البداية والنهاية، ط. دار الفكر
سَنَةُ عشرين من الهجرة
قال محمد بن إسحاق: فيها كَانَ فَتْحُ مِصْرَ. وَكَذَا قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهَا فتحت هي واسكندرية فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: فُتِحَتْ مِصْرُ سَنَةَ عِشْرِينَ،
وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفٌ:
فُتِحَتْ مِصْرُ وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَرَجَّحَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي الكامل لقصة بعث عمرو الْمِيرَةَ مِنْ مِصْرَ عَامَ
الرَّمَادَةِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِيمَا رَجَّحَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا كَانَ فَتْحُ تُسْتَرَ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ
السِّيَرِ بَعْدَ مُحَاصَرَةِ سَنَتَيْنِ وَقِيلَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ
وَاللَّهُ أعلم.
صفة فتح بلاد مِصْرَ مَجْمُوعًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَسَيْفٍ
وَغَيْرِهِمَا
قَالُوا: لَمَّا اسْتَكْمَلَ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فَتْحَ الشَّامَ
بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى مِصْرَ وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُ
بَعَثَهُ بَعْدَ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَرْدَفَهُ
بِالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَفِي صُحْبَتِهِ بشر بن أرطاة، وخارجة
بن حذافة، وعمير ابن وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ. فَاجْتَمَعَا عَلَى بَابِ
مِصْرَ فَلَقِيَهُمْ أَبُو مَرْيَمَ جَاثَلِيقُ مِصْرَ وَمَعَهُ
الْأُسْقُفُ أَبُو مَرْيَامَ فِي أَهْلِ الثَّبَاتِ، بَعَثَهُ
الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ لِمَنْعِ بِلَادِهِمْ،
فَلَمَّا تَصَافُّوا قَالَ عَمْرُو بن العاص لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز
إليّ بو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ رَاهِبَا هَذِهِ الْبِلَادِ،
فَبَرَزَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
أَنْتُمَا رَاهِبَا هَذِهِ الْبِلَادِ فَاسْمَعَا، إِنَّ اللَّهَ
بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ
وَأَمَرَهُ بِهِ وَأَمَرَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلّم، وأدى
(7/97)
إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ،
ثُمَّ مَضَى وَتَرَكَنَا عَلَى الْوَاضِحَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَمَرَنَا
بِهِ الْإِعْذَارُ إِلَى النَّاسِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَجَابَنَا إِلَيْهِ فَمِثْلُنَا، وَمَنْ لَمْ
يُجِبْنَا عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَبَذَلْنَا لَهُ
الْمَنَعَةَ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّا مُفْتَتِحُوكُمْ، وَأَوْصَانَا
بِكُمْ حِفْظًا لِرَحِمِنَا مِنْكُمْ، وَأَنَّ لَكُمْ إِنْ
أَجَبْتُمُونَا بِذَلِكَ ذِمَّةً إِلَى ذِمَّةٍ وَمِمَّا عَهِدَ
إِلَيْنَا أَمِيرُنَا اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا، فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانَا
بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا، لِأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَذِمَّةً.
فَقَالُوا: قَرَابَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَصِلُ مِثْلَهَا إِلَّا
الْأَنْبِيَاءُ مَعْرُوفَةٌ شَرِيفَةٌ، كَانَتِ ابْنَةَ مَلِكِنَا
وَكَانَتْ مَنْ أَهْلِ مَنْفَ وَالْمُلْكُ فِيهِمْ فَأُدِيلَ
عَلَيْهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ فَقَتَلُوهُمْ وَسَلَبُوهُمْ
مُلْكَهُمْ وَاغْتَرَبُوا فَلِذَلِكَ صَارَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا. أَمِّنَّا حَتَّى
نَرْجِعَ إِلَيْكَ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ مِثْلِي لَا يُخْدَعُ ولكنى
أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظروا قَوْمَكُمَا وَإِلَّا نَاجَزْتُكُمْ.
قَالَا: زِدْنَا، فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَقَالَا: زِدْنَا. فَزَادَهُمْ
يَوْمًا. فَرَجَعَا إِلَى الْمُقَوْقِسِ فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر
بمناهدتهم، فقالا لِأَهْلِ مِصْرَ: أَمَّا نَحْنُ فَسَنَجْتَهِدُ أَنْ
نَدْفَعَ عَنْكُمْ وَلَا نَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ بَقِيَتْ
أَرْبَعَةُ أيام قاتلوا وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُبَيِّتُوا
الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ: مَا تُقَاتِلُونَ مِنْ
قَوْمٍ قَتَلُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ.
فَأَلَحَّ الْأَرْطَبُونُ فِي أن يبيتوا للمسلمين فَفَعَلُوا فَلَمْ
يَظْفَرُوا بِشَيْءٍ بَلْ قُتِلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ
الْأَرْطَبُونُ، وَحَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَيْنَ شَمْسٍ مِنْ مِصْرَ
فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ. وَارْتَقَى الزُّبَيْرُ عَلَيْهِمْ سُورَ
الْبَلَدِ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِذَلِكَ خَرَجُوا إِلَى عَمْرٍو مِنَ
الْبَابِ الْآخَرِ فَصَالَحُوهُ وَاخْتَرَقَ الزُّبَيْرُ الْبَلَدَ
حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ عَمْرٌو فَأَمْضَوُا
الصُّلْحَ وَكَتَبَ لَهُمْ عَمْرٌو كِتَابَ أَمَانٍ: «بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا مَا أَعْطَى عمرو ابن الْعَاصِ أَهْلَ
مِصْرَ مِنَ الْأَمَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَبَرِّهِمْ
وَبَحْرِهِمْ، لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا
يُنْتَقَصُ وَلَا يُسَاكِنُهُمُ النُّوبَةُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ
أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى هَذَا الصُّلْحِ
وَانْتَهَتْ زِيَادَةُ نَهْرِهِمْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ
وَعَلَيْهِمْ ما حق لصونهم، فَإِنْ أَبَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُجِيبَ
رُفِعَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِهِمْ، وَذِمَّتُنَا مِمَّنْ
أَبَى بريئة. وإن نقص نهرهم من غايته رُفِعَ عَنْهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ
وَمَنْ دَخَلَ فِي صُلْحِهِمْ مِنَ الرُّومِ وَالنُّوبَةِ، فَلَهُ
مِثْلُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَبَى
وَاخْتَارَ الذَّهَابَ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ أَوْ
يَخْرُجَ مِنْ سُلْطَانِنَا، عَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا،
فِي كُلِّ ثُلُثِ جِبَايَةُ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِمْ. عَلَى مَا فِي
هَذَا الْكِتَابِ عَهْدُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَذِمَّةُ
الْخَلِيفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَذِمَمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى
النُّوبَةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا أَنْ يُعِينُوا بِكَذَا وَكَذَا
رَأْسًا، وَكَذَا وَكَذَا فَرَسًا عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوا وَلَا
يَمْنَعُوا مِنْ تِجَارَةٍ صَادِرَةٍ وَلَا وَارِدَةٍ. شَهِدَ
الزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ ابْنَاهُ وَكَتَبَ وَرْدَانُ
وَحَضَرَ» فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ مِصْرَ كُلُّهُمْ وَقَبِلُوا
الصُّلْحَ وَاجْتَمَعَتِ الْخُيُولُ بِمِصْرَ وَعَمَّرُوا
الْفُسْطَاطَ، وَظَهَرَ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ فَكَلَّمَا
عَمْرًا فِي السَّبَايَا الَّتِي أُصِيبَتْ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ.
فَأَبَى عَمْرٌو أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمَا، وَأَمَرَ بِطَرْدِهِمَا
وَإِخْرَاجِهِمَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن
(7/98)
الْخَطَّابِ أَمَرَ أَنَّ كُلَّ سَبْيٍ
أُخِذَ فِي الْخَمْسَةِ أَيَّامٍ الَّتِي أَمَّنُوهُمْ فِيهَا أَنْ
يُرَدَّ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّ سَبْيٍ أُخِذَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلْ
وَكَذَلِكَ مَنْ قَاتَلَ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ سَبَايَاهُ. وَقِيلَ
إِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ
السَّبْيِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ،
فَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ فَلَا يَرُدُّوهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنِ
اخْتَارَهُمْ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ وَأَخَذُوا مِنْهُ الْجِزْيَةَ،
وَأَمَّا مَا تَفَرَّقَ مِنْ سَبْيِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَوَصَلَ إِلَى
الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِمْ
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَا يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ
بِهِ. فَفَعَلَ عَمْرٌو مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،
وَجَمَعَ السَّبَايَا وَعَرَضُوهُمْ وَخَيَّرُوهُمْ فَمِنْهُمْ مَنِ
اخْتَارَ الْإِسْلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَادَ إِلَى دِينِهِ،
وَانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلَ عَمْرٌو جَيْشًا
إِلَى إِسْكَنْدَرِيَّةَ- وَكَانَ الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ يُؤَدِّي خَرَاجَ بَلَدِهِ
وَبَلَدِ مِصْرَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ- فَلَمَّا حَاصَرَهُ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ جَمَعَ أَسَاقِفَتَهُ وَأَكَابِرَ دَوْلَتِهِ وَقَالَ
لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَبَ غَلَبُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ
وَأَزَالُوهُمْ عَنْ مُلْكِهِمْ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ،
وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ نُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ
بَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أُؤَدِّي
الْخَرَاجَ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْكُمْ- فَارِسَ
وَالرُّومِ- ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَبَعَثَ
عَمْرٌو بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ لَمَّا الْتَقَى مَعَ
الْمُقَوْقِسِ جَعَلَ كَثِيرٌ من المسلمين يفر من الزحف فجعل عمر
يزمرهم وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الْيَمَنِ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ حِجَارَةٍ وَلَا حَدِيدٍ.
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اسْكُتْ فَإِنَّمَا، أَنْتَ كَلْبٌ. فَقَالَ
لَهُ الرَّجُلُ فَأَنْتَ إِذًا أَمِيرُ الْكِلَابِ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ
عَمْرٌو وَنَادَى يَطْلُبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ هُنَاكَ مِنَ
الصَّحَابَةِ قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو:
تَقَدَّمُوا فَبِكُمْ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ. فَنَهَدُوا
إِلَى الْقَوْمِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَظَفِرُوا أَتَمَّ
الظَّفَرِ. قَالَ سَيْفٌ:
فَفُتِحَتْ مِصْرُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ
وَقَامَ فِيهَا مُلْكُ الْإِسْلَامِ وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فُتِحَتْ مِصْرُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، وَفُتِحَتْ
إِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ مُحَاصَرَةِ
ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عَنْوَةً، وَقِيلَ صُلْحًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفَ دِينَارٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ سَأَلَ مِنْ
عَمْرٍو أَنْ يُهَادِنَهُ أَوَّلًا، فَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرٌو وَقَالَ
لَهُ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْنَا بِمَلِكِكُمُ الْأَكْبَرِ
هِرَقْلَ. فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ لِأَصْحَابِهِ:
صَدَقَ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْإِذْعَانِ. ثُمَّ صَالَحَ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عَمْرًا وَالزُّبَيْرَ سَارَا
إِلَى عَيْنِ شَمْسٍ فَحَاصَرَاهَا وَأَنَّ عَمْرًا بَعَثَ إِلَى
الْفَرَمَا أَبَرْهَةَ بْنَ الصَّبَّاحِ، وَبَعَثَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ
إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِأَهْلِ
بَلَدِهِ: إِنْ نَزَلْتُمْ فَلَكُمُ الْأَمَانُ. فَتَرَبَّصُوا مَاذَا
يَكُونُ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ شَمْسٍ، فَلَمَّا صَالَحُوا صَالَحَ
الْبَاقُونَ. وَقَدْ قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ لِأَهْلِ
إِسْكَنْدَرِيَّةَ: مَا أَحْسَنَ بَلَدَكُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّ
إِسْكَنْدَرَ لَمَّا بَنَاهَا قَالَ: لَأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً
فَقِيرَةً إِلَى اللَّهِ غَنِيَّةً عَنِ النَّاسِ. فَبَقِيَتْ
بَهْجَتُهَا. وَقَالَ أَبَرْهَةُ لِأَهْلِ الْفَرَمَا: مَا أَقْبَحَ
مَدِينَتَكُمْ؟ فَقَالُوا إِنَّ الْفَرَمَا- وَهُوَ أَخُو
الْإِسْكَنْدَرِ- لَمَّا بَنَاهَا قَالَ لَأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً
(7/99)
غَنِيَّةً عَنِ اللَّهِ فَقِيرَةً إِلَى
النَّاسِ. فَهِيَ لَا يَزَالُ سَاقِطًا بِنَاؤُهَا فَشُوِّهَتْ
بِذَلِكَ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ
لَمَّا وَلِيَ مِصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ زَادَ فِي الْخَرَاجِ عَلَيْهِمْ
رُءُوسًا مِنَ الرَّقِيقِ يُهْدُونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، وَيُعَوِّضُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى
وَكُسْوَةٍ. وَأَقَرَّ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَوُلَاةُ
الْأُمُورِ بَعْدَهُ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَأَمْضَاهُ أَيْضًا نَظَرًا لَهُمْ، وَإِبْقَاءً لِعَهْدِهِمْ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ دِيَارُ مِصْرَ بِالْفُسْطَاطِ نِسْبَةً
إِلَى فُسْطَاطِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَصَبَ
خَيْمَتَهُ وَهِيَ الْفُسْطَاطُ مَوْضِعَ مِصْرَ الْيَوْمَ، وَبَنَى
النَّاسُ حَوْلَهُ، وَتُرِكَتْ مِصْرُ الْقَدِيمَةُ مِنْ زَمَانِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَإِلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ رَفَعَ الْفُسْطَاطَ
وَبَنَى مَوْضِعَهُ جَامِعًا وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ.
