البداية والنهاية، ط. دار الفكر
[المجلد
التاسع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أربع وسبعين
فِيهَا عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو عن إمارة
الْمَدِينَةِ وَأَضَافَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ
الثَّقَفِيِّ، فقدمها فأقام بها أشهرا ثُمَّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ثُمَّ
عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي صَفَرٍ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ، وَبَنَى فِي بَنِي سَلَمَةَ مَسْجِدًا، وَهُوَ الَّذِي
يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَيُقَالُ إِنَّ الْحَجَّاجَ فِي هَذِهِ
السنة وهذه المدة شتم جَابِرًا وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَقَرَّعَهُمَا
لِمَ لَا نَصَرَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَخَاطَبَهُمَا خِطَابًا
غَلِيظًا قبحه الله وأخزاه، واستقضى أَبَا إِدْرِيسَ [1]
الْخَوْلَانِيَّ أَظُنُّهُ عَلَى الْيَمَنِ وَاللَّهُ أعلم. قَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا نَقَضَ الْحَجَّاجُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ
الَّذِي كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهُ وَأَعَادَهَا عَلَى
بُنْيَانِهَا الْأَوَّلِ، قُلْتُ: الْحَجَّاجُ لَمْ يَنْقُضْ بُنْيَانَ
الْكَعْبَةِ جَمِيعَهُ، بَلْ إِنَّمَا هَدَمَ الْحَائِطَ الشَّامِيَّ
حَتَّى أَخْرَجَ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ ثُمَّ سَدَّهُ وَأَدْخَلَ
فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مَا فَضَلَ من الأحجار، وبقية الحيطان الثلاثة
بحالها، ولهذا بقي البنيان الشَّرْقِيُّ وَالْغَرْبِيُّ وَهُمَا
مُلْصَقَانِ بِالْأَرْضِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ إِلَى يَوْمِنَا
هَذَا، وَلَكِنْ سَدَّ الْغَرْبِيَّ بِالْكُلِّيَّةِ وَرَدَمَ أَسْفَلَ
الشَّرْقِيِّ حَتَّى جَعَلَهُ مُرْتَفِعًا كَمَا كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْحَجَّاجَ وعبد الْمَلِكِ مَا
كَانَ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ الَّذِي
كَانَتْ أَخْبَرَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ
قَوْلِهِ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ- وَفِي
رِوَايَةٍ- بِجَاهِلِيَّةٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَأَدَخَلْتُ فِيهَا
الْحِجْرَ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا،
وَلَأَلْصَقْتُهُمَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ
النَّفَقَةُ فَلَمْ يُدْخِلُوا فِيهَا الحجر ولم
__________
[1] نسخة أبا مسلم
(9/2)
يُتَمِّمُوهَا عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ وَرَفَعُوا بَابَهَا لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا
وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا» . فَلَمَّا تَمَكَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
بَنَاهَا كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ هَذَا الْحَدِيثُ
بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَدِدْنَا لو تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ
ذَلِكَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي
صُفْرَةَ حَرْبَ الْأَزَارِقَةِ عَنْ أَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ
لِأَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ أَنْ يُجَهِّزَ الْمُهَلَّبَ إِلَى
الْخَوَارِجِ في جيوش من الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَوَجَدَ بِشْرٌ
عَلَى الْمُهَلَّبِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُ عَيَّنَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ
فِي كِتَابِهِ. فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَتِهِ فِي تَأْمِيرِهِ
عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ أَوْصَى أمير الكوفيين عبد الله بْنَ
مِخْنَفٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالْأَمْرِ دُونَهُ، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ
لَهُ رَأْيًا وَلَا مَشُورَةً، فَسَارَ الْمُهَلَّبُ بِأَهْلِ
الْبَصْرَةِ وَأُمَرَاءِ الْأَرْبَاعِ مَعَهُ عَلَى مَنَازِلِهِمْ
حَتَّى نَزَلَ بِرَامَهُرْمُزَ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا إِلَّا
عَشْرًا حَتَّى جَاءَ نَعْيُ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَنَّهُ مَاتَ
بِالْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا خَالِدُ بن عبد الله، فأرخى
بَعْضُ الْجَيْشِ وَرَجَعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فَبَعَثُوا فِي آثارهم
من يردهم، وكتب خالد ابن عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْفَارِّينَ
يَتَوَعَّدُهُمْ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى أَمِيرِهِمْ،
وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِسَطْوَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَعَدَلُوا
يَسْتَأْذِنُونَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ فِي الْمَصِيرِ إِلَى
الْكُوفَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ تَرَكْتُمْ أَمِيرَكُمْ
وَأَقْبَلْتُمْ عَاصِينَ مُخَالِفِينَ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِذَنٌ وَلَا
إِمَامٌ وَلَا أُمَّانٌ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ ذَلِكَ أَقْبَلُوا إِلَى
رِحَالِهِمْ فَرَكِبُوهَا ثُمَّ سَارُوا إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ
فَلَمْ يَزَالُوا مُخْتَفِينَ بِهَا حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ
وَالِيًا عَلَى الْعِرَاقِ مَكَانَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ
التَّمِيمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَوَلَّاهَا أُمَيَّةَ بْنَ
عبد الله ابن خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ الْقُرَشِيَّ لِيَجْتَمِعَ
عَلَيْهِ النَّاسُ فَإِنَّهُ قَدْ كَادَتِ الْفِتْنَةُ تَتَفَاقَمُ
بِخُرَاسَانَ بَعْدَ عبد الله ابن خَازِمٍ، فَلَمَّا قَدِمَ أُمَيَّةُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ عَرَضَ عَلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ
أَنْ يَكُونَ عَلَى شُرْطَتِهِ فَأَبَى وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ
يُوَلِّيَهُ طُخَارِسْتَانَ فَخَوَّفُوهُ مِنْهُ أَنْ يَخْلَعَهُ
هُنَالِكَ فَتَرَكَهُ مُقِيمًا عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا الْحَجَّاجُ وَهُوَ عَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ
وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ
قِيلَ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ اعْتَمَرَ فِي هَذِهِ السنة ولا نعلم صحة
ذلك.
ذكر من توفي فيها مِنَ الْأَعْيَانِ
رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، صَحَابِيٌّ
جَلِيلٌ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وصفين مع على وكان يتعانا
المزارع والفلاحة، توفى وهو ابن ستة وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَسْنَدَ
ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا. وَأَحَادِيثُهُ جَيِّدَةٌ، وَقَدْ
أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ سَهْمٌ فِي تَرْقُوَتِهِ فَخَيَّرَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهُ
مِنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يترك فيه العطبة وَيَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَاخْتَارَ هَذِهِ، وَانْتَقَضَ عليه في هذه السنة فمات
منه رحمه الله.
أبو سعيد الخدريّ
هو سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجَيُّ،
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مِنْ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ اسْتُصْغِرَ
(9/3)
يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ
مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَرَوَى
عَنْهُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ، كَانَ من نجباء الصحابة وفضلائهم وعلمائهم. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَقِيلَ
قَبْلَهَا بِعَشْرِ سِنِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ ثَنَا
خَالِدُ بن نزار ثنا هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. قَالَ:
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ فَقَالَ:
«النَّبِيُّونَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ
كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا
السُّتْرَةَ- وَفِي رِوَايَةٍ- إِلَّا العباءة أو نحوها، وإن أحدهم
ليبتلى بالقمل حَتَّى يَنْبِذَ الْقَمْلَ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ
بِالْبَلَاءِ أَشَدَّ فَرَحًا مِنْهُ بِالرَّخَاءِ» . وَقَالَ
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ
عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أَهْلَهُ شَكَوْا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ فَخَرَجَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ لهم
شَيْئًا، فَوَافَقَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَغْنُوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ
فَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ
يُغْنِهِ اللَّهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا رَزَقَ
اللَّهُ عَبْدًا مِنْ رِزْقٍ أَوْسَعَ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَئِنْ
أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَسْأَلُونِي لَأُعْطِيَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُ»
. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ نحوه.
عبد الله بن عمر
ابن الْخَطَّابِ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَكِّيُّ ثُمَّ الْمَدَنِيُّ أَسْلَمَ قَدِيمًا مَعَ أَبِيهِ وَلَمْ
يبلغ الحلم وهاجرا وعمره عشرة سنين، وقد استصغر يوم أحد، فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ أَجَازَهُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ
سَنَةً فَشَهِدَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ شقيق حفصة بنت عمر أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، أُمُّهُمَا زَيْنَبَ بِنْتَ مَظْعُونٍ أُخْتَ
عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ آدَمَ لَهُ جُمَّةٌ تَضْرِبُ إِلَى
مَنْكِبَيْهِ جَسِيمًا يَخْضِبُ بِالصُّفْرَةِ وَيُحْفِي شَارِبَهُ،
وَكَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَيُدْخِلُ الْمَاءَ فِي أُصُولِ
عَيْنَيْهِ، وَقَدْ أَرَادَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَبُوهُ، وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَالْقَادِسِيَّةَ
وَجَلُولَاءَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ وَقَائِعَ الْفُرْسِ، وَشَهِدَ
فَتْحَ مِصْرَ، وَاخْتَطَّ بِهَا دَارًا، وَقَدِمَ البصرة وشهد عزو
فَارِسَ وَوَرَدَ الْمَدَائِنَ مِرَارًا وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ
سَنَةً، وَكَانَ إِذَا أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ ماله يقر بِهِ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ عَبِيدُهُ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ
مِنْهُ، فَرُبَّمَا لَزِمَ أَحَدُهُمُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَآهُ ابْنُ
عُمَرَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَعْتَقَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُمْ
يَخْدَعُونَكَ، فَيَقُولُ: من خدعنا للَّه انْخَدَعْنَا لَهُ، وَكَانَ
لَهُ جَارِيَةً يُحِبُّهَا كَثِيرًا فَأَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا
لِمَوْلَاهُ نَافِعٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَنْ
تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ 3: 92 واشترى
مرة بعيرا فَأَعْجَبَهُ لَمَّا رَكِبَهُ فَقَالَ: يَا نَافِعُ
أَدْخِلْهُ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَأَعْطَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ فِي
نافع عشرة آلاف فقال: أو خيرا مِنْ ذَلِكَ؟ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ
اللَّهِ، وَاشْتَرَى مَرَّةً غُلَامًا بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا
وَأَعْتَقَهُ فَقَالَ الْغُلَامُ:
(9/4)
يَا مَوْلَايَ قَدْ أَعْتَقْتَنِي فَهَبْ
لِي شَيْئًا أَعِيشُ بِهِ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَاشْتَرَى
مَرَّةً خَمْسَةَ عَبِيدٍ فَقَامَ يُصَلِّي فَقَامُوا خَلْفَهُ
يُصَلُّونَ فَقَالَ: لِمَنْ صَلَّيْتُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ فَقَالُوا:
للَّه! فَقَالَ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ لِمَنْ صَلَّيْتُمْ لَهُ،
فَأَعْتَقَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَا مَاتَ حَتَّى أَعْتَقَ
أَلْفَ رَقَبَةٍ، وَرُبَّمَا تَصَدَّقَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ
بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ تَمْضِي عَلَيْهِ الْأَيَّامُ
الْكَثِيرَةُ وَالشَّهْرُ لا يذوق فيه لحما إلا وعلى يديه يَتِيمٌ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ
يُبَايِعَ لِيَزِيدَ، فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ
مِنْهَا شَيْءٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لا أسال أحدا شيئا، وما
رَزَقَنِي اللَّهُ فَلَا أَرُدُّهُ، وَكَانَ فِي مُدَّةِ الْفِتْنَةِ
لَا يَأْتِي أَمِيرٌ إِلَّا صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَدَّى إِلَيْهِ
زَكَاةَ مَالِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَنَاسِكَ الْحَجِّ،
وَكَانَ يَتَتَبَّعُ آثَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُصَلِّي فيها، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَتَعَاهَدُهَا ويصب في أصلها الماء، وَكَانَ إِذَا فَاتَتْهُ
الْعِشَاءُ فِي جَمَاعَةٍ أَحْيَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ يَقُومُ
أَكْثَرَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ وَهُوَ فِي الْفَضْلِ
مِثْلُ أَبِيهِ، وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ خَيْرُ مَنْ بَقِيَ، وَمَكَثَ
سِتِّينَ سَنَةً يُفْتِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، وَرَوَى
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ
كَثِيرَةً، وَرَوَى عَنِ الصِّدِّيقِ وَعَنْ عُمَرَ وعثمان وسعد وابن
مسعود وحفصة وعائشة وغيرهم، وعنه خلق مِنْهُمْ بَنُوهُ حَمْزَةُ
وَبِلَالٌ وَزَيْدٌ وَسَالِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ
وَعُمَرُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، وَأَسْلَمُ مَوْلَى أَبِيهِ وَأَنَسُ
بْنُ سِيرِينَ وَالْحَسَنُ وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وطاووس
وَعُرْوَةُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ سِيرِينَ
وَالزُّهْرِيُّ وَمَوْلَاهُ نَافِعٌ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ
صَالِحٌ لَوْ كان يقوم الليل» . وكان بَعْدُ يَقُومُ اللَّيْلَ،
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مِنْ أَمْلَكِ شَبَابِ قُرَيْشٍ
لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ جَابِرٌ: مَا مِنَّا
أَحَدٌ أَدْرَكَ الدُّنْيَا إِلَّا مَالَتْ بِهِ وَمَالَ بِهَا، إِلَّا
ابْنَ عُمَرَ، وَمَا أَصَابَ أَحَدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا
نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ
كَرِيمًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
مَاتَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمَ مَاتَ وما من الدنيا أحد أحب أن لقي اللَّهَ
بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لَا يُعْدَلُ
بِرَأْيهِ فَإِنَّهُ أَقَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتِّينَ سَنَةً، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
مِنْ أَمْرِهِ وَلَا مَنْ أَمْرِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَ ابْنُ عُمَرَ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً
وَأَفْتَى في الإسلام ستين سنة، تقدم عليه وفود الناس من أقطار الأرض،
قال الْوَاقِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: تُوُفِّيَ ابْنُ عُمَرَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَآخَرُونَ:
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَالْأَوَّلُ أَثْبَتَ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
عبيد بن عمير
ابن قتادة بن سعد بن عامر بن خندع بن ليث، الليثي ثم الخندعى، أبو عاصم
المكيّ قاضى أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ. وُلِدَ
فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال غيره
ورآه أيضا، وروى عَنْ أَبِيهِ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، وَعَنْ عُمَرَ
وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَعَبْدِ الله بن عمر وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ،
(9/5)
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ
وَغَيْرُهُمْ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَتِهِ وَيَبْكِي
وَكَانَ يُعْجِبُهُ تَذْكِيرُهُ، وَكَانَ بَلِيغًا، وَكَانَ يَبْكِي
حَتَّى يَبُلَّ الحصى بدموعه. قال مهدي ابن مَيْمُونٍ عَنْ غَيْلَانَ
بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ إِذَا آخَى أَحَدًا
فِي اللَّهِ اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ فَقَالَ اللَّهمّ اجْعَلْنَا
سُعَدَاءَ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكَ، وَاجْعَلْ مُحَمَّدًا شَهِيدًا
عَلَيْنَا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ سَبَقَتْ لَنَا مِنْكَ الْحُسْنَى
غَيْرَ مُتَطَاوِلٍ عَلَيْنَا الْأَمَدُ، وَلَا قَاسِيَةٍ قُلُوبُنَا
وَلَا قَائِلِينَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، وَلَا سَائِلَيْنِ مَا
لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ مَاتَ قَبْلَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو جُحَيْفَةَ
وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيُّ، صَحَابِيٌّ رَأَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ دُونَ
الْبُلُوغِ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَكِنْ رَوَى عَنْهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَعَنْ عَلِيٍّ
وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ،
مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَالْحَكَمُ وَسَلَمَةُ
بْنُ كُهَيْلٍ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ،
وَكَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَابْتَنَى بِهَا دَارًا وَتُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ
فاللَّه أَعْلَمُ. وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ
إِذَا خَطَبَ يَقُومُ أَبُو جُحَيْفَةَ تَحْتَ مِنْبَرِهِ.
