البداية والنهاية، ط. دار الفكر
عمرة الجعرانة فِي ذِي الْقِعْدَةِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثَنَا بَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ الْمَعْنَى
قَالَا: ثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَأَلْتُ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قُلْتُ كَمْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: حِجَّةً وَاحِدَةً، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ. عُمْرَتُهُ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَتُهُ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَعُمْرَتُهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي
ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَتُهُ مَعَ
حِجَّتِهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ
وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
ثَنَا أَبُو النَّضْرِ ثَنَا دَاوُدُ- يَعْنِي الْعَطَّارَ- عَنْ
عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، عُمْرَةَ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَالثَّالِثَةُ مِنَ
الْجِعْرَانَةِ، وَالرَّابِعَةُ الَّتِي مَعَ حِجَّتِهِ. وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ داود ابن
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دينار
به. وحسنه والترمذي. وقال الامام أحمد ثنا يحيى ابن زَكَرِيَّا بْنِ
أَبِي زَائِدَةَ ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أرطاة عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ- قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يُلَبِّي
حَتَّى يَسْتَلِمَ الجحر. غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهَذِهِ
الثَّلَاثُ عُمَرٍ اللَّاتِي وَقَعْنَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مَا عَدَا
عُمْرَتَهُ مَعَ حِجَّتِهِ فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ
مَعَ الْحِجَّةِ وَإِنْ أَرَادَ ابْتِدَاءَ الْإِحْرَامِ بِهِنَّ فِي
ذِي الْقَعْدَةِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ
لَأَنَّهُ صُدَّ عَنْهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ نَافِعٌ وَمَوْلَاهُ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرَانِ
أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ فِيمَا قَالَ
الْبُخَارِيُّ ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ
اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ،
قَالَ وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ
فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، قَالَ فَمَنَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبْيِ حُنَيْنٍ
فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ
اللَّهِ انْظُرْ مَا هَذَا؟ قَالَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّبْيِ، قَالَ اذْهَبْ فَأَرْسِلِ
الْجَارِيَتَيْنِ. قَالَ نَافِعٌ وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الْجِعْرَانَةِ وَلَوِ
اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى
(4/365)
عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
مِنْ حَدِيثِ أيوب السختبانى عن نافع عن ابن عمر بِهِ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ الضَّبِّيِّ عَنْ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ ذُكِرَ عِنْدَ
ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَالَ: لَمْ يَعْتَمِرْ مِنْهَا وهذا
غريب جدا عن ابن عمرو عن مَوْلَاهُ نَافِعٍ فِي إِنْكَارِهِمَا
عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَطْبَقَ النَّقَلَةُ مِمَّنْ
عَدَاهُمَا عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ
وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَذَكَرَ ذَلِكَ أصحاب المغازي والسنن
كُلُّهُمْ. وَهَذَا أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ
حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ
وَقَالَتْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا وَهُوَ
شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ ثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ
سَأَلَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَ عُمَرَ فِي أَيِّ شَهْرٍ
اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ
فِي رَجَبٍ، فَسَمِعَتْنَا عَائِشَةُ فَسَأَلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ
أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَقَدْ شهدها
وما اعتمر عمرة قَطُّ إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ
سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لَقَدْ
عَلِمَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَهَا بِحِجَّةِ
الْوَدَاعِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا
مُفَضَّلٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ
مُسْتَنِدٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَأُنَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى،
فَقَالَ عُرْوَةُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟
قَالَ بِدْعَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمِ
اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَرْبَعًا إِحْدَاهُنَّ فِي
رَجَبٍ، قَالَ وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الْحُجْرَةِ،
فَقَالَ لَهَا عُرْوَةُ إِنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزْعُمُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ؟
فَقَالَتْ: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي
رَجَبٍ قَطُّ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
مَنِيعٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ مَنْصُورٍ
وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثَنَا
روح ثنا ابن جريح أَخْبَرَنِي مُزَاحِمُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُخَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ
الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا حِينَ أَمْسَى مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ
لَيْلًا يَقْضِي عُمْرَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ
فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ
خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي بطن سرف، حتى جاء مع الطَّرِيقَ-
