البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دخلت سنة سبع عشرة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا انْتَقَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ
الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ
اسْتَوْخَمُوا الْمَدَائِنَ، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَضَعُفَتْ
أَبْدَانُهُمْ، لِكَثْرَةِ ذُبَابِهَا وَغُبَارِهَا، فَكَتَبَ سَعْدٌ
إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: إِنَّ الْعَرَبَ لَا
تَصْلُحُ إِلَّا حَيْثُ يُوَافِقُ إِبِلَهَا. فَبَعَثَ سَعْدٌ حذيفة
وسلمان بن زياد يَرْتَادَانِ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْزِلًا مُنَاسِبًا
يَصْلُحُ لِإِقَامَتِهِمْ. فَمَرَّا عَلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ وَهِيَ
حَصْبَاءُ فِي رَمْلَةٍ حمراء،
(7/74)
فأعجبتهما ووجد لك ديرات ثلاث دَيْرُ
حُرَقَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ، وَدَيْرُ أُمِّ عَمْرٍو، وَدَيْرُ
سِلْسِلَةَ، وَبَيْنَ ذَلِكَ خِصَاصٌ خِلَالَ هَذِهِ الكوفة، فنزلا
فصليا لك وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: اللَّهُمَّ رَبَّ
السَّمَاءِ وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الريح وَمَا ذَرَتْ،
وَالنُّجُومِ وَمَا هَوَتْ، وَالْبِحَارِ وَمَا جَرَتْ،
وَالشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، وَالْخِصَاصِ وَمَا أَجَنَّتْ،
بَارِكْ لَنَا فِي هَذِهِ الْكُوفَةِ وَاجْعَلْهَا مَنْزِلَ ثَبَاتٍ.
ثُمَّ كَتَبَا إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَ سَعْدٌ بِاخْتِطَاطِ
الْكُوفَةِ، وَسَارَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي
مُحَرَّمِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ بِنَاءٍ وُضِعَ فِيهَا الْمَسْجِدُ.
وَأَمَرَ سَعْدٌ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ الرَّمْيِ، فَرَمَى مِنَ
الْمَسْجِدِ إِلَى الْأَرْبَعِ جِهَاتٍ فَحَيْثُ سَقَطَ سَهْمُهُ بَنَى
النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَعَمَّرَ قَصْرًا تِلْقَاءَ مِحْرَابِ
الْمَسْجِدِ لِلْإِمَارَةِ وَبَيْتَ الْمَالِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا
بَنَوُا الْمَنَازِلُ بِالْقَصَبِ، فَاحْتَرَقَتْ فِي أَثْنَاءِ
السَّنَةِ، فَبَنَوْهَا بِاللَّبِنِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ، بِشَرْطِ أَنْ
لَا يُسْرِفُوا وَلَا يُجَاوِزُوا الْحَدَّ. وَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى
الْأُمَرَاءِ وَالْقَبَائِلِ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَهُمُ
الْكُوفَةَ، وَأَمَرَ سَعْدٌ أَبَا هَيَّاجٍ الْمُوَكَّلَ بِإِنْزَالِ
النَّاسِ فِيهَا بِأَنْ يُعَمِّرُوا وَيَدَعُوا لِلطَّرِيقِ
الْمُنْهَجِ وُسْعَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. وَلِمَا دون ذلك ثلاثين
وعشرين ذِرَاعًا، وَلِلْأَزِقَّةِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ. وَبُنِيَ
لِسَعْدٍ قَصْرٌ قَرِيبٌ مِنَ السُّوقِ، فَكَانَتْ غَوْغَاءُ النَّاسِ
تَمْنَعُ سَعْدًا مِنَ الْحَدِيثِ، فَكَانَ يُغْلِقُ بَابَهُ
وَيَقُولُ: سَكِّنِ الصُّوَيْتَ فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مُسَلَّمَةَ،
فَأَمَرَهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ أَنْ يَقْدَحَ زِنَادَهُ
وَيَجْمَعَ حَطَبًا وَيَحْرِقَ بَابَ الْقَصْرِ ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ
فَوْرِهِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ
بِهِ عُمَرُ، وَأَمَرَ سَعْدًا أَنْ لَا يُغْلِقَ بَابَهُ عَنِ
النَّاسِ، وَلَا يَجْعَلَ عَلَى بَابِهِ أَحَدًا يَمْنَعُ النَّاسَ
عَنْهُ، فَامْتَثَلَ ذَلِكَ سَعْدٌ وَعَرَضَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ
مُسَلَّمَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ،
وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَمَرَّ سَعْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
الكوفة ثلاث سنين ونصف، حَتَّى عَزَلَهُ عَنْهَا عُمَرُ، مِنْ غَيْرِ
عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.
قِصَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَحَصْرِ الرُّومِ لَهُ بِحِمْصَ وَقُدُومِ
عُمَرَ إِلَى الشَّامِ أَيْضًا لِيَنْصُرَهُ
وَذَلِكَ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الرُّومِ عَزَمُوا عَلَى حِصَارِ أَبِي
عُبَيْدَةَ بِحِمْصَ، وَاسْتَجَاشُوا بِأَهْلِ الجزيرة، وخلق ممن لك،
وَقَصَدُوا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى خَالِدٍ
فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ قِنَّسْرِينَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ،
وَاسْتَشَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يُنَاجِزَ
الرُّومَ أَوْ يَتَحَصَّنَ بِالْبَلَدِ حَتَّى يَجِيءَ أَمْرُ عُمَرَ؟
فَكُلُّهُمْ أَشَارَ بِالتَّحَصُّنِ، إِلَّا خَالِدًا فَإِنَّهُ
أَشَارَ بِمُنَاجَزَتِهِمْ، فَعَصَاهُ وَأَطَاعَهُمْ. وَتَحَصَّنَ
بِحِمْصَ وَأَحَاطَ بِهِ الرُّومُ، وَكُلُّ بَلَدٍ مِنْ بُلْدَانِ
الشَّامِ مَشْغُولٌ أَهْلُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِمْ، وَلَوْ تَرَكُوا مَا
هُمْ فِيهِ وَأَقْبَلُوا إِلَى حِمْصَ لَانَخْرَمَ النِّظَامُ فِي
الشَّامِ كُلِّهِ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ أَنْ يَنْدُبَ
النَّاسَ مَعَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، وَيُسَيِّرَهُمْ إِلَى
حِمْصَ مِنْ يَوْمِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، نَجْدَةً لِأَبِي
عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ محصور، وكتب إليه أن يجهز حيشا إِلَى أَهْلِ
الْجَزِيرَةِ الَّذِينَ مَالَئُوا الرُّومَ عَلَى حِصَارِ أَبِي
عُبَيْدَةَ وَيَكُونَ أَمِيرَ الْجَيْشِ إِلَى الجزيرة عياض ابن
غَنْمٍ. فَخَرَجَ الْجَيْشَانِ مَعًا مِنَ الْكُوفَةِ، الْقَعْقَاعُ
فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ نَحْوَ حِمْصَ لِنَجْدَةِ أَبِي عبيدة،
(7/75)
وَخَرَجَ عُمَرُ بِنَفْسِهِ مِنَ
الْمَدِينَةِ لِيَنْصُرَ أَبَا عبيدة، فبلغ الجابية وقيل إنما بلغ سرع.
قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ الَّذِينَ مَعَ الرُّومِ عَلَى
حِمْصَ أَنَّ الْجَيْشَ قَدْ طَرَقَ بِلَادَهُمْ، انْشَمَرُوا إِلَى
بِلَادِهِمْ، وَفَارَقُوا الرُّومَ، وَسَمِعَتِ الرُّومُ بقدوم أمير
المؤمنين عمر لينصر نَائِبِهِ عَلَيْهِمْ فَضَعُفَ جَانِبُهُمْ جِدًّا.
وَأَشَارَ خَالِدٌ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِمْ
لِيُقَاتِلَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ، وَهُزِمَتِ الرُّومُ هَزِيمَةً فَظِيعَةً.
وَذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ، وَقَبْلَ وُصُولِ
الْأَمْدَادِ إِلَيْهِمْ بِثَلَاثِ لَيَالٍ. فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ
إِلَى عُمَرَ وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ يُخْبِرُهُ بِالْفَتْحِ وَأَنَّ
الْمَدَدَ وَصَلَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَسَأَلَهُ هَلْ
يُدْخِلُهُمْ فِي الْقَسْمِ مَعَهُمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ مَعَهُمْ فِي
الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا ضَعُفَ وَإِنَّمَا
انْشَمَرَ عَنْهُ الْمَدَدُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْهُمْ، فَأَشْرَكَهُمْ
أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: جَزَى اللَّهُ
أَهْلَ الْكُوفَةِ خَيْرًا يَحْمُونَ حَوْزَتَهُمْ وَيَمُدُّونَ أَهْلَ
الْأَمْصَارِ.
