البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دخلت سنة سبعين من الهجرة
فِيهَا ثَارَتِ الرُّومُ وَاسْتَجَاشُوا عَلَى مَنْ بِالشَّامِ،
وَاسْتَضْعَفُوهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ
بَيْنَ بنى مروان وابن الزبير، فصالح عبد الملك مَلِكَ الرُّومِ
وَهَادَنَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كُلِّ
جُمْعَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ خَوْفًا مِنْهُ عَلَى الشَّامِ. وَفِيهَا
وَقْعُ الْوَبَاءُ بِمِصْرَ فَهَرَبَ مِنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مَرْوَانَ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ، فَنَزَلَ حُلْوَانَ وَهِيَ عَلَى
مَرْحَلَةٍ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَاتَّخَذَهَا مَنْزِلًا وَاشْتَرَاهَا
مِنَ الْقِبْطِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَبَنَى بِهَا دَارًا
لِلْإِمَارَةِ وَجَامِعًا، وَأَنْزَلَهَا الْجُنْدَ. وَفِيهَا رَكِبَ
مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمَعَهُ
أَمْوَالٌ جزيلة. فأعطى وفرق وأطلق لجماعة من رءوس الناس بالحجاز
أموالا كثيرة.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ،
وَأُمُّهُ جَمِيلَةُ بنت ثابت ابن أبى الأفلح،
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَرْوِ إِلَّا عَنْ أَبِيهِ حَدِيثًا وَاحِدًا
«إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا» الحديث، وعنه ابناه حفص وعبد
اللَّهِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ طَلَّقَ أَبُوهُ أُمَّهُ
فَأَخَذَتْهُ جَدَّتُهُ الشَّمُوسُ بِنْتُ أَبِي عَامِرٍ، أتى به
الصِّدِّيقُ وَقَالَ شَمُّهَا وَلُطْفُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْكَ، ثم
لما زوجه أبوه في أيام إمارته أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
شَهْرًا، ثُمَّ كَفَّ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ ثُمُنَ
مَالِهِ وَأَمْرَهُ أَنْ يَتَّجِرَ وَيُنْفِقَ عَلَى عَيَالِهِ.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عَاصِمٍ وَبَيْنَ الحسن
والحسين مُنَازَعَةٌ فِي أَرْضٍ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ عَاصِمٌ مِنَ
الْحَسَنِ الْغَضَبَ قَالَ: هِيَ لَكَ، فَقَالَ لَهُ: بَلْ هِيَ لَكَ،
فَتَرَكَاهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ
ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى أَخَذَهَا النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
وَكَانَ عَاصِمٌ رَئِيسًا وَقُورًا كَرِيمًا فَاضِلًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ بالمدينة
قبيصة بن ذؤيب الخزاعي الكلبي
أبو العلاء من كبار التابعين وهو أخو معاوية من الرضاعة، كان من فقهاء
أهل المدينة وصالحيهم، انتقل إلى الشام وكان معلم كتاب.
قيس بن دريج
المشهور أنه مِنْ بَادِيَةِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَخُو
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ
لُبْنَى بِنْتَ الْحَبَّابِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَمَّا طَلَّقَهَا
هَامَ لِمَا بِهِ مِنَ الْغَرَامِ، وَسَكَنَ الْبَادِيَةَ، وجعل يقول
فيها الأشعار وتحل جِسْمُهُ، فَلَمَّا زَادَ مَا بِهِ أَتَاهُ ابْنُ
أَبِي عَتِيقٍ فَأَخْذَهُ وَمَضَى بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ فَقَالَ لَهُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، ارْكَبْ مَعِي فِي
حَاجَةٍ، فَرَكِبَ وَاسْتَنْهَضَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ
وُجُوهِ قُرَيْشٍ، فَذَهَبُوا مَعَهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا
يُرِيدُ، حَتَّى أَتَى بِهِمْ بَابَ زَوْجِ لُبْنَى، فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ فَإِذَا وُجُوهُ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ
فِدَاكُمْ! مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: حَاجَةٌ لِابْنِ أَبِي عتيق،
فقال الرجل: اشهدوا أَنَّ حَاجَتَهُ مَقْضِيَّةٌ، وَحُكْمَهُ جَائِزٌ،
فَقَالُوا: أَخْبِرْهُ بِحَاجَتِكَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ:
اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ لُبْنَى مِنْهُ طَالِقٌ،
(8/313)
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ:
قَبَّحَكَ اللَّهُ، أَلِهَذَا جِئْتَ بِنَا؟ فَقَالَ: جُعِلْتُ
فِدَاكُمْ يُطَلِّقُ هَذَا زَوْجَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهَا
خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي هَوَاهَا صَبَابَةً،
وَاللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَنْتَقِلَ مَتَاعُهَا إِلَى بَيْتِ
قَيْسٍ، فَفَعَلَتْ وَأَقَامُوا مُدَّةً فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ
وَأَطْيَبِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَزِيدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحِمْيَرِيُّ
الشَّاعِرُ كَانَ كَثِيرَ الشِّعْرِ وَالْهَجْوِ، وَقَدْ أَرَادَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ قَتْلَهُ لِكَوْنِهِ هَجَا أَبَاهُ
زِيَادًا، فَمَنَعَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ: أَدِّبْهُ،
فَسَقَاهُ دَوَاءً مُسُهِلًا وَأَرْكَبَهُ عَلَى حِمَارٍ وَطَافَ بِهِ
فِي الْأَسْوَاقِ وَهُوَ يَسْلَحُ عَلَى الْحِمَارِ فَقَالَ فِي
ذَلِكَ: -
يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتُ وَشِعْرِي ... رَاسِخٌ مِنْكَ فِي
الْعِظَامِ الْبَوَالِي
(بَشِيرُ بْنُ النَّضْرِ) قَاضِي مِصْرَ، كَانَ رِزْقُهُ فِي الْعَامِ
أَلْفَ دِينَارٍ، تُوُفِّيَ بِمِصْرَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ الْخَوْلَانِيُّ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ (مَالِكُ بْنُ يَخَامِرَ) السَّكْسَكِيُّ الْأَلْهَانِيُّ
الْحِمْصِيُّ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَيُقَالُ لَهُ صُحْبَةٌ فاللَّه
أَعْلَمُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ عَنْ
مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ الطَّائِفَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى
الْحَقِّ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ رِوَايَةِ
الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ لَهُ صُحْبَةٌ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَكَانَ مِنْ
أَخَصِّ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ
غَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ
اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وسبعين
ففيها كَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنْ عَبْدَ
الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَارَ فِي جُنُودٍ هَائِلَةٍ مِنَ الشَّامِ
قَاصِدًا مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَالْتَقَيَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَا قَبْلَهَا يركب كل واحد ليلتقى بالآخر
فَيَحُولُ بَيْنَهُمَا الشِّتَاءُ وَالْبَرْدُ وَالْوَحْلُ، فَيَرْجِعُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا
الْعَامِ سَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ
السَّرَايَا، وَدَخَلَ بَعْضُ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ
فَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي السِّرِّ، فَاسْتَجَابَ
لَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ سَارَ إِلَى الْحِجَازِ
فَجَاءَ وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَأَنَّبَ
الْكُبَرَاءَ مِنَ النَّاسِ وَشَتَمَهُمْ وَلَامَهُمْ عَلَى دُخُولِ
أُولَئِكَ إِلَيْهِمْ، وَإِقْرَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهَدَمَ
دُورَ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ بَلَغَهُ
قَصْدُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ بِجُنُودِ الشَّامِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ
وَوَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى مَسْكِنٍ، وَكَتَبَ إِلَى
الْمَرْوَانِيَّةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِمَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ
فَأَجَابُوهُ، وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ أَصْبَهَانَ
فَقَالَ نَعَمْ- وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ- وَقَدْ
جَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ
مَرْوَانَ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ معاوية،
وخرج مصعب وَقَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَخَذَلُوهُ
وَجَعَلَ يَتَأَمَّلُ مَنْ مَعَهُ فَلَا يَجِدُهُمْ يُقَاوِمُونَ
أَعْدَاءَهُ، فَاسْتَقْتَلَ وَطَمَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ:
لِي بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُسْوَةٌ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ
(8/314)
إِلْقَائِهِ يَدَهُ، وَمِنَ الذِّلَّةِ
لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَقُولُ
مُسَلِّيًا نَفْسَهُ:
وَإِنَّ الأولى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأَسَّوْا فَسَنُّوا
لِلْكِرَامِ التَّأَسِّيَا
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بعض أصحابه أَنْ
يُقِيمَ بِالشَّامِ وَأَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُصْعَبٍ جيشا. فأبى وقال:
لعلى إن بعثت رجلا شجاعا كان لا رأى له، ومن لَهُ رَأْيٌ وَلَا
شَجَاعَةَ لَهُ، وَإِنِّي أَجِدُ من نفسي بصيرا بِالْحَرْبِ
وَشَجَاعَةً، وَإِنَّ مُصْعَبًا فِي بَيْتِ شَجَاعَةٍ، أبوه أشجع قرشي،
وأخوه لا تجهل شجاعته، وهو شجاع ومعه من يخالفه ولا علم له بالحرب، وهو
يحب الدعة والصفح، ومعى من ينصح إلى ويوافقني على ما أريد، فَسَارَ
بِنَفْسِهِ فَلَمَّا تَقَارَبَ الْجَيْشَانِ بَعَثَ عَبْدُ الملك إلى
أمراء مصعب يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَيَعِدُهُمُ الْوِلَايَاتِ،
فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ فَأَلْقَى
إِلَيْهِ كِتَابًا مَخْتُومًا وَقَالَ: هَذَا جَاءَنِي مِنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِتْيَانِ
إِلَيْهِ وَلَهُ نِيَابَةُ الْعِرَاقِ، وَقَالَ لِمُصْعَبٍ: أَيُّهَا
الْأَمِيرُ! إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أُمَرَائِكَ إِلَّا
وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِثْلُ هَذَا، فَإِنْ أَطَعْتَنِي ضَرَبْتُ
أَعْنَاقَهُمْ.
فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنِّي لَوْ فعلت ذلك لم ينصحنا عشائرهم بعدهم،
فقال: فابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه، فان كانت لك النصرة ضربت
أعناقهم، وإن كانت عليك خرجوا بعد ذلك. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا
النُّعْمَانِ، إِنِّي لَفِي شُغْلٍ عَنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ مُصْعَبٌ:
رَحِمَ الله أبا بحر- يعنى الأحنف- إِنْ كَانَ لِيُحَذِّرُنِي غَدْرَ
أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ
الْآنَ. ثُمَّ تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مِنْ
مَسْكِنٍ، فَحَمَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ- وَهُوَ أَمِيرُ
الْمُقَدِّمَةِ الْعِرَاقِيَّةِ لِجَيْشِ مُصْعَبٍ- عَلَى مُحَمَّدِ
بْنِ مَرْوَانَ- وهو أمير مقدمة الشام- فأزالهم عن موضعهم، فأردفه عبد
الملك بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَحَمَلُوا على
ابن الأشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الْأَشْتَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعَفَا عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ
عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ عَلَى خَيْلِ مُصْعَبٍ فَهَرَبَ أَيْضًا
وَلَجَأَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَجَعَلَ مُصْعَبُ
بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْقَلْبِ يُنْهِضُ أَصْحَابَ
الرَّايَاتِ وَيَحُثُّ الشُّجْعَانَ وَالْأَبْطَالَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا
إِلَى أَمَامِ الْقَوْمِ، فَلَا يَتَحَرَّكُ أَحَدٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا إِبْرَاهِيمُ وَلَا إِبْرَاهِيمَ لِي الْيَوْمَ، وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَتَخَاذَلَتِ الرِّجَالُ، وَضَاقَ
الْحَالُ، وكثر النزال. قال المدائني: أرسل عبد الملك أخاه إِلَى
مُصْعَبٍ يُعْطِيهِ الْأَمَانَ فَأَبَى وَقَالَ: إِنَّ مِثْلِي لَا
يَنْصَرِفُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا.
قَالُوا: فَنَادَى مُحَمَّدُ بْنُ مروان عيسى بن مصعب فقال: يا ابن
أَخِي لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ، لَكَ الْأَمَانُ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ:
قَدْ آمَنَكَ عَمُّكَ فَامْضِ إِلَيْهِ، فقال: لا يتحدث نِسَاءُ
قُرَيْشٍ أَنِّي أَسْلَمْتُكَ لِلْقَتْلِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ
فَارْكَبْ خَيْلَ السَّبْقِ فَالْحَقْ بِعَمِّكَ فَأَخْبِرْهُ بِمَا
صَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَإِنِّي مَقْتُولٌ هَاهُنَا، فَقَالَ:
وَاللَّهِ إِنِّي لَا أُخْبِرُ عَنْكَ أَحَدًا أَبَدًا، وَلَا أُخْبِرُ
نِسَاءَ قُرَيْشٍ بِمَصْرَعِكَ، وَلَا أُقْتَلُ إِلَّا مَعَكَ وَلَكِنْ
إِنْ شِئْتَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ وَسِرْنَا إِلَى الْبَصْرَةِ
فَإِنَّهُمْ عَلَى الجماعة، فقال: والله لا يتحدث قريش
(8/315)
بأنى فررت من القتال، فقال لِابْنِهِ:
تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ، فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأُثْخِنَ مُصْعَبٌ بِالرَّمْيِ فَنَظَرَ
إِلَيْهِ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ فَحَمَلُ عَلَيْهِ
فَطَعَنَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا ثَارَاتِ المختار، وَنَزَلَ إِلَيْهِ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ
التَّمِيمِيُّ فَقَتَلَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ وَأَتَى بِهِ عَبْدَ
الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَسَجَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَأَطْلَقَ لَهُ
أَلْفَ دِينَارٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَقَالَ: لَمْ أَقْتُلْهُ
عَلَى طَاعَتِكَ وَلَكِنْ بِثَأْرٍ كَانَ لِي عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ
وَلِيَ لَهُ عَمَلًا قَبْلَ ذَلِكَ فَعَزَلَهُ عَنْهُ وَأَهَانَهُ.
