البداية والنهاية، ط. دار الفكر
فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ خَلْقِ
الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ.
قَالَ اللَّهُ تعالى «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ» 40: 15
وَقَالَ تَعَالَى «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ
إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» 23: 116 وَقَالَ اللَّهُ «لَا
إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» 27: 26 وَقَالَ «وَهُوَ
الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» 85: 14- 15 وقال
تعالى «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» 20: 5 وقال «ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ» 7: 54 فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ
تَعَالَى «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً» 40: 7
(1/9)
وَقَالَ تَعَالَى «وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» 69: 17 وَقَالَ تَعَالَى
«وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» 39: 75 وَفِي الدُّعَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي
الصَّحِيحِ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ. لا إله إلا الله رب العرش الكريم. لا إله إلا
الله رب السموات وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبِ بْنِ خَالِدٍ
حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عميرة عن
الأحنف ابن قيس عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ كُنَّا
جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْبَطْحَاءِ فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَتُدْرُونَ مَا هَذَا قَالَ قُلْنَا
السَّحَابُ قَالَ وَالْمُزْنُ قَالَ قُلْنَا وَالْمُزْنُ قَالَ
وَالْعَنَانُ قَالَ فَسَكَتْنَا فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَمِنْ كُلِّ
سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خمسمائة سنة، وكشف كُلِّ سَمَاءٍ [1]
مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ
بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ. ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ
رُكَبِهِنَّ وَأَظْلَافِهِنَّ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ثم
على ظهورهم الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَلَيْسَ يَخْفَى
عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ» . هَذَا لَفْظُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ
وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى شَرِيكٌ بَعْضَ
هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سِمَاكٍ وَوَقَفَهُ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ
«وَهَلْ تَدْرُونَ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قَالُوا
لَا نَدْرِي» قَالَ «بُعْدُ مَا بينهما إما واحدة أو اثنتين أَوِ
ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً» وَالْبَاقِي نَحْوُهُ. وَقَالَ أَبُو
دَاوُدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ
الرِّبَاطِيُّ قَالُوا حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنْ جَرِيرٍ. قَالَ أَحْمَدُ
كَتَبْنَاهُ مِنْ نُسْخَتِهِ وَهَذَا لَفْظُهُ. قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي
قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ يَعْقُوبَ
بْنِ عُقْبَةَ عن جبير بن محمد بن جبير ابن مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ قَالَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتِ
الْأَنْفُسُ وَجَاعَتِ الْعِيَالُ [2] وَنَهَكَتِ الْأَمْوَالُ
وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ.
فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ
وَنَسْتَشْفِعُ باللَّه عليك» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا تَقُولُ» وَسَبَّحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ
يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ. ثُمَّ قَالَ
«وَيْحَكَ إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ باللَّه عَلَى أَحَدٍ مِنْ
خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا
اللَّهُ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا» وَقَالَ
بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ
أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ. قال ابن بشار في
__________
[1] (قوله وكشف كل سماء) بالشين المعجمة. والّذي في مسند الامام أحمد
المطبوع بمصر كيف بالياء التحية. وفي العيني على البخاري منسوبا الى
كتاب العرش لابن أبى شيبة. وكثف كل سماء بالثاء المثلثة. وهذا هو
الصواب.
[2] قوله وجاعت العيال هكذا في النسخ التي بأيدينا وفي نسخة أبى داود
التي بأيدينا وضاعت العيال (محمود الامام) .
(1/10)
حَدِيثِهِ «إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ
وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ عَبْدُ
الْأَعْلَى وَابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ
عُقْبَةَ وَجُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عن
جده، قال أبو داود والحديث باسناد أحمد بن سعيد وهو الصَّحِيحُ.
وَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعَلِيُّ
بْنُ الْمَدِينِيِّ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ
كَمَا قَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَكَانَ سَمَاعُ عَبْدِ الْأَعْلَى
وَابْنِ الْمُثَنَّى وَابْنِ بشار في نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا
بَلَغَنِي. تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهَا أَبُو داود، وقد صنف الحافظ أبو
القاسم بن عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَى هَذَا
الحديث. سماه (ببيان الْوَهْمِ وَالتَّخْلِيطِ الْوَاقِعِ فِي حَدِيثِ
الْأَطِيطِ) وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الطَّعْنِ عَلَى مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ بن بشار رَاوِيهِ. وَذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِيهِ،
وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ
غَيْرِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ
وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابَيِ السُّنَّةِ لَهُمَا، وَالْبَزَّارُ في
مسندة والحافظ الضياء المقدسي في مختارته مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ ادْعُ
اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ قَالَ فَعَظَّمَ الرَّبَّ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ «إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السموات
وَالْأَرْضَ وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ
مِنْ ثِقَلِهِ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَلِيفَةَ هَذَا لَيْسَ بِذَاكَ
الْمَشْهُورِ. وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ نَظَرٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ
مَنْ يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا وَمُرْسَلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ فِيهِ
زِيَادَةً غَرِيبَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ «إذا سألتم الله الجنة فسلوه الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ
أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ
الرَّحْمَنِ» . يُرْوَى وَفَوْقَهُ بِالْفَتْحِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ،
وَبِالضَّمِّ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ وَهُوَ
أَحْسَنُ، أَيْ وَأَعْلَاهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي
بَعْضِ الْآثَارِ (أَنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ
الْعَرْشِ وَهُوَ تَسْبِيحُهُ وَتَعْظِيمُهُ) وَمَا ذَاكَ إِلَّا
لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَقَدِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ
لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَذَكَرَ الحافظ بن الحافظ محمد ابن
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْعَرْشِ عَنْ
بَعْضِ السَّلَفِ «أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ
حَمْرَاءَ بُعْدُ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ» وَذَكَرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ» 70: 4 أَنَّهُ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ
السابعة مسيرة خمسين ألف سنة واتساعه خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَدْ
ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْعَرْشَ فَلَكٌ
مُسْتَدِيرٌ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ مِنْ كُلِّ
جهة ولذا سَمَّوْهُ الْفَلَكَ التَّاسِعَ وَالْفَلَكَ الْأَطْلَسَ
وَالْأَثِيرَ. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي
الشَّرْعِ أَنَّ لَهُ قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ،
وَالْفَلَكُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوَائِمُ وَلَا يُحْمَلُ، وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ فوق الجنة والجنة فوق السموات وَفِيهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا
بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
فَالْبُعْدُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ لَيْسَ هُوَ
نِسْبَةُ فَلَكٍ إِلَى فَلَكٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرْشَ فِي
اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن السرير
(1/11)
الَّذِي لِلْمَلِكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى
وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ 27: 23. وَلَيْسَ هُوَ فَلَكًا وَلَا تَفْهَمُ
مِنْهُ الْعَرَبُ ذَلِكَ. وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلُغَةِ
الْعَرَبِ فَهُوَ سَرِيرٌ ذُو قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ،
وَهُوَ كَالْقُبَّةِ عَلَى الْعَالَمِ وَهُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمن حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا 40: 7 وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ
أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ، وَفَوْقَ ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، وَقَالَ
تَعَالَى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ
69: 17 وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ «حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ
أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَكَ اللَّهمّ وَبِحَمْدِكَ
لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ» وَأَرْبَعَةٌ
يَقُولُونَ «سُبْحَانَكَ اللَّهمّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى
عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ» فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ
أَبُو بَكْرِ ابن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ
سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عن يعقوب بن عقبة عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَ أُمَيَّةَ يعنى ابن أبى الصلت في بيتين
مِنْ شِعْرِهِ فَقَالَ
رُجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنِّسْرُ لِلْأُخْرَى
وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ.
فَقَالَ
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء مطلع لونها متورد
تأبى فلا تبدو لَنَا فِي رِسْلِهَا ... إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا
تُجْلَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صدق»
فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَهُوَ
يَقْتَضِي أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ،
فَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ الْأَوْعَالِ. اللَّهمّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ
إِنَّ إِثْبَاتَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا
يَنْفِي مَا عَدَاهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ
بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي الْعَرْشِ قَوْلُهُ
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي
السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرَا
بِالْبِنَاءِ الْعَالِي الَّذِي بَهَرَ النَّاسَ ... وَسَوَّى فَوْقَ
السَّمَاءِ سَرِيرَا
شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ ... تَرَى حَوْلَهُ
الْمَلَائِكُ صُورَا
صُورٌ جَمْعُ أَصْوَرَ وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ لِنَظَرِهِ إِلَى
الْعُلُوِّ [1] وَالشَّرْجَعُ هُوَ الْعَالِي الْمُنِيفُ. وَالسَّرِيرُ
هُوَ الْعَرْشُ فِي اللُّغَةِ. وَمِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي عَرَّضَ بِهِ عَنِ
الْقِرَاءَةِ لِامْرَأَتِهِ حِينَ اتَّهَمَتْهُ بِجَارِيَتِهِ
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى
الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ
الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامٌ ... مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ
مُسَوِّمِينَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
وَقَالَ أَبُو داود حدثنا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنِي أبى حدثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد
الله
__________
[1] قوله لنظره الى العلو كذا بالأصول. والّذي في كتب اللغة لثقل حمله
(محمود الامام) .
