البداية والنهاية، ط. دار الفكر
سبب تأليف الكتاب
والطريقة التي اتبعها المؤلف فيه
(أما بعد) فهذا كتاب أَذْكُرُ فِيهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ
تَوْفِيقِهِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ
مِنْ ذِكْرِ مبدإ المخلوقات: من خلق العرش والكرسي والسموات،
وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
وَالْجَانِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَكَيْفِيَّةِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَقَصَصِ النَّبِيِّينَ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ إِلَى
أَيَّامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى
تَنْتَهِيَ النُّبُوَّةُ إِلَى أَيَّامِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه.
فنذكر سيرته كما ينبغي فتشفى الصدور والغليل، وتزيح الدَّاءَ عَنِ
الْعَلِيلِ ثُمَّ نَذْكُرُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى زَمَانِنَا،
وَنَذْكُرُ الْفِتَنَ وَالْمَلَاحِمَ وَأَشْرَاطَ السَّاعَةِ. ثُمَّ
الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَأَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ صِفَةَ ذَلِكَ
وَمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ
الْهَائِلَةِ. ثُمَّ صِفَةَ النَّارِ، ثُمَّ صِفَةَ الْجِنَانِ وَمَا
فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ
وَالسَّنَةِ وَالْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ الْمَنْقُولَةِ الْمَقْبُولَةِ
عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، الْآخِذِينَ مِنْ
مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ الْمُصْطَفَوَيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى
مَنْ جَاءَ بِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
وَلَسْنَا نَذْكُرُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ إِلَّا مَا أَذِنَ
الشَّارِعُ فِي نَقْلِهِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ،
وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ
الْقِسْمُ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، مِمَّا فِيهِ بَسْطٌ
لِمُخْتَصَرٍ عِنْدَنَا، أَوْ تَسْمِيَةٌ لِمُبْهَمٍ وَرَدَ بِهِ
شَرْعُنَا مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ لَنَا فَنَذْكُرُهُ
عَلَى سَبِيلِ التَّحَلِّي بِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاجِ
إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا الِاعْتِمَادُ وَالِاسْتِنَادُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا
صَحَّ نَقْلُهُ أَوْ حَسُنَ وَمَا كَانَ فيه ضعف نبينه. وباللَّه
الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا باللَّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ من لَدُنَّا ذِكْراً 20: 99
وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا مَضَى مِنْ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَذِكْرِ
الْأُمَمِ الْمَاضِينَ، وَكَيْفَ فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ، وَمَاذَا
أَحَلَّ بِأَعْدَائِهِ. وَبَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ بَيَانًا شَافِيًا، سَنُورِدُ
عِنْدَ كُلِّ فَصْلٍ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا عَنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. مِنْ ذَلِكَ تِلْوَ الْآيَاتِ الْوَارِدَاتِ [1]
فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَنَا بِمَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ،
وَتَرَكَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِمَّا قَدْ يَتَزَاحَمُ عَلَى
عِلْمِهِ وَيَتَرَاجَمُ فِي فَهْمِهِ طَوَائِفُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِكَثِيرٍ مِنَ الناس اليه [2]
وقد يستوعب نقله طائفة من علمائنا وَلَسْنَا نَحْذُو حَذْوَهُمْ وَلَا
نَنْحُو نَحْوَهُمْ وَلَا نَذْكُرُ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلَ عَلَى
سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ. ونبين ما فيه حق مما وافق ما عندنا، وما خالفه
فوقع فِيهِ الْإِنْكَارُ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ رحمه الله في صحيحه عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا
عَلَيَّ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَسْكُوتِ
عنها
__________
[1] أي بذكر الأحاديث عقب الآيات
[2] قوله مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ اليه.
