البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وسعد بن أبى وقاص منازل مدينة نهر شير،
وَهِيَ إِحْدَى مَدِينَتَيْ كِسْرَى مِمَّا يَلِي دِجْلَةَ مِنَ
الْغَرْبِ، وَكَانَ قُدُومُ سَعْدٍ إِلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ
نَازِلٌ عِنْدَهَا. وَقَدْ بَعَثَ السَّرَايَا وَالْخُيُولَ فِي كُلِّ
وَجْهٍ، فَلَمْ يَجِدُوا وَاحِدًا مِنَ الْجُنْدِ، بَلْ جَمَعُوا مِنَ
الْفَلَّاحِينَ مِائَةَ الْفٍ فَحُبِسُوا حَتَّى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ
مَا يَفْعَلُ بِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ مَنْ كَانَ مِنَ
الْفَلَّاحِينَ لَمْ يُعِنْ عَلَيْكُمْ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَلَدِهِ
فَهُوَ أَمَانُهُ، وَمَنْ هَرَبَ فَأَدْرَكْتُمُوهُ فَشَأْنُكُمْ بِهِ.
فَأَطْلَقَهُمْ سَعْدٌ بَعْدَ مَا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ
فَأَبَوْا إِلَّا الْجِزْيَةَ. وَلَمْ يَبْقَ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَةَ
إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنَ الْفَلَّاحِينَ إِلَّا تَحْتَ
الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، وامتنعت نهر شير مِنْ سَعْدٍ أَشَدَّ
الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيَّ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ
الْجِزْيَةِ أَوِ الْمُقَاتَلَةِ، فَأَبَوْا إِلَّا الْمُقَاتَلَةَ
وَالْعِصْيَانَ، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ وَالدَّبَّابَاتِ، وَأَمَرَ
سَعْدٌ بِعَمَلِ الْمَجَانِيقِ فَعُمِلَتْ عِشْرُونَ مَنْجَنِيقًا،
وَنُصِبَتْ عَلَى نهر شير، واشتد الحصار وكان أهل نهر شير يَخْرُجُونَ
فَيُقَاتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا وَيَحْلِفُونَ أَنْ لَا يَفِرُّوا
أَبَدًا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَهَزَمَهُمْ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ
بَعْدَ مَا أَصَابَهُ سَهْمٌ وَقَتَلَ بَعْدَ مصابه كَثِيرًا مِنَ
الْفُرْسِ وَفَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَجَئُوا إِلَى بَلَدِهِمْ،
فَكَانُوا يُحَاصَرُونَ فِيهِ أَشَدَّ الْحِصَارِ، وَقَدِ انْحَصَرَ
أَهْلُ الْبَلَدِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ وَقَدْ
أَشْرَفَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَقُولُ
لَكُمُ الْمَلِكُ: هَلْ لَكَمَ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنَّ لَنَا
مَا يَلِينَا مَنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِنَا، وَلَكُمْ مَا يَلِيكُمْ
مِنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِكُمْ؟ أَمَا شَبِعْتُمْ؟ لَا أَشْبَعَ
اللَّهُ بُطُونَكُمْ.
قَالَ: فَبَدَرَ النَّاسَ رَجُلٌ يُقَالُ له أبو مقرن الْأَسْوَدُ بْنُ
قُطْبَةَ فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ بِكَلَامٍ لَمْ يدر ما قال لهم، فقال:
فرجع الرج ورأيناهم يقطعون من نهر شير إلى المدائن. فقال الناس لأبى
مقرن: مَا قُلْتَ لَهُمْ؟ فَقَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا أَدْرِي مَا قُلْتُ لَهُمْ
إِلَّا أَنَّ عَلَيَّ سَكِينَةً وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ
أُنْطِقْتُ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَجَعَلَ النَّاسُ ينتابونه يسألونه
عن ذلك، وكان فيمن سَأَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَاءَهُ
سَعْدٌ إلى منزله فقال: يا أبا مقرن ما قلت؟ فو الله إِنَّهُمْ
هُرَّابٌ. فَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا قَالَ. فَنَادَى
سَعْدٌ فِي النَّاسِ وَنَهَدَ بِهِمْ إِلَى الْبَلَدِ وَالْمَجَانِيقُ
تَضْرِبُ فِي الْبَلَدِ، فَنَادَى رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ
فَآمَنَّاهُ، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا بِالْبَلَدِ أَحَدٌ، فَتَسَوَّرَ
النَّاسُ السُّورَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا أَحَدًا إِلَّا قَدْ
هَرَبُوا إِلَى الْمَدَائِنِ. وَذَلِكَ فِي شَهْرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ فَسَأَلْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَأُنَاسًا مَنَ الْأُسَارَى
فِيهَا لِأَيِّ شَيْءٍ هَرَبُوا؟ قَالُوا بَعَثَ الْمَلِكُ إِلَيْكُمْ
يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ الصُّلْحَ فَأَجَابَهُ ذَلِكَ الرجل بأنه لا يكون
بينكم وبينه صلح أبدا حتى نأكل
(7/63)
عسل افريذين يأترج كُوثَى. فَقَالَ
الْمَلِكُ: يَا وَيْلَاهُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَكَلَّمُ عَلَى
أَلْسِنَتِهِمْ، تَرُدُّ عَلَيْنَا وَتُجِيبُنَا عَنِ الْعَرَبِ. ثُمَّ
أَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْمَدَائِنِ
فَجَازُوا فِي السُّفُنِ مِنْهَا إِلَيْهَا وَبَيْنَهُمَا دِجْلَةُ،
وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهَا جِدًّا، وَلَمَّا دخل المسلمون نهر شير لَاحَ
لَهُمُ الْقَصْرُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْمَدَائِنِ وَهُوَ قَصْرُ
الْمَلِكِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَذَلِكَ
قُرَيْبَ الصَّبَاحِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أَبْيَضُ
كِسْرَى، هَذَا مَا وَعَدَنَا الله ورسوله.
ونظر الناس إليه فتتابعوا التَّكْبِيرَ إِلَى الصُّبْحِ.