قَالُوا: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ
الْمَلِكِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ
مُصْعَبٍ صُحْبَةٌ قَدِيمَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ،
وَلَكِنَّ هَذَا الْمَلِكَ عَقِيمٌ، وَقَالَ: لَمَّا تَفَرَّقَ عَنْ
مُصْعَبٍ جُمُوعُهُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ عِيسَى: لَوِ اعْتَصَمْتَ
بِبَعْضِ الْقِلَاعِ وَكَاتَبْتَ مَنْ بَعُدُ عَنْكَ مِثْلَ
الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَغَيْرِهِ فَقَدِمُوا عَلَيْكَ،
فَإِذَا اجْتَمَعَ لَكَ مَا تُرِيدُ مِنْهُمْ لَقِيَتَ الْقَوْمَ،
فَإِنَّكَ قَدْ ضَعُفْتَ جِدًّا. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا،
ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَرَى لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَكَيْفَ قُتِلَ
كَرِيمًا وَلَمْ يُلْقِ بِيَدِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ وَفَاءً، وَكَذَلِكَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ، وَنَحْنُ مَا
وَجَدْنَا لَهُمْ وَفَاءً، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَبَقِيَ فِي
قَلِيلٍ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَمَالَ الْجَمِيعُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُحِبُّ مُصْعَبًا حَبًّا شَدِيدًا،
وَكَانَ خَلِيلًا لَهُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَقَالَ لِأَخِيهِ
مُحَمَّدٍ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَآمِنْهُ، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا
مُصْعَبُ قَدْ آمَنُكَ ابْنُ عَمِّكَ عَلَى نَفْسِكَ وَوَلَدِكَ
وَمَالِكَ وَأَهْلِكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْبِلَادِ،
وَلَوْ أَرَادَ بِكَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ، فَقَالَ مُصْعَبٌ:
قُضِيَ الْأَمْرُ، إِنَّ مِثْلِي لَا يَنْصَرِفُ عَنْ مِثْلِ هَذَا
الْمَوْقِفِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا، فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ
عِيسَى فقاتل، فقال محمد بن مروان: يا ابن أَخِي لَا تَقْتُلْ
نَفْسَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَاتَلَ
حَتَّى قُتِلَ رحمه الله، ثم ذكر من قتل منهم بَعْدَهُ كَمَا
تَقَدَّمَ، قَالَ: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بَكَى وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ
أَصْبِرَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُبِّي لَهُ حَتَّى دَخَلَ
السَّيْفُ بَيْنَنَا، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ. وَلَقَدْ كَانَتِ
الْمَحَبَّةُ وَالْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، مَتَى تَلِدُ
النِّسَاءُ مِثْلَ مُصْعَبٍ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِمُوَارَاتِهِ وَدَفَنَهُ
هُوَ وَابْنَهُ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي قُبُورٍ
بِمَسْكِنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ:
وَكَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى أَوِ الْآخِرَةِ مِنْ
سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَالَ
الْمَدَائِنِيُّ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَلَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُصْعَبًا ارْتَحَلَ إِلَى
الْكُوفَةِ فنزل النخيلة فوفدت عليه الوفود مِنْ رُؤَسَاءِ
الْقَبَائِلِ وَسَادَاتِ الْعَرَبِ، وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ
بِفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ وَاسْتِشْهَادٍ بِأَشْعَارٍ حَسَنَةٍ،
وَبَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَفَرَّقَ الْعِمَالَاتِ فِي النَّاسِ،
وَوَلَّى الْكُوفَةَ قطن بن عبد الله الحرى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ
عَزَلَهُ وَوَلَّى أَخَاهُ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَيْهَا. وَخَطَبَ
عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا بِالْكُوفَةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لَوْ كَانَ خَلِيفَةً كَمَا يَزْعُمُ
لَخَرَجَ فَآسَى بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَغْرِزْ ذَنْبَهُ فِي الْحَرَمِ،
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عليكم
(8/316)
أَخِي بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ وَأَمَرْتُهُ
بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى أَهْلِ
الْمَعْصِيَةِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا بلغهم مقتل مصعب تنازع
في إمارتها أبان بن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بكرة، فغلبه أَبَانٍ عَلَيْهَا، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا فَكَانَ
أَشْرَفَ الرَّجُلَيْنِ، قال أعرابى: والله لقد رأيت رداء أَبَانٍ
مَالَ عَنْ عَاتِقِهِ يَوْمًا فَابْتَدَرَهُ مَرْوَانُ وسعيد بن العاص
أيهما يسويه عن منكبيه، وقال غيره: مدّ أبان يوما رجله فابتدرها
مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَيُّهُمَا يَغْمِزُهَا،
قال: فبعث عبد الملك خَالِدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
أَسِيدٍ وَالِيًا عَلَيْهَا- يَعْنِي عَلَى الْبَصْرَةِ- فَأَخَذَهَا
من أَبَانٍ وَاسْتَنَابَ فِيهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بكرة،
وعزل أبانا عَنْهَا. قَالُوا: وَقَدْ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بِطَعَامٍ كَثِيرٍ فَعُمِلَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَكَلُوا مِنْ
سِمَاطِهِ وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى السَّرِيرِ عَمْرُو بْنُ
حُرَيْثٍ، فقال له عبد الملك:
ما ألذ عيشتنا لو أن شيئا يدوم؟ ولكن كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ
وَكُلُّ جَدِيدٍ يَا أُمَيْمَ إلى البلى ... وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا
يَصِيرُ إِلَى كَانْ
فَلَمَّا فرغ الناس من الأكل نَهَضَ فَدَارَ فِي الْقَصْرِ وَجَعَلَ
يَسْأَلُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ عَنْ أَحْوَالِ الْقَصْرِ وَمَنْ بَنَى
أماكنه وبيوته ثم عاد إِلَى مَجْلِسِهِ فَاسْتَلْقَى وَهُوَ يَقُولُ:
اعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ... وَاكَدَحْ لِنَفْسِكَ
أَيُّهَا الْإِنْسَانْ
قكأن مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى ... وَكَأَنَّ مَا هُوَ
كَائِنٌ قَدْ كَانْ
قَالَ ابن جرير: وفيها رجع عبد الملك كما زعم الواقدي إلى الشام، وفيها
عزل ابن الزبير جابر ابن الْأَسْوَدِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى
عَلَيْهَا طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ هُوَ
آخِرَ أُمَرَائِهِ عَلَيْهَا، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهَا طَارِقُ بْنُ
عَمْرٍو مَوْلَى عُثْمَانَ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا
حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ
وِلَايَةٌ عَلَى الْعِرَاقِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا عَقَدَ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ نائب مصر لحسان العاني عَلَى غَزْوِ
إِفْرِيقِيَّةَ فَسَارَ إِلَيْهَا فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَافْتَتَحَ
قَرْطَاجَنَّةَ وَكَانَ أَهْلُهَا رُومًا عُبَّادَ أَصْنَامٍ. وَفِيهَا
قُتِلَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى الْيَمَامَةَ،
وَفِيهَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْرٍ فِي الْيَمَامَةِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَهُوَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ
بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصي بن كلاب، أبو عَبْدِ
اللَّهِ الْقُرَشِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ أَبُو عِيسَى أيضا الأسدي، وأمه
كرمان بِنْتُ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيَّةُ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ
وَجْهًا، وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا. وَأَسْخَاهُمْ كَفًّا، وَقَدْ حَكَى
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ الزبير وَسَعْدٍ
وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَكَمُ بن عيينة
وعمرو بن دينار الجمحيّ، وإسماعيل ابن أَبِي خَالِدٍ، وَوَفَدَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَكَانَ
مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ
أَنَّ جَمِيلًا نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فَقَالَ:
إِنَّ هَاهُنَا فَتًى أَكْرَهُ أَنْ تَرَاهُ بُثَيْنَةُ، وَقَالَ
(8/317)
الشعبي: ما رأيت أميرا على منبر قط أحسن
منه، وكذا قال إسماعيل بن خَالِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ هُوَ أَجْمَلُ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَلِيَ
إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ عبد الله حتى قتله عبد الملك بمسكن
بموضع قريب من أو انا عَلَى نَهْرِ دُجَيْلٍ عِنْدَ دَيْرِ
الْجَاثَلِيقِ، وَقَبْرُهُ إِلَى الْآنِ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا صِفَةَ مقتله الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَنَّهُ
قَتَلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ سَبْعَةَ
آلَافٍ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا قَتَلَ مُصْعَبٌ الْمُخْتَارَ
طَلَبَ أَهْلُ الْقَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ مِنْ مُصْعَبٍ
الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبَّادَ بْنَ
الْحُصَيْنِ فَجَعَلَ يُخْرِجُهُمْ مُلْتَفِّينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:
الْحَمْدُ للَّه الَّذِي نَصَرَكُمْ عَلَيْنَا وَابْتَلَانَا
بِالْأَسْرِ، يا ابن الزُّبَيْرِ مَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ،
وَمَنْ عَاقَبَ لَا يَأْمَنُ الْقِصَاصَ، نَحْنُ أَهْلُ قِبْلَتِكُمْ
وَعَلَى مِلَّتِكُمْ وَقَدْ قَدَرْتَ فَاسْمَحْ وَاعْفُ عَنَّا، قَالَ:
فَرَقَّ لَهُمْ مُصْعَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُمْ، فَقَامَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ وَغَيْرُهُ مِنْ
كُلِّ قَبِيلَةٍ فَقَالُوا: قَدْ قَتَلُوا أَوْلَادَنَا وَعَشَائِرَنَا
وَجَرَحُوا مِنَّا خَلْقًا، اخْتَرْنَا أَوِ اخْتَرْهُمْ، فَأَمَرَ
حِينَئِذٍ بِقَتْلِهِمْ، فَنَادَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: لَا تَقْتُلْنَا
وَاجْعَلْنَا مُقَدِّمَتَكَ فِي قِتَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، فَإِنْ ظَفَرْنَا فَلَكُمْ، وَإِنْ قُتِلْنَا لَا نُقْتَلُ
حَتَّى نَقْتُلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً، وَكَانَ الَّذِي تُرِيدُ، فَأَبَى
ذَلِكَ مُصْعَبٌ، فَقَالَ لَهُ مُسَافِرٌ: اتَّقِ اللَّهَ يَا
مُصْعَبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَكَ أَنْ لَا تَقْتُلَ
نَفْسًا مُسْلِمَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنَّ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً 4: 93 فلم يسمع
له بل أمر بضرب رقابهم جَمِيعِهِمْ وَكَانُوا سَبْعَةَ آلَافِ نَفْسٍ،
ثُمَّ كَتَبَ مصعب إلى ابن الأشتر أن أجبنى فَلَكَ الشَّامُ
وَأَعِنَّةُ الْخَيْلِ، فَسَارَ ابْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ.
وَقِيلَ إِنَّ مُصْعَبًا لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ قَوْمٍ
خَلَعُوا الطاعة وقاتلوا حتى غُلِبُوا تَحَصَّنُوا وَسَأَلُوا
الْأَمَانَ فَأُعْطُوهُ ثُمَّ قُتِلُوا بعد ذلك. فقال: وكم هم؟ فقال:
خَمْسَةُ آلَافٍ، فَسَبَّحَ ابْنُ عُمَرَ وَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: لَوْ
أَنَّ رَجُلًا أَتَى مَاشِيَةَ الزُّبَيْرِ فَذَبَحَ مِنْهَا خَمْسَةَ
آلَافِ مَاشِيَةٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَلَسْتَ تَعُدُّهُ مُسْرِفًا؟
قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: أَفَتَرَاهُ إِسْرَافًا فِي الْبَهَائِمِ وَلَا
تَرَاهُ إِسْرَافًا فِي من ترجو توبته؟
يا ابن أَخِي أَصِبْ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مَا اسْتَطَعْتَ فِي
دُنْيَاكَ. ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا بَعَثَ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ إِلَى
أَخِيهِ بِمَكَّةَ وَتَمَكَّنَ مُصْعَبٌ فِي الْعِرَاقِ تَمَكُّنًا
زَائِدًا، فَقَرَّرَ بِهَا الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالَ، وحظي عنده ابن
الْأَشْتَرِ فَجَعَلَهُ عَلَى الْوِفَادَةِ، ثُمَّ رَحَلَ مُصْعَبٌ
إِلَى أَخِيهِ بِمَكَّةَ فَأَعْلَمَهُ بِمَا فَعَلَ فَأَقَرَّهُ على ما
صنع، إلا ابن الْأَشْتَرِ لَمْ يُمْضِ لَهُ مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِ،
وَقَالَ لَهُ: أَتُرَانِي أُحِبُّ الْأَشْتَرَ وَهُوَ الَّذِي
جَرَحَنِي هَذِهِ الْجِرَاحَةَ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِمَنْ قَدِمَ مَعَ
مُصْعَبٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ
أَنَّ لِي بِكُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو حاجز الْأَسَدِيُّ- وَكَانَ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ
بِالْبَصْرَةِ- إِنَّ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلًا قَدْ مَضَى يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مَا قَالَ الْأَعْشَى: -
عُلِّقْتُهَا عَرَضًا وَعُلِّقَتْ رَجُلًا ... غَيْرِي وَعُلِّقَ
أُخْرَى غَيْرَهَا الرَّجُلُ
(8/318)
قُلْتُ كَمَا قِيلَ أَيْضًا: -
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا ... وَأُخْرَى بِنَا
مَجْنُونَةٌ لَا نُرِيدُهَا
عُلِّقْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلِّقْتَ أَهْلَ الشَّامِ
وَعُلِّقَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى مَرْوَانَ، فَمَا عَسَيْنَا أن نصنع؟
قال الشعبي: ما سمعت جوابا أحسن منه، وقال غيره: وكان مُصْعَبٌ مِنْ
أَشَدِّ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ وَقَدْ أمضى مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا كَثِيرًا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اجتمع عند الحجر الأسود جماعة
منهم ابن عمر ومصعب بن الزبير، فقالوا: ليقم كل واحد منكم وليسأل من
الله حاجته، فسأل ابن عمر المغفرة، وسأل مصعب أن يزوجه الله سُكَيْنَةَ
بِنْتَ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ، وَكَانَتَا من أحسن
النساء في ذلك الزمان، وَأَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ إِمْرَةَ
الْعِرَاقَيْنِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذلك، تزوج بعائشة بنت طلحة، وكان
صداقها عليه مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ بَاهِرَةَ الْجَمَالِ
جِدًّا، وَكَانَ مُصْعَبٌ أَيْضًا جَمِيلًا جِدًّا، وَكَذَلِكَ
بَقِيَّةُ زَوْجَاتِهِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجْتَمَعَ فِي الحجر مصعب
وعروة وابن الزبير وابن عمر، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:
أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلَافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ:
أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي الْعِلْمُ: وَقَالَ
مُصْعَبٌ، أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ وَالْجَمْعَ
بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى
الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالُوا كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ
ابْنُ عُمَرَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
وَقَالَ عَامِرٌ الشعيى: بينما أنا جالس إِذْ دَعَانِي الْأَمِيرُ
مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَدْخَلَنِي دار الامارة ثم كشف فَإِذَا
وَرَاءَهُ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا أَبْهَى
وَلَا أَحْسَنَ مِنْهَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ؟
فَقُلْتُ: لَا فَقَالَ: هَذِهِ عَائِشَةُ بنت طلحة، ثم خرجت فقالت:
مَنْ هَذَا الَّذِي أَظَهَرْتَنِي عَلَيْهِ؟ قَالَ:
هَذَا عامر الشعبي، قالت: فأطلق له شيئا، فأطلق لي عَشَرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ مَلَكْتُهُ،
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ
تَغَضَّبَتْ مَرَّةً عَلَى مُصْعَبٍ فَتَرَضَّاهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَطْلَقَتْهَا هِيَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي
أَصْلَحَتْ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ إِنَّهُ أُهْدِيَتْ لَهُ نَخْلَةٌ
مِنْ ذَهَبٍ ثِمَارُهَا مِنْ صُنُوفِ الْجَوَاهِرِ الْمُثْمِنَةِ،
فَقُوِّمَتْ بِأَلْفِي أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مِنْ متاع الفرس
فأعطاها لعائشة بنت طلحة.
وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ عَطَاءً،
لَا يَسْتَكْثِرُ مَا يُعْطِي وَلَوْ كَانَ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ
فَكَانَتْ عَطَايَاهُ لِلْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالْوَضِيعِ
وَالشَّرِيفِ مُتَقَارِبَةً، وَكَانَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ
يُبَخَّلُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مُصْعَبًا
غَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ
الرَّجُلُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ! مَا أَقْبَحَ بِمِثْلِي أَنْ
يَقُومَ يَوْمَ القيامة فيتعلق بأطرافك هذه الحسنة، وبوجهك هذا الَّذِي
يُسْتَضَاءُ بِهِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ مُصْعَبًا فِيمَ
قَتَلَنِي. فَعَفَا عَنْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أعز الله الأمير إن
(8/319)
رأيت ما وهبتني من حياتي في عيش رضى،
فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ إِنِّي أُشْهِدُكَ
أَنَّ نِصْفَهَا لِابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ حَيْثُ يَقُولُ فِيكَ: -
إِنَّ مُصْعَبًا شِهَابٌ مِنَ اللَّهِ ... تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمة لَيْسَ فِيهِ ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ
يَتَّقِي الله في الأمور وقد ... أفلح مَنْ كَانَ هَمَّهُ الِاتِّقَاءُ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ قَدْ
وَهَبْتَنِي حَيَاةً، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْعَلَ مَا قَدْ
وَهَبْتَنِي من الحياة في عيش رضى وَسِعَةٍ فَافْعَلْ، فَأَمَرَ لَهُ
بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ الامام أحمد: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ثَنَا عَلِيُّ
بْنُ يزيد قال: بلغ مصعبا عن عريف الأنصاري شَيْءٌ فَهَمَّ بِهِ،
فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اسْتَوْصُوا
بِالْأَنْصَارِ خَيَّرًا- أَوْ قَالَ مَعْرُوفًا- اقْبَلُوا مِنْ
مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» . فَأَلْقَى مُصْعَبٌ
نَفْسَهُ عَنْ سَرِيرِهِ وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْبِسَاطِ وَقَالَ:
«أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ» فَتَرَكَهُ. وَمِنْ كَلَامِ مُصْعَبٍ فِي
التَّوَاضُعِ أَنَّهُ قَالَ: الْعَجَبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ كَيْفَ
يَتَكَبَّرُ وَقَدْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ عَنْ مُصْعَبٍ فَقَالَ: كَانَ نَبِيلًا رَئِيسًا تقيا أنيسا.
وقد تقدم أنه لما ظهر على الْمُخْتَارُ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي
غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا
كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ
يَعْرِفْهُ ابْنُ عُمَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ أنضر في عينيه، فتعرف
له فعرفه، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي قَتَلَتْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ
خَمْسَةَ آلَافٍ مِمَّنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ
بِأَنَّهُمْ بَايَعُوا الْمُخْتَارَ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيهِمْ
مَنْ هُوَ مُسْتَكْرَهٌ أَوْ جَاهِلٌ فَيُنْظَرَ حَتَّى يَتُوبَ؟
أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى غَنَمِ الزُّبَيْرِ
فَنَحَرَ مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَا كَانَ
مُسْرِفًا؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: وَهِيَ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا
تَعْرِفُهُ كما يعرفه الآدمي، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ مُوَحِّدٌ؟ ثُمَّ
قَالَ لَهُ: يا بنى تمتع من الماء البارد مَا اسْتَطَعْتَ، وَفِي
رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الحسن
عن زفر بْنِ قُتَيْبَةَ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ قَالَ عَبْدُ الملك
ابن مروان يوما لجلسائه: من أشجع العرب والروم؟ قالوا شبيب، وقال آخر:
قطري بن الفجاءة وفلان وفلان. فقال عبد الملك: إن أشجع الناس لَرَجُلٌ
جَمْعَ بَيْنَ سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ وَعَائِشَةَ بِنْتِ
طَلْحَةَ وَأَمَةِ الْحَمِيدِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بن عامر بن كريز،
وابنه ريان بن أُنَيْفٍ الْكَلْبِيُّ، سَيِّدُ ضَاحِيَةِ الْعَرَبِ
وَوَلِيُّ الْعِرَاقَيْنِ خَمْسَ سِنِينَ فَأَصَابَ أَلْفَ أَلْفٍ،
وَأَلْفَ أَلْفٍ، وألف ألف، مع ما لنفسه من الأموال وملك غير ذلك من
الأثاث والدواب والأموال ما لا يحصى، وأعطى مع هذا الأمان وأن يسلم هذا
له جميعه مع الحياة فزهد في هذا كله وأبى واختار القتل على مقام ذل،
ومفارقة هذا كله ومشى
(8/320)
بسيفه فقاتل حتى مات، وذلك بعد خذلان
أصحابه له، فذلك مصعب بن الزبير رحمه الله، وليس هو كمن قطع الجسور مرة
هاهنا ومرة هاهنا، فهذا هو الرجل وهذا هو الزهد. قالوا: وكان مقتله يوم
الخميس للنصف مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي فُلَيْحُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ وجعفر بن أبى بشير عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: لَمَّا وُضِعَ
رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: -
لَقَدْ أَرْدَى الفوارس يوم عبس ... غلام غير مناع المتاع
ولا فرح بخير إِنْ أَتَاهُ ... وَلَا هَلِعٍ مِنَ الْحَدَثَانِ لَاعِ
ولا رقابة وَالْخَيْلُ تَعْدُو ... وَلَا خَالٍ كَأُنْبُوبِ الْيَرَاعِ
فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ بِرَأْسِهِ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَوْ رَأَيْتُهُ وَالرُّمْحُ فِي يَدِهِ تَارَةً
وَالسَّيْفُ تَارَةً يَفْرِي بِهَذَا وَيَطْعَنُ بِهَذَا، لَرَأَيْتَ
رجلا يملأ القلب والعين شجاعة، لكنه لما تفرقت عنه رِجَالُهُ وَكَثُرَ
مَنْ قَصَدَهُ وَبَقِيَ وَحْدَهُ مَا زَالَ يُنْشِدُ: -
وَإِنِّي عَلَى الْمَكْرُوهِ عِنْدَ حُضُورِهِ ... أكذب نفسي والجفون
فلم تغض
وَمَا ذَاكَ مِنْ ذُلٍّ وَلَكِنْ حَفِيظَةً ... أَذُبُّ بِهَا عِنْدَ
الْمَكَارِمِ عَنْ عِرْضِي
وَإِنِّي لِأَهْلِ الشَّرِّ بِالشَّرِّ مَرْصَدٌ ... وَإِنِّي لِذِي
سِلْمٍ أَذَلُّ مِنَ الْأَرْضِ
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كَانَ وَاللَّهِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
وَصَدَقَ، وَلَقَدْ كَانَ من أحب الناس إلى، وأشدهم لي ألفة
وَمَوَدَّةً، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ. وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ
سُفْيَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ غَسَّانَ بْنِ مُضَرَ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ بْنِ
ظَبْيَانَ قَتَلَ مُصْعَبًا عِنْدَ دَيْرِ الْجَاثَلِيقِ عَلَى شَاطِئِ
نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ دُجَيْلٌ، مِنْ أَرْضِ مَسْكِنَ، وَاحْتَزَّ
رَأْسَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَجَدَ شكرا للَّه،
وكان ابن ظبيان فاتكا رديئا وَكَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي قَتَلْتُ
عَبْدَ الْمَلِكِ حِينَ سَجَدَ يَوْمَئِذٍ فَأَكُونُ قَدْ قَتَلْتُ
مَلِكَيِ الْعَرَبِ، قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ
بَكَّارٍ فِي عُمْرِهِ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا
خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَالثَّانِي أَرْبَعُونَ سَنَةً،
وَالثَّالِثُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً فاللَّه أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ امْرَأَتَهُ سُكَيْنَةَ
بِنْتَ الْحُسَيْنِ كَانَتْ مَعَهُ فِي هذه الوقعة فلما قتل طلبته في
القتلى حتى عرفته بشامة في خده فَقَالَتْ: نِعْمَ بَعْلُ الْمَرْأَةِ
الْمُسْلِمَةِ، كُنْتَ أَدْرَكَكَ والله ما قال عنتر
وخليل غانية تركت مجندلا ... بِالْقَاعِ لَمْ يَعْهَدْ وَلَمْ
يَتَثَلَّمِ
فَهَتَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ إِهَابَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ
عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ
قال الزبير: وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثى مصعب بن الزبير رحمه
الله تعالى: -
(8/321)
لقد أورث المصرين حزنا وَذِلَّةً ...