سلمة بن الأكوع
ابن عَمْرِو بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيُّ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ بَايَعَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الصَّحَابَةِ وَمِنْ
عُلَمَائِهِمْ، كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ مَشَاهِدُ
مَعْرُوفَةٌ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَعْدَهُ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ
سَنَةً.
مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ
الْأَصْبَحِيُّ الْمَدَنِيُّ وَهُوَ جَدُّ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ
أَنَسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ
فَاضِلًا عَالِمًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
مُقْرِئُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِلَا مُدَافَعَةٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ، قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ الْقُرْآنَ
بِالْكُوفَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاجِ،
قَرَأَ عَلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ وَخَلْقٌ غَيْرُهُ،
تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
أَبُو مُعْرِضٍ الْأَسَدِيُّ
اسْمُهُ مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، وُلِدَ فِي
حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَفَدَ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَامْتَدَحَهُ، وَلَهُ شِعْرٌ جيد،
ويعرف بالأقطشى، وَكَانَ أَحْمَرَ الْوَجْهِ كَثِيرَ الشَّعْرِ،
تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ
الثَّمَانِينَ سَنَةً
.
(9/6)
بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ
الْأُمَوِيُّ أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلِي إِمْرَةَ
الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ عَبْدِ الملك، وله دار بدمشق عند عقبة
اللباب، وَكَانَ سَمْحًا جَوَادًا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ دَيْرُ
مَرْوَانَ عند حجير، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ خَالِدَ بْنَ حُصَيْنٍ
الْكِلَابِيَّ يوم مرج راهط، وكان لا يغلق دونه الأبواب ويقول: إنما
يحتجب النِّسَاءُ، وَكَانَ طَلِيقَ الْوَجْهِ، وَكَانَ يُجِيزُ عَلَى
الشِّعْرِ بِأُلُوفٍ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الْفَرَزْدَقُ وَالْأَخْطَلُ،
وَالْجَهْمِيَّةُ تَسْتَدِلُّ عَلَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ
بِأَنَّهُ الِاسْتِيلَاءُ ببيت الأخطل.
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ
مُهْرَاقِ
وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ، فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ مِنْ
وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَخْطَلُ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ
سَبَبَ مَوْتِ بِشْرٍ أنه وقعت القرحة في عينه فقيل له يقطعها من
المفصل فجزع فما أحس حَتَّى خَالَطَتِ الْكَتِفَ، ثُمَّ أَصْبَحَ
وَقَدْ خَالَطَتِ الْجَوْفَ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمَّا احْتَضَرَ جَعَلَ
يَبْكِي وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ عَبْدًا
أَرْعَى الْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَلَمْ أَلِ
مَا وُلِيتُ، فَذُكِرَ قَوْلُهُ لِأَبِي حَازِمٍ- أَوْ لسعيد بن
المسيب-، فقال: الحمد الله الَّذِي جَعَلَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ
يَفِرُّونَ إِلَيْنَا وَلَمْ يَجْعَلْنَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ، إِنَّا
لَنَرَى فِيهِمْ عِبَرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ
فَإِذَا هُوَ يَتَمَلْمَلُ عَلَى سَرِيرِهِ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ إِلَى
صَحْنِ الدَّارِ، وَالْأَطِبَّاءُ حَوْلَهُ. مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ مَاتَ بِهَا، وَلَمَّا بَلَغَ
عَبْدَ الْمَلِكِ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ الشُّعَرَاءَ أَنْ
يَرْثُوهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خمس وسبعين
فَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ- أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ وَهُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ- صَائِفَةَ الرُّومِ
حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْعَشٍ، وفيها ولى عبد الملك نيابة
المدينة ليحيى بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ عَمُّهُ، وَعَزَلَ عَنْهَا
الْحَجَّاجَ. وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ بْنَ يوسف
نيابة العراق والبصرة وَالْكُوفَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ
الْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ، وذلك بعد موت أخيه بشر، فَرَأَى عَبْدَ
الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا يَسُدُّ عَنْهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ غَيْرُ
الْحَجَّاجِ لِسَطْوَتِهِ وَقَهْرِهِ وَقَسْوَتِهِ وشهامته، فكتب إليه
وهو بالمدينة ولاية الْعِرَاقِ، فَسَارَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى
الْعِرَاقِ فِي اثنى عشر راكبا، فدخل الكوفة على حين غفلة من أهلها
وكان تحتهم النَّجَائِبِ، فَنَزَلَ قَرِيبَ الْكُوفَةِ فَاغْتَسَلَ
وَاخْتَضَبَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ وَأَلْقَى
عَذَبَةَ الْعِمَامَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ دَارَ
الْإِمَارَةِ، وَذَلِكَ يوم الجمعة وقد أذن المؤذن الأول لصلاة الجمعة،
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ
وَجَلَسَ عَلَيْهِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ طَوِيلًا، وَقَدْ
شَخَصُوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ
وَتَنَاوَلُوا الحصى ليحذفوه بِهَا، وَقَدْ كَانُوا حَصَبُوا الَّذِي
كَانَ قَبْلَهُ، فَلَمَّا سَكَتَ أَبْهَتَهُمْ وَأَحَبُّوا أَنْ
يَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ:
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ
(9/7)
والنفاق، ومساوى الْأَخْلَاقِ، وَاللَّهِ
إِنْ كَانَ أَمْرُكُمْ لَيَهُمُّنِي قَبْلَ أَنْ آتَى إِلَيْكُمْ،
وَلَقَدْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ أن يبتليكم بى، ولقد سقط منى البارحة
سوطي الّذي أؤدبكم بِهِ، فَاتَّخَذْتُ هَذَا مَكَانَهُ- وَأَشَارَ
إِلَى سَيْفِهِ-، ثم قال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم،
ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة. فَلَمَّا سَمِعُوا
كَلَامَهُ جَعَلَ الْحَصَى يَتَسَاقَطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقِيلَ
إِنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي شَهْرِ رمضان ظُهْرًا فَأَتَى
الْمَسْجِدَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ
حَمْرَاءَ مُتَلَثِّمٌ بِطَرَفِهَا، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بالناس! فظنه
النَّاسُ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ فَهَمُّوا بِهِ حَتَّى إِذَا
اجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ اللثام وَقَالَ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعُ
الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إني لأحمل الشيء بحمله، وأحذوه بنعله،
وأحزمه بفتله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وآن اقتطافها، وَإِنِّي
لَأَنْظُرُ إِلَى الدِّمَاءِ تَتَرَقْرَقُ بَيْنَ الْعَمَائِمِ
وَاللِّحَى، قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشَمِّرِي، ثُمَّ أنشد: -
هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ ... قَدْ لَفَّهَا
اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ
لَسْتُ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ ... وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى
ظَهْرِ وَضَمْ
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيٍّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ
الدَّوِّيِّ
مهاجر ليس بأعرابي
ثم قال: إني والله يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أُغْمَزُ بِغِمَازٍ،
وَلَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَلَقَدْ فُرِرْتُ عَنْ ذَكَاءٍ
وجربت من الْغَايَةِ الْقُصْوَى، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ نَثَرَ كِنَانَتَهُ ثُمَّ عَجَمَ
عِيدَانَهَا عُودًا عُودًا فَوَجَدَنِي أَمَرَّهَا عُودًا
وَأَصْلَبَهَا مَغْمِزًا فوجهني إليكم، فأنتم طالما رتعتم في أودية
الفتن، وسلكتم سبيل الغي، واخترتم جدد الضلال، أَمَا وَاللَّهِ
لَأَلْحُوَنَّكُمْ لَحْيَ الْعُودِ، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ
السَّلَمَةِ، وَلَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الْإِبِلِ، إِنِّي
وَاللَّهِ لا أعد إلا وفيت، ولا أحلق إِلَّا فَرَيْتُ، فَإِيَّايَ
وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ وَقِيلًا وَقَالًا، وَاللَّهِ لَتَسْتَقِيمُنَّ
عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ أَوْ لَأَدَعَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ
شُغْلًا فِي جَسَدِهِ.
ثُمَّ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ مِنْ بَعْثِ
الْمُهَلَّبِ- يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا عَنْهُ لما
سمعوا بموت بشر ابن مَرْوَانَ كَمَا تَقَدَّمَ- سَفَكْتُ دَمَهُ
وَانْتَهَبْتُ مَالَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَلَمْ
يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ
وَاجْتَمَعَ النَّاسُ تَحْتَهُ أَطَالَ السُّكُوتَ حَتَّى إِنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى وَأَرَادَ أَنْ
يَحْصِبَهُ بِهَا، وَقَالَ: قَبَّحَهُ اللَّهُ مَا أَعْيَاهُ
وَأَذَمَّهُ! فَلَمَّا نَهَضَ الْحَجَّاجُ وَتَكَلَّمَ بِمَا تَكَلَّمَ
بِهِ جَعَلَ الْحَصَى يَتَنَاثَرُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
بِهِ، لِمَا يَرَى مِنْ فصاحته وبلاغته. ويقال إنه قَالَ فِي
خُطْبَتِهِ هَذِهِ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلًا
قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً
مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ
لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ 16: 112 وأنتم
أولئك فاستووا
(9/8)
واستقيموا، فو الله لَأُذِيقَنَّكُمُ
الْهَوَانَ حَتَّى تَدِرُّوا، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصَبَ السَّلَمَةِ
حَتَّى تَنْقَادُوا، وَأُقْسِمُ باللَّه لَتُقْبِلُنَّ عَلَى
الْإِنْصَافِ وَلَتَدَعُنَّ الْإِرْجَافَ وَكَانَ وَكَانَ،
وَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فلان، وأيش الخبر وَمَا الْخَبَرُ، أَوْ
لَأَهْبُرَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ هَبْرًا يَدَعُ النِّسَاءَ أَيَامَى
وَالْأَوْلَادَ يَتَامَى، حَتَّى تَمْشُوا السُّمَّهَى وَتُقْلِعُوا
عَنْ هَا وَهَا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ بَلِيغٍ غَرِيبٍ يَشْتَمِلُ عَلَى
وَعِيدٍ شَدِيدٍ لَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ بِخَيْرٍ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَمِعَ تَكْبِيرًا فِي
السُّوقِ فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا
أَهْلَ الْعِرَاقِ يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوى الْأَخْلَاقِ، إِنِّي
سَمِعْتُ تَكْبِيرًا فِي الْأَسْوَاقِ لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي
يُرَادُ بِهِ التَّرْغِيبُ، وَلَكِنَّهُ تَكْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ
التَّرْهِيبُ، وَقَدْ عَصَفَتْ عَجَاجَةٌ تَحْتَهَا قَصْفٌ، يَا بَنِي
اللَّكِيعَةِ وَعَبِيدَ الْعَصَا وَأَبْنَاءَ الْإِمَاءِ
وَالْأَيَامَى، أَلَا يَرْبَعُ كُلُّ رِجْلٍ مِنْكُمْ عَلَى ظَلْعِهِ،
وَيُحْسِنُ حَقْنَ دَمِهِ وَيُبَصِرُ مَوْضِعَ قدمه، فأقسم باللَّه
لَأُوشِكُ أَنْ أُوقِعَ بِكُمْ وَقْعَةً تَكُونُ نكالا لما قبلها وأدبا
لما بعدها. قال فقام إليه عمير بن ضابىء التميمي ثم الحنظليّ فقال:
أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ أَنَا فِي هَذَا الْبَعْثِ وَأَنَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ وَعَلِيلٌ، وَهَذَا ابْنِي هُوَ أشب منى. قال: ومن أنت؟ قال
عمير بن ضابىء التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَسَمِعْتَ كَلَامَنَا
بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي غَزَا عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟
قَالَ: كَانَ حَبَسَ أَبِي وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قال أو ليس هو
الّذي هو يَقُولُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... فَعَلْتُ ووليت
البكاء حلائلا
ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ: إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ فِي قَتْلِكَ
صَلَاحُ الْمِصْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قُمْ إِلَيْهِ يَا حَرَسِيُّ
فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فضرب عنقه وانتهب ماله،
وأمر مناديا فنادى في الناس ألا إن عمير بن ضابىء تَأَخَّرَ بَعْدَ
سَمَاعِ النِّدَاءِ ثَلَاثًا فَأُمِرَ بِقَتْلِهِ، فَخَرَجَ النَّاسُ
حَتَّى ازْدَحَمُوا عَلَى الْجِسْرِ فَعَبَرَ عَلَيْهِ فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمُ
الْعُرَفَاءُ حَتَّى وَصَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذُوا
مِنْهُ كِتَابًا بِوُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَدِمَ
الْعِرَاقَ وَاللَّهِ رَجُلٌ ذَكَرٌ، الْيَوْمَ قُوتِلَ الْعَدُوُّ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَّاجُ لَمْ يعرف عمير بن ضابىء حَتَّى قَالَ
لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَيُّهَا الأمير! إن هذا جاء إلى عثمان
بعد ما قُتِلَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ ذَلِكَ
بِقَتْلِهِ.
وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ نَائِبًا
عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يشتد على خالد ابن
عَبْدِ اللَّهِ، وَأَقَرَّ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحًا ثُمَّ
رَكِبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ
أَبَا يَعْفُورَ، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ
أَوْفَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَقَرَّ عَمَّهُ يَحْيَى
عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ أُمَيَّةَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ النَّاسُ
بِالْبَصْرَةِ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ مِنْ
الْكُوفَةِ بعد قتل عمير بن ضابىء قام في أهل البصرة فخطبهم نظير ما
خطب أهل الكوفة من الوعيد والتشديد وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ، ثُمَّ
(9/9)
أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي يَشْكُرَ
فَقِيلَ هَذَا عاص، فقال: إن بى فتقا وقد عذرني الله وعذرني بِشْرُ
بْنُ مَرْوَانَ، وَهَذَا عَطَائِي مَرْدُودٌ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ،
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، فَفَزِعَ أَهْلُ
الْبَصْرَةِ وَخَرَجُوا مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى اجْتَمَعُوا عِنْدَ
قَنْطَرَةِ رَامَهُرْمُزَ. وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْجَارُودِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْحَجَّاجُ- وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- فِي أُمَرَاءِ الجيش فاقتتلوا هناك قتالا
شديدا، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَارُودِ فِي رءوس
من القبائل معه، وأمر برءوسهم فقطعت ونصبت عِنْدَ الْجِسْرِ مِنْ
رَامْهُرْمُزَ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلى المهلب فقوى بذلك وضعف أمير
الْخَوَارِجِ، وَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْمُهَلَّبِ وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ فَأَمَرَهُمَا بِمُنَاهَضَةِ
الْأَزَارِقَةِ، فَنَهَضَا بِمَنْ مَعَهُمَا إِلَى الْخَوَارِجِ
الْأَزَارِقَةِ فَأَجْلَوْهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ مِنْ رَامْهُرْمُزَ
بِأَيْسَرِ قِتَالٍ، فَهَرَبُوا إِلَى أَرْضِ كَازَرُونَ مِنْ
إِقْلِيمِ سَابُورَ، وَسَارَ النَّاسُ وَرَاءَهُمْ فالتقوا في العشر
الأواخر مِنْ رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَ
الْخَوَارِجُ الْمُهَلَّبَ مِنَ اللَّيْلِ فَوَجَدُوهُ قَدْ تَحَصَّنَ
بِخَنْدَقٍ حَوْلَ مُعَسْكَرِهِ، فَجَاءُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ مِخْنَفٍ فَوَجَدُوهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ- وَكَانَ الْمُهَلَّبُ
قَدْ أَمَرَهُ بِالِاحْتِرَازِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ-
فَاقْتَتَلُوا فِي اللَّيْلِ فَقَتَلَتِ الْخَوَارِجُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ وَطَائِفَةً مِنْ جَيْشِهِ وَهَزَمُوهُمْ
هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَيُقَالُ إِنَّ الْخَوَارِجَ لَمَّا الْتَقَوْا
مَعَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ
الأربعاء لعشرين بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَحَمَلَتِ
الْخَوَارِجُ عَلَى جيش المهلب بن أبى صفرة فاضطروه إلى معسكره، فجعل
عبد الرحمن يَمُدُّهُ بِالْخَيْلِ بَعْدَ الْخَيْلِ، وَالرِّجَالِ
بَعْدَ الرِّجَالِ، فمالت الخوارج إلى معسكر عبد الرحمن بَعْدَ
الْعَصْرِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ. وَقُتِلَ مَعَهُ طَائِفَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ
الصَّبَاحُ جَاءَ الْمُهَلَّبُ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَكَتَبَ
إِلَى الْحَجَّاجِ بِمَهْلِكِهِ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يُعَزِيهِ فِيهِ فَنَعَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى النَّاسِ
بِمِنًى، وَأَمَّرَ الْحَجَّاجُ مَكَانَهُ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ،
وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُهَلَّبَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ
يَجِدْ بُدًّا مِنْ طاعة الحجاج، وكره أن يخالفه، فَسَارَ إِلَى
الْمُهَلَّبِ فَجَعَلَ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا ظَاهِرًا وَيَعْصِيهِ
كَثِيرًا، ثُمَّ تَقَاوَلَا فَهَمَّ الْمُهَلَّبُ أَنْ يُوقِعَ
بِعَتَّابٍ ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمَا النَّاسُ، فَكَتَبَ عَتَّابُ
إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْكُو الْمُهَلَّبَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ
يَقَدَمَ عَلَيْهِ وَأَعْفَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْمُهَلَّبُ
مَكَانَهُ ابْنَهُ حَبِيبَ بْنَ الْمُهَلَّبِ.
وَفِيهَا خَرَجَ دَاوُدُ بْنُ النُّعْمَانِ الْمَازِنِيُّ بِنَوَاحِي
الْبَصْرَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ أَمِيرًا عَلَى
سِرِّيَّةٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَ صَالِحُ بْنُ
مُسَرِّحٍ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ
الصُّفْرِيَّةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ
الصُّفْرِيَّةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَمَعَهُ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ، وَالْبَطِينُ
وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ، وَاتَّفَقَ حَجُّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَهَمَّ شَبِيبٌ بِالْفَتْكِ بِهِ،
فَبَلَغَ عَبْدَ الملك ذلك من خبره بعد انصرافه من الحج، فكتب عبد
الملك
(9/10)
إلى الحجاج أَنَّ يَتَطَلَبَهُمْ، وَكَانَ
صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ هَذَا يُكْثِرُ الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ
وَالْإِقَامَةَ بِهَا، وَكَانَ له جماعة يلوذون به ويعتقدونه، من أهل
دارا وأرض الموصل، وكان يعلمهم القرآن وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
مُصْفَرًّا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَكَانَ إِذَا قَصَّ يَحْمَدُ
اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي على رسوله، ثُمَّ يَأْمُرُ
بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي الآخرة، ويحث على ذكر
الموت ويترحم عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيُثْنِي
عَلَيْهِمَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ
عُثْمَانَ فَيَسُبُّهُ وَيَنَالُ مِنْهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ
مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَيْهِ
وَقَتَلُوهُ مِنْ فَجَرَةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ يَحُضُّ
أَصْحَابَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ الْخَوَارِجِ لِلْأَمْرِ بالمعروف
والنهى عن المنكر، وإنكار ما قَدْ شَاعَ فِي النَّاسِ وَذَاعَ،
وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ القتل في طلب ذلك، ويذم الدنيا ذما بالغا،
ويصغر أمرها ويحقره، فالتفت عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ،
وَكَتَبَ إِلَيْهِ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ يَسْتَبْطِئُهُ
فِي الْخُرُوجِ وَيَحُثُّهُ عليه ويندب إِلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ شَبِيبٌ
عَلَى صَالِحٍ وَهُوَ بِدَارَا فَتَوَاعَدُوا وَتُوَافَقُوا عَلَى
الْخُرُوجِ فِي مُسْتَهَلِّ صفر من هذه السَّنَةِ الْآتِيَةِ وَهِيَ
سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ- وَقَدِمَ على صالح شبيب وأخوه مصاد والمجلل
وَالْفَضْلُ بْنُ عَامِرٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبْطَالِ
وَهُوَ بِدَارَا نَحْوُ مِائَةٍ وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، ثُمَّ وَثَبُوا
عَلَى خَيْلٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ فَأَخَذُوهَا ونفروا بِهَا
ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمَرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ما كان، كما سنذكره في هذه
السنة التي بعدها إن شاء الله تعالى
وكان ممن توفى فيها
فِي قَوْلِ أَبِي مُسْهِرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ
الْعِرْبَاضُ بن سارية
رضي الله عنه السُّلَمِيُّ أَبُو نَجِيحٍ سَكَنَ حِمْصَ وَهُوَ
صَحَابِيٌّ جليل، أسلم قديما هو وعمرو بن عنبسة ونزل الصفة، وكان من
البكاءين الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا
أسماءهم عند قوله وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ 9: 92 الآية. وكانوا، تسعة وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ
«خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خُطْبَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وزرفت منها العيون» الحديث إلى
آخره. ورواه أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ، وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «كَانَ يُصَلِّي عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثًا
وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدَةً» وَقَدْ كَانَ الْعِرْبَاضُ شَيْخًا
كَبِيرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ
يَدْعُو: اللَّهمّ كَبِرَتْ سِنِّي وَوَهَنَ عَظْمِي فَاقْبِضْنِي
إِلَيْكَ، وَرَوَى أَحَادِيثَ
. أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَغَزَا حُنَيْنًا
وَكَانَ ممن نزل الشام بدار يا غَرْبِيِّ دِمَشْقَ إِلَى جِهَةِ
الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ بِبَلَاطِ قَرْيَةٍ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ فاللَّه
أَعْلَمُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى
أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَالْأَشْهُرُ مِنْهَا جُرْثُومُ بْنُ نَاشِرٍ،
وَقَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحَادِيثَ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنَ التَّابِعَيْنِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمَكْحُولٌ
الشَّامِيُّ وَأَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ
الْجَرْمِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، وَكَانَ
فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يَخْرُجُ فَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ
فَيَتَفَكَّرُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَيَسْجُدُ للَّه
عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا
يَخْنُقَنِي اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَرَاكُمْ تَخْتَنِقُونَ،
(9/11)
فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يُصَلِّي مِنَ
اللَّيْلِ إِذْ قُبِضَتْ رُوحُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَرَأَتِ ابْنَتُهُ
فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ أَبَاهَا قَدْ مَاتَ فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً
فَقَالَتْ لِأُمِّهَا أَيْنَ أَبِي؟ قَالَتْ: هُوَ فِي مُصَلَّاهُ،
فَنَادَتْهُ فَلَمْ يُجِبْهَا، فَجَاءَتْهُ فَحَرَّكَتْهُ فَسَقَطَ
لِجَنْبِهِ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:
كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ:
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي أَوَّلِ إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ
صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ
النَّخَعِيُّ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَمِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ
ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ كِبَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ يَصُومُ
الدَّهْرَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ، وَقَدْ
حَجَّ الْبَيْتَ ثَمَانِينَ حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَكَانَ يُهِلُّ مِنَ
الْكُوفَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَصُومُ حَتَّى
يَخْضَرَّ وَيَصْفَرَّ، فَلَمَّا احْتَضَرَ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا
هَذَا الْجَزَعُ؟ فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَجْزَعُ؟ وَمَنْ أَحَقُّ
بِذَلِكَ مِنِّي؟
وَاللَّهِ لَوْ أنبئت بالمغفرة من الله لأهابن الْحَيَاءُ مِنْهُ
مِمَّا قَدْ صَنَعْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الرَّجُلِ الذَّنَبُ الصَّغِيرُ فَيَعْفُو عَنْهُ فَلَا يَزَالُ
مُسْتَحْيِيًا مِنْهُ.
حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ
مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَانَ مِنْ سبى عين النمر اشتراه
عثمان، وهو الّذي كان يأذن الناس عَلَى عُثْمَانَ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
كان فِي أَوَّلِهَا فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا لَيْلَةَ
الْأَرْبِعَاءِ اجْتِمَاعُ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ أَمِيرِ
الصُّفْرِيَّةِ، وشبيب ابن يَزِيدَ أَحَدِ شُجْعَانِ الْخَوَارِجِ،
فَقَامَ فِيهِمْ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى
اللَّهِ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنْ لَا يُقَاتِلُوا أَحَدًا
حَتَّى يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى
دَوَابِّ محمد بن مروان نائب الجزيرة فأخذوها فنفروا بها، وأقاموا بأرض
دارا ثلاثة عشر لَيْلَةً، وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَهْلُ دَارَا
وَنَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ
مَرْوَانَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ عَلَيْهِمْ
عَدِيُّ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ، ثُمَّ زَادَهُ خَمْسَمِائَةٍ
أُخْرَى فَسَارَ فِي ألف من حران إليهم، وكأنما يساقون إلى الموت وهم
ينظرون، لما يعلموا مِنْ جَلَدِ الْخَوَارِجِ وَقُوَّتِهِمْ وَشِدَّةِ
بِأَسِهِمْ، فَلَمَّا التقوا مع الخوارج هزمتهم الخوارج هَزِيمَةً
شَنِيعَةً بَالِغَةً.
وَاحْتَوَوْا عَلَى مَا فِي معسكرهم، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَغَضِبَ وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ جعونة، وألفا وخمسمائة مع خالد
بن الحر، وَقَالَ لَهُمَا: أَيُّكُمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ فَهُوَ
الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ، فَسَارُوا إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ
مُقَاتِلٍ، وَالْخَوَارِجُ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ نَفْسٍ وَعَشَرَةِ
أَنْفُسٍ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى آمِدَ تَوَجَّهَ صالح في شطر
الناس إلى خالد بن الحر، ووجه شبيبا في الباقي إلى الحارث ابن جعونة،
فاقتتل الناس قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ
الْمَسَاءُ انكشف كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنِ
(9/12)
الْآخَرِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ
نَحْوَ السَّبْعِينَ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَرْوَانَ نَحْوَ
الثَّلَاثِينَ، وَهَرَبَتِ الْخَوَارِجُ فِي اللَّيْلِ فَخَرَجُوا مِنَ
الْجَزِيرَةِ وَأَخَذُوا فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَمَضَوْا حَتَّى
قَطَعُوا الدَّسْكَرَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمِ الْحَجَّاجُ ثَلَاثَةَ
آلَافٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، فَسَارَ نَحْوَهُمْ حَتَّى
لَحِقَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ وَلَيْسَ مَعَ صَالِحٍ سِوَى
تِسْعِينَ رَجُلًا، فَالْتَقَى مَعَهُمْ وَقَدْ جَعَلَ صَالِحٌ
أَصْحَابَهُ ثَلَاثَةَ كَرَادِيسَ، فَهُوَ فِي كُرْدُوسٍ، وَشَبِيبٌ
عَنْ يَمِينِهِ فِي كُرْدُوسٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ
يَسَارِهِ فِي كُرْدُوسٍ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ عميرة،
وعلى ميمنته أبو الرواع الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأرواح
التَّمِيمِيُّ، فَصَبَرَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى قِلَّتِهِمْ صَبْرًا
شَدِيدًا، ثم انكشف سويد بْنُ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قُتِلَ صَالِحُ بْنُ
مُسَرِّحٍ أَمِيرُهُمْ، وَصُرِعَ شَبِيبٌ عَنْ فَرَسِهِ فَالْتَفَّ
عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْخَوَارِجَ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَدَخَلُوا بِهِ
حِصْنًا هُنَالِكَ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا،
فَأَحَاطَ بِهِمُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرَةَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ
أَنْ يَحْرِقُوا الْبَابَ فَفَعَلُوا، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى
مُعَسْكَرِهِمْ ينتظرون حريق الباب فيأخذون الخوارج قهرا، فما رجع
الناس واطمأنوا خرجت عليهم الخوارج على الصعب والذلول من الباب
فَبَيَّتُوا جَيْشَ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبَ النَّاسُ سِرَاعًا إِلَى الْمَدَائِنِ،
واحتاز شبيب وأصحابه ما في معسكرهم، وكان جَيْشُ الْحَارِثِ بْنِ
عُمَيْرَةَ أَوَّلَ جَيْشٍ هَزَمَهُ شَبِيبٌ، وَكَانَ مَقْتَلُ صَالِحِ
بْنِ مُسَرِّحٍ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ،
وَذَلِكَ أَنَّ شَبِيبًا جَرَتْ لَهُ فُصُولٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا
بَعْدَ مَقْتَلِ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ
الْخَوَارِجُ وَبَايَعُوهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جَيْشًا
آخَرَ فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ ثُمَّ هَزَمَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ
سَارَ فجاز المدائن فلم ينل منهم شيئا، فسار فأخذ دوابا للحجاج من
كلوذا، وفي عَزْمِهِ أَنْ يُبَيِّتَ أَهْلَ الْمَدَائِنِ فَهَرَبَ مَنْ
فِيهَا مِنَ الْجُنْدِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ فلهم إِلَى
الْحَجَّاجِ جَهَّزَ جَيْشًا أَرْبَعَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ إِلَى
شَبِيبٍ، فَمَرُّوا عَلَى الْمَدَائِنِ ثُمَّ سَارُوا في طلب شبيب فجعل
يَسِيرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَلِيلًا قَلِيلًا وَهُوَ يُرِيهِمْ
أَنَّهُ خَائِفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَكُرُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى
الْمُقَدِّمَةِ فَيَكْسِرُهَا وَيَنْهَبُ مَا فِيهَا، وَلَا يُوَاجِهُ
أَحَدًا إِلَّا هَزَمَهُ، وَالْحَجَّاجُ يُلِحُّ فِي طَلَبِهِ
وَيُجَهِّزُ إِلَيْهِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثَ وَالْمَدَدَ وَشَبِيبٌ
لَا يُبَالِي بِأَحَدٍ وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ
فَارِسًا، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، ثُمَّ سَارَ مِنْ طَرِيقٍ
أُخْرَى حَتَّى وَاجَهَ الْكُوفَةَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَاصِرَهَا،
فَخَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ إِلَى السَّبَخَةِ لِقِتَالِهِ،
وَبِلَغَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يبال بهم بل انزعج الناس له وخاف منه وفرقوا
منه، وهم الجيش أن يدخل الكوفة خوفا منه ويتحصنوا بها مِنْهُ، حَتَّى
قِيلَ لَهُمْ إِنَّ سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي آثَارِهِمْ
وَقَدِ اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، وشبيب نازل بالمدائن بِالدَّيْرِ لَيْسَ
عِنْدَهُ خَبَرٌ مِنْهُمْ وَلَا خَوْفٌ، وَقَدْ أَمَرَ بِطَعَامٍ
وَشِوَاءٍ أَنْ يُصْنَعَ لَهُ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ جَاءَكَ الْجُنْدُ
فَأَدْرِكْ نَفْسَكَ، فَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا
يَكْتَرِثُ بِهِمْ وَيَقُولُ لِلدِّهْقَانِ الَّذِي يَصْنَعُ لَهُ
(9/13)
الطعام: أجده وأنضجه وعجل به، فلما استوى
أكله ثم توضأ وضوءا تاما ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةً تَامَّةً
بِتَطْوِيلٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، ثُمَّ لَبِسَ دِرْعَهُ وَتَقَلَّدَ
سَيْفَيْنِ وَأَخَذَ عَمُودَ حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فركبها
فقال له أخوه مصاد: اركب فرسا، فقال: لا! حارس كل أمر أجله،
فَرَكِبَهَا ثُمَّ فَتَحَ بَابَ الدَّيْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ
يَقُولُ: أَنَا أَبُو الْمُدَلَّهِ لَا حكم إلا الله، وتقدم إلى أمير
الجيش الّذي يليه بِالْعَمُودِ الْحَدِيدِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُجَالِدِ، وَحَمَلَ عَلَى الْجَيْشِ الْآخَرِ الْكَثِيفِ
فَصَرَعَ أَمِيرَهُ وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَجَئُوا
إِلَى الكوفة، ومضى شبيب إلى الكوفة من أَسْفَلِ الْفُرَاتِ، وَقَتَلَ
جَمَاعَةً هُنَاكَ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ من الكوفة هاربا إِلَى
الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عُرْوَةَ بْنَ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، ثُمَّ اقْتَرَبَ شَبِيبٌ مِنَ الْكُوفَةِ
يُرِيدُ دُخُولَهَا، فَأَعْلَمَ الدَّهَاقِينُ عُرْوَةَ بْنَ
الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ
فَأَسْرَعَ الْحَجَّاجُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَقَصَدَ
الْكُوفَةَ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَبَادَرَهُ شَبِيبٌ إِلَى
الْكُوفَةِ فَسَبَقَهُ الْحَجَّاجُ إِلَيْهَا فَدَخَلَهَا الْعَصْرَ،
وَوَصَلَ شَبِيبٌ إِلَى الْمِرْبَدِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، فَلَمَّا كَانَ
آخِرُ اللَّيْلِ دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ وَقَصَدَ قَصْرَ
الْإِمَارَةِ فَضَرَبَ بَابَهُ بِعَمُودِهِ الْحَدِيدِ فَأَثَّرَتْ
ضَرْبَتُهُ فِي الْبَابِ، فَكَانَتْ تُعْرَفُ بَعْدَ ذَلِكَ، يُقَالُ
هَذِهِ ضَرْبَةُ شَبِيبٍ، وَسَلَكَ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ
وَتَقَصَّدَ مَحَالَّ القتال، وَقَتَلَ رِجَالًا مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو سُلَيْمٍ وَالِدُ لَيْثِ
بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَعَدِيُّ بْنِ عَمْرٍو، وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، فِي طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَعَ شَبِيبٍ امْرَأَتُهُ غَزَالَةُ، وَكَانَتْ
مَعْرُوفَةً بِالشَّجَاعَةِ، فَدَخَلَتْ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ
وَجَلَسَتْ عَلَى مِنْبَرِهِ وَجَعَلَتْ تَذُمُّ بَنِي مَرْوَانَ.