وَقَدْ غَزَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ فَتْحِ مِصْرَ النُّوبَةَ
فَنَالَهُمْ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأُصِيبَتْ أَعْيُنٌ كَثِيرَةٌ،
لِجَوْدَةِ رَمْيِ النُّوبَةِ فَسَمَّوْهُمْ جُنْدَ الْحِدَقِ. ثُمَّ
فَتَحَهَا اللَّهُ بَعْدَ ذلك وله الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدِ
اخْتُلِفَ فِي بِلَادِ مِصْرَ فَقِيلَ:
فُتِحَتْ صُلْحًا إِلَّا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ يَزِيدَ
بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَقِيلَ: كُلُّهَا عَنْوَةٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ خَطَبَ
النَّاسَ فَقَالَ: مَا قعدت مقعدي هذا ولا حد من القبط عندي عهد إن
شئت- قلت، وَإِنْ شِئْتُ بِعْتُ وَإِنْ شِئْتُ خَمَّسْتُ إِلَّا لأهل
الطابلس فان لهم عهدا نوفى بِهِ.
قِصَّةُ نِيلِ مِصْرَ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ
عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا افْتُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- حِينَ دَخَلَ بُؤْنَةُ مِنْ أَشْهُرِ
الْعَجَمِ- فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً
لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: إِذَا كَانَتِ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا
إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ مِنْ أَبَوَيْهَا، فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا
وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَلْيِ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا
يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ. فَقَالَ لَهُمْ
عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّ
الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ. قَالَ: فَأَقَامُوا بُؤْنَةَ
وَأَبِيبَ وَمِسْرَى وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا،
حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ ابن
الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ
بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَإِنِّي قَدْ بعثت إليك بطاقة دَاخِلَ كِتَابِي،
فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو
الْبِطَاقَةَ فَإِذَا فِيهَا «مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ أَهْلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ
كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا
فيك، وإن كنت إنما تجرى بأمر الله الواحد القهار، وهو الَّذِي
يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجْرِيَكَ» قَالَ:
فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ فَأَصْبَحُوا يَوْمُ السَّبْتِ
وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ
وَاحِدَةٍ وَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ
إِلَى الْيَوْمِ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ- وَهِيَ عِنْدَهُ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ- جعل عمرو
الْمَسَالِحَ عَلَى أَرْجَاءِ مِصْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هِرَقْلَ
أَغَزَا الشَّامَ وَمِصْرَ فِي الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي
هَذِهِ
(7/100)
السَّنَةِ غَزَا أَرْضَ الرُّومِ أَبُو
بَحْرِيَّةَ عَبْدُ الله بن قيس العبديّ- وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
دَخَلَهَا فِيمَا قِيلَ- فَسَلِمَ وَغَنِمَ وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ
دَخَلَهَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا عَزَلَ عُمَرُ قَدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَنِ
الْبَحْرَيْنِ، وَحَدَّهُ فِي الشَّرَابِ. وَوَلَّى عَلَى
الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ أَبَا هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيَّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: وَفِيهَا شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا فِي كُلِّ شَيْءٍ،
حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَعَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّى
عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ- وَكَانَ
نَائِبَ سَعْدٍ- وَقِيلَ بَلْ وَلَّاهَا عَمْرَو بْنَ يَاسِرٍ. وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
سَمِعَهُ مِنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ
سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، قال
الأعاريب؟ والله ما آلو بِهِمْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر والعصر، اردد في الأوليين وأصرف في
الأخيرين. فسمعت عمر يقول: كذا الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ
أَهْلَ الْكُوفَةِ فَأَثْنَوْا خَيْرًا إِلَّا رَجُلًا يُقَالُ له: أبو
سعدة قتادة بن أسامة قام فقال: أما إذا أنشدتنا فَإِنَّ سَعْدًا لَا
يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَلَا
يَخْرُجُ فِي السَّرِيَّةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهمّ إِنْ كَانَ
عَبْدُكَ هَذَا قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، فَأَطِلْ عُمُرَهُ
وَأَدِمْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. فَأَصَابَتْهُ دَعْوَةُ
سَعْدٍ- فَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا يَرْفَعُ حَاجِبَيْهِ عَنْ
عَيْنَيْهِ، وَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ
فَيَغْمِزُهُنَّ، فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ: شَيْخٌ
كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ
فِي وَصِيَّتِهِ- وَذَكَرَهُ فِي السنة- «فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ
سَعْدًا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ به أيكم ولى، فأنى لم أعز له
عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ. قَالَ وَفِيهَا أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ
خَيْبَرَ عَنْهَا إِلَى أَذْرِعَاتٍ وَغَيْرِهَا، وَفِيهَا أَجْلَى
عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ مِنْهَا أَيْضًا إِلَى الْكُوفَةِ، وَقَسَّمَ
خَيْبَرَ، وَوَادِي الْقُرَى، وَنَجْرَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَفِيهَا دَوَّنَ عُمَرُ الدَّوَاوِينَ، وَزَعَمَ غَيْرُهُ
أَنَّهُ دَوَّنَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ. قَالَ: وَفِيهَا
بَعَثَ عُمَرُ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيَّ إِلَى
الْحَبَشَةِ فِي الْبَحْرِ فَأُصِيبُوا فَآلَى عُمَرُ عَلَى نَفْسِهِ
أَنْ لَا يَبْعَثَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ بَعْدَهَا. وَقَدْ خَالَفَ
الْوَاقِدِيَّ فِي هَذَا أَبُو مَعْشَرٍ فَزَعَمَ أَنَّ غَزْوَةَ
الْحَبَشَةِ إِنَّمَا كَانَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ-
يَعْنِي فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ فَاطِمَةَ بِنْتَ
الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ.
الَّتِي مَاتَ عَنْهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فِي الطَّاعُونِ.
وَهِيَ أُخْتُ خالد بن الوليد. قال: وفيها مات هلال بِدِمَشْقَ،
وَأُسِيدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فِي شَعْبَانَ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ
هِرَقْلُ وَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ قُسْطَنْطِينُ. قَالَ: وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عمر ونوابه وقضاته من تَقَدَّمَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا. سِوَى مِنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَزَلَهُ وَوَلَّى
غَيْرَهُ.
ذِكْرُ الْمُتَوَفَّيْنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ-
أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ
ابن سِمَاكٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ مِنَ الْأَوْسِ، أَبُو
يَحْيَى أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ
رَئِيسَ الْأَوْسِ يَوْمَ بُعَاثٍ، وَكَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسِتِّ
سِنِينَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ حُضَيْرُ الْكَتَائِبِ، يُقَالُ إنه
أسلم
(7/101)
عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ.
وَلَمَّا هَاجَرَ النَّاسُ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلَمْ
يَشْهَدْ بَدْرًا. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ «نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ
عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ» وَذَكَرَ
جَمَاعَةً. وَقَدِمَ الشَّامَ مَعَ عُمَرَ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ
عَائِشَةُ، وَعَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ بُكَيْرٍ أَنَّهُ تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَلَ بَيْنَ
عَمُودَيْهِ وَصَلَّى عليه ودفن بِالْبَقِيعِ، وَكَذَا أَرَّخَ
وَفَاتَهُ سَنَةَ عِشْرِينَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ
وَجَمَاعَةٌ.
أُنَيْسُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ
هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ صَحَابَةٌ وكان أنيس هذا عينا لرسول الله
يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اغد يَا أُنَيْسُ إِلَى
امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ «فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ
أَسْلَمَ» فَقِيلَ: أَنَّهُ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَسْلَمِيُّ.
وَقَدْ مَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ إِلَى تَرْجِيحِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
لَهُ حَدِيثٌ فِي الْفِتْنَةِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ:
تُوُفِّيَ فِي ربيع الأول سنة عشرين.
بلال بن أبى رَبَاحٍ الْحَبَشِيُّ الْمُؤَذِّنُ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ
وَيُقَالُ له بلال بن حَمَامَةَ. وَهِيَ أُمُّهُ. أَسْلَمَ قَدِيمًا
فَعُذِّبَ فِي اللَّهِ فَصَبَرَ فَاشْتَرَاهُ الصِّدِّيقُ
فَأَعْتَقَهُ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. وَكَانَ عُمَرُ
يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ. وَلَمَّا شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ كَانَ هُوَ
الَّذِي يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يَتَنَاوَبَانِ، تَارَةً
هَذَا وَتَارَةً هَذَا، وَكَانَ بِلَالٌ نَدِيَّ الصَّوْتِ حَسَنَهُ،
فَصِيحًا، وَمَا يُرْوَى «إِنَّ سِينَ بِلَالٍ عِنْدَ اللَّهِ شينا»
فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ. وَقَدْ أَذَّنَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى ظَهْرِ
الْكَعْبَةِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْأَذَانَ، وَيُقَالُ أَذَّنَ لِلصِّدِّيقِ
أَيَّامَ خِلَافَتِهِ وَلَا يَصِحُّ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ
مُجَاهِدًا، وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ إِلَى الْجَابِيَةِ أَذَّنَ بَيْنَ
يَدَيْهِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ لصلاة الظهر، فانتحب الناس بالبكاء. وقيل
إنه زار المدينة في غضون ذَلِكَ [فَأَذَّنَ فَبَكَى النَّاسُ بُكَاءً
شَدِيدًا وَيَحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ] [1] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ «إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ
فَسَمِعْتُ خَشْفَ نَعْلَيْكَ أَمَامِي فَأَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ
عَمِلْتَهُ» . فَقَالَ: مَا تَوَضَّأْتُ إِلَّا وَصَلَّيْتُ
رَكْعَتَيْنِ. «فَقَالَ بِذَاكَ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا أَحْدَثْتُ
إِلَّا تَوَضَّأْتُ وَمَا تَوَضَّأْتُ إِلَّا رَأَيْتُ أَنَّ عَلَيَّ
أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» قَالُوا: وَكَانَ بِلَالٌ آدَمَ شَدِيدَ
الأدمة طويلا نحيفا كَثِيرَ الشَّعْرِ خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ. قَالَ
ابْنُ بُكَيْرٍ: تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ سَنَةَ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ عِشْرِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَدُفِنَ
بِبَابِ الصغير وله بضع وستون سنة
__________
[1] لم ترد في الحلبية.
(7/102)
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَاتَ بِدَارَيَّا
وَدُفِنَ بِبَابِ كَيْسَانَ. وَقِيلَ دُفِنَ بِدَارَيَّا، وَقِيلَ
إِنَّهُ مَاتَ بِحَلَبَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بن خذيم
مِنْ أَشْرَافِ بَنِي جُمَحَ، شَهِدَ خَيْبَرَ وَكَانَ من الزهاد
والعباد، وَكَانَ أَمِيرًا لِعُمَرَ عَلَى حِمْصَ بَعْدَ أَبِي عبيدة،
بلغ عمر أنه قد أصابته جراحة شَدِيدَةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ
دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا جميعها، وَقَالَ لِزَوْجَتِهِ:
أَعْطَيْنَاهَا لِمَنْ يَتَّجِرُ لَنَا فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ خَلِيفَةُ: فَتَحَ هُوَ وَمُعَاوِيَةُ قَيْسَارِيَّةَ كُلٌّ
مِنْهُمَا أَمِيرٌ عَلَى مَنْ مَعَهُ.
عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ
أَبُو سَعْدٍ الْفِهْرِيُّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، شَهِدَ
بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ سَمْحًا جَوَادًا، شُجَاعًا، وَهُوَ
الَّذِي افْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَازَ دَرْبَ
الرُّومَ غَازِيًا، وَاسْتَنَابَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بَعْدَهُ عَلَى
الشَّامِ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ
عِشْرِينَ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الحارث
ابن عبد المطلب بْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قِيلَ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ. أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ
فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ جِدًّا وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَعَلَى دِينِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَكَانَ شَاعِرًا مطيقا يَهْجُو
الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ بْنُ
ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ
الْخَفَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ
الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا
الْفِدَاءُ
وَلَمَّا جَاءَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ
لِيُسْلِمَا لم يأذن لهما عليه السلام حَتَّى شَفَعَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
لِأَخِيهَا فَأَذِنَ لَهُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ هَذَا
قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَأْذَنْ لِي لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ
هذا- لولد معه صغير- فلا ذهبن فَلَا يُدْرَى أَيْنَ أَذْهَبُ. فَرَقَّ
حِينَئِذٍ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَذِنَ لَهُ، وَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَكَانَ آخِذًا بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ
يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّهُ وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ
«أَرْجُو أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنْ حَمْزَةَ» وَقَدْ رَثَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ
بِقَصِيدَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا سَلَفَ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ
فِيهَا:
أَرِقْتُ فَبَاتَ لَيْلِي لا يزول ... وليل أخ الْمُصِيبَةِ فِيهِ
طُولُ
وَأَسْعَدَنِي الْبُكَاءُ وَذَاكَ فِيمَا ... أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ
بِهِ قَلِيلُ
فَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ ... عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ
قُبِضَ الرَّسُولُ
(7/103)
فَقَدْنَا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَا
... يَرُوحُ بِهِ وَيَغْدُوُ جِبْرَئِيلُ
ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ حَجَّ فَلَمَّا حلق رأسه قطع الحالق
ثؤلولا له فِي رَأْسِهِ فَتَمَرَّضَ مِنْهُ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ
حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَخَاهُ نَوْفَلًا
تُوُفِّيَ قَبْلَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ
هُوَ مَالِكُ بن مالك بن عسل بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ
بْنِ عَامِرِ بن دعورا بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيُّ
الْأَوْسِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ نَقِيبًا، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا
بَعْدَهَا، وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَقِيلَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ،
وَقِيلَ إِنَّهُ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ
وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا هُنَا فاللَّه أعلم.
زينب بنت جحش
ابن رباب الْأَسَدِيَّةُ مِنْ أَسَدِ خُزَيْمَةَ أَوَّلُ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ وَفَاةً، أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ اسمها برة، فسماها رسول الله زَيْنَبَ،
وَتُكَنَّى أُمَّ الْحَكَمِ، وَهِيَ الَّتِي زَوَّجَهُ اللَّهُ بِهَا،
وَكَانَتْ تَفْتَخِرُ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ
أَهْلُوكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها 33: 37
الآية. وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ،
فَلَمَّا طَلَّقَهَا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَقِيلَ
أَرْبَعٍ وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَقِيلَ سَنَةِ خَمْسٍ. وَفِي دُخُولِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا نَزَلَ الْحِجَابُ كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ. وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِي
عَائِشَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَمَالِ وَالْحُظْوَةِ، وَكَانَتْ
دَيِّنَةً وَرِعَةً عَابِدَةً كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ. وَذَاكَ الَّذِي
أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ «أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا» أَيْ
بِالصَّدَقَةِ. وَكَانَتِ امْرَأَةً صَنَاعًا تَعْمَلُ بِيَدَيْهَا
وَتَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ
امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ وَأَتْقَى للَّه وَأَصْدَقَ
حَدِيثًا وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَعْظَمَ أَمَانَةً وَصَدَقَةً مِنْ
زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. وَلَمْ تَحُجَّ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا
هِيَ وَلَا سَوْدَةُ، لِقَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَزْوَاجِهِ
«هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ» وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّ يَخْرُجْنَ إلى
الحج وقالتا زَيْنَبُ وَسَوْدَةُ: وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا بَعْدَهُ
دَابَّةٌ. قَالُوا: وَبَعَثَ عُمَرُ إِلَيْهَا فَرْضَهَا اثْنَيْ
عَشَرَ أَلْفًا فَتَصَدَّقَتْ بِهِ فِي أَقَارِبِهَا. ثُمَّ قَالَتْ:
اللَّهمّ لا يدكرنى عَطَاءُ عُمَرَ بَعْدَ هَذَا. فَمَاتَتْ فِي سَنَةِ
عِشْرِينَ وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ. وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ صُنِعَ
لَهَا النَّعْشُ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ
صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهِيَ أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَهِيَ شَقِيقَةُ حَمْزَةَ
وَالْمُقَوَّمِ وَحَجْلَ، أُمُّهُمْ هَالَةُ بنت وهيب بن عبد مناف ابن
زُهْرَةَ. لَا خِلَافَ فِي إِسْلَامِهَا وَقَدْ حَضَرَتْ يَوْمَ أُحُدٍ
وَوَجَدَتْ عَلَى أَخِيهَا حَمْزَةَ وَجْدًا كثيرا، وقتلت
(7/104)
يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَجُلًا مِنَ
الْيَهُودِ جَاءَ فَجَعَلَ يطوف بِالْحِصْنِ الَّتِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ
فَارِعٌ حِصْنِ حَسَّانَ فَقَالَتْ لِحَسَّانَ: انْزِلْ فَاقْتُلْهُ،
فَأَبَى، فَنَزَلَتْ إِلَيْهِ فَقَتَلَتْهُ ثُمَّ قَالَتْ: انْزِلْ
فَاسْلُبْهُ فَلَوْلَا أَنَّهُ رَجُلٌ لَاسْتَلَبْتُهُ. فَقَالَ:
لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِ مَنْ عَدَاهَا
مِنْ عَمَّاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ:
أَسْلَمَتْ أَرَوَى وَعَاتِكَةُ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَشَيْخُنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ الْحَافِظُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُنَّ غَيْرُهَا. وَقَدْ تَزَوَّجَتْ أَوَّلًا
بِالْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ. ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا
الْعَوَّامَ بْنَ خُوَيْلِدٍ فَوَلَدَتْ لَهُ الزبير وعبد الكعبة. وقيل
تزوج بها الْعَوَّامُ بِكْرًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ تُوُفِّيَتْ
بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
إِسْحَاقَ من توفى غيرها.
عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ
شَهِدَ الْعَقَبَتَيْنِ وَالْمُشَاهِدَ كُلَّهَا وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ
اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 9: 108
وَلَهُ رِوَايَاتٌ تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ بِالْمَدِينَةِ بِشْرُ
بْنُ عَمْرِو بْنِ حَنَشٍ يُلَقَّبُ بِالْجَارُودِ، أَسْلَمَ فِي
السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَكَانَ شَرِيفًا مُطَاعًا فِي عَبْدِ
الْقَيْسِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ
أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْيَمَنِ وَحَدَّهُ
قُتِلَ الْجَارُودُ شَهِيدًا أَبُو خراشة خُوَيْلِدُ بْنُ مُرَّةَ
الْهُذَلِيُّ، كَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا مخضر ما أَدْرَكَ
الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَكَانَ إِذَا جَرَى سَبَقَ الْخَيْلَ.
نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة إحدى وعشرين فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ
وَفَتْحُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ
وَهِيَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا لَهَا شَأْنٌ رَفِيعٌ وَنَبَأٌ
عَجِيبٌ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَهَا فَتْحَ الْفُتُوحِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ
فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفٌ: كَانَتْ فِي سَنَةِ
سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ فِي سَنَةِ تسع عشرة والله أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا سَاقَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ قِصَّتَهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ فَتَبِعْنَاهُ فِي ذَلِكَ وَجَمَعْنَا كَلَامَ هَؤُلَاءِ
الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ سِيَاقًا وَاحِدًا، حَتَّى دَخَلَ
سِيَاقُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. قَالَ سَيْفٌ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ
الَّذِي هَاجَ هَذِهِ الْوَقْعَةَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا
افْتَتَحُوا الْأَهْوَازَ وَمَنَعُوا جَيْشَ الْعَلَاءِ مِنْ
أَيْدِيهِمْ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دَارِ الْمَلِكِ الْقَدِيمِ مِنْ
إِصْطَخْرَ مَعَ مَا حَازُوا مِنْ دَارِ مَمْلَكَتِهِمْ حَدِيثًا،
وَهِيَ الْمَدَائِنُ، وأخذ تِلْكَ الْمَدَائِنَ وَالْأَقَالِيمَ
وَالْكُوَرَ وَالْبُلْدَانَ الْكَثِيرَةَ، فَحَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ
وَاسْتَجَاشَهُمْ يَزْدَجِرْدُ الَّذِي تَقَهْقَرَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى
بَلَدٍ حَتَّى صَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ مُبْعَدًا طَرِيدًا، لَكِنَّهُ
فِي أُسْرَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وأهله وماله، وكتب إِلَى نَاحِيَةِ
نَهَاوَنْدَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْبُلْدَانِ،
فَتَجَمَّعُوا وَتَرَاسَلُوا حَتَّى كَمُلَ لَهُمْ مِنَ الْجُنُودِ مَا
لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ
يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَثَارَ أهل الكوفة على سعد في غضون هَذَا
الْحَالِ. فَشَكَوْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ
يُصَلِّي. وَكَانَ الَّذِي نَهَضَ
(7/105)
بِهَذِهِ الشَّكْوَى رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
الْجَرَّاحُ بْنُ سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ فِي نَفَرٍ مَعَهُ، فَلَمَّا
ذَهَبُوا إلى عمر فشكوه قال لهم عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر
نُهُوضُكُمْ فِي هَذَا الْحَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لقتال
أعداء الله، وقد جمعوا لَكُمْ، وَمَعَ هَذَا لَا يَمْنَعُنِي أَنْ
أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمْ. ثُمَّ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ-
وَكَانَ رَسُولَ الْعُمَّالِ- فَلَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ الْكُوفَةَ طَافَ عَلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ
وَالْمَسَاجِدِ بِالْكُوفَةِ فَكُلٌّ يُثْنِي عَلَى سَعْدٍ خَيْرًا
إِلَّا نَاحِيَةَ الْجَرَّاحِ بْنِ سِنَانَ فَإِنَّهُمْ سَكَتُوا
فَلَمْ يَذُمُّوا وَلَمْ يَشْكُرُوا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَنِي
عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ
قَتَادَةَ، فقال: أما إذ ناشدتنا فَإِنَّ سَعْدًا لَا يَقْسِمُ
بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَغْزُو فِي
السَّرِيَّةِ. فَدَعَا عَلَيْهِ سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهمّ إِنْ كَانَ
قَالَهَا كذبا ورياء وسمعة فأعم بصره، وكثر عِيَالَهُ، وَعَرِّضْهُ
لِمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. فَعَمِيَ وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ عَشْرُ
بَنَاتٍ، وَكَانَ يَسْمَعُ بِالْمَرْأَةِ فَلَا يَزَالُ حَتَّى
يَأْتِيَهَا فَيَجُسَّهَا فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ قَالَ: دَعْوَةُ
سَعْدٍ الرَّجُلِ الْمُبَارَكِ. ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ على الجراح وأصحابه
فكل أصابته فارعة فِي جَسَدِهِ، وَمُصِيبَةٌ فِي مَالِهِ بَعْدَ
ذَلِكَ، وَاسْتَنْفَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَهْلَ الْكُوفَةِ
لِغَزْوِ أهل نهاوند في غضون ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ. ثُمَّ سَارَ سَعْدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
وَالْجَرَّاحُ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى جَاءُوا عُمَرَ فَسَأَلَهُ عُمَرُ:
كَيْفَ يُصَلِّي؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَطُولُ فِي الْأُولَيَيْنِ
وَيُخَفِّفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَمَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ
صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أبا إسحاق. وقال سعد في هذه
القصة. لَقَدْ أَسْلَمْتُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَلَقَدْ كُنَّا وَمَا
لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ حَتَّى تَقَرَّحَتْ
أَشْدَاقُنَا، وَإِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَلَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ وَمَا جَمَعَهُمَا لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ
أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ يَقُولُونَ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. وَفِي
رواية يغرر بى عَلَى الْإِسْلَامِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ
عَمَلِي. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى
الْكُوفَةِ؟ فَقَالَ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ابن
عِتْبَانَ، فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى نِيَابَتِهِ الْكُوفَةَ- وَكَانَ
شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ حَلِيفًا لِبَنِي
الْحُبْلَى مِنَ الْأَنْصَارِ- وَاسْتَمَرَّ سَعْدٌ مَعْزُولًا مِنْ
غير عجز ولا خيانة ويهدد أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَكَادَ يُوقِعُ بِهِمْ