قَتِيلٌ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مُقِيمُ
فَمَا نَصَحَتْ للَّه بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَلَا صَدَقَتْ يَوْمَ
اللقاء تميم
ولو كان بكريا يعطف حوله ... كتائب يبقى حرها وَيَدُومُ
وَلَكِنَّهُ ضَاعَ الذِّمَامُ وَلَمْ يَكُنْ ... بِهَا مُضَرِيٌّ
يَوْمَ ذَاكَ كَرِيمُ
جَزَى اللَّهُ كُوفِيًّا هُنَاكَ مَلَامَةً ... وَبَصْرِيَّهُمْ إِنَّ
الْمَلُومَ مَلُومُ
وَإِنَّ بَنِي الْعَلَّاتِ أَخْلَوْا ظُهُورَنَا ... وَنَحْنُ صَرِيحٌ
بَيْنَهُمْ وَصَمِيمُ
فَإِنْ نَفْنَ لَا يَبْقَى أُولَئِكَ بَعْدَنَا ... لذي حرمة في
المسلمين حريم
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مُصْعَبٍ
الْكَلْبِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ الْقَصْرَ بِالْكُوفَةِ فَإِذَا رَأَسُ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ زِيَادٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ
الْقَصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ زِيَادٍ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، وَالْمُخْتَارُ
عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ
فَرَأَيْتُ رَأْسَ الْمُخْتَارِ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ مُصْعَبِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُصْعَبٌ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ
الْقَصْرَ بَعْدَ حين فرأيت رأس مصعب ابن الزبير على ترس بن عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى السَّرِيرِ. وَقَدْ حكى ذلك
الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بن عمير.
[وقال عبد اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي مُصْعَبًا
أَيْضًا
نَعَتِ السَّحَائِبُ وَالْغَمَامُ بِأَسْرِهَا ... جَسَدًا بِمَسْكِنَ
عَارِيَ الْأَوْصَالِ
تُمْسِي عَوَائِذَهُ السِّبَاعُ وَدَارُهُ ... بِمَنَازِلٍ
أَطْلَالُهُنَّ بَوَالِي
رَحَلَ الرِّفَاقُ وَغَادَرُوهُ ثَاوِيًا ... لِلرِّيحِ بَيْنَ صبا
وبين شمالي
فصل
وكان لمصعب من الولد عكاشة وعيسى الّذي قتل معه وسكينة وأمهم فاطمة بنت
عبد الله بن السائب، وعبد الله ومحمد، وأمهما عائشة بنت طلحة، [1]
وأمهما أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق، وجعفر ومصعب وسعيد وعيسى الأصغر
والمنذر لأمهات شتى، والرباب وأمها سكينة بنت الحسين ابْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعنهم] [2] قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ. وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ:
لَمَّا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَتْلُ أَخِيهِ
مُصْعَبٍ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّه
الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ
وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ
وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بيده
__________
[1] كذا بنسخة طوب قبو بالأستانة وهو ساقط من النسخة المصرية كما يرى
[2] سقط من المصرية
(8/322)
الخير وهو على كل شيء قدير، أَلَا
وَإِنَّهُ لَمْ يُذِلَّ اللَّهُ مَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ وَإِنْ
كَانَ فَرْدًا وَحْدَهُ، وَلَنْ يُفْلِحَ مَنْ كَانَ وَلَيَّهُ
الشَّيْطَانُ وَحِزْبُهُ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ الْأَنَامَ طُرًّا، أَلَا
وَإِنَّهُ أَتَانَا مِنَ الْعِرَاقِ خَبَرٌ أَحْزَنَنَا وَأَفْرَحَنَا،
أَتَانَا قَتْلُ مصعب فأحزننا فَأَمَّا الَّذِي أَفْرَحَنَا
فَعِلْمُنَا أَنَّ قَتْلَهُ لَهُ شهادة، وأما الّذي أحزننا فان الحميم
لفراقه لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثُمَّ يَرْعَوِي مِنْ بَعْدِهَا،
وَذُو الرَّأْيِ جَمِيلُ الصَّبْرِ كَرِيمُ الْعَزَاءِ، وَلَئِنْ
أُصِبْتُ بِمُصْعَبٍ فَلَقَدْ أُصِبْتُ بِالزُّبَيْرِ قَبْلَهُ، وَمَا
أَنَا مِنْ عُثْمَانَ يخلو مُصِيبَةٍ، وَمَا مُصْعَبٌ إِلَّا عَبْدٌ
مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، وَعَوْنٌ مِنْ أَعْوَانِي، أَلَا وَإِنَّ أَهْلَ
الْعِرَاقِ أَهْلُ الْغَدْرِ وَالنِّفَاقِ أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ
بِأَقَلِّ الثَّمَنِ، فَإِنْ يُقْتَلْ فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ
عَلَى مَضَاجِعِنَا كَمَا تَمُوتُ بَنُو أَبِي الْعَاصِ، والله ما قتل
منهم رَجُلٌ فِي زَحْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ.
وَمَا نَمُوتُ إِلَّا بِأَطْرَافِ الرِّمَاحِ أَوْ تحت ظل السيوف، فان
بنى أبى العاص يجمعون الناس بالرغبات والرهبات، ثم يقاتلون بهم أعداءهم
ممن هو خير منهم وأكرم ولا يقاتلون تابعيهم زحفا، أَلَا وَإِنَّ
الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُولُ
سُلْطَانُهُ وَلَا يَبِيدُ مُلْكُهُ، فان تقبل الدنيا لآخذها أخذ الأشر
البطر، وإن تدبر لا أبكى عليها بكاء الحزين الأسف الْمَهِينِ، أَقُولُ
قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الأشتر
كان أبوه مِمَّنْ قَامَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ
إِبْرَاهِيمُ هذا من الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَلَهُ شَرَفٌ،
وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عبيد الله بن زياد كما ذكرنا
عبد الرحمن بن غسيلة
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيُّ الصُّنَابِحِيُّ، كَانَ مِنَ
الصُّلَحَاءِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى
السَّرِيرِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا، تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.
عُمَرُ بن سَلَمَةَ
الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلّم ولد بأرض الحبشة
سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ عَبْدًا لِأُمِّ سَلَمَةَ
فَأَعْتَقَتْهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنَا لَا أَزَالُ
أَخْدِمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَمْ
تُعْتِقِينِي مَا عِشْتُ، وَقَدْ كَانَ سَفِينَةُ بِآلِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلِيفًا، وَبِهِمْ
خَلِيطًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ سَفِينَةَ سُئِلَ عَنِ
اسْمِهِ لِمَ سُمِّيَ سَفِينَةَ؟ قَالَ: سَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفِينَةَ، خَرَجَ مَرَّةً وَمَعَهُ
أَصْحَابُهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَتَاعُهُمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْسُطْ كِسَاءَكَ
فَبَسَطْتُهُ فَجَعْلَ فِيهِ مَتَاعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِي: احْمِلْ
مَا أَنْتَ إِلَّا سَفِينَةٌ، قَالَ فَلَوْ حَمَلْتُ يَوْمَئِذٍ وِقْرَ
بَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مَا ثَقُلَ
عَلَيَّ» . وَرَوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ سَفِينَةَ
قَالَ: رَكِبْتُ مَرَّةً سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ فَانْكَسَرَتْ بِنَا
فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْهَا فَطَرَحَنِي الْبَحْرُ إِلَى غَيْضَةٍ
فِيهَا الْأَسَدُ فَجَاءَنِي فَقُلْتُ:
يَا أَبَا الْحَارِثِ أَنَا سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَجَعَلَ يَدْفَعُنِي
بِجَنْبِهِ أَوْ بِكَفِّهِ حَتَّى وَضَعَنِي
(8/323)
عَلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ هَمْهَمَ
هَمْهَمَةً فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ: ثَنَا سَعِيدُ بن جهمان عَنْ سَفِينَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَخَلَ بَيْتَ فَاطِمَةَ
فَرَأَى فِي ناحية البيت قرما مَضْرُوبًا فَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ،
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الَّذِي رَدَّهُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَيْسَ
لِي ولا لنبي أن يدخل بيتا مزوقا» .
عمر بْنُ أَخْطَبَ
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَعْرَجُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عشرة غزوة
يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ السَّكُونِيُّ
كَانَ عَابِدًا زاهدا صالحا، سكن الشام بقرية زيدين، وقيل بقرية جرين،
وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ دَاخِلَ بَابٍ شَرْقِيٍّ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي
صُحْبَتِهِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ أَهْلُ
الشَّامِ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِذَا قَحَطُوا، وَقَدِ اسْتَسْقَى بِهِ
مُعَاوِيَةُ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وكان يجلسه معه على المنبر،
قَالَ مُعَاوِيَةُ: قُمْ يَزِيدُ اللَّهمّ إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ
بِخِيَارِنَا وَصُلَحَائِنَا، فَيَسْتَسْقِي اللَّهَ فَيُسْقَوْنَ،
وَكَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ فِي الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ
إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ بِالْجَامِعِ فِي
اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ يُضِيءُ لَهُ إِبْهَامُ قَدَمِهِ، وَقِيلَ
أَصَابِعُ رِجْلَيْهِ كُلُّهَا حَتَّى يَدْخُلَ الْجَامِعَ، فَإِذَا
رَجَعَ أَضَاءَتْ لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْقَرْيَةَ. وَذَكَرُوا أنه لم
يدع شجرة في قرية زيدين إِلَّا صَلَّى عِنْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ
يَمْشِي فِي ضَوْءِ إِبْهَامِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ
ذَاهِبًا إِلَى صلاة العشاء بالجامع بدمشق وآتيا إِلَى قَرْيَتِهِ،
وَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ بِدِمَشْقَ لا تفوته به
صلاة. مات بقرية زيدين أو جرين من غوطة دمشق رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي
صُفْرَةَ وَبَيْنَ الْأَزَارِقَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ بِمَكَانٍ يُقَالُ
لَهُ سُولَافُ، مَكَثُوا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ
مُتَوَاقِفِينَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا،
وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَقُتِلَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ
مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، ثم إن عبد الملك
أقر الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى الْأَهْوَازَ وَمَا
مَعَهَا، وَشَكَرَ سَعْيَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا،
ثُمَّ تَوَاقَعَ النَّاسُ فِي دَوْلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بالأهواز فكسر
الناس الخوارج كثرة فظيعة، وهربوا في البلاد لا يلوون على أحد،
وَاتَّبَعَهُمْ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ النَّاسِ ودواد بن
محندم فطردوهم، وَأَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ بِشْرُ بْنُ
مَرْوَانَ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
أَرْبَعَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ فَطَرَدُوا
الْخَوَارِجَ كُلَّ مَطْرَدٍ، وَلَكِنْ لَقِيَ الْجَيْشُ جُهْدًا
عَظِيمًا وَمَاتَتْ خُيُولُهُمْ وَلَمْ يَرْجِعْ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا
مُشَاةً إِلَى أَهْلِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ خُرُوجُ أَبِي
فُدَيْكٍ الْحَارِثِيِّ وهو من قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَغَلَبَ عَلَى
الْبَحْرَيْنِ، وَقَتَلَ نَجْدَةَ بْنَ عَامِرٍ الْحَارِثِيَّ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ
أَخَاهُ أُمَيَّةَ ابن عَبْدِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ،
فَهَزَمَهُمْ أَبُو فُدَيْكٍ وَأَخَذَ جَارِيَةً لِأُمَيَّةَ
وَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ خالد أَمِيرُ الْبَصْرَةِ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمَا وقع، واجتمع على خالد هذا حَرْبُ
أَبِي فُدَيْكٍ وَحَرْبُ
(8/324)
الْأَزَارِقَةِ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ
الْفُجَاءَةِ بِالْأَهْوَازِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا بَعْثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ لِيُحَاصِرَهُ بِمَكَّةَ، قَالَ: وَكَانَ السَّبَبُ فِي
بَعْثِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ
لَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا
وَأَخْذِهِ الْعِرَاقَ، نَدَبَ النَّاسَ إِلَى قِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَى ذَلِكَ،
فَقَامَ الْحَجَّاجُ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا لَهُ،
وَقَصَّ الْحَجَّاجُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ مَنَامًا زَعَمَ أَنَّهُ
رَآهُ، قَالَ: رَأَيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَخَذْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَسَلَخْتُهُ، فَابْعَثْ بِي إِلَيْهِ
فَإِنِّي قَاتِلُهُ، فَبَعَثَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ وَكَتَبَ معه أمانا لأهل مكة إن هم أطاعوه، قَالُوا:
فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَمَعَهُ
أَلْفَا فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَسَلَكَ طَرِيقَ الْعِرَاقِ
وَلَمْ يَعْرِضْ لِلْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ الطَّائِفَ، وَجَعَلَ
يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى عَرَفَةَ، ويرسل ابن الزبير الخيل فيلتقيان
فيهزم خَيْلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَتَظْفَرُ خَيْلُ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ
كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي دُخُولِ
الْحَرَمِ وَمُحَاصِرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ قَدْ كلت شوكته،
وملت جماعته، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَسَأَلَهُ
أَنْ يَمُدَّهُ بِرِجَالٍ أَيْضًا، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى
طَارِقِ بْنِ عَمْرٍو يَأْمُرُهُ أَنْ يَلْحَقَ بِمَنْ مَعَهُ بالحجاج،
وارتحل الحجاج من الطائف فنزل بئر ميمونة، وَحَصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
بِالْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلَ ذُو الْحِجَّةِ حَجَّ بِالنَّاسِ
الْحُجَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَعَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ
السِّلَاحُ وَهُمْ وُقُوفٌ بِعَرَفَاتٍ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ
الْمَشَاعِرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ مَحْصُورٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ
الْحَجِّ هَذِهِ السَّنَةَ، بَلْ نَحَرَ بُدْنًا يَوْمَ النَّحْرِ،
وَهَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَهُ مِنَ الْحَجِّ،
وَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَ الْحَجَّاجِ وَطَارِقِ
بْنِ عَمْرٍو أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، فَبَقُوا عَلَى
إِحْرَامِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي،
وَالْحَجَّاجُ وأصحابه نزول بين الحجون وبئر ميمونة ف إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَازِمٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ وَيَقْطَعُهُ
خُرَاسَانَ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ قَالَ
لِلرَّسُولِ: بَعَثَكَ أَبُو الذِّبَّانِ؟ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ
الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لقتلك، وَلَكِنْ كُلْ كِتَابَهُ فَأَكَلَهُ،
وَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ نَائِبِ ابْنِ
خَازِمٍ عَلَى مَرْوَ يَعِدُهُ بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ إِنْ هُوَ خلع
عبد الله بن خازم، فخلعه، فجاء ابْنُ خَازِمٍ فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ فِي
الْمَعْرَكَةِ عَبْدُ الله بن خازم أمير خراسان، قَتَلَهُ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ وَكِيعُ بْنُ عَمِيرَةَ، لَكِنْ كَانَ قَدْ سَاعَدَهُ
غَيْرُهُ، فَجَلَسَ وَكِيعٌ عَلَى صَدْرِهِ وَفِيهِ رَمَقٌ، فَذَهَبَ
لِيَنُوءَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ وَكِيعٌ يَقُولُ:
يَا ثَارَاتِ دُوَيْلَةَ- يَعْنِي أَخَاهُ- وَكَانَ دُوَيْلَةُ قَدْ
قَتَلَهُ ابْنُ خَازِمٍ، ثُمَّ إِنَّ ابْنُ خَازِمٍ تَنَخَّمَ فِي
وَجْهِ وَكِيعٍ قَالَ وَكِيعٌ: لَمْ أَرَ أَحَدًا أَكْثَرَ رِيقًا
مِنْهُ فِي تِلْكَ الحال، وكان أبو هريرة إذا ذكر هذا يقول: هذه والله
هي الْبَسَالَةُ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: وَيْحَكَ أَتَقْتُلُنِي
بأخيك؟ لعنك الله، أتقتل كبش مصر بأخيك
(8/325)
الْعِلْجِ؟ وَكَانَ لَا يُسَاوِي كَفًّا
مِنْ تُرَابٍ- أو قال من نوى- قال: فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَأَقْبَلَ
بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ فَأَرَادَ أخذ الرأس فمنعه منه بجير بن ورقاء
بِعَمُودٍ وَقَيَّدَهُ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَ ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ بالنصر والظفر،
فَسُرَّ بِذَلِكَ سُرُورًا كَثِيرًا، وَكَتَبَ إِلَى بُكَيْرِ بن وشاح
بإقراره عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُخِذَتِ
المدينة من ابن الزبير واستناب فيها عبد الملك طارق ابن عمرو، الّذي
كان بعثه مددا للحجاج.
