول شهر جمادى الاولى توفيت الشيخة العابدة الصالحة العالمة قارئة
القرآن أم فاطمة عائشة بنت إبراهيم بن صديق زوجة شيخنا الحافظ جمال
الدين المزي عشية يوم الثلاثاء مستهل هذا الشهر وصلي عليها بالجامع
صبيحة يوم الاربعاء ودفنت بمقابر الصوفية غربي قبر الشيخ تقي الدين بن
تيمية رحمهم الله.
كانت عديمة النظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها وتلاوتها وإقرائها
القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح، يعجز كثير من الرجال عن
تجويده، وختمت نساء كثيرا، وقرأ عليها من النساء خلق وانتفعن بها
وبصلاحها ودينها وزهدها في الدنيا، وتقللها منها، مع طول العمر بلغت
ثمانين سنة أنفقتها في طاعة الله صلاة وتلاوة، وكان الشيخ محسنا إليها
مطيعا، لا يكاد يخالفها لحبه لها طبعا وشرعا فرحمها الله وقدس روحها،
ونور مضجعها بالرحمة آمين.
وفي يوم الاربعاء الحادي والعشرين منه درس بمدرسة الشيخ أبي عمر بسفح
قاسيون الشيخ الامام شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي
الحنبلي، في التدريس البكتمري عوضا عن القاضي برهان الدين الزرعي، وحضر
عنده المقادسة وكبار الحنابلة، ولم يتمكن أهل المدينة من الحضور لكثرة
المطر والوحل يومئذ.
وتكامل عمارة المنارة الشرقية في الجامع الاموي في العشر الاخير من
رمضان، واستحسن الناس بناءها وإتقانها، وذكر بعضهم أنه لم يبن في
الاسلام منارة مثلها ولله الحمد.
ووقع لكثير من الناس في غالب ظنونهم أنها المنارة البيضاء الشرقية التي
ذكرت في حديث النواس بن سمعان في نزول عيسى ابن مريم على المنارة
البيضاء في شرقي دمشق، فلعل لفظ الحديث انقلب على بعض الرواة، وإنما
كان على المنارة الشرقية بدمشق، وهذه المنارة مشهورة بالشرقية
لمقابلتها أختها الغربية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر شوال عقد مجلس في دار العدل بدار السعادة
وحضرته يومئذ واجتمع القضاة والاعيان على العادة وأحضر يومئذ عثمان
الدكاكي قبحه الله تعالى، وادعي عليه بعظائم من القول لم يؤثر مثلها عن
الحلاج ولا عن ابن أبي الغدافر السلقماني، وقامت عليه البينة دعوى ؟
الالهية لعنه الله، وأشياء أخر من التنقيص بالانبياء ومخالطته أرباب
الريب من الباجريقية
(14/221)
وغيرهم من
الاتحادية عليهم لعائن الله، ووقع منه في مجلس من إساءة الادب على
القاضي الحنبلي وتضمن ذلك تكفيره من المالكية أيضا، فادعى أن له دوافع
وقوادح في بعض الشهود، فرد إلى السجن مقيدا مغلولا مقبوحا، أمكن الله
منه بقوته وتأييده، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي
القعدة أحضر عثمان الدكاكي المذكور إلى دار السعادة وأقيم إلى بين يدي
الامراء والقضاة وسئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر، وعجز عن ذلك
فتوجه عليه الحكم، فسئل القاضي المالكي الحكم عليه فحمد الله وأثنى
عليه وصلى على رسوله ثم حكم بإراقة دمه وإن
تاب، فأخذ المذكور فضربت رقبته بدمشق بسوق الخيل، ونودي عليه: هذا جزاء
من يكون على مذهب الاتحادية، وكان يوما مشهودا بدار السعادة، حضر خلق
من الاعيان والمشايخ، وحضر شيخنا جمال الدين المزي الحافظ، وشيخنا
الحافظ شمس الدين الذهبي، وتكلما وحرضا في القضية جدا، وشهدا بزندقة
المذكور بالاستفاضة، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين ابن
تيمية، وخرج القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي، وهم نفذوا حكمه
في المجلس فحضروا قتل المذكور وكنت مباشرا لجميع ذلك من أوله إلى آخره.
وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ذي القعدة أفرج عن الاميرين
العقيلين بالقلعة وهما طنبغا حجا والجي بغا، وكذلك أفرج عن خزاندارية
تنكز الذي تأخروا بالقعلة، وفرح الناس بذلك.
ذكر وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون
في صبيحة يوم الاربعاء السابع والعشرين من ذي الحجة قدم إلى دمشق
الامير سيف الدين قطلوبغا الفخري نائب السلطنة وعامة الامراء لتلقيه،
وكان قدومه على خيل البريد، فأخبر بوفاة السلطان الملك الناصر، كانت
وفاته يوم الاربعاء آخره.
وأنه صلي عليه ليلة الجمعة بعد العشاء ودفن مع أبيه الملك المنصور على
ولده أنوك، وكان قبل موته أخذ العهد لابنه سيف الدين أبي بكر ولقبه
الملك المنصور، فلما دفن السلطان ليلة الجمعة حضره من الامراء قليل،
وكان قد ولي عليه الامير علم الدين الجاولي، ورجل آخر منسوب إلى الصلاح
يقال له الشيخ عمر بن محمد ابن إبراهيم الجعبري، وشخص آخر من
الجبابرية، ودفن كما ذكرنا، ولم يحضر ولده ولي عهده دفنه، ولم يخرج من
القلعة ليلتئذ عن مشورة الامراء لئلا يتخبط الناس، وصلي عليه القاضي عز
الدين بن جماعة إماما، والجاولي وايدغمش وأمير آخر والقاضي بهاء الدين
بن حامد ابن قاضي دمشق السبكي، وجلس الملك المنصور سيف الدنيا والدين
أبو المعالي أبو بكر على سرير المملكة.
وفي صبيحة يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين
وسبعمائة، بايعه الجيش المصري، وقدم الفخري لاخذ البيعة من الشاميين،
ونزل بالقصر الابلق وبايع الناس
(14/222)
للملك المنصور
بن الناصر بن المنصور، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة بدمشق صبيحة يوم
الخميس الثامن والعشرين منه، وفرح الناس بالملك الجديد، وترحموا على
الملك ودسوا له وتأسفوا عليه رحمه الله.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة
استهلت بيوم الاحد وسلطان الاسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية وما
والاها الملك المصنور سيف الدين أبو بكر بن الملك السلطان الناصر ناصر
الدين محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ونائب
الشام الامير علاء الدين طنبغا وقضاة الشام ومصر هم المذكورون في التي
قبلها، وكذا المباشرون سوى الولاة.
شهر الله المحرم: ولاية الخليفة الحاكم بأمر خالله وفي هذا اليوم بويع
بالخلافة أمير المؤمنين أبو القاسم أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع
سليمان العباسي ولبس السواد وجلس مع الملك المنصور على سرير المملكة،
وألبسه خلعة سوداء أيضا، فجلسا وعليهما السواد، وخطب الخليفة يومئذ
خطبة بليغة فصيحة مشتملة على أشياء من المواعظ والامر بالمعروف والنهي
عن المنكر (1)، وخلع يومئذ على جماعة من الامراء والاعيان، وكان يوما
مشهودا، وكان أبو القاسم هذا قد عهد إليه أبوه بالخلافة (2)، ولكن لم
يمكنه الناصر من ذلك، وولى أبا إسحاق إبراهيم بن أخي أبي الربيع، ولقبه
الواثق بالله، وخطب به بالقاهرة جمعة واحدة فعزله المنصور وقرر أبا
القاسم هذا، وأمضى العهد ولقبه المستنصر بالله كما ذكرنا.
وفي يوم الاحد ثامن المحرم مسك الامير سيف الدين بشتك الناصري آخر
النهار، وكان قد كتب تقليده بنيابة الشام وخلع عليه بذلك وبرز ثقله ثم
دخل على الملك المنصور ليودعه فرحب به وأجلسه وأحضر طعاما وأكلا، وتأسف
الملك على فراقه، وقال: تذهب وتتركني وحدي، ثم قام لتوديعه وذهب بشتك
من بين يديه ثماني خطوات أو نحوها، ثم تقدم إليه ثلاثة نفر فقطع أحدهم
سيفه من وسطه بسكين، ووضع الآخر يده على فمه وكتفه الآخر، وقيدوه وذلك
كله بحضرة السلطان، ثم غيب ولم يدر أحد إلى أين صار، ثم قالوا
لمماليكه: اذهبوا أنتم فائتوا بمركوب
__________
(1) نسخة الخطبة في السلوك 2 / 3 / 559.
__________
(2) في بدائع الزهور 1 / 1 / 474: لما خلع من الخلافة، عهد إلى ولده
أحمد من بعده، وثبت ذل ك العهد على قاضي قوص - وكان الخليفة المستكفي
قد أبعد إلى قوص وأقام بها ثلاث سنين ونصف ومات هناك في شعبان سنة 741
ه - بشهادة أربعين رجلا من العدول.
وأما الملك الناصر لم يول أحمد المذكور وتروى أربعة أشهر في أمر من يلي
الخلافة إلى أن طلب - على حين غفلة - ابراهيم بن الامام أحمد الحاكم
بأمر الله وولاه الخلافة.
(14/223)
الامير غدا،
فهو بائت عند السلطان.
أصبح السلطان وجلس على سرير المملكة وأمر بمسك جماعة من الامراء وتسعة
من الكبار، واحتاطوا على حواصله وأمواله وأملاكه، فيقال إنه وجد عنده
من الذهب ألف ألف دينار، وسبعمائة ألف دينار.
وفاة شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي
تمرض أياما يسيرة مرضا لا يشغله عن شهود الجماعة، وحضور الدروس، وإسماع
الحديث، فلما كان يوم الجمعة حادي عشر صفر أسمع الحديث إلى قريب وقت
الصلاة، ثم دخل منزله ليتوضأ ويذهب للصلاة فاعترضه في باطنه مغص عظيم،
ظن أنه قولنج، وما كان إلا طاعون، فلم على حضور الصلاة، فلما فرغنا من
الصلاة أخبرت بأنه منقطع، فذهبت إليه فدخلت عليه فإذا هو يرتعد رعدة
شديدة من قوة الالم الذي هو فيه، فسألته عن حاله فجعل يكرر الحمد لله،
ثم أخبرني بما حصل له من المرض الشديد، وصلى الظهر بنفسه، ودخل إلى
الطهارة وتوضأ على البركة، وهو في قوة الوجع ثم اتصل به هذا الحال إلى
الغد من يوم السبت، فلما كان وقت الظهر لم أكن حاضره إذ ذاك، لكن
أخبرتنا بنته زينب زوجتي أنه لما أذن الظهر تغير ذهنه قليلا، فقالت: يا
أبة أذن الظهر، فذكر الله وقال: أريد أن أصلي فتيمم وصلى ثم اضطجع فجعل
يقرأ آية الكرسي حتى جعل لا يفيض بها لسانه ثم قبضت روحه بين الصلاتين،
رحمه الله
يوم السبت ثاني عشر صفر، فلم يمكن تجهيزه تلك الليلة، فلما كان من الغد
يوم الاحد ثالث عشر صفر صبيحة ذلك اليوم، غسل وكفن وصلي عليه بالجامع
الاموي، وحضر القضاة والاعيان وخلائق لا يحصون كثرة، وخرج بجنازته من
باب النصر، وخرج نائب السلطنة الامير علاء الدين طنبغا ومعه ديوان
السلطان، والصاحب وكاتب السر وغيرهم من الامراء، فصلوا عليه خارج باب
النصر، أمهم عليه القاضي تقي الدين السبكي الشافعي، وهو الذي صلى عليه
بالجامع الاموي، ثم ذهب به إلى مقابر الصوفية فدفن هناك إلى جانب زوجته
المرأة الصالحة الحافظة لكتاب الله، عائشة بنت إبراهيم بن صديق، غربي
قبر تقي الدين بن تيمية رحمهم الله أجمعين.
كائنة غريبة جدا قدم يوم الاربعاء الثلاثين من صفر أمير من الديار
المصرية ومعه البيعة للملك الاشرف علاء الدين كجك بن الملك الناصر،
وذلك بعد عزل أخيه المنصور، لما صدر عنه من الافعال التي ذكر أنه
تعاطاها من شرب المسكر وغشيان المنكرات، وتعاطي ما لا يليق به، ومعاشرة
الخاصكية من المردان وغيرهم، فتمالا على خلعه كبار الامراء لما رأوا
الامر تفاقم إلى الفساد العريض فأحضروا الخليفة الحاكم بأمر الله أبي
الربيع سليمان فأثبت بين يديه ما نسب إلى الملك المنصور المذكور من
الامور فحينئذ خلعه وخلعه الامراء الكبار وغيرهم، واستبدلوا مكانه أخاه
هذا المذكور، وسيروه
(14/224)
إذ ذاك إلى قوص
مضيقا عليه ومعه إخوة له ثلاثة، وقيل أكثر، وأجلسوا الملك الاشرف هذا
على السرير، وناب له الامير سيف الدين قوصون الناصري، واستمرت الامور
على السداد وجاءت إلى الشام فبايعه الامراء يوم الاربعاء المذكور،
وضربت البشائر عشية الخميس مستهل ربيع الاول وخطب له بدمشق يوم الجمعة
بحضرة نائب السلطنة والقضاة والامراء.
وفي يوم الاربعاء سابع عشر ربيع الاول حضر بدار الحديث الاشرفية قاضي
القضاة تقي الدين السبكي عوضا عن شيخنا الحافظ جمال الدين المزي،
ومشيخة دار الحديث النورية عوضا عن ابنه رحمه الله.
وفي شهر جمادى الاولى اشتهر أن نائب حلب الامير سيف الدين طشتمر الملقب
بالحمص الاخضر قائم في نصرة ابن السلطان الامير أحمد الذي بالكرك، وأنه
يستخدم لذلك ويجمع الجموع فالله أعلم.
وفي العشر الثاني منه وصلت الجيوش صحبة الامير سيف الدين قطلوبغا
الفخري إلى الكرك في طلب ابن السلطان الامير أحمد.