كذا بالأصول وهو مكرر
(1/6)
عِنْدَنَا. فَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا
يُصَدِّقُهَا وَلَا مَا يُكَذِّبُهَا، فَيَجُوزُ رِوَايَتُهَا
لِلِاعْتِبَارِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَسْتَعْمِلُهُ فِي كِتَابِنَا
هَذَا فَأَمَّا مَا شَهِدَ لَهُ شَرْعُنَا بِالصِّدْقِ فَلَا حَاجَةَ
بِنَا إِلَيْهِ اسْتِغْنَاءً بِمَا عِنْدَنَا. وَمَا شَهِدَ لَهُ
شَرْعُنَا مِنْهَا بِالْبُطْلَانِ فَذَاكَ مَرْدُودٌ لَا يَجُوزُ
حِكَايَتُهُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالْإِبْطَالِ
فَإِذَا كَانَ الله، سبحانه وله الحمد، قد أغنانا برسولنا مُحَمَّدٍ،
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَائِرِ الشَّرَائِعِ،
وَبِكِتَابِهِ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ، فَلَسْنَا نَتَرَامَى على ما
بأيديهم مما وَقَعَ فِيهِ خَبْطٌ وَخَلْطٌ، وَكَذِبٌ وَوَضْعٌ،
وَتَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ نَسْخٌ وَتَغْيِيرٌ
فَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَدْ بَيَّنَهُ لَنَا رَسُولُنَا، وَشَرَحَهُ
وَأَوْضَحَهُ. عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ.
كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ خَبَرُ
مَا قَبْلَكُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحَكْمُ مَا بَيْنَكُمْ
وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ. مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ
قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ
اللَّهُ» وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَقَدْ
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا
طَائِرٌ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أَذْكَرَنَا مِنْهُ عِلْمًا»
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَرَوَى عن عيسى
بن موسى غنجار عن رقية عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ
شِهَابٍ قَالَ «سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ قَامَ فِينَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا
فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ
مَنَازِلَهُمْ. وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ» حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ
حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ
الدِّمَشْقِيُّ فِي أَطْرَافِهِ هَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ،
وَإِنَّمَا رَوَاهُ عِيسَى غُنْجَارُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عن رقية،
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ [1] حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ
ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيُّ:
حَدَّثَنَا أَبُو زيد الأنصاري، قال قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ
صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، ثُمَّ
نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ. ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا
حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ
صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فَحَدَّثَنَا
بِمَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ فَأَعْلَمُنَا أَحَفَظُنَا» انْفَرَدَ
بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ فَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ
صَحِيحِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ وَحَجَّاجِ
بْنِ الشَّاعِرِ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ بْنِ
مَخْلَدٍ النَّبِيلِ عَنْ عَزْرَةَ عَنْ عِلْبَاءَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ
عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ بْنِ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ
__________
[1] قوله أبو عاصم كذا في نسخة وفي أخرى أبو عامر. وكلاهما راويان له
فلذلك لم نرجح إحداهما على الأخرى محمود الامام
(1/7)
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ «اللَّهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» 39: 62 فَكُلُّ مَا
سِوَاهُ تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ،
مُكَوَّنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدَثٌ بَعْدَ عَدَمِهِ.