وهذه ترجمة عبد الله بن خَازِمٍ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بْنِ أَسْمَاءَ السُّلَمِيُّ أَبُو
صَالِحٍ الْبَصْرِيُّ أَمِيرُ خُرَاسَانَ أَحَدُ الشُّجْعَانِ
الْمَذْكُورِينَ، وَالْفُرْسَانِ الْمَشْكُورِينَ، قَالَ شَيْخُنَا
الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي تهذيبه: ويقال لَهُ
صُحْبَةٌ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ
وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ لَكِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ، وروى عَنْهُ
سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّازِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الأزرق. روى أبو
بشير الدُّولَابِيُّ أَنَّهُ قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ،
وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَلَيْسَ هَذَا القول بشيء.
انتهى ما ذكره شيخنا، وقد ذكره أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
خَازِمِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ حَارِثَةَ
بْنِ هِلَالِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَوْفِ بن امرئ القيس بن نهية بْنِ
سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو صَالِحٍ السُّلَمِيُّ، أمير خراسان،
شجاع مشهور، وبطل مذكور، وروى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ الْأَزْرَقِ،
وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، قِيلَ إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَفَتَحَ
سَرْخَسَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى خُرَاسَانَ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَأَوَّلُ مَا وَلِيَهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ،
وَجَرَى لَهُ فِيهَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى تَمَّ أَمْرُهُ بِهَا،
وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا أَخْبَارَهُ فِي كِتَابِ الْكَامِلِ في التاريخ،
وقتل سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ. وَهَكَذَا حَكَى شَيْخُنَا عَنِ
الدولابي، وكذا رأيت في التاريخ لشيخنا الذهبي. والّذي ذكره ابن جرير
في تَارِيخِهِ أَنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، قَالَ:
وزعم بعضهم أنه قُتِلَ بَعْدَ مَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ إلى ابن خازم بخراسان، وبعث يدعوه إِلَى طَاعَتِهِ وَلَهُ
خُرَاسَانُ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَّ ابْنَ خَازِمٍ لَمَّا رَأَى رَأْسَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ حلف لا يعطى عبد الملك طَاعَةً أَبَدًا، وَدَعَا
بِطَسْتٍ فَغَسَلَ رَأْسَ ابْنِ الزبير وكفنه وطيبه وبعث به إلى أهله
بالمدينة، ويقال بل دفنه عنده بخراسان والله أعلم.
وأطعم الكتاب للبريد الَّذِي جَاءَ بِهِ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ
رَسُولٌ لضربت عنقك، وقال بعضهم: قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ
وَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فيها من الأعيان
الأحنف بن قيس
أبو مُعَاوِيَةَ بْنِ حُصَيْنٍ التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ أَبُو
بَحْرٍ الْبَصْرِيُّ ابْنُ أَخِي صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
وَالْأَحْنَفُ لَقَبٌ لَهُ، وَإِنَّمَا اسْمُهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ
صَخْرٌ، أَسْلَمُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ
(8/326)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ، وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا مُؤْمِنًا،
عَلِيمَ اللِّسَانِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِحِلْمِهِ الْمَثَلُ وَلَهُ
أَخْبَارٌ فِي حِلْمِهِ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ، قَالَ عَنْهُ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ مُؤْمِنٌ عَلِيمُ اللِّسَانِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ شَرِيفَ قَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ،
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ بَصْرِيٌّ
تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَكَانَ سَيِّدَ قومه، وكان أعور أحيف الرجلين
ذميما قَصِيرًا كَوْسَجًا لَهُ بَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، احْتَبَسَهُ عُمَرُ
عن قومه سَنَةً يَخْتَبِرُهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ
السَّيِّدُ- أو قال السؤدد- وَقِيلَ إِنَّهُ خَطَبَ عِنْدَ عُمَرَ
فَأَعْجَبَهُ مَنْطِقُهُ، قِيلَ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ بِالْجُدَرِيِّ،
وَقِيلَ فِي فَتْحِ سَمَرْقَنْدَ، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ:
كَانَ الْأَحْنَفُ جَوَادًا حَلِيمًا، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فاستغفر له، وقال:
كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَلِيلَ الْحَدِيثِ [وَكَانَ كَثِيرَ الصلاة
بالليل، وكان يسرج المصباح ويصلى ويبكى حتى الصباح، وكان يضع إصبعه في
المصباح ويقول: حسّ يا أحنف، ما حملك على كذا؟ ما حملك على كذا؟ ويقول
لِنَفْسِهِ: إِذَا لَمْ تَصْبِرْ عَلَى الْمِصْبَاحِ فَكَيْفَ تصبر على
النار الكبرى؟ وقيل له: كيف سودك قومك وأنت أرذلهم خلقة؟ قال: لو عاب
قومي الماء ما شربته، كان الأحنف من أمراء على يوم صفين، وهو الّذي
صالح أهل بلخ على أربعمائة ألف دينار في كل سنة، وله وقائع مشهودة
مشهورة، وقتل من أهل خراسان خلقا كثيرا في القتال بينهما، وانتصر
عليهم] [1] وقال الحاكم: وهو الّذي افتتح مروالروذ، وكان الحسن وابن
سيرين في جيشه، وهو الّذي افتتح سمرقند وغيرها من البلاد، وَقِيلَ
إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، عَنْ
سَبْعِينَ سَنَةٍ، وَقِيلَ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِلْمِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ:
الذُّلُّ مَعَ الصَّبْرِ، وَكَانَ إِذَا تَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ
حِلْمِهِ يقول: والله إني لأجد ما يجدون، وَلَكِنِّي صَبُورٌ. وَقَالَ:
وَجَدْتُ الْحِلْمَ أَنْصَرَ لِي مِنَ الرِّجَالِ [وَقَدِ انْتَهَى
إِلَيْهِ الْحِلْمُ وَالسُّؤْدُدُ، وقال: أحيى مَعْرُوفَكَ بِإِمَاتَةِ
ذِكْرِهِ، وَقَالَ عَجِبْتُ لِمَنْ يَجْرِي مَجْرَى الْبَوْلِ
مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ؟ وَقَالَ: مَا أَتَيْتُ بَابَ أَحَدٍ
مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَنْ أُدْعَى، وَلَا دَخَلْتُ بَيْنَ اثْنَيْنِ
إِلَّا أَنْ يدخلانى بينهما، وقيل له: بم سدت قومك؟ قال: بتركى من
الأمر ما لا يعنيني، كما عناك من مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيكَ.
وَأَغْلَظَ لَهُ رِجْلٌ فِي الْكَلَامِ وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا
أَحَنَفُ لَئِنْ قُلْتَ لِي وَاحِدَةً لَتَسْمَعَنَّ بَدَلَهَا
عَشْرًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ لِي عَشْرًا لَا تَسْمَعُ
مِنِّي وَاحِدَةً، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهمّ إِنْ
تُعَذِّبْنِي فَأَنَا أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لِي فَأَنْتَ
أَهْلٌ لِذَلِكَ] [2] وَقَدْ كان زياد بن أبيه يقربه وَيُدْنِيهِ،
فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ وَوَلِيَ ابْنُهُ عُبَيْدِ اللَّهِ لَمْ
يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا، فَتَأَخَّرَتْ عِنْدَهُ منزلته، فَلَمَّا
وَفَدَ بِرُؤَسَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَدْخَلَهُمْ
عَلَيْهِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْأَحْنَفُ آخِرَ
مَنْ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُعَاوِيَةُ أجله وعظمه،
وأدناه وأكرمه، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَيْهِ يحادثه دونهم،
__________
[1] ، (2) سقط من المصرية
(8/327)
ثم شرع الحاضرون في الثناء على ابن زياد
والأحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك لَا تَتَكَلَّمُ؟
قَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُهُمْ، فَقَالَ معاوية: أشهدكم أنى قد
عزلته عَنِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ. انْظُرُوا لَكُمْ نائبا،
وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمُ
اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
عُبَيْدَ اللَّهِ، وَلَا طَلَبَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمِ
الأحنف فِي ذَلِكَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا
اجْتَمَعُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ أَفَاضُوا فِي ذَلِكَ الكلام، وَكَثُرَ
اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ
لَهُ مُعَاوِيَةُ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ
تُوَلِّيَ فِيهَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ
هُوَ مِثْلُ عُبَيْدِ الله، فإنه رجل حازم لا يَسُدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ
مَسَدَّهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ غيره فأنت أعلم بقرابتك، فَرَدَّهُ
مُعَاوِيَةُ إِلَى الْوِلَايَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ: كَيْفَ جَهِلْتَ مِثْلَ الْأَحْنَفِ؟ إِنَّهِ هو الّذي
عَزَلَكَ وَوَلَّاكَ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَعَظُمَتْ مَنْزِلَةُ
الْأَحْنَفِ بعد ذلك عند ابن زياد جدا.
تُوُفِّيَ الْأَحْنَفُ بِالْكُوفَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ
الزبير، ومشى في جنازته، وقد تقدمت له حكاية، ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ
أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدَهُ غَضْبَانَ عَلَى ابْنِهِ
يَزِيدَ، وَأَنَّهُ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ، قَالَ فَبَعَثَ
مُعَاوِيَةُ إِلَى يَزِيدَ بِمَالٍ جَزِيلٍ وَقُمَاشٍ كَثِيرٍ،
فَأَعْطَى يَزِيدُ نِصْفَهُ لِلْأَحْنَفِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
الحارث بن الخزرج بن عمرو ابن مالك بن أوس الْأَنْصَارِيُّ
الْحَارِثِيُّ الْأَوْسِيُّ. صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَأَبُوهُ أَيْضًا
صَحَابِيٌّ، رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعَيْنِ وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ. وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ بالكوفة
أيام ولاية مصعب بن الزبير عَلَى الْعِرَاقِ عُبَيْدَةُ
السَّلْمَانِيُّ الْقَاضِي وَهُوَ عُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو وَيُقَالُ
ابْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو السَّلْمَانِيُّ الْمُرَادِيُّ أَبُو
عَمْرٍو الْكُوفِيُّ. وَسَلْمَانُ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ، أَسْلَمَ
عُبَيْدَةُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَرَوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
كَانَ يُوَازِي شُرَيْحًا في القضاء، قال ابْنُ نُمَيْرٍ: كَانَ
شُرَيْحٌ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ كَتَبَ إِلَى عُبَيْدَةَ
فِيهِ، وَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ
وَاحِدٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ
إن مصعب بن الزبير قتل فيها فاللَّه أعلم. [وممن توفى فيها أيضا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ صَيْفِيٍّ الْمَخْزُومِيِّ، لَهُ
صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَقَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَرَأَ
عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ عَطِيَّةُ بْنُ بشر المازني له صحبة
ورواية عبيدة بن نضيلة أبو معاوية الخزاعي الكوفي مقرى أهل الكوفة،
مشهور بالخير والصلاح، توفى بالكوفة في هذه السنة عبد اللَّهِ بْنُ
قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ أَحَدُ الشعراء، مدح
مصعبا وابن جعفر عبد الله بن حمام أبو عبد الرحمن الشاعر السلولي هجا
بنى أمية بِقَوْلِهِ: -
شِرِبْنَا الْغَيْضَ حَتَّى لَوْ سُقِينَا ... دِمَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ
مَا رَوِينَا
(8/328)
وَلَوْ جَاءُوا بِرَمْلَةَ أَوْ بِهِنْدٍ
... لَبَايَعْنَا أَمِيرَ المؤمنينا
وكان عبيدة السلماني أعورا، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يفتنون
الناس. توفى بالكوفة] [1]
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ الْمُبِيرِ
قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، قَالَ الواقدي: حدثني مصعب بن نائب
عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ- وَكَانَ عَالِمًا بِفِتْنَةِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ- قَالَ: حُصِرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ليلة هلال الْحِجَّةِ
سِنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَقُتِلَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ ليلة خلت من
جمادى الأول سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فَكَانَ حَصْرُ الْحَجَّاجِ
لَهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا
فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْخَارِجَةِ، وَكَانَ فِي الْحَجِّ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ
كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أن يأتم بابن عمر في
المناسك كم ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَلَمَّا اسْتَهَلَّتْ
هَذِهِ السَّنَةُ اسْتَهَلَّتْ وَأَهْلُ الشَّامِ مُحَاصِرُونَ أَهْلَ
مَكَّةَ، وَقَدْ نَصَبَ الْحَجَّاجُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى مَكَّةَ
لِيَحْصُرَ أَهْلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا إِلَى الْأَمَانِ وَالطَّاعَةِ
لِعَبْدِ الملك [وكان مع الحجاج الْحَبَشَةِ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ
بِالْمَنْجَنِيقِ فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُ
مَجَانِيقَ فَأَلَحَّ عَلَيْهَا بِالرَّمْيِ من كل مكان، وحبس عنهم
الميرة والماء، فكانوا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَجَعَلَتِ
الْحِجَارَةُ تَقَعُ فِي الْكَعْبَةِ، وَالْحَجَّاجُ يَصِيحُ
بِأَصْحَابِهِ: يَا أَهْلَ الشَّامِ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّاعَةِ،
فَكَانُوا يَحْمِلُونَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى يُقَالَ
إِنَّهُمْ آخِذُوهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ، فَيَشُدُّ عَلَيْهِمُ ابْنُ
الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ مِنْ بَابِ
بَنِي شَيْبَةَ، ثُمَّ يَكُرُّونَ عَلَيْهِ فَيَشُدُّ عَلَيْهِمْ،
فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وهو
يقول: هذا وَأَنَا ابْنُ الْحَوَارِيِّ. وَقِيلَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ
أَلَا تُكَلِّمُهُمْ فِي الصُّلْحِ!! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ
وَجَدُوكُمْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لَذَبَحُوكُمْ جَمِيعًا وَاللَّهِ
لَا أَسْأَلُهُمْ صُلْحًا أَبَدًا] [2] وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ
أَنَّهُمْ لَمَّا رُمُوا بِالْمَنْجَنِيقِ جَاءَتِ الصَّوَاعِقُ
وَالْبُرُوقُ وَالرُّعُودُ حَتَّى جَعَلَتْ تَعْلُو أَصْوَاتُهَا عَلَى
صَوْتِ الْمَنْجَنِيقِ، وَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ فَأَصَابَتْ مِنَ
الشَّامِيِّينَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَضَعُفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ
قُلُوبُهُمْ عَنِ الْمُحَاصَرَةِ، فَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ
يُشَجِّعُهُمْ وَيَقُولُ: إِنِّي خَبِيرٌ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، هَذِهِ
بُرُوقُ تِهَامَةَ وَرُعُودُهَا وَصَوَاعِقُهَا، وَإِنَّ الْقَوْمَ
يُصِيبُهُمْ مِثْلَ الَّذِي يُصِيبُكُمْ، وَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ مِنَ
الْغَدِ فَقَتَلَتْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَةً
كَثِيرَةً أَيْضًا، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنَّهُمْ يُصَابُونَ مِثْلَكُمْ [وَأَنْتُمْ عَلَى الطَّاعَةِ
وَهُمْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الشام يرتجزون وهم يرمون
بالمنجنيق ويقولون: مِثْلُ الْفَنِيقِ الْمُزْبِدِ نَرْمِي بِهَا
أَعْوَادَ هَذَا الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى
الْمَنْجَنِيقِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَتَوَقَّفَ أَهَّلُ الشَّامِ عَنِ
الرَّمْيِ وَالْمُحَاصَرَةِ فَخَطَبَهُمُ الْحَجَّاجُ فَقَالَ:
وَيْحَكُمُ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ النَّارَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى
مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَتَأْكُلَ قُرْبَانَهُمْ إِذَا تُقُبِّلَ
مِنْهُمْ؟ فَلَوْلَا أَنَّ عَمَلَكُمْ مَقْبُولٌ مَا نَزَلَتِ النَّارُ
فَأَكَلَتْهُ، فَعَادُوا إِلَى الْمُحَاصَرَةِ] [3]
__________
[1، 2، 3] سقط من المصرية
(8/329)
وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ
إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ
وَقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى
الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ وَخُبَيْبٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ
فَأَمَّنَهُمَا، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى
أُمِّهِ فَشَكَا إِلَيْهَا خِذْلَانَ النَّاسِ لَهُ، وَخُرُوجَهُمْ
إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ
يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرُ
سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا شِئْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا
رَأْيُكِ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ إِنْ
كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَتَدْعُو إِلَى حَقٍّ فَاصْبِرْ
عَلَيْهِ فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُكَ، وَلَا تُمَكِّنْ مِنْ
رَقَبَتِكَ يَلْعَبْ بِهَا غلمان بنى أمية، وإن كنت تعلم أنك إِنَّمَا
أَرَدْتَ الدُّنْيَا فَلَبِئْسَ الْعَبْدَ أَنْتَ، أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ
وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى حَقٍّ فَمَا
وَهَنَ الدِّينُ وَإِلَى كَمْ خلودك فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْلُ
أَحْسَنُ. فَدَنَا مِنْهَا فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَقَالَ: هَذَا
وَاللَّهِ رَأْيِي، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَكَنْتُ إِلَى
الدُّنْيَا وَلَا أَحْبَبْتُ الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلى
الْغَضَبُ للَّه أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرْمَتُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ
أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ فَزِدْتِينِي بَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي،
فانظرى يا أماه فانى مقتول في يَوْمِي هَذَا فَلَا يَشْتَدُّ حُزْنُكِ،
وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ
إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلَا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ قَطُّ، وَلَمْ يَجُرْ
فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَغْدُرْ فِي أَمَانٍ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ
ظُلْمَ مُسْلِمٍ وَلَا مُعَاهَدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ظُلْمٌ عَنْ
عَامِلٍ فَرَضِيتُهُ بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يكن عندي آثر من رضى
رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، اللَّهمّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً
لِنَفْسِي، اللَّهمّ أَنْتِ أَعْلَمُ بِي مِنِّي وَمِنْ غَيْرِي،
وَلَكِنِّي أَقُولُ ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي،
فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ
عَزَائِي فِيكَ حَسَنًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي أَوْ تَقَدَّمْتُكَ،
فَفِي نَفْسِي اخْرُجْ يَا بُنَيَّ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصِيرُ
إِلَيْهِ أَمْرُكَ، فَقَالَ جَزَاكِ اللَّهُ يَا أُمَّهْ خَيْرًا فلا
تدعى الدعاء قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدا لمن قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ
فَلَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ، ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهمّ ارْحَمْ طُولَ
ذَلِكَ الْقِيَامِ وَذَلِكَ النَّحِيبِ وَالظَّمَأِ فِي هَوَاجِرِ
الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهمّ إِنِّي
قَدْ سَلَّمْتُهُ لِأَمْرِكَ فِيهِ وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ
فَقَابِلْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِثَوَابِ
الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ. ثُمَّ أَخَذَتْهُ إِلَيْهَا
فَاحْتَضَنَتْهُ لِتُوَدِّعَهُ وَاعْتَنَقَهَا لِيُوَدِّعَهَا-
وَكَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ فِي آخِرِ عُمْرِهَا- فَوَجَدَتْهُ لَابِسًا
دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ ما هذا لباس من يريد ما
نريد مِنَ الشَّهَادَةِ!! فَقَالَ:
يَا أُمَّاهُ إِنَّمَا لَبِسْتُهُ لِأُطَيِّبَ خَاطِرَكِ وَأُسَكِّنَ
قَلْبَكِ بِهِ، فَقَالَتْ: لَا يَا بُنَيَّ وَلَكِنِ انْزِعْهُ
فَنَزَعَهُ وَجَعَلَ يَلْبَسُ بَقِيَّةَ ثِيَابِهِ وَيَتَشَدَّدُ
وَهِيَ تَقُولُ: شَمِّرْ ثِيَابَكَ، وَجَعَلَ يَتَحَفَّظُ مِنْ
أَسْفَلِ ثِيَابِهِ لِئَلَّا تَبْدُو عَوْرَتَهُ إِذَا قُتِلَ،
وَجَعَلَتْ تُذَكِّرُهُ، بِأَبِيهِ الزُّبَيْرِ، وَجَدِّهِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَجَدَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ،
وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وترجيه القدوم عليهما إِذَا هُوَ قُتِلَ شَهِيدًا، ثُمَّ
خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِهِ بِهَا رَضِيَ
الله عنهما وعن أبيه وأبيها قَالُوا: وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُنَاكَ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ
فَيَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَيَتَفَرَّقُونَ
(8/330)
عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا
يَثْبُتُ لَهُ أَحَدٌ وَهُوَ يَقُولُ: -
إِنِّي إِذَا أَعْرِفُ يَوْمِي أَصْبِرْ ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
وَكَانَتْ أَبْوَابُ الْحَرَمِ قَدْ قَلَّ مَنْ يَحْرُسُهَا مِنْ
أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ لِأَهْلِ حِمْصَ حِصَارُ
الْبَابِ الَّذِي يُوَاجَهُ بَابَ الْكَعْبَةِ، وَلِأَهْلِ دِمَشْقَ
بَابُ بَنِي شَيْبَةَ، وَلِأَهْلِ الْأُرْدُنِ بَابُ الصَّفَا،
وَلِأَهْلِ فِلَسْطِينَ بَابُ بَنِي جُمَحَ، وَلِأَهْلِ قِنَّسْرِينَ
بَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ قَائِدٌ وَمَعَهُ أَهْلُ
تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي
نَاحِيَةِ الْأَبْطَحِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ عَلَى
أَهْلِ بَابٍ إِلَّا فَرَّقَهُمْ وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ
مُلْبِسٍ [حَتَّى يُخْرِجَهُمْ إِلَى الْأَبْطَحِ ثُمَّ يَصِيحُ لَوْ
كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ، فَيَقُولُ ابْنُ صَفْوَانَ
وَأَهْلُ الشَّامِ أَيْضًا: إِي وَاللَّهِ وَأَلْفُ رَجُلٍ، وَلَقَدْ
كَانَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ يَقَعُ عَلَى طَرَفِ ثَوْبِهِ فَلَا
يَنْزَعِجُ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فيقاتلهم كأنه أسد
ضارى] [1] حَتَّى جَعَلَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ إِقْدَامِهِ
وَشَجَاعَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ
عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَاتَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ يُصَلِّي طُولَ لَيْلَتِهِ ثُمَّ جَلَسَ فَاحْتَبَى
بِحَمِيلَةِ سَيْفِهِ فَأَغْفَى ثُمَّ انْتَبَهَ مَعَ الْفَجْرِ عَلَى
عَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَذِّنْ يَا سَعْدُ، فَأَذَّنَ عِنْدَ
الْمَقَامِ، وَتَوَضَّأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتِي
الْفَجْرِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ
قَرَأَ سُورَةَ ن حَرْفًا حَرْفًا، ثُمَّ سَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اكْشِفُوا وُجُوهَكُمْ حَتَّى
أَنْظُرَ إِلَيْكُمْ، فَكَشَفُوا وجوههم وعليهم المعافر، فَحَرَّضَهُمْ
وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَالصَّبْرِ، ثُمَّ نَهَضَ ثم حمل
وَحَمَلُوا حَتَّى كَشَفُوهُمْ إِلَى الْحَجُونِ فَجَاءَتْهُ آجُرَّةٌ
فَأَصَابَتْهُ فِي وَجْهِهِ فَارْتَعَشَ لَهَا، فَلَمَّا وَجَدَ
سُخُونَةَ الدَّمِ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ
بَعْضِهِمْ: -
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى
أقدامنا تقطر الدما
ثم سقط إلى الأرض فأسرعوا إليه فَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَجَاءُوا إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَخْبَرُوهُ فَخَرَّ سَاجِدًا قَبَّحَهُ
اللَّهُ، ثُمَّ قَامَ هُوَ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى وَقَفَا
عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ، فَقَالَ طَارِقُ: مَا وَلَدَتِ النِّسَاءُ
أَذْكَرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: تَمْدَحُ مَنْ يُخَالِفُ
طَاعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ! هُوَ أعذر لأنا
مُحَاصِرُوهُ وَلَيْسَ هُوَ فِي حِصْنٍ وَلَا خَنْدَقٍ وَلَا مَنَعَةٍ
يَنْتَصِفُ مِنَّا، بَلْ يُفَضَّلُ عَلَيْنَا فِي كُلِّ مَوْقِفٍ،
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الملك ضرب طَارِقًا. وَرَوَى ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ ارْتَجَّتْ مَكَّةَ بُكَاءً عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ
خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى رَغِبَ فِي الْخِلَافَةِ ونازعها
أهلها وألحد في الحرم فأذاقه من عذابه الأليم، وَإِنَّ آدَمَ كَانَ
أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ فِي
الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا خَالَفَ أَمْرَ
اللَّهِ وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا أَخْرَجَهُ
اللَّهُ من الجنة، قوموا إلى صلاتكم
__________
[1] سقط من المصرية
(8/331)
يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، [وَقِيلَ إِنَّهُ
قَالَ: يَا أَهْلَ مكة إِكْبَارُكُمْ وَاسْتِعْظَامُكُمْ قَتْلَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ
الْأُمَّةِ حَتَّى رَغِبَ فِي الدُّنْيَا وَنَازَعَ الْخِلَافَةَ
أَهْلَهَا، فَخَلَعَ طَاعَةَ اللَّهِ وَأَلْحَدَ فِي حَرَمِ اللَّهِ،
وَلَوْ كَانَتْ مَكَّةُ شَيْئًا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ لَمَنَعَتْ آدَمَ
حُرْمَةُ الْجَنَّةِ وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ
كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا عَصَاهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ
وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَآدَمُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ غَيَّرَ كِتَابَ
اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ
أَقُولَ لَكَ كَذَبْتَ لَقَلْتُ، وَاللَّهِ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
لَمْ يُغَيِّرْ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ كَانَ قَوَّامًا بِهِ صواما،
عاملا بالحق] [1] ثم كتب الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا
وَقَعَ، وَبَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ رَأْسِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ وَعُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ إِلَى عَبْدِ الملك،
ثم أمرهم إِذَا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ أَنْ يَنْصِبُوا الرُّءُوسَ
بِهَا، ثُمَّ يَسِيرُوا بِهَا إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا مَا أمرهم
به، وأرسل بالرءوس مع رجل من الأزد فأعطاه عبد الملك خمسمائة دينار، ثم
دعا بمقراض فأخذ من ناصيته ونواصي أولاده فرحا بمقتل ابن الزبير، عليهم
من الله ما يستحقون.
ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ بِجُثَّةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَصُلِبَتْ على
ثنية كدا عِنْدَ الْحَجُونِ، يُقَالُ مُنَكَّسَةً، فَمَا زَالَتْ
مَصْلُوبَةً. حَتَّى مَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ:
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ يَا أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ
كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا آنَ لِهَذَا
الرَّاكِبِ أَنْ يَنْزِلَ؟ فَبَعَثَ الْحَجَّاجُ فَأُنْزِلَ عَنِ
الْجِذْعِ وَدُفِنَ هُنَاكَ. وَدَخَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى مَكَّةَ
فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنْ أهلها إلى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
وَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى أَقَامَ
لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَهُ هَذَا أَيْضًا وَهُوَ عَلَى مَكَّةَ
وَالْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قصي بن كِلَابٍ،
أَبُو بَكْرٍ وَيُقَالُ لَهُ أَبُو خُبَيْبٍ الْقُرَشِيُّ
الْأَسَدِيُّ، أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ
أَبِي بكر الصديق، ذات النطاقين، هاجرت وهي حامل به تم فولدته بقبا
أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ وَقِيلَ إِنَّمَا وَلَدَتْهُ فِي
شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ
ومصعب الزبيري وَغَيْرُهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا رَوَاهُ
أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَسْمَاءَ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ قَالَتْ:
فَخَرَجْتُ به وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقبا فولدته، ثُمَّ
أَتَيْتُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ
تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ فِي جَوْفَهُ رِيقُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: ثُمَّ
حَنَّكَهُ ثُمَّ دَعَا له وتبرك عليه، فكان أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ
فِي الْإِسْلَامِ. وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وغيرهم. وعنه جماعة من التابعين، وشهيد الْجَمَلَ
[2] مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَحَضَرَ خُطْبَةَ عُمَرَ
بِالْجَابِيَّةِ، وَرَوَاهَا عَنْهُ بِطُولِهَا [ثَبَتَ ذَلِكَ من غير
وجه. وقدم
__________
[1] سقط من المصرية
[2] كذا وفي المصرية: حضر اليرموك. وهو إلى الصواب أقرب.
(8/332)
دِمَشْقَ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ،
ثُمَّ قَدِمَهَا مَرَّةً أُخْرَى وبويع بالخلافة أيام يزيد بن معاوية
لما مات معاوية ابن يزيد، فكان عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ
وَالْعِرَاقَيْنِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ بِلَادٍ الشَّامِ
إِلَّا دِمَشْقَ، وَتَمَّتِ الْبَيْعَةُ لَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَكَانَ النَّاسُ بِخَيْرٍ فِي زَمَانِهِ] [1] وَثَبَتَ
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا
خَرَجَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَةً وَهِيَ حُبْلَى
بِهِ فولدته بقبا أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ، فَأَتَتْ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ
وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ وَدَعَا لَهُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ
لِأَنَّهُ كَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ سَحَرُوا
الْمُهَاجِرِينَ فَلَا يُولَدُ لَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا
وُلِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَمِعَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَيْشَ الشَّامِ حِينَ كَبَّرُوا عِنْدَ
قَتْلِهِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَلَّذِينِ كَبَّرُوا عِنْدَ
مَوْلِدِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كبروا عند قتله، وأذن
الصديق في أذنه حِينَ وُلِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَنْ قَالَ
إِنِ الصِّدِّيقَ طَافَ بِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ فِي خِرْقَةٍ
فَهُوَ وَاهِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا طَافَ الصِّدِّيقُ بِهِ
فِي الْمَدِينَةِ لِيَشْتَهِرَ أَمْرُ مِيلَادِهِ عَلَى خِلَافِ مَا
زَعَمَتِ الْيَهُودُ. وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ عَارِضَا
عَبْدِ اللَّهِ خَفِيفَيْنِ، وَمَا اتَّصَلَتْ لِحْيَتُهُ حَتَّى
بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ
سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِي غِلْمَةٍ
تَرَعْرَعُوا مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ ابن جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَوْ بَايَعْتَهُمْ فَتُصِيبَهُمْ بَرَكَتُكَ وَيَكُونُ لَهُمْ
ذِكْرٌ، فَأُتِيَ بِهِمْ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُمْ تَكَعْكَعُوا
وَاقْتَحَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «إِنَّهُ ابْنُ
أَبِيهِ وَبَايَعَهُ» . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ شَرِبَ مِنْ دَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدِ احْتَجَمَ فِي طَسْتٍ فَأَعْطَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ لِيُرِيقَهُ فَشَرِبَهُ فَقَالَ لَهُ لَا تَمَسُّكَ
النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ
وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ» [وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «يَا
عبد الله اذهب بهذا الدم فأهريقه حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ، فَلَمَّا
بَعُدَ عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الدَّمِ فَشَرِبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ
قَالَ: ما صنعت بالدم؟ قال: إني شربته لأزداد به علما وإيمانا، وليكون
شيء من جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
جسدي، وجسدي أولى به من الأرض، فقال: ابشر لا تمسك النار أبدا.
وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ» ] [2] وقال
محمد بن سعد: أنبأ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ
عُبَيْدٍ ثنا أبو عمران الجونى أن نوفا كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَجِدُ
فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَارِسُ
الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَهُوَ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ
مَنْصُوبَةٌ لَا يَتَحَرَّكُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ: كَانَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ إِذَا سَجَدَ وَقَعَتِ الْعَصَافِيرُ على ظهره تصعد وتنزل
لا تراه الأجذم حَائِطٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
يَقُومُ ليله حتى يصبح، ويركع ليله حتى
__________
[1] ، (2) سقط من المصرية.
