البداية والنهاية، ط. دار الفكر
فصل في بناء مسجده الشريف في مدة مقامه
عليه السلام بِدَارِ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِهَا، فَقَالَ الْوَاقِدِيُّ:
سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يحدث فقال حدثنا أبو التياح
يزيد بن حميد الضبيّ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة
نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بنى النجار فجاءوا
__________
[1] وفي ابن هشام. والسلام عليكم وعلى رسول الله.
[2] كذا في المصرية، وفي الحلبية فإنه من كل مختار الله. وفي ابن هشام:
فإنه من كل ما يخلق الله يختار، وما بين المربعين من ابن هشام.
(3/214)
مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ، قَالَ
وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي
النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفَنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ
فَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي
مَرَابِضِ الغنم، قال ثم إنه أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ
إِلَى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا فَقَالَ «يَا بَنِي
النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا» فَقَالُوا لَا وَاللَّهِ
لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ
فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ
الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ
الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ
فَقُطِعَ. قَالَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا
عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ فَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ
الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ يَقُولُ [1] «اللَّهمّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ
إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ، فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ»
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ مِنْ
حديث أبى عبد الصمد وعبد الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ
الْمَسْجِدَ الّذي كَانَ مِرْبَدًا- وَهُوَ بَيْدَرُ التَّمْرِ-
لِيَتِيمَيْنِ كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَهُمَا
سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ، فَسَاوَمَهُمَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: بل تهبه لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَأَبَى حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا وَبَنَاهُ مَسْجِدًا. قَالَ
وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
وهو ينقل معهم التراب:
هذا الحمال لاحمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
لا هم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنِ زرارة عوضهما منه
نخلا له في بَيَاضَةَ، قَالَ وَقِيلَ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمِرْبَدَ كَانَ
لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في حجر معاذ بن عَفْرَاءَ وَهُمَا سَهْلٌ
وَسُهَيْلٌ ابْنَا عَمْرٍو فاللَّه أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
الدُّنْيَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الضبيّ ثنا عبد الرحيم
ابن سُلَيْمَانَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ.
قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَهُوَ مَعَهُمْ
يَتَنَاوَلُ اللَّبِنَ حَتَّى اغْبَرَّ صَدْرُهُ، فَقَالَ «ابْنُوهُ
عَرِيشًا كَعَرِيشِ مُوسَى» فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ:
مَا عَرِيشُ مُوسَى؟ قَالَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ بَلَغَ العريش- يعين
السَّقْفَ- وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ
عَنْ عُبَادَةَ أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا مَالًا فَأَتَوْا بِهِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ ابْنِ هَذَا الْمَسْجِدَ وَزَيِّنْهُ، إِلَى مَتَى نُصَلِّي
تَحْتَ هَذَا الْجَرِيدِ؟ فَقَالَ:
«مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ أَخِي مُوسَى، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى»
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ
__________
[1] وفي البخاري وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَهُمْ يقولون إلخ.
(3/215)
أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عبد الله بن موسى عن سنان عن فراس عن عطية العوفيّ
عن عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ سَوَارِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ جُذُوعِ النَّخْلِ، أَعْلَاهُ
مُظَلَّلٌ بِجَرِيدِ النَّخْلِ، ثُمَّ إنها تخربت فِي خِلَافَةِ أَبِي
بَكْرٍ، فَبَنَاهَا بِجُذُوعِ وَبِجَرِيدِ النخل، ثم انها تخربت فِي
خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَبَنَاهَا بِالْآجُرِّ، فَمَا زَالَتْ ثَابِتَةً
حَتَّى الْآنَ. وَهَذَا غَرِيبٌ. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا
حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أبى صَالِحٍ ثَنَا نَافِعٌ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ،
وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ
فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى
بِنَائِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا. وَغَيَّرَهُ
عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً،
وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ [1]
وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ
[2] وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ
عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ.