طَرِيقَ الْمَدِينَةِ- بِسَرِفٍ قَالَ مُخَرِّشٌ: فَلِذَلِكَ خَفِيَتْ
عُمْرَتُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَذَلِكَ
وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ
ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَا
دَفْعُهُ وَمَنْ نَفَاهَا لَا حُجَّةَ مَعَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ
أَثْبَتَهَا والله أعلم. ثم وهم كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهَا
كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَقَسْمِ
غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ
الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ
(4/366)
الكبير قائلا: حدثا الحسن بْنُ إِسْحَاقَ
التُّسْتَرِيُّ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِفِ نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ
فَقَسَمَ بِهَا الْغَنَائِمَ ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْهَا وَذَلِكَ
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا
وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ
ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ ثنا ابن جريج
أخبرنى عطاء أن صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ
أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، قَالَ فَبَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ
وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال فَأَشَارَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ فَجَاءَ
يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً
ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ «أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنِ
الْعُمْرَةِ آنِفًا؟» فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ، قَالَ
«أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا
الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ
فِي حَجِّكَ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ كِلَاهُمَا عن صفوان بن
يعلى بن أمية بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
أَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ
كَدَاءَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَدَخَلَ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ كُدَى.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ ثَنَا مُوسَى أَبُو سَلَمَةَ ثَنَا حَمَّادٌ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ
فَرْمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا وَمَشَوْا أَرْبَعًا وَجَعَلُوا
أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى
عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو داود ورواه أيضا وابن
مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثَنَا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جريج حدثني الحسن بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ
طَاوُسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَهُ
قَالَ قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ قَالَ: رَأَيْتُهُ يُقَصِّرُ عَنْهُ
بِمِشْقَصٍ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ
حديث سفيان بن عيينة عن هشام ابن حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الله
بن الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ
ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ
قَالَ:
قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا
يَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَذَلِكَ أَنَّ
عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى مَكَّةَ فِيهَا بَلْ
صُدَّ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا عُمْرَةُ
الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ أَسْلَمَ وَلَمْ يَبْقَ
بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل خرجوا منها، وتغيبوا عنها مدة مقامه
عليه السلام بِهَا تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ، وَعُمْرَتُهُ
الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهَا
بِالِاتِّفَاقِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّقْصِيرَ الَّذِي
تَعَاطَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(4/367)
عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي
عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ كَمَا قُلْنَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْجِعْرَانَةِ معتمرا وأمر ببقاء الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنَّةَ
بِنَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ.
قُلْتُ: الظاهر أنه عليه السلام إِنَّمَا اسْتَبْقَى بَعْضَ
الْمَغْنَمِ لِيَتَأَلَّفَ بِهِ مَنْ يَلْقَاهُ مِنَ الْأَعْرَابِ
فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ
عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَخَلَّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ
جَبَلٍ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مُعَاذًا مَعَ عَتَّابٍ
بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى هَوَازِنَ ثُمَّ خَلَّفَهُمَا بِهَا
حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا اسْتَعْمَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ
عَلَى مَكَّةَ رَزَقَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا فَقَامَ فَخَطَبَ
النَّاسَ فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ أَجَاعَ اللَّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ
فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دِرْهَمًا كُلَّ يوم فليست لي حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي
بَقِيَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: قَدِمَهَا لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِيمَا
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدِينِيُّ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَجَّ
النَّاسُ ذَلِكَ الْعَامَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ
عَلَيْهِ وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ
أَسِيدٍ وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ. قَالَ وَأَقَامَ أَهْلُ الطَّائِفِ
عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي
الْقَعْدَةِ إِلَى رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ.