فَتْحُ الْجَزِيرَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السنة فتحت الجزائر فِيمَا قَالَهُ
سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ فَوَافَقَ سَيْفَ بْنَ عُمَرَ فِي كَوْنِهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ فِي
سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. سَارَ إِلَيْهَا عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ. وَفِي
صُحْبَتِهِ أَبُو مُوسَى الأشعري وعمر بن سعد ابن أَبِي وَقَّاصٍ،
وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرُ السِّنِّ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ. فَنَزَلَ الرُّهَا
فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، وَصَالَحَتْ حَرَّانُ عَلَى
ذَلِكَ. ثُمَّ بَعَثَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِلَى نَصِيبِينَ،
وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ، وَسَارَ بِنَفْسِهِ
إِلَى دَارَا، فَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْبُلْدَانُ، وَبَعَثَ عُثْمَانَ
بْنَ أَبِي الْعَاصِ إِلَى إِرْمِينِيَةَ، فَكَانَ عِنْدَهَا شَيْءٌ
مِنْ قِتَالٍ قُتِلَ فِيهِ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ
شَهِيدًا. ثُمَّ صَالَحَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى
الْجِزْيَةِ، عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ دِينَارٌ.
وَقَالَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بن عبد الله بن
غسان فسلك على رجليه حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَوْصِلِ فَعَبَرَ إِلَى
بَلَدٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَقُوهُ بِالصُّلْحِ
وَصَنَعُوا كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الرَّقَّةِ. وَبَعَثَ إِلَى عُمَرَ
بِرُءُوسِ النَّصَارَى مِنْ عَرَبِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ
لَهُمْ عُمَرُ: أَدُّوا الْجِزْيَةَ. فَقَالُوا: أَبْلِغْنَا
مَأْمَنَنَا فو الله لَئِنْ وَضَعْتَ عَلَيْنَا الْجِزْيَةَ
لَنَدْخُلَنَّ أَرْضَ الرُّومِ، وَاللَّهِ لَتَفْضَحُنَا مِنْ بَيْنِ
الْعَرَبِ. فَقَالَ لَهُمْ:
أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، وو الله لتؤدن الجزية وأنتم صغرة
قمئة، وَلَئِنْ هَرَبْتُمْ إِلَى الرُّومِ لَأَكْتُبَنَّ فِيكُمْ،
ثُمَّ لَأَسْبِيَنَّكُمْ. قَالُوا: فَخُذْ مِنَّا شَيْئًا وَلَا
تُسَمِّيهِ جِزْيَةً. فَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَنُسَمِّيهِ جِزْيَةً،
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَمُّوْهُ مَا شِئْتُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَمْ يُضْعِفُ عَلَيْهِمْ سَعْدٌ الصَّدَقَةَ؟
قَالَ: بَلَى: وَأَصْغَى إِلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشام فوصل إلى سرع
(7/76)
فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ،
وَقَالَ سَيْفٌ: وَصَلَ إِلَى الْجَابِيَةِ. قُلْتُ: وَالْأَشْهَرُ
أَنَّهُ وَصَلَ سرع، وَقَدْ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ، أَبُو
عُبَيْدَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ، إِلَى سرع فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ
بِالشَّامِ، فَاسْتَشَارَ عمر المهاجرين والأنصار فاحتلفوا عَلَيْهِ،
فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: أَنْتَ قَدْ جِئْتَ لِأَمْرٍ فَلَا تَرْجِعْ
عَنْهُ. وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: لَا نَرَى أَنْ تَقْدَمَ بِوُجُوهِ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
هَذَا الْوَبَاءِ. فَيُقَالُ إِنَّ عُمَرَ أَمَرَ النَّاسِ
بِالرُّجُوعِ مِنَ الْغَدِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مَنْ
قَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ! نَفِرُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ
لَوْ هَبَطْتَ وَادِيًا ذَا عُدْوَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ
وَالْأُخْرَى مُجْدِبَةٌ، فَإِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا
بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ أَنْتَ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا
بِقَدَرِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَالَ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا يَا أَبَا
عُبَيْدَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ وَهُوَ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مُتَغَيِّبًا
فِي بَعْضِ شَأْنِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ
ذَلِكَ عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِذَا سمعتم به بأرض قوم فَلَا تَقْدَمُوا
عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فيها فلا تَخْرُجُوا
فِرَارًا مِنْهُ. فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ- يَعْنِي لِكَوْنِهِ وَافَقَ
رَأْيَهُ- وَرَجَعَ بِالنَّاسِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا
وَكِيعٌ ثَنَا سُفْيَانُ بن حسين بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ سَعْدِ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالُوا: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا
الطَّاعُونَ رِجْزٌ وَبَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ
قَبْلَكُمْ، فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ أَنْتُمْ فيها فَلَا تَخْرُجُوا
مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا
تَدْخُلُوا عَلَيْهِ» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ
حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ويحيى بن سعيد عَنْ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ بِهِ. قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: كَانَ الْوَبَاءُ قَدْ
وَقَعَ بالشام في المحرم من هذه السنة ثُمَّ ارْتَفَعَ، وَكَأَنَّ
سَيْفًا يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الْوَبَاءَ هُوَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ،
الَّذِي هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ
الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ، بَلْ طَاعُونُ
عَمَوَاسَ مِنَ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَ هَذِهِ، كَمَا
سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ
عُمَرَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى
أَنْ يَطُوفَ الْبُلْدَانَ، وَيَزُورَ الْأُمَرَاءَ، وَيَنْظُرَ فِيمَا
اعْتَمَدُوهُ وَمَا آثَرُوا مِنَ الْخَيْرِ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ
الصَّحَابَةُ فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ ابْدَأْ بِالْعِرَاقِ، وَمِنْ
قَائِلٍ يَقُولُ بِالشَّامِ، فَعَزَمَ عُمَرُ عَلَى قُدُومِ الشَّامِ
لِأَجْلِ قَسْمِ مَوَارِيثِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
طَاعُونِ عَمَوَاسَ، فَإِنَّهُ أَشْكَلَ قَسْمُهَا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي
أَنَّ عُمَرَ عَزَمَ عَلَى قُدُومِ الشَّامِ بَعْدَ طَاعُونِ
عَمَوَاسَ، وَقَدْ كَانَ الطَّاعُونُ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ
كَمَا سَيَأْتِي، فَهُوَ قُدُومٌ آخر غير قدوم سرع. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ سَيْفٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَالرَّبِيعِ
بْنِ النُّعْمَانِ قَالُوا: قَالَ عُمَرُ: ضَاعَتْ مَوَارِيثُ النَّاسِ
بِالشَّامِ أَبْدَأُ بِهَا فَأُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ وَأُقِيمُ لَهُمْ
مَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَتَقَلَّبُ فِي الْبِلَادِ
وَأَنْبِذُ إِلَيْهِمْ أَمْرِي. قَالُوا: فَأَتَى عُمَرُ الشَّامَ
أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ،
وَمَرَّتَيْنِ فِي سنة سبع
(7/77)
عَشْرَةَ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا فِي
الْأُولَى مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ. وَهَذَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ
عَنْ سَيْفٍ أَنَّهُ يَقُولُ بِكَوْنِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي سَنَةِ
سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو
مَعْشَرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ
ثَمَانِي عَشْرَةَ. وَفِيهِ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ
وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعْيَانِ،
عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ طَاعُونَ عَمَوَاسَ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان
وغيرهم من أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ شعبة عن المختار بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَجَلِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْبَجَلِيِّ. قَالَ:
أَتَيْنَا أَبَا مُوسَى وَهُوَ فِي دَارِهِ بِالْكُوفَةِ لِنَتَحَدَّثَ
عِنْدَهُ فَلَمَّا جَلَسْنَا قَالَ: لَا تَحِفُّوا فَقَدْ أُصِيبَ فِي
الدَّارِ إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عَنْ هَذِهِ
الْقَرْيَةِ فَتَخْرُجُوا فِي فَسِيحِ بِلَادِكُمْ وَنُزَهِهَا، حَتَّى
يَرْتَفِعَ هَذَا الْبَلَاءُ، فَإِنِّي سَأُخْبِرُكُمْ بِمَا يُكْرَهُ
مِمَّا يُتَّقَى. مِنْ ذَلِكَ أَنْ يظن من خرج أنه لو قام مَاتَ،
وَيَظُنُّ مَنْ أَقَامَ فَأَصَابَهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ
يُصِبْهُ، فَإِذَا لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ هَذَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ
فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ وَأَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ، إِنِّي
كُنْتُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِالشَّامِ عَامَ
طَاعُونِ عَمَوَاسَ، فَلَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ وَبَلَغَ ذَلِكَ
عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ لِيَسْتَخْرِجَهُ مِنْهُ: أَنْ
سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَتْ لِي إِلَيْكَ
حَاجَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَشَافِهَكَ بِهَا، فَعَزَمْتُ عَلَيْكَ إِذَا
نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا أَنْ لَا تَضَعَهُ مِنْ يَدِكَ حَتَّى
تُقْبِلَ إِلَيَّ: قَالَ فَعَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا
أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ مِنَ الْوَبَاءِ. فَقَالَ: يَغْفِرُ
اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ إِلَيَّ، وَإِنِّي فِي
جُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا أَجِدُ بِنَفْسَيْ رَغْبَةً عَنْهُمْ،
فَلَسْتُ أُرِيدُ فِرَاقَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيَّ وَفِيهِمْ
أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ، فَخَلِّنِي من عزمتك يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَدَعْنِي فِي جُنْدِي. فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ
الْكِتَابَ بَكَى فَقَالَ النَّاسُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَاتَ
أَبُو عُبَيْدَةَ؟ قَالَ: لَا، وَكَأَنْ قَدْ. قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ
إِلَيْهِ «سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ أَنْزَلْتَ
النَّاسَ أَرْضًا عميقة فَارْفَعْهُمْ إِلَى أَرْضٍ مُرْتَفِعَةٍ
نَزِهَةٍ» قَالَ أَبُو موسى: فلما أتاه كتابه دعائي فَقَالَ: يَا أَبَا
مُوسَى، إِنَّ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ جَاءَنِي بِمَا
تَرَى، فَاخْرُجْ فَارْتَدْ لِلنَّاسِ مَنْزِلًا حَتَّى أَتْبَعَكَ
بِهِمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي لِأَرْتَحِلَ فَوَجَدْتُ
صَاحِبَتِي قَدْ أُصِيبَتْ، فَرَجَعْتُ إليه وقلت: وَاللَّهِ لَقَدْ
كَانَ فِي أَهْلِي حَدَثٌ.