ذِكْرُ فَتْحِ الْمَدَائِنِ الَّتِي هِيَ مُسْتَقَرُّ مُلْكِ كِسْرَى
لَمَّا فَتَحَ سَعْدٌ نهر شير واستقر بها، وذلك في صفة لَمْ يَجِدْ
فِيهَا أَحَدًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُغْنَمُ، بَلْ قَدْ تَحَوَّلُوا
بِكَمَالِهِمْ إِلَى الْمَدَائِنِ وَرَكِبُوا السُّفُنَ وَضَمُّوا
السُّفُنَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجِدْ سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
شَيْئًا مِنَ السُّفُنِ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْهَا
بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً
وَاسْوَدَّ مَاؤُهَا، وَرَمَتْ بِالزَّبَدِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ
بِهَا، وَأُخْبِرَ سَعْدٌ بِأَنَّ كِسْرَى يَزْدَجِرْدَ عَازِمٌ عَلَى
أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى
حُلْوَانَ، وَأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ قَبْلَ ثَلَاثٍ فَاتَ
عَلَيْكَ وَتَفَارَطَ الْأَمْرُ. فَخَطَبَ سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
شَاطِئِ دِجْلَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ إِنَّ
عَدُوَّكُمْ قَدِ اعْتَصَمَ مِنْكُمْ بِهَذَا الْبَحْرِ فَلَا
تَخْلُصُونَ إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فينا وشونكم فِي
سُفُنِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَكُمْ شَيْءٌ تَخَافُونَ أَنْ تُؤْتَوْا
مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ تُبَادِرُوا جِهَادَ الْعَدُوِّ
بِنِيَّاتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحْصُرَكُمُ الدُّنْيَا، أَلَا إِنِّي
قَدْ عَزَمْتُ عَلَى قَطْعِ هَذَا الْبَحْرِ إِلَيْهِمْ. فَقَالُوا
جَمِيعًا: عَزَمَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ عَلَى الرُّشْدِ فَافْعَلْ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدَبَ سَعْدٌ النَّاسَ إِلَى الْعُبُورِ وَيَقُولُ:
مَنْ يَبْدَأُ فَيَحْمِي لَنَا الْفِرَاضَ- يَعْنِي ثُغْرَةَ
الْمَخَاضَةِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى- لِيَجُوزَ النَّاسُ
إِلَيْهِمْ آمِنِينَ، فَانْتَدَبَ عَاصِمُ بن عمرو وذو الْبَأْسِ مِنَ
النَّاسِ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّمِائَةٍ، فَأَمَّرَ سعد عليهم عاصم ابن
عَمْرٍو فَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ دِجْلَةَ فَقَالَ عَاصِمٌ: مَنْ
يُنْتَدَبُ مَعِي لِنَكُونَ قَبْلَ النَّاسِ دُخُولًا فِي هَذَا
الْبَحْرِ فَنَحْمِيَ الْفِرَاضَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ؟
فَانْتَدَبَ لَهُ سِتُّونَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ-
وَالْأَعَاجِمُ وُقُوفٌ صُفُوفًا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ-
فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَحْجَمَ النَّاسُ عَنِ
الْخَوْضِ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ:
أَتَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ؟ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً
مُؤَجَّلًا 3: 145 ثُمَّ أَقْحَمَ فَرَسَهُ فِيهَا وَاقْتَحَمَ
النَّاسُ، وَقَدِ افْتَرَقَ السِّتُّونَ فِرْقَتَيْنِ أَصْحَابُ
الْخَيْلِ الذُّكُورِ، وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ الْإِنَاثِ. فَلَمَّا
رَآهُمُ الْفُرْسُ يَطْفُونَ عَلَى وجه الماء قالوا: دبوانا دبوانا.
يَقُولُونَ مَجَانِينُ مَجَانِينُ. ثُمَّ قَالُوا:
وَاللَّهِ مَا تُقَاتِلُونَ إِنْسًا بَلْ تُقَاتِلُونَ جِنًّا. ثُمَّ
أَرْسَلُوا فُرْسَانًا مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ يَلْتَقُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ لِيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَاءِ،
فَأَمَرَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو أَصْحَابَهُ أَنْ يَشْرَعُوا لَهُمُ
الرِّمَاحَ وَيَتَوَخَّوُا الْأَعْيُنَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِالْفُرْسِ
فَقَلَعُوا عُيُونَ خُيُولِهِمْ، فَرَجَعُوا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ
لَا يَمْلِكُونَ كَفَّ خُيُولِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ
(7/64)
الْمَاءِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَاصِمٌ
وَأَصْحَابُهُ فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ حَتَّى طَرَدُوهُمْ عَنِ
الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ الدِّجْلَةِ مِنَ
الْجَانِبِ الْآخَرِ وَنَزَلَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ عَاصِمٍ مِنِ
السِّتِّمِائَةِ فِي دِجْلَةَ فَخَاضُوهَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى
أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقَاتَلُوا مَعَ
أَصْحَابِهِمْ حَتَّى نَفَوُا الْفُرْسَ عَنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ
وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْكَتِيبَةَ الْأُولَى كَتِيبَةَ الْأَهْوَالِ،
وَأَمِيرُهَا عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْكَتِيبَةَ الثَّانِيَةَ
الْكَتِيبَةَ الْخَرْسَاءَ وَأَمِيرُهَا الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو.
وَهَذَا كُلُّهُ وَسَعْدٌ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا
يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الْفُرْسَانُ بِالْفُرْسِ، وَسَعْدٌ وَاقِفٌ عَلَى
شَاطِئِ دِجْلَةَ. ثُمَّ نَزَلَ سَعْدٌ بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ،
وَذَلِكَ حِينَ نظروا إلى الجانب الآخر قد تَحَصَّنَ بِمَنْ حَصَلَ
فِيهِ مِنَ الْفُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَمَرَ سَعْدٌ
الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَاءِ أَنْ يَقُولُوا:
نَسْتَعِينُ باللَّه وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. ثُمَّ اقْتَحَمَ بِفَرَسِهِ دِجْلَةَ
وَاقْتَحَمَ النَّاسُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ، فَسَارُوا
فِيهَا كَأَنَّمَا يَسِيرُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حتى ملئوا مَا
بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُرَى وَجْهُ الْمَاءِ مِنَ الْفُرْسَانِ
وَالرَّجَّالَةِ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ
الْمَاءِ كَمَا يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِمَا
حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْأَمْنِ، وَالْوُثُوقِ
بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَلِأَنَّ
أَمِيرَهُمْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشْرَةِ
الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَدَعَا لَهُ.
فَقَالَ «اللَّهمّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ»
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ سَعْدًا دَعَا لِجَيْشِهِ هَذَا فِي هَذَا
الْيَوْمِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّصْرِ، وَقَدْ رَمَى بِهِمْ فِي هَذَا
الْيَمِّ فَسَدَّدَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّمَهُمْ، فَلَمْ يُفْقَدْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّ رَجُلًا وَاحِدًا يُقَالُ
لَهُ غَرْقَدَةُ البارقي، ذلك عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، فَأَخَذَ
الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو بِلِجَامِهَا، وَأَخْذَ بِيَدِ الرَّجُلِ
حَتَّى عَدَلَهُ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ، فَقَالَ:
عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو.
وَلَمْ يُعْدَمْ لِلْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ غَيْرَ
قَدَحٍ مِنْ خَشَبٍ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَامِرٍ،
كَانَتْ عَلَاقَتُهُ رَثَّةً فَأَخَذَهُ الْمَوْجُ، فَدَعَا صَاحِبُهُ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: اللَّهمّ لَا تَجْعَلْنِي مِنْ
بَيْنِهِمْ يَذْهَبُ مَتَاعِي. فَرَدَّهُ الْمَوْجُ إِلَى الْجَانِبِ
الَّذِي يَقْصِدُونَهُ فَأَخَذَهُ النَّاسُ ثُمَّ رَدُّوهُ عَلَى
صَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ. وَكَانَ الْفَرَسُ إِذَا أَعْيَا وَهُوَ فِي
الْمَاءِ يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ النَّشْزِ الْمُرْتَفِعِ
فَيَقِفُ عَلَيْهِ فَيَسْتَرِيحُ، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْخَيْلِ
لَيَسِيرُ وَمَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى حِزَامِهَا، وَكَانَ يَوْمًا
عَظِيمًا وَأَمْرًا هَائِلًا، وَخَطْبًا جَلِيلًا، وَخَارِقًا
بَاهِرًا، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَصْحَابِهِ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي
تِلْكَ الْبِلَادِ، وَلَا فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْبِقَاعِ، سِوَى
قَضِيَّةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ، بَلْ
هَذَا أَجَلُّ وَأَعْظَمُ، فَإِنَّ هَذَا الْجَيْشَ كَانَ أَضْعَافَ
ذَلِكَ. قالوا: وكان الّذي يساير سعد ابن أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَاءِ
سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ
وَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ دِينَهُ، وَلَيَهْزِمَنَ اللَّهُ عَدُوَّهُ،
إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ بَغْيٌ أَوْ ذُنُوبٌ تَغْلِبُ
الْحَسَنَاتِ.
فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ جَدِيدٌ. ذُلِّلَتْ لَهُمْ
وَاللَّهِ الْبُحُورُ كَمَا ذُلِّلَ لَهُمُ الْبَرُّ، أَمَا وَالَّذِي
نفس سلمان
(7/65)
بِيَدِهِ لَيَخْرُجُنَّ مِنْهُ أَفْوَاجًا
كَمَا دَخَلُوا أَفْوَاجًا. فَخَرَجُوا مِنْهُ كَمَا قَالَ سَلْمَانُ
لَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَفْقِدُوا شَيْئًا.
وَلَمَّا اسْتَقَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ خَرَجَتِ
الْخُيُولُ تَنْفُضُ أَعْرَافَهَا صَاهِلَةً، فَسَاقُوا وَرَاءَ
الْأَعَاجِمِ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدَائِنَ، فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا
أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَخَذَ كِسْرَى أَهْلَهُ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ وَتَرَكُوا مَا
عَجَزُوا عَنْهُ من الأنعام وَالثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ، وَالْآنِيَةِ
وَالْأَلْطَافِ وَالْأَدْهَانِ مَا لَا يُدْرَى قِيمَتُهُ. وَكَانَ فِي
خِزَانَةِ كِسْرَى ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَخَذُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ
وَتَرَكُوا مَا عَجَزُوا عَنْهُ وَهُوَ مِقْدَارُ النِّصْفِ مِنْ
ذَلِكَ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَدَائِنَ كَتِيبَةُ الْأَهْوَالِ
ثُمَّ الْكَتِيبَةُ الْخَرْسَاءُ، فَأَخَذُوا فِي سِكَكِهَا لَا
يَلْقَوْنَ أَحَدًا وَلَا يَخْشَوْنَهُ غَيْرَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ
فَفِيهِ مُقَاتِلَةٌ وَهُوَ مُحَصَّنٌ.
فَلَمَّا جَاءَ سَعْدٌ بِالْجَيْشِ دَعَا أَهْلَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى لِسَانِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، فَلَمَّا
كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ نَزَلُوا مِنْهُ وَسَكَنَهُ سَعْدٌ
وَاتَّخَذَ الْإِيوَانَ مُصَلَّى، وَحِينَ دَخَلَهُ تَلَا قَوْلَهُ
تَعَالَى كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها
قَوْماً آخَرِينَ 44: 25- 28 ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى صَدْرِهِ فَصَلَّى
ثَمَانِ رَكَعَاتٍ صَلَاةَ الْفَتْحِ، وَذَكَرَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ
أَنَّهُ صَلَّاهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهُ جَمَعَ
بِالْإِيوَانِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَكَانَتْ أَوَّلَ
جُمُعَةٍ جُمِعَتْ بِالْعِرَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدًا نَوَى
الْإِقَامَةَ بها، وبعث إلى العيالات فأنزلهم دون الْمَدَائِنِ
وَاسْتَوْطَنُوهَا، حَتَّى فَتَحُوا جَلُولَاءَ وَتَكْرِيتَ
وَالْمَوْصِلَ، ثُمَّ تَحَوَّلُوا إِلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ
كَمَا سَنَذْكُرُهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ السَّرَايَا فِي إِثْرِ كِسْرَى
يَزْدَجِرْدَ فَلَحِقَ بِهِمْ طَائِفَةٌ فَقَتَلُوهُمْ وَشَرَّدُوهُمْ
وَاسْتَلَبُوا منهم أموالا عظيمة. وأكثر ما استرجعوا مِنْ مَلَابِسِ
كِسْرَى وَتَاجِهِ وَحُلِيِّهِ. وَشَرَعَ سَعْدٌ في تحصيل ما لك مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ وَالتُّحَفِ، مِمَّا لَا يُقَوَّمُ وَلَا
يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَعَظَمَةً. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ
كَانَ هُنَاكَ تَمَاثِيلُ مِنْ جِصٍّ فَنَظَرَ سَعْدٌ إِلَى أَحَدِهَا
وَإِذَا هُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ سَعْدٌ:
إِنَّ هَذَا لَمْ يُوضَعْ هَكَذَا سُدًى، فَأَخَذُوا مَا يُسَامِتُ
أُصْبُعَهُ فَوَجَدُوا قُبَالَتَهَا كَنْزًا عَظِيمًا مِنْ كُنُوزِ
الْأَكَاسِرَةِ الْأَوَائِلِ، فَأَخْرَجُوا مِنْهُ أَمْوَالًا
عَظِيمَةً جَزِيلَةً، وَحَوَاصِلَ بَاهِرَةً، وَتُحَفًا فَاخِرَةً.
وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ما لك أَجْمَعَ مِمَّا لَمْ يَرَ
أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا أَعْجَبَ مِنْهُ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ
تَاجُ كِسْرَى وَهُوَ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ الَّتِي
تُحَيِّرُ الأبصار، ومنطقته كذلك وسيفه وسواره وَقَبَاؤُهُ وَبِسَاطُ
إِيوَانِهِ، وَكَانَ مُرَبَّعًا سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي مِثْلِهَا، مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، وَالْبِسَاطُ مِثْلُهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ مَنْسُوجٌ
بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ، وَفِيهِ
مُصَوَّرُ جَمِيعِ مَمَالِكِ كِسْرَى، بِلَادُهُ بِأَنْهَارِهَا
وقلاعها، وأقاليمها، وكنوزها، وَصِفَةُ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ
الَّتِي فِي بِلَادِهِ. فَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ
مَمْلَكَتِهِ وَدَخَلَ تَحْتَ تاجه، وتاج مُعَلَّقٌ بِسَلَاسِلِ
الذَّهَبِ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أن يقله
(7/66)
عَلَى رَأْسِهِ لِثِقَلِهِ، بَلْ كَانَ
يَجِيءُ فَيَجْلِسُ تَحْتَهُ ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ تَحْتَ التَّاجِ
وَالسَّلَاسِلُ الذَّهَبُ تَحْمِلُهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَسْتُرُهُ حَالَ
لُبْسِهِ فَإِذَا رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْهُ خَرَّتْ لَهُ الْأُمَرَاءُ
سُجُودًا. وَعَلَيْهِ الْمِنْطَقَةُ وَالسِّوَارَانِ وَالسَّيْفُ
وَالْقَبَاءُ الْمُرَصَّعُ بِالْجَوَاهِرِ فَيَنْظُرُ فِي الْبُلْدَانِ
وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَسْأَلُ عَنْهَا وَمَنْ فِيهَا مِنَ
النُّوَّابِ، وَهَلْ حَدَثَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ؟
فَيُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ. ثُمَّ
يَنْتَقِلُ إِلَى الْأُخْرَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ
أَحْوَالِ بِلَادِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ
الْمَمْلَكَةِ، وَقَدْ وَضَعُوا هَذَا الْبِسَاطَ بَيْنَ يَدَيْهِ
تَذْكَارًا لَهُ بشأن الممالك، وهو إصلاح جَيِّدٌ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ
السِّيَاسَةِ. فَلَمَّا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ زَالَتْ تِلْكَ
الْأَيْدِي عَنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ وَالْأَرَاضِي وَتَسَلَّمَهَا
الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَسْرًا، وَكَسَرُوا شَوْكَتَهُمْ
عَنْهَا وَأَخَذُوهَا بِأَمْرِ اللَّهِ صَافِيَةً ضَافِيَةً، وللَّه
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ جَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
عَلَى الْأَقْبَاضِ عَمْرَو بْنَ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ فَكَانَ
أَوَّلُ مَا حَصَّلَ مَا كَانَ فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ وَمَنَازِلِ
كِسْرَى، وَسَائِرِ دُورِ الْمَدَائِنِ، وَمَا كَانَ بِالْإِيوَانِ
مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَا يَفِدُ مِنَ السَّرَايَا الَّذِينَ فِي
صُحْبَةِ زُهْرَةَ بْنِ حَوِيَّةَ، وَكَانَ فِيمَا رَدَّ زُهْرَةُ
بَغْلٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَهُ وَغَصَبَهُ مِنَ الْفُرْسِ وَكَانَتْ
تَحُوطُهُ بِالسُّيُوفِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ وَقَالَ إِنَّ
لِهَذَا لَشَأْنًا فَرَدَّهُ إِلَى الْأَقْبَاضِ وَإِذَا عَلَيْهِ
سَفَطَانِ فِيهِمَا ثِيَابُ كِسْرَى وَحُلِيُّهُ، وَلُبْسُهُ الَّذِي
كَانَ يَلْبَسُهُ عَلَى السَّرِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَغْلٌ آخَرُ
عَلَيْهِ تَاجُهُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي سَفَطَيْنِ أَيْضًا رُدَّا
مِنَ الطَّرِيقِ مِمَّا اسْتَلَبَهُ أَصْحَابُ السَّرَايَا، وَكَانَ
فِيمَا رَدَّتِ السَّرَايَا أَمْوَالٌ عظيمة وفيها أكثر أناث كِسْرَى
وَأَمْتِعَتُهُ وَالْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ الَّتِي اسْتَصْحَبُوهَا
مَعَهُمْ، فَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَاسْتَلَبُوهَا مِنْهُمْ.