وَنَادَى الْحَجَّاجُ في الناس يا خيل الله اركبي، فخرج شبيب من الكوفة
إلى مجال الطعن والضرب، فَجَهَّزَ الْحَجَّاجُ فِي أَثَرِهِ سِتَّةَ
آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَسَارُوا وَرَاءَهُ وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
يَنْعَسُ وَيَهُزُّ رأسه، وفي أوقات كثيرة يكر عليهم فَيَقْتُلُ
مِنْهُمْ جَمَاعَةً، حَتَّى قَتَلَ مَنْ جَيْشِ الْحَجَّاجِ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ زَائِدَةُ
بْنُ قُدَامَةَ، قَتَلَهُ شَبِيبٌ [وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْمُخْتَارِ،
فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ مَكَانَهُ لِحَرْبِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْأَشْعَثِ، فَلَمْ يُقَابِلْ شَبِيبًا وَرَجَعَ، فَوَجَّهَ مَكَانَهُ
عُثْمَانَ بْنَ قَطَنٍ الْحَارِثِيَّ، فالتقوا في أواخر السَّنَةِ
فَقُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ وَانْهَزَمَتْ جُمُوعُهُ بَعْدَ أَنْ
قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتُّمِائَةِ نَفْسٍ، فَمِنْ أَعْيَانِهِمْ
عَقِيلُ بْنُ شَدَّادٍ السَّلُولِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ نَهِيكٍ
الْكِنْدِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ
شَبِيبٍ وَتَزَلْزَلَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
وَالْحَجَّاجُ وَسَائِرُ الْأُمَرَاءِ وَخَافَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْهُ
خَوْفًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ لَهُ جَيْشًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
فَقَدِمُوا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَإِنَّ مَا مَعَ شَبِيبٍ
شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ مَلَأَ قُلُوبَ النَّاسِ رُعْبًا] [1]
وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ لَهُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَشَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَرْوَانَ على الدراهم والدنانير وهو أول من
__________
[1] سقط من المصرية
(9/14)
نقشها. [وقال الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ
الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ ضَرَبَهَا
بِالْعَرَبِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ الْمَنْقُوشَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَتِ الدَّنَانِيرُ والدراهم رومية وكسروية،
قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَكَانَ نَقْشُهُ لَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ، وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَضُرِبَتْ
فِي الْآفَاقِ سَنَةَ سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ضُرِبَ
عَلَى الْجَانِبِ الْوَاحِدِ مِنْهَا اللَّهُ أَحَدٌ، وَعَلَى
الْوَجْهِ الْآخَرِ اللَّهُ الصَّمَدُ، 112: 2 قَالَ: وَحَكَى يَحْيَى
بْنُ النُّعْمَانِ الْغِفَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ
ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير، سنة سبعين على ضرب الأكاسرة، عليها الملك
من جانب، والله مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ غَيَّرَهَا الْحَجَّاجُ وَكَتَبَ
اسْمَهُ عَلَيْهَا مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ خَلَّصَهَا بَعْدَهُ يُوسُفُ
بْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ
خَلَّصَهَا أَجْوَدَ مِنْهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ
فِي أَيَّامِ هِشَامٍ، ثُمَّ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَجْوَدَ مِنْهُمْ
كُلِّهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَنْصُورُ لَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا
الْهُبَيْرِيَّةَ وَالْخَالِدِيَّةَ وَالْيُوسُفِيَّةَ وَذَكَرَ
أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِلنَّاسِ نقود مختلفة منها الدراهم البعلية، وكان
الدرهم منها ثمانية دوانق، والطبرية وكان الدرهم منها أربعة دوانيق،
واليمنى دانق، فجمع عمر بن الخطاب بين البعلي والطبري ثم أخذ بنصفها
فجعل الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَخُمْسُ
مِثْقَالٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْمِثْقَالَ لَمْ يُغَيِّرُوا وَزْنَهُ
فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ] [1] .
وَفِيهَا وُلِدَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ وَهُوَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ آخِرُ من تولى الخلافة من بنى
أمية، ومنه أخذها بنو العباس. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبَانِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ عفان نائب المدينة، وعلى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ
الْحَجَّاجُ وَعَلَى خُرَاسَانَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ الْقُضَاعِيُّ
اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلَّ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَا جَلُولَاءَ
والقادسية وتستر، ونهاوند، وأذربيجان وغيرهما، وَكَانَ كَثِيرَ
الْعِبَادَةِ زَاهِدًا عَالِمًا يَصُومُ النَّهَارَ ويقوم الليل، توفى
وعمره مائة وثلاثين سَنَةً بِالْكُوفَةِ.
صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ الْعَدَوِيُّ
مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ ذَا
فَضْلٍ وَوَرَعٍ وَعِبَادَةٍ وَزُهْدٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو الصَّهْبَاءِ،
كَانَ يُصَلِّي حَتَّى مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ الْفِرَاشَ
إِلَّا حَبْوًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا أَنَّهُ
كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ شَبَابٌ يَلْهُونَ وَيَلْعَبُونَ فَيَقُولُ:
أَخْبِرُونِي عَنْ قَوْمٍ أَرَادُوا سَفَرًا فَحَادُوا فِي النَّهَارِ
عَنِ الطَّرِيقِ وَنَامُوا اللَّيْلَ فَمَتَى يَقْطَعُونَ سَفَرَهُمْ؟
فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ:
وَاللَّهِ يَا قَوْمِ إِنَّهُ مَا يَعْنِي بِهَذَا غَيْرَنَا، نَحْنُ
بِالنَّهَارِ نَلْهُو، وَبِاللَّيْلِ نَنَامُ. ثُمَّ تَبِعَ صِلَةَ
فَلَمْ يَزَلْ يَتَعَبَّدُ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ. وَمَرَّ عَلَيْهِ فتى
يجرثوبه فَهَمَّ أَصْحَابُهُ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ
فَقَالَ: دَعُونِي أكفكم أمره، ثم دعاه فقال: يا ابن أخى لي إليك حاجة،
__________
[1] سقط من المصرية
(9/15)
قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ أَنْ
تَرَفَعَ إِزَارَكَ، قَالَ: نَعَمْ، وَنِعْمَتْ عَيْنٌ، فَرَفَعَ
إِزَارَهُ، فَقَالَ صِلَةُ: هَذَا أَمْثَلُ مِمَّا أَرَدْتُمْ لَوْ
شَتَمْتُمُوهُ لَشَتَمَكُمْ. وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ جَعْفَرُ بْنُ
زَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي غَزَاةٍ وَفَى الْجَيْشِ صِلَةُ بْنُ
أَشْيَمَ فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ الْعَتَمَةِ فَقُلْتُ لَأَرْمُقَنَّ
عَمَلَهُ اللَّيْلَةَ، فَدَخَلَ غَيْضَةً وَدَخَلْتُ فِي أَثَرِهِ
فَقَامَ يُصَلِّي وَجَاءَ الْأَسَدُ حَتَّى دَنَا مِنْهُ وَصَعِدْتُ
أَنَا فِي شَجَرَةٍ، قَالَ فَتُرَاهُ التفت أوعده جِرْوًا حَتَّى
سَجَدَ فَقُلْتُ:
الْآنَ يَفْتَرِسُهُ، فَجَلَسَ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّهَا
السَّبْعُ إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَافْعَلْ وَإِلَّا فَاطْلُبِ
الرِّزْقَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، فَوَلَّى الْأَسَدُ وَإِنَّ لَهُ
لَزَئِيرًا تَصَّدَّعُ مِنْهُ الْجِبَالُ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ
الصَّبَاحِ جَلَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَحَامِدَ لَمْ أَسْمَعْ
بِمِثْلِهَا ثُمَّ قَالَ: اللَّهمّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي
مِنَ النَّارِ، أَوَ مِثْلِي يَجْتَرِئُ أَنْ يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ بات على الحشا،
وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الْفَتْرَةِ شَيْءٌ اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ.
قَالَ: وَذَهَبَتْ بِغْلَتُهُ بِثِقَلِهَا فَقَالَ: اللَّهمّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي بِثِقَلِهَا، فَجَاءَتْ
حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا
الْعَدُوَّ حَمَلَ هُوَ وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ فصنعنا بِهِمْ طَعْنًا
وَضَرْبًا، فَقَالَ الْعَدُوُّ: رَجُلَانِ مِنَ الْعَرَبِ صَنَعَا
بِنَا هَذَا فَكَيْفَ لَوْ قَاتَلُونَا كُلُّهُمْ؟ أَعْطُوا
الْمُسْلِمِينَ حَاجَتَهُمْ- يَعْنِي انْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِمْ-
وَقَالَ صِلَةُ: جُعْتُ مَرَّةً فِي غَزَاةٍ جَوْعًا شَدِيدًا
فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ أَدْعُو رَبِّي وَأَسْتَطْعِمُهُ، إِذْ
سَمِعْتُ وَجْبَةً مِنْ خَلْفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا
بِمِنْدِيلٍ أَبْيَضَ فَإِذَا فِيهِ دَوْخَلَةٌ مَلْآنَةٌ رُطَبًا
فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى شَبِعْتُ، وَأَدْرَكَنِي الْمَسَاءُ فَمِلْتُ
إِلَى دَيْرِ رَاهِبٍ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ فَاسْتَطْعَمَنِي مِنَ
الرُّطَبِ فَأَطْعَمْتُهُ، ثُمَّ إِنِّي مَرَرْتُ عَلَى ذَلِكَ
الرَّاهِبِ بَعْدَ زَمَانٍ فَإِذَا نَخَلَاتٌ حِسَانٌ فَقَالَ:
إِنَّهُنَّ لَمِنَ الرُّطَبَاتِ الَّتِي أَطْعَمْتَنِي، وَجَاءَ
بِذَلِكَ الْمِنْدِيلِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَكَانَتْ تُرِيهُ لِلنَّاسِ،
وَلَمَّا أُهْدِيَتْ مُعَاذَةُ إِلَى صِلَةَ أَدْخَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ
الْحَمَّامَ ثُمَّ أَدْخَلَهُ بَيْتَ الْعَرُوسِ بَيْتًا مُطَيَّبًا
فَقَامَ يُصَلِّي فَقَامَتْ تُصَلِّي مَعَهُ، فَلَمْ يَزَالَا
يُصَلِّيَانِ حَتَّى بَرَقَ الصُّبْحُ، قَالَ:
فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ أَهْدَيْتُ إِلَيْكَ ابْنَةَ
عَمِّكَ اللَّيْلَةَ فَقُمْتَ تُصَلِّي وَتَرَكْتَهَا؟ قَالَ: إِنَّكَ
أَدَخَلْتَنِي بَيْتًا أَوَّلَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي بِهِ
النَّارَ، وَأَدْخَلْتَنِي بَيْتًا آخِرَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي
بِهِ الْجَنَّةَ، فَلَمْ تَزَلْ فِكْرَتِي فِيهِمَا حَتَّى أَصْبَحْتُ،
الْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ النَّارَ هُوَ الْحَمَّامُ،
وَالْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ الْجَنَّةَ هُوَ بَيْتُ العروس.
وقال له رجل: أدعو اللَّهَ لِي: فَقَالَ رَغَّبَكَ اللَّهُ فِيمَا
يَبْقَى، وَزَهَّدَكَ فِيمَا يَفْنَى، وَرَزَقَكَ الْيَقِينَ الَّذِي
لَا يركن إلا إليه، ولا يعول فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَيْهِ. وَكَانَ
صِلَةُ فِي غَزَاةٍ وَمَعَهُ ابْنُهُ فَقَالَ لَهُ: أَيْ بُنَيَّ
تَقَدَّمْ فَقَاتِلْ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ، فَحَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى
قُتِلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ صِلَةُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَاجْتَمَعَ
النِّسَاءُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ فَقَالَتْ:
إِنْ كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ لِتُهَنِّئْنَنِي فَمَرْحَبًا بِكُنَّ،
وَإِنْ كنتن جئتن لتعزيننى فَارْجِعْنَ، تُوُفِّيَ صِلَةُ فِي غَزَاةٍ
هُوَ وَابْنُهُ نَحْوَ بِلَادِ فَارِسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
زُهَيْرُ بْنُ قَيْسٍ الْبَلَوِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، لَهُ صُحْبَةٌ، قَتَلَتْهُ الرُّومُ
بِبَرْقَةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّرِيخَ أَتَى
(9/16)
الْحَاكِمَ بِمِصْرَ وَهُوَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ أَنَّ الرُّومَ نَزَلُوا بَرْقَةَ،
فَأَمَرَهُ بِالنُّهُوضِ إِلَيْهِمْ، فَسَاقَ زُهَيْرٌ وَمَعَهُ
أَرْبَعُونَ نَفْسًا فَوَجَدَ الرُّومَ فَأَرَادَ أَنْ يَكُفَّ عَنِ
الْقِتَالِ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْعَسْكَرُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا
شَدَّادٍ احْمِلْ بِنَا عَلَيْهِمْ، فَحَمَلُوا فَقُتِلُوا جَمِيعًا
الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. تَوَلَّى بَيْتَ الْمَالِ ووفد على معاوية
والله أعلم] [1] .