فَقَالَ: لَعَلَّ صَاحِبَتَكَ قَدْ أُصِيبَتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،
فَأَمَرَ ببعير فَرُحِّلَ لَهُ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي غَرْزِهِ
طُعِنَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُصِبْتُ، ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ
حَتَّى نَزَلَ الْجَابِيَةَ وَرُفِعَ عَنِ النَّاسِ الْوَبَاءُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ
شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ رَابَةَ- رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ-. وَكَانَ
قَدْ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ طاعون
عمواس. قال: لما اشتعل الْوَجَعُ قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي
(7/78)
النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةٌ بِكُمْ وَدَعْوَةُ
نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا
عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ
حَظَّهُ، فَطُعِنَ، فَمَاتَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذَ بْنَ
جَبَلٍ، فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ. فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ
هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةٌ بِكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ
الصَّالِحِينَ قبلكم، وإن معاذا يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ
حظهم، فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَمَاتَ، ثُمَّ قَامَ
فَدَعَا لِنَفْسِهِ فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ
يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَقْلِبُ [1] ظَهْرَ كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ:
مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَا فِيكِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا
مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَامَ
فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا
يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ في الجبال. فقال
أبو وائل الْهُذَلِيُّ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حماري
هذا. فقال: والله ما أرد عليكم مَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ لَا
نُقِيمُ عَلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ
فَتَفَرَّقُوا وَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الخطاب من رأى عمرو بن العاص فو
الله مَا كَرِهَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى
عُمَرَ مُصَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،
أَمَّرَ مُعَاوِيَةَ عَلَى جُنْدِ دِمَشْقَ وَخَرَاجِهَا، وَأَمَّرَ
شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَلَى جُنْدِ الْأُرْدُنِّ وَخَرَاجِهَا.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شيوخه قالوا: لما كان طاعون عمواس وقع
مَرَّتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُمَا وَطَالَ مُكْثُهُ، وَفَنِيَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى طَمِعَ الْعَدُوُّ وَتَخَوَّفَتْ
قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلِهَذَا قَدِمَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّامِ
فَقَسَّمَ مَوَارِيثَ الَّذِينَ مَاتُوا لَمَّا أَشْكَلَ أَمْرُهَا
عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَطَابَتْ قُلُوبُ النَّاسِ بِقُدُومِهِ،
وَانْقَمَعَتِ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِمَجِيئِهِ إِلَى
الشَّامِ وللَّه الْحَمْدُ والمنة.
وَقَالَ سَيْفٌ بَعْدَ ذِكْرِهِ قُدُومَ عُمَرَ بَعْدَ طَاعُونِ
عَمَوَاسَ فِي آخِرِ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ
الْقُفُولَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا خَطَبَ
النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا
إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ فِي
الَّذِي وَلَّانِي اللَّهُ مِنْ أَمْرِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فبسطنا
بينكم فيئكم وَمَنَازِلَكُمْ وَمَغَازِيكُمْ، وَأَبْلَغْنَاكُمْ مَا
لَدَيْنَا، فَجَنَّدْنَا لَكُمُ الجنود، وهيأنا لكم العروج، وبوأنا
لكم، ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم وَمَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
شَامِكُمْ، وَسَمَّيْنَا لَكُمْ أَطَعِمَاتِكُمْ، وَأَمَرْنَا لَكُمْ
بِأُعْطِيَّاتِكُمْ وَأَرْزَاقِكُمْ وَمَغَانِمِكُمْ. فَمَنْ عَلِمَ
شَيْئًا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ فَلْيُعْلِمْنَا نَعْمَلْ بِهِ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه. قَالَ وَحَضَرَتِ
الصَّلَاةُ فَقَالَ النَّاسُ: لَوْ أَمَرْتَ بِلَالًا فَأَذَّنَ؟
فَأَمَرَهُ فَأَذَّنَ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ كَانَ أَدْرَكَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِلَّا
بَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، وَعُمَرُ أَشَدُّهُمْ بُكَاءً، وَبَكَى
مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ لِبُكَائِهِمْ وَلِذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ بْنِ
عُمَرَ عَنْ أَبِي المجالد أن عمر بن الخطاب
__________
[1] كذا بالنسختين. وفي الطبري: يقبل.
(7/79)
بَعَثَ يُنْكِرُ عَلَى خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ فِي دُخُولِهِ إِلَى الْحَمَّامِ، وَتَدُلِّكِهِ بَعْدَ
النُّورَةِ بِعُصْفُرٍ مَعْجُونٍ بِخَمْرٍ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهُ، كَمَا
حَرَّمَ ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ
الْخَمْرِ فلا تمسوها أجسامكم فَإِنَّهَا نَجَسٌ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ
فَلَا تَعُودُوا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِنَّا قَتَلْنَاهَا
فَعَادَتْ غَسُولًا غَيْرَ خَمْرٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي
أَظُنُّ أَنَّ آلَ الْمُغِيرَةِ قَدِ ابْتُلُوا بِالْجَفَاءِ فَلَا
أَمَاتَكُمُ الله عليه فانتهى لذلك.
قَالَ سَيْفٌ: وَأَصَابَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ تِلْكَ السَّنَةِ طَاعُونٌ
أَيْضًا فَمَاتَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، رحمهم الله ورضى الله
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَالُوا: وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فِي
سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَمْ يرجع منهم إلا أربعة.
فقال المهاجرين خَالِدٍ فِي ذَلِكَ.
مَنْ يَسْكُنِ الشَّامَ يُعَرَّسْ بِهِ ... وَالشَّامُ إِنْ لَمْ
يُفْنِنَا كَارِبُ
أَفْنَى بَنِي رَيْطَةَ فُرْسَانُهُمْ ... عِشْرُونَ لَمْ يُقْصَصْ
لَهُمْ شَارِبُ
وَمِنْ بَنِي أَعْمَامِهِمْ مِثْلَهُمْ ... لِمِثْلِ هَذَا يَعْجَبُ
الْعَاجِبُ
طَعْنًا وَطَاعُونًا مَنَايَاهُمُ ... ذَلِكَ مَا خط لنا الكاتب
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ فِيهَا عُزِلَ خَالِدٌ عَنْ قِنَّسْرِينَ أَيْضًا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَدْرَبَ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ وَعِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، أَيْ سَلَكَا دَرْبَ الرُّومِ
وَأَغَارَا عَلَيْهِمْ، فَغَنِمُوا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَسَبَيَا
كَثِيرًا. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
وَأَبِي حَارِثَةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي الْمُجَالِدِ. قَالُوا: لَمَّا
رَجَعَ خَالِدٌ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ مِنَ الصَّائِفَةِ
انْتَجَعَهُ النَّاسُ يَبْتَغُونَ رِفْدَهُ وَنَائِلَهُ، فَكَانَ
مِمَّنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَأَجَازَهُ
بِعَشَرَةِ آلَافٍ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي
عُبَيْدَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُقِيمَ خَالِدًا وَيَكْشِفَ عِمَامَتَهُ
وَيَنْزِعَ عَنْهُ قَلَنْسُوَتَهُ وَيُقَيِّدَهُ بِعِمَامَتِهِ
وَيَسْأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْعَشْرَةِ آلَافٍ، إِنْ كَانَ أَجَازَهَا
الْأَشْعَثَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ سَرَفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ
الصَّائِفَةِ فَهِيَ خِيَانَةٌ ثُمَّ اعْزِلْهُ عَنْ عَمَلِهِ.
فَطَلَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ خَالِدًا وَصَعِدَ أَبُو عُبَيْدَةَ
الْمِنْبَرَ، وَأُقِيمَ خَالِدٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ، وَقَامَ
إليه بلال ففعل مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ والبريد
الَّذِي قَدِمَ بِالْكِتَابِ. هَذَا وَأَبُو عُبَيْدَةَ سَاكِتٌ لَا
يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ نَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَاعْتَذَرَ إِلَى خَالِدٍ
مِمَّا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَعَذَرَهُ خَالِدٌ
وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ
إِلَى قِنَّسْرِينَ فَخَطَبَ أَهْلَ الْبَلَدِ وَوَدَّعَهُمْ، وَسَارَ
بِأَهْلِهِ إِلَى حِمْصَ فَخَطَبَهُمْ أَيْضًا وَوَدَّعَهُمْ وَسَارَ
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ أَنْشَدَ
عُمَرُ قَوْلَ الشَّاعِرِ
صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعُ ... وَمَا يَصْنَعُ
الْأَقْوَامُ فاللَّه صَانِعُ
ثُمَّ سَأَلَهُ مَنْ أَيْنَ هَذَا الْيَسَارُ الَّذِي تُجِيزُ مِنْهُ
بِعَشَرَةِ آلَافٍ؟ فَقَالَ: مِنَ الْأَنْفَالِ وَالسُّهْمَانِ. قَالَ:
(7/80)
فَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ أَلْفًا
فَلَكَ، ثُمَّ قَوَّمَ أَمْوَالَهُ وَعُرُوضَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ
عِشْرِينَ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ عَلَيَّ لَكَرِيمٌ،
وَإِنَّكَ إِلَيَّ لَحَبِيبٌ، وَلَنْ تَعْمَلَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ
عَلَى شَيْءٍ.
وَقَالَ سَيْفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ عَدِيِّ بْنِ سَهْلٍ. قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْأَمْصَارِ:
إِنِّي لَمْ أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سُخْطَةٍ وَلَا خِيَانَةٍ،
وَلَكِنَّ النَّاسَ فُتِنُوا بِهِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ. ثُمَّ رَوَاهُ سَيْفٌ عَنْ مُبَشِّرٍ عَنْ
سَالِمٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اعْتَمَرَ عُمَرُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا،
وَعَمَّرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ
الْحَرَمِ، أَمَرَ بِذَلِكَ لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَزْهَرَ
بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَسَعِيدِ
بْنِ يَرْبُوعٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي كثير بن عبد الله
المري عن أبيه عن جده قال: قدم عُمَرَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ سَنَةَ
سَبْعَ عَشْرَةَ، فمر في الطريق فَكَلَّمَهُ أَهْلُ الْمِيَاهِ أَنْ
يَبْنُوا مَنَازِلَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ- وَلَمْ يَكُنْ
قَبْلَ ذَلِكَ بِنَاءٌ- فَأَذِنَ لَهُمْ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ
ابْنَ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالظِّلِّ وَالْمَاءِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بِأُمِّ كُلْثُومٍ
بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، مِنْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ بِهَا فِي ذِي
القعدة. وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسندة صِفَةَ تَزْوِيجِهِ بِهَا
وَأَنَّهُ أَمْهَرَهَا أَرْبَعِينَ الْفًا، وَقَالَ إِنَّمَا
تَزَوَّجْتُهَا لِقَوْلِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَلَّى عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ الْبَصْرَةَ، وَأَمَرَهُ
أَنْ يُشْخِصَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ فِيمَا حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ عَنِ
الزَّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:
أَبُو بَكْرَةَ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ البجلي، ونافع بن عبيد،
وَزِيَادٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَسَيْفٌ هَذِهِ الْقِصَّةَ
وَمُلَخَّصُهَا: أَنَّ امْرَأَةً كَانَ يُقَالُ لَهَا أُمُّ جميل بنت
الأفقم، من نساء بن عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَيُقَالُ مِنْ نِسَاءِ
بَنِي هِلَالٍ. وَكَانَ زَوْجُهَا مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ تُوُفِّيَ
عَنْهَا، وَكَانَتْ تَغْشَى نِسَاءَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ،
وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى بَيْتِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَهُوَ
أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، وَكَانَتْ دَارُ الْمُغِيرَةِ تُجَاهَ دَارِ
أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا الطَّرِيقُ، وَفِي دَارِ أَبِي
بَكْرَةَ كُوَّةٌ تُشْرِفُ عَلَى كُوَّةٍ فِي دَارِ الْمُغِيرَةِ،
وَكَانَ لَا يَزَالُ بَيْنَ الْمُغِيرَةِ وبين أبى بكرة شنئان.
فَبَيْنَمَا أَبُو بَكْرَةَ فِي دَارِهِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ
يَتَحَدَّثُونَ فِي الْعُلِّيَّةِ، إِذْ فَتَحَتِ الرِّيحُ بَابَ
الكوفة، فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيُغْلِقَهَا، فَإِذَا كُوَّةُ
الْمُغِيرَةِ مَفْتُوحَةٌ، وَإِذَا هُوَ عَلَى صَدْرِ امْرَأَةٍ
وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا، وَهُوَ يُجَامِعُهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ
لِأَصْحَابِهِ: تَعَالَوْا فَانْظُرُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ يَزْنِي
بِأُمِّ جَمِيلٍ. فَقَامُوا فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَهُوَ يُجَامِعُ
تِلْكَ الْمَرْأَةَ، فَقَالُوا لِأَبِي بَكْرَةَ: وَمَنْ أَيْنَ قُلْتَ
إِنَّهَا أُمُّ جَمِيلٍ؟ - وَكَانَ رَأْسَاهُمَا مِنَ الْجَانِبِ
الْآخَرِ-. فَقَالَ: انْتَظِرُوا، فَلَمَّا فَرَغَا قَامَتِ
الْمَرْأَةُ فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: هَذِهِ أُمُّ جَمِيلٍ.
فَعَرَفُوهَا فِيمَا يَظُنُّونَ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ- وَقَدِ
اغْتَسَلَ- لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مَنَعَهُ أَبُو بَكْرَةَ أَنْ
يَتَقَدَّمَ. وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَوَلَّى عُمَرُ
أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ. وَعَزَلَ
الْمُغِيرَةَ، فسار إلى البصرة فنزل
(7/81)
البرد. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: وَاللَّهِ
مَا جَاءَ أَبُو مُوسَى تَاجِرًا وَلَا زَائِرًا وَلَا جَاءَ إِلَّا
أَمِيرًا. ثُمَّ قَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى النَّاسِ وَنَاوَلَ المغيرة
كتابا من عمر هو أوجز كتابه فِيهِ «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي
نَبَأٌ عَظِيمٌ فَبَعَثْتُ أَبَا مُوسَى أَمِيرًا فَسَلِّمْ مَا فِي
يَدَيْكَ وَالْعَجَلَ» وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ: إِنِّي قَدْ
وَلَّيْتُ عَلَيْكُمْ أَبَا مُوسَى لِيَأْخُذَ مِنْ مِنْ قَوِيِّكُمْ
لِضَعِيفِكُمْ، وَلِيُقَاتِلَ بِكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَلِيَدْفَعَ عن
دينكم وليجبى لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم.
وَأَهْدَى الْمُغِيرَةُ لِأَبِي مُوسَى جَارِيَةً مِنْ مُوَلَّدَاتِ
الطَّائِفِ تُسَمَّى عَقِيلَةَ وَقَالَ: إِنِّي رَضِيتُهَا لَكَ،
وَكَانَتْ فَارِهَةً. وَارْتَحَلَ الْمُغِيرَةُ وَالَّذِينَ شَهِدُوا
عَلَيْهِ وَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ، وَزِيَادُ
بن أمية، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ. فَلَمَّا قَدِمُوا
عَلَى عُمَرَ جَمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ
الْمُغِيرَةُ: سَلْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ كَيْفَ رَأَوْنِي؟
مُسْتَقْبِلَهُمْ أَوْ مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فَإِنْ
كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ فَكَيْفَ لَمْ يَسْتَتِرُوا؟
أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ فَكَيْفَ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ فِي مَنْزِلِي
عَلَى امْرَأَتِي؟ وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُ إِلَّا امْرَأَتِي وَكَانَتْ
تشبهها.
فَبَدَأَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ
بَيْنَ رِجْلَيْ أُمِّ جَمِيلٍ وَهُوَ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ
كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَهُمَا؟ قال:
مستدبرهما. قال: فكيف استبنت رأسها قال: تحاملت. ثم دعا شبل ابن
مَعْبَدٍ فَشَهِدَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ اسْتَقْبَلْتَهُمَا أَمِ
اسْتَدْبَرْتَهُمَا؟ قَالَ: اسْتَقْبَلْتُهُمَا. وَشَهِدَ نَافِعٌ
بِمِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ بِمِثْلِ
شَهَادَتِهِمْ. قَالَ: رَأَيْتُهُ جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيِ امْرَأَةٍ
فَرَأَيْتُ قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ يَخْفِقَانِ وَاسْتَيْنِ
مَكْشُوفَتَيْنِ، وَسَمِعْتُ حَفَزَانًا شَدِيدًا. قَالَ: هَلْ
رَأَيْتَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ؟
قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ
أُشَبِّهُهَا. قَالَ: فَتَنَحَّ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَبَّرَ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ أَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا.
