البداية والنهاية، ط. دار الفكر

فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا عَوْفٌ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ. فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٍ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَوْفٍ الأعرابي عن زرارة ابن أَبِي أَوْفَى بِهِ عَنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ صَحِيحٌ. وَمُقْتَضَى هَذَا السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَمِعَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ حِينَ أَنَاخَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ حِينَ أناخ عند دار أبى أيوب عند ارْتِحَالِهِ مَنْ قُبَاءَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَعَلَّهُ رَآهُ أَوَّلَ مَا رَآهُ بقباء، واجتمع به بعد ما صَارَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ فَادْعُهُمْ فَسَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا مَا لَيْسَ فِيَّ. فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَيْلَكُمْ اتَّقُوا الله فو الله الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فأسلموا» قالوا ما نعلمه. قالوا [ذلك] لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ «فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ [2] بْنُ سَلَامٍ؟ قَالُوا ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قَالُوا حَاشَ للَّه مَا كَانَ لِيُسْلِمَ. قَالَ «يَا ابْنَ سَلَامٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ» فَخَرَجَ فَقَالَ: يا معشر يهود اتقوا الله فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ.
فَقَالُوا: كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا لَفْظُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمَّا خَرَجَ عليهم شهد شهادة
__________
[1] ما بين المربعين لم يرد في النسخة الحلبية.
[2] كذا في الأصلين وفي ابن هشام: الحصين ابن سلام. وفي الاصابة كان اسمه الحصين وغيره النبي صلّى الله عليه وسلّم.

(3/210)


الحق قالوا: شعرنا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق الصنعاني ثنا عبد الله بن أبى بَكْرٍ ثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. - وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ- فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أهل الجنة؟ وما بال الْوَلَدَ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: «أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا» قَالَ جِبْرِيلُ؟
قَالَ «نَعَمْ!» قَالَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ قَرَأَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله 2: 97 قَالَ «أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَخْرُجُ على الناس من المشرق تسوقهم إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجنة فزيادة كبد حوت، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الولد» فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي.
فَجَاءَتِ الْيَهُودُ. فَقَالَ: «أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟» قَالُوا خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا.
قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟» قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَانْتَقَصُوهُ. قَالَ هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ الله [1] . ورواه البخاري عن عبد بن منير [2] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ حَامِدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ قال محمد ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رجل من آل عبد الله ابن سَلَامٍ. قَالَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ أَسْلَمَ- وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا-. قال: لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته و [زمانه] الّذي كنا نتوكف له، [3] فكنت بقباء مسرا بذلك صَامِتًا عَلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَدِينَةَ فَلَمَّا قَدِمَ نَزَلَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
فَأَقْبَلَ رَجُلٌ حَتَّى أَخْبَرَ بِقُدُومِهِ، وَأَنَا فِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِي أَعْمَلُ فِيهَا، وَعَمَّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَحْتِي جَالِسَةٌ، فَلَمَّا سَمِعْتُ الْخَبَرَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرْتُ، فَقَالَتْ عَمَّتِي حِينَ سَمِعَتْ تَكْبِيرِي:
لَوْ كُنْتَ سَمِعْتَ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَا زِدْتَ، قَالَ قلت لها أي عمه، والله هو أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعَلَى دِينِهِ بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ. قَالَ فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أَهْوَ الَّذِي كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُ يُبْعَثُ مَعَ نَفْسِ السَّاعَةِ؟
قَالَ قُلْتُ لَهَا نَعَمْ! قَالَتْ فَذَاكَ إِذًا. قَالَ فَخَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت ثم رجعت إلى أهل
__________
[1] الحديث خرجه البخاري قبيل باب إتيان اليهود النبي صلّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وفيه اختلاف في السياق عن هنا وقد رواه عن حامد بن عمر إلخ.
[2] كذا في الأصلين عبد بن منير ولعله تصحيف عبد بن حميد.
[3] توكف الخبر إذا انتظره، وفي الأصلين نتوقف وهو خطأ.

(3/211)