ثم دخلت سنة سبع وسبعين
فِيهَا أَخْرَجَ الْحَجَّاجُ مُقَاتِلَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَكَانُوا
أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَانْضَافَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ،
فَصَارُوا خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ
وَرْقَاءَ وأمره أن يقصد لشبيب أين كان، وأن يصمم على قتاله- وكان قد
اجتمع على شبيب أَلْفَ رَجُلٍ- وَأَنْ لَا يَفْعَلُوا كَمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ قَبْلَهَا مِنَ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ شبييا ما بعث به الحجاج إليه من العساكر والجنود، لَمْ
يَعْبَأْ بِهِمْ شَيْئًا، بَلْ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا
فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ
اللِّقَاءِ وَمُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ
بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَالْتَقَيَا فِي آخِرِ
النَّهَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأَمَرَ شَبِيبٌ مؤذنه سلام بن
يسار الشَّيْبَانِيَّ فَأَذَّنَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ صَلَّى شَبِيبٌ
بِأَصْحَابِهِ المغرب صلاة تامة الركوع والسجود، وصف عتاب أصحابه- وكان
قد خندق حوله وحول جَيْشِهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ- فَلَمَّا صَلَّى
شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ انْتَظَرَ حَتَّى طَلَعَ الْقَمَرُ
وَأَضَاءَ ثم تَأَمَّلَ الْمَيْمَنَةَ وَالْمَيْسَرَةَ ثُمَّ حَمَلَ
عَلَى أَصْحَابِ رَايَاتِ عَتَّابٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا شَبِيبٌ
أَبُو المد له لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه، فَهَزَمَهُمْ وَقُتِلَ
أَمِيرُهُمْ قَبِيصَةُ بْنُ وَالِقٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
مَعَهُ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ
فَفَرَّقَ شَمْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَصَدَ الْقَلْبَ
فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ الْأَمِيرُ عَتَّابُ بْنُ ورقاء وزهرة بن
جونة، وولى عامة الجيش مدبرين وداسوا الأمير عتاب وَزَهْرَةُ
فَوَطِئَتْهُ الْخَيْلُ. وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَمَّارُ بْنُ
يَزِيدَ الْكَلْبِيُّ. ثُمَّ قَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: لَا
تَتَبَّعُوا مُنْهَزِمًا، وَانْهَزَمَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ عَنْ
بَكْرَةِ أَبِيهِمْ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ شَبِيبٌ
لَمَّا احْتَوَى عَلَى الْمُعَسْكَرِ أَخَذَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمُ
الْبَيْعَةَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ وَقَالَ لَهُمْ إِلَى أي سَاعَةٍ
تَهْرُبُونَ؟ ثُمَّ احْتَوَى عَلَى مَا فِي الْمُعَسْكَرِ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، وَاسْتَدْعَى بِأَخِيهِ مُصَادٍ مِنَ
الْمَدَائِنِ، ثُمَّ قَصَدَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ وَفَدَ إِلَى
الْحَجَّاجِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ وحبيب بن عبد
الرحمن الحكمي من مذ حج فِي سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ وَمَعَهُمَا خَلْقٌ
مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَاسْتَغْنَى الْحَجَّاجُ بِهِمْ عَنْ نُصْرَةِ
أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ
الْعِزَّ، وَلَا نَصَرَ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ النَّصْرَ، اخْرُجُوا
عَنَّا فَلَا تَشْهَدُوا مَعَنَا قِتَالَ عَدُّوِّنَا، الْحَقُوا
بِالْحِيرَةِ فَانْزِلُوا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَا
يُقَاتِلَنَّ مَعَنَا إِلَّا مَنْ كَانَ عاملا لنا، وَمَنْ لَمْ
يَشْهَدْ قِتَالَ عَتَّابِ بْنِ وَرَقَاءَ، وَعَزَمَ الْحَجَّاجُ عَلَى
قِتَالِ شَبِيبٍ بِنَفْسِهِ وَسَارَ شبيب حتى
__________
[1] سقط من المصرية
(9/17)
بَلَغَ الصَّرَاةَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ
الْحَجَّاجُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا
تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ نَظَرَ الحجاج إلى شبيب وهو في ستمائة
فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الشَّامِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ
أَنْتُمْ أَهْلُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ لا
يغلبن باطل هؤلاء الأراجس حَقَّكُمْ، غُضُّوا الْأَبْصَارَ وَاجْثُوا
عَلَى الرُّكَبِ، وَاسْتَقْبِلُوا بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ،
فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ وَقَدْ عبى أَصْحَابَهُ ثَلَاثَ
فِرَقٍ، وَاحِدَةٌ مَعَهُ، وَأُخْرَى مَعَ سويد ابن سُلَيْمٍ،
وَأُخْرَى مَعَ الْمُجَلَّلِ بْنِ وَائِلٍ. وَأَمَرَ شَبِيبٌ سُوَيْدًا
أَنْ يَحْمِلَ فَحَمَلَ عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ فَصَبَرُوا لَهُ
حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ وَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةً وَاحِدَةً
فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ، فَنَادَى الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ هَكَذَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ فَقُدِّمَ
كُرْسِيُّهُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ إِلَى الْأَمَامِ، ثُمَّ
أَمَرَ شَبِيبٌ المجلل أن يحمل فحمل فثبتوا له وقدم الحجاج كُرْسِيَّهُ
إِلَى أَمَامٍ، ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا حَمَلَ عليهم في كثيبته
فَثَبَتُوا لَهُ حَتَّى إِذَا غَشَّى أَطْرَافَ الْأَسِنَّةِ وَثَبُوا
فِي وَجْهِهِ فَقَاتَلَهُمْ طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّ أهل الشام طاعنوه
حَتَّى أَلْحَقُوهُ بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى صَبْرَهُمْ نَادَى:
يَا سُوَيْدُ احْمِلْ فِي خَيْلِكَ عَلَى أَهْلِ هذه السرية لَعَلَّكَ
تُزِيلُ أَهْلَهَا عَنْهَا فَأْتِ الْحَجَّاجَ مِنْ وَرَائِهِ،
وَنَحْمِلُ نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ. فَحَمَلَ فَلَمْ يُفِدْ
ذَلِكَ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ جَعَلَ
عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ
رِدْءًا لَهُ مِنْ وَرَائِهِ لِئَلَّا يُؤْتُوا مِنْ خَلْفِهِمْ،
وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَصِيرًا بِالْحَرْبِ أَيْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ
حَرَّضَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ عَلَى الْحَمْلَةِ وَأَمَرَهُمْ بِهَا
فَفَهِمَ ذَلِكَ الحجاج، فقال: يَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
اصْبِرُوا لِهَذِهِ الشِّدَّةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ وَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ مَا شَيْءٌ دُونَ الْفَتْحِ، فَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ
وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ بِجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا
غَشِيَهُمْ نَادَى الْحَجَّاجُ بِجَمَاعَةِ النَّاسِ فَوَثَبُوا فِي
وَجْهِهِ، فَمَا زَالُوا يَطْعَنُونَ وَيُطْعَنُونَ وَهُمْ
مُسْتَظْهِرُونَ عَلَى شَبِيبٍ وَأَصْحَابِهِ حتى ردوهم عن مواقفهم إلى
ما ورائها، فَنَادَى شَبِيبٌ فِي أَصْحَابِهِ يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ
الأرض الأرض، ثم نزل ونزلوا وَنَادَى الْحَجَّاجُ يَا أَهْلَ الشَّامِ
يَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، هَذَا أَوَّلُ النَّصْرِ وَالَّذِي
نَفْسِي بيده، وصعد مسجدا هنالك وجعل ينظر إلى الفريقين، ومع شبيب نحو
عِشْرِينَ رَجُلًا مَعَهُمُ النَّبْلُ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا
شَدِيدًا عَامَّةَ النَّهَارِ مِنْ أَشَدِّ قِتَالٍ فِي الأرض، حتى أقر
كل واحد منهم لِصَاحِبِهِ، وَالْحَجَّاجُ يَنْظُرُ إِلَى
الْفَرِيقَيْنِ مِنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَتَّابٍ
اسْتَأْذَنَ الْحَجَّاجَ فِي أَنْ يَرْكَبَ فِي جَمَاعَةٍ فَيَأْتِيَ
الْخَوَارِجَ من خلفهم، فَأَذِنَ لَهُ، فَانْطَلَقَ فِي جَمَاعَةٍ
مَعَهُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَدَخْلَ عَسْكَرَ الْخَوَارِجِ
مِنْ وَرَائِهِمْ فَقَتَلَ مُصَادًا أَخَا شَبِيبٍ، وَغَزَالَةَ
امْرَأَةَ شَبِيبٍ، قَتَلَهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ فَرْوَةُ بْنُ دقاق
الْكَلْبِيُّ، وَخَرَقَ فِي جَيْشِ شَبِيبٍ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ
الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ وَكَبَّرُوا، وَانْصَرَفَ شَبِيبٌ
وَأَصْحَابُهُ كُلٌّ منهم على فرس، فأمر الحجاج أن ينطلقوا في طلبهم،
فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَتَخْلَّفَ شَبِيبٌ فِي
حَامِيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ انْطَلَقَ وَاتَّبَعَهُ الطَّلَبُ فَجَعَلَ
يَنْعَسُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ حَتَّى يَخْفِقَ بِرَأْسِهِ، وَدَنَا
مِنْهُ الطَّلَبُ فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَنْهَاهُ عَنِ
النُّعَاسِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ فَجَعَلَ لَا يَكْتَرِثُ بهم
(9/18)
ويعود فيخفق رَأْسُهُ، فَلَمَّا طَالَ
ذَلِكَ بَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَصْحَابِهِ يَقُولُ دَعُوهُ فِي
حَرَقِ النَّارِ، فَتَرَكُوهُ وَرَجَعُوا.
ثُمَّ دَخَلَ الْحَجَّاجُ الْكُوفَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي
خُطْبَتِهِ. إِنَّ شَبِيبًا لَمْ يُهْزَمْ قَبْلَهَا، ثُمَّ قَصَدَ
شَبِيبٌ الْكُوفَةَ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ سرية من جيش الحجاج فالتقوا
يوم الأربعاء فلا زالوا يتقاتلون إلى يوم الجمعة [وَكَانَ عَلَى
سَرِيَّةِ الْحَجَّاجِ الْحَارِثُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الثَّقَفِيُّ فِي
أَلْفِ فَارِسٍ مَعَهُ، فَحَمَلَ شَبِيبٌ على الحارث ابن مُعَاوِيَةَ
فَكَسَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَ
النَّاسُ الْكُوفَةَ هَارِبِينَ، وَحَصَّنَ النَّاسُ السِّكَكَ
فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو الْوَرْدِ مَوْلَى الْحَجَّاجِ فِي طَائِفَةٍ
مِنَ الْجَيْشِ فَقَاتِلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ هَرَبَ أَصْحَابُهُ
وَدَخَلُوا الْكُوفَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ أَمِيرٌ آخَرُ
فَانْكَسَرَ أَيْضًا، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ
السَّوَادِ فَمَرُّوا بِعَامِلِ الْحَجَّاجِ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ
فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ خَطَبَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: اشْتَغَلْتُمْ
بِالدُّنْيَا عَنِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ رَمَى بِالْمَالِ فِي الْفُرَاتِ،
ثُمَّ سَارَ بِهِمْ حَتَّى افْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً وَلَا
يَبْرُزُ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْضُ
الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ عَلَى بَعْضِ الْمُدُنِ فَقَالَ لَهُ: يَا
شَبِيبُ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ- وَكَانَ صَدِيقَهُ-
فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ: إِنِّي لَا أَحِبُّ قَتْلَكَ، فَقَالَ لَهُ:
لَكِنِّي أُحِبُّ قَتْلَكَ فَلَا تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ وَمَا
تَقَدَّمَ مِنَ الْوَقَائِعِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ
شَبِيبٌ عَلَى رَأْسِهِ فَهَمَسَ رَأْسَهُ حَتَّى اخْتَلَطَ دِمَاغُهُ
بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، ثُمَّ كَفَّنَهُ وَدَفَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ
الْحَجَّاجَ أَنْفَقَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً عَلَى الْجُيُوشِ
وَالْعَسَاكِرِ فِي طَلَبِ شَبِيبٍ فَلَمْ يُطِيقُوهُ وَلَمْ
يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَوْتًا
قَدَرًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِمْ وَلَا صُنْعِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ]
[1]
ذِكْرُ مَقْتَلِ شَبِيبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِنْدَ ابْنِ
الْكَلْبِيِّ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى
البصرة- وهو الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
عَقِيلٍ وَهُوَ زَوْجُ ابْنَةِ الْحَجَّاجِ- يَأْمُرُهُ أَنْ يجهز جيشا
أربعة آلاف في طلب شبيب، ويكونون تبعا لسفيان بن الأبرد، ففعل وانطلقوا
في طلبه فالتقوا معه، وكان ابن الأبرد معه خلق من أهل الشام، فلما وصل
جيش البصرة إلى ابن الأبرد التقوا معه جيشا واحدا هم وأهل الشام، ثم
ساروا إلى شبيب فالتقوا به فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَصَبَرَ
كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، ثُمَّ عَزَمَ أَصْحَابُ
الْحَجَّاجِ فَحَمَلُوا عَلَى الخوارج حملة منكرة والخوارج قليلون
فَفَرُّوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ذَاهِبِينَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى
جِسْرٍ هُنَاكَ، فَوَقَفَ عِنْدَهُ شَبِيبٌ فِي مِائَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، وَعَجَزَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ عَنْ مقاومته، ورده
شبيب عن موقفه هذا بعد أن تقاتلوا نهارا طويلا كاملا عند أول الجسر أشد
قتال يكون، ثم أمر ابن الأبرد أصحابه فرشقوهم بالنبال رَشْقًا
وَاحِدًا، فَفَرَّتِ الْخَوَارِجُ ثُمَّ كَرَّتْ عَلَى الرماة فقتلوا
نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَبْرَدِ،
وَجَاءَ اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ فَكَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ
بَعْضٍ، وَبَاتَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُصِرًّا عَلَى مُنَاهَضَةِ
الْآخَرِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ عَبَرَ شبيب وأصحابه على الجسر،
__________
[1] سقط من المصرية
(9/19)
فبينما شبيب على متن الجسر راكبا عَلَى
حِصَانٍ لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ أُنْثَى إذ نزا حصانه عليها وهو
على الجسر فنزل حَافِرُ فَرَسِ شَبِيبٍ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ
فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا، ثُمَّ انْغَمَرَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ ارْتَفَعَ وهو يقول
(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 6: 96) فغرق. فلما تحققت
الخوارج سقوطه في الماء كبروا وانصرفوا ذاهبين متفرقين فِي الْبِلَادِ،
وَجَاءَ أَمِيرُ جَيْشِ الْحَجَّاجِ فَاسْتَخْرَجَ شَبِيبًا مِنَ