قُلْتُ: زَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ بَنَى
للَّه مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا
فِي الْجَنَّةِ» وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ الْمَوْجُودُونَ عَلَى
ذَلِكَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ بَعْدَهُ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على
الراجح من قول الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ حُكْمُ
الْمَزِيدِ فَتَدْخُلُ الزِّيَادَةُ فِي حُكْمِ سَائِرِ الْمَسْجِدِ
مِنْ تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَقَدْ
زِيدَ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ
دِمَشْقَ زَادَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ
كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَدْخَلَ الْحُجْرَةَ
النَّبَوِيَّةَ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي وَقْتِهِ، ثُمَّ
زِيدَ زِيَادَةً كَثِيرَةً فِيمَا بَعْدُ، وَزِيدَ مِنْ جِهَةِ
الْقِبْلَةِ حَتَّى صَارَتِ الرَّوْضَةُ وَالْمِنْبَرُ بَعْدَ
الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهِدُ الْيَوْمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ
حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ وَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي
الْعَمَلِ فِيهِ. فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
وَدَأَبُوا فِيهِ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ
الْمُضَلِّلُ
وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ:
لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ ... اللَّهمّ ارْحَمِ
الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا
عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، اللَّهمّ ارْحَمْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارَ» قَالَ فدخل
__________
[1] القصة هي الجص كما في النهاية.
[2] في المصرية: بالسلاح وفي الحلبية بالساح تصحيف والساج ألواح من
الشجر، أو هو اسم لنوع من الشجر.
(3/216)
عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَدْ أَثْقَلُوهُ
بِاللَّبِنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَتَلُونِي يَحْمِلُونَ
عَلَيَّ مَا لَا يَحْمِلُونَ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَرَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفُضُ
وَفْرَتَهُ بِيَدِهِ- وَكَانَ رَجُلًا جَعْدًا- وَهُوَ يَقُولُ:
«وَيْحَ ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما يقتلك الْفِئَةُ
الْبَاغِيَةُ» وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَلْ هُوَ
مُعْضَلٌ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَبَيْنَ أُمِّ سَلَمَةَ
وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ
خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ- يَعْنِي ابْنَيْ أَبِي
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ- عَنْ أُمِّهِمَا خَيْرَةَ مَوَلَاةِ أُمِّ
سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تقتل عمار الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»
وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ
الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارٍ وَهُوَ يَنْقُلُ
الْحِجَارَةَ: «وَيْحٌ لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ
الْبَاغِيَةُ» وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الْحَسَنِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ، جَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ كُلٌّ وَاحِدٍ لَبِنَةً
لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَةً عَنْهُ
وَلَبِنَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمَسَحَ ظَهْرَهُ. وَقَالَ «ابْنَ سُمَيَّةَ، لِلنَّاسِ أَجْرٌ وَلَكَ
أَجْرَانِ، وَآخِرُ زَادِكَ شَرْبَةٌ مِنْ لَبَنٍ وَتَقْتُلُكَ
الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ
الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ
عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ. قَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ.
فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ
يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ
الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ
إِلَى النَّارِ» قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ باللَّه مِنَ
الْفِتَنِ. لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ
عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ خَالِدٍ
الْحَذَّاءِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ
يَذْكُرْ قَوْلَهُ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا لِمَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ [قَالَ
أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِعَمَّارٍ حِينَ جَعَلَ يَحْفِرُ
الْخَنْدَقَ، جَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: «بُؤْسَ ابْنِ
سُمَيَّةَ تَقْتُلُهُ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شعبة عن أبى مسلم عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ] [1] قَالَ حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي- أَبُو
قَتَادَةَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ «بُؤْسًا لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ
تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سفر الْخَنْدَقَ كَانَ النَّاسُ
يَحْمِلُونَ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ- نَاقِهٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ
بِهِ- فَجَعَلَ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ قَالَ أَبُو
سَعِيدٍ فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ
وَيَقُولُ: «وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ
الْبَاغِيَةُ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا
سَمِعَهُ بِنَفْسِهِ وَمَا سَمِعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ
وَيُشْبِهُ أَنْ
__________
[1] ما بين المربعين عن الحلبية فقط.