بَيْتِي فَأَمَرْتُهُمْ فَأَسْلَمُوا وَكَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنَ الْيَهُودِ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِكَ فَتُغَيِّبَنِي عَنْهُمْ، ثُمَّ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي فَيُخْبِرُوكَ كَيْفَ أَنَا فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ بَهَتُونِي وَعَابُونِي، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ فَأَظْهَرْتُ إِسْلَامِي وَإِسْلَامَ أَهْلِ بَيْتِي وَأَسْلَمَتْ عَمَّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حدثني عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ أَبِي وَعَمِّي أَحَبَّ إِلَيْهِمَا مِنِّي، لَمْ أَلْقَهُمَا فِي وَلَدٍ لَهُمَا قَطُّ أَهِشُّ إِلَيْهِمَا إِلَّا أَخَذَانِي دُونَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَاءَ- قَرْيَةَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- غَدَا إِلَيْهِ أَبِي وَعَمِّي أَبُو ياسر بن أخطب مغلسين، فو الله ما جاءنا إِلَّا مَعَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَجَاءَانَا فَاتِرَيْنِ كَسْلَانَيْنِ ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت اليهما كما كنت أصنع فو الله مَا نَظَرَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ يَقُولُ لِأَبِي: أَهْوَ هُوَ؟ قَالَ نعم والله! قال تعرفه بنعته وَصِفَتِهِ؟ قَالَ نَعَمْ وَاللَّهِ! قَالَ فَمَاذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ؟ قَالَ عَدَاوَتُهُ وَاللَّهِ مَا بَقِيتُ. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا يَاسِرِ بْنَ أَخْطَبَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَادَثَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قومه فقال: يا قوم أطيعون فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالَّذِي كُنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ، فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تُخَالِفُوهُ فَانْطَلَقَ أَخُوهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْيَهُودِ، وَهُمَا مِنْ بنى النضير- فجلس إلى رسول الله وَسَمِعَ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ- وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا- فَقَالَ: أَتَيْتُ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَا أَزَالُ لَهُ عَدُوًّا أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو يَاسِرٍ يَا ابْنَ أُمِّ أَطِعْنِي فِي هَذَا الْأَمْرِ وَاعْصِنِي فِيمَا شِئْتَ بعده لا تهلك، قال لا وَاللَّهِ لَا أُطِيعُكَ أَبَدًا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَاتَّبَعَهُ قَوْمُهُ عَلَى رَأْيِهِ.
قُلْتُ: أَمَّا أَبُو ياسر واسمه حيي بْنُ أَخْطَبَ [1] فَلَا أَدْرِي مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، وَأَمَّا حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَالِدُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَشَرِبَ عَدَاوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ لعنه الله حَتَّى قُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قَتَلَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فصل
ولما ارتحل عليه السلام مِنْ قُبَاءَ وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَدْرَكَهُ وَقْتُ الزَّوَالِ وَهُوَ فِي دَارِ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ هُنَالِكَ، فِي وَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي رَانُونَاءَ فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يَكُنْ يَتَمَكَّنُ هو
__________
[1] كذا في الأصلين في كتب السيرة أنهم كانوا ثلاثة حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب والثالث هو جدي بن أخطب ولم نعثر على اسم أبى ياسر في المراجع التي بأيدينا.

(3/212)


وَأَصْحَابَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَةً ذَاتَ خُطْبَةٍ وَإِعِلَانٍ بِمَوْعِظَةٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشَدَّةِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ.
ذِكْرُ خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي سالم بن عمرو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «الْحَمْدُ للَّه أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلَا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَالنُّورِ وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ مِنَ الْأَجَلِ. مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى وَفَرَّطَ وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيحَةً، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرَى. وَإِنَّهُ تَقْوَى لِمَنْ عَمِلَ بِهِ عَلَى وَجِلٍ وَمَخَافَةٍ، وعون صدق على مَا تَبْتَغُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ يُصْلِحِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لَا يَنْوِي بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ حِينَ يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بِالْعِبَادِ. وَالَّذِي صَدَقَ قَوْلُهُ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ، لَا خُلْفَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 50: 29 وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي عَاجِلِ أَمْرِكُمْ وَآجِلِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً 65: 5 وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُوقِّي مَقْتَهُ، وَتُوقِّي عُقُوبَتَهُ، وَتُوقِّي سَخَطَهُ وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُبَيِّضُ الْوَجْهَ، وَتُرْضِي الرَّبَّ، وَتَرْفَعُ الدَّرَجَةَ، خُذُوا بِحَظِّكُمْ وَلَا تُفَرِّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ قَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ لَكُمْ سَبِيلَهُ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلِيَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَلَى النَّاسِ وَلَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» هَكَذَا أَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي السَّنَدِ إِرْسَالٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَابٌ- أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ-.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثَنَا يُونُسُ بْنُ

(3/213)


بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عثمان بن محمد بن عثمان والأخنس بْنِ شَرِيقٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أن قام فيهم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ- لَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ- أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالًا وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَاَلِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [1] وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: «إِنَّ الْحَمْدَ للَّه أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ باللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ] ، إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ، إِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبُّوا مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ [وَلَا تَمَلُّوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم] فإنه من [2] يَخْتَارُ اللَّهُ وَيَصْطَفِي فَقَدْ سَمَّاهُ خِيَرَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَخِيَرَتَهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحَ مِنَ الْحَدِيثِ وَمِنْ كُلِّ مَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَاصْدُقُوا اللَّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ وَتَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَيْضًا مُرْسَلَةٌ إِلَّا أَنَّهَا مُقَوِّيَةً لِمَا قَبْلَهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الألفاظ.