الْمَاءِ وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَشُقَّ صَدْرُهُ
فَاسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ فَإِذَا هُوَ مُجْتَمِعٌ صُلْبٌ كَأَنَّهُ
صَخْرَةٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهِ الأرض فيرتفع قَامَةَ
الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ قَدْ أَبْغَضُوهُ
لِمَا أَصَابَ مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَلَمَّا تَخَلَّفَ فِي السَّاقَةِ
اشْتَوَرُوا وَقَالُوا نَقْطَعُ الْجِسْرَ بِهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ
فَمَالَتِ السُّفُنُ بِالْجِسْرِ وَنَفَرَ فرسه فسقط في الماء فغرق،
ونادوا غَرِقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَرَفَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ
ذَلِكَ فَجَاءُوا فَاسْتَخْرَجُوهُ، وَلَمَّا نُعِيَ شَبِيبٌ إِلَى
أُمِّهِ قَالَتْ: صَدَّقْتُمْ إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ
وأنا حامل به أنه قد خرج منها شهاب من نار فعلمت أن النار لا يطفئها
إلا الماء، وأنه لَا يُطْفِئُهُ إِلَّا الْمَاءُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
جَارِيَةٌ اسمها جهبرة، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، وَكَانَتْ مِنْ أَشْجَعِ
النِّسَاءِ، تُقَاتِلُ مع ابنها في الحروب. وذكر ابْنُ خَلِّكَانَ
أَنَّهَا قُتِلَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وكذلك قتلت زوجته غزالة،
وكانت أيضا شديدة البأس تقاتل قتالا شديدا يعجز عنه الأبطال من الرجال،
وكان الحجاج يَخَافُ مِنْهَا أَشَدَّ خَوْفٍ حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخَاءُ تَنْفِرُ
مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إلى غزالة في الوغا ... بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي
جَنَاحَيْ طَائِرِ
قَالَ: وَقَدْ كَانَ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ قَيْسِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الصَّلْتِ بْنِ قيس بن شراحيل ابن صبرة بْنِ ذُهْلِ
بْنِ شَيْبَانَ الشَّيْبَانِيُّ، يَدَّعِي الْخِلَافَةَ وَيَتَسَمَّى
بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُ
بِمَا قَهَرَهُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ لَنَالَ الْخِلَافَةَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، وَلَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَهَرَهُ اللَّهُ
عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ لما أرسل إليه عبد الملك بعسكر الشام لقتاله،
وَلَمَّا أَلْقَاهُ جَوَادُهُ عَلَى الْجِسْرِ فِي نَهْرِ دُجَيْلٍ
قَالَ لَهُ رَجُلٌ:
أَغَرَقًا يَا أَمِيرَ المؤمنين؟ قال (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ 6: 96) قَالَ ثُمَّ أُخْرِجَ وَحُمِلَ إِلَى الْحَجَّاجِ
فَأَمَرَ فَنُزِعَ قَلْبُهُ مِنْ صَدْرِهِ فَإِذَا هُوَ مِثْلُ
الْحَجَرِ، وَكَانَ شَبِيبٌ رَجُلًا طَوِيلًا أَشْمَطَ جَعْدَا،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ سَنَةَ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ، وَقَدْ أُمْسِكَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُمِلَ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فَقَالَ له أنت الْقَائِلَ:
فَإِنْ يَكُ مِنْكُمْ كَانَ مَرْوَانُ وَابْنُهُ ... وَعَمْرٌو
وَمِنْكُمْ هَاشِمٌ وَحَبِيبُ
فَمِنَّا حُصَيْنٌ وَالْبَطِينُ وَقَعْنَبٌ ... وَمِنَّا أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ
فَقَالَ: إِنَّمَا قلت ومنا يا أمير المؤمنين شبيب. فأعجبه اعتذاره
وأطلقه والله سبحانه أعلم.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا بَيْنَ
الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، وَبَيْنَ
الْخَوَارِجِ مِنَ الْأَزَارِقَةِ وَأَمِيرِهِمْ قَطَرِيِّ بْنِ
الفجاءة، وكان قطري أَيْضًا مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ
الْمَذْكُورِينَ الْمَشْهُورِينَ
(9/20)
وَقَدْ تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ
وَنَفَرُوا فِي هَذِهِ السنة، وأما هو فلا يدرى أحد أين ذهب فإنه شرد
في الأرض وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَاتٌ وَمُجَاوَلَاتٌ
يَطُولُ بَسْطُهَا، وقد بالغ ابن جرير في ذكرها في تاريخه. قال ابن
جرير: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ الَّذِي
كَانَ نَائِبَ خُرَاسَانَ عَلَى نَائِبِهَا أُمَيَّةَ بن عبد الله ابن
خالد وَذَلِكَ أَنْ بُكَيْرًا اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَغَدَرَ
به وقتله، وقد جرت بينهما حروب طويلة قد استقصاها ابن جرير فِي
تَارِيخِهِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ شبيب بن يزيد كما
قدمنا، وقد كان من الشجاعة والفروسة على جانب كبير لم ير بَعْدَ
الصَّحَابَةِ مِثْلَهُ، وَمِثْلَ الْأَشْتَرِ وَابْنِهُ إِبْرَاهِيمَ
ومصعب بن الزبير وأخيه عبد الله ومن يُنَاطُ بِهَؤُلَاءِ فِي
الشَّجَاعَةِ مِثْلَ قَطَرِيِّ بْنِ الفجاءة من الأزارقة والله أعلم.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ
بن معديكرب الْكِنْدِيُّ، كَانَ كَبِيرًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ،
وَلَهُ بِالْمَدِينَةِ دَارٌ كَبِيرَةٌ بِالْمُصَلَّى، وَقِيلَ إِنَّهُ
كَانَ كَاتِبَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى الرَّسَائِلِ، تُوُفِّيَ
بِالشَّامِ.
مُحَمَّدُ بْنِ مُوسَى
بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَوَلَّاهُ سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا قِيلَ
لَهُ إِنَّ شَبِيبًا فِي طَرِيقِكَ وَقَدْ أَعْيَا النَّاسَ فَاعْدِلْ
إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ تَقْتُلَهُ فَيَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ
وَشُهْرَتُهُ لَكَ إِلَى الْأَبَدِ، فَلَمَّا سَارَ لَقِيَهُ شَبِيبٌ
فَاقْتَتَلَ مَعَهُ فَقَتَلَهُ شَبِيبٌ. وَقِيلَ غَيْرُ ذلك والله
أعلم.
عياض بن غنم الْأَشْعَرِيُّ
شَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَغَيْرِهِمْ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُطَرِّفُ بن عبد الله
وَقَدْ كَانُوا إِخْوَةً، عُرْوَةُ وَمُطَرِّفٌ وَحَمْزَةُ، وَقَدْ
كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَاسْتَعْمَلَهُمِ
الْحَجَّاجُ على أقاليم، فاستعمل عروة على الكوفة، ومطرف عَلَى
الْمَدَائِنِ، وَحَمْزَةَ عَلَى هَمْدَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة ثمان وسبعين
فَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ
الرُّومِ افتتحوا إِرْقِيلِيَّةَ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَصَابَهُمْ
مَطَرٌ عَظِيمٌ وَثَلْجٌ وَبَرَدٌ، فَأُصِيبَ بِسَبَبِهِ نَاسٌ
كَثِيرٌ. وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ
غَزْوَ بِلَادِ المغرب جميعه فسار إلى طنجة وقد جعل عَلَى
مُقَدِّمَتِهِ طَارِقًا فَقَتَلُوا مُلُوكَ تِلْكَ الْبِلَادِ،
وَبَعْضُهُمْ قَطَعُوا أَنْفَهُ وَنَفَوْهُ، وَفِيهَا عَزَلَ عَبْدُ
الْمَلِكِ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِمْرَةِ خراسان وأضافها
إلى الحجاج مَعَ سِجِسْتَانَ أَيْضًا، وَرَكِبَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ
فَرَاغِهِ من شأن شبيب من إمرة الكوفة إلى البصرة، واستخلف عَلَى
الْكَوْفَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ
الْحَضْرَمِيَّ، فَقَدِمَ الْمُهَلَّبُ عَلَى الْحَجَّاجِ وَهُوَ
بِالْبَصْرَةِ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ شَأْنِ الْأَزَارِقَةِ أَيْضًا،
فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَاسْتَدْعَى بِأَصْحَابِ
الْبَلَاءِ مِنْ جَيْشِهِ، فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ
أَجْزَلَ الْحَجَّاجُ لَهُ الْعَطِيَّةَ، ثُمَّ وَلَّى الْحَجَّاجُ
الْمُهَلَّبَ إمرة سجستان، وولى عبد اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ
إِمْرَةَ خُرَاسَانَ، ثُمَّ نَاقَلَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ خُرُوجِهِمَا
مِنْ عِنْدِهِ، فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمُهَلَّبِ،
وَقِيلَ إِنَّهُ اسْتَعَانَ بصاحب
(9/21)
الشُّرْطَةِ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عُبَيْدِ بْنِ طَارِقٍ الْعَبْشَمِيُّ، حَتَّى أَشَارَ عَلَى
الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ فأجابه إِلَى ذَلِكَ، وَأَلْزَمَ الْمُهَلَّبَ
بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، لأنه اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ
عُثْمَانَ، وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي كُلِّهَا الْحَجَّاجَ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ
الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ، وَنَائِبُهُ على سجستان عبد اللَّهِ
بْنَ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيَّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ
شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أنس بن مالك
الأنصاري.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
جَابِرُ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ
السُّلَمِيَّ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وله رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَأَرَادَ
أَنْ يَشْهَدَ بدرا فمنعه أبوه وخلفه على إخوانه وأخواته، وَكَانُوا
تِسْعَةً، وَقِيلَ إِنَّهُ ذَهَبَ بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ. تُوُفِّيَ
جَابِرٌ بِالْمَدِينَةِ وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سنة، وأسند
إليه ألف وخمسمائة وأربعين حديثا.
شريح بن الحارث
ابن قَيْسٍ أَبُو أُمَيَّةَ الْكِنْدِيُّ، وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ،
وَقَدْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ لِعُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ
بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَلِيٌّ،
ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ اسْتَقَلَّ فِي الْقَضَاءِ إِلَى
أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ رِزْقُهُ عَلَى الْقَضَاءِ
فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ،
وَكَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْقَضَاءِ يَقُولُ: سَيَعْلَمُ الظَّالِمُ
حَظَّ مَنْ نَقَصَ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ
قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ
الْهَوى 38: 26 الْآيَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ
يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ والمظلوم ينتظر النصر، وَقِيلَ إِنَّهُ مَكَثَ
قَاضِيًا نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ إِنَّهُ اسْتُعْفِيَ مِنَ
الْقَضَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَأَصْلُهُ
مِنْ أَوْلَادِ الْفَرَسِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ، وَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، توفى بالكوفة وعمره مائة وثمان سنين.
[وقد روى الطبراني قال: حدثنا على بن عبد العزيز ثنا عارم أبو النعمان
حدثنا حماد بن زيد عن شعيب ابن الحبحاب عن إبراهيم التيمي. قال: كان
شريح يقول: سيعلم الظالمون حق من نقصوا. إن الظالم ينتظر العقاب، وإن
المظلوم ينتظر النصر. ورواه الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ ابن عون عن إبراهيم به، وقال الأعمش: اشتكى شريح
رجله فطلاها بالعسل وجلس في الشمس فدخل عليه عواده فقالوا: كيف تجدك؟
فقال: صالحا. فقالوا: ألا أريتها الطبيب؟ قال: قد فعلت، قالوا:
فماذا قال لك؟ قال: وعد خيرا: وفي رواية أنه خرج بإبهامه قرحة فقالوا:
ألا أريتها الطبيب؟ قال:
هو الّذي أخرجها. وقال الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبى لبابة قال: كانت
فتنة ابن الزبير تسع سنين وكان شريح لا يختبر ولا يستخبر. ورواه ابن
ثوبان عن عبدة عن الشعبي عن شريح قال:
(9/22)
لما كانت الفتنة لم أسأل عنها. فقال رجل لو
كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح: فكيف بما في قلبي. وقد رواه شقيق
بن سلمة عن شريح قال: في الفتنة ما استخبرت ولا أخبرت ولا ظلمت مسلما
ولا معاهدا دينارا ولا درهما، فقال أبو وائل: لو كنت على حالك لأحببت
أن أكون قدمت، فأوى إلى قلبه فقال: كيف يهدأ، وفي رواية: كيف بما في
صدري تلتقي الفتيتان وإحداهما أحب إلى من الأخرى. وقال لقوم رآهم
يلعبون: ما لي أراكم تلعبون؟ قالوا: فرغنا! قال: ما بهذا أمر الفارغ.
وقال سوار بن عبد الله العنبري: حدثنا العلاء بن جرير العنبري حدثني
سالم أبو عبد الله أنه قال: شهدت شريحا وتقدم إليه رجل فقال: أين أنت؟
فقال: بينك وبين الحائط، فقال:
إني رجل من أهل الشام، فقال: بعيد سحيق، فقال: إني تزوجت امرأة، فقال:
بالرفاء والبنين، قال: إني اشترطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال:
اقض بيننا، قال: قد فعلت. وقال سفيان: قيل لشريح بأي شيء أصبت هذا
العلم؟ قال: بمعاوضة العلماء، آخذ منهم وأعطيهم. وروى عثمان بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محمد بن سالم عن إِبْرَاهِيمُ بْنُ
يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إسحاق عن هبيرة أنه سمع عليا يقول: يا
أيها الناس! يأتونى فقهاؤكم يسألونى وأسألهم، فلما كان من الغد غدونا
إليه حتى امتلأت الرحبة، فجعل يسألهم: ما كذا ما كذا، ويسألونه ما كذا
ما كذا فيخبرهم ويخبرونه حتى إذا ارتفع النهار تصدعوا غير شريح فإنه
جاث على ركبتيه لا يسأله عن شيء إلا أخبره به، قال: سمعت عليا يقول: قم
يا شريح فأنت أقضى العرب. وأتت شريحا امرأتان جدة صبي وأمه يختصمان فيه
كل واحدة تقول: أنا أحق به
أبا أميه أتيناك وأنت المستعان به ... أتاك جدة ابن وأم وكلتانا تفديه
[1]
فلو كنت تأيمت لما نازعتكى فيه ... تزوجت فهاتيه ولا يذهب بك القيه
ألا أيها القاضي فهذه قصتي فيه
قالت الأم: -
ألا أيها القاضي قد قالت لك الجدة ... قولا فاستمع منى ولا تطردني رده
تعزى النفس عن ابني ... وكبدي حملت كبده
فلما صار في حجري ... يتيما مفردا وخده
تزوجت رجاء الخير ... من يكفيني فقده
ومن يظهر لي الود ... ومن يحسن لي رفده
فقال شريح: -
__________
[1] هذه الأبيات طبق الأصل ولم نجد لها نظيرا.
(9/23)
قد سمع القاضي ما قلتما ثم قضى ... وعلى
القاضي جهد إن غفل
قال للجدة بيني بالصبي ... وخذي ابنك من ذات العلل
إنها لو صبرت كان لها ... قبل دعوى ما تبتغيه للبدل
فقضى به للجدة. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر بن عون عن إبراهيم عن شريح
أنه قضى على رجل باعترافه فقال: يا أبا أمية قضيت عليّ بغير بينة، فقال
شريح: أخبرنى ابن أخت خالتك. وقال على بن الجعد: أنبأنا المسعودي عن
أبى حصين قال: سئل شريح عن شاة تأكل الذباب فقال: علف مجان ولبن طيب.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عن أبى
حيان التيمي حدثنا أبى قال:
كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره، ولم يكن له
مشعب «شارع» إلا في جوف داره يفعل ذلك اتقاء أن تؤذى المسلمين- يعنى
أنه يلقى السنور في جوف داره لئلا تؤذى بنتن ريحها المسلمين-، وكانت
مياذيب أسطحة داره في جوف الدار لئلا يؤذى بها المارة من المسلمين.