وَلَمْ تَقْدِرِ الْفُرْسُ عَلَى حَمْلِ الْبِسَاطِ لِثِقَلِهِ
عَلَيْهِمْ، وَلَا حَمْلِ الْأَمْوَالِ لِكَثْرَتِهَا. فَإِنَّهُ كَانَ
الْمُسْلِمُونَ يَجِيئُونَ بَعْضَ تِلْكَ الدُّورِ فَيَجِدُونَ
الْبَيْتَ مَلَآنًا إِلَى أَعْلَاهُ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَيَجِدُونَ مِنَ الْكَافُورِ شَيْئًا كَثِيرًا،
فَيَحْسَبُونَهُ مِلْحًا، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي
الْعَجِينِ فَوَجَدُوهُ مُرًّا حَتَّى تَبَيَّنُوا أَمْرَهُ
فَتَحَصَّلَ الْفَيْءُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، وشرع
سعد فخمسه وأمر سلمان الفارسي فَقَسَمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ
بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَحَصَلَ لِكُلٍّ واحد من الفرسان اثنتي عَشَرَ
أَلْفًا، وَكَانُوا كُلُّهُمْ فُرْسَانًا، وَمَعَ بَعْضِهِمْ
جَنَائِبُ، وَاسْتَوْهَبَ سَعْدٌ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْبِسَاطِ
وَلُبْسَ كسرى من المسلمين، ليبعثه إلى عمرو المسلمين بِالْمَدِينَةِ
لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ وَيَتَعَجَّبُوا مِنْهُ، فَطَيَّبُوا لَهُ
ذَلِكَ وَأَذِنُوا فِيهِ، فَبَعَثَهُ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ مَعَ
الْخُمْسِ مَعَ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ، وَكَانَ الَّذِي بَشَّرَ
بِالْفَتْحِ قَبْلَهُ حُلَيْسُ بْنُ فُلَانٍ الْأَسَدِيُّ، فَرُوِّينَا
أَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَظَرَ إِلَى ذَلِكَ قَالَ إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا
هَذَا لَأُمَنَاءُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ
عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ. ثُمَّ
قَسَّمَ عُمَرُ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَ عَلِيًّا قِطْعَةٌ
مِنَ الْبِسَاطِ فَبَاعَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَدْ ذَكَرَ سَيْفُ
بْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى
لِخَشَبَةٍ وَنَصَبَهَا أَمَامَهُ لِيُرِيَ النَّاسَ مَا فِي هَذِهِ
الزِّينَةِ مِنَ الْعَجَبِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ
(7/67)
أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِسُرَاقَةَ بْنَ
مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَمِيرِ بَنِي مُدْلِجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ
النُّبُوَّةِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
الْأَصْبَهَانِيُّ ثنا أبو سعيد ابن الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ وَجَدْتُ
فِي كِتَابِي بِخَطِّ يَدِي عَنْ أَبِي دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِفَرْوَةِ كِسْرَى فَوُضِعَتْ بَيْنَ
يَدَيْهِ وَفِي الْقَوْمِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ
فَأَلْقَى إِلَيْهِ سِوَارَيْ كِسْرَى بن هرمز فجعلهما في يده
فَبَلَغَا مَنْكِبَيْهِ فَلَمَّا رَآهُمَا فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ قَالَ
الْحَمْدُ للَّه سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ
بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. هَكَذَا سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ. ثُمَّ حَكَى
عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا أَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِسُرَاقَةَ وَنَظَرَ إلى ذراعيه «كأنى بك وقد ألبست سِوَارَيْ
كِسْرَى» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِسُرَاقَةَ حِينَ
أَلْبَسَهُ سِوَارَيْ كِسْرَى: قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ اللَّهُ
أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: قُلِ الْحَمْدُ للَّه الَّذِي سَلَبَهُمَا
كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وألبسهما سراقة بن مالك أعرابى مِنْ بَنِي
مُدْلِجٍ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ
بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ، قَالَ بَعَثَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَيَّامَ
الْقَادِسِيَّةِ إِلَى عُمَرَ بِقَبَاءِ كِسْرَى وَسَيْفِهِ
وَمِنْطَقَتِهِ وَسِوَارَيْهِ وَسَرَاوِيلِهِ وَقَمِيصِهِ وَتَاجِهِ
وَخُفَّيْهِ، قَالَ فَنَظَرَ عُمَرُ فِي وجوه القوم. وكان أَجْسَمَهُمْ
وَأَبَدْنَهُمْ قَامَةً سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ
يَا سُرَاقُ قُمْ فَالْبَسْ، قَالَ سُرَاقَةُ فَطَمِعْتُ فِيهِ
فَقُمْتُ فَلَبِسْتُ فَقَالَ أُدَبِرْ فَأَدْبَرْتُ، ثُمَّ قَالَ
أَقْبِلْ فَأَقْبَلْتُ، ثُمَّ قَالَ بخ بخ، أعير أبي مِنْ بَنِي
مُدْلِجٍ عَلَيْهِ قَبَاءُ كِسْرَى وَسَرَاوِيلُهُ وَسَيْفُهُ
وَمِنْطَقَتُهُ وَتَاجُهُ وَخُفَّاهُ. رُبَّ يَوْمٍ يَا سُرَاقُ بْنَ
مَالِكٍ، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ فِيهِ هَذَا مِنْ مَتَاعِ كِسْرَى وَآلِ
كِسْرَى، كَانَ شَرَفًا لَكَ وَلِقَوْمِكَ، انْزِعْ. فَنَزَعْتُ.