فَالْعَرْشُ الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَا تَحْتَ
الثَّرَى، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ جَامِدٍ وَنَاطِقٍ الْجَمِيعُ
خَلْقُهُ، وَمِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ،
وَتَحْتَ تَصْرِيفِهِ وَمَشِيئَتِهِ «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ 32: 4. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ. يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ، وَما يَخْرُجُ مِنْها
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها، وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وَالله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» 57: 4 وقد أجمع
العلماء قَاطِبَةً لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ مُسْلِمٌ أَنَّ الله خلق
السموات وَالْأَرْضَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا دل
عليه القرآن الكريم. فاختلفوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَهِيَ
كَأَيَّامِنَا هَذِهِ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي
التَّفْسِيرِ، وَسَنَتَعَرَّضُ لِإِيرَادِهِ فِي مَوْضِعِهِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ قَبْلَ خلق السموات وَالْأَرْضِ شَيْءٌ
مَخْلُوقٌ قَبْلَهُمَا. فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ
إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمَا شَيْءٌ وَأَنَّهُمَا خُلِقَتَا
مِنَ الْعَدَمِ الْمَحْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ بل كان قبل السموات والأرض
مخلوقات أخر لقوله «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» 11: 7 الآية. وفي
حديث عمران ابن حُصَيْنٍ كَمَا سَيَأْتِي «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ
قَبْلَهُ شَيْءٌ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ في الذكر كل
شيء ثم خلق السموات والأرض» وقال الامام أحمد بن حنبل حدثنا بهز حدثنا
حماد بن سلمة حدثنا أبو يعلى ابن عَطَاءٍ عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ
عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيِّ
أَنَّهُ قَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قبل أن يخلق
السموات وَالْأَرْضَ؟ قَالَ كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ
وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ»
وَرَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
بِهِ. وَلَفْظُهُ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ
خَلْقَهُ؟ وَبَاقِيهِ سَوَاءٌ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ يَزِيدَ
بْنِ هَارُونَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ
فِي أَيِّهَا خَلَقَ أَوَّلًا؟ فَقَالَ قَائِلُونَ خَلَقَ الْقَلَمَ
قَبْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ
جَرِيرٍ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرِهِمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ،
وَبَعْدَ الْقَلَمِ السَّحَابَ الرَّقِيقَ. وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ
الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ. ثُمَّ قَالَ
لَهُ اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ» لَفْظُ أَحْمَدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ
صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِيمَا نَقَلَهُ
الْحَافِظُ أبو العلاء الهمدانيّ وَغَيْرُهُ (أَنَّ الْعَرْشَ
مَخْلُوقٌ قَبْلَ ذَلِكَ) وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ
مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا دَلَّ عَلَى
ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ
(1/8)
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ
أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أبى عبد الرحمن الجيلي
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «كَتَبَ
اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.» قَالُوا
فَهَذَا التَّقْدِيرُ هُوَ كِتَابَتُهُ بِالْقَلَمِ الْمَقَادِيرَ.
وَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ ذَلِكَ بعد خلق العرش فثبت تقديم
الْعَرْشِ عَلَى الْقَلَمِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ الْمَقَادِيرَ كَمَا
ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْجَمَاهِيرُ. وَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْقَلَمِ
عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصِيْنٍ: قَالَ قَالَ أَهْلُ الْيَمَنِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ
وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ كَانَ اللَّهُ
وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَعَهُ، وَفِي
رِوَايَةٍ غَيْرُهُ «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. وَكَتَبَ فِي
الذِّكْرِ كل شيء وخلق السموات والأرض» وفي لفظ: ثم خلق السموات
والأرض. فسألوه عن ابتداء خلق السموات وَالْأَرْضِ. وَلِهَذَا قَالُوا
جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ فَأَجَابَهُمْ
عَمَّا سَأَلُوا فَقَطْ. وَلِهَذَا لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِخَلْقِ
الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ
الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ «بَلْ خَلَقَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْعَرْشِ» رَوَاهُ السُّدِّيُّ
عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ
مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ ناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالُوا «إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا
خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ» وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
النُّورُ وَالظُّلْمَةُ ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ
الظُّلْمَةَ لَيْلًا أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَجَعَلَ النُّورَ نَهَارًا
مُضِيئًا مُبْصِرًا» قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَدْ قِيلَ «إِنَّ الَّذِي
خَلَقَ رَبُّنَا بَعْدَ الْقَلَمِ الْكُرْسِيُّ. ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ
الْكُرْسِيِّ الْعَرْشَ. ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْهَوَاءَ
وَالظُّلْمَةَ. ثُمَّ خَلَقَ الْمَاءَ فَوَضَعَ عَرْشَهُ عَلَى
الْمَاءِ» وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. |