وقال الرياشي: قال رجل لشريح: إن شأنك لشوين. فقال له شريح: أراك تعرف
نعمة الله على غيرك وتجهلها في نفسك. وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن
يحيى تغلب النحويّ حدثنا عبد الله بن شبيب قال حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زياد بن سمعان. قال: كتب شريح
إلى أخ له هرب من الطاعون: أما بعد فإنك والمكان الّذي أنت فيه والمكان
الّذي خرجت منه بعين من لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، والمكان
الّذي خلفته لم يعد امرا لكمامه ومن تظلمه أيامه، وإنك وإياهم لعلى
بساط واحد، وإن المنتجع من ذي قدرة لقريب.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا على بن مسهر عن
الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه: إذا جاءك الشيء من كتاب
الله فاقض به ولا يلفتنك عنه رجاء ما ليس في كتاب الله، وانظر فِي
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فاقض بها، فان
جاءك ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فانظر ما اجتمع عليه الناس
فخذ به، وفي رواية: فانظر فيما قضى به الصالحون، فان لم يكن فان شئت
فتقدم وإن شئت فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا، والسلام.
وقال شريح: كنت مع على في سوق الكوفة فانتهى إلى قاص يقص فوقف عليه
وقال: أيها القاص! تقص ونحن قريبو العهد؟ أما إني سائلك فان تجب فما
سألتك وإلا أدبتك، فقال القاص:
سل يا أمير المؤمنين عما شئت، فقال على: ما ثبات الايمان وزواله؟ قال
القاص: ثبات الايمان الورع وزواله الطمع. قال على: فذلك فقص. قيل إن
هذا القاص هو نوف البكالي. وقال رجل لشريح:
إنك لتذكر النعمة في غيرك وتنساها في نفسك، قال: إني والله لأحسدك على
ما أرى بك. قال:
ما نفعك الله بهذا ولا ضرني.
(9/24)
وروى جرير عن الشيباني عن الشعبي قال:
اشترى عمر فرسا من رجل على أن ينظر إليه، فأخذ الفرس فسار به فعطب،
فقال لصاحب الفرس: خذ فرسك، فقال: لا! قال: فاجعل بيني وبينك حكما، قال
الرجل نعم! شريح، قال عمر: ومن شريح؟ قال: شريح العراقي، قال: فانطلقا
إليه فقصا عليه القصة، فقال: يا أمير المؤمنين رد كما أخذت أو خذ بما
ابتعته، فقال عمر: وهل القضاء إلا هذا؟ سر إلى الكوفة فقد وليتك
قضاءها، فإنه لأول يوم عرفة يومئذ.
وقال هشام بن محمد الكلبي: حدثني رجل من ولد سعد بن وقاص قال: كان
لشريح ابن يدعو الكلاب ويهارش بين الكلاب، فدعا بدواة وقرطاس فكتب إلى
مؤدبه فقال: -
ترك الصلاة لأكلب يسعى بها ... طلب الهراش مع الغواة الرجّس
فإذا أتاك فعفه بملامة ... وعظه من عظة الأديب الأكيس
فإذا هممت بضربه فبدرة ... فإذا ضربت بها ثلاثا فاحبس
واعلم بأنك ما أتيت فنفسه ... مع ما تجرعني أعز الأنفس
وروى شريح عن عمر عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لها: «يا عائشة إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً 6: 159 إنهم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء
وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب الأهواء
والبدع، أنا منهم بريء وهم منى براء» . وهذا حديث ضعيف غريب رواه محمد
بن مصفى عن بقية عن شعبة- أو غيره- عن مجالد عن الشعبي، وإنما تفرد به
بقية بن الوليد من هذا الوجه وفيه علة أيضا. وروى محمد بن كعب القرظي
عن الحسن عن شريح عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنكم ستغربلون حتى تصيروا في
حثالة من الناس قد مزجت عهودهم وخربت أمانتهم، فقال قائل: فكيف بنا يا
رسول الله؟ فقال: تعملون بما تعرفون وتتركون ما تنكرون، وتقولون: أحد
أحد، انصرنا على من ظلمنا واكفنا من بغانا» . وروى الحسن بن سفيان عن
يحيى بن أيوب عن عبد الجبار بن وهب عن عبد الله السلمي عن شريح، قال:
حدثني البدريون منهم عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من شاب يدع لذة الدنيا
ولهوها ويستقبل بشبابه طاعة الله تعالى إلا أعطاه الله تعالى أجر اثنين
وسبعين صديقا، ثم قال: يقول الله تعالى: أيها الشاب التارك شهوته من
أجلى، المبتذل شبابه لي، أنت عندي كبعض ملائكتي» . وهذا حديث غريب.
وقال أبو داود: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو
عِمْرَانَ الجونى عن قيس بن زيد- وقال أبو داود أو عن زَيْدِ بْنِ
قَيْسٍ- عَنْ قَاضِي الْمِصْرَيْنِ شُرَيْحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إن الله تعالى يَدْعُو صَاحِبَ الدَّيْنِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا ابن آدَمَ فِيمَ أَضَعْتَ حُقُوقَ
(9/25)
النَّاسِ؟ فِيمَ أَذْهَبْتَ أَمْوَالَهُمْ؟
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لم أفسده ولكن أصبت إما غرقا وإما حرقا، فيقول
الله سبحانه أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ الْيَوْمَ، فَتَرْجَحُ
حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ» .
لفظ أبى داود ورواه يزيد بن هارون عن صدقة به وقال فيه: «فيدع الله
بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل» ورواه الطبراني من طريق أبى نعيم عن صدقة
به، ورواه الطبراني أيضا عن حفص بن عمر وأحمد ابن داود المكيّ قالا:
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا صدقة به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ
الْأَشْعَرِيُّ نَزِيلُ فِلَسْطِينَ وَقَدْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَقِيلَ إِنَّ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَدْ بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ لِيُفَقِّهَ أَهْلَهَا فِي الدِّينِ وكان
من العباد الصالحين.
جنادة بن أُمَيَّةَ الْأَزْدِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى غَزْوِ الْبَحْرِ
لِمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ وَالْخَيْرِ،
تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
الْعَلَاءُ بن زياد البصري
كان من العباد الصالحين مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ
الْخَوْفِ وَالْوَرَعِ، وَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي بَيْتِهِ وَلَا
يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، لَمْ يَزَلْ يَبْكِي
حَتَّى عَمِيَ، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ
فِي هذه السنة. قلت: إنما كان معظم بكاء العلاء بن زياد بعد تلك الرؤيا
التي رآها له رجل من أهل الشام أنه من أهل الجنة، فقال له العلاء: أما
أنت يا أخى فجزاك الله عن رؤياك لي خيرا، وأما أنا فقد تركتني رؤياك لا
أهدأ بليل ولا نهار، وكان بعدها يطوى الأيام لا يأكل فيها شيئا وبكى
حتى كاد يفارق الدنيا، ويصلى لا يفتر، حتى جاء أخوه إلى الحسن البصري
فقال: أدرك أخى فإنه قاتل نفسه، يصوم لا يفطر، ويقوم لا ينام، ويبكى
الليل والنهار لرؤيا رآها بعض الناس له أنه من أهل الجنة، فجاء الحسن
فطرق عليه بابه فلم يفتح، فقال له: افتح فانى أنا الحسن، فلما سمع صوت
الحسن فتح له، فقال له الحسن: يا أخى الجنة وما الجنة للمؤمن، إن
للمؤمن عند الله ما هو أفضل من الجنة، فقاتل أنت نفسك؟ فلم يزل به حتى
أكل وشرب وقصر عما كان فيه قليلا. وروى ابن أبى الدنيا عنه أنه أتاه آت
في مقامه فأخذ بناصيته وقال: يا غلام قم فاذكر الله يذكرك. فما زالت
تلك الشعرات التي أخذ بها قائمة حتى مات، وقد قيل: إنه كان يرفع له إلى
الله كل يوم من العملي الصالح بقدر أعمال خلق كثير من الناس كما رأى
ذلك بعض أصحابه في المنام. وقال العلاء: نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار
فان شاء الله أن يخرجنا منها أخرجنا. وقال: كان رجل يرائى بعمله فجعل
يشمر ثيابه ويرفع صوته إذا قرأ، فجعل لا يأتى على أحد إلا سبه، ثم رزقه
الله الإخلاص واليقين
(9/26)
فخفض من صوته وجعل صلاحه بينه وبين الله،
فجعل لا يأتى على أحد بعد ذلك إلا دعا له بخير] [1] .
سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْأَزْدِيُّ
كَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، هَجَا الْحَجَّاجَ فَنَفَاهُ إِلَى الشَّامِ
فَتُوُفِّيَ بِهَا
النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ
الشَّاعِرُ. السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ، تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ. سُفْيَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ. مُعَاوِيَةُ
بْنُ قُرَّةَ الْبَصْرِيُّ. زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ عَظِيمٌ بِالشَّامِ حَتَّى كَادُوا يَفْنُونَ
مَنْ شِدَّتِهُ، وَلَمْ يَغْزُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، وَوَصَلَتِ الرُّومُ فِيهَا
أَنْطَاكِيَّةَ فَأَصَابُوا خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا لِعِلْمِهِمْ
بِضَعْفِ الْجُنُودِ وَالْمُقَاتِلَةِ.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ مَلِكَ
التُّرْكِ حَتَّى أَوْغَلَ فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ
يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الملك
بن مروان الحارث بن سعيد المتنبي الْكَذَّابَ، وَيُقَالُ لَهُ
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ،
مَوْلَى أَبِي الْجُلَاسِ الْعَبْدَرِيِّ، وَيُقَالُ مَوْلَى الْحَكَمِ
بْنِ مَرْوَانَ، كَانَ أَصْلُهُ من الجولة فَنَزَلَ دِمَشْقَ
وَتَعَبَّدَ بِهَا وَتَنَسَّكَ وَتَزَهَّدَ ثُمَّ مكر به ورجع القهقرى
على عقبيه، وَانْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَارَقَ
حِزْبَ الله المفلحين، واتبع الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
وَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يزج فِي قَفَاهُ حَتَّى أَخْسَرَهُ دِينَهُ
وَدُنْيَاهُ، وَأَخْزَاهُ وأشقاه. فإنا للَّه وَحَسْبُنَا اللَّهِ
وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثنا عبد الوهاب نجدة الجولى
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُبَارَكٍ ثَنَا الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ. كَانَ الْحَارِثُ
الْكَذَّابُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، وَكَانَ مولى لأبى الجلاس، وكان له
أب بالجولة، فَعَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ، وَكَانَ رَجُلًا مُتَعَبِّدًا
زَاهِدًا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ
بالتحميد لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ مِثْلَ تَحْمِيدِهِ وَلَا
أَحْسَنَ من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة: يَا أَبَتَاهُ
أَعْجِلْ عَلَيَّ فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَشْيَاءَ أَتَخَوَّفُ أَنْ
يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَرَضَ لي، قال فزاده أبو غَيًّا عَلَى
غَيِّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ أَقْبِلْ عَلَى مَا
أُمِرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ
أَثِيمٍ 26: 221- 222 وَلَسْتَ بِأَفَّاكٍ وَلَا أَثِيمٍ، فَامْضِ
لِمَا أُمِرْتَ به، وكان يَجِيءُ إِلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ رَجُلًا
رَجُلًا فُيُذَاكِرُهُمْ أَمْرَهُ وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ
وَالْمِيثَاقَ إِنْ هُوَ يرى ما يرضى وَإِلَّا كَتَمَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَكَانَ يُرِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ، كَانَ يَأْتِي إِلَى
رُخَامَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْقُرُهَا بِيَدِهِ فَتُسَبِّحُ
تَسْبِيحًا بَلِيغًا حَتَّى يَضِجَّ مِنْ ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ.
قُلْتُ: وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ أبا العباس بن
تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ كَانَ يَنْقُرُ هَذِهِ
الرُّخَامَةَ الْحَمْرَاءَ الَّتِي فِي الْمَقْصُورَةِ فَتُسَبِّحُ،
وَكَانَ زنديقا. قال ابن أبى خيثمة في روايته
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالأستانة.
(9/27)
وَكَانَ الْحَارِثُ يُطْعِمُهُمْ فَاكِهَةَ
الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ،
وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: اخْرُجُوا حَتَّى أُرِيَكُمُ
الْمَلَائِكَةَ، فَيَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى دير المراق فيريهم رجالا
على خيل فيتبعه عَلَى ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا أَمَرُهُ فِي
الْمَسْجِدِ وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، حَتَّى وَصَلَ
الْأَمْرُ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ فَعَرَضَ
عَلَى القاسم أمره وأخذ عليه العهد إِنْ هُوَ رَضِيَ أَمْرًا
قَبِلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ كتم عَلَيْهِ، قَالَ فَقَالَ لَهُ:
إِنِّي نَبِيٌّ، فَقَالَ الْقَاسِمُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ
اللَّهِ، مَا أَنْتَ نَبِيٌّ، وَفِي رِوَايَةٍ وَلَكِنَّكَ أَحَدُ
الْكَذَّابِينَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ
السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ
كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نبي» وأنت أحدهم ولا عهد
لك. ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ- وَكَانَ عَلَى
الْقَضَاءِ بِدِمَشْقَ- فَأَعْلَمَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْحَارِثِ
فَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ نَعْرِفُهُ، ثُمَّ أَعْلَمَ أَبُو
إِدْرِيسَ عَبْدَ الْمَلِكِ بِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
أَنَّ مَكْحُولًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي زائدة دَخْلَا عَلَى
الْحَارِثِ فَدَعَاهُمَا إِلَى نُبُوَّتِهِ فَكَذَّبَاهُ وَرَدَّا
عَلَيْهِ مَا قَالَ، وَدَخَلَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
فَأَعْلَمَاهُ بِأَمْرِهِ، فَتَطَلَّبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ طَلَبًا
حثيثا، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت الْمَقْدِسِ يَدْعُو إِلَى
نَفْسِهِ سِرًّا وَاهْتَمَّ عَبْدُ الملك بشأنه حتى ركب إلى
النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية مِمَّنْ كَانَ
يَدْخُلُ عَلَى الْحَارِثِ وَهُوَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ
فَأَعْلَمَهُ بِأَمْرِهِ وَأَيْنَ هُوَ، وَسَأَلَ مِنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجُنْدِ
الْأَتْرَاكِ لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ طَائِفَةً
وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ الْقُدْسِ لِيَكُونَ فِي طَاعَةِ هَذَا
الرَّجُلِ وَيَفْعَلَ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ، فَلَمَّا وصل الرجل إلى
النصرية ببيت الْمَقْدِسِ بِمَنْ مَعَهُ انْتَدَبَ نَائِبَ
الْقُدْسِ لِخِدْمَتِهِ، فأمره أن يجتمع مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
مِنَ الشُّمُوعِ وَيَجْعَلُ مَعَ كل رجل شمعته فَإِذَا أَمَرَهُمْ
بِإِشْعَالِهَا فِي اللَّيْلِ أَشْعَلُوهَا كُلُّهُمْ فِي سَائِرِ
الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى أَمْرُهُ، وَذَهَبَ
الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ فَدَخَلَ الدَّارَ الَّتِي فيها الحارث فقال
لبوابه استأذن عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، فَقَالَ: فِي هَذِهِ
السَّاعَةِ لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، فأشعل
النَّاسُ شُمُوعَهُمْ حَتَّى صَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ
النَّهَارُ، وهم النصري عَلَى الْحَارِثِ فَاخْتَفَى مِنْهُ فِي
سِرْبٍ هُنَاكَ فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إِلَى نَبِيِّ
اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ رُفِعَ إِلَى السماء، قال فأدخل النصري
يَدَهُ فِي ذَلِكَ السِّرْبِ فَإِذَا بِثَوْبِهِ فَاجْتَرَّهُ
فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَرْغَانِيِّينَ مِنْ أَتْرَاكِ
الْخَلِيفَةِ قال فأخذوه فَقَيَّدُوهُ، فَيُقَالُ إِنَّ الْقُيُودَ
وَالْجَامِعَةَ سَقَطَتْ مِنْ عنقه مرارا ويعيدونها، وجعل يقول:
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي، وَإِنِ
اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
34: 50) وَقَالَ لِأُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله 40: 28) ؟ فَقَالُوا لَهُ بِلِسَانِهِمْ
وَلُغَتِهِمْ: هَذَا كُرَانُنَا فَهَاتِ كُرَانَكَ، أَيْ هَذَا
قُرْآنُنَا فَهَاتِ قُرْآنَكَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ بِصَلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ وَأَمَرَ
رَجُلًا فَطَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ فَانْثَنَتْ فِي ضِلْعٍ مِنْ
أَضْلَاعِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيْحَكَ أَذَكَرْتَ
اسْمَ اللَّهِ حِينَ طَعَنْتَهُ؟ فَقَالَ: نَسِيتُ، فَقَالَ:
وَيْحَكَ سَمِّ اللَّهَ ثُمَّ اطْعَنْهُ، قَالَ فَذَكَرَ اسْمَ
اللَّهِ ثُمَّ طَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ حَبَسَهُ قَبْلَ صلبه وأمر رجالا
(9/28)
من أهل الفقه والعلم أَنْ يَعِظُوهُ
وَيُعْلِمُوهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ،
فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ فَصَلَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا
مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ.
