البداية والنهاية، ط. دار الفكر

وقائع السنة الاولى من الهجرة
ذِكْرُ مَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الهجرة النبويّة من الحوادث والوقائع العظيمة اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ- وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ- فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ عَلَى جَعْلِ ابْتِدَاءِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَ إِلَيْهِ صَكٌّ- أَيْ حُجَّةٌ- لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ وَفِيهِ، أَنَّهُ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ شَعْبَانَ؟ أَشَعْبَانُ هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا أَوِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، أَوِ الْآتِيَةِ؟ ثُمَّ جَمَعَ الصَّحَابَةَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي وَضْعِ تَأَرِيخٍ يَتَعَرَّفُونَ بِهِ حُلُولَ الدُّيُونِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَرِّخُوا كَتَارِيخِ الْفُرْسِ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ يُؤَرِّخُونَ بِمُلُوكِهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَائِلٌ: أَرِّخُوا بِتَارِيخِ الرُّومِ، وَكَانُوا يُؤَرِّخُونَ بملك إسكندر بن فلبس الْمَقْدُونِيِّ فَكَرِهَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ أَرِّخُوا بِمَوْلِدِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ بِمَبْعَثِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ بِهِجْرَتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ بِوَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَمَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى التَّأْرِيخِ بِالْهِجْرَةِ لِظُهُورِهِ وَاشْتِهَارِهِ، وَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: التَّارِيخُ وَمَتَى أَرَّخُوا التَّارِيخَ. حدثنا عبد الله بن مسلم ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ، مَا عَدُّوا إِلَّا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: اسْتَشَارَ عُمَرُ فِي التَّأْرِيخِ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْهِجْرَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيِّ [1] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ أَرِّخُوا. فَقَالَ مَا أَرِّخُوا؟ فَقَالَ شَيْءٌ تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ يَكْتُبُونَ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كذا. فقال
__________
[1] في المصرية: عن فروة بن خالد السدوسي، وفي الحلبية: فروة بن خالد عن السدي، وصححناه من أنساب السمعاني، والخلاصة.

(3/206)


عُمَرُ: حَسَنٌ فَأَرِّخُوا، فَقَالُوا مِنْ أَيِّ السِّنِينَ نَبْدَأُ؟ فَقَالُوا مِنْ مَبْعَثِهِ، وَقَالُوا مِنْ وَفَاتِهِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَالُوا وَأَيَّ الشهور نبدأ؟ قالوا رمضان، ثم قالوا المحرم فهو مصرف النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ فَاجْتَمَعُوا على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة ثنا نوح بن قيس الطائي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِحْصَنٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ 89: 1- 2 هُوَ الْمُحَرَّمُ فَجْرُ السَّنَةِ. وَرَوَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. قَالَ: إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرُ اللَّهِ وهو رأس السنة يكسى الْبَيْتُ، وَيُؤَرِّخُ بِهِ النَّاسُ، وَيُضْرَبُ فِيهِ الْوَرِقُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قال: إن أول من ورخ الْكُتُبَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَإِنَّ النَّاسَ أَرَّخُوا لِأَوَّلِ السَّنَةِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: أَرَّخَ بَنُو إِسْمَاعِيلَ مِنْ نَارِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنْ بُنْيَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنْ مَوْتِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنَ الْفِيلِ، ثُمَّ أَرَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ- أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ- وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُحَرَّرًا بِأَسَانِيدِهِ وَطُرُقِهِ فِي السِّيرَةِ الْعُمَرِيَّةِ وللَّه الْحَمْدُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَجَعَلُوا أَوَّلَهَا مِنَ الْمُحَرَّمِ فِيمَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ.
وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ السَّنَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي هَاجَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[وَقَدِ اسْتَدَلَّ السُّهَيْلِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ 9: 108 أَيْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ حُلُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ التَّارِيخِ كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَوَّلِ سِنِيِّ التَّارِيخِ عَامَ الْهِجْرَةِ] [1] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مُنَاسِبٌ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ شُهُورِ الْعَرَبِ الْمُحَرَّمُ فَجَعَلُوا السَّنَةَ الْأُولَى سَنَةَ. الْهِجْرَةِ، وَجَعَلُوا أَوَّلَهَا الْمُحَرَّمَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ النِّظَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَنَقُولُ وباللَّه الْمُسْتَعَانُ: اسْتَهَلَّتْ سَنَةُ الْهِجْرَةِ الْمُبَارَكَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، وَقَدْ بَايَعَ الْأَنْصَارَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهِيَ لَيْلَةُ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ سَنَةِ الهجرة، ثم رجع الأنصار وأذن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مَنْ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحبس أبو بكر
__________
[1] ما بين المربعين سقط من النسخة الحلبية.