فَقَالَ: اللَّهمّ إِنَّكَ مَنَعْتَ هَذَا رَسُولَكَ وَنَبِيَّكَ،
وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنِّي وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنِّي.
وَمَنَعْتَهُ أَبَا بَكْرٍ وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنِّي،
وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنِّي، وَأَعْطَيْتَنِيهِ فَأَعُوذُ بِكَ أَنْ
تَكُونَ أَعْطَيْتَنِيهِ لِتَمْكُرَ بِي. ثُمَّ بَكَى حَتَّى رَحِمَهُ
مَنْ كَانَ عِنْدَهُ. ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ:
أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا بِعْتَهُ ثُمَّ قَسَّمْتَهُ قَبْلَ أَنْ
تُمْسِيَ وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ: أَنَّ عُمَرَ
حِينَ مَلَكَ تِلْكَ الْمَلَابِسَ وَالْجَوَاهِرَ جِيءَ بِسَيْفِ
كِسْرَى وَمَعَهُ عِدَّةُ سُيُوفٍ مِنْهَا سَيْفُ النُّعْمَانِ بْنِ
الْمُنْذِرِ نَائِبِ كِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ:
الْحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعَلَ سَيْفَ كِسْرَى فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا
يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لأمناء، أو لذو
أَمَانَةٍ. ثُمَّ قَالَ:
إِنَّ كِسْرَى لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ تَشَاغَلَ بِمَا أَوُتِيَ عَنْ
آخِرَتِهِ فَجَمَعَ لِزَوْجِ امْرَأَتِهِ، أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ،
وَلَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ وَوَضَعَ
الْفُضُولَ في مَوَاضِعَهَا لَحَصَلَ لَهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الْمُسْلِمِينَ وهو أبو نجيد نَافِعُ بْنُ الْأَسْوَدِ فِي ذَلِكَ:
وَأَمَلْنَا عَلَى المدائن خيلا ... بحرها مثل برّهنّ أريضا
(7/68)
فانتشلنا خَزَائِنَ الْمَرْءِ كِسْرَى ...
يَوْمَ وَلَّوْا وَحَاصَ مِنَّا جَرِيضَا
وَقْعَةُ جَلُولَاءَ
لَمَّا سَارَ كِسْرَى وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ بْنُ شَهْرِيَارَ مِنَ
الْمَدَائِنِ هَارِبًا إِلَى حُلْوَانَ شَرَعَ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ فِي جَمْعِ رِجَالٍ وَأَعْوَانٍ وَجُنُودٍ، مِنَ
الْبُلْدَانِ الَّتِي هُنَاكَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الْفُرْسِ وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ مِهْرَانَ،
وَسَارَ كِسْرَى إلى حلوان فأقام الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَهُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَلُولَاءَ، وَاحْتَفَرُوا خَنْدَقًا
عَظِيمًا حَوْلَهَا، وَأَقَامُوا بِهَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ
وَآلَاتِ الْحِصَارِ، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ
بِذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يُقِيمَ هُوَ بِالْمَدَائِنِ
وَيَبْعَثَ ابْنَ أَخِيهِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ أَمِيرًا عَلَى
الْجَيْشِ الَّذِي يَبْعَثُهُ إِلَى كِسْرَى، وَيَكُونَ عَلَى
الْمُقَدِّمَةِ الْقَعْقَاعُ بن عمرو، وعلى الميمنة سعد بْنُ مَالِكٍ
وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ أَخُوهُ عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلَى
السَّاقَةِ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ الْجُهَنِيُّ. فَفَعَلَ سَعْدٌ ذَلِكَ
وَبَعَثَ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ جَيْشًا كَثِيفًا يُقَارِبُ اثْنَيْ
عَشَرَ الْفًا، مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَوُجُوهِ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَرُءُوسِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ فِي
صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ أَمْرِ
الْمَدَائِنِ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إلى المجوس وهم يجلولاء
قَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ،
وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ
فَيُقَاتِلُونَ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. وَجَعَلَ كِسْرَى
يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الْأَمْدَادَ، وَكَذَلِكَ سَعْدٌ يَبْعَثُ
الْمَدَدَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَحَمِيَ
الْقِتَالُ، وَاشْتَدَّ النِّزَالُ، وَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ،
وَقَامَ فِي النَّاسِ هَاشِمٌ فَخَطَبَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، فحضرهم
عَلَى الْقِتَالِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَقَدْ تَعَاقَدَتِ
الْفُرْسُ وَتَعَاهَدَتْ، وَحَلَفُوا بِالنَّارِ أَنْ لَا يَفِرُّوا
أَبَدًا حَتَّى يُفْنُوا الْعَرَبَ. فَلَمَّا كَانَ الْمَوْقِفُ
الْأَخِيرُ وَهُوَ يَوْمُ الْفَيْصَلِ وَالْفُرْقَانِ، تَوَاقَفُوا
مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ
يُعْهَدْ مِثْلُهُ حَتَّى فَنِيَ النُّشَّابُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ،
وَتَقَصَّفَتِ الرِّمَاحُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ، وَصَارُوا
إِلَى السُّيُوفِ وَالطَّبَرْزِينَاتِ، وَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ
فَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ إِيمَاءً، وَذَهَبَتْ فِرْقَةُ الْمَجُوسِ
وَجَاءَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي
الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَهَالَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ أَيُّهَا
الْمُسْلِمُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ إِنَّا كَالُّونَ وَهُمْ مُرِيحُونَ،
فَقَالَ: بَلْ إِنَّا حَامِلُونَ عَلَيْهِمْ وَمُجِدُّونَ فِي
طَلَبِهِمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَاحْمِلُوا
عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى نُخَالِطَهُمْ، فَحَمَلَ
وَحَمَلَ النَّاسُ، فَأَمَّا الْقَعْقَاعُ فَإِنَّهُ صَمَّمَ
الْحَمَلَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْأَبْطَالِ
وَالشُّجْعَانِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْخَنْدَقِ، وَأَقْبَلَ
اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ وَجَالَتْ بَقِيَّةُ الْأَبْطَالِ بِمَنْ
مَعَهُمْ فِي النَّاسِ وَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ فِي التَّحَاجُزِ مِنْ
أَجْلِ إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَفِي الْأَبْطَالِ يَوْمَئِذٍ طليحة
الأسدي، وعمرو بن معديكرب الزبيدي، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، وَحُجْرُ
بْنُ عَدِيٍّ. وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَا صَنَعَهُ الْقَعْقَاعُ فِي
ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، لَوْلَا مُنَادِيهِ
يُنَادِي: أَيْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، هَذَا أَمِيرُكُمْ عَلَى
بَابِ خَنْدَقِهِمْ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمَجُوسُ فَرُّوا وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ
نَحْوَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو فَإِذَا هُوَ عَلَى بَابِ
الْخَنْدَقِ قَدْ مَلَكَهُ
(7/69)
عَلَيْهِمْ، وَهَرَبَتِ الْفُرْسُ كُلَّ
مَهْرَبٍ، وَأَخَذَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَعَدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ
مِائَةُ أَلْفٍ حَتَّى جَلَّلُوا وَجْهَ الْأَرْضِ بِالْقَتْلَى،
فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَلُولَاءَ. وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالسِّلَاحِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَرِيبًا مِمَّا غَنِمُوا مِنَ
الْمَدَائِنِ قَبْلَهَا وَبَعَثَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الْقَعْقَاعَ
بْنَ عَمْرٍو فِي إِثْرِ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ وَرَاءَ كِسْرَى،
فَسَاقَ خَلْفَهُمْ حَتَّى أَدْرَكَ مِهْرَانَ مُنْهَزِمًا، فَقَتَلَهُ
الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَفْلَتَهُمُ الْفَيْرُزَانُ
فَاسْتَمَرَّ مُنْهَزِمًا، وَأَسَرَ سَبَايَا كَثِيرَةً بَعَثَ بِهَا
إِلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَغَنِمُوا دَوَابَّ كَثِيرَةً جِدًّا.