وفي هذا الشهر كثر الكلام في أمر الامير أحمد بن الناصر الذي بالكرك،
بسبب محاصرة الجيش الذي صحبة الفخري له، واشتهر أن نائب حلب الامير سيف
الدين طشتمر الملقب بالحمص الاخضر قائم بجنب أولاد السلطان الذين
أخرجوا من الديار المصرية إلى الصعيد، وفي القيام بالمدافعة عن الامير
أحمد، ليصرف عنه الجيش، وترك حصاره وعزم بالذهاب إلى الكرك لنصرة أحمد
ابن أستاذه، وتهيأ له نائب الشام بدمشق، ونادى في الجيش لملتقاه
ومدافعته عما يريد من إقامة الفتنة وشق العصا، واهتم الجند لذلك،
وتأهبوا واستعدوا، ولحقهم في ذلك كلفة كثيرة، وانزعج الناس بسبب ذلك
وتخوفوا أن تكون فتنة، وحسبوا إن وقع قتال بينهم أن تقوم العشيرات في
الجبال وحوران، وتتعطل مصالح الزراعات وغير ذلك، ثم قدم من حلب صاحب
السلطان في الرسلية إلى نائب دمشق الامير علاء الدين الطنبغا ومعه
مشافهة، فاستمع لها فبعث معه صاحب الميسرة أمان الساقي، فذهبا إلى حلب
ثم رجعا في أواخر جمادى الآخرة وتوجها إلى الديار المصرية، واشتهر أن
الامر على ما هو عليه حتى توافق على ما ذكر من رجوع أولاد الملك الناصر
إلى مصر، ما عدا المنصور، وأن يخلي عن محاصرة الكرك.
وفي العشر الاخير من جمادى الاولى توفي مظفر الدين موسى بن مهنا ملك
العرب ودفن بتدمر وفي صبيحة يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة عند طلوع
الشمس توفي الخطيب بدر الدين محمد بن القاضي جلال الدين القزويني بدار
الخطابة بعد رجوعه من الديار المصرية كما قدمنا، فخطب جمعة واحدة وصلى
بالناس إلى ليلة الجمعة الاخرى ثم مرض فخطب عنه أخوه تاج الدين عبد
الرحيم على العادة ثلاثة جمع، وهو مريض إلى أن توفي يومئذ، وتأسف الناس
عليه لحسن شكله وصباحة وجهه وحسن ملتقاه وتواضعه، واجتمع الناس للصلاة
عليه للظهر فتأخر تجهيزه إلى العصر فصلى عليه بالجامع قاضي القضاة تقي
الدين السبكي، وخرج به الناس إلى الصوفية، وكانت جنازته
حافلة جدا، فدفن عند أبيه بالتربة التي أنشأها الخطيب بدر الدين هناك
رحمه الله.
(14/225)
وفي يوم الجمعة
خامس الشهر بعد الصلاة خرج نائب السلطنة الامير علاء الدين الطنبغا
وجميع الجيش قاصدين للبلاد الحلبية للقبض على نائب حلب الامير سيف
الدين طشتمر، لاجل ما أظهر من القيام مع ابن السلطان الامير أحمد الذي
في الكرك، وخرج الناس في يوم شديد المطر كثير الوحل، وكان يوما مشهودا
عصيبا، أحسن الله العاقبة.
وأمر القاضي تقي الدين السبكي الخطيب المؤذنين بزيادة أذكار على الذي
كان سنه فيهم الخطيب بدر الدين من التسبيح والتحميد والتهليل الكثير
ثلاثا وثلاثين، فزادهم السبكي قبل ذلك: أستغفر الله العظيم ثلاثا،
اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام، ثم أثبت
ما في صحيح مسلم بعد صلاتي الصبح والمغرب: اللهم أجرنا من النار سبعا،
أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثا، وكانوا قبل تلك السنوات
قد زادوا بعد التأذين الآية ليلة الجمعة والتسليم على رسول الله صلى
الله عليه وآله، يبتدئ الرئيس منفردا ثم يعيد عليه الجماعة بطريقة
حسنة، وصار ذلك سببا لاجتماع الناس في صحن الجامع لاستماع ذلك، وكلما
كان المبتدئ حسن الصوت كانت الجماعة أكثر اجتماعا، ولكن طال بسبب ذلك
الفصل، وتأخرت الصلاة عن أول وقتها.
انتهى.
كائنة غريبة جدا وفي ليلة الاحد عشية السبت نزل الامير سيف الدين
قطلوبغا الفخري بظاهر دمشق بين الجسورة وميدان الحصى بالاطلاب الذين
جاؤوا معه من البلاد المصرية لمحاصرة الكرك للقبض على ابن السلطان
الامير أحمد بن الناصر، فمكثوا على الثنية محاصرين مضيقين عليه إلى أن
توجه نائب الشام إلى حلب، ومضت هذه الايام المذكورة، فما درى الناس إلا
وقد جاء الفخري وجموعه، وقد بايعوا الامير أحمد وسموه الناصر بن
الناصر، وخلعوا بيعة أخيه الملك الاشرف علاء الدين كجك (1) واعتلوا
بصغره، وذكروا إن أتابكة الامير سيف الدين قوصون الناصري قد عدى على
ابني السلطان فقتلهما خنقا ببلاد الصعيد (2): جهز إليهما من تولى ذلك،
وهما الملك المنصور أبو
بكر ورمضان، فتنكر الامير بسبب ذلك، وقالوا هذا يريد أن يجتاح هذا
البيت ليتمكن هو من أخذ المملكة، فحموا لذلك وبايعوا ابن أستاذهم وجاؤو
؟ في الذهاب خلف الجيش ليكونوا عونا للامير سيف الدين طشتمر نائب حلب
ومن معه، وقد كتبوا إلى الامراء يستميلونهم إلى هذا، ولما نزلوا بظاهر
دمشق خرج إليهم من بدمشق من الاكابر والقضاة والمباشرين، مثل والي البر
ووالي المدينة وابن سمندار وغيرهم، فلما كان الصباح خرج أهالي دمشق عن
بكرة أبيهم، على عادتهم
__________
(1) قال ابن إياس في بدائع الزهور 1 / 491 أن كجك لفظ أعجمي معناه
بالعربية: صغير.
__________
(2) انظر تاريخ الشجاعي ص 219 زاد قائلا: وقطعت الرأس وأرسلت إلى قوصون
في جمادى الآخرة سنة 742 ه.
وكان قد خنقه والي قوص.
(انظر بدائع الزهور 1 / 3 / 489 زاد وقال: وكان ذلك سببا لزوال أمر
الاتابكي قوصون ودماره).
(14/226)
في قدوم
السلاطين، ودخول الحجاج، بل أكثر من ذلك من بعض الوجوه، وخرج القضاة
والصاحب والاعيان والولاة وغيرهم، ودخل الامير سيف الدين قطلوبغا في
دست نيابة السلطنة التي فوضها إليه الملك الناصر الجديد وعن يمينه
الشافعي، وعن شماله الحنفي على العادة، والجيش كله محدق به في الحديد،
والعقارات والبوقات والنشابة السلطانية والسناجق الخليفية والسلطانية
تخفق، والناس في الدعاء والثناء للفخري، وهم في غاية الاستبشار والفرح،
وربما نال بعض جهلة الناس من النائب الآخر الذي ذهب إلى حلب، ودخلت
الاطلاب بعده على ترتيبهم، وكان يوما مشهودا، فنزل شرقي دمشق قريبا من
خان لاجين، وبعث في هذا اليوم فرسم على القضاة والصاحب، وأخذ من أموال
الايتام وغيرها خمسمائة ألف، وعوضهم عن ذلك بقرية من بيت المال، وكتب
بذلك سجلات، واستخدم جيدا، وانضاف إليه من الامراء الذين كانوا قد
تخلفوا بدمشق جماعة منهم تمر الساقي مقدم، وابن قراسنقر وابن الكامل
وابن المعظم وابن البلدي وغيرهم، وبايع هؤلاء كلهم مع مباشري دمشق
للملك الناصر بن الناصر، وأقام الفخري على خان لاجين، وخرج المتعيشون
بالصنائع إلى عندهم وضربت البشائر بالقعلة صبيحة
يوم الثلاثاء سادس عشر الشهر، ونودي بالبلد إن سلطانكم الملك الناصر
أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائبكم سيف الدين قطلوبغا الفخري،
وفرح كثير من الناس بذلك، وانضاف إليه نائب صفد وبايعه نائب بعلبك،
واستخدموا له رجالا وجندا، ورجع إليه الامير سيف الدين سنجر الجمقدار
رأس الميمنة بدمشق، وكان قد تأخر في السفر عن نائب دمشق علاء الدين
الطنبغا، بسبب مرض عرض له، فلما قدم الفخري رجع إليه وبايع الناصر بن
الناصر، ثم كاتب نائب حماة تغردمر الذي ناب بمصر للملك المنصور، فأجابه
إلى ذلك وقدم على العسكر يوم السبت السابع والعشرين من الشهر المذكور،
في تجمل عظيم وخزائن كثيرة، وثقل هائل.
وفي صبيحة يوم الاحد الثامن والعشرين من الشهر المذكور كسفت الشمس قبل
الظهر، وفي صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من جمادى الآخرة، قدم
نائب غزة الامير آق سنقر في جيش غزة، وهو قريب من ألفين، فدخلوا دمشق
وقت الفجر وغدوا إلى معسكر الفخري، فانضافوا إليهم ففرحوا بهم كثيرا،
وصار في قريب من خمسة آلاف مقاتل أو يزيدون.
استهل شهر رجب الفرد والجماعة من أكابر التجار مطلوبون بسبب أموال
طلبها منهم الفخري، يقوي بها جيشه الذي معه، ومبلغ ذلك الذي أراده منهم
ألف ألف درهم، ومعه مرسوم الناصر بن الناصر ببيع أملاك الامير سيف
الدين قوصون، إتابك الملك الاشرف علاء الدين كجك، ابن الناصر التي
بالشام، بسبب إبائه عن مبايعة أحمد بن الناصر، فأشار على الفخري من
أشار بأن يباع للتجار من أملاك الخاص، ويجعل مال قوصون من الخاص، فرسم
بذلك، وأن يباع للتجار قرية دويه قومت بألف ألف وخمسمائة ألف، ثم لطف
الله وأفرج عنهم
(14/227)
بعد ليلتين أو
ثلاث، وتعرضوا عن ذلك بحواصل قوصون، واستمر الفخري بمن معه ومن أضيف
إليه من الامراء والاجناد مقيمين بثنية العقاب، واستخدم من رجال البقاع
جماعة كثيرة أكثر من ألف رام، وأميرهم يحفظ أفواه الطرق، وأزف قدوم
الامير علاء الدين طنبغا بمن معه من عساكر دمشق، وجمهور الحلبيين
وطائفة الطرابلسيين، وتأهب هؤلاء لهم.
فلما كان الحادي من
الشهر اشتهر أن الطنبغا وصل إلى القسطل وبعث طلائعه فالتقت بطلائع
الفخري، ولم يكن بينهم قتال ولله الحمد والمنة وأرسل الفخري إلى القضاة
ونوابهم وجماعة من الفقهاء فخرجوا ورجع الشافعي من أثناء الطريق، فلما
وصلوا أمرهم بالسعي بينه وبين الطنبغا في الصلح، وأن يوافق الفخري في
أمره، وأن يبايع الناصر بن الناصر، فأبى فردهم إليه غير مرة، وكل ذلك
يمتنع ؟ عليهم، فلما كان يوم الاثنين رابع عشره عند العصر جاء بريد إلى
متولي البلد عند العصر من جهة الفخري يأمره بغلق أبواب البلد، فغلقت
الابواب، وذلك لان العساكر توجهوا وتوافقوا للقتال، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
وذلك أن الطنبغا لما علم أن جماعة قطلوبغا على ثنية العقاب دار الذروة
من ناحية المعيصرة، وجاء بالجيوش من هناك، فاستدار له الامير سيف الدين
قطلوبغا الفخري بجماعته إلى ناحيته، ووقف له في طريقه، وحال بينه وبين
الوصول إلى البلد، وانزعج الناس انزعاجا عظيما، وغلقت القياسرة
والاسواق وخاف الناس بعضهم من بعض أن يكون نهب، فركب متولي البلد
الامير ناصر الدين بن بكباشي ومعه أولاده ونوابه والرجالة، فسار في
البلد وسكن الناس ودعوا له، فلما كان قريب المغرب فتح لهم باب الجابية
ليدخل من هو من أهل البلد، فجرت في الباب على ما قيل زحمة عظيمة، وتسخط
الجند على الناس في هذه الليلة، واتفق أنها ليلة الميلاد، وبات
المسلمون مهمومون بسبب العسكر واختلافهم فأصبحت أبواب البلد مغلقة في
يوم الثلاثاء سوى باب الجابية، والامر على ما هو عليه، فلما كان عشية
هذا اليوم تقارب الجيشان واجتمع الطنبغا وأمراؤه، واتفق أمراء دمشق
وجمهورهم الذين هم معه على أن لا يقاتلوا مسلما ولا يسلوا في وجه
الفخري وأصحابه سيفا، وكان قضاة الشام قد ذهبوا إليه مرارا للصلح،
فيأبى عليهم إلا الاستمرار على ما هو عليه، وقويت نفسه عليه انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
عجيبة من عجائب الدهر فبات الناس متقابلين في هذه الليلة وليس بين
الجيشين إلا مقدار ميلين أو ثلاثة، وكانت ليلة مطيرة، فما أصبح الصبح
إلا وقد ذهب من جماعة الطنبغا إلى الفخري خلق كثير من أجناد
الحلفاء ومن الامراء والاعيان، وطلعت الشمس وارتفعت قليلا فنفذ الطنبغا
القضاة وبعض الامراء إلى الفخري يتهدده ويتوعده نفسه عليه.
فما ساروا عنه قليلا إلا ساقت العساكر من الميمنة والميسرة من القلب،
ومن كل جانب مقفرين إلى الفخري، وذلك لما هم فيه من ضيق
(14/228)
العيش وقلة ما
بأيديهم من الاطعمة وعلف الدواب، وكثرة ما معهم من الكلف، فرأوا أن هذا
حال يطول عليهم، ومقتوا أمرهم غاية المقت، وتطايبت قلوبهم وقلوب أولئك
مع أهل البلد على كراهته لقوة نفسه فيما لا يجدي عليه ولا عليهم شيئا،
فبايعوا على المخامرة عليه، فلم يبق معه سوى حاشيته في أقل من ساعة
واحدة، فلما رأى الحال على هذه الصفة كر راجعا هاربا من حيث جاء وصحبته
الامير سيف الدين رقطبة (1) نائب طرابلس، وأميران آخران (2)، والتقت
العساكر والامراء، وجاءت البشارة إلى دمشق قبل الظهر ففرح الناس فرحا
شديدا جدا، الرجال والنساء والولدان، حتى من لا نوبة له، ودقت البشائر
بالقلعة المنصورة، فأرسلوا في طلب من هرب، وجلس الفخري هنالك بقية
اليوم يحلف الامراء على أمره الذي جاء له، فحلفوا له، ودخل دمشق عشية
يوم الخميس في أبهة عظيمة، وحرمة وافرة، فنزل القصر الابلق ونزل الامير
تغردمر بالميدان الكبير، ونزل عمارى بدار السعادة وأخرجوا الموساوي
الذي كان معتقلا بالقلعة، وجعلوه مشدا على حوطات حواصل الطنبغا وكان قد
تغضب الفخري على جماعة من الامراء منهم الامير حسام الدين السمقدار،
أمير حاجب بسبب أنه صاحب لعلاء الدين الطنبغا، فلما وقع ما وقع هرب
فيمن هرب، ولكن لم يأت الفخري، بل دخل البلد فتوسط في الامر: لم يذهب
مع ذاك ولا جاء مع هذا، ثم إنه استدرك ما فاته فرجع من البار إلى
الفخري، وقيل بل رسم عليه حين جاء وهو مهموم جدا، ثم إنه أعطي منديل
الامان، وكان معهم كتاب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله، ثم أفرج
عنهم، ومنهم الامير سيف الدين حفطية وكان شديد الحنق عليه، فأطلقه من
يومه وأعاده إلى الحجوبية، وأظهر مكارم أخلاق عظيمة، ورياسة كبيرة،
وكان للقاضي علاء الدين بن المنجا قاضي قضاة الحنابلة في هذه الكائنة
سعي مشكور، ومراجعة كبيرة
للامير علاء الدين الطنبغا، حتى خيف عليه منه، وخاطر بنفسه معه، فأنجح
الله مقصده وسلمه منه، وكبت عدوه ولله الحمد والمنة.