(3/207)


نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ فِي الطَّرِيقِ كَمَا قَدَّمْنَا ثُمَّ خَرَجَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَسْطُهُ وَتَأَخَّرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ لِيُؤَدِّيَ مَا كَانَ عنده عليه السلام مِنَ الْوَدَائِعِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ بِقُبَاءَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَرِيبًا مِنَ الزَّوَالِ وَقَدِ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ [1] .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَحَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ وَرَجَّحَ أَنَّهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ السلام بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عن أبى حمزة الضبيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ أَبِيَّاتَ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسِ بْنِ قَيْسٍ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عباس أَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ صِرْمَةَ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مُوَاتِيَا
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ حِجَّةً، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حُدِّثْتُ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ سِنِينَ بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ:
عَشْرًا بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بالمدينة، وهكذا الْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، فَمَكَثَ بمكة عشرا وقد قدمناه عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُرِنَ إِسْرَافِيلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سِنِينَ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ وَفِي رِوَايَةٍ يَسْمَعُ حِسَّهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ. وَقَدْ حَكَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ قَوْلَ الشَّعْبِيِّ هَذَا، وَحَاوَلَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قال إنه عليه السلام أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
[1] الضحاء قريبا من نصف النهار، والضحوة ارتفاع أول النهار، والضحى ما بين ذلك.

(3/208)


فصل
ولما حل الركاب النبوي بالمدينة، وكان أَوَّلُ نُزُولِهِ بِهَا فِي دَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهِيَ قُبَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَقَامَ بِهَا- أَكْثَرَ مَا قِيلَ- ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَقِيلَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقِيلَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَالْأَشْهَرُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ عليه السلام أَقَامَ فِيهِمْ بِقُبَاءَ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ أَسَّسَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِي مِقْدَارِهَا- عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ- مَسْجِدَ قُبَاءَ، وَقَدِ ادَّعَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَّسَهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ إِلَى قُبَاءَ وَحَمَلَ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ 9: 108 وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ أَعْرَبَهَا مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَهُوَ مَسْجِدٌ شَرِيفٌ فَاضِلٌ نَزَلَ فِيهِ قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 9: 108 كَمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَالْجَوَابَ عَنْهُ. وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رواه الامام احمد حدثنا حسن بن محمد ثنا أبو إدريس ثَنَا شُرَحْبِيلُ عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَّهَّرُونَ بِهِ؟» قَالُوا: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرُ. وَرُوِيَ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ومُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إِبُرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) 9: 108. قَالَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قُلْتُ: وَيُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ هَذَا ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهُ فِيمَا بَعْدُ وَيُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ يَأْتِي قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ تَارَةً رَاكِبًا وَتَارَةً مَاشِيًا وَفِي الْحَدِيثِ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ» وَقَدْ ورد في حديث أن جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعِ قِبْلَةِ مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، بَلْ أَوَّلَ مَسْجِدٍ جُعِلَ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ. وَاحْتَرَزْنَا بِهَذَا

(3/209)


عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ الصِّدِّيقُ بِمَكَّةَ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيُصَلِّي لِأَنَّ ذَاكَ كَانَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ سَلْمَانَ فِي الْبِشَارَاتِ، أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ لَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِلَى الْمَدِينَةِ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ مَعَهُ شَيْئًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ بِقُبَاءَ قَالَ هَذَا صَدَقَةٌ فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مَرَّةً أُخْرَى وَمَعَهُ شَيْءٌ فَوَضَعَهُ وَقَالَ هَذِهِ هَدِيَّةٌ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا. تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ]
[1] .