إِسْلَامُ كعب بن زهير بن أبى سلمى وَأَبُوهُ هُوَ صَاحِبُ إِحْدَى
الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ الشَّاعِرُ ابْنُ الشَّاعِرِ وَذِكْرُ
قَصِيدَتِهِ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ، بَانَتْ سُعَادُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنِ الطَّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ
أَبِي سُلْمَى إِلَى أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ
يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَتَلَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ
وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ، ابْنُ الزِّبَعْرَى
وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ هَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ فَإِنْ
كَانَتْ لَكَ فِي نَفْسِكَ حَاجَةٌ فَطِرْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ أُحُدًا
جَاءَهُ تَائِبًا وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إِلَى نَجَائِكَ
مِنَ الْأَرْضِ. وَكَانَ كَعْبٌ قد قال:
ألا بلغا عنى بجيرا رسالة ... فويحك [1] فيما قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ
لَكَا
فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ
غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أبا له ... عليه وما تلقى عَلَيْهِ
أَبًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ
إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لكا
__________
[1] كذا في الأصل وفي ابن هشام والتيمورية: فهل لك فيما قلت ويحك هل
لكا
(4/368)
سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا
رَوِيَّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
بِالشِّعْرِ:
مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا
قُلْتَ بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
شَرِبْتَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيَّةً ... فَأَنْهَلَكَ
الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
وَخَالَفْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتَّبَعْتَهُ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ
وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا
عَلَى خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا
لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ
إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ بِهَا إِلَى بُجَيْرٍ فَلَمَّا أَتَتْ
بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ سَقَاكَ بِهَا
الْمَأْمُونُ «صَدَقَ وَإِنَّهُ لَكَذُوبٌ أَنَا الْمَأْمُونُ»
وَلَمَّا سَمِعَ عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ
قَالَ «أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ» قَالَ
ثُمَّ كَتَبَ بُجَيْرٌ إِلَى كَعْبٍ يَقُولُ لَهُ:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا
بَاطْلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
إِلَى اللَّهِ لَا الْعُزَّى وَلَا اللَّاتِ وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو
إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمٍ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنَ النَّاسِ
إِلَّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ أَبِي سُلْمَى
عليّ محرم
قال فلما بلغ كعب الْكُتَّابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى
نَفْسِهِ وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوِّهُ
وَقَالُوا هُوَ مَقْتُولٌ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدًّا
قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ
الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ
الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
مَعْرِفَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ كَمَا ذُكِرَ لِي فَغَدَا بِهِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صَلَاةِ
الصُّبْحِ فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ أَشَارَ لَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ فَقُمْ إِلَيْهِ
فَاسْتَأْمِنْهُ، فَذُكِرَ لِي أَنَّهُ قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَوَضَعَ يَدَهُ
فِي يَدِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كَعْبَ
بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تَائِبًا مُسْلِمًا
فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إِنْ جِئْتُكَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَعَمْ» فَقَالَ إِذًا
أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ. قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّهُ
وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دعه عنك فإنه جَاءَ
تَائِبًا نَازِعًا» قَالَ فَغَضِبَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ عَلَى هَذَا
الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا
بِخَيْرٍ، فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(4/369)
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ
مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ عِنْدَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف
مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول [1]
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنَّهُ
مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ
أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ
غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
فَيَا لَهَا خُلَّةٌ لَوْ أنها صدقت ... بوعدها أولو انَّ النُّصْحَ
مَقْبُولُ
لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ
وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ... كَمَا تَلَوَّنُ فِي
أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تُمَسِّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ ... إِلَّا كَمَا
يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَلَا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إِنَّ الْأَمَانِيَّ
وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا
إِلَّا الْأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تدنو مودتها ... وَمَا لَهُنَّ إِخَالُ الدَّهْرَ
تَعْجِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بأرض لا تبلغها ... إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ
الْمَرَاسِيلُ
وَلَنْ يُبَلِّغَهَا إِلَّا عُذَافِرَةٌ ... فِيهَا عَلَى الْأَيْنِ
إِرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا
طَامِسُ الأعلام مجهول
ترمى الغيوب بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ لَهِقٍ ... إِذَا تَوَقَّدَتِ
الْحِزَّانُ وَالْمِيلُ
ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا ... فِي خَلْقِهَا عَنْ
بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ
حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ ... وَعَمُّهَا خَالُهَا
قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ ... مِنْهَا لَبَانٌ
وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ ... مِرْفَقُهَا عَنْ
بنات الزور مفتول
قنواء في حربتيها لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي
الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ
كأنما فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا ... مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ
اللَّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
تُمِرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ ... في غادر لَمْ
تَخَوَّنْهُ الْأَحَالِيلُ
تَهْوِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لاهية ... ذوابل وقعهن الأرض تحليل
يوما تظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحيه بالشمس محلول
__________
[1] لم يورد المصنف هذا البيت واختصر بعض أبيات منها مع تقديم وتأخير
وهي مشهورة فلتراجع.