ثُمَّ بَعَثَ هَاشِمٌ بِالْغَنَائِمِ وَالْأَمْوَالِ إِلَى عَمِّهِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَنَفَلَ سَعْدٌ ذَوِي النَّجْدَةِ ثُمَّ
أَمَرَ بِقَسْمِ ذَلِكَ عَلَى الْغَانِمِينَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ الْمَالُ الْمُتَحَصَّلُ مِنْ وَقْعَةِ
جَلُولَاءَ ثَلَاثِينَ ألف ألف، فكان خُمُسُهُ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الَّذِي أَصَابَ كُلُّ فَارِسٍ يَوْمَ
جَلُولَاءَ نَظِيرَ مَا حَصَلَ لَهُ يَوْمَ الْمَدَائِنِ- يَعْنِي
اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا لِكُلِّ فَارِسٍ- وَقِيلَ أَصَابَ كُلُّ
فَارِسٍ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعَ دَوَابٍّ. وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ
قَسْمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْصِيلَهُ، سَلْمَانُ الفارسي
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَعَثَ سَعْدٌ بِالْأَخْمَاسِ مِنَ
الْمَالِ وَالرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ مَعَ زِيَادِ بْنِ أبى سفيان،
وقضاعى بن عمرو، وأبى مقرن الْأَسْوَدِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى
عُمَرَ سَأَلَ عُمَرُ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ كَيْفِيَّةِ
الْوَقْعَةِ فَذَكَرَهَا لَهُ، وَكَانَ زِيَادٌ فَصِيحًا، فَأَعْجَبَ
إِيرَادُهُ لَهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَأَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ:
أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْطُبَ النَّاسَ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ
عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهِيبَ عِنْدِي مِنْكَ، فَكَيْفَ لَا أَقْوَى
عَلَى هَذَا مَعَ غَيْرِكَ؟ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ
خَبَرَ الْوَقْعَةِ، وَكَمْ قَتَلُوا، وَكَمْ غَنِمُوا، بِعِبَارَةٍ
عَظِيمَةٍ بَلِيغَةٍ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْخَطِيبُ
الْمِصْقَعُ- يَعْنِي الْفَصِيحَ- فَقَالَ زِيَادٌ: إِنَّ جُنْدَنَا
أَطْلَقُوا بِالْفِعَالِ لِسَانَنَا. ثُمَّ حَلَفَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ أَنْ لَا يُجِنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي جَاءُوا بِهِ
سَقْفٌ حَتَّى يَقْسِمَهُ، فَبَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَحْرُسَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ عُمَرُ فِي النَّاسِ، بَعْدَ مَا صَلَّى
الْغَدَاةَ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَمَرَ فَكَشَفَ عَنْهُ
جَلَابِيبَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى يَاقُوتِهِ وَزَبَرْجَدِهِ
وَذَهَبِهِ الْأَصْفَرِ وَفِضَّتِهِ الْبَيْضَاءِ، بَكَى عُمَرُ،
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا يبكيك يا أمير المؤمنين؟
فو الله إِنَّ هَذَا لِمَوْطِنُ شُكْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا
ذَاكَ يُبْكِينِي، وتاللَّه مَا أَعْطَى اللَّهُ هَذَا قَوْمًا إِلَّا
تَحَاسَدُوا وَتَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا إِلَّا أُلْقِيَ
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ قَسَمَهُ كَمَا قَسَمَ أَمْوَالَ
الْقَادِسِيَّةِ.
وَرَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَكَانَ
فَتْحُ جَلُولَاءَ في ذي القعدة من سنة ستة عشر، وَكَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ فَتْحِ الْمَدَائِنِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ
ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا فِيمَا رَوَاهُ عَنْ سَيْفٍ عَلَى مَا
يَتَعَلَّقُ بِأَرْضِ السَّوَادِ وَخَرَاجِهَا، وَمَوْضِعُ تَحْرِيرِ
ذَلِكَ كِتَابُ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ قَالَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ فِي يَوْمِ جَلُولَاءَ:
(7/70)
يَوْمُ جَلُولَاءَ وَيَوْمُ رُسْتُمْ ...
وَيَوْمُ زَحْفِ الْكُوفَةِ المقدم
ويوم عرض الشهر المحرم ... وأيام خلت من بينهن صرم
شيبن أصدغى فهي هُرَّمْ ... مِثْلُ ثُغَامِ الْبَلَدِ الْمُحَرَّمْ
وَقَالَ أَبُو نجيد فِي ذَلِكَ:
وَيَوْمُ جَلُولَاءَ الْوَقِيعَةِ أَصْبَحَتْ ... كَتَائِبُنَا تَرْدِي
بِأُسْدٍ عَوَابِسِ
فَضَضْتُ جُمُوعَ الْفُرْسِ ثُمَّ أَنَمْتُهُمْ ... فَتَبًّا
لِأَجْسَادِ الْمَجُوسِ النَّجَائِسِ
وَأَفْلَتَهُنَّ الْفَيْرُزَانُ بِجَرْعَةٍ ... وَمِهْرَانُ أَرْدَتْ
يَوْمَ حَزِّ الْقَوَانِسِ
أَقَامُوا بِدَارٍ لِلْمَنِيَّةِ مَوْعِدُ ... وَلِلتُّرْبِ تَحْثُوهَا
خَجُوجُ الرَّوَامِسِ
ذِكْرُ فَتْحِ حُلْوَانَ
وَلَمَّا انْقَضَتِ الْوَقْعَةُ أَقَامَ هشام بْنُ عُتْبَةَ
بِجَلُولَاءَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- فِي كِتَابِهِ
إِلَى سَعْدٍ- وَتَقَدَّمَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى حُلْوَانَ،
عَنْ أَمْرِ عُمَرَ أيضا ليكون ردءا للمسلمين لك، وَمُرَابِطًا
لِكِسْرَى حَيْثُ هَرَبَ، فَسَارَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَدْرَكَ
أَمِيرَ الْوَقْعَةِ، وَهُوَ مِهْرَانُ الرَّازِيُّ، فَقَتَلَهُ
وَهَرَبَ مِنْهُ الْفَيْرُزَانُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى كِسْرَى
وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ جَلُولَاءَ، وَمَا جَرَى عَلَى
الْفُرْسِ بَعْدَهُ، وَكَيْفَ قُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ،
وَأُدْرِكَ مِهْرَانُ فَقُتِلَ، هَرَبَ عِنْدَ ذَلِكَ كِسْرَى مِنْ
حُلْوَانَ إِلَى الرَّيِّ، وَاسْتَنَابَ على حلوان أميرا يقال له
خسروشنوم، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَبَرَزَ
إِلَيْهِ خسروشنوم إلى مكان خارج من حلوان، فاقتتلوا لك قِتَالًا
شَدِيدًا ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ وَنَصَرَ الْمُسْلِمِينَ وانهزم
خسروشنوم، وَسَاقَ الْقَعْقَاعُ إِلَى حُلْوَانَ فَتَسَلَّمَهَا
وَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فَغَنِمُوا وَسَبَوْا، وَأَقَامُوا بِهَا،
وَضَرَبُوا الْجِزْيَةَ عَلَى من حولها من الكور والأقاليم، بعد ما
دُعُوا إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا إِلَّا
الْجِزْيَةَ. فَلَمْ يَزَلِ الْقَعْقَاعُ بِهَا حَتَّى تَحَوَّلَ سعد
من المدائن إلى الكوفة، فسار إليها كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