وفي يوم السبت السادس والعشرين منه قلد قضاء العساكر المنصورة الشيخ
فخر الدين بن الصائغ عوضا عن القاضي الحنفي (3)، الذي كان مع النائب
المنفصل، وذلك أنهم نقموا عليه إفتاءه الطنبغا بقتال الفخري، وفرح
بولايته أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وذلك لانه من أخص
من صحبه قديما، وأخذ عنه فوائد كثيرة وعلوما.
وفي يوم الاربعاء سلخ رجب آخر النهار قدم الامير قماري (4) من عند
الملك الناصر بن
__________
(1) في السلوك 2 / 585: أرقطاي.
__________
(2) وهما: اسنبغا بن بكتمر البوبكري وأيدمر المرقبي من أمراء دمشق
(السلوك 585 2).
__________
(3) وهو قاضي القضاة حسام الدين الغوري الحنفي (السلوك 2 / 591).
__________
(4) وهو قماري بن عبد الله الناصري توفي سنة 743 أما في الدرر الكامنة
فقد جعل وفاته في أواخر سنة خمس أو أوائل سنة 746 ه.
(3 / 256).
(14/229)
الناصر من
الكرك وأخبره بما جرى من أمرهم وأمر الطنبغا، ففرح بذلك وأخبر قماري
بقدوم السلطان ففرح الناس بذلك واستعدوا له بآلات المملكة وكثرت
مطالبته أرباب الاموال والذمة بالجزية.
وفي مستهل رجب من هذه السنة ركب الفخري في دست النيابة بالموكب
المنصور، وهو أول ركوبه فيه، وإلى جانبه قماري وعلى قماري خلعة هائلة،
وكثر دعاء الناس للفخري يومئذ، وكان يوما مشهودا.
وفي هذا اليوم خرج جماعة من المقدمين الالوف إلى الكرك بأخبار ابن
السلطان بما جرى: منهم تغردمر وإقبغا عبد الواحد وهو الساقي، وميكلى
بغا وغيرهم.
وفي يوم السبت ثالثه استدعى الفخري القاضي الشافعي وألح عليه في إحضار
الكتب في سلة الحكم التي كانت أخذت من عند الشيخ تقي الدين بن تيمية
رحمه الله من القعلة المنصورة في أيام جلال الدين القزويني،
فأحضرها القاضي بعد جهد ومدافعة، وخاف على نفسه منه، فقبضها منه الفخري
بالقصر وأذن له في الانصراف من عنده، وهو متغضب عليه، وربما هم بعزله
لممانعته إياها، وربما قال قائل هذه فيها كلام يتعلق بمسألة الزيارة،
فقال الفخري: كان الشيخ أعلم بالله وبرسوله منكم.
واستبشر الفخري بإحضارها إليه واستدعي بأخي الشيخ زين الدين عبد
الرحمن، وبالشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن قيم الجوزية وكان له سعي
مشكور فيها، فهنأهما بإحضاره الكتب، وبيت الكتب تلك الليلة في خزانته
للتبرك وصلى به الشيخ زين الدين أخو الشيخ صلاة المغرب بالقصر، وأكرمه
الفخري إكراما زائدا لمحبته الشيخ رحمه الله.
وفي يوم الاحد رابعه دقت البشائر بالقلعة وفي باب الميدان لقدوم بشير
بالقبض على قوصون بالديار المصرية، واجتمع الناس لذلك واستبشر كثير
منهم بذلك، وأقبل جماعة من الامراء إلى الكرك لطاعة الناصر بن الناصر،
واجتمعوا مع الامراء الشاميين عند الكرك، وطلبوا منه أن ينزل إليه فأبى
وتوهم أن هذه الامور كلها مكيدة ليقبضوه ويسلموه إلى قوصون، وطلب منهم
أن ينظر في أمره وردهم إلى دمشق.
وفي هذه الايام وما قبلها وما بعدها أخذ الفخري من جماعة التجار
بالاسواق وغيرها زكاة أموالهم سنة، فتحصل من ذلك زيادة على مائة ألف
وسبعة آلاف، وصودر أهل الذمة بقريب من ذلك زيادة على الجزية التي أخذت
منهم عن ثلاث سنين سلفا وتعجيلا، ثم نودي في البلد يوم الاثنين الحادي
والعشرين من الشهر مناداة صادرة من الفخري برفع الظلامات والطلبات
وإسقاط ما تبقى من الزكاة والمصادرة، غير أنهم احتاطوا على جماعة من
المشاة المكثرين ليشتروا منهم بعض أملاك الخاص، والبرهان بن بشارة
الحنفي تحت المصادرة والعقوبة على طلب المال الذي وجده في طميرة وجدها
فيما ذكر عنه والله أعلم.
وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين منه بعد الصلاة دخل الامراء الستة
الذين توجهوا نحو الكرك لطلب السلطان أن يقدم إلى دمشق فأبى عليهم في
هذا الشهر، ووعدهم وقتا آخر فرجعوا،
(14/230)
وخرج الفخري
لتلقيهم، فاجتمعوا قبلي جامع القبيبات الكريمي، ودخلوا كلهم إلى دمشق
في جمع
كثير من الاتراك الامراء والجند، وعليهم خمدة لعدم قدوم السلطان أيده
الله.
وفي يوم الاحد قدم البريد خلف قماري وغيره من الامراء يطلبهم إلى
الكرك، واشتهر أن السلطان رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو
يأمره بالنزول من الكرك وقبول المملكة، فانشرح الناس لذلك.
وتوفي الشيخ عمر بن أبي بكر بن اليثمي البسطي يوم الاربعاء التاسع
والعشرين، وكان رجلا صالحا كثير التلاوة والصلاة والصدقة، وحضور مجالس
الذكر والحديث، له همه وصولة على الفقراء المتشبهين بالصالحين وليسوا
منهم، سمع الحديث من الشيخ فخر الدين بن البخاري وغيره وقرأت عليه عن
ابن البخاري مختصر المشيخة، ولازم مجالس الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه
الله، وانتفع به، ودفن بمقابر باب الصغير.
وفي شهر رمضان المعظم أوله يوم الجمعة، كان قد نودي في الجيش: آن
الرحيل لملتقى السلطان في سابع الشهر، ثم تأخر ذلك إلى بعد العشر، ثم
جاء كتاب من السلطان بتأخر ذلك إلى بعد العيد وقدم في عاشر الشهر علاء
الدين بن تقي الحنفي، ومعه ولاية من السلطان الناصر بنظر البيمارستان
النوري، ومشيخة الربوة ومرتب على الجهات السلطانية، وكان قد قدم قبله
القاضي شهاب الدين بن البارزي بقضاء حمص من السلطان أيده الله تعالى،
ففرح الناس بذلك حيث تكلم السلطان في المملكة وباشر وأمر وولى ووقع
ولله الحمد.
وفي يوم الاربعاء ثالث عشره دخل الامير سيف الدين طشتمر الملقب بالحمص
الاخضر من البلاد الحلبية إلى دمشق المحروسة، وتلقاه الفخري والامراء
والجيش بكماله، ودخل في أبهة حسنة ودعا له الناس وفرحوا بقدومه بعد
شتاته في البلاد وهربه من بين يدي الطنبغا حين قصده إلى حلب كما تقدم
ذكره.
وفي يوم الخميس رابع عشره خرجت الجيوش من دمشق قاصدين إلى غزة لنظرة
السلطان حين تخرج من الكرك السعيد، فخرج يومئذ مقدمان: تغردمر واقبغا
عبد الواحد فبرزا إلى الكسوة، فلما كان يوم السبت خرج الفخري ومعه
طشتمر وجمهور الامراء، ولم يقم بعده بدمشق إلا من احتيج لمقامهم لمهمات
المملكة، وخرج معه القضاة الاربعة، وقاضي العساكر والموقعين والمصاحب
وكاتب الجيش وخلق كثير.
وتوفي الشيخ الصالح العباد الناسك أحمد بن.
الملقب بالقصيدة ليلة الاحد الرابع والعشرين من رمضان، وصلي عليه بجامع
شكر، ودفن بالصوفية قريبا من قبر الشيخ جمال الدين المزي، تغمدهما الله
برحمته، وكان فيه صلاح كثير، ومواظبة على الصلاة في جماعة، وأمر بمعروف
ونهي عن منكر مشكورا عند الناس بالخير، وكان يكثر من خدمة المرضى
بالمارستان وغيره، وفيها أيثار وقناعة وتزهد كثير، وله أحوال مشهورة
رحمه الله وإيانا.
(14/231)
واشتهر في
أواخر الشهر المذكور أن السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد خرج من
الكرك المحروس صحبة جماعة من العرب والاتراك قاصدا إلى الديار المصرية،
ثم تحرر خروجه منها في يوم الاثنين ثامن عشر شهر ؟ المذكور فدخل الديار
المصرية بعد أيام.
هذا والجيش صامدون إليه، فلما تحقق دخوله مصر حثوا في السير إلى الديار
المصرية، وبعث يستحثهم أيضا، واشتهر أنه لم يجلس على سرير الملك حتى
يقدم الامراء الشاميون صحبة نائبه الامير سيف الدين قطلوبغا الفخري،
ولهذا لم تدق البشائر بالقلاع الشامية ولا غيرها فيما بلغنا.
وجاءت الكتب والاخبار من الديار المصرية بأن يوم الاثنين عاشر شوال كان
إجلاس السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد على سرير المملكة، صعد هو
والخليفة الحاكم بأمر الله أبوا العباس أحمد بن المستكفي فوق المنبر،
وهما لابسان السواد، والقضاة تحتهما على درج المنبر بحسب منازلهم، فخطب
الخليفة، وخلع الاشرف كجك وولى هذا الناصر، وكان يوما مشهودا، وأظهر
ولايته لطشتمر نيابه مصر، والفخري دمشق، وأيدغمش حلب فالله أعلم، ودقت
البشائر بدمشق ليلة الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور، واستمرت
إلى يوم الاثنين مستهل ذي القعدة، وزينت البلد يوم الاحد ثالث عشرين
منه، واحتفل الناس بالزينة.
وفي يوم الخميس المذكور دخل الامير سيف الدين الملك أحد الرؤس المشهورة
بمصر إلى دمشق في طلب نيابة حماة حرسها الله تعالى، فلما كان يوم
الجمعة بعد الصلاة ورد البريد من الديار المصرية فأخبر أن طشتمر الحمص
الاخضر مسك (1)، فتعجب الناس من هذه الكائنة كثيرا،
فخرج من بدمشق من أعيان الامراء أمير الحج وغيره وخيم بوطأة برزه وخرج
إلى الحج أمير فأخبره بذلك وأمره عن مرسوم السلطان أن ينوب بدمشق حتى
يأتي المرسوم بما يعتمد أمير الحج فأجاب إلى ذلك، وركب في الموكب يوم
السبت السادس منه، وأما الفخري فإنه لما تنسم هذا الخبر وتحققه وهو
بالزعقة فر في طائفة من مماليكه قريب من ستين أو أكثر، فاحترق وساق
سوقا حثيثا وجاءه الطلب من ورائه من الديار المصرية في نحو من ألف
فارس، صحبة الاميرين: الطنبغا المارداني، ويبلغا التحناوي، ففاتهما
وسبق واعترض له نائب غزة في جنده فلم يقدر عليه، فسلطوا عليه العشيرات
ينهبوه فلم يقدروا عليه إلا في شئ يسير، وقتل منهم خلقا، وقصد نحو
صاحبه فيما يزعم الامير سيف الدين إيدغمش نائب حلب راجيا منه أن ينصره
وأن يوافقه على ما قام بنفسه، فلما وصل أكرمه وأنزله، وبات عنده، فما
أصبح قبض عليه وقيده ورده على البريد إلى الديار المصرية، ومعه
التراسيم من الامراء وغيرهم.
__________
(1) كذلك يوم السبت عشرين ذي القعدة سنة 742 ه ويرى المقريزي أن السبب
في اعتقاله: أنه أكثر من معارضة السلطان بحيث تغلب عليه ورد مراسيمه
وصار بتعاظم ويظهر من الترفع على الامراء والاجناد ما لا يحتمل
مثله...وانفرد بأمور الدولة (السلوك 2 / 3 / 606 والنجوم الزاهرة نقلا
عنه 10 / 63).
(14/232)
ولما كان يوم
الاثنين سلخ ذي القعدة خرج السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن
الناصر محمد بن المنصور من الديار المصرية في طائفة من الجيش قاصدا إلى
الكرك المحروس، ومعه أمواله جزيلة، وحواصل وأشياء كثيرة، فدخلها يوم
الثلاثاء من ذي الحجة وصحبته طشتمر في محفة ممرضا والفخري مقيدا،
فاعتقلا بالكرك المحروس، وطلب السلطان آلات من أخشاب ونحوها وحدادين
وصناع ونحوها لاصلاح مهمات بالكرك، وطلب أشياء كثيرة من دمشق، فحملت
إليه، ولما كان يوم الاحد السابع والعشرين من ذي الحجة ورد الخبر بأن
الامير ركن الدين بيبرس الاحمدي النائب بصفد ركب في مماليكه وخدمه ومن
أطاعه، وخرج منها فارا بنفسه من القبض عليه، وذكر أن نائب غزة قصده
ليقبض عليه بمرسوم السلطان ورد عليه من الكرك،
فهرب الاحمدي بسبب ذلك، ولما وصل الخبر إلى دمشق وليس بها نائب انزعج
الامراء لذلك، واجتمعوا بدار السعادة، وضربوا في ذلك مشورة ثم جردوا
إلى ناحية بعلبك أميرا ليصدوه عن الذهاب إلى البرية.