الْحَدَّ وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الْكاذِبُونَ 24: 13
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: اشْفِنِي مِنَ الْأَعْبُدِ. قَالَ: اسْكُتْ أسكت
الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بِأَحْجَارِكَ.
فَتْحُ الْأَهْوَازِ وَمَنَاذِرَ وَنَهْرِ تِيرَى
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
سِتَّ عَشْرَةَ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّ
الْهُرْمُزَانَ كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَقَالِيمِ
وَكَانَ مِمَّنْ فَرَّ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْفُرْسِ،
فَجَهَّزَ أَبُو مُوسَى مِنَ الْبَصْرَةِ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ
مِنَ الْكُوفَةِ جَيْشَيْنِ لِقِتَالِهِ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ
عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ مَا بَيْنَ دِجْلَةَ إِلَى دُجَيْلٍ،
وَغَنِمُوا مِنْ جَيْشِهِ مَا أَرَادُوا، وَقَتَلُوا مَنْ أَرَادُوا،
ثُمَّ صَانَعَهُمْ وَطَلَبَ مُصَالَحَتَهُمْ عَنْ بَقِيَّةِ بِلَادِهِ،
فَشَاوَرَا فِي ذَلِكَ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ فَصَالَحَهُ، وَبَعَثَ
بِالْأَخْمَاسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ، وَبَعَثَ وَفْدًا فِيهِمُ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ. فَأُعْجِبَ عُمَرُ بِهِ وَحَظِيَ عِنْدَهُ.
وَكَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ يُوصِيهِ بِهِ وَيَأْمُرُهُ بِمُشَاوَرَتِهِ
وَالِاسْتِعَانَةِ بِرَأْيِهِ. ثُمَّ نَقَضَ الْهُرْمُزَانُ الْعَهْدَ
وَالصُّلْحَ، وَاسْتَعَانَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ، وَغَرَّتْهُ
نَفْسُهُ، وَحَسَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ عَمَلَهُ فِي ذَلِكَ. فَبَرَزَ
إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَنُصِرُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوا مِنْ جيشه جما
(7/82)
غفيرا، وخلقا كثيرا، وجمعا عظيما،
وَاسْتَلَبُوا مِنْهُ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ
إِلَى تُسْتَرَ، فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَبَعَثُوا إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ الْأُسُودُ بْنُ سَرِيعٍ فِي ذَلِكَ- وَكَانَ صَحَابِيًّا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
لَعَمْرُكَ ما أضاع بنو أبينا ... ولكن حافظوا فيمن يطيعوا
أطاعوا ربهم وعصاه قوم ... أضاعوا أمره فيمن يُضِيعُ
مَجُوسٌ لَا يُنَهْنِهُهَا كِتَابٌ ... فَلَاقَوْا كَبَّةً فِيهَا
قُبُوعُ
وَوَلَّى الْهُرْمُزَانُ عَلَى جَوَادٍ ... سَرِيعِ الشَّدِّ
يَثْفِنُهُ الْجَمِيعُ
وَخَلَّى سُرَّةَ الْأَهْوَازِ كَرْهًا ... غَدَاةَ الْجِسْرِ إِذْ
نَجَمَ الرَّبِيعُ
وَقَالَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ وَكَانَ صَحَابِيًّا
أَيْضًا:
غَلَبْنَا الْهُرْمُزَانَ عَلَى بِلَادٍ ... لَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ
ذَخَائِرْ
سَوَاءٌ بَرُّهُمْ وَالْبَحْرُ فِيهَا ... إِذَا صَارَتْ نَوَاحِيهَا
بَوَاكِرْ
لَهَا بَحْرٌ يَعُجُّ بِجَانِبَيْهِ ... جَعَافِرُ لَا يَزَالُ لَهَا
زَوَاخِرْ
فَتْحُ تُسْتَرَ الْمَرَّةُ الْأُولَى صُلْحًا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي قَوْلِ
سَيْفٍ وَرِوَايَتِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ
وَقَالَ غيره: كانت فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِهَا، ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ
سَيْفٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وعمرو قالوا: ولما
افْتَتَحَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ سُوقَ الْأَهْوَازِ، وَفَرَّ
الْهُرْمُزَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَعَثَ فِي إِثْرِهِ جَزْءَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ- وَذَلِكَ عَنْ كِتَابِ عُمَرَ بِذَلِكَ- فَمَا زَالَ
جَزْءٌ يَتْبَعُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَتَحَصَّنَ
الْهُرْمُزَانُ فِي بِلَادِهَا، وَأَعْجَزَ جَزْءًا تَطَلُّبُهُ،
وَاسْتَحْوَذَ جَزْءٌ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ
وَالْأَرَاضِي، فَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا، وَعَمَّرَ
عَامِرَهَا، وَشَقَّ الْأَنْهَارَ إِلَى خَرَابِهَا وَمَوَاتِهَا:
فَصَارَتْ فِي غَايَةِ الْعِمَارَةِ وَالْجَوْدَةِ. وَلَمَّا رَأَى
الْهُرْمُزَانُ ضِيقَ بلاده عليه لمجاورة الْمُسْلِمِينَ، طَلَبَ مِنْ
جَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُصَالَحَةَ، فَكَتَبَ إِلَى حُرْقُوصٍ،
فَكَتَبَ حُرْقُوصٌ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَكَتَبَ عُتْبَةُ
إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ. فَجَاءَ الْكِتَابُ الْعُمَرِيُّ
بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى رَامَهُرْمُزَ، وتستر، وجندسابور، وَمَدَائِنَ
أُخَرَ مَعَ ذَلِكَ. فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ
بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ذِكْرُ غَزْوِ بِلَادِ فَارِسَ مِنْ نَاحِيَةِ البحرين
(فيما حكاه ابن جرير عن سيف في هذه السنة) وَذَلِكَ أَنَّ الْعَلَاءَ
بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَانَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فِي أَيَّامِ
الصِّدِّيقِ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ عَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّاهَا
لِقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ. ثُمَّ أَعَادَ الْعَلَاءَ بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ إِلَيْهَا. وَكَانَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ
يُبَارِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ. فَلَمَّا افْتَتَحَ سَعْدٌ
الْقَادِسِيَّةَ، وَأَزَاحَ كِسْرَى عَنْ دَارِهِ، وَأَخَذَ حُدُودَ
مَا يَلِي السَّوَادَ، وَاسْتَعْلَى
(7/83)
وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرميّ
مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرَيْنِ. فَأَحَبَّ الْعَلَاءُ أَنْ يَفْعَلَ
فِعْلًا فِي فَارِسَ نَظِيرَ مَا فَعَلَهُ سَعْدٌ فِيهِمْ، فَنَدَبَ
النَّاسَ إِلَى حَرْبِهِمْ، فَاسْتَجَابَ لَهُ أَهْلُ بِلَادِهِ،
فَجَزَّأَهُمْ أَجْزَاءً، فَعَلَى فِرْقَةٍ الْجَارُودُ بْنُ
الْمُعَلَّى، وَعَلَى الْأُخْرَى السَّوَّارُ بْنُ هَمَّامٍ، وَعَلَى
الْأُخْرَى خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، وَخُلَيْدٌ هُوَ
أَمِيرُ الْجَمَاعَةِ. فَحَمَلَهُمْ فِي الْبَحْرِ إِلَى فَارِسَ،
وَذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ عُمَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ- وَكَانَ عُمَرُ
يَكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبَا بكر ما أَغْزَيَا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ- فَعَبَرَتْ
تِلْكَ الْجُنُودُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى فَارِسَ، فَخَرَجُوا مِنْ
عِنْدِ إِصْطَخْرَ فَحَالَتْ فَارِسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سُفُنِهِمْ،
فَقَامَ فِي النَّاسِ خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ
بِصَنِيعِهِمْ هَذَا مُحَارَبَتَكُمْ، وأنتم جِئْتُمْ
لِمُحَارَبَتِهِمْ، فَاسْتَعِينُوا باللَّه وَقَاتِلُوهُمْ، فَإِنَّمَا
الْأَرْضُ وَالسُّفُنُ لِمَنْ غَلَبَ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ 2: 45
فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَصَلُّوا الظُّهْرَ ثُمَّ نَاهَدُوهُمْ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ يُدْعَى
طَاوُسَ، ثُمَّ أَمَرَ خُلَيْدٌ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَجَّلُوا
وَقَاتَلُوا فَصَبَرُوا، ثُمَّ ظَفِرُوا فَقَتَلُوا فَارِسَ مَقْتَلَةً
لَمْ يُقْتَلُوا قَبْلَهَا مِثْلَهَا. ثُمَّ خَرَجُوا يُرِيدُونَ
الْبَصْرَةَ فَغَرِقَتْ بِهِمْ سُفُنُهُمْ، وَلَمْ يَجِدُوا إِلَى
الرُّجُوعِ فِي الْبَحْرِ سَبِيلًا وَوَجَدُوا شَهْرَكَ فِي أَهْلِ
إِصْطَخْرَ قَدْ أَخَذُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالطُّرُقِ،
فَعَسْكَرُوا وَامْتَنَعُوا مِنَ الْعَدُوِّ. وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ
ما صُنْعُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، اشْتَدَّ غَضَبُهُ
عَلَيْهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ فَعَزَلَهُ وَتَوَعَّدَهُ، وَأَمَرَهُ
بِأَثْقَلِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ، وَأَبْغَضِ الْوُجُوهِ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: الْحَقْ بِسَعْدِ بن أبى وقاص [فَخَرَجَ الْعَلَاءُ إِلَى
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ [1] و [2]] مُضَافًا إِلَيْهِ، وَكَتَبَ
عُمَرُ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ: إِنَّ الْعَلَاءَ بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ خَرَجَ بِجَيْشٍ فَأَقْطَعَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ
وَعَصَانِي، وَأَظُنُّهُ لَمْ يُرِدِ اللَّهَ بِذَلِكَ، فَخَشِيتُ
عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُنْصَرُوا، أَنْ يُغْلَبُوا وَيُنْشَبُوا،
فَانْدُبْ إِلَيْهِمُ النَّاسَ وَاضْمُمْهُمْ إليك من قبل أن يحتاجوا.