(8/333)
يُصْبِحَ، وَيَسْجُدُ لَيْلَهُ حَتَّى
يُصْبِحَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَكَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمًا
فَقَرَأْتُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ
وَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ
يُصَلِّي كَأَنَّهُ كعب راسب، وَفِي رِوَايَةٍ ثَابِتٌ. وَقَالَ
أَحْمَدُ: تَعَلَّمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّلَاةَ مَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ عَطَاءٍ، وَعَطَاءٌ مِنِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الصِّدِّيقِ، وَالصِّدِّيقُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ
الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ:
لَوْ رَأَيْتَ ابْنَ الزبير يصلى كأنه غصن شجرة يصفقها الرِّيحُ،
وَالْمَنْجَنِيقُ يَقَعُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. قَالَ سُفْيَانُ: كأنه
لا يبالي به ولا يعده شيئا. وَحَكَى بَعْضُهُمْ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَنَّ حجرا من المنجنيق وقع على شرفة الْمَسْجِدِ فَطَارَتْ
فِلْقَةٌ مِنْهُ فَمَرَّتْ بَيْنَ لِحْيَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
وَحَلْقِهِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَقَامِهِ ولا عرف ذلك في صورته، فَقَالَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا إِلَهَ إلا الله، جاء مَا
وَصَفْتَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا لِابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ: صِفْ لَنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ جِلْدًا قَطُّ رُكِّبَ عَلَى لَحْمٍ
وَلَا لَحْمًا عَلَى عَصَبٍ وَلَا عَصَبًا عَلَى عَظْمٍ مِثْلَهُ،
وَلَا رَأَيْتُ نَفْسًا رُكِّبَتْ بَيْنَ جَنْبَيْنِ مِثْلَ نَفْسِهِ،
وَلَقَدْ مَرَّتْ آجُرَّةٌ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ بين لحيته وصدره
فو الله ما خشع وَلَا قَطَعَ لَهَا قِرَاءَتَهُ، وَلَا رَكَعَ دُونَ
مَا كَانَ يَرْكَعُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهَا. وَلَقَدْ كان يركع فيكاد الرخم أن يقع عَلَى
ظَهْرِهِ وَيَسْجُدُ فَكَأَنَّهُ ثَوْبٌ مَطْرُوحٌ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ
عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ قَالَ: أخبرنى من رأى ابن
الزبير يسرب فِي صَلَاتِهِ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ
الْمُصَلِّينَ. [وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
فَقَالَ:
كَانَ قَارِئًا لِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ، قَانِتًا للَّه صَائِمًا فِي الْهَوَاجِرِ مِنْ مَخَافَةِ
اللَّهِ، ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَأُمُّهُ بِنْتُ
الصِّدِّيقِ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ،
زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَا يَجْهَلُ حَقَّهُ إِلَّا مَنْ
أَعْمَاهُ اللَّهُ] [1] وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ
يَوْمًا يُصَلِّي فَسَقَطَتْ حَيَّةٌ مِنَ السَّقْفِ فطوقت عَلَى
بَطْنِ ابْنِهِ هَاشِمٍ فَصَرَخَ النِّسْوَةُ وَانْزَعَجَ أَهْلُ
الْمَنْزِلِ وَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ تِلْكَ الْحَيَّةَ
فَقَتَلُوهَا، وَسَلِمَ الْوَلَدُ، فَعَلُوا هَذَا كُلَّهُ وَابْنُ
الزُّبَيْرِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ وَلَا دَرَى بما جرى
حَتَّى سَلَّمَ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الضحاك الخزامي وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَمَنْ لَا أُحْصِي كَثْرَةً مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ ابْنَ
الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ الصَّوْمَ سَبْعًا، يَصُومُ يَوْمَ
الْجُمْعَةِ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ الْأُخْرَى،
وَيَصُومُ بالمدينة ولا يفطر إلا بمكة، ويصوم بمكة فلا يفطر إلا
بالمدينة، وَكَانَ إِذَا أَفْطَرَ أَوَّلُ مَا يُفْطِرُ عَلَى لين
لِقْحَةٍ وَسَمْنٍ وَصَبِرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَأَمَّا
اللَّبَنُ فَيَعْصِمُهُ، وَأَمَّا السَّمْنُ فَيَقْطَعُ عَنْهُ
الْعَطَشَ، وَأَمَّا الصَّبِرُ فَيُفَتِّقُ الْأَمْعَاءَ. وَقَالَ
ابْنُ مَعِينٍ عَنْ رَوْحٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنِ ابن أبى
مليكة قال: كان ابن
__________
[1] سقط من المصرية
(8/334)
الزبير يواصل سبعة أيام ويصبح في
الثَّامِنِ وَهُوَ أَلْيَثُنَا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سِوَى
مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَسَطِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَبِي
عِمْرَانَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ
إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْزِعْ
ثَوْبَهُ عَنْ ظَهْرِهِ وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ:
لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُطِيقُ مَا يُطِيقُهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ
الْعِبَادَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَقَدْ جَاءَ سَيْلٌ مَرَّةً
فَطَبَّقَ الْبَيْتَ فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَطُوفُ سِبَاحَةً،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُنَازَعُ فِي
ثَلَاثٍ، فِي الْعِبَادَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ. وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّ عُثْمَانَ جَعَلَهُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ نَسَخُوا
الْمَصَاحِفَ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَذَكَرَهُ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي خُطَبَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ مُعَاوِيَةَ
وَابْنِهِ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ، وَقَالَ عَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ: رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ رِدَاءً
يَمَانِيًّا عَدَنِيًّا يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ صَيِّتًا إِذَا خَطَبَ
تجاوبه الجبلان أبو قبيس وزروراء [وَكَانَ آدَمَ نَحِيفًا لَيْسَ
بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ كَثِيرَ
الْعِبَادَةِ مُجْتَهِدًا شَهْمًا فَصِيحًا صَوَّامًا قَوَّامًا
شَدِيدَ الْبَأْسِ ذَا أَنَفَةٍ لَهُ نَفْسٌ شَرِيفَةٌ وَهِمَّةٌ
عَالِيَةٌ، وَكَانَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِنَ
الشَّعْرِ إِلَّا قَلِيلًا] (1) وَكَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ وَكَانَ لَهُ
لِحْيَةٌ صفراء. وقد ذكرنا أنه شهد مع ابن أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ
الْبَرْبَرِ وَكَانُوا فِي عِشْرِينَ ومائة ألف، والمسلمون عشرون
أَلْفًا، فَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمَا زَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَحْتَالُ حَتَّى رَكِبَ فِي ثَلَاثِينَ
فَارِسًا، وَسَارَ نَحْوَ مَلِكِ الْبَرْبَرِ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ
وَرَاءَ الْجَيْشِ، وَجَوَارِيهِ يُظَلِّلْنَهُ بِرِيشِ النَّعَامِ،
فَسَاقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ وَالنَّاسُ يظنون أنه ذاهب برسالة
إلى الملك، فَلَمَّا فَهِمَهُ الْمَلِكُ وَلَّى مُدْبِرًا فَلَحِقَهُ
عَبْدُ الله فقتله واحتز رأسه وجعله في رأس رمح وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ
الْمُسْلِمُونَ، وَحَمَلُوا عَلَى الْبَرْبَرِ فَهَزَمُوهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَغَنِمُوا أموالا
وغنائم كَثِيرَةً جِدًّا، وَبَعْثَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ بِالْبِشَارَةِ
مع ابن الزُّبَيْرِ فَقَصَّ عَلَى عُثْمَانَ الْخَبَرَ وَكَيْفَ جَرَى،
فقال له عثمان: إن استطعت أَنَّ تُؤَدِّيَ هَذَا لِلنَّاسِ فَوْقَ
الْمِنْبَرِ، قَالَ: نَعَمْ! فَصَعِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوْقَ
الْمِنْبَرِ فَخَطَبَ النَّاسَ وَذَكَرَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ مَا جَرَى،
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَبِي الزُّبَيْرُ فِي
جُمْلَةِ مِنْ حَضَرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ كَادَ أَنْ
يُرْتَجَ عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ مِنْ هَيْبَتِهِ في قلبي، فرمزنى
بعينه وأشار إلى ليحصني، فَمَضَيْتُ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا كُنْتُ،
فَلَمَّا نَزَلْتُ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِي أَسْمَعُ خُطْبَةَ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ سَمِعْتُ خُطْبَتَكَ يَا بُنَيَّ. وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي لَيْلَةٍ مقمرة
على راحلة له فنزل في تبوك فَالْتَفَتَ فَإِذَا عَلَى الرَّاحِلَةِ
شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَشَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ
الزُّبَيْرِ فَتَنَحَّى عَنْهَا فَرَكِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
رَاحِلَتَهُ وَمَضَى، قَالَ فَنَادَاهُ: والله يا ابن الزُّبَيْرِ لَوْ
دَخَلَ قَلْبَكَ اللَّيْلَةَ مِنِّي شَعْرَةٌ لَخَبَلْتُكَ، قَالَ:
وَمِنْكَ أَنْتَ يَا لَعِينُ يَدْخُلُ قَلْبِي شَيْءٌ؟ وَقَدْ رُوِيَ
لِهَذِهِ الْحِكَايَةِ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى جَيِّدَةٍ،
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى
عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
(8/335)
قَالَ: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا
كَانُوا عند اليناصب أَبْصَرُوا رَجُلًا عِنْدَ شَجَرَةٍ،
فَتَقَدَّمَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ
سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ وَرَدَّ رَدًّا ضَعِيفًا،
وَنَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ الرَّجُلُ،
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَنَحَّ عَنِ الظِّلِّ، فَانْحَازَ
مُتَكَارِهًا، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ:
فَجَلَسْتُ وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَقَلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ:
رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ، فَمَا عَدَا أَنْ قَالَهَا حَتَّى قَامَتْ كُلُّ
شَعْرَةٍ مِنِّي فَاجْتَذَبْتُهُ وَقَلْتُ: أَنْتَ رَجُلٌ مِنَ
الْجِنِّ وَتَبْدُو إلى هكذا؟ وإذا له سفلة وانكسر ونهرته وقلت: إلى
تتبدا وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ هَارِبًا وَجَاءَ
أَصْحَابِي فَقَالُوا: أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ عِنْدَكَ؟
فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَهَرَبَ. قَالَ: فَمَا
مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ رَاحِلَتِهِ،
فَأَخَذْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَشَدَدْتُهُ على راحلته حتى أتيت
بهم الحج وَمَا يَعْقِلُونَ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَإِذَا
نِسْوَةٌ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ فَأَعْجَبْنَنِي، فَلَمَّا قَضَيْنَ
طَوَافَهُنَّ خَرَجْنَ فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِنَّ لِأَعْلَمَ أَيْنَ
مَنْزِلُهُنَّ، فَخَرَجْنَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَتَيْنَ الْعَقَبَةَ
ثُمَّ انحدرن حتى أتين فجا فدخلن خَرِبَةٍ فَدَخَلْتُ فِي إِثْرِهِنَّ.
فَإِذَا مَشْيَخَةٌ جُلُوسٌ فقالوا: ما جاء بك يا ابن الزُّبَيْرِ؟
فَقُلْتُ:
أَشْتَهِي رُطَبًا، وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ مِنْ رُطَبَةٍ،
فَأَتَوْنِي بِرُطَبٍ فَأَكَلْتُ ثُمَّ قَالُوا: احْمِلْ مَا بَقِيَ
مَعَكَ، فَجِئْتُ بِهِ الْمَنْزِلَ فوضعته في سفط وجعلت السَّفَطَ فِي
صُنْدُوقٍ، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسِي لِأَنَامَ، فَبَيْنَمَا أَنَا
بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ سَمِعْتُ جَلَبَةً فِي
الْبَيْتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيْنَ وَضَعَهُ؟ قَالُوا: فِي
الصُّنْدُوقِ، فَفَتَحُوهُ فَإِذَا هُوَ فِي السَّفَطِ دَاخِلَهُ،
فَهَمُّوا بِفَتْحِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّفَطَ بِمَا فِيهِ فَذَهَبُوا بِهِ،
قَالَ. فَلَمْ آسَفْ عَلَى شَيْءٍ أَسَفِي كَيْفَ لَمْ أَثِبْ
عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْبَيْتِ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ مِمَّنْ حَاجَفَ عَنْ عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ، وَجُرِحَ
يَوْمَئِذٍ بِضْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً، وَكَانَ على الراجلة يَوْمَ
الْجَمَلِ وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً أَيْضًا،
وَقَدْ تَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
الْأَشْتَرِ، فَاتَّحَدَا فَصَرَعَ الْأَشْتَرُ ابْنَ الزبير فلم يتمكن
مِنَ الْقِيَامِ عَنْهُ، بَلِ احْتَضَنَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وجعل
ينادى: اقْتُلُونِي وَمَالِكًا، وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي،
فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا. ثُمَّ تَفَرَّقَا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ
الْأَشْتَرُ، وَقَدْ قيل إنه جرح يومئذ بضع وأربعون جِرَاحَةً، وَلَمْ
يُوجَدْ إِلَّا بَيْنَ الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ أَعْطَتْ
عَائِشَةُ لِمَنْ بَشَّرَهَا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ عَشَرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ وَسَجَدَتْ للَّه شكرا، وكانت تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا،
لِأَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهَا، وَكَانَ عزيزا عليها، وقد روى عن عروة أن
عائشة لم نكن تُحِبُّ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر مثل حبها ابن الزبير، قال: وَمَا رَأَيْتُ
أَبِي وَعَائِشَةَ يَدْعُوَانِ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مِثْلَ
دُعَائِهِمَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي أَخِي هَارُونُ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سُلَيْمَانَ بن محمد
عن يحيى بن عروة عن عمه عن عبد الله بن عروة قال أفحمت السَّنَةُ
نَابِغَةَ بَنِي جَعْدَةَ فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الله بن الزبير المسجد
الحرام فأنشد هذه الأبيات: -
(8/336)
حكيت لنا الصديق لما وليتها ... وعثمان
وفاروق فَارْتَاحَ مُعْدِمُ
وَسَوَّيْتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فاستووا ... فعاد صباحا حالك
اللون مُظْلِمُ
أَتَاكَ أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَا ... دجى الليل جواب
الفلاة غشمشم
لتجير منه جائيا غدرت بِهِ ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالزَّمَانُ
الْمُصَمِّمُ
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ أَبَا لَيْلَى،
فَإِنَّ الشعر أهون رسائلك عندنا، أما صفوه فما لنا فَلِآلِ
الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ يَشْغَلُهَا
عَنْكَ وَتَيْمًا، وَلَكِنْ لَكَ فِي مَالِ الله حقان، حق لرؤيتك
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَقٌّ
لِشَرِكَتِكَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ
بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ دَارَ النَّعَمِ فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا
وجملا وخيلا، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا وَثِيَابًا،
فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا،
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ
الْجَهْدُ. فَقَالَ النَّابِغَةُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا وَلِيَتْ قريش وعدلت،
وَاسْتُرْحِمَتْ فَرَحِمَتْ وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ
خَيْرًا فَأَنْجَزَتْ، فأنا والنبيون فرط العاصفين» وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ مَرْوَانَ صَاحِبُ كِتَابِ الْمُجَالَسَةِ: أخبرنى خبيب بن نصير
الأزدي ثنا محمد بن دينار الضَّبِّيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْمَخْزُومِيُّ عَنْ أبيه قال: إذن معاوية للناس يوما فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ فَاحْتَفَلَ الْمَجْلِسُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، فأجال بصره
فيهم فقال: أَنْشِدُونِي لِقُدَمَاءِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ
جَامِعَةٍ مِنْ أَجْمَعَ مَا قَالَتْهَا الْعَرَبُ، ثُمَّ قَالَ: يَا
أبا خبيب فقال: مهيم، قال أنشد ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ كُلُّ بَيْتٍ بِمِائَةِ
أَلْفٍ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ سَاوَتْ، قَالَ أَنْتَ بِالْخِيَارِ،
وَأَنْتَ وَافٍ كاف، فأنشده للأفوه الأزدي: -
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ... فَلَمْ أَرَ غير ختال
وقال
فقال معاوية صَدَقَ
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا ... وكيداً من معادات
الرجال
فقال معاوية صَدَقَ
وَذُقْتُ مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ طُرًّا ... فَمَا شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ
السُّؤَالِ
فَقَالَ صَدَقَ ثُمَّ قَالَ معاوية: هيه يا خُبَيْبٍ، قَالَ: إِلَى
هَاهُنَا انْتَهَى، قَالَ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ بِثَلَاثِينَ عَبْدًا
عَلَى عُنُقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَدْرَةٌ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ
دِرْهَمٍ، فَمَرُّوا بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى
انْتَهَوْا إِلَى دَارِهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي يَزِيدَ النُّمَيْرِيِّ
عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ
أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ تلقته النَّاسُ وَتَخَلَّفَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ ثُمَّ جَاءَهُ وَقَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أكبر حجرة رأسك!! فقال له اتّق أن لا يخرج
عَلَيْكَ مِنْهَا حَيَّةٌ فَتَقْتُلَكَ، فَلَمَّا أَفَاضَ مُعَاوِيَةُ
طَافَ مَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ إِلَى دَارِهِ وَمَنَازِلِهِ بِقُعَيْقِعَانَ، فَذَهَبَ
مَعَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ جَاءَ مَعَهُ أَمِيرُ المؤمنين إلى دوره
ومنازله ففعل معه مَاذَا، لَا وَاللَّهِ
(8/337)
لَا أَدَعُكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي مِائَةَ
أَلْفٍ، فَأَعْطَاهُ فَجَاءَ مَرْوَانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ، جَاءَكَ رَجُلٌ قَدْ سَمَّى
بَيْتَ مَالِ الدِّيوَانِ وَبَيْتَ الْخِلَافَةِ، وَبَيْتَ كَذَا،
وَبَيْتَ كَذَا، فَأَعْطَيْتَهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ: ويلك
كيف أَصْنَعُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ؟ وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا:
أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مجاهد بن عروة
قال: سأل ابن الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ شَيْئًا فَمَنَعَهُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا أَجْهَلُ أَنْ أَلْزَمَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ فَلَا
أَشْتُمُ لك عرضا ولا أقصم لك حسبا، ولكنى أسدل عما متى مِنْ بَيْنِ
يَدَيَّ ذِرَاعًا، وَمِنْ خَلْفِي ذِرَاعًا فِي طَرِيقِ أَهْلِ
الشَّامِ وَأَذْكُرُ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ
فَيَقُولُ النَّاسُ: مَنْ هَذَا؟
فَيَقُولُونَ ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
حسبك بهذا شرفا، ثُمَّ قَالَ: هَاتِ حَوَائِجَكَ. وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا غسان بن نصر عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ. قَالَ:
دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَمَرَ ابْنًا لَهُ
صَغِيرًا فَلَطَمَهُ لَطْمَةً دَوَّخَ مِنْهَا رَأْسَهُ، فَلَمَّا
أَفَاقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ لِلصَّبِيِّ:
ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: الْطِمْ مُعَاوِيَةَ،
قَالَ: لَا أَفْعَلُ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّهُ أَبِي، فَرَفَعَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ يَدَهُ فَلَطَمَ الصَّبِيَّ لَطْمَةً جَعَلَ يَدُورُ
مِنْهَا كَمَا تَدُورُ الدُّوَّامَةُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: تفعل هذا
بغلام لم تجز عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ؟ قَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ قَدْ
عَرَفَ مَا يَضُرُّهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحْسِنَ
أَدَبَهُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَدَائِنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَحِقَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ سَائِرٌ إلى الشام فَوَجَدَهُ
وَهُوَ يَنْعَسُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَنْعَسُ وَأَنَا
مَعَكَ؟ أَمَا تَخَافُ مِنِّي أَنْ أَقْتُلَكَ؟ فَقَالَ:
إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ قُتَّالِ الْمُلُوكِ، إنما يصيد كل طائر قدره. قال
لَقَدْ سِرْتُ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي إِلَى عَلِيِّ بن أبى طالب، وهو من
تعلمه، فقال: لا جرم قتلكم والله بشماله. قال: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ
كَانَ فِي نُصْرَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ لَمْ يُجْزَ بِهَا. فَقَالَ:
إِنَّمَا كَانَ لِبُغْضِ عَلِيٍّ لَا لِنُصْرَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَ
لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَاكَ عَهْدًا فَنَحْنُ
وَافُونَ لَكَ بِهِ مَا عِشْتَ، فَسَيَعْلَمُ مَنْ بَعْدَكَ، فَقَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ مَا أَخَافُكَ إِلَّا عَلَى نَفْسِكَ، وَكَأَنِّي بِكَ
قَدْ خُبِطْتَ فِي الْحِبَالَةِ وَاسْتُحْكِمَتْ عَلَيْكَ
الْأُنْشُوطَةُ، فَذَكَرْتَنِي وَأَنْتَ فِيهَا، فَقُلْتُ لَيْتَ أَبَا
عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَهَا، لَيْتَنِي والله لها. أما والله لأحللتك
رويدا، ولأطلقتك سَرِيعًا، وَلَبِئْسَ الْوَلِيُّ أَنْتَ تِلْكَ
السَّاعَةَ. وَحَكَى أبو عبد الله نَحْوَ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ وَجَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْشَمَرَ مِنْهَا ابْنَ الزُّبَيْرِ
وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَصَدَا مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا، ثُمَّ
خَرَجَ الحسين إلى العراق وكان من أمره ما تقدم، وتفرد بالرياسة
والسؤدد بمكة ابن الزبير، ولهذا كان ابن عباس ينشد: -
يا لك من قنبرة بمعمرى ... خلالك الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
يُعَرِّضُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: إِنِّي قَدْ
بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِسِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَقَيْدٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَجَامِعَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَحَلَفْتُ لَتَأْتِيَنِي فِي ذَلِكَ
فَأَبِرَّ قَسَمِي وَلَا تَشُقَّ
(8/338)
الْعَصَا، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ
أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: -
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ ... حَتَّى تلين لِضِرْسِ
الْمَاضِغِ الْحَجَرُ
فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ
يَزِيدَ مِنْ بَعْدِهِ قَرِيبًا، اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ جدا، وبويع له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية،
وَبَايَعَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِدِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا،
وَلَكِنْ عَارَضَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي ذَلِكَ وأخذ الشام
ومصر مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ جَهَّزَ السَّرَايَا إلى
العراق، ومات وتولى بعده عبد الملك بن مروان فقتل مصعب بن الزبير
بالعراق وأخذها، ثم بعث إلى الحجاج فَحَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
بِمَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ فِي
يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سابع عشر جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ.