(3/217)
يَكُونَ قَوْلُهُ الْخَنْدَقَ وَهْمًا أَوْ
أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَفِي حَفْرِ
الْخَنْدَقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: حَمْلُ اللَّبِنِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ لَا مَعْنَى لَهُ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاقِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ حَيْثُ أَخْبَرَ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ
تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وَقَدْ قَتَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ
فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ وَعَمَّارٌ مَعَ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ كَانَ
عَلِيٌّ أَحَقَّ بِالْأَمْرِ مِنْ مُعَاوِيَةَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ
تَسْمِيَةِ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ بُغَاةً تَكْفِيرُهُمْ كَمَا
يُحَاوِلُهُ جَهَلَةُ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ
وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا بُغَاةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ
فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيمَا تَعَاطَوْهُ مِنَ الْقِتَالِ
وَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا بَلِ الْمُصِيبُ لَهُ أَجْرَانِ
وَالْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ، وَمَنْ زَادَ فِي هذا الحديث بعد
تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ- لَا أَنَالَهَا اللَّهُ شَفَاعَتِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ- فَقَدِ افْتَرَى فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ
يَقُلْهَا إِذْ لَمْ تُنْقَلْ مِنْ طَرِيقٍ تُقْبَلُ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ
وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ عَمَّارًا وَأَصْحَابَهُ
يَدْعُونَ أَهْلَ الشَّامِ إِلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ
الْكَلِمَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَأْثِرُوا
بِالْأَمْرِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أَوْزَاعًا عَلَى كُلِّ قُطْرٍ إِمَامٌ بِرَأْسِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي
إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ فَهُوَ لَازِمُ
مَذْهَبِهِمْ وَنَاشِئٌ عَنْ مَسْلَكِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا
يَقْصِدُونَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ هَذِهِ
الْمَبَاحِثِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى وَقْعَةِ صِفِّينَ مِنْ
كِتَابِنَا هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ تَأْيِيدِهِ
وَتَوْفِيقِهِ وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ بِنَاءِ
الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى بَانِيهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالتَّسْلِيمِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ حَدَّثَنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ
حَمَّادٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا حَشْرَجُ
بْنُ نُبَاتَةَ عن سعيد ابن جُمْهَانَ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ
بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ
جَاءَ عُثْمَانُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَؤُلَاءِ وُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدِي» ،
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ
الْحِمَّانِيِّ عَنْ حَشْرَجٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ سَفِينَةَ. قَالَ:
لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَسْجِدَ وَضَعَ حَجَرًا. ثُمَّ قَالَ «لِيَضَعْ أَبُو بَكْرٍ
حَجَرًا إِلَى جَنْبِ حَجَرِي، ثُمَّ لْيَضَعْ عُمَرُ حَجَرَهُ إِلَى
جَنْبِ حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ لْيَضَعْ عُثْمَانُ حَجَرَهُ إِلَى
جَنْبِ حَجَرِ عُمَرَ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِي» وَهَذَا
الْحَدِيثُ بِهَذَا السِّيَاقِ غَرِيبٌ جِدًّا، وَالْمَعْرُوفُ مَا
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ حَشْرَجِ بْنِ
نُبَاتَةَ الْعَبْسِيِّ [1] وَعَنْ بَهْزٍ وَزَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ
وَعَبْدِ الصمد وحماد بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُمْهَانَ عَنْ سَفِينَةَ قَالَ سمعت رسول الله يَقُولُ: «الْخِلَافَةُ
ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْمُلْكُ» ثُمَّ
قَالَ سَفِينَةُ أَمْسِكْ، خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ،
وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سنين وخلافة
__________
[1] كذا بالأصل، وهو حشرج بن نباتة الأشجعي أبو مكرم الواسطي الكوفي
كما في الخلاصة.
(3/218)
عثمان اثنتا عَشْرَةَ سَنَةً وَخِلَافَةَ
عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ، هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ. وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُمْهَانَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا
مِنْ حَدِيثِهِ وَلَفَظُهُ «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً
ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا» وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ. قُلْتُ: وَلَمْ
يَكُنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوَّلَ مَا بُنِيَ مِنْبَرٌ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ الناس وهو
مستندا إِلَى جِذْعٍ عِنْدَ مُصَلَّاهُ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ
فَلَمَّا اتُّخِذَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِنْبَرُ كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَعَدَلَ إِلَيْهِ لِيَخْطُبَ
عليه، فلما جاوز ذَلِكَ الْجِذْعَ خَارَ ذَلِكَ الْجِذْعُ وَحَنَّ
حَنِينَ النُّوقِ الْعِشَارِ لِمَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْ خُطَبِ
الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ
النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فاحتضته حَتَّى سَكَنَ كَمَا يَسْكُنُ
الْمَوْلُودُ الَّذِي يَسْكُتُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ
طُرُقٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وما أحسن ما قال
الحسن البصري بعد ما رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
يا معشر المسلمين الخشبة نحن إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَيْهِ، أَوَ لَيْسَ الرِّجَالُ
الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَاءَهُ أَحَقَّ أَنْ يَشْتَاقُوا إِلَيْهِ؟!.
تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَالْمَحَلِّ
الْمُنِيفِ
قَالَ الامام احمد: حدثنا يحيى بن أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ:
اخْتَلَفَ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى، فَقَالَ الْخِدْرِي هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْعَمْرِيُّ هُوَ مَسْجِدُ
قُبَاءَ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ» لِمَسْجِدِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ «فِي
ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ» يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءَ. وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ
أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ بِهِ وَقَالَ حَسَنٌ
صَحِيحٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ
قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: تَمَارَى
رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَذَكَرَ
نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ
الْخَرَّاطِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ
سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أبى سعيد كيف سمعت أباك فِي
الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ أَبِي أَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنِ
الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ
حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ. ثُمَّ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ
هَذَا» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا
رَبِيعَةُ بْنُ عثمان التميمي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد في الَّذِي
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى. فَقَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ
مَسْجِدُ قُبَاءَ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ فَقَالَ
(3/219)
«هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا» فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَعَلَّهَا
تَقْرُبُ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُمَرُ
وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ لَا
مُنَافَاةَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. لِأَنَّ هَذَا
الْمَسْجِدَ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا
أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ التِي تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيْهَا
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا
تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِي هَذَا
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى
ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» وَذَكَرَهَا. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةٌ
فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ «فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ» وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى القطان عن حبيب عَنْ حَفْصِ بْنِ
عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ
مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» وَالْأَحَادِيثُ
فِي فَضَائِلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَثِيرَةٌ جِدًّا
وَسَنُورِدُهَا فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ
الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ
التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ مَسْجِدَ
الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ ذَاكَ
بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَهَذَا بَنَاهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَرَّرُوا أَنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ في بلد حرمه الله يوم خلق
السموات وَالْأَرْضِ، وَحَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ: فَاجْتَمَعَ فِيهِ
مِنَ الصِّفَاتِ مَا ليس في غيره، وبسط هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضِعٌ
آخَرُ وباللَّه الْمُسْتَعَانُ.
فَصْلٌ
وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ
مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ حُجَرٌ لِتَكُونَ مَسَاكِنَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ
وَكَانَتْ مَسَاكِنَ قَصِيرَةَ الْبِنَاءِ قَرِيبَةَ الْفِنَاءِ قَالَ
الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ- وَكَانَ غُلَامًا مَعَ
أُمِّهِ خَيْرَةَ مُوْلَاةِ أُمِّ سَلَمَةَ- لَقَدْ كُنْتُ أَنَالُ
أَطْوَلَ سَقْفٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِيَدِي. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ شَكِلًا ضَخْمًا طُوَالًا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الروض: كانت مساكنه عليه السلام
مَبْنِيَّةً مِنْ جَرِيدٍ عَلَيْهِ طِينٌ بَعْضُهَا مِنْ
(3/220)
حِجَارَةٍ مَرْضُومَةٍ [1] وَسُقُوفُهَا كُلُّهَا مِنْ جَرِيدٍ. وَقَدْ
حَكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ وَكَانَتْ
حُجَرُهُ مِنْ شَعَرٍ مَرْبُوطَةً بِخَشَبٍ مِنْ عَرْعَرٍ. قَالَ وَفِي
تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ بَابَهُ عليه السلام كَانَ يُقْرَعُ
بِالْأَظَافِيرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَبْوَابِهِ
حَلَقٌ. قَالَ وَقَدْ أُضِيفَتِ الْحُجَرُ كُلُّهَا بَعْدَ مَوْتِ
أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَسْجِدِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا:
وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بن أريقط الدئلي إِلَى مَكَّةَ بَعَثَ
مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو
بَكْرٍ زَيْدَ بْنَ حارثة وأبا رافع مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْتُوا بِأَهَالِيهِمْ مِنْ مَكَّةَ
وَبَعَثَا مَعَهُمْ بِحِمْلَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ
لِيَشْتَرُوا بِهَا إِبِلًا مِنْ قُدَيْدٍ، فَذَهَبُوا فَجَاءُوا
بِبِنْتَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ
وَأُمِّ كُلْثُومَ وَزَوْجَتَيْهِ سَوْدَةَ وَعَائِشَةَ، وَأُمِّهَا
أُمِّ رُومَانَ وَأَهْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَآلِ أَبِي بَكْرٍ صُحْبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ
شَرَدَ بِعَائِشَةَ وَأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ الْجَمَلُ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ فجعلت أم رومان تقول: وا عروساه، وا بنتاه قَالَتْ
عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ أَرْسِلِي خِطَامَهُ،
فَأَرْسَلْتُ خِطَامَهُ فَوَقَفَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَسَلَّمَنَا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَتَقَدَّمُوا فَنَزَلُوا بِالسَّنْحِ، ثُمَّ
دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ
فِي شَوَّالٍ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدِمَتْ
مَعَهُمْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ
الْعَوَّامِ وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمٌّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ آخِرِ هَذِهِ
السَّنَةِ. |