بَأْسًا. ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يَشْكُوَ أحدا
أَمِيرًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ اجْتَمَعُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ بِأَرْضِ نَهَاوَنْدَ، حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةُ
أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَعَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانُ
وَيُقَالُ: بُنْدَارٌ، وَيُقَالُ ذُو الْحَاجِبِ. وَتَذَامَرُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا الَّذِي جَاءَ الْعَرَبَ لَمْ
يَتَعَرَّضْ لِبِلَادِنَا، وَلَا أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَامَ بَعْدَهُ
تَعَرَّضُ لَنَا فِي دَارِ مُلْكِنَا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
هَذَا لَمَّا طَالَ مُلْكُهُ انْتَهَكَ حُرْمَتَنَا وَأَخَذَ
بِلَادَنَا، وَلَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ حَتَّى أَغْزَانَا فِي عُقْرِ
دَارِنَا، وَأَخَذَ بَيْتَ الْمَمْلَكَةِ وَلَيْسَ بِمُنْتَهٍ حَتَّى
يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ. فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى
أَنْ يَقْصِدُوا الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ ثُمَّ يَشْغَلُوا عُمَرَ
عَنْ بِلَادِهِ، وَتَوَاثَقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا. فَلَمَّا كَتَبَ سَعْدٌ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ-
وَكَانَ قد عزل سعدا في غضون ذَلِكَ- شَافَهَ سَعْدٌ عُمَرَ بِمَا
(7/106)
تمالئوا عليه وتصدوا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ
قَدِ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا. وَجَاءَ كِتَابُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله ابن عِتْبَانَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
عُمَرَ مَعَ قَرِيبِ بْنِ ظَفَرٍ الْعَبْدِيِّ بِأَنَّهُمْ قَدِ
اجْتَمَعُوا وَهُمْ متحرفون مُتَذَامِرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ يَا أمير المؤمنين أن نقصدهم
فنعاجلهم عَمَّا هَمُّوا بِهِ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَسِيرِ
إِلَى بِلَادِنَا. فَقَالَ عُمَرُ لِحَامِلِ الْكِتَابِ: مَا اسْمُكَ؟
قَالَ: قَرِيبٌ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ ظَفَرٍ. فَتَفَاءَلَ
عُمَرُ بِذَلِكَ وَقَالَ: ظَفَرٌ قَرِيبٌ. ثُمَّ أَمَرَ فَنُودِيَ
الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ
دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِذَلِكَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَتَفَاءَلَ
عُمَرُ أَيْضًا بِسَعْدٍ، فَصَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ حَتَّى
اجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ
مِنَ الْأَيَّامِ، أَلَا وَإِنِّي قَدْ هَمَمْتُ بِأَمْرٍ فَاسْمَعُوا
وَأَجِيبُوا وَأَوْجِزُوا وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَسِيرَ بِمَنْ قِبَلِي حَتَّى
أَنْزِلَ مَنْزِلًا وَسَطًا بَيْنَ هَذَيْنَ الْمِصْرَيْنِ
فَأَسْتَنْفِرَ النَّاسَ، ثُمَّ أَكُونَ لَهُمْ رِدْءًا حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَقَامَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنْ
أَهْلِ الرَّأْيِ، فَتَكَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ
فَأَحْسَنَ وَأَجَادَ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَسِيرَ
مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ ويحصرهم بِرَأْيِهِ
وَدُعَائِهِ. وَكَانَ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ
نَصْرُهُ وَلَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَلَا قِلَّةٍ، هُوَ دِينُهُ
الَّذِي أظهر، وجنده الّذي أعزه وَأَمَدَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ حَتَّى
بَلَغَ مَا بَلَغَ. فَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
مُنْجِزٌ وَعْدَهِ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ، وَمَكَانُكَ مِنْهُمْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ
وَيُمْسِكُهُ، فَإِذَا انْحَلَّ تَفَرَّقَ مَا فِيهِ وَذَهَبَ، ثُمَّ
لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَدًا. وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ وَإِنْ
كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرٌ عَزِيزٌ بِالْإِسْلَامِ، فَأَقِمْ
مَكَانَكَ وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَهُمْ أَعْلَامُ
الْعَرَبِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، فَلْيَذْهَبْ مِنْهُمُ الثُّلُثَانِ
وَيُقِيمُ الثُّلُثُ، وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ
يَمُدُّونَهُمْ أَيْضًا. - وَكَانَ عُثْمَانُ قد أشار في كلامه أن
يَمُدَّهُمْ فِي جُيُوشٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ. ووافق عمر
عَلَى الذَّهَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ- فَرَدَّ
عَلِيٌّ عَلَى عُثْمَانَ فِي مُوَافَقَتِهِ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى مَا
بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرَدَّ رَأْيَ
عُثْمَانَ فِيمَا أَشَارَ بِهِ مِنِ اسْتِمْدَادِ أَهْلِ الشَّامِ
خَوْفًا عَلَى بِلَادِهِمْ إِذَا قَلَّ جُيُوشُهَا مِنَ الرُّومِ.
وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ خَوْفًا عَلَى بِلَادِهِمْ مِنَ الْحَبَشَةِ.
فَأَعْجَبَ عُمَرَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَسُرَّ بِهِ- وَكَانَ عُمَرُ إِذَا
اسْتَشَارَ أَحَدًا لَا يُبْرِمُ أَمْرًا حَتَّى يُشَاوِرَ
الْعَبَّاسَ- فَلَمَّا أَعْجَبَهُ كَلَامُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا
الْمَقَامِ عَرَضَهُ عَلَى الْعَبَّاسِ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَفِّضْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا اجْتَمَعَ
هَؤُلَاءِ الفرس لنقمة تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ:
أَشِيرُوا عَلَيَّ بِمَنْ أُوَلِّيهِ أَمْرَ الْحَرْبِ وَلْيَكُنْ
عِرَاقِيًّا. فَقَالُوا: أَنْتَ أَبْصَرُ بِجُنْدِكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأُوَلِّيَنَّ رَجُلًا
يَكُونُ أَوَّلَ الْأَسِنَّةِ إِذَا لَقِيَهَا غَدًا. قَالُوا: مَنْ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ.
فَقَالُوا: هُوَ لها- وكان النعمان قد كتب إلى عمرو هو عَلَى كَسْكَرَ
وَسَأَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهَا وَيُوَلِّيَهُ قِتَالَ أَهْلِ
نَهَاوَنْدَ- فَلِهَذَا أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَعَيَّنَهُ لَهُ،
ثُمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى حُذَيْفَةَ أَنْ يَسِيرَ مِنَ الْكُوفَةِ
بِجُنُودٍ
(7/107)
مِنْهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ
يَسِيرَ بِجُنُودِ الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ إِلَى النُّعْمَانِ، وَكَانَ
بِالْبَصْرَةِ- أَنْ يَسِيرَ بِمَنْ هُنَاكَ مِنَ الْجُنُودِ إِلَى
نَهَاوَنْدَ، وَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ فَكُلُّ أَمِيرٍ عَلَى
جَيْشِهِ وَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ النُّعْمَانُ بْنُ
مقرن. فإذا قتل فحذيفة بن اليمان، فان قتل فجرير بن عبد الله، فإن
قُتِلَ فَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، فَإِنْ قُتِلَ قَيْسٌ فَفُلَانٌ ثُمَّ
فُلَانٌ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً أَحَدُهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ، وَقِيلَ لَمْ يُسَمَّ فِيهِمْ والله أَعْلَمُ.
وَصُورَةُ الْكِتَابِ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى النُّعْمَانِ
بْنِ مُقَرِّنٍ سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ
الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هو، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي
أَنَّ جُمُوعًا مِنَ الْأَعَاجِمِ كَثِيرَةً قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
بِمَدِينَةِ نَهَاوَنْدَ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَسِرْ
بِأَمْرِ الله وبعون الله وبنصر الله بمن مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَلَا تُوطِئْهُمْ وَعْرًا فَتُؤْذِيَهُمْ، وَلَا تَمْنَعْهُمْ
حَقَّهُمْ فَتُكَفِّرَهُمْ، وَلَا تُدْخِلْهُمْ غَيْضَةً، فَإِنَّ
رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. فَسِرْ فِي وَجْهِكَ ذَلِكَ حَتَّى
تَأْتِيَ مَاهَ فَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنْ
يُوَافُوكَ بِهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْكَ جُنُودُكَ فَسِرْ إِلَى
الْفَيْرُزَانِ ومن جمع مَعَهُ مِنَ الْأَعَاجِمِ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ
وَغَيْرِهِمْ، واستنصروا وَأَكْثِرُوا مِنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا باللَّه» . وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى نَائِبِ الْكُوفَةِ- عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- أَنْ يُعَيِّنَ جَيْشًا وَيَبْعَثَهُمْ
إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَلْيَكُنِ الْأَمِيرَ عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ
الْيَمَانِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ،
فَإِنْ قُتِلَ النُّعْمَانُ فَحُذَيْفَةُ، فَإِنْ قُتِلَ فنعيم بن
مقرن. وولى السَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ قَسْمَ الْغَنَائِمِ. فَسَارَ
حُذَيْفَةُ في جيش كثيف نحو النعمان ابن مقرن ليوافوه بماه، وسار معه
حُذَيْفَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ أَرْصَدَ
فِي كُلِّ كُورَةٍ مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَجَعَلَ
الْحَرَسَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاحْتَاطُوا احتياطا عظيما، ثم انتهوا
إلى النعمان ابن مُقَرِّنٍ حَيْثُ اتَّعَدُوا، فَدَفَعَ حُذَيْفَةُ
بْنُ الْيَمَانِ إِلَى النُّعْمَانِ كِتَابَ عُمَرَ وَفِيهِ الْأَمْرُ
لَهُ بِمَا يَعْتَمِدُهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَكَمُلَ جَيْشُ
الْمُسْلِمِينَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ فِيمَا
رواه سيف عن الشعبي، فمنهم مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَرُءُوسِ
الْعَرَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيُّ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، وَطُلَيْحَةُ
بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيُّ.
فَسَارَ النَّاسُ نَحْوَ نَهَاوَنْدَ وَبَعَثَ النُّعْمَانُ بْنُ
مُقَرِّنٍ الْأَمِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلِيعَةً ثَلَاثَةً وَهُمْ
طُلَيْحَةُ، وَعَمْرُو بْنُ معديكرب الزبيدي، وعمرو بن أبى سلمة.
وَيُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ ثُبَيٍّ أَيْضًا، لِيَكْشِفُوا لَهُ
خَبَرَ الْقَوْمِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. فَسَارَتِ الطَّلِيعَةُ يَوْمًا
وَلَيْلَةً فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ ثُبَيٍّ فَقِيلَ لَهُ: مَا رَجَعَكَ؟
فَقَالَ: كُنْتُ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ وَقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا
وَقَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا. ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَهُ عَمْرُو بْنُ
مَعْدِيكَرِبَ وَقَالَ: لَمْ نَرَ أَحَدًا وَخِفْتُ أَنْ يُؤْخَذَ
علينا الطريق، وَنَفَذَ طُلَيْحَةُ وَلَمْ يَحْفِلْ بِرُجُوعِهِمَا
فَسَارَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا حَتَّى
انْتَهَى إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَدَخَلَ فِي الْعَجَمِ وَعَلِمَ مِنْ
أَخْبَارِهِمْ مَا أَحَبَّ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النُّعْمَانِ
فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نهاوند
(7/108)
شَيْءٌ يَكْرَهُهُ. فَسَارَ النُّعْمَانُ
عَلَى تَعْبِئَتِهِ وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ،
وَعَلَى الْمُجَنَّبَتَيْنِ حُذَيْفَةُ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ،
وَعَلَى الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى السَّاقَةِ
مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْفُرْسِ
وَعَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانُ، وَمَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ كُلُّ مَنْ
غَابَ عَنِ الْقَادِسِيَّةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
وَهُوَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ألفا، فلما تراءى الْجَمْعَانِ كَبَّرَ
النُّعْمَانُ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ،
فَزُلْزِلَتِ الْأَعَاجِمُ وَرُعِبُوا مِنْ ذَلِكَ رُعْبًا شَدِيدًا.
ثُمَّ أَمَرَ النُّعْمَانُ بِحَطِّ الْأَثْقَالِ وَهُوَ وَاقِفٌ،
فَحَطَّ النَّاسُ أَثْقَالَهُمْ، وَتَرَكُوا رِحَالَهُمْ، وَضَرَبُوا
خِيَامَهُمْ وَقُبَابَهُمْ. وَضُرِبَتْ خَيْمَةٌ لِلنُّعْمَانِ
عَظِيمَةٌ، وَكَانَ الَّذِينَ ضَرَبُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ
أَشْرَافِ الْجَيْشِ، وَهُمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعُتْبَةُ
بْنُ عَمْرٍو، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَبَشِيرُ بْنُ
الْخَصَاصِيَةِ، وَحَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ، وَابْنُ الْهَوْبَرِ،
وَرِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ، وَعَامِرُ بْنُ مَطَرٍ، وَجَرِيرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيُّ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ،
وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ
الْهَمْدَانِيُّ، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَلَمْ يُرَ بِالْعِرَاقِ
خَيْمَةٌ عَظِيمَةٌ أَعْظَمَ مِنْ بِنَاءِ هَذِهِ الْخَيْمَةِ، وَحِينَ
حَطُّوا الْأَثْقَالَ أَمَرَ النُّعْمَانُ بِالْقِتَالِ وَكَانَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالَّذِي بَعْدَهُ
وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ انْحَجَزُوا
فِي حِصْنِهِمْ، وَحَاصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ
مَا شَاءَ اللَّهُ، وَالْأَعَاجِمُ يَخْرُجُونَ إِذَا أَرَادُوا
وَيَرْجِعُونَ إِلَى حُصُونِهِمْ إِذَا أَرَادُوا. وَقَدْ بَعَثَ
أَمِيرُ الْفُرْسِ يَطْلُبُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
لِيُكَلِّمَهُ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ،
فَذَكَرَ من عظيم ما رأى عَلَيْهِ مِنْ لُبْسِهِ وَمَجْلِسِهِ،
وَفِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي احْتِقَارِ الْعَرَبِ
وَاسْتِهَانَتِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ النَّاسِ
جُوعًا، وَأَقَلَّهُمْ دَارًا وَقَدْرًا. وَقَالَ: مَا يَمْنَعُ
هَؤُلَاءِ الْأَسَاوِرَةِ حَوْلِي أن ينتظموكم بالنشاب إلا مجا مِنْ
جِيَفِكُمْ، فَإِنْ تَذْهَبُوا نُخَلِّ عَنْكُمْ، وَإِنْ تَأْبَوْا
نُزِرْكُمْ مُصَارِعَكُمْ. قَالَ: فَتَشَهَّدْتُ وَحَمِدْتُ اللَّهَ
وَقُلْتُ: لَقَدْ كُنَّا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا ذَكَرْتَ، حَتَّى
بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَوَعَدَنَا النَّصْرَ فِي الدنيا، والخير في
الآخرة، وما زلنا نتعرض من ربنا النصر منذ بعثت اللَّهُ رَسُولَهُ
إِلَيْنَا، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ فِي بِلَادِكُمْ وَإِنَّا لَنْ نَرْجِعَ
إِلَى ذَلِكَ الشَّقَاءِ أَبَدًا حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَى
بِلَادِكُمْ وَمَا فِي أَيْدِيكُمْ أَوْ نُقْتَلَ بِأَرْضِكُمْ.
فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الْأَعْوَرَ لَقَدْ صَدَقَكُمْ مَا فِي
نَفْسِهِ. فَلَمَّا طَالَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْحَالُ
وَاسْتَمَرَّ، جَمَعَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ أَهْلَ الرَّأْيِ
مِنَ الْجَيْشِ، وتشاوروا فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ
أَمْرِهِمْ حَتَّى يَتَوَاجَهُوا هُمْ وَالْمُشْرِكُونَ فِي صَعِيدٍ
وَاحِدٍ، فَتَكَلَّمَ عمرو بن أبى سلمة أَوَّلًا- وَهُوَ أَسُنُّ مَنْ
كَانَ هُنَاكَ- فَقَالَ: إِنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ
أَضَرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الَّذِي يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ وَأَبْقَى عَلَى
الْمُسْلِمِينَ.
فَرَدَّ الْجَمِيعُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّا لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ
إِظْهَارِ دِينِنَا، وَإِنْجَازِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَنَا. وَتَكَلَّمَ
عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ فَقَالَ: نَاهِدْهُمْ وَكَاثِرْهُمْ وَلَا
تَخَفْهُمْ. فَرَدُّوا جَمِيعًا عَلَيْهِ وَقَالُوا: انما تناطح بِنَا
الْجُدْرَانَ وَالْجُدْرَانُ أَعْوَانٌ لَهُمْ عَلَيْنَا. وَتَكَلَّمَ
طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَمْ يُصِيبَا، وَإِنِّي
أَرَى أَنْ تَبْعَثَ سَرِيَّةً فَتَحْدِقَ بِهِمْ وَيُنَاوِشُوهُمْ
بِالْقِتَالِ وَيُحْمِشُوهُمْ فَإِذَا بَرَزُوا إِلَيْهِمْ
فَلْيَفِرُّوا إِلَيْنَا هرابا، فإذا استطردوا
(7/109)
وراءهم وانتموا إِلَيْنَا عَزَمْنَا
أَيْضًا عَلَى الْفِرَارِ كُلُّنَا، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا
يَشُكُّونَ فِي الْهَزِيمَةِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ عَنْ
بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَإِذَا تَكَامَلَ خُرُوجُهُمْ رَجَعْنَا
إِلَيْهِمْ فَجَالَدْنَاهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَنَا.
فَاسْتَجَادَ النَّاسُ هَذَا الرَّأْيَ، وَأَمَّرَ النُّعْمَانُ عَلَى
الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَذْهَبُوا إِلَى الْبَلَدِ فَيُحَاصِرُوهُمْ وَحْدَهُمْ وَيَهْرُبُوا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذَا بَرَزُوا إِلَيْهِمْ. فَفَعَلَ الْقَعْقَاعُ
ذَلِكَ، فَلَمَّا بَرَزُوا مِنْ حُصُونِهِمْ نَكَصَ الْقَعْقَاعُ
بِمَنْ مَعَهُ ثُمَّ نَكَصَ ثُمَّ نَكَصَ فَاغْتَنَمَهَا الْأَعَاجِمُ،
فَفَعَلُوا مَا ظَنَّ طُلَيْحَةُ، وَقَالُوا: هِيَ هِيَ، فَخَرَجُوا
بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ بِالْبَلَدِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَّا
مَنْ يَحْفَظُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى
الْجَيْشِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَلَى تَعْبِئَتِهِ.
وَذَلِكَ فِي صَدْرِ نَهَارِ جُمُعَةٍ، فَعَزَمَ النَّاسُ عَلَى
مُصَادَمَتِهِمْ، فَنَهَاهُمُ النُّعْمَانُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا
يُقَاتِلُوا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الْأَرْوَاحُ،
وَيَنْزِلَ النَّصْرُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ. وَأَلَحَّ النَّاسُ عَلَى النُّعْمَانِ
فِي الْحَمْلَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ- وَكَانَ رَجُلًا ثَابِتًا- فَلَمَّا
حان الزَّوَالُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ رَكِبَ بِرْذَوْنًا لَهُ
أَحَوَى قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى كُلِّ رَايَةٍ
وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالثَّبَاتِ،
وَيُقَدِّمُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ الْأُولَى
فَيَتَأَهَّبُ النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، وَيُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ فَلَا
يَبْقَى لِأَحَدٍ أُهْبَةٌ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ وَمَعَهَا الْحَمْلَةُ
الصَّادِقَةُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ. وَتَعَبَّتِ الْفُرْسُ
تَعْبِئَةً عَظِيمَةً وَاصْطَفُّوا صُفُوفًا هَائِلَةً. فِي عَدَدٍ
وَعُدَدٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَقَدْ تَغَلْغَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَهُمُ الْهَرَبُ وَلَا الْفِرَارُ،
وَلَا التَّحَيُّزُ. ثُمَّ إِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ الْأُولَى وَهَزَّ الرَّايَةَ فَتَأَهَّبَ
النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ وَهَزَّ الرَّايَةَ
فَتَأَهَّبُوا أَيْضًا، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّالِثَةَ وَحَمَلَ وَحَمَلَ
النَّاسُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَجَعَلَتْ رَايَةُ النُّعْمَانِ
تَنْقَضُّ على الْفُرْسِ كَانْقِضَاضِ الْعُقَابِ عَلَى الْفَرِيسَةِ،
حَتَّى تُصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا لَمْ يُعْهَدْ
مِثْلُهُ فِي مَوْقِفٍ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا
سَمِعَ السَّامِعُونَ بِوَقْعَةٍ مِثْلِهَا، قُتِلَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ مَا بَيْنَ الزَّوَالِ إِلَى الظَّلَامِ مِنَ
الْقَتْلَى مَا طَبَّقَ وَجْهَ الْأَرْضِ دَمًا، بِحَيْثُ إِنَّ
الدَّوَابَّ كَانَتْ تَطْبَعُ فِيهِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّ الْأَمِيرَ
النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ زَلَقَ بِهِ حِصَانُهُ فِي ذَلِكَ الدَّمِ
فَوَقَعَ وَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي خَاصِرَتِهِ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ
يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ سِوَى أَخِيهِ سُوَيْدٍ، وَقِيلَ نُعَيْمٍ،
وَقِيلَ غَطَّاهُ بِثَوْبِهِ وَأَخْفَى مَوْتَهُ وَدَفَعَ الرَّايَةَ
إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَأَقَامَ حُذَيْفَةُ أَخَاهُ
نُعَيْمًا مَكَانَهُ، وَأَمَرَ بِكَتْمِ مَوْتِهِ حَتَّى يَنْفَصِلَ
الْحَالُ لِئَلَّا يَنْهَزِمَ النَّاسُ. فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ
انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ
[وَكَانَ الْكُفَّارُ قَدْ قَرَنُوا مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا
بِالسَّلَاسِلِ وَحَفَرُوا حَوْلَهُمْ خَنْدَقًا، فَلَمَّا انْهَزَمُوا
وَقَعُوا فِي الْخَنْدَقِ وَفِي تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ نَحْوَ مِائَةِ
أَلْفٍ] [1] وَجَعَلُوا يَتَسَاقَطُونَ فِي أَوْدِيَةِ بِلَادِهِمْ
فَهَلَكَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يُفْلِتْ
مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ. وَكَانَ الْفَيْرُزَانُ أَمِيرُهُمْ قَدْ
صُرِعَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَانْفَلَتَ وَانْهَزَمَ وَاتَّبَعَهُ
نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَقَدَّمَ الْقَعْقَاعَ بَيْنَ يَدَيْهِ
__________
[1] سقط من المصرية.
(7/110)
وقصد الفيرزان همدان فلحقه القعقاع وأدركه
عند ثنية همدان، وَقَدْ أَقْبَلُ مِنْهَا بِغَالٌ كَثِيرٌ وَحُمُرٌ
تَحْمِلُ عَسَلًا، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْفَيْرُزَانُ صُعُودَهَا
مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لحينه فترجل وتعلق فِي الْجَبَلِ فَأَتْبَعَهُ
الْقَعْقَاعُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ:
إِنَّ للَّه جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ، ثُمَّ غَنِمُوا ذَلِكَ الْعَسَلَ
وَمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَحْمَالِ وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الثَّنِيَّةُ
ثَنِيَّةَ الْعَسَلِ. ثُمَّ لحق القعقاع بقية المنهزمين منهم إلى همدان
وَحَاصَرَهَا وَحَوَى مَا حَوْلَهَا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا-
وهو خسروشنوم- فَصَالَحَهُ عَلَيْهَا. ثُمَّ رَجَعَ الْقَعْقَاعُ إِلَى
حُذَيْفَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ دَخَلُوا بَعْدَ
الْوَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ عَنْوَةً، وَقَدْ جَمَعُوا الْأَسْلَابَ
وَالْمَغَانِمَ إلى صاحب الأقباض وهو السائب ابن الْأَقْرَعِ. وَلَمَّا
سَمِعَ أَهْلُ مَاهَ بِخَبَرِ أَهْلِ همدان بَعَثُوا إِلَى حُذَيْفَةَ
وَأَخَذُوا لَهُمْ مِنْهُ الْأَمَانَ، وجاء رجل يقال له الهرند- وَهُوَ
صَاحِبُ نَارِهِمْ- فَسَأَلَ مِنْ حُذَيْفَةَ الْأَمَانَ وَيَدْفَعُ
إِلَيْهِمْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ لِكِسْرَى، ادَّخَرَهَا لِنَوَائِبِ
الزَّمَانِ، فَأَمَّنَهُ حُذَيْفَةُ وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ
بِسَفَطَيْنِ مَمْلُوءَتَيْنِ جَوْهَرًا ثَمِينًا لَا يُقَوَّمُ،
غَيْرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْبَئُوا بِهِ، وَاتَّفَقَ
رَأْيُهُمْ عَلَى بَعْثِهِ لِعُمَرَ خَاصَّةً، وَأَرْسَلُوهُ صُحْبَةَ
الْأَخْمَاسِ وَالسَّبْيِ صُحْبَةَ السَّائِبِ بْنِ الْأَقْرَعِ،
وَأَرْسَلَ قَبْلَهُ بِالْفَتْحِ مَعَ طَرِيفِ بْنِ سَهْمٍ، ثُمَّ
قَسَمَ حُذَيْفَةُ بَقِيَّةَ الْغَنِيمَةِ فِي الْغَانِمِينَ، وَرَضَخَ
وَنَفَلَ لِذَوِي النَّجَدَاتِ، وَقَسَمَ لِمَنْ كَانَ قَدْ أَرْصَدَ
مِنَ الْجُيُوشِ لِحِفْظِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ،
وَمَنْ كَانَ رِدْءًا لَهُمْ، وَمَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا
أَمِيرُ المؤمنين فإنه كان يدعوا اللَّهَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَهُمْ،
دُعَاءَ الْحَوَامِلِ الْمُقْرِبَاتِ، وَابْتِهَالَ ذَوِي
الضَّرُورَاتِ، وَقَدِ اسْتَبْطَأَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ فَبَيْنَا
رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَاكِبٍ
فَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ؟ فَقَالَ: مِنْ نَهَاوَنْدَ. فَقَالَ:
مَا فَعَلَ النَّاسُ؟ قَالَ:
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقُتِلَ الْأَمِيرُ، وَغَنِمَ
الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً عَظِيمَةً أَصَابَ الْفَارِسُ سِتَّةَ
آلَافٍ، وَالرَّاجِلُ أَلْفَانِ. ثُمَّ فَاتَهُ وَقَدِمَ ذَلِكَ
الرَّجُلِ الْمَدِينَةَ فأخبر النَّاسُ وَشَاعَ الْخَبَرُ حَتَّى
بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَطَلَبَهُ فَسَأَلَهُ عَمَّنْ
أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: رَاكِبٌ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِئْنِي،
وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ بَرِيدُهُمْ وَاسْمُهُ
عُثَيْمٌ، ثُمَّ قَدِمَ طَرِيفٌ بِالْفَتْحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ،
وَلَيْسَ مَعَهُ سوى الفتح، فسأله عَمَّنْ قَتَلَ النُّعْمَانَ فَلَمْ
يَكُنْ مَعَهُ عِلْمٌ حَتَّى قَدِمَ الَّذِينَ مَعَهُمُ الْأَخْمَاسُ
فَأَخْبَرُوا بِالْأَمْرِ على جليته، فإذا ذلك قد الجنى شَهِدَ
الْوَقْعَةَ وَرَجَعَ سَرِيعًا إِلَى قَوْمِهِ نَذِيرًا. وَلَمَّا
أُخْبِرَ عُمَرَ بِمَقْتَلِ النُّعْمَانِ بَكَى وَسَأَلَ السَّائِبَ
عَمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ:
فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، لِأَعْيَانِ النَّاسِ وَأَشْرَافِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ وَآخَرُونَ مِنْ أَفْنَادِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا
يَعْرِفُهُمْ أمير المؤمنين، فجعل يَبْكِي وَيَقُولُ: وَمَا ضَرَّهُمْ
أَنْ لَا يَعْرِفَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ لَكِنَّ اللَّهَ
يَعْرِفُهُمْ وَقَدْ أَكْرَمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، وَمَا يَصْنَعُونَ
بِمَعْرِفَةِ عُمَرَ. ثُمَّ أَمَرَ بِقِسْمَةِ الْخُمْسِ عَلَى
عَادَتِهِ، وَحُمِلَتْ ذَانِكَ السَّفَطَانِ إِلَى مَنْزِلِ عُمَرَ،
وَرَجَعَتِ الرُّسُلُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ طَلَبَهُمْ فَلَمْ
يَجِدْهُمْ، فَأَرْسَلَ فِي إِثْرِهِمُ الْبُرُدَ فَمَا لَحِقَهُمُ
الْبَرِيدُ إِلَّا بِالْكُوفَةِ.
قَالَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ: فَلَمَّا أَنَخْتُ بَعِيرِي
بِالْكُوفَةِ، أناخ البريد عَلَى عُرْقُوبِ بَعِيرِي، وَقَالَ:
(7/111)
أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْتُ:
لِمَاذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَرَجَعْنَا عَلَى إِثْرِنَا، حَتَّى
انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ. قال:
ما لي وَلَكَ يَا ابْنَ أُمِّ السَّائِبِ، بَلْ مَا لابن أم السائب وما
لي، قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ إِنْ هُوَ إِلَّا أَنْ نِمْتُ فِي
اللَّيْلَةِ الَّتِي خَرَجْتَ فِيهَا فَبَاتَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ
تَسْحَبُنِي إِلَى ذَيْنِكَ السَّفَطَيْنِ وَهُمَا يَشْتَعِلَانِ
نَارًا، يَقُولُونَ لَنَكْوِيَنَّكَ بِهِمَا. فَأَقُولُ: إِنِّي
أقسمهما بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَاذْهَبْ بِهِمَا لَا أَبَا لَكَ فَبِعْهُمَا فَاقْسِمْهُمَا فِي
أُعْطِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْزَاقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا
يَدْرُونَ مَا وُهِبُوا وَلَمْ تَدْرِ أَنْتَ مَعَهُمْ.
قَالَ السَّائِبُ: فَأَخَذَتْهُمَا حَتَّى جِئْتُ بِهِمَا مَسْجِدَ
الْكُوفَةِ وَغَشِيَتْنِي التُّجَّارُ فَابْتَاعَهُمَا مِنِّي عَمْرُو
بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ. ثُمَّ خَرَجَ
بِهِمَا إِلَى أَرْضِ الْأَعَاجِمِ فَبَاعَهُمَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ
ألف. فما زال أكثر أهل الكوفة ما لا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ سَيْفٌ:
ثُمَّ قَسَمَ ثَمَنَهُمَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَنَالَ كُلُّ فَارِسٍ
أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ السَّفَطَيْنِ. قَالَ
الشَّعْبِيُّ: وَحَصَلَ لِلْفَارِسِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ سِتَّةُ
آلَافٍ وَلِلرَّاجِلِ أَلْفَانِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثِينَ
أَلْفًا.
قَالَ: وَافْتُتِحَتْ نَهَاوَنْدُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ
لِسَبْعِ سِنِينَ مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، رَوَاهُ سَيْفٌ عَنْ عمرو ابن
مُحَمَّدٍ عَنْهُ. وَبِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا قدم سبى
نَهَاوَنْدَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ- فَيْرُوزُ
غلام المغيرة ابن شُعْبَةَ- لَا يَلْقَى مِنْهُمْ صَغِيرًا إِلَّا
مَسَحَ رَأَسَهُ وَبَكَى وَقَالَ: أَكَلَ عُمَرُ كَبِدِي- وَكَانَ
أَصْلُ أَبِي لُؤْلُؤَةَ مِنْ نَهَاوَنْدَ فَأَسَرَتْهُ الرُّومُ
أَيَّامَ فَارِسَ وَأَسَرَتْهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ، فَنُسِبَ إِلَى
حَيْثُ سُبِيَ- قَالُوا: وَلَمْ تَقُمْ لِلْأَعَاجِمِ بَعْدَ هذه
الوقعة قائمة، وأتحف عمر الذين أبلوا فيها بألفين تَشْرِيفًا لَهُمْ
وَإِظْهَارًا لِشَأْنِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا بَعْدَ
نَهَاوَنْدَ مَدِينَةَ جَيٍّ- وَهِيَ مَدِينَةُ أَصْبَهَانَ- بَعْدَ
قِتَالٍ كَثِيرٍ وَأُمُورٍ طَوِيلَةٍ، فَصَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ
وَكَتَبَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كِتَابَ أَمَانٍ
وَصُلْحٍ وَفَرَّ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ نَفَرًا إِلَى كِرْمَانَ لَمْ
يُصَالِحُوا الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي فَتَحَ
أَصْبَهَانَ هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَأَنَّهُ قُتِلَ بِهَا،
وَوَقَعَ أَمِيرُ الْمَجُوسِ وَهُوَ ذُو الْحَاجِبَيْنِ عَنْ فَرَسِهِ
فَانْشَقَّ بَطْنُهُ وَمَاتَ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. وَالصَّحِيحُ
أَنَّ الَّذِي فَتَحَ أَصْبَهَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عِتْبَانَ- الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْكُوفَةِ- وَفِيهَا افْتَتَحَ
أَبُو مُوسَى قُمَّ وَقَاشَانَ، وَافْتَتَحَ سُهَيْلُ بْنُ عَدِيٍّ
مَدِينَةَ كِرْمَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ
الْعَاصِ سار في جيش معه إلى طرابلس قَالَ: وَهِيَ بَرْقَةُ
فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفِ دِينَارٍ فِي
كُلِّ سَنَةٍ.
قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ
الْفِهْرِيَّ إِلَى زَوِيلَةَ فَفَتَحَهَا بِصُلْحٍ، وَصَارَ مَا
بَيْنَ بَرْقَةَ إِلَى زَوِيلَةَ سِلْمًا لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ:
وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الْكُوفَةِ بَدَلَ
زِيَادِ بْنِ حَنْظَلَةَ الَّذِي وَلَّاهُ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَجَعَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مَسْعُودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَاشْتَكَى
(7/112)
أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ عَمَّارٍ
فَاسْتَعْفَى عَمَّارٌ مِنْ عمله، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى جُبَيْرَ بْنَ
مُطْعِمٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْلِمَ أَحَدًا، وَبَعَثَ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَتَهُ إِلَى امْرَأَةِ جُبَيْرٍ
يَعْرِضُ عَلَيْهَا طَعَامًا للسفر فقالت: اذهبي فأتينى بِهِ. فَذَهَبَ
الْمُغِيرَةُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: بَارَكَ الله يا أمير المؤمنين
فيمن وَلَّيْتَ عَلَى الْكُوفَةِ. فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ وَبَعَثَ
إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ فَعَزَلَهُ وَوَلَّى الْمُغِيرَةَ بْنَ
شُعْبَةَ ثَانِيَةً، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ
بْنَ ثَابِتٍ وَكَانَ عُمَّالَهُ عَلَى الْبُلْدَانِ الْمُتَقَدِّمُونَ
فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبِلَهَا سِوَى الْكُوفَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
بِحِمْصَ وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ غَيْرُهُ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ بِالْمَدِينَةِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَوَلَّى عُمَرُ مَكَانَهُ أَبَا
هُرَيْرَةَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْعَلَاءَ تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذَا
كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ
أَمِيرَ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُوَ
أَيْضًا عَلَى حِمْصَ وَحَوْرَانَ وَقِنَّسْرِينَ وَالْجَزِيرَةِ،
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْبَلْقَاءِ وَالْأُرْدُنِّ،
وَفِلَسْطِينَ، وَالسَّوَاحِلِ وَأَنْطَاكِيَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
ابْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
الْقُرَشِيُّ أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، سَيْفُ اللَّهِ،
أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، لَمْ يُقْهَرْ فِي جَاهِلِيَّةٍ
وَلَا إِسْلَامٍ. وَأُمُّهُ عَصْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أُخْتُ
لُبَابَةَ [1] بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ
الْحَارِثِ أم المؤمنين. قال الوقدى: أَسْلَمَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ
صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَشَهِدَ مُؤْتَةَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ
الْإِمَارَةُ يَوْمَئِذٍ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَقَاتَلَ يَوْمَئِذٍ
قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، انْدَقَّتْ فِي يَدِهِ تِسْعَةُ
أَسْيَافٍ، وَلَمْ تَثْبُتْ فِي يَدِهِ إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ
فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ،
ثُمَّ أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى
يَدَيْهِ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ خَالِدًا سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ
يَوْمَ الْيَرْمُوكِ وَهُوَ فِي الْحَرْبِ فَجَعَلَ يَسْتَحِثُّ فِي
طَلَبِهَا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ
شَعْرِ نَاصِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِنَّهَا مَا كَانَتْ مَعِيَ فِي مَوْقِفٍ إِلَّا نُصِرْتُ بِهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ عَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ لَمَّا
أَمَّرَ خَالِدًا عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «فَنِعْمَ
عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو العشيرة خالد بن
الوليد، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ
__________
[1] الّذي في المصرية: أمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة بنت الحارث أم
المؤمنين.
(7/113)
سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ
وَالْمُنَافِقِينَ» وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ
الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ
قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى
الشَّامِ وَعَزَلَ خَالِدَ بن الوليد، فقال خالد: بعث إليكم أَمِينَ
هَذِهِ الْأُمَّةِ، [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ «أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ] [1] أَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ الْجَرَّاحِ» فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ «خَالِدٌ سَيْفٌ مِنْ
سُيُوفِ اللَّهِ نِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ» وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَأَبِي
هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طُرُقٍ مُرْسَلَةٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَفِي الصَّحِيحِ «وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا
وقد احتبس أدراعه وأعبده فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَشَهِدَ الْفَتْحَ
وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَغَزَا بَنِي جَذِيمَةَ أَمِيرًا فِي حَيَاتِهِ
عَلَيْهِ السّلام. وَاخْتُلِفَ فِي شُهُودِهِ خَيْبَرَ [وَقَدْ دَخَلَ
مَكَّةَ أَمِيرًا عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَقَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي
مَوْضِعِهِ، وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَبَعَثَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعُزَّى- وكانت
لهوازن- فكسر قمتها أولا ثم دعثرها وجعل يقول: يا عزى كُفْرَانَكِ لَا
سُبْحَانَكِ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ. ثُمَّ
حَرَّقَهَا] [2] وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الصِّدِّيقُ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قِتَالِ أَهْلِ
الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، فَشَفَى وَاشْتَفَى. ثم وجهه إلى
العراق ثم أتى الشَّامِ فَكَانَتْ لَهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ مَا
ذَكَرْنَاهَا مما تقربها الْقُلُوبُ وَالْعُيُونُ، وَتَتَشَنَّفُ بِهَا
الْأَسْمَاعُ. ثُمَّ عَزَلَهُ عُمَرُ عَنْهَا وَوَلَّى أَبَا
عُبَيْدَةَ وَأَبْقَاهُ مُسْتَشَارًا فِي الْحَرْبِ، وَلَمْ يَزَلْ
بِالشَّامِ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى الواقدي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدًا الْوَفَاةُ بَكَى ثُمَّ
قَالَ: لَقَدْ حَضَرْتُ كَذَا وَكَذَا زَحْفًا، وَمَا فِي جَسَدِي
شِبْرٌ إِلَّا وَفِيهِ ضربة سيف، أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ، أَوْ
رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي
كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ ثَنَا يَحْيَى
بْنُ زَكَرِيَّا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ.