وَكَانَتْ وِلَايَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ، وَحَجَّ بالناس فيها كلها، وبنى الكعبة في أيام ولايته كما
تقدم، وكساها الْحَرِيرَ، وَكَانَتْ كُسْوَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ
الْأَنْطَاعَ وَالْمُسُوحَ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَالِمًا
عَابِدًا مَهِيبًا وَقُورًا كثير الصيام والصلاة، شديد الخشوع جيد
السِّيَاسَةِ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا
أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
الثَّقَفِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ ثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ.
قَالَ: كَانَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ مِائَةُ غُلَامٍ يَتَكَلَّمُ كُلُّ
غُلَامٍ مِنْهُمْ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَةِ الْآخَرِ، وَكَانَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ يُكَلِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِلُغَتِهِ، وَكُنْتَ
إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ قلت: هذا رجل لم يرد
الله والدار الآخرة طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي
أَمْرِ آخِرَتِهِ قُلْتَ: هَذَا رَجُلٌ لَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا
طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
الضُّحَى قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى رَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ
الْمِسْكِ مَا لَوْ كَانَ لِي كَانَ رَأْسَ مَالٍ، وَكَانَ يُطَيِّبُ
الْكَعْبَةَ حَتَّى كَانَ يُوجَدُ رِيحُهَا مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
وَقَالَ ابن المبارك عن معمر عن ابن طاووس عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى امْرَأَتِهِ بِنْتِ الْحَسَنِ فَرَأَى
ثَلَاثَةَ مُثُلٍ- يَعْنِي أَفَرِشَةً- فَقَالَ: هَذَا لِي وَهَذَا
لِابْنَةِ الْحَسَنِ، وَهَذَا لِلشَّيْطَانِ فَأَخْرَجُوهُ. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي بَشِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُسَاوِرٍ. قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُعَاتِبُ ابْنَ
الزُّبَيْرِ عَلَى الْبُخْلِ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ يَبِيتُ
شَبْعَانَ وَجَارُهُ إِلَى جَنْبِهِ جَائِعٌ» . وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْوَرَّاقُ ثَنَا
يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنِ ابْنِ أَبْزَى
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. قَالَ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ حِينَ حُصِرَ: إِنَّ عِنْدِي نَجَائِبَ قَدْ أَعْدَدْتُهَا
لك، فهل لك أن تتحول إِلَى مَكَّةَ فَيَأْتِيكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ
يَأْتِيَكَ؟ قَالَ: لَا! إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يلحد كَبْشٌ مِنْ قُرَيْشٍ اسْمُهُ
عَبْدُ اللَّهِ، عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ النَّاسِ» . وَهَذَا
الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ جِدًّا وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَيَعْقُوبُ
هَذَا هُوَ الْقُمِّيُّ وفيه تشيع، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقْبَلُ
تَفَرُّدُهُ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ صحته فليس هو بعبد الله ابن
الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى صِفَاتٍ حَمِيدَةٍ، وَقِيَامُهُ
فِي الْإِمَارَةِ إِنَّمَا كَانَ للَّه عَزَّ وَجَلَّ، ثم هو كان
الامام
(8/339)
بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ
لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ أَرْشَدُ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، حَيْثُ
نَازَعَهُ بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَقَامَتِ
الْبَيْعَةُ لَهُ فِي الْآفَاقِ وَانْتَظَمَ لَهُ الْأَمْرُ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ
الْقَاسِمِ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو
قَالَ: أَتَى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو في الحجر جالس
فقال: يا ابن الزُّبَيْرِ إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي حَرَمِ اللَّهِ،
فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يحلها وتحل بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، لَوْ
وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بذنوب الثقلين لو زنتها» . فانظر أن لا تكونه، فقال
له: يا ابن عمر فإنك قد قَرَأْتَ الْكُتُبَ وَصَحِبْتَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، قال فانى أشهد أَنَّ هَذَا وَجِهِي
إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا. وَهَذَا قَدْ يَكُونُ رَفْعُهُ غَلَطًا،
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كلام عبد الله بن عمر، وما أصابه من الزاملتين
يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ وَكِيعٌ
عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي صَادِقٍ
عَنْ حبشي الْكِنَانِيِّ عَنْ عُلَيْمٍ الْكِنْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ. قَالَ: «لَيُحْرَقَنَّ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى يَدَيْ
رَجُلٍ مِنْ آلِ الزُّبَيْرِ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي
خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنِ أبى فُضَيْلٍ ثَنَا سَالِمُ
بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ قَالَ قَالَ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ: اللَّهمّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَعْلَمُ
مِمَّا عَلَّمْتَنِي أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا
إِلَّا قَتِيلًا يُطَافُ بِرَأْسِهِ فِي الْأَسْوَاقِ. وَقَدْ رَوَى
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قال: إن أول ما
فصح بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ صَغِيرٌ السيف
السَّيْفُ، فَكَانَ لَا يَضَعُهُ مِنْ فِيهِ، وَكَانَ الزُّبَيْرُ
إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ
لَيَكُونُنَّ لَكَ مِنْهُ يَوْمٌ وَيَوْمٌ وَأَيَّامٌ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَقْتَلِهِ، وَأَنَّ الْحَجَّاجَ صلبه على جذع
فوق الثنية، وَأَنَّ أُمَّهُ جَاءَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ
فَدَعَتْ لَهُ طَوِيلًا وَلَا يَقْطُرُ مِنْ عَيْنِهَا دَمْعَةٌ ثُمَّ
انْصَرَفَتْ، وَكَذَلِكَ وَقَفَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَدَعَا لَهُ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا جِدًّا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ:
حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى
أَسْمَاءَ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ خَرَجَتْ إِلَيْهِ
أُمُّهُ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ عَلَى دَابَّةٍ، فَأَقْبَلَ
الْحَجَّاجُ فِي أَصْحَابِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِهَا،
فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهَا فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ نَصَرَ
اللَّهُ الحق وأظهره؟ فقالت: ربما أديل الباطل على الحق وأهله، وإنك
بين فرثها والجنة، فَقَالَ إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا
الْبَيْتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمن يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ من عَذابٍ أَلِيمٍ 22: 25 وقد أذاقه الله
ذلك العذاب الأليم، قالت: كذبت، كان أول مولود ولد فِي الْإِسْلَامِ
بِالْمَدِينَةِ، وَسُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَحَنَّكَهُ بِيَدِهِ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ
حَتَّى ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ فَرَحًا بِهِ، وَقَدْ فَرِحْتَ أَنْتَ
وَأَصْحَابُكَ بِمَقْتَلِهِ، فَمَنْ كَانَ فرح يومئذ بمولده خَيْرٌ
مِنْكَ وَمِنْ أَصْحَابِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَرًّا
بِالْوَالِدَيْنِ صَوَّامًا قَوَّامًا بِكِتَابِ اللَّهِ، مُعَظِّمًا
لحرم الله، يبغض من يُعْصَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَشْهَدُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» وفي رواية: «سَيَخْرُجُ مِنْ
ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ الْآخِرُ مِنْهُمَا شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ
مُبِيرٌ» فَانْكَسَرَ الْحَجَّاجُ
(8/340)
وَانْصَرَفَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ
الْمَلِكِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ أَسْمَاءَ،
وَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ؟ وَقَالَ مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: ثَنَا عَقَبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ
حَدَّثَنَا يعقوب بن إسحاق الحضرميّ أنبأ الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ
عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ. قَالَ: رأيت عبد الله بن الزبير على ثنية الحجون
مصلوبا فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ
عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا
خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ
كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ
عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا،
أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا
وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا لأمة
خير، ثم بعد عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. فَبَلَغَ الْحَجَّاجُ وُقُوفُ
ابن عمر عليه وقوله ما قال، فأرسل إليه فأنزله عَنْ جِذْعِهِ
وَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ
أَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ فَأَعَادَ
عَلَيْهَا الرَّسُولَ لِتَأْتِيَنِّي أو لأبعثن إليك من يسحبك من
قرونك، فَأَبَتْ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيهِ حَتَّى يَبْعَثَ إلى
من يسحبنى بقروني، فقال الحجاج:
أرونى سبتيتى فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى
دَخَلَ عليها فقال: كيف رأيتينى صنعت بعد والله؟
قالت رأيتك فسدت عليه دنياه، وأفسدت عليك آخرتك، بلغني أنك تقول: يا
ابن ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ،
أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ، وأما الآخر
فنطاق المرأة التي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا
الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكُ
إِلَّا إِيَّاهُ. قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا»
انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْحَجَّاجَ
لَمَّا صَلَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى ثَنِيَّةِ الْحَجُونَ بَعَثَتْ
إِلَيْهِ أَسْمَاءُ تَدْعُو عَلَيْهِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُدْفَنَ
فَأَبَى عَلَيْهَا، حَتَّى كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُدْفَنَ فَدُفِنَ بِالْحَجُونِ، وَذَكَرُوا
أَنَّهُ كَانَ يُشْتَمُّ مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ رِيحُ الْمِسْكِ.
وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ
وَانْضَافَ إِلَيْهِ طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي خَمْسَةِ آلَافٍ،
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ بِسَنَدِهِ أَنَّ
الْحَجَّاجَ حَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ
أَرْبَعُونَ أَلْفًا:
وَأَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَبِي قبيس ليرمي به المسجد
الحرام، وَأَنَّهُ أَمَّنَ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
وَنَادَى فِيهِمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ
أَحَدٍ سِوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
بَيْنَ ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ شَاءَ، أَوْ
يَبْعَثَهُ إِلَى الشَّامِ مُقَيَّدًا بِالْحَدِيدِ، أَوْ يُقَاتِلَ
حَتَّى يقتل. فشاور أمه فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالثَّالِثِ فَقَطْ،
وَيُرْوَى أَنَّهَا اسْتَدْعَتْ بِكَفَنٍ لَهُ وَبَخَّرَتْهُ
وَشَجَّعَتْهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَخَرَجَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ
فَقَاتَلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ قِتَالًا شَدِيدًا فَجَاءَتْهُ
آجُرَّةٌ فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى
الْأَرْضِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَاتَّكَأَ
عَلَى مَرْفِقِهِ الْأَيْسَرِ وَجَعَلَ يحدم بِالسَّيْفِ مَنْ جَاءَهُ،
فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مَنْ أهل الشام فضربه فقطع رجله، ثم
(8/341)
تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ
وَاحْتَزُّوا رَأْسَهُ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ قَرِيبًا مِنَ الْحَجُونِ،
وَيُقَالُ: بَلْ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ
فاللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ صلبه الحجاج منكسا على ثنية كدا عِنْدَ
الْحَجُونِ، ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَهُ دَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ
الْيَهُودِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقِيلَ دُفِنَ بِالْحَجُونِ
بِالْمَكَانِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ، فاللَّه أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ
الْمُخْتَارِ: مَا كَانَ يُحَدِّثُنَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ شَيْئًا
إِلَّا وَجَدْنَاهُ إِلَّا قَوْلَهُ إِنَّ فَتَى ثَقِيفٍ يَقْتُلُنِي،
وَهَذَا رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيَّ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَلَمْ
يَشْعُرْ أَنَّهُ قَدْ خُبِّئَ لَهُ الْحَجَّاجُ. وَرُوِيَ هَذَا مِنْ
وَجْهٍ آخَرَ. قُلْتُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مقتل الزبير كان في سنة
ثلاث وسبعين يوم الثلاثاء سابع عشر جُمَادَى الْأُولَى، وَقِيلَ
الْآخِرَةِ مِنْهَا، وَعَنْ مَالِكٍ وغيره أن مقتله كان على رأس اثنين
وسبعين، والمشهور الصحيح هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ فِي
سَابِعِ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ فِي شَوَّالٍ سنة
ثنتين من الهجرة، فمات وقد جاوز السَّبْعِينَ قَطْعًا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَعِشْ بَعْدَهُ إِلَّا مِائَةَ
يَوْمٍ، وَقِيلَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ خَمْسَةً، وَالْأَوَّلُ
هُوَ الْمَشْهُورُ وستأتي ترجمتها قريبا رضى الله عنها وعن أبيها
وابنها، وقد رثى ابن الزبير وأخوه مصعب بمراثي كثيرة حسنة بليغة، من
ذلك قول معمر بن أبى مَعْمَرٍ الذُّهْلِيِّ يَرْثِيهُمَا بِأَبْيَاتٍ:
-
لَعَمْرُكَ مَا أَبْقَيْتُ فِي النَّاسِ حَاجَةً ... وَلَا كُنْتُ
مَلْبُوسَ الْهُدَى مُتَذَبْذِبًا
غَدَاةَ دَعَانِي مُصْعَبٌ فَأَجَبْتُهُ ... وَقَلْتُ لَهُ أَهْلًا
وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا
أَبُوكَ حَوَارِيُّ الرَّسُولِ وَسَيْفُهُ ... فَأَنْتَ بِحَمْدِ
اللَّهِ مِنْ خَيْرِنَا أَبَا
وَذَاكَ أَخُوكَ الْمُهْتَدَى بِضِيَائِهِ ... بِمَكَّةَ يَدْعُونَا
دُعَاءً مُثَوَّبَا
وَلَمْ أَكُ ذَا وَجْهَيْنِ وَجْهٍ لِمُصْعَبٍ ... مَرِيضٍ وَوَجْهٍ
لِابْنِ مَرْوَانَ إِذْ صَبَا
وَكُنْتُ امْرَأً نَاصَحْتُهُ غَيْرَ مُؤْثِرٍ ... عَلَيْهِ ابْنَ
مَرْوَانَ وَلَا مُتَقَرِّبَا
إِلَيْهِ بِمَا تُقْذَى بِهِ عَيْنُ مُصْعَبٍ ... وَلَكِنَّنِي
نَاصَحْتُ فِي اللَّهِ مُصْعَبَا
إِلَى أَنْ رمته الحادثات بسهمها ... فيا لله سَهْمًا مَا أَسَدَّ
وَأَصْوَبَا
فَإِنْ يَكُ هَذَا الدهر أردى بِمُصْعَبٍ ... وَأَصْبَحَ عَبْدُ
اللَّهِ شِلْوًا مُلَحَّبَا
فَكُلُّ امْرِئٍ حَاسٍ مِنَ الْمَوْتِ جُرْعَةً ... وَإِنْ حَادَ عنها
جهده وتهيبا
وقيل: إن عبد الله بن الزبير غسلته أمه أسماء بعد أن قطعت مفاصيله
وحنطته وطيبته وَكَفَّنَتْهُ وَصَلَّتْ عَلَيْهِ وَحَمَلَتْهُ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَدَفَنَتْهُ بدار صفية بنت حييى، ثم إن هذه الدار زيدت
فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مدفون
في المسجد مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ، وقد ذكر ذلك غير واحد فاللَّه أعلم.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دَمَ
(8/342)
مَحَاجِمِهِ يُهَرِيقُهُ فَحَسَاهُ،
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: «مَا صَنَعْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بِالدَّمِ؟ قُلْتُ:
جَعَلْتُهُ فِي مَكَانٍ ظَنَنْتُ أَنَّهُ خَافٍ عَلَى النَّاسِ، قَالَ:
فَلَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ؟ قُلْتُ نَعَمْ! قَالَ: وَمَنْ أَمَرَكَ أَنْ
تَشْرَبَ الدَّمَ؟ وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ
مِنْكَ» . وَدَخَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ مَرَّةً عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ قَائِمٌ فِي الدِّهْلِيزِ وَمَعَهُ طَسْتٌ يَشْرَبُ
مِنْهُ، فَدَخَلَ سَلْمَانُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: «فَرَغْتَ؟
قَالَ: نَعَمْ: قَالَ سَلْمَانُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: أَعْطَيْتَهُ غُسَالَةَ مَحَاجِمِي يُهَرِيقُ مَا فِيهَا، قَالَ
سَلْمَانُ: شَرِبَهَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، قَالَ
شَرِبْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: لِمَ؟
قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ دَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوْفِي، فَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ
مِنْكَ، لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» .