فلما أصبح الصباح من يوم الاثنين جاء الخبر بأنه في نواحي الكسوه، ولا
مانع من خلاصه، فركبوا كلهم ونادى المنادي: من تأخر من الجند عن هذا
النفير شنق، واستوثقوا في الخروج وقصدوا ناحية الكسوة وبعثوا الرسل
إليه، فذكر اعتذارا في خروجه وتخلص منهم، وذهب يوم ذلك، ورجعوا وقد
كانوا ملبسين في يوم حار، وليس معهم من الازواد ما يكفيهم سوى يومهم
ذلك، فلما كانت ليلة الثلاثاء ركب الامراء في طلبه من ناحية ثنية
العقاب، فرجعوا في اليوم الثاني وهو في صحبتهم، ونزل في القصور التي
بناها تنكز رحمه الله، في طريق داريا، فأقام بها، وأجروا عليه مرتبا
كاملا من الشعير والغنم وما يحتاج إليه مثله، ومعه مماليكه وخدمه، فلما
كان يوم الثلاثاء سادس المحرم ورد كتاب من جهة السلطان فقرئ على
الامراء بدار السعادة يتضمن إكرامه واحترامه والصفح عنه لتقدم خدمه على
السلطان الملك الناصر وابنه الملك المنصور.
ولما كان يوم الاربعاء سابع المحرم جاء كتاب إلى الامير ركن الدين
بيبرس نائب الغيبة ابن الحاجب ألمش بالقبض على الاحدي، فركب الجيش
ملبسين يوم الخميس وأوكبوا بسوق الخيل وراسلوه - وقد ركب في مماليكه
بالعدد وأظهر الامتناع - فكان جوابه أن لا أسمع ولا أطيع إلا لمن هو
ملك الديار المصرية، فأما من هو مقيم بالكرك ويصدر عنه ما يقال عنه من
الافاعيل التي قد سارت بها الركبان، فلا.
فلما بلغ الامراء هذا توقفوا في أمره وسكنوا ورجعوا إلى منازلهم، ورجع
هو إلى قصره.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة
استهلت هذه السنة المباركة وسلطان المسلمين الملك الناصر ناصر الدين
محمد بن الملك المنصور قلاوون، وهو مقيم بالكرك، قد حاز الحواصل
السلطانية من قلعة الجبل إلى قلعة الكرك، ونائبه الديار المصرية الامير
سيف الدين آقسنقر السلاري، الذي كان نائبا بغزة، وقضاة
(14/233)
الديار المصرية
هم المذكورون في السنة الماضية، سوى القاضي الحنفي.
وأما دمشق فليس لها نائب إلى حينئذ غير أن الامير ركن الدين بيبرس
الحاجب كان استنابه الفخري بدمشق نائب غيبته، فهو الذي يسد الامور مع
الحاجب ألمش، وتمر المهمندار، والامير سيف الدين الملقب بحلاوة، والي
البر، والامير ناصر الدين بن ركباس متولي البلد، هؤلاء الذي يسدون
الاشغال والامور السلطانية، والقضاة هم الذين ذكر ناهم في السنة
الخالية، وخطيب البلد تاج الدين عبد الرحيم بن القاضي جلال الدين
القزويني، وكاتب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله.
واستهلت هذه السنة والامير ركن الدين بيبرس الاحمدي نازل بقصر تنكز
بطريق داريا، وكتب السلطان واردة في كل وقت بالاحتياط عليه والقبض، وأن
يمسك ويرسل إلى الكرك، هذا والامراء يتوانون في أمره ويسوفون المراسيم،
وقتا بعد وقت، وحينا بعد حين، ويحملهم على ذلك أن الاحمدي لا ذنب له،
ومتى مسكه تطرف إلى غيره، مع أن السلطان يبلغهم عنه أحوال لا نرضيهم من
اللعب والاجتماع مع الاراذل والاطراف ببلد الكرك، مع قتله الفخري
وطشتمر قتلا فظيعا، وسلبه أهلهما وسلبه لما على الحريم من الثياب
والحلي، وإخراجهم في أسوأ حال من الكرك، وتقريبه النصارى وحضورهم عنده.
فحمل الامراء هذه الصفات على أن بعثوا أحدهم يكشف أمره، فلم يصل إليه،
ورجع هاربا خائفا، فلما رجع وأخبر الامراء انزعجوا وتشوشوا كثيرا،
واجتمعوا بسوق الخيل مرارا وضربوا مشورة بينهم، فاتفقوا على أن يخلعوه،
فكتبوا إلى المصريين بذلك، وأعلموا نائب حلب أيدغمش ونواب البلاد،
وبقوا متوهمين من هذا الحال كثيرا ومترددين، ومنهم من يصانع في الظاهر
وليس معهم في الباطن، وقالوا لا سمع له ولا طاعة حتى يرجع إلى الديار
المصرية، ويجلس على سرير المملكة، وجاء كتابه إليهم يعيبهم ويعنفهم في
ذلك، فلم يفد، وركب الاحمدي في الموكب وركبوا عن يمينه وشماله وراحوا
إليه إلى القصر، فسلموا عليه وخدموه، وتفاقم الامر وعظم الخطب، وحملوا
هموما عظيمة خوفا من أن يذهب إلى الديار المصرية فيلف عليه المصريون
فيتلف الشاميين، فحمل الناس همهم فالله هو المسؤول أن يحسن العاقبة.
فلما كان يوم الاحد السادس والعشرين من المحرم ورد مقدم البريدية ومعه
كتب
المصريين بأنه لما بلغهم خبر الشاميين كان عندهم من أمر السلطان أضعاف
ما حصل عند الشاميين، فبادروا إلى ما كانوا عزموا عليه، ولكن ترددوا
خوفا من الشاميين أن يخالفوهم فيه ويتقدموا في صحبة السلطان لقتالهم،
فلما اطمأنوا من جهة الشاميين صمموا على عزمهم فخلعوا الناصر أحمد (1)
وملكوا عليهم أخاه الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن المنصور،
جعله الله مباركا على المسلمين، وأجلسوا على السرير يوم الثلاثاء (2)
العشرين من المحرم المذكور، وجاء
__________
(1) وذلك يوم الاربعاء الحادي والعشرين من المحرم كما في السلوك 2 /
618 والنجوم الزاهرة 10 / 70 وفي بدائع الزهور 1 / 1 / 499: يوم الخميس
ثاني عشر شهر المحرم.
__________
(2) في السلوك 1 / 619: يوم الخميس ثاني عشري المحرم.
(14/234)
كتابه مسلما
على أمراء الشام ومقدميه، وجاءت الكتاب الامراء على الامراء بالسلام
والاخبار بذلك ففرح المسلمون وأمراء الشام والخاصة والعامة بذلك فرحا
شديدا، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة يومئذ، ورسم يتزيين البلد فزين
الناس صبيحة الثلاثاء السابع والعشرين منه، ولما كان يوم الجمعة سلخ
المحرم خطب بدمشق للملك الصالح عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الناصر
بن المنصور.
وفي يوم الخميس سادس صفر درس بالصدرية صاحبنا الامام العلامة شمس الدين
محمد بن أبي بكر بن أيوب الذرعي إمام الجوزية، وحضر عنده الشيخ عز
الدين بن المنجا الذي نزل له عنها، وجماعة من الفضلاء.
وفي يوم الاثنين سادس عشر صفر دخل الامير سيف الدين تغردمر من الديار
المصرية، إلى دمشق ذاهبا إلى نيابة حلب المحروسة، فنزل بالقابون.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر صفر توفي الشيخ الامام العالم العامل الزاهد
عبد الله بن أبي الوليد المقري المالكي، إمام المالكية، هو وأخوه أبو
عمرو، بالجامع الاموي بمحراب الصحابة.
توفي ببستان بقية السحف، وصلي عليه بالمصلى ودفن عند أبيه رحمهما الله
بمقابر باب الصغير، وحضر جنازته الاعيان والفقهاء والقضاة، وكان رجلا
صالحا مجمعا على ديانته وجلالته رحمه الله.
وفي يوم الخميس العشرين من صفر دخل الامير ايدغمش نائب السلطنة بدمشق
ودخل إليها من ناحية القابون قادما من حلب، وتلقاه الجيش بكماله، وعليه
خلعة النيابة، واحتفل الناس له وأشعلوا الشموع، وخرج أهل الذمة من
اليهود والنصارى يدعون له ومعهم الشموع، وكان يوما مشهودا، وصلى يوم
الجمعة بالمقصورة، من الجامع الاموي، ومعه الامراء والقضاة وقرئ تقليده
هناك على السدة وعليه خلعته، ومعه الامير سيف الدين ملكتم الرحولي،
وعليه خلعة أيضا.
وفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر دخل الامير علم الدين الجاولي
دمشق المحروسة ذاهبا إلى نيابة حماة المحروسة، وتلقاه نائب السلطنة
والامراء إلى مسجد القدم، وراح فنزل بالقابون، وخرج القضاة والاعيان
إليه، وسمع عليه من مسند الشافعي فإنه يرويه، وله فيه عمل، ورتبه
ترتيبا حسنا ورأيته، وشرحه أيضا، وله أوقاف على الشافعية وغيرهم.
وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه عقد مجلس بعد الصلاة بالشباك
الكمالي من مشهد عثمان بسبب القاضي فخر الدين المصري، وصدر الدين عبد
الكريم بن القاضي جلال الدين
(14/235)
القزويني، بسبب
العادلية الصغيرة، فاتفق الحال على أن نزل صدر الدين عن تدريسها، ونزل
فخر الدين عن مائة وخمسين على الجامع.
وفي يوم الاحد سلخ الشهر المذكور حضر القاضي فخر الدين المصري ودرس
بالعادلية الصغيرة وحضر الناس عنده على العادة، وأخذ في قوله تعالى
(هذه بضاعتنا ردت إلينا) [ يوسف: 65 ] وفي آخر شهر ربيع الاول جاء
المرسوم من الديار المصرية بأن يخرج تجريدة من دمشق بصحبة الامير حسام
الدين السمقدار لحصار الكرك الذي تحصن فيه ابن السلطان أحمد، واستحوذ
على ما عنده من الاموال التي أخذها من الخزائن من ديار مصر، وبرز
المنجنيق من القلعة إلى قبل جامع القبيبات، فنصب هناك وخرج الناس
للتفرج عليه ورمي به ومن نيتهم أن يستصحبوه معهم الحصار.
وفي يوم الاربعاء ثاني ربيع الاخر قدم الامير علاء الدين الطنبغا
المارداني من الديار المصرية على قاعدته وعادته.
وفي يوم الخميس عاشره دخل إلى دمشق الاميران الكبيران ركن الدين بيبرس
الاحمدي من طرابلس، وعلم الدين الجاولي من حماة سحرا، وحضرا الموكب
ووقفا مكتفين لنائب السلطنة: الاحمدي عن يمينه والجاولي عن يساره،
ونزلا ظاهر البلد، ثم بعد أيام يسيرة توجه الاحمدي إلى الديار المصرية
على عادته وقاعدته رأس مشورة، وتوجه الجاولي إلى غزة المحروسة نائبا
عليها، وكان الامير بدر الدين مسعود بن الخطير على إمرة الطبلخانات
بدمشق.
وفي يوم الخميس رابع عشره خرجت التجريدة من دمشق سحرا إلى مدينة الكرك،
والامير شهاب الدين بن صبح والي الولاة بحوران مشد المجانيق، وخرج
الامير سيف الدين بهادر الشمس الملقب بحلاوة والي البر بدمشق إلى ولاية
الولاة بحوران.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره وقع بين النائب والقاضي الشافعي بسبب كتاب
ورد من الديار المصرية فيه الوصايا بالقاضي السبكي المذكور ومعه
التوقيع بالخطابة له مضافا إلى القضاء وخلعة من الديار المصرية، فتغيظ
عليه النائب لاجل أولاد الجلال، لانهم عندهم عائلة كثيرة وهم فقراء،
وقد نهاه عن السعي في ذلك، فتقدم إليه يومئذ أن لا يصلي عنده في الشباك
الكمالي، فنهض من هناك وصلى في الغزالية.
وفي يوم الاحد العشرين منه دخل دمشق الامير سيف الدين أريغا زوج أبنة
السلطان الملك الناصر مجتازا ذاهبا إلى طرابلس نائبا بها، في تجمل
وأبهة ونجائب وجنائب، وعدة وسرك كامل.
وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه دخل الامير بدر الدين ابن الخطيري
معزولا عن نيابة غزة المحروسة فأصبح يوم الخميس فركب في الموكب وسير مع
نائب السلطنة، ونزل في داره وراح الناس للسلام عليه.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر زينت البلد لعافية السلطان الملك الصالح
(14/236)
لمرض أصابه، ثم
شفي منه.
وفي يوم الجمعة السادس عشرينه قبل العصر ورد البريد من الديار المصرية
بطلب قاضي القضاة تقي الدين السبكي إليها حاكمها بها، فذهب الناس
للسلام عليه ولتوديعه، وذلك بعد ما أرجف الناس به كثيرا، واشتهر أنه
سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الايتام إلى الطنبغا وإلى
الفخري، وكتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتيين فلم
يكتب لهم أحد فيها غير القاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي، رأيت
خطه
عليها وحده بعد الصلاة، وسئلت في الافتاء عليها فامتنعت، لما فيها من
التشويش على الحكام، وفي أول مرسوم نائب السلطان أن يتأمل المفتون هذا
السؤال ويفتوابما يقتضيه حكم الشرع الشريف، وكانوا له في نية عجيبة
ففرج الله عنه بطلبه إلى الديار المصرية، فسار إليها صحبة البريد ليلة
الاحد، وخرج الكبراء والاعيان لتوديعه، وفي خدمته.
استهل جمادى الآخرة والتجريدة عمالة إلى الكرك والجيش المجردون من
الحلقة قريب من ألف ويزيدون، ولما كان يوم الثلاثاء رابعه بعد الظهر
مات الامير علاء الدين أيدغمش نائب السلطنة بالشام المحروس في دار وحده
في دار السعادة، فدخلوا عليه وكشفوا أمره وأحصروا وخشوا أن يكون اعتراه
سكتة، ويقال إنه شفي فالله أعلم، فانتظروا به إلى الغد احتياطا، فلما
أصبح الناس اجتمعوا للصلاة عليه فصلي عليه خارج باب النصر حتى يصلى على
الجنائز، وذهبوا به إلى نحو القبلة، ورام بعض أهله أن يدفن في تربة
غبريال إلى جانب جامع القبيبات، فلم يمكن ذلك، فدفن قبلي الجامع على
حافة الطريق، ولم يتهيأ دفنه إلا إلى بعد الظهر من يومئذ، وعملوا عنده
ختمة ليلة الجمعة رحمه الله وسامحه.
واشتهر في أوائل هذا الشهر أن الحصار عمال على الكرك، وأن أهل الكرك
خرجت طائفة منهم فقتل منهم خلق كثير، وقتل من الجيش واحد في الحصار،
فنزل القاضي وجماعة ومعهم شئ من الجوهر، وتراضوا على أن يسلموا البلد،
فلما أصبح أهل الحصن تحصنوا ونصبوا المجانيق واستعدوا فلما كان بعد
أيام رموا منجنيق فكسروا السهم الذي له، وعجزوا عن نقله فحرقوه برأي
أمراء المقدمين، وجرت أمور فظيعة، فالله يحسن العاقبة.