فَتْحُ تَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلِ
لَمَّا افْتَتَحَ سَعْدٌ الْمَدَائِنَ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ
الْمَوْصِلِ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَكْرِيتَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْكَفَرَةِ يُقَالُ لَهُ الْأَنْطَاقُ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ
بِأَمْرِ جَلُولَاءَ وَاجْتِمَاعِ الْفُرْسِ بِهَا، وَبِأَمْرِ أَهْلِ
الْمَوْصِلِ، فَتَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كِتَابِ عُمَرَ فِي
أَهْلِ جَلُولَاءَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا. وَكَتَبَ عُمَرُ فِي
قَضِيَّةِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ الَّذِينَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَكْرِيتَ
عَلَى الْأَنْطَاقِ، أَنْ يُعَيِّنَ جَيْشًا لِحَرْبِهِمْ، وَيُؤَمِّرَ
عَلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى
مُقَدِّمَتِهِ ربعي بن الأفكل الغزى، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ الْحَارِثَ
بْنَ حَسَّانَ الذُّهْلِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ فُرَاتَ بْنَ
حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ هَانِئَ بْنَ قَيْسٍ،
وَعَلَى الْخَيْلِ عَرْفَجَةَ بْنَ هرثمة. ففصل عبد الله ابن
الْمُعْتَمِّ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَدَائِنِ، فَسَارَ فِي
أَرْبَعٍ حَتَّى نَزَلَ بِتَكْرِيتَ عَلَى الْأَنْطَاقِ، وقد اجتمع
(7/71)
إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّومِ، وَمِنَ
الشَّهَارِجَةِ، وَمِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، مِنْ إِيَادٍ وَتَغْلِبَ
وَالنَّمِرِ. وَقَدْ أحدقوا بِتَكْرِيتَ، فَحَاصَرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُعْتَمِّ أَرْبَعِينَ يوما. وزاحفوه في هذه المدة أربعة
وَعِشْرِينَ مَرَّةً، مَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَيَنْتَصِرُ عليهم ويفل
جموعهم، فضعف جانبهم، وَعَزَمَتِ الرُّومُ عَلَى الذَّهَابِ فِي
السُّفُنِ بِأَمْوَالِهِمْ، وراسل عبد الله بن المعتم إلى من لك مِنَ
الْأَعْرَابِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ فِي النُّصْرَةِ
عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَجَاءَتِ الْقُصَّادُ إِلَيْهِ عَنْهُمْ
بِالْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ فِيمَا قُلْتُمْ فَاشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقِرُّوا بِمَا جَاءَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَرَجَعَتِ الْقُصَّادُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ
قَدْ أَسْلَمُوا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
فَإِذَا كَبَّرْنَا وَحَمَلْنَا عَلَى الْبَلَدِ اللَّيْلَةَ
فَأَمْسِكُوا عَلَيْنَا أَبْوَابَ السُّفُنِ، وَامْنَعُوهُمْ أن يركبوا
فيها، واقتلوا منهم من قدرتهم عَلَى قَتْلِهِ. ثُمَّ شَدَّ عَبْدُ
اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ،
وَحَمَلُوا عَلَى الْبَلَدِ فَكَبَّرَتِ الْأَعْرَابُ، مِنَ
النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَحَارَ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَأَخَذُوا فِي
الْخُرُوجِ مِنَ الْأَبْوَابِ الَّتِي تَلِي دِجْلَةَ، فَتَلَقَّتْهُمْ
إِيَادٌ وَالنَّمِرُ وَتَغْلِبُ، فَقَتَلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا،
وَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ بِأَصْحَابِهِ مِنَ
الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ فَقَتَلَ جَمِيعَ أَهْلِ الْبَلَدِ عَنْ
بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا مَنْ أَسْلَمِ مِنَ
الْأَعْرَابِ مِنْ إِيَادٍ وَتَغْلِبَ وَالنَّمِرِ، وَقَدْ كَانَ
عُمَرُ عَهِدَ فِي كِتَابِهِ إذا نصروا على تَكْرِيتَ أَنْ يَبْعَثُوا
رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ إِلَى الْحِصْنَيْنِ وَهِيَ الْمَوْصِلُ
سَرِيعًا، فَسَارَ إِلَيْهَا كَمَا أَمَرَ عُمَرُ، وَمَعَهُ سَرِيَّةٌ
كَثِيرَةٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الإبطال، فسار إليها حتى فجئها قَبْلَ
وُصُولِ الْأَخْبَارِ إِلَيْهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا أن واقفها حتى
أجابوا إلى الصلح فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّمَّةُ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ، ثم قسمت الْأَمْوَالُ الَّتِي تَحَصَّلَتْ مِنْ تَكْرِيتَ،
فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَسَهْمُ الرَّاجِلِ
أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَبَعَثُوا بِالْأَخْمَاسِ مَعَ فُرَاتِ بْنِ
حَيَّانَ، وَبِالْفَتْحِ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ، وَوَلِيَ
إِمْرَةَ حَرْبِ الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الْأَفْكَلِ، وَوَلِيَ
الْخَرَاجَ بِهَا عَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ.
فَتْحُ مَاسَبَذَانَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقَ
لَمَّا رَجَعَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ مِنْ جلولاء إلى عمر بالمدائن،
بَلَغَ سَعْدًا أَنَّ آذِينَ بْنَ الْهُرْمُزَانِ قَدْ جمع طَائِفَةً
مِنَ الْفُرْسِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
أَنِ ابْعَثْ جَيْشًا وَأَمِّرْ عليهم ضرار ابن الْخَطَّابِ. فَخَرَجَ
ضِرَارٌ فِي جَيْشٍ مَنَ الْمَدَائِنِ، وعلى مقدمته ابن الهزيل الأسدي،
فتقدم ابن الهزيل بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ، فَالْتَقَى مَعَ آذِينَ
وَأَصْحَابِهِ قبل وصول ضرار إليه، فكسر ابن الهزيل طَائِفَةَ
الْفُرْسِ، وَأُسِرَ آذينُ بْنُ الْهُرْمُزَانِ، وَفَرَّ عنه أصحابه،
وأمر ابن الهزيل فَضُرِبَ عُنُقُ آذِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاقَ
وَرَاءَ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَاسَبَذَانَ- وَهِيَ
مَدِينَةٌ كَبِيرَةٌ- فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَهَرَبَ أَهْلُهَا فِي
رُءُوسِ الجبال والشعاب، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَضَرَبَ
عَلَى مَنْ لَمْ يُسْلِمِ الْجِزْيَةَ، وَأَقَامَ نَائِبًا عَلَيْهَا
حَتَّى تَحَوَّلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ كَمَا
سَيَأْتِي.