فَنَدَبَ عُتْبَةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْبَرَهُمْ بِكِتَابِ عُمَرَ
إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَانْتَدَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
الْأَبْطَالِ، منهم هاشم بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو،
وَعَرْفَجَةُ بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، والأخنف بْنُ قَيْسٍ،
وَغَيْرُهُمْ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ الْفًا. وَعَلَى الْجَمِيعِ أَبُو
سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ. فَخَرَجُوا عَلَى الْبِغَالِ يَجْنُبُونَ
الْخَيْلَ سِرَاعًا، فَسَارُوا عَلَى السَّاحِلِ لَا يَلْقَوْنَ
أَحَدًا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَلَاءِ، وَبَيْنَ أَهْلِ
فَارِسَ بِالْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِطَاوُسَ، وَإِذَا خُلَيْدُ بْنُ
الْمُنْذِرِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَحْصُورُونَ قَدْ
أَحَاطَ بِهِمُ الْعَدُوُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَدْ تَدَاعَتْ
عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَكَامَلَتْ
أَمْدَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِتَالُ. فَقَدِمَ
الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ فِي أَحْوَجِ مَا هُمْ فِيهِ إِلَيْهِمْ،
فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُشْرِكِينَ رَأْسًا، فَكَسَرَ أَبُو سَبْرَةَ
الْمُشْرِكِينَ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً
عَظِيمَةً جِدًّا، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً بَاهِرَةً،
وَاسْتَنْقَذَ خُلَيْدًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
أيديهم، وأعز به الإسلام وأهله، ودفع
__________
[1] بياض بالنسخة المصرية.
[2] زيادة بالمصرية.
(7/84)
الشِّرْكَ وَذَلَّهُ وللَّه الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ ثُمَّ عَادُوا إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ إِلَى
الْبَصْرَةِ.
وَلَمَّا اسْتَكْمَلَ عُتْبَةُ فَتْحَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ،
اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَأَذِنَ لَهُ فَسَارَ إِلَى الْحَجِّ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ أَبَا سَبْرَةَ بْنَ أَبِي رُهْمٍ،
وَاجْتَمَعَ بِعُمَرَ فِي الْمَوْسِمِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يقيله فلم
يفعل، وأقسم عليه لَيَرْجِعَنَّ إِلَى عَمَلِهِ. فَدَعَا عُتْبَةُ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَمَاتَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ
مِنَ الحج، فتأثر عَلَيْهِ عُمَرُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا،
وَوَلَّى بَعْدَهُ بِالْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ،
فَوَلِيَهَا بَقِيَّةَ تِلْكَ السَّنَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، لَمْ
يَقَعْ فِي زَمَانِهِ حَدَثٌ، وَكَانَ مَرْزُوقَ السَّلَامَةِ فِي
عَمَلِهِ. ثُمَّ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَبِي
بكرة فكان من أَمْرُهُ مَا قَدَّمْنَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهَا أَبَا
مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَالِيًا عَلَيْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
ذِكْرُ فَتْحِ تُسْتَرَ ثَانِيَةً عَنْوَةً وَالسُّوسِ وَرَامَهُرْمُزَ
وَأَسْرِ الْهُرْمُزَانِ وَبَعْثِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رِوَايَةِ
سَيْفِ بْنِ عُمَرَ التَّمِيمِيِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
يَزْدَجِرْدَ كَانَ يُحَرِّضُ أَهْلَ فَارِسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ
وَيُؤَنِّبُهُمْ بِمَلْكِ الْعَرَبِ بِلَادَهُمْ وَقَصْدِهِمْ
إِيَّاهُمْ فِي حُصُونِهِمْ فَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْأَهْوَازِ
وَأَهْلِ فَارِسَ فَتَحَرَّكُوا وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى
حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَقْصِدُوا الْبَصْرَةَ. وَبَلَغَ
الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ- وَهُوَ بِالْكُوفَةِ-
أَنِ ابْعَثْ جيشا كَثِيفًا إِلَى الْأَهْوَازِ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ
مُقَرِّنٍ وَعَجِّلْ وَلْيَكُونُوا بِإِزَاءِ الْهُرْمُزَانِ، وَسَمَّى
رِجَالًا مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ يَكُونُونَ فِي
هَذَا الْجَيْشِ، مِنْهُمْ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ،
وَجَرِيرُ بن عبد الله الحميري، والنعمان بن مقرن، وَسُوَيْدُ بْنُ
مُقَرِّنٍ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي السَّهْمَيْنِ. وَكَتَبَ عُمَرُ
إِلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ أَنِ ابْعَثْ إِلَى
الْأَهْوَازِ جُنْدًا كَثِيفًا وَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ سُهَيْلَ بْنَ
عَدِيٍّ، وَلْيَكُنْ مَعَهُ البراء بن مالك، وعاصم ابن عمرو، ومجزأة بن
ثور، وكعب بن ثور، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ
مِحْصَنٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ
مَعْبَدٍ. وَلْيَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ
جَمِيعًا أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ
أَتَاهُ مِنَ الْمَدَدِ. قَالُوا: فَسَارَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ
بِجَيْشِ الْكُوفَةِ فَسَبَقَ الْبَصْرِيِّينَ فَانْتَهَى إِلَى
رَامَهُرْمُزَ وَبِهَا الْهُرْمُزَانُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ
الْهُرْمُزَانُ فِي جُنْدِهِ وَنَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَبَادَرَهُ طَمَعًا أَنْ يَقْتَطِعَهُ قَبْلَ مَجِيءِ
أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَجَاءَ أَنْ يَنْصُرَ أَهْلَ
فَارِسَ، فالتقى معه النعمان بن مقرن بأربل، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَهُزِمَ الْهُرْمُزَانُ وَفَرَّ إِلَى تَسْتُرَ، وَتَرَكَ
رَامَهُرْمُزَ فَتَسَلَّمَهَا النُّعْمَانُ عَنْوَةً وَأَخَذَ مَا
فِيهَا مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالذَّخَائِرِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَدِ.
فلما وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِمَا صَنَعَ الكوفيون
بالهرمزان وأنه فَرَّ فَلَجَأَ إِلَى تَسْتُرَ، سَارُوا إِلَيْهَا
وَلَحِقَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ حَتَّى أَحَاطُوا بِهَا فَحَاصَرُوهَا
جَمِيعًا، وَعَلَى الْجَمِيعِ أَبُو سَبْرَةَ [فَوَجَدُوا
الْهُرْمُزَانَ قَدْ حَشَدَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمًّا
غَفِيرًا. وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ أَنْ
يُمِدَّهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ.