ثم وقعت في أواخر هذا الشهر بين الجيش وأهل الكرك وقعة أخرى، وذلك أن
جماعة من رجال الكرك خرجوا إلى الجيش ورموهم بالنشاب فخرج الجيش لهم من
الخيام ورجعوا مشاة ملبسين بالسلاح فقتلوا من أهل الكرك جماعة من
النصارى وغيرهم، وجرح من العسكر خلق، وقتل واحد أو اثنان وأسر الامير
سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص، وقتل أمير العرب، وأسر
(14/237)
اخرون فاعتقلوا
بالكرك، وجرت أمور منكرة، ثم بعدها تعرض العسكر راجعين إلى بلادهم لم
ينالوا مرادهم منها، وذلك أنهم رقهم البرد الشديد وقلة الزاد، وحاصروا
أولئك شديدا بلا فائدة فإن البلد بريد متطاولة ومجانيق، ويشق على الجيش
الاقامة هناك في كوانين، والمنجنيق الذي حملوه معهم كسر، فرجعوا
ليتأهبوا لذلك.
ولما كان في يوم الاربعاء الخامس والعشرين منه قدم من الديار المصرية
على البريد القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتبا على السر عوضا عن أخيه
القاضي شهاب الدين، ومعه كتاب بالاحتياط على حواصل أخيه شهاب الدين،
وعلى حواصل القاضي عماد الدين بن الشيرازي المحتسب، فاحتيط على أموالها
وأخرج من في ديارهما من الحرم، وضربت الاخشاب على الابواب، ورسم على
المحتسب بالعذراوية، فسأل أن يحول إلى دار الحديث الاشرفية فحول إليها.
وأما القاضي شهاب الدين، فكان قد خرج ليلتقي الامير سيف الدين تغردمر
الحموي، الذي جاء تقليده بنيابة الشام بدمشق وكان بحلب، وجاء هذا الامر
وهو في أثناء الطريق، فرسم برجعته ليصادر هو والمحتسب، ولم يدر الناس
ما ذنبهما.
وفي يوم الاحد ثامن شهر رجب آخر النهار رجع قاضي القضاة تقي الدين
السبكي إلى دمشق على القضاء، ومعه تقليد بالخطابة أيضا، وذهب الناس
إليه للسلام عليه، ودخل نائب السلطنة الامير سيف الدين تغردمر الحموي
بعد العصر الخامس عشرينه من حلب، فتلقاه الامراء إلى طريق القابون،
ودعا له الناس دعاء كثيرا، وأحبوه لبغضهم النائب الذي كان قبله، وهو
علاء الدين أيدغمش سامحه الله تعالى، فنزل بدار السعادة وحضر الموكب
صبيحة يوم الاثنين، واجتمع طائفة من العامة وسألوه أن لا يغير عليهم
خطيبهم تاج الدين عبد الرحيم بن جلال الدين، فلم يلتفت إليهم، بل عمل
على تقليد القاضي تقي الدين السبكي الخطابة ولبس الخلعة، وأكثر العوام
لما سمعوا بذلك الغوغاء، وصاروا يجتمعون حلقا حلقا بعد الصلوات ويكثرون
الفرحة في ذلك، لما منع ابن الجلال، ولكن بقي هذا لم يباشر السبكي في
المحراب، واشتهر عن العوام كلام كثير، وتوعدوا السبكي بالسفاهة عليه إن
خطب، وضاق بذلك ذرعا،
ونهوا عن ذلك فلم ينتهوا، وقيل لهم ولكثير منهم: الواجب عليكم السمع
والطاعة لاولي الامر، ولو أمر عليكم عبد حبشي.
فلم يرعوا، فلما كان يوم الجمعة العشرين منه اشتهر بين العامة بأن
القاضي نزل عن الخطابة لابن الجلال، ففرح العوام بذلك وحشدوا في
الجامع، وجاء نائب السلطنة إلى المقصورة والامراء معه، وخطب ابن الجلال
على العادة، وفرح الناس بذلك وأكثروا من الكلام والهرج، ولما سلم عليهم
الخطيب حين صعد ردوا عليه ردا بليغا، وتكلفوا في ذلك
(14/238)
وأظهروا بغضة
القاضي السبكي، وتجاهروا بذلك، وأسمعوه كلاما كثيرا، ولما قضيت الصلاة
قرئ تقليد النيابة على السدة، وخرج الناس فرحى بخطيبهم، لكونه استمر
عليهم، واجتمعوا عليه يسلمون ويدعون له.
وفي يوم الاربعاء ثالث شعبان درس القاضي برهان الدين بن عبد الحق
بالمدرسة العذراوية بمرسوم سلطاني بتوليته وعزل القفجاري، وعقد لهما
مجلس يوم الثلاثاء بدار العدل، فرجح جانب القاضي برهان الدين لحاجته
وكونه لا وظيفة له.
وفي يوم الجمعة خامسه توفي الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن الجزري أحد
المسندين المكثرين الصالحين، مات عن خمس وتسعين سنة رحمه الله، وصلي
عليه يوم الجمعة بالجامع المظفري ودفن بالرواحية.
وفي يوم الاربعاء السابع عشر منه توفي الشيخ الامام العالم العابد
الناسك الصالح الشيخ شمس الدين محمد بن الزرير خطيب الجامع الكريمي
بالقبيبات، وصلي عليه بعد الظهر يومئذ بالجامع المذكور، ودفن قبلي
الجامع المذكور، إلى جانب الطريق من الشرق رحمه الله.
واشتهر في أوائل رمضان أن مولودا ولد له رأسان وأربع أيد، وأحضر إلى
بين يدي نائب السلطنة، وذهب الناس للنظر إليه في محلة ظاهر باب
الفراديس، يقال لها حكى الوزير، وكنت فيمن ذهب إليه في جماعة من
الفقهاء يوم الخميس ثالث الشهر المذكور بعد العصر، فأحضروه أبوه - واسم
أبيه سعادة - وهو رجل من أهل الجبل، فنظرت إليه فإذاهما ولدان مستقلان،
فكل قد
اشتبكت أفخاذهما بعضهما ببعض، وركب كل واحد منهما ودخل في الآخر
والتحمت فصارت جثة واحدة وهما ميتان، فقالوا أحدهما ذكرا والآخر أنثى،
وهما ميتان حال رؤيتي إليهما.
وقالوا إنه تأخر موت أحدهما عن الآخر بيومين أو نحوهما، وكتب بذلك محضر
جماعة من الشهود.
وفي هذا اليوم احتيط على أربعة من الامراء وهم أبناء الكامل صلاح الدين
محمد، أمير طبلخانات، وغياث الدين محمد أمير عشرة، وعلاء الدين علي،
وابن أيبك الطويل طبلخانات أيضا، وصلاح الدين خليل بن بلبان طرنا
طبلخانات أيضا.
وذلك بسبب أنهم اتهموا على ممالاة الملك أحمد بن الناصر الذي في الكرك،
ومكاتبته، والله أعلم بحالهم، فقيدوا وحملوا إلى القلعة المنصورة من
باب اليسر مقابل باب دار السعادة الثلاث الطبلخانات والغياث من بابها
الكبير وفرق
(14/239)
بينهم في
الاماكن.
وخرج المحمل يوم الخميس خامس عشره ولبس الخطيب ابن الجلال خلعة استقرار
الخطابة في هذا اليوم، وركب بها مع القضاة على عادة الخطباء.
وفي هذا الشهر نصب المنجنيق الكبير على باب الميدان الاخضر وطول أكتافه
ثمانية عشر ذراعا، وطول سهمه سبعة وعشرون ذراعا، وخرج الناس للفرجة
عليه، ورمى به في يوم السبت حجرا زنته ستين رطلا، فبلغ إلى مقابلة
القصر من الميدان الكبير، وذكر معلم المجانيق أنه ليس في حصون الاسلام
مثله، وأنه عمله الحاج محمد الصالحي ليكون بالكرك، فقدر الله أنه خرج
ليحاصر به الكرك، فالله يحسن العاقبة.
وفي أواخره أيضا مسك أربعة أمراء، وهم أقبغا عبد الواحد الذي كان
مباشرا الاستدارية للملك الناصر الكبير، فصودر في أيام ابنه المنصور،
وأخرج إلى الشام فناب بحمص فسار سيرة غير مرضية، وذمه الناس وعزل عنها
وأعطي تقدمة ألف (1) بدمشق، وجعل رأس الميمنة، فلما كان في هذه الايام
اتهم بممالاة السلطان أحمد بن الناصر الذي بالكرك، فمسك وحمل إلى
القلعة ومعه الامير سيف الدين بلو، والامير سيف الدين سلامش، وكلهم
بطبلخانات فرفعوا إلى القلعة المنصورة، فالله يحسن العاقبة.
وفي هذا الشهر خرج قضاء حمص عن نيابة دمشق بمرسوم سلطاني للقاضي شهاب
الدين البارزي، وذلك بعد مناقشة كثيرة وقعت بينه وبين قاضي القضاة تقي
الدين السبكي، وانتصر له بعض الدولة، واستخرج له المرسوم المذكور.
وفيه أيضا أفرد قضاء القدس الشريف أيضا باسم القاضي شمس الدين بن سالم
الذي كان مباشرها مدة طويلة قبل ذلك نيابة، ثم عزل عنها وبقي مقيما
ببلده غزة، ثم أعيد إليها مستقلا بها في هذا الوقت.
وفي هذا الشهر رجع القاضي شهاب الدين بن فضل الله من الديار المصرية
ومعه توقيع بالمرتب الذي كان له أولا كل شهر ألف درهم، وأقام بعمارته
التي أنشأها بسفح قاسيون شرقي الصالحية بقرب حمام النحاس.
وفي صبيحة مستهل ذي القعدة خرج المنجنيق قاصدا إلى الكرك على الجمال
والعجل، وصحبته الامير صارم الدين إبراهيم المسبقي، أمير حاجب، كان في
الدولة السكرية، وهو المقدم عليه يحوطه ويحفظه ويتولى تسييره بطلبه
وأصحابه، وتجهز الجيش للذهاب إلى الكرك، وتأهبوا أتم الجهاز، وبرزت
أثقالهم إلى ظاهر البلد وضربت الخيام فالله يحسن العاقبة.
__________
(1) في السلوك 2 / 3 / 626: بأمرة مئة بدمشق.
(14/240)
وفي يوم
الاثنين رابعه توفي الطواشي شبل الدولة كافور السكري، ودفن صبيحة يوم
الثلاثاء خامسه في تربته التي أنشأها قديما ظاهر باب الجابية تجاه تربة
الطواشي ظهير الدين الخازن بالقلعة، كان قبيل مسجد الدبان رحمه الله،
وكان قديما للصاحب تقي الدين توبة التكريتي، ثم اشتراه تنكز بعد مدة
طويلة من ابني أخيه صلاح الدين وشرف الدين بمبلغ جيد وعوضهما إقطاعا
بزيادة على ما كان بأيديهما، وذلك رغبة في أمواله التي حصلها من أبواب
السلطنة، وقد تعصب عليه أستاذه تنكز رحمه الله في وقت وصودر وجرت عليه
فصول، ثم سلم بعد ذلك، ولما مات ترك أموالا جزيلة وأوقافا رحمه الله.
وخرجت التجريدة يوم الاربعاء سادسه والمقدم عليها الامير بدر الدين بن
الخطير ومعه مقدم آخر وهو الامير علاء الدين بن قراسنقر.
وفي يوم السبت سلخ هذا الشهر توفي الشاب الحسن شهاب الدين أحمد بن فرج
المؤذن بمأذنة العروس، وكان شهيرا بحسن الصوت ذا حظوة عظيمة عند أهل
البلد، وكان رحمه الله كما في
النفس وزيادة في حسن الصوت الرخيم المطرب، وليس في القراء ولا في
المؤذنين قريب منه ولا من يدانيه في وقته، وكان في آخر وقته على طريقة
حسنة، وعمل صالح، وانقطاع عن الناس، وإقبال على شأن نفسه فرحمه الله،
وأكرم مثواه، وصلي عليه بعد الظهر يومئذ ودفن عند أخيه بمقبرة الصوفية.
وفي يوم الخميس خامس ذي الحجة توفي الشيخ بدر الدين بن نصحان شيخ
القراء السبع في البلد الشهير بذلك، وصلي عليه بالجامع بعد الظهر
يومئذ، ودفن بباب الفراديس رحمه الله.
وفي يوم الاحد تاسعه وهو يوم عرفة حضر الاقراء بتربة أم الصالح عوضا عن
الشيخ بدر الدين بن نصحان القاضي شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي،
وحضر عنده جماعة من الفضلاء وبعض القضاة، وكان حضوره بغتة، وكان
متمرضا، فألقى شيئا من القراءات والاعراب عند قوله تعالى (ولا يحسبن
الذين كفروا إنما نملي لهم خير لانفسهم) [ آل عمران: 178 ] وفي أواخر
هذا الشهر غلا السعر جدا وقل الخبز وازدحم الناس على الافران زحمة
عظيمة، وبيع خبز الشعير المخلوط بالزيوان والنقارة، وبلغت الغرارة
بمائة ستة وثمانين درهما، وتقلص السعر جدا حتى بيع الخبز كل رطل بدرهم،
وفوق ذلك بيسير، ودونه بحسب طيبه ورداءته، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكثر السؤال وجاع العال، وضعف كثير من الاسباب والاحوال، ولكن لطف الله
عظيم فإن الناس مترقبون مغلا هائلا لم يسمع بمثله من مدة سنين عديدة،
وقد اقترب أوانه، وشرع كثير من البلاد في حصاد الشعير وبعض القمح مع
كثرة الفول وبوادر التوت، فلولا ذلك لكان غير ذلك، ولكن لطف الله
بعباده، وهو الحاكم المتصرف الفعال لما يريد لا إله إلا هو.
(14/241)
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وسبعمائة استهلت هذه السنة وسلطان المسلمين
الملك الناصر عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الملك الناصر ناصر الدين
محمد بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي، ونائبه بالديار
المصرية
الامير سيف الدين آقسنقر السلاري، وقضاته هم هم المتقدم ذكرهم في العام
الماضي، ونائبه بدمشق الامير سيف الدين تغردمر الحموي، وقضاته هم
المتقدم ذكرهم، وكذلك الصاحب والخطيب وناظر الجامع والخزانة ومشد
الاوقاف وولاية المدينة.
استهلت والجيوش المصرية والشامية محيطة بحصن الكرك محاصرون ويبالغون في
أمره، والمنجنيق منصوب وأنواع آلات الحصار كثيرة، وقد رسم بتجريدة من
مصر والشام أيضا تخرج إليها.
وفي يوم الخميس عاشر صفر دخلت التجريدة من الكرك إلى دمشق واستمرت
التجريدة الجديدة على الكرك ألفان من مصر وألفان من الشام، والمنجنيق
منقوض موضوع عند الجيش خارج الكرك، والامور متوفقة على (1) وبرد الحصار
بعد رجوع الاحمدي إلى مص 0 ر.