(1/12)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ «أذن لي أن أحدث عن ملك من مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة
سبعمائة عام. ورواه ابن أبى عاصم [1] ولفظه محقق الطير [2] مسيرة
سَبْعُمِائَةِ عَامٍ
وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ
فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْكُرْسِيُّ هُوَ
الْعَرْشُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ الْحَسَنِ بَلِ الصَّحِيحُ عنه وعن
غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ 2: 255 أَيْ عِلْمُهُ
وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
مُسْتَدْرَكِهِ. وَقَالَ إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ
يُخَرِّجَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَمَّارٍ
الدُّهْنِيِّ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ
الْقَدَمَيْنِ وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ رَوَاهُ شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ الْفَلَّاسُ فِي
تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنِ الثَّوْرِيِّ
فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ وَقَالَ السُّدِّيُّ
عَنْ أَبِي مَالِكٍ «الْكُرْسِيُّ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ السموات وَالْأَرْضُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ
وَالْكُرْسِيُّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ» وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قال «لو أن السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ
بُسِطْنَ ثُمَّ وُصِلْنَ بَعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي
سَعَةِ الْكُرْسِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقَةِ فِي
الْمَفَازَةِ» وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي يُونُسُ حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «ما السموات السَّبْعُ
فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ»
قَالَ وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا
كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ
الْأَرْضِ» أَوَّلُ الْحَدِيثِ مُرْسَلٌ. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ
مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَوْصُولًا
فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ أَنْبَأَنَا
عبد الله ابن وهيب المغربي أنبأنا محمد بن أبى سرى العسقلاني أنبأنا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُرْسِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما
السموات السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ
إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ وَإِنَّ فَضْلَ
الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ
الْحَلْقَةِ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ
وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال
__________
[1] وفي نسخة ابن أبى حاتم.
[2] (قوله محقق الطير) كذا بالأصول ولا ندري له معنى. ولعل الرواية
مخفق الطير أو محلق الطير (محمود الامام)
(1/13)
سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ 11: 7 عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ قَالَ عَلَى
متن الريح قال والسموات وَالْأَرَضُونَ وَكُلُّ مَا فِيهِنَّ مِنْ
شَيْءٍ تُحِيطُ بِهَا الْبِحَارُ وَيُحِيطُ بِذَلِكَ كُلِّهِ
الْهَيْكَلُ وَيُحِيطُ بِالْهَيْكَلِ فِيمَا قِيلَ الْكُرْسِيُّ.
وَرَوَى [1] عَنْ وَهْبِ ابن مُنَبِّهٍ نَحْوَهُ. وَفَسَّرَ وَهْبٌ
الْهَيْكَلَ فَقَالَ شَيْءٌ من أطراف السموات يحدق بِالْأَرَضِينَ
وَالْبِحَارِ كَأَطْنَابِ الْفُسْطَاطِ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ
يَنْتَسِبُ إِلَى عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْكُرْسِيَّ عِبَارَةٌ
عَنِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ فَلَكَ الْكَوَاكِبِ
الثَّوَابِتِ. وَفِيمَا زَعَمُوهُ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ ثبت أنه أعظم
من السموات السبع بشيء كثير ورد الحديث المتقدم [2] بان نِسْبَتَهَا
إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ حَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ وَهَذَا
لَيْسَ نِسْبَةَ فَلَكٍ إِلَى فَلَكٍ. فَإِنْ قال قائلهم فنحن
نَعْتَرِفُ بِذَلِكَ وَنُسَمِّيهِ مَعَ ذَلِكَ فَلَكًا فَنَقُولُ
الْكُرْسِيُّ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الْفَلَكِ
وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السلف بَيْنَ يَدَيِ
الْعَرْشِ كَالْمِرَقَاةِ إِلَيْهِ. وَمِثْلُ هَذَا لا يكون فلكا. وزعم
أن الكواكب الثوابت مرضعة فيه لا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ.
هَذَا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ
فِي كُتُبِهِمْ والله أعلم |