فَسَارَ إِلَيْهِمْ- وَكَانَ أَمِيرَ أَهْلِ
(7/85)
الْبَصْرَةِ وَاسْتَمَرَّ أَبُو سَبْرَةَ]
[1] عَلَى الْإِمْرَةِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ،
فَحَاصَرَهُمْ أَشْهُرًا وَكَثُرَ الْقَتْلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ،
وَقَتَلَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ أخو أنس بن مالك يومئذ مائة مبارز
سِوَى مَنْ قَتَلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ كعب بن ثور،
ومجزأة بن ثور، وأبو يمامة [2] وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ،
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ قَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِائَةً
مُبَارَزَةً كَحَبِيبِ بْنِ قُرَّةَ، وَرِبْعِيِّ بْنِ عَامِرٍ،
وَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ وَقَدْ تَزَاحَفُوا أَيَّامًا
مُتَعَدِّدَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ زَحْفٍ قَالَ
الْمُسْلِمُونَ لِلْبَرَاءِ، بْنِ مَالِكٍ- وَكَانَ مُجَابَ
الدَّعْوَةِ-: يَا بَرَاءُ أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ لَيَهْزِمَنَّهُمْ
لَنَا. فَقَالَ: اللَّهمّ اهمزهم لَنَا، وَاسْتَشْهِدْنِي قَالَ:
فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ خَنَادِقَهُمْ
وَاقْتَحَمُوهَا عَلَيْهِمْ، وَلَجَأَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْبَلَدِ
فَتَحَصَّنُوا بِهِ، وَقَدْ ضَاقَتْ بِهِمُ الْبَلَدُ، وَطَلَبَ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الْأَمَانَ مِنْ أَبِي مُوسَى فَأَمَّنَهُ،
فَبَعَثَ يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَكَانٍ يَدْخُلُونَ مِنْهُ
إِلَى الْبَلَدِ، وَهُوَ مِنْ مَدْخَلِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، فَنَدَبَ
الْأُمَرَاءُ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ فانتدب رِجَالٌ مِنَ الشُّجْعَانِ
وَالْأَبْطَالِ، وَجَاءُوا فَدَخَلُوا مَعَ الْمَاءِ- كَالْبَطِّ-
إِلَى الْبَلَدِ، وَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، فيقال كان أول من دخلها
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، وَجَاءُوا إِلَى
الْبَوَّابِينَ فَأَنَامُوهُمْ وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَكَبَّرَ
الْمُسْلِمُونَ فَدَخَلُوا الْبَلَدَ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ
إِلَى أَنْ تَعَالَى النَّهَارُ، وَلَمْ يُصَلُّوا الصُّبْحَ
يَوْمَئِذٍ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [كَمَا حَكَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ
تُسْتَرَ، وذلك عند صلاة الْفَجْرِ، فَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْفَتْحِ
فَمَا صَلَّوُا الصُّبْحَ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ] [3] فَمَا
أُحِبُّ أَنَّ لِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ حُمْرَ النَّعَمِ. احْتَجَّ
بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ لِمَكْحُولٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي
ذَهَابِهِمَا إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ الْقِتَالِ.
وَجَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ واستدل بقصة الخندق في قوله عليه
السّلام «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّهُ
قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا» وَبِقَوْلِهِ يَوْمَ بَنِي
قُرَيْظَةَ «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي
بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَخَّرَهَا فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى بَعْدِ
غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى
ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ
لما فتحت الْبَلَدُ لَجَأَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْأَبْطَالِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا وَغَيْرُهُمْ فَلَمَّا حَصَرُوهُ
فِي مكان من القلعة ولم يبق إلا تلافه أو تلافهم، قَالَ لَهُمْ بَعْدَ
مَا قَتَلَ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ وَمَجْزَأَةَ بْنَ ثَوْرٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إِنَّ مَعِيَ جَعْبَةً فِيهَا مِائَةُ سَهْمٍ،
وَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَمَيْتُهُ
بِسَهْمٍ قتلته، وَلَا يَسْقُطُ لِي سَهْمٌ إِلَّا فِي رَجُلٍ منكم،
فماذا ينفعكم إن أسرتموني بعد ما قَتَلْتُ مِنْكُمْ مِائَةَ رَجُلٍ؟
قَالُوا: فَمَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: تُؤَمِّنُونِي حَتَّى أُسَلِّمَكُمْ
يَدِي فَتَذْهَبُوا بِي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَيَحْكُمَ
فِيَّ بِمَا يَشَاءُ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَلْقَى قَوْسَهُ
وَنُشَّابَهُ وَأَسَرُوهُ فَشُدُّوهُ وِثَاقًا وَأَرْصَدُوهُ
لِيَبْعَثُوهُ إِلَى أَمِيرِ
__________
[1] لم ترد في المصرية.
[2] كذا في الحلبية. وفي المصرية: وأبو عتبة. وفي الطبري أبو تميمة
[3] لم ترد في الحلبية.
(7/86)
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، ثُمَّ تَسَلَّمُوا
مَا فِي الْبَلَدِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ فَاقْتَسَمُوا
أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ فَنَالَ كُلُّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ
وَكُلُّ رَاجِلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
فَتْحُ السُّوسِ
ثُمَّ رَكِبَ أَبُو سَبْرَةَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَمَعَهُ
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ،
وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمُ الْهُرْمُزَانَ، وَسَارُوا فِي طَلَبِ
الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْفُرْسِ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى السُّوسِ،
فَأَحَاطُوا بِهَا. وَكَتَبَ أَبُو سَبْرَةَ إِلَى عُمَرَ فَجَاءَ
الْكِتَابُ بِأَنْ يَرْجِعَ أَبُو مُوسَى إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَّرَ
عُمَرُ زِرَّ بن عبد الله بن كليب العقيمى- وهو صحابى- أن يسير إلى
جندسابور، فَسَارَ. ثُمَّ بَعَثَ أَبُو سَبْرَةَ بِالْخُمْسِ
وَبِالْهُرْمُزَانِ مَعَ وَفْدٍ فِيهِمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ
هَيَّئُوا الْهُرْمُزَانَ بِلُبْسِهِ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ مِنَ
الدِّيبَاجِ وَالذَّهَبِ الْمُكَلَّلِ بِالْيَاقُوتِ وَاللَّآلِئِ.
ثُمَّ دَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَيَمَّمُوا بِهِ
مَنْزِلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالُوا:
إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ بِسَبَبِ وَفْدٍ مِنَ الْكُوفَةِ،
فَجَاءُوا الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا فَرَجَعُوا، فَإِذَا
غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ فَسَأَلُوهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: إِنَّهُ
نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ مُتَوَسِّدًا بُرْنُسًا لَهُ.
فَرَجَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْنُسًا لَهُ
كَانَ قَدْ لَبِسَهُ لِلْوَفْدِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ
تَوَسَّدَ الْبُرْنُسَ وَنَامَ وَلَيْسَ في المسجد غيره، والدرة متعلقة
فِي يَدِهِ. فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: أَيْنَ عُمَرُ؟ فَقَالُوا: هُوَ
ذَا. وَجَعَلَ النَّاسُ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ لِئَلَّا
يُنَبِّهُوهُ، وَجَعَلَ الْهُرْمُزَانُ يَقُولُ: وَأَيْنَ حُجَّابُهُ؟
أَيْنَ حَرَسُهُ؟ فَقَالُوا:
لَيْسَ لَهُ حُجَّابٌ وَلَا حَرَسٌ، وَلَا كَاتِبٌ وَلَا دِيوَانٌ.
فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. فَقَالُوا: بَلْ يَعْمَلُ
عَمَلَ الْأَنْبِيَاءِ. وكثر النَّاسُ فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ
بِالْجَلَبَةِ فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى
الْهُرْمُزَانِ، فَقَالَ:
الْهُرْمُزَانُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَتَأَمَّلَهُ وَتَأَمَّلَ مَا
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ باللَّه مِنَ النَّارِ وَأَسْتَعِينُ
باللَّه. ثُمَّ قَالَ: الحمد الله الَّذِي أَذَلَّ بِالْإِسْلَامِ
هَذَا وَأَشْيَاعَهُ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ تَمَسَّكُوا بِهَذَا
الدِّينِ، وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ، ولا تبطرنكم الدنيا
فإنها غدارة. فَقَالَ لَهُ الْوَفْدُ: هَذَا مَلِكُ الْأَهْوَازِ
فَكَلِّمْهُ. فَقَالَ: لَا حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ
حِلْيَتِهِ شَيْءٌ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبًا صَفِيقًا،
فقال عمر: يَا هُرْمُزَانُ كَيْفَ رَأَيْتَ وَبَالَ الْغَدْرِ
وَعَاقِبَةَ أَمْرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَا عُمَرُ: إِنَّا وَإِيَّاكُمْ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللَّهُ قَدْ خَلَّى بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
فَغَلَبْنَاكُمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا وَلَا مَعَكُمْ، فَلَمَّا
كَانَ مَعَكُمْ غَلَبْتُمُونَا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا
غَلَبْتُمُونَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِاجْتِمَاعِكُمْ وَتَفَرُّقِنَا.
ثُمَّ قال: ما عذرك وما حجتك في انقاضك مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؟
فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَقْتُلَنِي قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ. قَالَ: لَا
تَخَفْ ذَلِكَ. فاستسقى الْهُرْمُزَانُ مَاءً فَأُتِيَ بِهِ فِي قَدَحٍ
[غَلِيظٍ، فَقَالَ: لَوْ مُتُّ عَطَشًا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَشْرَبَ
فِي هَذَا. فَأُتِيَ بِهِ فِي قَدَحٍ] [1] آخَرَ يَرْضَاهُ فَلَمَّا
أَخَذَهُ جَعَلَتْ يَدُهُ تَرْعَدُ، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ
أُقْتَلَ وَأَنَا أَشْرَبُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ
حَتَّى تَشْرَبَهُ فأكفاه. فقال عمر:
__________
[1] لم ترد في الحلبية.