قَالَ: قَالَ خَالِدُ بْنُ الوليد: ما ليلة يهدى إِلَيَّ فِيهَا
عَرُوسٌ، أَوْ أُبَشَّرُ فِيهَا بِغُلَامٍ بِأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ
لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْجَلِيدِ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
أُصَبِّحُ بِهِمُ الْعَدُوَّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: أُتِيَ خَالِدٌ بِرَجُلٍ مَعَهُ
زِقُّ خَمْرٍ فَقَالَ: اللَّهمّ اجْعَلْهُ عَسَلًا، فَصَارَ عَسَلًا.
وَلَهُ طُرُقٌ، وَفِي بَعْضِهَا مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مَعَهُ زِقُّ
خَمْرٍ فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: مَا هذا؟ فقال: عسل فَقَالَ: اللَّهمّ
اجْعَلْهُ خَلًّا، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أصحابه قال: جئتكم بخمر لم
يشرب الْعَرَبُ مِثْلَهُ، ثُمَّ فَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، فَقَالَ
أَصَابَتْهُ وَاللَّهِ دَعْوَةُ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثُمَامَةَ عن أنس. قال: لقي خالد
عدوا له فولى عنه المسلمون منهزمين وثبت هو وأخو الْبَرَاءُ بْنُ
مَالِكٍ، وَكُنْتُ بَيْنَهُمَا وَاقِفًا، قَالَ: فَنَكَسَ خَالِدٌ
رَأْسَهُ سَاعَةً إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى
السَّمَاءِ سَاعَةً- قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ إِذَا أَصَابَهُ
مِثْلُ هَذَا-، ثُمَّ
__________
[1، 2] سقط من الحلبية.
(7/114)
قَالَ لِأَخِي الْبَرَاءِ: قُمْ فَرَكِبَا،
وَاخْتَطَبَ خَالِدٌ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: مَا
هُوَ إِلَّا الْجَنَّةُ وَمَا إِلَى الْمَدِينَةِ سَبِيلٌ. ثُمَّ
حَمَلَ بِهِمْ فَهَزَمَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ حَكَى مَالِكٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ
لِأَبِي بَكْرٍ: اكْتُبْ إِلَى خَالِدٍ أَنْ لَا يُعْطِيَ شَاةً وَلَا
بَعِيرًا إِلَّا بِأَمْرِكَ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ
بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِمَّا أَنْ تَدَعَنِي
وَعَمَلِي، وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِعَمَلِكَ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ
بِعَزْلِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فمن يجزى عنى جزاء خَالِدٍ؟ قَالَ
عُمَرُ: أَنَا.
قَالَ: فَأَنْتَ. فَتَجَهَّزَ عمر حتى أنيخ الظَّهْرُ فِي الدَّارِ،
ثُمَّ جَاءَ الصَّحَابَةُ فَأَشَارُوا عَلَى الصِّدِّيقِ بِإِبْقَاءِ
عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ وَإِبْقَاءِ خَالِدٍ بِالشَّامِ. فَلَمَّا
وَلِيَ عُمَرُ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ
خَالِدٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَعَزَلَهُ، وَقَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَرَانِيَ آمُرُ أَبَا بَكْرٍ بِشَيْءٍ لَا أُنْفِذُهُ أَنَا. وَقَدْ
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ
بن رباح عن ياسر بن سلمى البرني، قال: سمعت عمر يتعذر إِلَى النَّاسِ
بِالْجَابِيَةِ مِنْ عَزْلِ خَالِدٍ، فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ
يَحْبِسَ هَذَا الْمَالَ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُهَاجِرِينَ فَأَعْطَاهُ
ذَا الْبَأْسِ، وَذَا الشَّرَفِ وَاللِّسَانِ، فأمرت أَبَا عُبَيْدَةَ.
فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَا اعْتَذَرْتَ
يَا عُمَرُ، لَقَدْ نَزَعْتَ عَامِلًا اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعْتَ لِوَاءً رَفَعَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَغْمَدْتَ
سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ، وَلَقَدْ قَطَعْتَ الرَّحِمَ، وَحَسَدْتَ
ابْنَ الْعَمِّ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ قَرِيبُ الْقَرَابَةِ،
حَدِيثُ السِّنِّ مغضب في ابن عمك.
قال الواقدي رحمه الله، ومحمد بن سعيد وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ سَنَةَ
إِحْدَى وَعِشْرِينَ بَقَرْيَةٍ عَلَى مِيلٍ مِنْ حِمْصَ، وَأَوْصَى
إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ دُحَيْمٌ وَغَيْرُهُ: مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ تَعْزِيرَ عُمَرَ لَهُ حِينَ أَعْطَى
الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَأَخْذَهُ مِنْ مَالِهِ
عِشْرِينَ أَلْفًا أَيْضًا. وَقَدَّمْنَا عَتْبَهُ عَلَيْهِ
لِدُخُولِهِ الْحَمَّامَ وَتَدَلُّكِهُ بَعْدَ النُّورَةِ بِدَقِيقِ
عُصْفُرٍ مَعْجُونٍ بِخَمْرٍ، وَاعْتِذَارَ خَالِدٍ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ
صَارَ غَسُولًا. وَرُوِّينَا عَنْ خَالِدٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً
مِنْ نِسَائِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُطَلِّقْهَا عَنْ رِيبَةٍ،
وَلَكِنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ عِنْدِي وَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ فِي
بَدَنِهَا وَلَا رَأْسِهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا. وَرَوَى
سَيْفٌ وَغَيْرُهُ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ حِينَ عَزَلَ خَالِدًا عَنِ
الشَّامِ، وَالْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ عَنِ الْعِرَاقِ: إِنَّمَا
عَزَلْتُهُمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ نصر الدين لا بنصرهما
وَأَنَّ الْقُوَّةَ للَّه جَمِيعًا. وَرَوَى سَيْفٌ أَيْضًا أن عمر قال
حين عزل خالدا عن قِنَّسْرِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ: إِنَّكَ
عَلَيَّ لِكَرِيمٌ، وَإِنَّكَ عِنْدِي لِعَزِيزٌ، وَلَنْ يَصِلَ
إِلَيْكَ مِنِّي أَمْرٌ تَكْرَهُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ بِلَالٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ:
اصْطَرَعَ عُمَرُ وَخَالِدٌ وَهُمَا غُلَامَانِ- وَكَانَ خَالِدٌ ابْنَ
خَالِ عُمَرَ- فَكَسَرَ خَالِدٌ سَاقَ عُمَرَ، فَعُولِجَتْ وَجُبِرَتْ،
وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ:
دَخَلَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ وَعَلَيْهِ قَمِيصُ حَرِيرٍ فَقَالَ
عُمَرُ: مَا هَذَا يَا خَالِدُ؟ فَقَالَ: وَمَا بأس يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَلَيْسَ قَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ؟ فَقَالَ: وَأَنْتَ مِثْلُ ابْنِ عَوْفٍ؟ وَلَكَ مِثْلُ مَا
لِابْنِ عَوْفٍ؟ عَزَمْتُ
(7/115)
عَلَى مَنْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَخَذَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَائِفَةٍ مِمَّا يَلِيهِ. قَالَ:
فَمَزَّقُوهُ حَتَّى لَمَّ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ- ثُمَّ شَكَّ حَمَّادٌ في أبى وائل- قال: ولما حَضَرَتْ
خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْوَفَاةُ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْقَتْلَ
فِي مَظَانِّهِ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إِلَّا أَنْ أَمُوتَ عَلَى
فِرَاشِي. وَمَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ
والسماء تهلنى تمطر إلى الصُّبْحَ، حَتَّى نُغِيرَ عَلَى الْكُفَّارِ.
ثُمَّ قَالَ: إذا أنامت فَانْظُرُوا إِلَى سِلَاحِي وَفَرَسِي
فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ خَرَجَ
عُمَرُ عَلَى جنازته فذكر قوله:
ما على آل نساء الْوَلِيدِ أَنْ يَسْفَحْنَ عَلَى خَالِدٍ مِنْ
دُمُوعِهِنَّ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعًا أَوْ لَقْلَقَةً.
قَالَ ابْنُ الْمُخْتَارِ: النَّقْعُ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ،
وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ. وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ بَعْضَ هَذَا فَقَالَ: وَقَالَ عُمَرُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ
عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لقلقة. وقال محمد
بن سعد ثنا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نُمَيْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ
قال: لما مات خالد ابن الْوَلِيدِ اجْتَمَعَ نِسْوَةُ بَنِي
الْمُغِيرَةِ فِي دَارِ خَالِدٍ يَبْكِينَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لِعُمَرَ:
إِنَّهُنَّ قَدِ اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وَهُنَّ خُلَقَاءُ
أَنْ يُسْمِعْنَكَ بَعْضَ مَا تَكْرَهُ. فَأَرْسِلْ إِلَيْهِنَّ
فَانْهَهُنَّ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا عَلَيْهِنَّ أن ينزفن مِنْ
دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعًا أَوْ
لَقْلَقَةً. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ
الْأَعْمَشِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَاتَ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بِالْمَدِينَةِ فَخَرَجَ عُمَرُ فِي جِنَازَتِهِ وَإِذَا
أُمُّهُ تَنْدُبُهُ وَتَقُولُ:
أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ ألف من القوم ... إذا ما كبت وجوه الرجال
فقال: صدقت والله إن كان لذلك.
وقال سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ عَنْ سَالِمٍ. قَالَ:
فَأَقَامَ خَالِدٌ فِي الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا ظن عمر أنه قد زال ما
كان يخشاه من افتتان الناس به، وقد عزم على توليته بعد أن يرجع من
الحج، واشتكى خالد بعده وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَدِينَةِ زَائِرًا
لِأُمِّهِ فَقَالَ لَهَا: أَحْدِرُونِي إِلَى مُهَاجِرِي، فَقَدِمَتْ
بِهِ الْمَدِينَةَ وَمَرَّضَتْهُ فَلَمَّا ثَقُلَ وَأَظَلَّ قُدُومُ
عُمَرَ لَقِيَهُ لَاقٍ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ صَادِرًا عَنْ حَجِّهِ
فقال له عمريهم [1] فقال: خالد ابن الوليد ثقيل لما به. فطوى عمر
ثَلَاثًا فِي لَيْلَةٍ فَأَدْرَكَهُ حِينَ قَضَى، فَرَقَّ عَلَيْهِ
وَاسْتَرْجَعَ وَجَلَسَ بِبَابِهِ حَتَّى جُهِّزَ، وَبَكَتْهُ
الْبَوَاكِي، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَلَا تَسْمَعُ أَلَا تَنْهَاهُنَّ؟
فَقَالَ: وَمَا عَلَى نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَنْ يَبْكِينَ أَبَا
سُلَيْمَانَ؟ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ وَلَا لَقْلَقَةٌ. فَلَمَّا
خَرَجَ لِجِنَازَتِهِ رَأَى عُمَرَ امْرَأَةً محرمة تَبْكِيهِ
وَتَقُولُ:
أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفٍ من الناس ... إذا ما كبت وجوه الرجال
__________
[1] كذا بالحلبية وفي المصرية بياض.
(7/116)
أشجاع فأنت أشجع من ليث ... ضمر بن جَهْمٍ
أَبِي أَشْبَالِ
أَجَوَادٌ فَأَنْتَ أَجْوَدُ مِنْ سيل ... دِيَاسٍ يَسِيلُ بَيْنَ
الْجِبَالِ
فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هذه؟ فقيل له: أمّه. فقال: أمّه والا له ثلاثا.
وهل قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِ خَالِدٍ. قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ
يَتَمَثَّلُ فِي طَيِّهِ تِلْكَ الثَّلَاثَ فِي لَيْلَةٍ وَفِي
قُدُومِهِ.