وفي يوم السبت ثاني ربيع الاول توفي السيد الشريف عماد الدين الخشاب
بالكوشك في درب السيرجي جوار المدرسة العزية، وصلي عليه ضحى بالجامع
الاموي، ودفن بمقابر باب الصغير، وكان رجلا شهما كثير العبادة والمحبة
للسنة وأهلها، ممن واظب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وانتفع به،
وكان من جملة أنصاره وأعوانه على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو
الذي بعثه
__________
(1) كذا بالاصل، وفيه اختل السياق، ولعل الصواب ما أورده المقريزي في
السلوك 2 / 653 وما بعدها: - هناك اتصالات تجري بين الناصر أحمد والملك
الصالح اسماعيل لمعالجة موضوع حصار الكرك سلميا بينهما، ومع اشتداد
الحصار أخذ كثير من الامراء بالفرار من الكرك والالتجاء إلى معسكر
الصالح اسماعيل.
تخلى أهل الكرك عن الناصر أحمد، وقلة القوت عنده..فباتت الامور مجمدة
في الكرك بانتظار جلاء الاوضاع، ووضوح المواقف لكل من الفريقين
المتقاتلين.
(14/242)
إلى صيدنايا مع
بعض القسيسين فلوث يده بالعذرة وضرب اللحمة التي يعظمونها هنالك،
وأهانها غاية الاهانة لقوة إيمانه وشجاعته رحمه الله وإيانا.
وفي يوم الخميس سابعه اجتمع الصاحب ومشد الدواوين ووكيل بيت المال،
ومشد الاوقاف ومباشروا الجامع ومعهم العمالين بالقول والمعاول، يحفرون
إلى جانب السارية عند باب مشهد علي
تحت تلك الصخرة التي كانت هناك، وذلك عن قول رجل جاهل، زعم أن هناك
مالا مدفونا فشاوروا نائب السلطنة فأمرهم بالحفر، واجتمع الناس والعامة
فأمرهم فأخرجوا وأغلقت أبواب الجامع كلها ليتمكنوا من الحفر، ثم حفروا
ثانيا وثالثا فلم يجدوا شيئا إلا التراب المحض، واشتهر هذا الحفير في
البلد وقصده الناس للنظر إليه والتعجب من أمره، وانفصل الحال على أن
حبس هذا الزاعم لهذا المحال، وطم الحفير كما كان.
وفي يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الاول قدم قاضي حلب ناصر الدين بن
الخشاب على البريد مجتازا إلى دمشق فنزل بالعادلية الكبيرة، وأخبر أنه
صلى على المحدث البارع الفاضل الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أيبك
السروجي المضري يوم الجمعة ثامن هذا الشهر بحلب رحمه الله ومولده سنة
خمس عشرة وسبعمائة، وكان قد أتقن طرفا جيدا في علم الحديث، وحفظ أسماء
الرجال، وجمع وخرج.
وفي مستهل ربيع الاخر وقع حريق عظيم بسفح قاسيون احترق به سوق الصالحية
الذي بالقرب من جامع المظفري، وكانت جملة الدكاكين التي احترقت قريبا
من مائة وعشرين دكانا، ولم ير حريق من زمان أكبر منه ولا أعظم، فإنا
لله وإنا إليه راجعون.
وفي يوم الجمعة سادسه رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مواذن
البلد كما يذكر في مواذن الجامع، ففعل ذلك.
وفي يوم الثلاثاء عاشره طلب من القاضي تقي الدين السبكي قاضي قضاة
الشافعية أن يقرض ديوان السلطان شيئا من أموال الغياب التي تحت يده،
فامتنع من ذلك امتناعا كثيرا، فجاء شاد الدواوين وبعض حاشية نائب
السلطنة ففتحوا مخزن الايتام وأخذوا منه خمسين ألف درهم قهرا، ودفعوها
إلى بعض العرب عما كان تأخر له في الديوان السلطاني، ووقع أمر كثير لم
يعهد مثله.
وفي يوم الاربعاء عاشر جمادى الاولى توفي صاحبنا الشيخ الامام العالم
العلامة الناقد البارع في فنون العلوم شمس الدين محمد بن الشيخ عماد
الدين أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، تغمده الله برحمته، وأسكنه
بحبوحة جنته، مرض قريبا من ثلاثة أشهر بقرحة وحمى سل، ثم تفاقم أمره
وأفرط به إسهال، وتزايد ضعفه إلى أن توفي يومئذ قبل أذان العصر،
فأخبرني والده أن
آخر كلامه أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله،
اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
فصلي عليه يوم الخميس بالجامع المظفري وحضر جنازته قضاة البلد وأعيان
الناس من العلماء والامراء والتجار والعامة، وكانت جنازته حافلة مليحة،
عليها
(14/243)
ضوء ونور، ودفن
بالروضة إلى جانب قبر السيف ابن المجد رحمهما الله تعالى، وكان مولده
في رجب سنة خمس وسبعمائة فلم يبلغ الاربعين، وحصل من العلوم ما لا
يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير
والاصلين والتاريخ والقراءات وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان
حافظا جيدا لاسماء الرجال، وطرق الحديث، عارفا بالجرح والتعديل، بصيرا
بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيما على طريقة
السلف، واتباع الكتاب والسنة، مثابرا على فعل الخيرات.
وفي يوم الثلاثاء سلخه درس بمحراب الحنابلة صاحبنا الشيخ الامام
العلامة شرف الدين بن القاضي شرف الدين الحنبلي في حلقة الثلاثاء عوضا
عن القاضي تقي الدين ابن الحافظ رحمه الله، وحضر عنده القضاء والفضلاء،
وكان درسا حسنا أخذ في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعد والاحسان) [
النحل: 90 ] وخرج إلى مسألة تفضيل بعض الاولاد.
وفي يوم الخميس ثاني شهر جمادى الاولى خرجت التجريدة إلى الكرك مقدمان
من الامراء، وهما الامير شهاب الدين بن صبح، والامير سيف الدين قلاوون،
في أبهة عظيمة وتجمل وجيوش وبقارات، وإزعاج كثيرة.
وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل حسن بن
الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض، شهد
عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة تدل على كفره، وأنه
رافضي جلد، فمن ذلك تكفير الشيخين رضي الله عنهما، وقذفه أمي المؤمين
عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وزعم أن جبريل غلط فأوحى إلى محمد، وإنما
كان مرسلا إلى علي، وغير ذلك من الاقوال الباطلة القبيحة قبحه الله،
وقد فعل.
وكان والده الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة الشيعة جيدا، وكانت
له أسئلة على
مذهب أهل الخير، ونظم في ذلك قصيدة أجابه فيها شيخنا الامام العلامة
شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر غير واحد من أصحاب الشيخ أن
السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهبه، وصار إلى قول أهل السنة فالله
أعلم.
وأخبرت أن ولده حسنا هذا القبيح كان قد أراد قتل أبيه لما أظهر السنة.
وفي ليلة الاثنين خامس شهر رجب وصل بدن الامير سيف الدين تنكز نائب
الشام كان إلى تربته التي إلى جانب جامعه الذي أنشأه ظاهر باب النصر
بدمشق، نقل من الاسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعة ابنته
زوجة الناصر عند ولده السلطان الملك الصالح، فأذن في ذلك وأرادوا أن
يدفن بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يمكن، فجئ به إلى تربته بدمشق وعملت
له الختم وحضر القضاة والاعيان رحمه الله.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شعبان المبارك توفي صاحبنا الامير صلاح
الدين يوسف التكريتي ابن أخي الصاحب تقي الدين بن توبة الوزير، بمنزله
بالقصاعين، وكان شابا من أبناء الاربعين،
(14/244)
ذا ذكاء وفطنة
وكلام وبصيرة جيدة، وكان كثير المحبة إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية
رحمه الله، ولاصحابه خصوصا، ولكل من يراه من أهل العلم عموما، وكان فيه
إيثار وإحسان ومحبة الفقراء والصالحين، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون رحمه
الله، وفي يوم السبت الخامس عشر منه جاءت زلزلة بدمشق لم يشعر بها كثير
من الناس لخفتها ولله الحمد والمنة، ثم تواترت الاخبار بأنها شعثت في
بلاد حلب شيئا كثيرا من العمران حتى سقط بعض الابراج بقلعة حلب، وكثير
من دورها ومساجدها ومشاهدها وجدرانها، وأما في القلاع حولها فكثير جدا،
وذكروا أن مدينة منبج لم يبق منها إلا القليل، وأن عامة الساكنين بها
هلكوا تحت الردم رحمه الله: وفي أواخر شهر شوال خرجت التجاريد إلى
الكرك وهما أميران مقدمان الامير علاء الدين قراسنقر، والامير الحاج
بيدمر، وأشتهر في هذه الايام أن أمر الكرك قد ضعف وتفاقم عليهم الامر
وضاقت الارزاق عندهم جدا، ونزل منها جماعات من رؤسائها وخاصكية الامير
أحمد بن الناصر
مخامرين عليه، فسيروا من الصبح إلى قلاوون وصحبتهم مقدمون من الحلقة
إلى الديار المصرية، وأخبروا أن الحواصل عند أحمد قد قلت جدا فالله
المسؤول أن يحسن العاقبة.
وفي ليلة الاربعاء الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة توفي القاضي الامام
العلامة برهان الدين بن عبد الحق شيخ الحنفية وقاضي القضاة بالديار
المصرية مدة طويلة، بعد ابن الحريري، ثم عزل وأقام بدمشق ودرس في أيام
تغردمر بالعذراوية لولده القاضي أمين الدين، فذكر بها الدرس يوم الاحد
قبل وفاة والده بثلاثة أيام، وكان موت برهان الدين رحمه الله ببستانه
من أراضي الارزة بطريق الصالحية، ودفن من الغد بسفح قاسيون بمقبرة
الشيخ أبي عمر رحمه الله، وصلي عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازته
القضاة والاعيان والاكابر رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والديار الشامية وما يتعلق
بذلك الملك الصالح ابن إسماعيل بن السلطان الملك الناصر محمد بن الملك
المنصور قلاوون، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون في
السنة المتقدمة، ونائبه بمصر الحاج سيف الديين ووزيره المتقدم ذكره،
وناظر الخاص القاضي مكين الدين، وناظر الجيوش القاضي علم الدين ابن
القطب، والمحتسب المتقدم، وشاد الدواوين علم الدين الناصري، وشاد
الاوقاف الامير حسام الدين النجيبي، ووكيل بيت المال القاضي علاء الدين
شرنوخ، وناظر الخزانة القاضي تقي الدين بن أبي الطيب، وبقية المباشرين
والنظار هم المتقدم ذكرهم، وكاتب الدست القاضي بدر الدين بن فضل الله
كاتب السر، والقاضي أمين الدين بن القلانسي والقاضي شهاب الدين بن
القيسراني، والقاضي شرف الدين بن شمس الدين بن الشهاب محمود، والقاضي
علاء الدين شرنوخ.
(14/245)
شهر المحرم
أوله السبت استهل والحصار واقع بقلعة الكرك، وأما البلد فأخذ واستنيب
فيه الامير سيف الدين قبليه، قدم إليها من الديار المصرية، والتجاريد
من الديار المصرية ومن دمشق محيطون بالقلعة، والناصر أحمد بن الناصر
ممتنع من التسليم، ومن الاجابة إلى الانابة.
ومن
الدخول في طاعة أخيه، وقد تفاقمت الامور وطالت الحروب، وقتل خلق كثير
بسبب ذلك، من الجيوش ومن أهل الكرك، وقد توجهت القضية إلى خير إن شاء
الله.
وقبل ذلك بأيام يسيرة هرب من قلعة الكرك الامير سيف الدين أبو بكر بن
بهادر آص الذي كان أسر في أوائل حصار الكرك، وجماعة من مماليك الناصر
أحمد، كان اتهمهم بقتل الشهيب أحمد، الذي كان يعتني به ويحبه، واستبشر
الجيوش بنزول أبي بكر من عنده وسلامته من يده، وجهز إلى الديار المصرية
معظما، وهذا والمجانيق الثلاثة مسلطة على القلعة من البلد تضرب عليها
ليلا ونهارا، وتدمر في بنائها من داخل، فإن سورها لا يؤثر فيه شئ
بالكلية، ثم ذكر أن الحصار فتر ولكن مع الاحتياط على أن لا يدخل إلى
القعلة ميرة ولا شئ مما يستعينون به على المقام فيها، فالله المسؤول أن
يحسن العاقبة.
وفي يوم الاربعاء الخامس والعشرين من صفر قدم البريد مسرعا من الكرك
فأخبر بفتح القلعة، وأن بابها أحرق، وأن جماعة الامير أحمد بن الناصر
استغاثوا بالامان، وخرج أحمد مقيدا وسير على البريد إلى الديار
المصرية، وذلك يوم الاثنين بعد الظهر الثالث والعشرين (1) من هذا
الشهر، ولله عاقبة الامور وفي صبيحة يوم الجمعة رابع ربيع الاول دقت
البشائر بالقلعة، وزينت البلد عن مرسوم السلطان الملك الصالح سرورا
بفتح البلد، واجتماع الكلمة عليه، واستمرت الزينة إلى يوم الاثنين
سابعه، فرسم برفعها بعد الظهر فتشوش كثير من العوام، وأرجف بعض الناس
بأن أحمد قد ظهر أمره وبايعه الامراء الذين هم عنده، وليس لذلك حقيقة،
ودخلت الاطلاب من الكرك صبيحة يوم الاحد ثالث عشر ربيع الاول بالطب
لخانات والجيوش، واشتهر إعدام أحمد بن الناصر (2).
وفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الاول صلي بالجامع الاموي على الشيخ أمين
(3) الدين أبي حيان النحوي، شيخ البلاد المصرية من مدة طويلة، وكانت
وفاته بمصر عن تسعين سنة وخمسة
__________
(1) في السلوك 2 / 661: ثاني عشرين صفر، وفي بدائع الزهور 1 / 503:
ثاني عشرين ذي الحجة.
__________
(2) في السلوك 2 / 662 والنجوم الزاهرة 10 / 93: كان ذلك ليلة الرابع
من ربيع الاول سنة 745 ه وفي تاريخ الشجاعي ص 69 وما بعدها: " خنق ليلة
السبت سادس ربيع الاول وقطع رأسه واحضرت لاخيه الصالح
ودفنت جثته تحت برج الحرص ": وكان الامير منجك - سيف الدين منجك بن عبد
الله اليوسفي الناصري المتوفي سنة 776 - قد توجه إليه إلى الكرك دون
علم الامراء فوصل إلى الكرك فدخل على الناصر أحمد وخنقه وقطع رأسه -
كما في رواية السلوك، أما في بدائع الزهور 1 / 503 فقد كان ذهاب الامير
منجك بطلب السلطان وأمره.