(4/370)
وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ... مورق
الجنادب يركضن الحصا قيلوا
أوب بذي فاقد سمطا معوله ... قامت فجاء بها نكر مَثَاكِيلُ
نَوَّاحَةٌ رِخْوَةُ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ... لَمَّا نَعَى
بِكْرَهَا النَّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِي اللَّبَانَ بِكَفَّيْهَا وَمِدْرَعُهَا ... مُشَقَّقٌ عَنْ
تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جنابيها وقولهم ... إنك يا ابن أَبِي سُلْمَى
لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي
عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبًا لَكُمُ ... فَكُلُّ مَا قَدَّرَ
الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى
آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ ... الْقُرْآنِ فِيهِ
مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَلَوْ
كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا
قَدْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلَّ يرعد من وجد موارده ... من الرسول باذن الله تنويل
حتى وضعت يميني ما أنازعها ... فِي كَفِّ ذِي نَقَمَاتٍ قَوْلُهُ
الْقِيلُ
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ... وَقِيلَ إِنَّكَ
مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ مَخْدَرُهُ ... فِي بَطْنِ عَثَّرَ
غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ... لَحْمٌ مِنَ
النَّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلُّ لَهُ ... أَنْ يترك القرن إلا وهو
مغلول
مِنْهُ تَظَلُّ حَمِيرُ الْوَحْشِ نَافِرَةً ... وَلَا تَمْشِي
بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ ... مُضَرَّجُ الْبَزِّ
وَالدِّرْسَانِ مَأَكُولُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ
اللَّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ
لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ
وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إِذَا
عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ
فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ ... كَأَنَّهَا حلق القفعاء
مجدول
ليسوا معاريج إِنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمُ ... قَوْمًا وَلَيْسُوا
مَجَازِيعًا إِذَا نيلوا
(4/371)
لا يقع الطعن الا في نحورهم ... ولا لهم عن
حياض الموت تهليل
قال ابن هشام هَكَذَا أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ
الْقَصِيدَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا إِسْنَادًا، وَقَدْ رَوَاهَا
الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِإِسْنَادٍ
مُتَّصِلٍ فَقَالَ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنَا أَبُو
القاسم عبد الرحمن بن الحسن ابن أحمد الأسدي بهذان ثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ الْحُسَيْنِ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيٌّ
ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ ذِي الرُّقَيْبَةِ ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
قَالَ: خرج كعب وبجيرا بنا زُهَيْرٍ حَتَّى أَتَيَا أَبْرَقَ
الْعَزَّافِ فَقَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ اثْبُتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ
حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ- يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْمَعُ مَا يَقُولُ فَثَبَتَ كَعْبٌ وَخَرَجَ
بُجَيْرٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فعرض عليه السلام فَأَسْلَمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ كَعْبًا فَقَالَ:
أَلَّا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ
وَيْبَ غيرك دلكا
على خلق لم تلف أما وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ
أَخًا لَكَا
سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسِ رَوِيَّةٍ ... وَأَنْهَلَكَ
الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
فَلَمَّا بَلَغَتِ الْأَبْيَاتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَرَ دَمَهُ وَقَالَ «مَنْ لَقِيَ كَعْبًا
فَلْيَقْتُلْهُ» فَكَتَبَ بِذَلِكَ بُجَيْرًا إِلَى أَخِيهِ وَذَكَرَ
لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
أَهْدَرَ دَمَهُ وَيَقُولُ لَهُ النَّجَاءَ وَمَا أَرَاكَ تَنْفَلِتُ،
ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَأْتِيهِ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا
قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَسْقَطَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِذَا
جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَأَسْلِمْ وَأَقْبِلْ، قَالَ فَأَسْلَمَ
كَعْبٌ وَقَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَنَاخَ
رَاحِلَتَهُ بِبَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ المسجد ورسول الله مَعَ أَصْحَابِهِ
كَالْمَائِدَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ مُتَحَلِّقُونَ مَعَهُ حَلْقَةً
خَلْفَ حَلْقَةٍ يَلْتَفِتُ إِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ
وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ قَالَ كَعْبٌ: فأنخت راحلتي
بباب الْمَسْجِدَ فَعَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلّم بالصفة حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْهِ فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
الْأَمَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ «وَمَنْ أنت؟» قال كَعْبُ بْنُ
زُهَيْرٍ، قَالَ «الَّذِي يَقُولُ» ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «كَيْفَ قَالَ يَا أَبَا
بَكْرٍ؟» فَأَنْشَدَهُ أبو بكر:
سقاك بها المأمون كأسا روية ... وأنهلك المأمون مِنْهَا وَعَلَّكَا
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قُلْتُ هَكَذَا، قَالَ «فَكَيْفَ
قُلْتَ؟» قَالَ قُلْتُ:
سقاك بها المأمون كأسا رَوِيَّةٍ ... وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ
مِنْهَا وَعَلَّكَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُونٌ
وَاللَّهِ ثُمَّ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ كُلَّهَا حَتَّى أَتَى عَلَى
آخِرِهَا وَهِيَ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي اليوم مقبول ... مُتَيَّمٌ عِنْدَهَا لَمْ
يُفْدَ مَكْبُولُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرَّمْزِ لِمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إِنْشَادُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
عَزَّ وجل
(4/372)
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ
الْبِرِّ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ أَنَّ كَعْبًا لَمَّا انْتَهَى
إِلَى قَوْلِهِ:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ
اللَّهِ مَسْلُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
قَالَ: فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى مَنْ مَعَهُ أَنِ اسْمَعُوا. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَهُ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قُلْتُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ بُرْدَتَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ
الْقَصِيدَةَ وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي بَعْضِ
مَدَائِحِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الْأَثِيرِ فِي الْغَابَةِ قَالَ وَهِيَ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ
الْخُلَفَاءِ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ جِدًّا وَلَكِنْ لَمْ
أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ
بِإِسْنَادٍ أَرْتَضِيهِ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَمَّا
قَالَ بَانَتْ سُعَادُ وَمَنْ سُعَادُ؟ قَالَ زَوْجَتِي يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ لَمْ تَبِنْ وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ
عَلَى ذَلِكَ تَوَهَّمَ أَنَّ بِإِسْلَامِهِ تَبِينُ امْرَأَتُهُ
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْبَيْنُونَةَ الْحِسِّيَّةَ
لَا الْحُكْمِيَّةَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ فَلَمَّا قَالَ
كَعْبٌ- يَعْنِي فِي قَصِيدَتِهِ- إِذَا عَرَّدَ السُّودُ
التَّنَابِيلُ وَإِنَّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لِمَا
كَانَ صَاحِبُنَا صَنَعَ بِهِ وَخَصَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ
بِمِدْحَتِهِ غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ
أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنَ
الْيُمْنِ:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ
صَالِحِي الْأَنْصَارِ
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إن الخيار هموا بنوا
الْأَخْيَارِ
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ ... كَسَوَالِفِ
الِهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ
وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ ... كَالْجَمْرِ غَيْرِ
كَلِيلَةِ الْإِبْصَارِ
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ
تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
[وَالْقَائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ ... بِالْمَشْرَفِيِّ
وَبِالْقَنَا الْخَطَّارِ]
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ علقوا من
الكفار
دربوا كما دربت بطون خَفِيَّةٍ ... غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ
ضَوَارِي
وَإِذَا حللت ينعوك إِلَيْهِمُ ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ
الْأَغْفَارِ
ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ... دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا
جَمِيعُ نِزَارِ
لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِيَ كُلَّهُ ... فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي
الَّذِينَ أُمَارِي
قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ ... للطارقين النازلين
مقارى
(4/373)
[في السفر من غسان من جرثومة ... أعيت
محافرها على المنقار]
[1] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ بَانَتْ
سُعَادُ «لَوْلَا ذَكَرْتَ الْأَنْصَارَ بِخَيْرٍ فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ
أَهْلٌ» فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
قَالَ وَبَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنَّ
كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ أَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي
الْيَوْمَ مَتْبُولُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ
الْمُتَقَدِّمِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ
حَدَّثَنِي مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرحمن الأفطس عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ فَذَكَرَهُ وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَصْحَابِ بَعْدَ مَا
أَوْرَدَ طَرَفًا مِنْ تَرْجَمَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ إِلَى أَنْ
قَالَ: وَقَدْ كَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ شَاعِرًا مُجَوِّدًا كَثِيرَ
الشِّعْرِ مُقَدَّمًا فِي طَبَقَتِهِ هُوَ وَأَخُوهُ بُجَيْرٌ وَكَعْبٌ
أشعرهما وأبو هما زُهَيْرٌ فَوْقَهُمَا وَمِمَّا يُسْتَجَادُ مِنْ
شِعْرِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى
وَهْوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... فَالنَّفْسُ
وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا تَنْتَهِي
الْعَيْنُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ
ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَشْعَارًا كَثِيرَةً
يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ وَفَاتَهُ، وَكَذَا لَمْ
يُؤَرِّخْهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ الْغَابَةِ
فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ وَلَكِنْ حَكَى أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ
قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِسَنَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ
وَمِمَّا أَجَادَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ يَمْدَحُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَجْرِي بِهِ النَّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا ... بِالْبُرْدِ
كَالْبَدْرِ جَلَّى لَيْلَةَ الظُّلَمِ
فَفِي عِطَافَيْهِ أَوْ أَثَنَاءِ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ الله من
دين ومن كرم
فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَالْوَفَيَاتِ
فَكَانَ فِي جُمَادَى مِنْهَا وَقْعَةُ مُؤْتَةَ، وَفِي رَمَضَانَ
غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده
كَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ، ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي
ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَقِيَّةِ
السَّنَةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لليالى بَقِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ فِي سُفْرَتِهِ هَذِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَمْرٍو ابْنَيِ
الْجُلَنْدِيِّ مِنَ الْأَزْدِ، وَأُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ مَجُوسِ
بَلَدِهِمَا وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، قَالَ وَفِيهَا
تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاطِمَةُ بِنْتَ الضِّحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ فاستعاذت منه عليه السلام فَفَارَقَهَا، وَقِيلَ بَلْ
خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا فَفَارَقَهَا. قَالَ وَفِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْهَا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ
فَاشْتَدَّتْ غَيْرَةُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا حِينَ
رُزِقَتْ وَلَدًا ذَكَرًا وَكَانَتْ قَابِلَتُهَا فِيهِ سلمى
__________
[1] ما بين المربعين لم يردا في الأصل وزدناهما من ابن هشام.
(4/374)
مُوَلَّاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَرَجَتْ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَأَخْبَرَتْهُ
فَذَهَبَ فَبَشَّرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ مَمْلُوكًا وَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أم برة بنت المنذر بن أسيد بْنِ
خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ
وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ
عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ، وَكَانَتْ فِيهَا وَفَاةُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ
الشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ وَقَدْ قَدَّمْنَا هَدْمَ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتِ الْعُزَّى تُعْبَدُ
فِيهِ بِنَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَذَلِكَ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْهَا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا كَانَ
هَدْمُ سُوَاعٍ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ هُذَيْلٌ بِرُهَاطٍ،
هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَجِدْ
فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا، وَفِيهَا هُدِمَ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ
وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ أَوَسُهَا وَخَزْرَجُهَا يُعَظِّمُونَهُ
هَدَمَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا فَصْلًا مُفِيدًا مَبْسُوطًا فِي
تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى 53: 19- 20.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قِصَّةَ
تَخْرِيبِ خَثْعَمٍ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ
وَيُسَمُّونَهُ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ مُضَاهِيَةً لِلْكَعْبَةِ
الَّتِي بِمَكَّةَ وَيُسَمُّونَ الَّتِي بِمَكَّةَ الْكَعْبَةَ
الشَّامِيَّةَ وَلِتِلْكَ- الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ فَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا
تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟» فَقُلْتُ بَلَى فَانْطَلَقْتُ فِي
خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ
وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي حَتَّى
رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ «اللَّهمّ ثَبِّتْهُ
وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» قَالَ فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ
بَعْدُ. قَالَ وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا بِالْيَمَنِ لَخَثْعَمٍ
وَبَجِيلَةَ فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ
الْيَمَانِيَّةُ.
قَالَ فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا فِي النار وكسرنها، قَالَ فَلَمَّا
قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ
بِالْأَزْلَامِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ
عُنُقَكَ، قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ وَقَفَ عَلَيْهِ
جَرِيرٌ فَقَالَ لَتَكْسَرَنَّهَا وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ؟ فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ. ثُمَّ بعث
جرير رجلا من أحمس يكنى أَرْطَأَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، قَالَ فَلَمَّا أَتَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ حَتَّى
تركتها كأنها جمل أجرب، قال فبارك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ
مَرَّاتٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ
جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله البجلي بنحوه.
تم والحمد الله الّذي بنعمته تتم الصالحات الجزء الرابع من تاريخ
البداية والنهاية لابن كثير ويتلوه الجزء الخامس وأوله ذكر غزوة تبوك
في رجب منها
(4/375)
|