(7/72)
فتح قرقيسيا وَهِيتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا رَجَعَ هَاشِمٌ مِنْ
جَلُولَاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ قَدْ
أَمَدُّوا أَهْلَ حِمْصَ عَلَى قِتَالِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَخَالِدٍ-
لَمَّا كَانَ هِرَقْلُ بِقِنَّسْرِينَ- وَاجْتَمَعَ أَهْلُ
الْجَزِيرَةِ فِي مَدِينَةِ هِيتَ، كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ فِي
ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، وأن يؤمر
عليهم عمر بن مالك ابن عُتْبَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ،
فَسَارَ فيمن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هِيتَ، فَوَجَدَهُمْ
قَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ حِينًا فَلَمْ يَظْفَرْ
بِهِمْ، فَسَارَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
محاصرة هيت الحارث ابن يزيد، فراح عمر بن مالك إلى قرقيسيا فَأَخَذَهَا
عَنْوَةً، وَأَنَابُوا إِلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَكَتَبَ إِلَى
نَائِبِهِ عَلَى هِيتَ: إِنْ لَمْ يُصَالِحُوا أَنْ يَحْفِرَ مِنْ
وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ خَنْدَقًا، وَيَجْعَلَ لَهُ أَبْوَابًا مِنْ
نَاحِيَتِهِ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ أَنَابُوا إِلَى
الْمُصَالَحَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْيَرْمُوكِ إِلَى قِنَّسْرِينَ فَصَالَحَ
أَهْلَ حَلَبَ، وَمَنْبِجَ، وَأَنْطَاكِيَةَ، عَلَى الْجِزْيَةِ.
وَفَتَحَ سَائِرَ بِلَادِ قِنَّسْرِينَ عَنْوَةً. قَالَ: وَفِيهَا
افْتُتِحَتْ سَرُوجُ وَالرُّهَا عَلَى يَدَيْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ.
قَالَ: وَفِيهَا فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ سَارَ أَبُو
عُبَيْدَةَ وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصر إيليا فَسَأَلُوا
الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَقْدَمَ عُمَرُ فَيُصَالِحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ،
فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ فَقَدِمَ حَتَّى صَالَحَهُمْ
وَأَقَامَ أَيَّامًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: قَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وفي هذه السنة حمى عمر الرَّبَذَة بخيل
الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا غَرَّبَ عُمَرُ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ
إِلَى بَاضِعٍ [1] ، وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ. قُلْتُ: الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ
الْجِسْرِ، وَكَانَ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ، وَهِيَ أُخْتُ الْمُخْتَارِ
بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ أَمِيرِ الْعِرَاقِ فِيمَا بَعْدُ، وَكَانَتِ
امْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَخُوهَا فَاجِرًا وَكَافِرًا أَيْضًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ.
قَالَ: وَكَانَ نَائِبَهُ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابٌ، وَعَلَى الشَّامِ
أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَلَى الْعِرَاقِ سَعْدٌ، وعلى الطائف عثمان ابن
أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى الْيَمَنِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى
الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى
عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةُ
بْنُ شُعْبَةَ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الْأَفْكَلِ،
وَعَلَى الْجَزِيرَةِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ-
أَعْنِي سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ- كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
التَّأْرِيخَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَهُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا
سَبَبَهُ فِي سِيرَةِ عُمَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى عُمَرَ
صَكٌّ مَكْتُوبٌ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي
شَعْبَانَ، فقال: أي شعبان؟ أمن هذه السنة
__________
[1] في الأصلين: الى ما صنع وحكاية نفيه معروفة. وباضع عين أو جزيرة
بساحل اليمن.
(7/73)
أَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَمِ الَّتِي بَعْدَهَا؟ ثُمَّ جَمَعَ
النَّاسَ فَقَالَ: ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَ فيه حُلُولَ
دُيُونِهِمْ.
فَيُقَالُ إِنَّهُمْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُؤَرِّخُوا كَمَا
تُؤَرِّخُ الْفُرْسُ بِمُلُوكِهِمْ، كُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ أَرَّخُوا
مِنْ تَارِيخِ وِلَايَةِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرِّخُوا بِتَارِيخِ الرُّومِ مِنْ زَمَانِ
إِسْكَنْدَرَ فَكَرِهُوا ذَلِكَ، وَلِطُولِهِ أَيْضًا. وَقَالَ
قَائِلُونَ: أَرِّخُوا مِنْ مَوْلِدِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ من مبعثه عليه السلام.
وَأَشَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخَرُونَ أَنْ يُؤَرَّخَ مِنْ
هِجْرَتِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِظُهُورِهِ لِكُلِّ
أَحَدٍ فَإِنَّهُ أَظْهَرُ مِنَ الْمَوْلِدِ وَالْمَبْعَثِ.
فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ، فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ
يُؤَرَّخَ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَرَّخُوا مِنْ أَوَّلِ تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ
مُحَرَّمِهَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فيما حكاه عن
السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَوَّلَ السَّنَةِ مِنْ رَبِيعٍ الأول
لقدومه عليه السلام إلى المدينة. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ
السَّنَةِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّهُ أَضْبَطُ لِئَلَّا تَخْتَلِفَ
الشُّهُورُ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ
الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سِتَّ
عَشْرَةَ- تُوُفِّيَتْ مَارِيَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ
يَجْمَعُ النَّاسَ لِشُهُودِ جِنَازَتِهَا، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَهِيَ مَارِيَةُ
الْقِبْطِيَّةُ، أَهْدَاهَا صَاحِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ- وَهُوَ
جُرَيْجُ بْنُ مِينَا- فِي جُمْلَةِ تُحَفٍ وَهَدَايَا لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَّلَ ذَلِكَ مِنْهُ،
وكان معها أختها شيرين الَّتِي وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ
ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ. وَيُقَالُ أَهْدَى
الْمُقَوْقِسُ معهما جاريتين أخرتين، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَتَا
خَادِمَتَيْنِ لِمَارِيَةَ وَسِيرِينَ. وَأَهْدَى مَعَهُنَّ غُلَامًا
خَصِيًّا اسْمُهُ مَأْبُورٌ، وَأَهْدَى مَعَ ذَلِكَ بَغْلَةً شَهْبَاءَ
اسْمُهَا الدُّلْدُلُ، وَأَهْدَى حُلَّةَ حَرِيرٍ مِنْ عَمَلِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَكَانَ قُدُومُ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ. فَحَمَلَتْ مَارِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَعَاشَ
عِشْرِينَ شَهْرًا، وَمَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَةٍ سَوَاءٍ. وَقَدْ حَزِنَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَكَى عَلَيْهِ
وَقَالَ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ
إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ
لَمَحْزُونُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ. وَكَانَتْ
مَارِيَةُ هَذِهِ مِنَ الصَّالِحَاتِ الْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ. وَقَدْ
حَظِيَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُعْجِبَ بِهَا، وَكَانَتْ جَمِيلَةً مُلَّاحَةً، أَيْ حُلْوَةً،
وَهِيَ تُشَابِهُ هَاجَرَ سُرِّيَّةَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا مِنْ دِيَارِ مِصْرَ وَتَسَرَّاهَا نَبِيٌّ كَرِيمٌ،
وَخَلِيلٌ جَلِيلٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. |