__________
(3) في السلوك 2 / 676 وشذرات الذهب 6 / 145: أثير الدين.
وهو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الاندلسي الغرناطي النفزي
(نفزة إحقبائل البربر).
(14/246)
أشهر.
ثم اشتهر في ربيع الآخر (1) قتل السلطان أحمد وحز رأسه وقطع يديه، ودفن
جثته بالكرك، وحمل رأسه إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل، وحضر بين يديه
في الرابع والعشرين من هذا الشهر، ففرح الناس بذلك، ودخل الشيخ إحمد
الزرعي على السلطان الملك الصالح فطلب منه أشياء كثيرة من تبطيل
المظالم ومكوسات وإطلاق طبلخانات للامير ناصر الدين بن بكتاش، وإطلاق
أمراء محبوسين بقلعة دمشق وغير ذلك، فأجابه إلى جميع ذلك، وكان جملة
المراسيم التي أجيب فيها بضع وثلاثين مرسوما، فلكا كان آخر شهر ربيع
الآخر قدمت المراسيم التي سألها الشيخ أحمد من الملك الصالح، فأمضيت
كلها، أو كثير منها، وأفرج عن صلاح الدين بن الملك الكامل، والامير سيف
الدين بلو، في يوم الخميس سلخ هذا الشهر، ثم روجع في كثير منها وتوقف
حالها.
وفي هذا الشهر عملت منارة باب الفرج وفتحت مدرسة كانت دارا قديمة فجعلت
مدرسة للحنفية ومسجدا، وعملت طهارة عامة، ومصلى للناس، وكل ذلك منسوب
إلى الامير سيف الدين تقطم الخليلي أمير حاجب كان، وهو الذي جدد الدار
المعروفة به اليوم بالقصاعين.
وفي ليلة الاثنين عاشر جمادى الآخرة توفي صاحبنا المحدث تقي الدين محمد
بن صدر الدين سليمان الجعبري زوج بنت الشيخ جمال الدين المزي، والد شرف
الدين عبد الله، وجمال الدين إبراهيم وغير هم، وكان فقيها بالمدارس،
وشاهدا تحت الساعات وغيرها، وعنده فضيلة جيدة في قراءة الحديث وشئ من
العربية، وله نظم مستحسن، انقطع يومين وبعض الثالث وتوفي في الليلة
المذكورة في وسط الليل، وكنت عنده وقت العشاء الآخر ليلتئذ، وحدثني
وضاحكني، وكان خفيف الروح رحمه الله، ثم توفي في بقية ليلته رحمه الله،
وكان أشهدني عليه بالتوبة من جميع ما يسخط الله عز وجل، وأنه عازم على
ترك الشهود أيضا رحمه الله، صلي عليه ظهر يوم الاثنين، ودفن بمقابر باب
الصغير عند أبويه رحمهم الله.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرين شهر رجب خطب القاضي عماد الدين بن العز
الحنفي بجامع تنكز خارج باب النصر عن نزول الشيخ نجم الدين علي بن داود
القفجاري له عن ذلك، وأيضا نائب السلطنه الامير سيف الدين تغردمر
وحضوره عنده في الجامع المذكور يومئذ.
وفي يوم الجمعة تاسع عشرين رجب توفي القاضي الامام العالم جلال الدين
أبو العباس أحمد ابن قاضي القضاة حسام الدين الرومي الحنفي، وصلي عليه
بعد صلاة الجمعة بمسجد دمشق، وحضره القضاة والاعيان ودفن بالمدرسة التي
أنشأها إلى جانب الزردكاش قريبا من الخاتونية الجوانية، وكان قد ولي
قضاء قضاة الحنفية في أيام ولاية أبيه الديار المصرية، وكان مولده سنة
__________
(1) انظر حاشية رقم 2 صفحة 245.
(14/247)
إحدى وخمسين
وستمائة، وقدم الشام مع أبيه فأقاموا بها، ثم لما ولي الملك المنصور
لاجين ولى أباه قضاء الديار المصرية، وولده هذا قضاء الشام، ثم إنه عزل
بعد ذلك واستمر على ثلاث مدارس من خيار مدارس الحنفية ثم حصل له صمم في
آخر عمره، وكان ممتعا بحواسه سواه وقواه، وكان يذاكر في العلم وغير
ذلك.
وفي يوم الاربعاء الرابع والعشرين من شعبان توفي الشيخ نجم الدين علي
بن داود القفجاري خطيب جامع تنكز، ومدرس الظاهرية، وقد نزل عنها قبل
وفاته بقليل للقاضي عماد الدين بن العز الحنفي، وصلي عليه بالجامع
المذكور بعد صلاة الظهر يومئذ، وعند باب النصر وعند جامع جراح ودفن
بمقبرة ابن الشيرجي عند والده، وحضره القضاة والاعيان، وكان أستاذا في
النحو وله علوم آخر، لكن كان نهاية في النحو والتصريف.
وفي هذا اليوم توفي الشيخ الصالح العابد الناسك الشيخ عبد الله الضرير
الزرعي، وصلي عليه بعد الظهر بالجامع الاموي وبباب النصر وعند مقابر
الصوفية، ودفن بها قريبا من الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وكان
كثير التلاوة حسنها وصحيحها، كثير العبادة، يقرئ الناس من دهر طويل
ويقوم بهم العشر الاخير من رمضان، في محراب الحنابلة بالجامع الاموي
رحمه الله.
وفي يوم الجمعة ثاني شهر رمضان المعظم توفي الشيخ الامام العالم العامل
العابد الزاهد الورع أبو عمر بن أبي الوليد المالكي إمام محراب الصحابة
الذي للمالكية، وصلي عليه بعد الصلاة، وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير،
وتأسف الناس عليه وعلى صلاحه وفتاويه النافعة الكثيرة، ودفن إلى جانب
قبر أبيه وأخيه، إلى جانب قبر أبي الغندلاوي المالكي قريبا من مسجد
التاريخ رحمه الله، وولي مكانه في المحراب ولده، وهو طفل صغير، فاستنيب
له إلى حين صلاحيته، جبره الله ورحم أباه.
وفي صبيحة ليلة الثلاثاء سادس رمضان وقع ثلج عظيم لم ير مثله بدمشق من
مدة طويلة، وكان الناس محتاجين إلى مطر، فلله الحمد والمنة، وتكاثف
الثلج على الاسطحة، وتراكم حتى أعيى الناس أمره ونقلوه عن الاسطحة إلى
الازقة يحمل، ثم نودي بالامر بإزالته من الطرقات فإنه سدها وتعطلت
معايش كثير من الناس، فعوض الله الضعفاء بعلمهم في الثلج، ولحق الناس
كلفة كبيرة وغرامة كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من رمضان صلي بالجامع الاموي على نائب
وهو الامير علاء الدين الجاولي، وقد تقدم شئ من ترجمته رحمه الله.
وفي أول شوال يوم عيد الفطر وقع فيه ثلج عظيم بحيث لم يتمكن الخطيب من
الوصول إلى
(14/248)
المصلى، ولا
خرج نائب السلطنة، بل اجتمع الامراء والقضاة بدار السعادة، وحضر الخطيب
فصلى بهم العيد بها، وكثير من الناس صلوا العيد في البيوت.
وفي يوم الاحد الحادي والعشرين من ذي الحجة درس قاضي القضاة تقي الدين
السبكي
الشافعي بالشامية البرانية عن الشيخ شمس الدين بن النقيب رحمه الله،
وحضر عنده القضاة والاعيان والامراء وخلق من الفضلاء، وأخذ في قوله
تعالى (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت
الوهاب) [ ص: 35 ] وما بعدها.
وفي ذي الحجة استفتي في قتل كلاب البلد فكتب جماعة من أهل البلد في
ذلك، فرسم بإخراجهم يوم الجمعة من البلد الخامس والعشرين منه، لكن إلى
الخندق ظاهر باب الصغير، وكان الاولى قتلهم بالكلية وإحراقهم لئلا تنتن
بريحهم على ما أفتى به الامام مالك بن أنس من جواز قتل الكلاب ببلدة
معينة للمصلحة، إذا رأى الامام ذلك، ولا يعارض ذلك النهي عن قتل
الكلاب، ولهذا كان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح
الحمام.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة استهلت
هذه السنة وسلطان المسلمين بالديار المصرية والشامية والحرمين والبلاد
الحلبية وأعمال ذلك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن
المنصور، وقضاته بالديار المصرية والشامية هم المذكورون أيضا.
وفي يوم الجمعة سادس عشر محرم كملت عمارة الجامع الذي بالمزة الفوقانية
الذي جدده وأنشأه الامير بهاء الدين المرجاني، الذي بنى والده مسجد
الخيف بمنى وهو جامع حسن متسع فيه روح وانشراح، تقبل الله من بانيه،
وعقدت فيه الجمعة بجمع كثير وجم غفير من أهل المزة، ومن حضر من أهل
البلد، وكنت أنا الخطيب - يعني الشيخ عماد الدين المصنف تغمده الله
برحمته - ولله الحمد والمنة.
ووقع كلام وبحث في اشتراط المحلل في المسابقة، وكان سببه أن الشيخ شمس
الدين بن قيم الجوزية صنف فيه مصنفا من قبل ذلك، ونصر فيه ما ذهب إليه
الشيخ تقي الدين بن تيمية في ذلك، ثم صار يفتي به جماعة من الترك ولا
يعزروه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية، فاعتقد من اعتقد أنه قوله وهو
مخالف للائمة الاربعة، فحصل عليه إنكار في ذلك، وطلبه القاضي الشافعي،
وحصل كلام في ذلك، وانفصل الحال على أن أظهر الشيخ شمس الدين بن قيم
الجوزية الموافقة للجمهور.
وفاة الملك الصالح إسماعيل
في يوم الاربعاء ثالث شهر ربيع الآخر (1) من هذه السنة أظهر موت
السلطان الملك الصالح
__________
(1) كذا بالاصل، وفي الدليل الشافعي 1 / 129 والمنهل الصافي 2 / 426:
مات في العشرين من ربيع الاول سنة 746 =
(14/249)
ه.
وفي السلوك 2 / 677 والنجوم الزاهرة 10 / 95: توفي ليلة الخميس رابع
ربيع الآخر، وفي بدائع الزهور 1 / 504: " في الحادي والعشرين من ربيع
الآخر ".
عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور آخر النهار، وكان قد عهد
بالامر إلى أخيه لابويه الملك الكامل سيف (1) الدين أبي الفتوح شعبان،
فجلس على سرير المملكة يوم الخميس رابعه، وكان يوما مشهودا، ثم قدم
الخبر إلى دمشق عشية الخميس ليلة الجمعة الثاني عشر منه، وكان البريد
قد انقطع عن الشام نحو عشرين يوما للشغل بمرض السلطان (2)، فقدم الامير
سيف الدين معزا للبيعة للملك الكامل، فركب عليه الجيش لتلقيه، فلما كان
صبيحة الجمعة أخذت البيعة من النائب والمقدمين وبقية الامراء والجند
للسلطان الملك الكامل بدار السعادة، ودقت البشائر وزين البلد وخطب
الخطباء يومئذ للملك الكامل، جعله الله وجها مباركا على المسلمين.
وفي صبيحة يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الآخر درس القاضي جمال
الدين حسين ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي بالمدرسة الشامية
البرانية، نزل له أبوه عنها، واستخرج له مرسوما سلطانيا بذلك، فحضر
عنده القضاة والاعيان وجماعة من الامراء والفقهاء، وجلس بين أبيه
والقاضي الحنفي، وأخذ في الدرس في قوله تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان
علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) الآيات [
النمل: 15 ].
وتكلم الشريف مجد الدين المتكلم في الدرس بكلام فيها نكارة وبشاعة،
فشنع عليه الحاضرون، فاستنيب بعد انقضاء الدرس وحكم بإسلامه، وقد طلب
إلى الديار المصرية نائب دمشق الامير سيف الدين تغردمر وهو متمرض،
انقطع عن الجمعة بسبب المرض مرات، والبريد يذهب إلى حلب لمجئ نائبها
الامير سيف الدين يلبغا لنيابة دمشق، وذكر أن الحاج أرقطيه تعين لنيابة
حلب.
وفي يوم الجمعة رابع جمادى الاولى خرجت أثقال الامير سيف الدين تغردمر
النائب وخيوله وهجنه ومواليه
وحواصله وطبل خاناته وأولاده في تجمل عظيم، وأبهة هائلة جدا، وخرجت
المحافل والكحارات والمحفات لنسائه وبناته وأهله في هيبة عجيبة، هذا
كله وهو بدار السعادة، فلما كان من وقت السحر في يوم السبت خامسه خرج
الامير سيف الدين تغر دمر بنفسه إلى الكسوة في محفة لمرضه مصحوبا
بالسلامة، فلما طلعت الشمس من يومئذ قدم من حلب أستاذ دار الامير سيف
الدين يلبغا اليحياوي (3) فتسلم دار السعادة، وفرح الناس بهم، وذهب
الناس للتهنئة والتودد إليهم.
* هامش) * (1) في بدائع الزهور 1 / 504: زين الدين.
__________
(2) في السلوك 2 / 676 والنجوم الزاهرة 10 / 94 " تغير مزاجه في مستهل
شهر ربيع الاول ولزم الفراش ولم يخرج إلى الخدمة أياما " وفي الجوهر
الثمين لابن دقماق 2 / 183: " مرض في العشرين من صفر " وفي مكان آخر
قال في السلوك: 2 / 680: اعتراه القولنج.
__________
(3) من السلوك 2 / 755، وفي الاصل: البحناوي، وهو يلبغا بن عبد الله
اليحياوي الناصري، سيف الدين المتوفى سنة 748 ه.
(الدرر 4 / 436 والنجوم الزاهرة 10 / 105).
(14/250)
ولما كان يوم
السبت الثاني من جمادي الاولى خرج الجيش بكماله لتلقي نائب السلطنة
الامير سيف الدين يلبغا فدخل في تجمل عظيم، ثم جاء فنزل عند باب السر،
وقبل العتبة على العادة ثم مشى إلى دار السعادة.
وفي عشية يوم الاثنين رابع عشره قطع نائب السلطنة ممن وجب قطعه في
الحبس ثلاثة عشر رجلا وأضاف إلى قطع اليد وقطع الرجل من كل منهم، لما
بلغه أنه تكرر من جناياتهم، وصلب ثلاثة بالمسامير ممن وجب قتله، ففرح
الناس بذلك لقمعه المفسدين وأهل الشرور، والعيث والفساد.
واشتهر في العشر الاوسط من جمادى الآخرة وفاة الامير سيف الدين تغردمر
بعد وصوله إلى الديار المصرية بأيام، وكان ذلك ليلة الخميس مستهل هذا
الشهر، وذكر أنه رسم على ولده وأستاذ داره، وطلب منهم مال جزيل، فالله
أعلم.