(7/87)
أَعِيدُوهُ عَلَيْهِ وَلَا تَجْمَعُوا
عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَالْعَطَشَ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي
الْمَاءِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَأْنِسَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: إِنِّي قَاتِلُكَ، فَقَالَ إِنَّكَ أَمَّنْتَنِي. قَالَ:
كَذَبْتَ، فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ
عمر: ويحك يا أنس أنا أؤمن من قتل مجزأة والبراء؟ لتأتينى بمخرج والا
عاقبتك، قَالَ: قُلْتَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي.
وَقُلْتَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ، وَقَالَ لَهُ مَنْ
حَوْلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عَلَى الْهُرْمُزَانِ فَقَالَ:
خَدَعْتَنِي وَاللَّهِ لَا أَنْخَدِعُ إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ.
فَأَسْلَمَ فَفَرَضَ لَهُ فِي أَلْفَيْنِ وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ التَّرْجُمَانَ بَيْنَ عمرو بن الْهُرْمُزَانِ
كَانَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قُلْ لَهُ
مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ؟ قال مِهْرِجَانِيٌّ. قَالَ: تَكَلَّمْ
بِحُجَّتِكَ. فَقَالَ: أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ مَيِّتٍ؟ قَالَ: بَلْ
كَلَامُ حَيٍّ.
فَقَالَ قَدْ أَمَّنْتَنِي، فَقَالَ خَدَعْتَنِي وَلَا أَقْبَلُ ذَلِكَ
إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ. فَأَسْلَمَ فَفَرَضَ لَهُ فِي أَلْفَيْنِ
وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ.
ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ فَتَرْجَمَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا.
قُلْتُ: وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ الْهُرْمُزَانِ وَكَانَ لَا يُفَارِقُ
عُمَرَ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ فَاتَّهَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ
بِمُمَالَأَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ هُوَ وَجُفَيْنَةُ، فَقَتَلَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ وَجُفَيْنَةَ عَلَى مَا سَيَأْتِي
تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ الْهُرْمُزَانَ لَمَّا عَلَاهُ عُبَيْدُ
اللَّهِ بِالسَّيْفِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَمَّا
جُفَيْنَةُ فَصَلَّبَ عَلَى وَجْهِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحْجُرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَتَوَسَّعُوا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ
الْعَجَمِ، حَتَّى أَشَارَ عَلَيْهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ بِأَنَّ
الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي تَوَسُّعَهُمْ فِي الْفُتُوحَاتِ فَإِنَّ
الْمَلِكَ يَزْدَجِرْدَ لَا يَزَالُ يَسْتَحِثُّهُمْ عَلَى قِتَالِ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يستأصل شأو الْعَجَمِ وَإِلَّا طَمِعُوا
فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَاسْتَحْسَنَ عُمَرُ ذَلِكَ مِنْهُ
وَصَوَّبَهُ. وَأَذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَسُّعِ فِي بِلَادِ
الْعَجَمِ، فَفَتَحُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وللَّه
الْحَمْدُ. وَأَكْثَرُ ذَلِكَ وَقَعَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فيها.
ثم نعود إلى فتح السوس وجندسابور وَفَتْحِ نَهَاوَنْدَ فِي قَوْلِ
سَيْفٍ. كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا سَبْرَةَ سَارَ بِمَنْ
مَعَهُ مِنْ عِلْيَةِ الْأُمَرَاءِ مِنْ تُسْتَرَ إِلَى السُّوسِ،
فَنَازَلَهَا حِينًا وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِهَا فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ
المسلمين لا تتبعوا فِي حِصَارِ هَذَا الْبَلَدِ فَإِنَّا نَأْثُرُ
فِيمَا نَرْوِيهِ عَنْ قُدَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ
أَنَّهُ لَا يَفْتَحُهُ إِلَّا الدَّجَّالُ أَوْ قَوْمٌ مَعَهُمُ
الدَّجَّالُ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَيْشِ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ صَافُ بْنُ صَيَّادٍ، فَأَرْسَلَهُ أبو موسى فيمن
يحاصره، فَجَاءَ إِلَى الْبَابِ فَدَقَّهُ بِرِجْلِهِ فَتَقَطَّعَتِ
السَّلَاسِلُ، وَتَكَسَّرَتِ الْأَغْلَاقُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ
الْبَلَدَ فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا حَتَّى نَادَوْا بِالْأَمَانِ
وَدَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَى
السُّوسِ شَهْرِيَارُ أَخُو الْهُرْمُزَانِ، فَاسْتَحْوَذَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى السُّوسِ، وَهُوَ بَلَدٌ قَدِيمُ الْعِمَارَةِ
فِي الْأَرْضِ يُقَالُ إِنَّهُ أَوَّلُ بَلَدٍ وُضِعَ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُمْ وَجَدُوا قَبْرَ دانيال بالسوس، وأن
أبا موسى لما قدم بِهَا بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي سَبْرَةَ
(7/88)
إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ، كَتَبَ إِلَى
عُمَرَ فِي أَمْرِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ وَأَنْ
يُغَيِّبَ عَنِ النَّاسِ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، فَفَعَلَ. وَقَدْ
بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ وللَّه الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ فَتْحَ السُّوسِ
وَرَامَهُرْمُزَ وَتَسْيِيرَ الْهُرْمُزَانِ مِنْ تُسْتَرَ إِلَى
عُمَرَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ الْكِتَابُ
الْعُمَرِيُّ قَدْ وَرَدَ بِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ
يَذْهَبُ إِلَى أَهْلِ نَهَاوَنْدَ فَسَارَ إِلَيْهَا فَمَرَّ بِمَاةَ-
بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ قَبْلَهَا- فَافْتَتَحَهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى
نَهَاوَنْدَ فَفَتَحَهَا وللَّه الْحَمْدُ.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ فَتْحَ نَهَاوَنْدَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِيهَا بَيَانُ ذَلِكَ،
وَهِيَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ وَفَتْحٌ كَبِيرٌ، وَخَبَرٌ غَرِيبٌ
وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَفَتَحَ زِرُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفُقَيْمِيُّ
مدينة جنديسابور [1] فاستوثقت تِلْكَ الْبِلَادُ لِلْمُسْلِمِينَ.
هَذَا وَقَدْ تَحَوَّلَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى
انْتَهَى أَمْرُهُ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَصْبَهَانَ، وَقَدْ كَانَ
صَرَفَ طَائِفَةً مِنْ أَشْرَافِ أَصْحَابِهِ قَرِيبًا مِنْ
ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ
سِيَاهُ، فَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى
بَلَدٍ حَتَّى فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ تُسْتَرَ وَإِصْطَخْرَ، فَقَالَ
سِيَاهُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ بَعْدَ الشَّقَاءِ
وَالذِّلَّةِ مَلَكُوا أَمَاكِنَ الْمُلُوكِ الْأَقْدَمِينَ، وَلَا
يَلْقَوْنَ جُنْدًا إِلَّا كَسَرُوهُ، وَاللَّهِ مَا هَذَا عَنْ
بَاطِلٍ. - وَدَخَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامُ وَعَظَمَتُهُ-
فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ تبع لك. وبعث عمار ابن ياسر في غضون ذَلِكَ
يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ بِإِسْلَامِهِمْ [وَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ فِي
ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُمْ فِي أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ،
وَفَرَضَ لِسِتَّةٍ مِنْهُمْ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُمْ] [2] وَكَانَ لَهُمْ نِكَايَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قِتَالِ
قَوْمِهِمْ حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ حَاصَرُوا حِصْنًا
فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ أَحَدُهُمْ فَرَمَى بِنَفْسِهِ فِي
اللَّيْلِ عَلَى بَابِ الْحِصْنِ وَضَمَّخَ ثِيَابَهُ بِدَمٍ، فَلَمَّا
نَظَرُوا إِلَيْهِ حَسِبُوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليأووه
فَثَارَ إِلَى الْبَوَّابِ فَقَتَلَهُ، وَجَاءَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ
فَفَتَحُوا ذَلِكَ الْحِصْنَ، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمَجُوسِ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ وَاللَّهُ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عقد الألوية
والرايات الكبيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو فارس وَالتَّوَسُّعِ فِي
بِلَادِهِمْ كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ،
فَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فُتُوحَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي السَّنَةِ
الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَهَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ
وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ ذَكَرَ نُوَّابَهُ
عَلَى الْبِلَادِ، وَهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا غَيْرَ
المغيرة فان على البصرة بدله أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ.
قُلْتُ: وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْوَامٌ قِيلَ
إِنَّهُمْ تُوُفُّوا قَبْلَهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمْ، وَقِيلَ فِيمَا
بَعْدَهَا وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي أماكنهم والله تعالى أعلم.
__________
[1] في النسختين «جندسابور بدون ياء. والتصحيح من الطبري
[2] لم ترد في الحلبية.
(7/89)
|