وَلَمَّا بَعَثَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ
ذَلِكَ الْقَيْدَ مِنْ ذَهَبٍ وَسِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ وَجَامِعَةً
مِنْ فِضَّةٍ وَأَقْسَمَ لَتَأْتِيَنِّي فِيهَا، فَقَالُوا لَهُ:
بِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ:
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أسأله ... حتى تلين لِضِرْسِ
الْمَاضِغِ الْحَجَرُ
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ بِعِزٍّ، أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ ضَرْبَةٍ بِسَوْطٍ فِي ذُلٍّ، ثُمَّ دَعَا إِلَى نَفْسِهِ
وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَرَوَى
الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ
فَقَالَ: إِنَّ فِي الْمَوْتِ لَرَاحَةٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ
أَتَتْ عليها مائة سنة لم تسقط لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يَفْسُدْ لَهَا
بَصَرٌ، فَقَالَتْ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ حَتَّى آتِيَ عَلَى
أَحَدِ طَرَفَيْكَ، إِمَّا أَنْ تَمْلِكَ فَتَقَرَّ عَيْنِي، وَإِمَّا
أَنْ تُقْتَلَ فَأَحْتَسِبَكَ، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: -
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ ... وَلَا بمريق مِنْ
خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آلِ الزُّبَيْرِ يَعِظُهُمْ وَيَقُولُ لِيُكِنَّ
أَحَدُكُمْ سَيْفَهُ كما وَجْهَهُ فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَدِهِ
كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ، والله ما بقيت زَحْفًا قَطُّ إِلَّا فِي
الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، وَمَا أَلِمْتُ جُرْحًا إِلَّا أَلَمَ
الدَّوَاءِ، ثُمَّ حَمَلَ عليهم ومعه سفيان، فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ
الْأَسْوَدُ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى أطن رجله، فقال له الأسود:
أخ يا ابن الزانية، فقال له ابن الزبير: اخسأ يا ابن حَامٍ، أَسْمَاءُ
زَانِيَةٌ؟ ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ عَلَى ظَهْرِ
الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ يَرْمُونَ أَعْدَاءَهُ
بِالْآجُرِّ، فَأَصَابَتْهُ آجُرَّةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ
قَصْدٍ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ فَوَقَفَ قَائِمًا
وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ قَرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ وَيَقُولُ: -
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى
أقدامنا يقطر الدم
ثُمَّ وَقَعَ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ مَوْلَيَانِ لَهُ وَهُمَا يَقُولَانِ:
الْعَبْدُ يَحْمِي رَبَّهُ وَيَحْتَمِي. ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ
فَحَزُّوا رَأْسَهُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ
بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَنَا حَاضِرٌ مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، يَوْمَ قُتِلَ جَعَلَتِ
الْجُيُوشُ تَدَخُلُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، وَكُلَّمَا دَخَلَ
قَوْمٌ مِنْ بَابٍ حمل
(8/343)
عَلَيْهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ،
فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِذْ جَاءَتْ شُرْفَةٌ مِنْ
شُرُفَاتِ الْمَسْجِدِ، فَوَقَعَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَصَرَعَتْهُ،
وَهُوَ يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الأبيات: -
أسماء أَسْمَاءُ لَا تَبْكِينِي ... لَمْ يَبْقَ إِلَّا حَسَبِي
وَدِينِي
وَصَارِمٌ لَانَتْ بِهِ يَمِينِي
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّهُ قَالَتْ لِلْحَجَّاجِ: أَمَا آنَ لِهَذَا
الرَّاكِبِ أَنْ يَنْزِلَ؟ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: ابْنُكُ الْمُنَافِقُ،
فقالت: والله ما كان منافقا، إنه كان صواما قَوَّامًا وَصُولًا
لِلرَّحِمِ، فَقَالَ: انْصَرِفِي يَا عَجُوزُ، فَإِنَّكِ قَدْ
خَرِفْتِ، فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا خَرِفْتُ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ مِنْ
ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ رَأَيْنَاهُ،
وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ
عُمَرَ فَمَرَّ على ابن الزبير فوقف فترحم عَلَيْهِ ثُمَّ الْتَفَتَ
إِلَيَّ وَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا يُجْزَ بِهِ» . وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: ذَكَرْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ابن عباس
قال: كَانَ عَفِيفًا فِي الْإِسْلَامِ، قَارِئًا لِلْقُرْآنِ،
صَوَّامًا قَوَّامًا، أَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ،
وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، وَجَدَّتُهُ
صَفِيَّةُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَأُحَاسِبَنَّ لَهُ
بِنَفْسِي مُحَاسَبَةً لَمْ أُحَاسِبْهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا
لِعُمَرَ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا زكريا الناجي ثَنَا
حَوْثَرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ثنا سعيد ابن
الْمَرْزُبَانِ أَبُو سَعِيدٍ الْعَبْسِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ خُطْبَةَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ بِالْمَوْسِمِ خَرَجَ عَلَيْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ
بِيَوْمٍ وهو محرم قلبي بِأَحْسَنِ تَلْبِيَةٍ سَمِعْتُهَا قَطُّ،
ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ جِئْتُمْ مِنْ آفَاقٍ شَتَّى وُفُودًا إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَهُ،
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَطْلُبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ طَالِبَ
مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَخِيبُ فَصَدِّقُوا قَوْلَكُمْ بِفِعْلٍ،
فَإِنَّ مَلَاكَ الْقَوْلِ الْفِعْلُ وَالنِّيَّةَ النِّيَّةَ،
وَالْقُلُوبَ الْقُلُوبَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَيَّامِكُمْ هَذِهِ
فَإِنَّهَا أَيَّامٌ تُغْفَرُ فِيهَا الذُّنُوبُ، جِئْتُمْ مِنْ آفَاقٍ
شَتَّى فِي غَيْرِ تِجَارَةٍ وَلَا طَلَبِ مَالٍ وَلَا دُنْيَا
تَرْجُونَهَا هَاهُنَا، ثُمَّ لَبَّى وَلَبَّى النَّاسُ، فَمَا
رَأَيْتُ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ
سفيان قال: ثنا حيان بْنُ مُوسَى ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ ثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ
قَالَ: كُتِبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَوْعِظَةٍ:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لِأَهْلِ التَّقْوَى عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ
بِهَا وَيَعْرِفُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، صِدْقُ الْحَدِيثِ،
وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَصَبْرٌ عَلَى البلاء
ورضى بِالْقَضَاءِ، وَشُكْرٌ لِلنَّعْمَاءِ، وَذُلٌّ لِحُكْمِ
الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا الأيام كَالسُّوقِ مَا نَفَقَ فِيهَا حُمِلَ
إِلَيْهَا، إِنْ نَفَقَ الْحَقُّ عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ وَجَاءَهُ
أَهْلُهُ، وَإِنْ نَفَقَ الْبَاطِلُ عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ
وَجَاءَهُ أَهْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ وَهْبِ
بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُعْطِي
سَلَمَهُ قَطُّ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةِ سُلْطَانٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَبِهَذِهِ الْإِسْنَادَاتِ أَهْلُ الشَّامِ كَانُوا يُعَيِّرُونَ
ابْنَ الزُّبَيْرِ وَيَقُولُونَ له: يا ابن ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ.
فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ
بِالنِّطَاقَيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ لِي
(8/344)
نِطَاقٌ وَاحِدٌ شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ
فَجَعَلْتُ فِي سُفْرَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما
وَأَوْكَيْتُ قِرْبَتَهُ بِالْآخَرِ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بكر
يريد ان الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
بَعْدَ ذلك إذا عيروه بالنطاقين يقول:
إنها والله تلك شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الْأَعْيَانِ.
عَبْدُ اللَّهِ بن صفوان
ابن أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ أَبُو صَفْوَانَ الْمَكِّيُّ،
وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْ عمرو جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَكَانَ
سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا حَلِيمًا يَحْتَمِلُ الْأَذَى، لَوْ
سَبَّهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ مَا اسْتَنْكَفَ عَنْهُ. وَلَمْ يَقْصِدْهُ
أَحَدٌ فِي شَيْءٍ فَرَدَّهُ خَائِبًا، ولا سمع بمفازة إلا حفر بها
جُبًّا أَوْ عَمِلَ فِيهَا بِرْكَةً، وَلَا عَقَبَةٍ إِلَّا
سَهَّلَهَا. وَقِيلَ إِنَّ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ قَدِمَ
عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِرَاقِ فَأَطَالَ الْخَلْوَةَ
مَعَهُ، فَجَاءَ ابْنُ صَفْوَانَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي شَغَلَكَ
مُنْذُ الْيَوْمِ؟ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُهَلَّبَ. فَقَالَ
الْمُهَلَّبُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: وَمَنْ هَذَا الَّذِي يَسْأَلُ
عَنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ
بِمَكَّةَ، فَقَالَ:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ، وَكَانَ ابْنُ
صَفْوَانَ كَرِيمًا جِدًّا.
وَقَالَ الزبير بن بكار بسنده: قدم معاوية حاجا فتلقاه الناس فكان ابن
صَفْوَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَلَقَّاهُ، فَجَعَلَ يُسَايِرُ
مُعَاوِيَةَ وَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ يَقُولُونَ: مَنْ هَذَا الَّذِي
يُسَايِرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ
إِذَا الْجَبَلُ أَبْيَضُ مِنَ الْغَنَمِ، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين
هذه غنم أجزرتكها، فإذا هي ألفا شاة، فقال أهل الشام: مَا رَأَيْنَا
أَكْرَمَ مِنِ ابْنِ عَمِّ أَمِيرِ المؤمنين. كَانَ ابْنُ صَفْوَانَ
مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ حَصَرَهُ
الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي قَدْ أَقَلْتُكَ
بَيْعَتِي فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ إِنِّي إِنَّمَا قَاتَلْتُ
عَنْ دِينِي. ثُمَّ صَبَّرَ نَفْسَهُ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رحمه الله وأكرمه.
عبد الله بن مطيع
ابن الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ
الْمَدَنِيُّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَنَّكَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَرَوَى
عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَ الْيَوْمِ صَبْرًا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَعَنْهُ ابْنَاهُ إِبْرَاهِيمُ
وَمُحَمَّدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ
بَكَّارٍ: كَانَ ابْنُ مُطِيعٍ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ قُرَيْشٍ جَلَدًا
وَشَجَاعَةً، وَأَخْبَرَنِي عَمِّي مصعب أنه كان على قريش أميرا يوم
الحرة ثم قتل مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ وَهُوَ الَّذِي
يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي فَرَرْتُ يَوْمَ الْحَرَّةْ ... وَالشَّيْخُ لَا يفر إلا
مره
لا جبرت فرة بكرة
رحمه الله
(8/345)
عوف بن مالك رضى
الله عنه
هو عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْأَشْجَعِيُّ الغطفانيّ
صحابى جليل، شهد موتة مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْأُمَرَاءِ
قَبْلَهُ، وَشَهِدَ الْفَتْحَ وَكَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ قَوْمِهِ
يَوْمَئِذٍ، وَشَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ، وَرَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَدْ مَاتَ
قَبْلَهُ، وقال الواقدي وخليفة ابن خَيَّاطٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِالشَّامِ
أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ
النِّطَاقَيْنِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ عَامَ الهجرة حين شقت
نطاقها فربطت بِهِ سُفْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حين خرجا عامدين إلى المدينة، وأمها قيلة
وقيل قبيلة بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لوى.
أَسْلَمَتْ أَسْمَاءُ قَدِيمًا وَهُمْ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ، وَهَاجَرَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا الزُّبَيْرُ وَهِيَ
حَامِلٌ متم بولدها عبد الله فوضعته بقبا أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ
الْمَدِينَةَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِلزُّبَيْرِ بَعْدَ ذلك عروة والمنذر.
وهي آخر المهاجرين والمهاجرات موتا، وكانت هي وأختها عائشة وأبوها أبو
بكر الصديق وجدها أبو عتيق وابنها عبد الله وزوجها الزبير صحابين رضى
الله عنهم، وقد شهدت اليرموك مع ابنها وزوجها، وهي أكبر من أختها عائشة
بعشر سنين. وقيل إن الحجاج دخل عليها بعد أن قتل ابنها فقال: يا أماه
إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكِ فَهَلْ لَكِ من حاجة؟
فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة،
ولكن أحدثك إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ»
فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ رَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا
أراك إلا إياه. فقال: أنا مبير المنافقين. وقيل إن ابن عمر دخل معه
عليها وابنها مصلوب فقال لها: إن هذا الجسد ليس بشيء وإنما الأرواح عند
الله فاتقى الله واصبري، فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدى رأس يحيى
بن زكريا إلى بغى من بغايا بنى إسرائيل؟. وقيل إنها غسلته وحنطته
وكفنته وطيبته وصلت عليه ثم دفنته، ثم ماتت بعده بأيام في آخر جمادى
الآخرة، ثم إن الزبير لما كبرت طلقها، وَقِيلَ بَلْ قَالَ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ ابْنُهُ: إِنَّ مِثْلِي لَا تُوطَأُ أُمُّهُ، فَطَلَّقَهَا
الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ: بَلِ اخْتَصَمَتْ هِيَ وَالزُّبَيْرُ فَجَاءَ
عَبْدُ اللَّهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنْ
دَخَلْتَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَدَخَلْتُ فَبَانَتْ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدْ عُمِّرَتْ أَسْمَاءُ دَهْرًا صَالِحًا وَأَضَرَّتْ فِي آخِرِ
عُمُرِهَا، وَقِيلَ بَلْ كَانَتْ صَحِيحَةَ الْبَصَرِ لَمْ يَسْقُطْ
لَهَا سِنٌّ. وَأَدْرَكَتْ قَتْلَ وَلَدِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ
بِعَشَرَةٍ، وَقِيلَ بِعِشْرِينَ، وَقِيلَ بضع وَعِشْرِينَ يَوْمًا،
وَقِيلَ عَاشَتْ بَعْدَهُ مِائَةَ يَوْمٍ وَهُوَ الْأَشْهَرُ،
وَبَلَغَتْ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ
وَلَمْ يُنْكَرْ لَهَا عقل رحمها الله. وَقَدْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ طَيِّبَةٍ
مُبَارَكَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عنها ورحمها.
(8/346)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ- يَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ- عَزَلَ عَبْدُ
الْمَلِكِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْبَصْرَةِ وَأَضَافَهَا
إِلَى أَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ مَعَ الْكُوفَةِ، فَارْتَحَلَ
إليها واستخلف على الكوفة عمرو ابن حُرَيْثٍ. وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ
بْنُ مَرْوَانَ الصَّائِفَةَ فَهَزَمَ الرُّومَ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقْعَةُ عُثْمَانَ بْنِ الْوَلِيدِ بِالرُّومِ
مِنْ نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ، وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ،
وَالرُّومُ فِي سِتِّينَ أَلْفًا فَهَزَمَهُمْ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ
فِيهِمْ. وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الْحَجَّاجُ وَهُوَ عَلَى مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ، وَعَلَى
الْكُوفَةِ والبصرة بشر بن مروان، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحُ
بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ
هُبَيْرَةَ. وَعَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ،
يَعْنِي الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
عبد الله بن سعد بن جثم الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ
وَالْغَزْوِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
مَالِكُ بْنُ مِسْمَعِ بْنِ غَسَّانَ الْبَصْرِيُّ
كَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ.
ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ تُوُفِّيَ بالمدينة، يقال له أبو زيد
الأشمالى وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. قَالَ
يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ
ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَذَفَ
مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كفيله»
زينب بنت أبى سلمة المخزومي
رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَدَتْهَا
أُمُّهَا بِالْحَبَشَةِ، وَلَهَا رِوَايَةٌ وَصُحْبَةٌ.
تَوْبَةُ بْنُ الصمة
وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَجْنُونُ لَيْلَى، كَانَ تَوْبَةُ
يَشُنُّ الْغَارَاتِ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَرَأَى
لَيْلَى فَهَوَاهَا وَتَهَتَّكَ بِهَا وَهَامَ بِهَا مَحَبَّةً
وَعِشْقًا، وَقَالَ فِيهَا الْأَشْعَارَ الْكَثِيرَةَ الْقَوِيَّةَ
الرَّائِقَةَ، الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَلَمْ يُلْحَقْ فِيهَا
لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ، وَقَدْ قِيلَ
لَهُ مَرَّةً: هَلْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ لَيْلَى رِيبَةٌ قَطُّ؟
فَقَالَ: بَرِئْتُ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتُ قَطُّ حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى مُحَرَّمٍ.
وَقَدْ دَخَلَتْ لَيْلَى عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
تَشْكُو ظُلَامَةً فَقَالَ لَهَا: مَاذَا رَأَى مِنْكِ تَوْبَةُ حَتَّى
عَشِقَكِ هَذَا الْعِشْقَ كُلَّهُ؟
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُ قَطُّ رِيبَةٌ وَلَا خَنَا، وَإِنَّمَا العرب تعشق وتعف
وتقول الأشعار فيمن تَهْوَى وَتُحِبُّ مَعَ الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ
لِأَنْفُسِهَا عَنِ الدَّنَاءَاتِ. فَأَزَالَ ظُلَامَتَهَا
وَأَجَازَهَا. تُوُفِّيَ تَوْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ إِنَّ
لَيْلَى جَاءَتْ إِلَى قبره فبكت حتى ماتت والله أعلم.
تم الجزء الثامن من كتاب البداية والنهاية ويليه الجزء التاسع وأوله
سنة أربع وسبعين من الهجرة وما فيها من الحوادث. نسأل الله التوفيق
والإعانة على إتمامه
(8/347)
|