وفي يوم الاثنين ثاني عشره توفي القاضي علاء الدين بن العز الحنفي نائب
الحكم ببستانه بالصالحية ودفن بها، وذلك بعد عود المدرسة الظاهرية
إليه، وأخذه إياها من عمه القاضي عماد الدين إسماعيل، كما قدمنا، ولم
يدرس فيها إلا يوما واحدا، وهو متمرض، ثم عاد إلى الصالحية فتمادى به
مرضه إلى أن مات رحمه الله.
وخرج الركب إلى الحجاز الشريف يوم السبت حادي عشر شوال، وخرج ناس كثير
من البلد، ووقع مطر عظيم جدا، ففرح الناس به من جهة أن المطر كان قليلا
جدا في شهر رمضان، وهو كانون الاصم، فلما وقع هذا استبشروا به وخافوا
على الحجاج ضرره، ثم تداول المطر وتتابع ولله الحمد والمنة، لكن ترحل
الحجاج في أوحال كثيرة وزلق كثير، والله المسلم والمعين والحامي.
ولما استقل الحجيج ذاهبين وقع عليهم مطر شديد بين الصمين فعوقهم أياما
بها، ثم تحاملوا إلى زرع فلم يصلوها إلا بعد جهد جهيد وأمر شديد، ورجع
كثير منهم وأكثرهم، وذكروا أشياء عظيمة حصلت لهم من الشدة وقوة الامطار
وكثرة الاوحال، ومنهم من كان تقدم إلى أرض بصرى، فحصل لهم رفق بذلك
والله المستعان.
وقيل إن نساء كثيرة من المخدرات مشين حفاة فيما بين زرع والصميين وبعد
ذلك، وكان أمير الحاج سيف الدين ملك آص وقاضيه شهاب الدين بن الشجرة
الحاكم بمدينة بعلبك يومئذ والله المستعان، انتهى.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين
وغير ذلك الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الملك الناصر محمد بن الملك
المنصور قلاوون، وليس له بمصر نائب، وقضاة مصر هم المذكورون في التي
قبلها، ونائب دمشق الامير سيف الدين يلبغا
(14/251)
اليحياوي (1)
وقضاة دمشق هم المذكورون في التي قبلها، إلا أن قاضي القضاة عماد الدين
بن إسماعيل الحنفي نزل عن القضاء لولده قاضي القضاة نجم الدين، واستقل
بالولاية وتدريس النورية، وبقي والده على تدريس الريحانية (2).
وفي يوم الجمعة السادس عشر من المحرم من هذه السنة توفي الشيخ تقي
الدين الشيخ الصالح محمد بن الشيخ محمد بن قوام بزاويتهم بالسفح، وصلي
عليه الجمعة بجامع الافرم، ثم دفن بالزاوية وحضره القضاة والاعيان وخلق
كثير، وكان بينه وبين أخيه ستة أشهر وعشرون يوما، وهذا أشد من ذلك.
وفتحت في أول السنة القيسارية التي أنشأها الامير سيف الدين يلبغا نائب
السلطنة ظاهر باب الفرج وضمنت ضمانا باهرا بنحو من سبعة آلاف كل شهر،
وداخلها قيسارية تجارة في وسطها بركة ومسجد، وظاهرها دكاكين وأعاليها
بيوت للسكن.
وفي صبيحة يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الاول عقد مجلس بمشهد عثمان للنور
الخراساني، وكان يقرأ القرآن في جامع تنكز، ويعلم الناس أشياء من فرائض
الوضوء والصلاة، ادعي عليه في أنه تكلم في بعض الائمة الاربعة، وأنه
تكلم في شئ من العقائد ويطلق عبارات زائدة على ما ورد به الحديث، وشهد
عليه ببعض أشياء متعددة، فاقتضى الحال أن عزر في هذا اليوم، وطيف به في
البلد، ثم رد إلى السجن معتقلا.
فلما كان يوم الخميس الثاني عشرين منه شفع فيه الامير أحمد بن مهنا ملك
العرب عند نائب السلطنة فاستحضره بين يديه وأطلقه إلى أهله وعياله،
ولما كان تاريخ يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الاولى صلى نائب السلطنة
الامير سيف الدين يلبغا اليحياوي (1) الناصري بجامع تنكز ظاهر دمشق برا
باب النصر، وصلى عنده القاضي الشافعي والمالكي وكبار الامراء، ولما
أقيمت الصلاة صلى وقعد بعض مماليكه عن الصلاة ومعه السلاح حراسة له، ثم
لما انصرف من الصلاة اجتمع بالامراء المذكورين وتشاوروا طويلا، ثم نهض
النائب إلى دار السعادة فلما كان آخر النهار برز بخدمه ومماليكه وحشمه
ووطاقة وسلاحه وحواصله، ونزل قبلي مسجد القدم وخرج الجند والامراء في
آخر النهار وانزعج الناس، واتفق طلوع القمر خاسفا، ثم خرج الجيش ملبسا
تحت الثياب وعليه التراكيس بالنشاب والخيول والجنابات، ولا يدري الناس
ما الخبر، وكان سبب ذلك أن نائب السلطنة بلغه أن نائب صفد ؟ قد ركب
إليه ليقبض عليه (3)،
__________
(1) انظر الحاشية 3 صفحة 249.
__________
(2) وهي المدرسة الريحانية بدمشق.
أنشأها خواجا ريحان الطواشي خادم نور الدين محمود بن زنكي في سنة 565 ه
(الدارس 1 / 522).
__________
(3) أشار المقريزي إلى سبب تنكر السلطان على الامير يلبغا نائب الشام،
وغضب يلبغا على السلطان وذلك أن السلطان قرر السفر إلى الحجاز وأمر
الامراء بحمل ما يحتاج إليه: فورد كتاب يلبغا نائب الشام يتضمن خراب
بلاد =
(14/252)
= الشام مما
اتفق بها من أخذ الاموال وانقطاع الجالب إليها وأن الرأي تأخير السفر
إلى الحجاز في هذه السنة..ورأى السلطان ذلك..ثم غير رأيه تحت ضغط
والدته ونسائه وقرر السفر وطلب أن تحمل إليه الاموال وتجدد الطلب على
الناس فاشتد الامر على الناس بديار مصر وبلاد الشام وكثر دعاؤهم لماهم
فيه من السخر والمغارم.
ولما بلغ يلبغا ذلك، وأن السلطان يريد مسكه جمع أمراء دمشق وحلفهم على
القيام معه..وكتبوا بخلع الكامل وظاهروا بالخروج عن طاعته...(السلوك 2
/ 707 وما بعدها).
فانزعج لذلك وقال: لا أموت إلا على ظهر أفراسي، لا على فراشي، وخرج
الجند والامراء خوفا من أن يفوتهم بالفرار، فنزلوا يمنة ويسرة، فلم
يذهب من تلك المنزلة بل استمر بها يعمل النيابة ويجتمع بالامراء جماعة
وفرادى، ويستميلهم إلى ما هو فيه من الرأي، وهو خلع الملك الكامل شعبان
لانه يكثر من مسك الامراء بغير سبب، ويفعل أفعالا لا تيلق بمثله،
وذكروا أمورا كثيرة، وأن يولوا أخاه أمير حاجي بن الناصر لحسن شكالته
وجميل فعله، ولم يزل يفتلهم في الذروة والغارب حتى أجابوه إلى ذلك،
ووافقوه عليه، وسلموا له ما يدعيه، وتابعوا على ما أشار إليه وبايعوه،
ثم شرع في البعث إلى نواب البلاد يستميلهم إلى ما مالا عليه الدمشقيون
وكثير من المصريين، وشرع أيضا في التصرف في الامور العامة الكلية،
وأخرج بعض من كان الملك الكامل اعتقله بالقلعة المنصورة، ورد إليه
إقطاع بعد ما بعث الملك الكامل إلى من أقلعه عن منشوره، وعزل وولى وأخذ
وأعطى، وطلب التجار يوم الاربعاء ثامن عشره ليباع عليهم غلال الحواصل
السلطانية فيدفعوا أثمانها في الحال، ثم يذهبوا فيتسلموها من البلاد
البرانية، وحضر عنده القضاة على العادة والامراء والسادة، وهذا كله وهو
مخيم بالمكان المذكور، لا يحصره بلد ولا يحويه سور.
وفي يوم الخميس رابع جمادى الآخرة خرجت تجريدة نحو عشرة طليعة لتلقي من
يقدم من الديار المصرية من الامراء وغيرهم، ببقاء الامر على ما كان
عليه، فلم يصدقهم النائب، وربما عاقب بعضهم، ثم رفعهم إلى القلعة، وأهل
دمشق ما بين مصدق باختلاف المصريين وما بين قائل السلطان الكامل قائم
الصورة مستمر على ما كان عليه، والتجاريد المصرية واصلة قريبا، ولا بد
من وقوع خبطة عظيمة.
وتشوشت أذهان الناس وأحوالهم بسبب ذلك، والله المسؤول أن يحسن العاقبة.
وحاصل القضية أن العامة ما بين تصديق وتكذيب، ونائب السلطنة وخواصه من
كبار الامراء على ثقة من أنفسهم، وأن الامراء على خلف شديد في الديار
المصرية بين السلطان الكامل شعبان وبين أخيه أمير حاجي، والجمهور مع
أخيه أمير حاجي، ثم جاءت الاخبار إلى النائب بأن التجاريد المصرية خرجت
تقصد الشام ومن فيه من الجند لتوطد الامر، ثم إنه تراجعت رؤس الامراء
في الليل إلى مصر واجتمعوا إلى إخوانهم ممن هو ممالئ لهم على السلطان،
فاجتمعوا ودعوا إلى سلطنة أمير حاجي وضربت الطبل خانات وصارت باقي
النفوس متجاهرة على نية تأييده،
(14/253)
ونابذوا
السلطان الكامل، وعدوا عليه مساويه، وقتل بعض الامراء، وفر الكامل
وأنصاره فاختيط عليه.
وخرج أرغون العلائي زوج ابنته واستظهر أيضا أمير حاجي فأجلسوه على
السرير ولقبوه بالملك المظفر (1)، وجاءت الاخبار إلى النائب بذلك،
فضربت البشائر عنده، وبعث إلى نائب القلعة فامتنع من ضربها، وكان قد
طلب إلى الوطاق فامتنع من الحضور، وأغلق باب القلعة، فانزعج الناس
واختبط البلد، وتقلص وجود الخير، وحصنت القلعة ودعوا للكامل بكرة وعشية
على العادة، وأرجف العامة بالجيش على عادتهم في كثرة فصولهم، فحصل
لبعضهم أذية.
فلما كان يوم الاثنين ثامن الشهر قدم نائب حماة إلى دمشق مطيعا لنائب
السلطنة في تجمل وأبهة، ثم أجريت له عادة أمثاله.
وفي هذا اليوم وقعت بطاقة بقدوم الامير سيف الدين بيغرا حاجب الحجاب
بالديار المصرية
لاجل البيعة للسلطان الملك المظفر، فدقت البشائر بالوطاق، وأمر بتزيين
البلد، فزين الناس وليسوا منشرحين، وأكثرهم يظن أن هذا مكر وخديعة، وأن
التجاريد المصرية واصلة قريبا.
وامتنع نائب القلعة من دق البشائر وبالغ في تحصين القلعة، وغلق بابها،
فلا يفتح إلا الخوخة البرانية والجوانية، وهذا الصنيع هو الذي يشوش
خواطر العامة، يقولون: لو كان ثم شئ له صحة كان نائب القلعة يطلع على
هذا قبل الوطاق.
فلما كان يوم الثلاثاء بعد الزوال قدم الامير سيف الدين بيغرا إلى
الوطاق، وقد تلقوه وعظموه، ومعه تقليد النيابة من المظفر إلى الامير
سيف الدين يلبغا نائب السلطنة، وكتاب إلى الامراء بالسلام.
ففرحوا بذلك وبايعوه وانضمت الكلمة ولله الحمد.
وركب بيغرا إلى القلعة فترجل وسل سيفه ودخل إلى نائب القلعة فبايعه
سريعا ودقت البشائر في القعلة بعد المغرب، حين بلغه الخبر، وطابت أنفس
الناس ثم أصبحت القعلة في الزينة وزادت الزينة في البلد وفرح الناس،
فلما كان يوم الخميس حادي عشر الشهر دخل نائب السلطنة من الوطاق إلى
البلد والاطلاب بين يديه في تجمل وطبل خانات على عادة العرض، وقد خرج
أهل البلد إلى الفرجة، وخرج أهل الذمة بالتوراة، وأشعلت الشموع، وكان
يوما مشهودا.
وقد صلى في شهر رمضان من هذه السنة بالشامية البرانية صبي عمره ست
سنين، وقد رأيته وامتحنته فإذا هو يجيد الحفظ والاداء، وهذا من أغرب ما
يكون.
وفي العشر الاول من هذا الشهر فرغ من بناء الحمامين الذي بناهما نائب
السلطنة بالقرب من الثابتية في خان السلطان العتيق، وما حولها من
الرباع والقرب وغير ذلك.
وفي يوم الاحد حادي عشره اجتمع نائب السلطنة والقضاة الاربعة ووكيل بيت
المال والدولة عند تل المستقين، من أجل أن نائب السلطنة قد عزم على
بناء
__________
(1) وذلك يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، وله من العمر خمس عشرة سنة
(السلوك 2 / 714).
(14/254)
هذه البقعة جامعا بقدر جامع تنكز، فاشتوروا هنالك، ثم انفصل الحال على
أن يعمل، والله ولي التوفيق.
وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة صلي على الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن
تيمية، أخو الشيخ تقي الدين رحمهما الله.
وفي يوم السبت ثاني عشره توفي الشيخ علي القطناني بقطنا، وكان قد اشتهر
أمره في هذه السنين، واتبعه جماعة من الفلاحين والشباب المنتمين إلى
طريقة أحمد ابن الرفاعي، وعظم أمره وسار ذكره، وقصده الاكابر للزيارة
مرات، وكان يقيم السماعات على عادة أمثاله، وله أصحاب يظهرون إشارة
باطلة، وأحوالا مفتعلة، وهذا مما كان ينقم عليه بسببه، فإنه إن لم يكن
يعلم بحالهم فجاهل، وإن كن يقرهم على ذلك فهو مثلهم، والله سبحانه
وتعالى أعلم.
وفي أواخر هذا الشهر - أعني ذي الحجة من العيد وما بعده - اهتم ملك
الامراء في بناء الجامع الذي بناه تحت القلعة وكان تل المستقين، وهدم
ما كان هناك من أبنية، وعملت العجل وأخذت أحجار كثيرة من أرجاء البلد،
وأكثر ما أخذت الاحجار من الرحبة التي للمصريين، من تحت المأذنة التي
في رأس عقبة الكتاب، وتيسر منها أحجار كثيرة، والاحجار أيضا من جبل
قاسيون وحمل على الجمال وغيرها، وكان سلخ هذه السنة - أعني سنة سبع
وأربعين وسبعمائة - قد بلغت غرارة القمح إلى مائتين (1) فما دونها،
وربما بيعت بأكثر من ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. |