تُبَكِّي مَا وَصَلْتَ بِهِ النَّدَامَى ... وَلَا تَبْكِي فَوَارِسَ
كَالْجِبَالِ
أُولَئِكَ إِنْ بَكَيْتَ أَشَدُّ فَقْدًا ... مِنَ الْأَذْهَابِ
وَالْعَكَرِ الْجَلَالِ
تَمَنَّى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ مَدَاهُمْ ... فَلَمْ يَدْنُوا لَأَسْبَابِ
الْكَمَالِ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأُمِّ خالد: أخالدا أو أجره
ترزئين؟ عزمت عليك أن لا تبيني حَتَّى تَسْوَدَّ يَدَاكِ مِنَ
الْخِضَابِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَقْتَضِي مَوْتَهُ بِالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دُحَيْمٌ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ
الْجُمْهُورِ وَهُمُ الْوَاقِدِيُّ، وَكَاتِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ القاسم ابن سَلَّامٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمُنْذِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بن نمير، وأبو عبد الله
الْعُصْفُرِيُّ، وَمُوسَى بْنُ أَيُّوبَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ
أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُمْ، أَنَّهُ مَاتَ بِحِمْصَ سَنَةَ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ. زَادَ الْوَاقِدِيُّ:
وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
الزِّنَادِ وَغَيْرِهِ قَالُوا: قَدِمَ خَالِدٌ الْمَدِينَةَ بَعْدَ
مَا عَزَلَهُ عُمَرُ فَاعْتَمَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمْ
يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَرَوَى
الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَأَى حُجَّاجًا يُصَلُّونَ بِمَسْجِدِ
قُبَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ نَزَلْتُمْ بِالشَّامِ؟ قَالُوا: بِحِمْصَ،
قَالَ: فَهَلْ مِنْ معرفة خَبَرٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ مَاتَ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ. قَالَ: فَاسْتَرْجَعَ عُمَرُ وَقَالَ: كَانَ وَاللَّهِ
سَدَّادًا لِنُحُورِ الْعَدُوِّ، مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ. فَقَالَ لَهُ
عَلِيٌّ: فَلِمَ عَزَلْتَهُ؟ قَالَ: لِبَذْلِهِ الْمَالَ لِذَوِي
الشَّرَفِ وَاللِّسَانِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَلِيٍّ: نَدِمْتُ عَلَى مَا
كَانَ مِنِّي. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن أبى خالد، سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ
أَبِي حَازِمٍ يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ
عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، لَقَدْ كُنَّا نَظُنُّ بِهِ
أُمُورًا مَا كَانَتْ. وَقَالَ جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ:
لَمَّا مَاتَ خَالِدٌ لَمْ يُوجَدْ لَهُ إلا فرسه وغلامه وسلاحه، وقال
القاضي المعافى بن زكريا الحريري: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ
الْعَسْكَرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ حَدَّثَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حمزة اللخمي ثنا أبو على الحرنازى قَالَ: دَخَلَ
هِشَامُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ أَنْشِدْنِي
شِعْرَكَ فِي خَالِدٍ. فَأَنْشَدُهُ فَقَالَ: قَصَّرْتَ فِي الثَّنَاءِ
عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنَّهُ كَانَ لِيُحِبُّ
أَنْ يُذِلَّ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الشَّامِتُ بِهِ
لَمُتَعَرِّضًا لِمَقْتِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ قَاتَلَ اللَّهُ
أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا أَشْعَرَهُ.
(7/117)
وقل لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الَّذِي
مَضَى ... تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قدى
فَمَا عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بِنَافِعِي ... وَلَا مَوْتُ
مَنْ قَدْ مَاتَ يَوْمًا بِمُخْلِدِي
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ مَا عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا كَانَ فيه. ولقد مات سعيدا وعاش حميدا ولكن
رأيت الدهر ليس بقائل.
طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ
ابْنُ نَوْفَلِ بْنِ نَضْلَةَ بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طريف بن
عمر بن قعير بن الحارث بن ثعلبة بن داود بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ
الْأَسَدِيُّ الْفَقْعَسِيُّ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخَنْدَقَ مِنْ
نَاحِيَةِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَوَفَدَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ، وَادَّعَى
النُّبُوَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ
ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ ابنه خيال قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ: مَا اسْمُ الَّذِي
يَأْتِي إِلَى أَبِيكَ؟ فَقَالَ: ذُو النُّونِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ
وَلَا يَخُونُ، وَلَا يَكُونُ كَمَا يَكُونُ. فَقَالَ: لَقَدْ سَمَّى
مَلَكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ:
قَتَلَكَ اللَّهُ وَحَرَمَكَ الشَّهَادَةَ. وَرَدَّهُ كَمَا جاء. فقتل
خيال فِي الرِّدَّةِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ قَتَلَهُ عُكَّاشَةُ بْنُ
مِحْصَنٍ ثُمَّ قَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَّاشَةَ وَلَهُ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ وَقَائِعُ. ثُمَّ خَذَلَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَتَفَرَّقَ جُنْدُهُ فَهَرَبَ حَتَّى دَخَلَ
الشَّامَ فَنَزَلَ عَلَى آلِ جَفْنَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ حَتَّى
مَاتَ الصِّدِّيقُ حَيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ
وَاعْتَمَرَ، ثُمَّ جَاءَ يُسَلِّمُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ:
اغْرُبْ عَنِّي فَإِنَّكَ قَاتِلُ الرَّجُلَيْنِ الصَّالِحَيْنِ،
عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، وَثَابِتِ بْنِ أَقْرَمَ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُمَا رَجُلَانِ أَكْرَمَهُمَا اللَّهُ عَلَى
يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي بِأَيْدِيهِمَا. فَأَعْجَبَ عُمَرَ كَلَامُهُ
وَرَضِيَ عَنْهُ. وَكَتَبَ لَهُ بِالْوَصَاةِ إِلَى الْأُمَرَاءِ أَنْ
يُشَاوَرَ وَلَا يُوَلَّى شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ ثُمَّ عَادَ إِلَى
الشَّامِ مُجَاهِدًا فَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَبَعْضَ حُرُوبٍ
كَالْقَادِسِيَّةِ وَنَهَاوَنْدَ الْفُرْسِ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ
الْمَذْكُورِينَ، وَالْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ حَسُنَ
إِسْلَامُهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ. وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ
فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ: كَانَ
يُعَدُّ بِأَلْفِ فَارِسٍ لِشِدَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَبَصَرِهِ
بِالْحَرْبِ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا: أَسْلَمَ ثُمَّ
ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يُعْدَلُ
بِأَلْفِ فَارِسٍ. وَمِنْ شِعْرِهِ أَيَّامَ رِدَّتِهِ وَادِّعَائِهِ
النُّبُوَّةَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ أَصْحَابُهُ.
فَمَا ظَنُّكُمْ بِالْقَوْمِ إِذْ تَقْتُلُونَهُمْ ... أَلَيْسُوا
وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا بِرِجَالِ
فَإِنْ يكن اذواد أصبن ونسوة ... فلم يذهبوا فرعا بقتل خيال
نَصَبْتُ لَهُمْ صَدْرَ الْحِمَالَةِ إِنَّهَا ... مُعَاوِدَةٌ قَتْلَ
الكماة نزال
فيوما تراها في الجلال مصونة ... ويوما تراها غير ذات جلال
ويوما تراها تُضِيءُ الْمَشْرِفِيَّةُ نَحْوَهَا ... وَيَوْمًا
تَرَاهَا فِي ظِلَالِ عوالي
(7/118)
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا ... وعكاشة
العمى عِنْدَ مَجَالِ
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: باللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ مَا اطَّلَعْنَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ
يُرِيدُ الدُّنْيَا مَعَ الْآخِرَةِ، وَلَقَدِ اتَّهَمْنَا ثلاثة نفر
فما رأينا كما هجمنا عليهم من أمانتهم وزهدهم، طليحة بن خويلد الأسدي،
وعمرو بن معديكرب، وقيس ابن
المكشوح. قال ابن عساكر: ذكر أبو الحسين محمد بن أحمد بن الفراس
الْوَرَّاقُ أَنَّ طُلَيْحَةَ اسْتُشْهِدَ بِنَهَاوَنْدَ سَنَةَ
إِحْدَى وَعِشْرِينَ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَعَمْرِو بْنِ
مَعْدِيكَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ
ابن عبد الله بن عمرو بن عاصم بن عمرو بن زبيد الأصغر بْنُ رَبِيعَةَ
بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مَازِنَ بْنِ ربيعة ابن شيبة وهو زبيد الأكبر بن
الحارث بن صعف بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مُذْحِجٍ الزُّبَيْدِيُّ
الْمُذْحِجِيُّ أَبُو ثَوْرٍ، أَحَدُ الْفُرْسَانِ الْمَشَاهِيرِ
الْأَبْطَالِ، وَالشُّجْعَانِ الْمَذَاكِيرِ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ
عَشْرٍ، مَعَ وَفْدِ مُرَادٍ، وَقِيلَ فِي وَفْدِ زُبَيْدٍ قَوْمِهِ.
وَقَدِ ارْتَدَّ مَعَ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ فَسَارَ إِلَيْهِ
خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَقَاتَلَهُ فَضَرَبَهُ خَالِدُ
بْنُ سَعِيدٍ بِالسَّيْفِ عَلَى عَاتِقِهِ فَهَرَبَ وَقَوْمُهُ، وَقَدِ
اسْتَلَبَ خَالِدٌ سَيْفَهُ الصَّمْصَامَةَ، ثُمَّ أُسِرَ وَدُفِعَ
إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَنَّبَهُ وَعَاتَبَهُ واستنابه، فتاب وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ، فَشَهِدَ
الْيَرْمُوكَ ثُمَّ أَمَرَهُ عُمَرُ بِالْمَسِيرِ إِلَى سَعْدٍ
وَكَتَبَ بِالْوَصَاةِ بِهِ، وَأَنْ يُشَاوَرَ وَلَا يُوَلَّى شَيْئًا،
فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَبْلَى بَلَاءً
حَسَنًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ. وَقِيلَ إِنَّهُ قُتِلَ بِهَا،
وَقِيلَ بِنَهَاوَنْدَ، وَقِيلَ مَاتَ عَطَشًا فِي بَعْضِ الْقُرَى
يُقَالُ لَهَا رَوْذَةُ فاللَّه أعلم. وذلك كله في إِحْدَى وَعِشْرِينَ
فَقَالَ بَعْضُ مَنْ رَثَاهُ مَنْ قَوْمِهِ:
لَقَدْ غَادَرَ الرُّكْبَانُ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... بِرَوْذَةَ
شَخْصًا لَا جَبَانًا وَلَا غَمْرَا
فَقُلْ لِزُبَيْدٍ بل لمذحج كلها ... رزئتم أبا ثور قريع الوغى عَمْرَا
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ
الشُّعَرَاءِ الْمُجِيدِينَ، فَمِنْ شِعْرِهِ:
أَعَاذِلَ عُدَّتِي بَدَنِي وَرُمْحِي ... وَكُلُّ مُقَلَّصٍ سَلِسِ
الْقِيَادِ
أَعَاذِلَ إِنَّمَا أَفْنَى شَبَابِي ... إِجَابَتِيَ الصَّرِيخَ إِلَى
المنادي
مع الأبطال حتى سل جسمي ... وأقرع عَاتِقِي حَمْلُ النِّجَادِ
وَيَبْقَى بَعْدَ حِلْمِ الْقَوْمِ حِلْمِي ... وَيَفْنَى قَبْلَ زَادِ
الْقَوْمِ زَادِي
تَمَنَّى أَنْ يُلَاقِينِي قُيَيْسٌ ... وَدِدْتُ وَأَيْنَمَا مِنِّي
وِدَادِي
فَمَنْ ذَا عَاذِرِي مِنْ ذِي سَفَاهٍ ... يَرُودُ بنفسه منى المرادي
أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي ... عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ من
مرادى
(7/119)
لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي التَّلْبِيَةِ رَوَاهُ شَرَاحِيلُ بْنُ
الْقَعْقَاعِ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا
لَبَّيْنَا: لَبَّيْكَ تَعْظِيمًا إِلَيْكَ عُذْرَا هدى زبيد قد أتتك
قسرا يعدو بِهَا مُضَمَّرَاتٌ شَزْرَا يَقْطَعْنَ خَبْتًا وَجِبَالًا
وَعْرًا قَدْ تَرَكُوا الْأَوْثَانَ خِلْوًا صِفْرَا قَالَ عَمْرٌو:
فَنَحْنُ نَقُولُ الْآنَ وللَّه الْحَمْدُ كَمَا عَلَّمَنَا رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَبَّيْكَ اللَّهمّ
لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ
وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.
الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ
أَمِيرُ الْبَحْرَيْنِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. تَقَدَّمَ
أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
إِنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَعَزَلَهُ
عُمَرُ عَنِ الْبَحْرَيْنِ وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا هُرَيْرَةَ.
وَأَمَّرَهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ
إِلَيْهَا مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْحَجِّ. كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ
قَصَّتْهُ فِي سَيْرِهِ بِجَيْشِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَمَا جَرَى
لَهُ مِنْ خَرْقِ الْعَادَاتِ وللَّه الْحَمْدُ.
النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنِ بْنِ عَائِذٍ الْمُزَنِيُّ
أمير وقعة نهاوند، صحابى جليل، قَدِمَ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ مُزَيْنَةَ
فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاكِبٍ، ثُمَّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَبَعَثَهُ
الْفَارُوقُ أَمِيرًا عَلَى الْجُنُودِ إِلَى نَهَاوَنْدَ، فَفَتَحَ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَتْحًا عَظِيمًا، وَمَكَّنَ اللَّهُ لَهُ فِي
تِلْكَ الْبِلَادِ، وَمَكَّنَهُ مِنْ رِقَابِ أُولَئِكَ الْعِبَادِ،
وَمَكَّنَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ،
وَمَنَحَهُ النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ،
وأتاح له بعد ما أَرَاهُ مَا أَحَبَّ شَهَادَةً عَظِيمَةً وَذَلِكَ
غَايَةُ الْمُرَادِ، فَكَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
حَقِّهِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمن أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ
اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. 9: 111 |