وقد قال الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ فَحَدَّثَنِي
من سمع الْأَعْوَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ زِيَادٍ
الْعَدَوِيَّ. يَقُولُ: مَا غَبَطْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بِشَيْءٍ
مِنْ ولايته إلا بقتله حارثا حيث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ
أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَمَنْ قَالَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَمَنْ قَتَلَ
مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَهُ الْجَنَّةُ» . وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ: بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا أَمَرْتُكَ
بِقَتْلِهِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِهِ
الْمَذْهَبُ فَلَوْ جَوَّعَتَهُ لَذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَالَ
الْوَلِيدُ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ نَافِعٍ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ
الجلاخ يقول لغيلان: ويحك يا غيلان، ألم تأخذك فِي شَبِيبَتِكَ
تُرَامِي النِّسَاءَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بالتفاح، ثم صرت حارثيا
تحجب امرأته وتزعم أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ
تَحَوَّلْتَ فَصِرْتَ قَدَرِيًّا زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ
مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ فِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ يُصَانِعُ
الْمُسْلِمِينَ تَارَةً وَيَتَمَرَّدُ أُخْرَى، فَكَتَبَ الحجاج
إلى ابن أبى بكرة تأخذه بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى
تَسْتَبِيحَ أَرْضَهُ وَتَهْدِمَ قِلَاعَهُ وَتَقْتُلَ
مُقَاتِلَتَهُ، فَخَرَجَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ
بِلَادِهِ وَخَلْقٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ثُمَّ
الْتَقَى مَعَ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ فَكَسَرَهُ وَهَدَمَ
أَرْكَانَهُ بِسَطْوَةٍ بِتَّارَةٍ، وَجَاسَ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ
وَجُنْدُهُ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
أَقَالِيمِهِ وَمُدُنِهِ وَأَمْصَارِهِ، وَتَبَّرَ مَا هُنَالِكَ
تَتْبِيرًا، ثُمَّ إِنَّ رُتْبِيلَ تَقَهْقَرَ منه وَمَا زَالَ
يَتْبَعُهُ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْ مَدِينَتِهِ الْعُظْمَى، حَتَّى
كَانُوا مِنْهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَخَافَتِ
الْأَتْرَاكُ مِنْهُمْ خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ التُّرْكَ
أَخَذَتْ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ وَالشِّعَابَ وَضَيَّقُوا
عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ حَتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ هَالِكٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ عُبَيْدُ
اللَّهِ أَنْ يُصَالِحَ رُتْبِيلَ عَلَى أَنْ يأخذ منه سبعمائة
ألف، ويفتحوا للمسلمين طريقا يخرجون عنه وَيَرْجِعُونَ عَنْهُمْ
إِلَى بِلَادِهِمْ، فَانْتَدَبَ شُرَيْحَ بْنَ هانئ- وَكَانَ
صَحَابِيًّا، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ عَلَيٍّ وَهُوَ
الْمُقَدَّمُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ- فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى
الْقِتَالِ وَالْمُصَابَرَةِ وَالنِّزَالِ وَالْجِلَادِ
بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالنِّبَالِ، فَنَهَاهُ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَأَجَابَهُ
شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَهْلِ
الْحَفَائِظِ، فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ بِهِمِ الترك حتى فنى أكثر
المسلمين رضى الله عنهم، قَالُوا وَجَعَلَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ
يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
أَصْبَحْتُ ذَا بَثٍّ أُقَاسِيَ الْكِبَرَا ... قَدْ عِشْتُ بين
المشركين أعصرا
ثم أَدْرَكْتُ النَّبِيَّ الْمُنْذِرَا ... وَبَعْدَهُ صِدِّيقَهُ
وَعُمَرَا
وَيَوْمَ مِهْرَانَ وَيَوْمَ تُسْتَرَا ... وَالْجَمْعَ فِي
صِفِّينِهِمْ وَالنَّهَرَا
هَيْهَاتَ مَا أَطْوَلَ هَذَا عُمُرَا
(9/29)
ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ
خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ صُحْبَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرَةَ مِنْ أَرْضِ رُتْبِيلَ، وَهُمْ قليل، وبلغ ذلك
الحجاج فأخذ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْثِ جَيْشٍ
كَثِيفٍ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُ بِسَبَبِ
مَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ، فَحِينَ وَصَلَ
الْبَرِيدُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ
بالموافقة على ذَلِكَ، وَأَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ سَرِيعًا، فَحِينَ
وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ أَخَذَ فِي جَمْعِ
الْجُيُوشِ فَجَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا لِذَلِكَ عَلَى مَا
سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا.
وَقِيلَ إِنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ
هَانِئٍ ثَلَاثُونَ أَلْفًا وَابْتِيعَ الرَّغِيفُ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ بِدِينَارٍ وَقَاسَوْا شَدَائِدَ، وَمَاتَ بِسَبَبِ
الْجُوعِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَإِنَّا للَّه
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ
التُّرْكِ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا قَتَلُوا أَضْعَافَهَمْ
وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْفَى شُرَيْحٌ مِنَ
الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ الْحَجَّاجُ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى
مَكَانَهُ أَبَا بُرْدَةَ ابن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ شُرَيْحٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
أَهْلِ السِّيَرِ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أبان
بن عثمان أمير المدينة النبويّة، وفيها قُتِلَ قَطَرِيُّ بْنُ
الْفُجَاءَةِ التَّمِيمِيُّ أَبُو نَعَامَةَ الْخَارِجِيُّ،
وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشَاهِيرِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ
مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ
بِالْخِلَافَةِ، وَقَدْ جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ وَحُرُوبٌ مَعَ جَيْشِ
الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ
وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا فِي
أَمَاكِنِهِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي زَمَنِ مُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ وَأَقَالِيمَ
وَغَيْرِهَا، وَوَقَائِعُهُ مَشْهُورَةٌ وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ
الْحَجَّاجُ جُيُوشًا كبيرة فَهَزَمَهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ بَرَزَ
إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ الْحَرُورِيَّةِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ
أَعْجَفَ وَبِيَدِهِ عَمُودُ حَدِيدٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ
كَشَفَ قَطَرِيٌّ عَنْ وَجْهِهِ فَوَلَّى الرَّجُلُ هَارِبًا
فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ إِلَى أَيْنَ؟ أَمَا تَسْتَحِي أَنْ
تَفِرَّ وَلَمْ تَرَ طَعْنًا وَلَا ضَرْبًا؟ فَقَالَ إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَفِرَّ مِنْ مِثْلِكَ، ثُمَّ
إِنَّهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ
الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فِي جَيْشٍ فَاقْتَتَلُوا
بِطَبَرِسْتَانَ، فَعَثَرَ بِقَطَرِيٍّ فَرَسُهُ فَوَقَعَ إِلَى
الْأَرْضِ فَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَحَمَلُوا رَأْسَهُ
إِلَى الْحَجَّاجِ، وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ سَوْدَةُ بْنُ
الْحُرِّ الدَّارِمِيُّ، وَكَانَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ مَعَ
شَجَاعَتِهِ الْمُفَرِطَةِ وَإِقْدَامِهِ مِنْ خُطَبَاءَ الْعَرَبِ
الْمَشْهُورِينَ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَجَوْدَةِ
الْكَلَامِ وَالشِّعْرِ الْحَسَنِ، فَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ يُشَجِّعُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَمَنْ سَمِعَهَا
انْتَفَعَ بِهَا:
أَقُولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَعَاعًا ... مِنَ الْأَبْطَالِ
وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
فَإِنَّكِ لَوْ طلبت بَقَاءَ يَوْمٍ ... عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي
لَكَ لِمَ تُطَاعِي
فَصَبْرًا فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْرًا ... فَمَا نيل الخلود
بمستطاعى
وَلَا ثَوْبُ الْحَيَاةِ بِثَوْبِ عِزٍّ ... فَيُطْوَى عَنْ أخى
الخنع اليراعى
(9/30)
سَبِيلُ الْمَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيٍّ ...
وَدَاعِيهِ لِأَهْلِ الأرض داع
فمن لَا يَغْتَبِطْ يَسْأَمْ وَيَهْرَمْ ... وَتُسْلِمْهُ
الْمَنُونُ إِلَى انقطاعي
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ ... إِذَا مَا عد من سقط
المتاعى
ذكرها صاحب الحماسة واستحسنها ابن خلكان كَثِيرًا وَفِيهَا
تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَهُوَ أَمِيرُ الْجَيْشِ الَّذِي دَخَلَ بِلَادَ التُّرْكِ
وَقَاتَلُوا رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ
جَيْشِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ كَمَا
تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَقَدْ دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرَةَ عَلَى الْحَجَّاجِ مَرَّةً وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ فَقَالَ
لَهُ الحجاج: وكم خَتَمْتَ بِخَاتَمِكَ هَذَا؟
قَالَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، قَالَ فَفِيمَ
أَنْفَقْتَهَا؟ قَالَ: فِي اصطناع المعروف، ورد الملهوف والمكافأة
بالصناع وَتَزْوِيجِ الْعَقَائِلِ. وَقِيلَ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ
عَطَشَ يَوْمًا فَأَخْرَجَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كُوزَ مَاءٍ بَارِدٍ
فَأَعْطَاهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ إِنَّهُ أُهْدِيَ
إِلَيْهِ وَصَيْفٌ وَوَصِيفَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ
فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ خُذْهُمَا لَكَ، ثُمَّ فَكَّرَ
وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ إِيثَارَ بَعْضِ الْجُلَسَاءِ عَلَى
بَعْضٍ لَشُحٌّ قَبِيحٌ وَدَنَاءَةٌ رَدِيئَةٌ، ثُمَّ قَالَ يَا
غُلَامُ ادْفَعْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُلَسَائِي وَصَيْفًا
وَوَصِيفَةً، فَأُحْصِيَ ذَلِكَ فَكَانُوا ثَمَانِينَ وَصَيْفًا
وَوَصِيفَةً.
تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ ببست وقيل بذرخ
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحلم، والحمد للَّه رب العالمين
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
ففيها كان السيل الحجاف بمكة لأنه حجف على كل شيء فذهب به، وحمل
الحجاج من بطن مكة الجمال بِمَا عَلَيْهَا، وَالرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِنْهُ،
وَبَلَغَ الْمَاءُ إِلَى الْحَجُونِ، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَقِيلَ إِنَّهُ ارْتَفَعَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُغَطِّيَ الْبَيْتَ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ
بالبصرة في هذه السنة الطاعون، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي
سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهَا قَطَعَ
الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صفرة نهر، وَأَقَامَ بِكَشَّ سَنَتَيْنِ
صَابِرًا مُصَابِرًا لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَجَرَتْ
لَهُ مَعَهُمْ هُنَاكَ فُصُولٌ يُطُولُ ذكرها، وفد عليه في غضون
هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَلْعِهِ
الْحَجَّاجَ، فَبَعَثَهُ الْمُهَلَّبُ بِرُمَّتِهِ إِلَى
الْحَجَّاجِ حَتَّى قَرَأَهُ ثُمَّ كَانَ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ حُرُوبِ ابْنِ الْأَشْعَثِ،
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْحَجَّاجُ الْجُيُوشَ مِنَ
الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وغيرهما لقتال رتبيل ملك الترك ليقضوا
مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ جَيْشِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرَةَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَجَهَّزَ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمِصْرَيْنِ عِشْرِينَ أَلْفًا،
وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن محمد ابن
الْأَشْعَثِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ جِدًّا،
حتى قال مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إِلَّا هَمَمْتُ بِقَتْلِهِ،
وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا عَلَى الْحَجَّاجِ وَعِنْدَهُ
عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ انْظُرْ إِلَى مِشْيَتِهِ وَاللَّهِ
لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَأَسَرَّهَا
الشَّعْبِيُّ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ:
وَأَنَا وَاللَّهِ لأجهدت أَنْ أُزِيلَهُ عَنْ
(9/31)
سُلْطَانِهِ إِنْ طَالَ بِي وَبِهِ
الْبَقَاءُ. وَالْمَقْصُودُ أن الحجاج أخذ في استعراض هذه الجنود
وَبَذَلِ فِيهِمُ الْعَطَاءَ ثُمَّ اخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِيمَنْ
يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَدَّمَهُ
عَلَيْهِمْ، فَأَتَى عَمُّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْأَشْعَثِ
فَقَالَ لِلْحَجَّاجِ: إني أخاف أن تؤمره فلا ترى لك طاعة إذا جاوز
جسر الصراة، فقال: ليس هو هنالك هو لي حبيب، ومتى أَرْهَبُ أَنْ
يُخَالِفَ أَمْرِي أَوْ يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِي، فَأَمْضَاهُ
عَلَيْهِمْ، فَسَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُيُوشِ نَحْوَ أَرْضِ
رُتْبِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ رُتْبِيلَ مَجِيءُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
بِالْجُنُودِ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ رُتْبِيلَ يَعْتَذِرُ
مِمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ فِي السنة الماضية،
وأنه كان لذلك كارها، وأن المسلمين هم الذين أَلْجَئُوهُ إِلَى
قِتَالِهِمْ، وَسَأَلَ مِنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنْ يُصَالِحَهُ
وَأَنْ يَبْذُلَ لِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يُجِبْهُ
ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ، وَصَمَّمَ عَلَى دُخُولِ
بِلَادِهِ، وَجَمَعَ رُتْبِيلُ جُنُودَهُ وَتَهَيَّأَ لَهُ
وَلِحَرْبِهِ، وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ كَلَّمَا دَخَلَ بَلَدًا
أَوْ مَدِينَةً أَوْ أَخَذَ قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ رتبيل استعمل
عليها نائبا من جهته يحفظها له، وجعل المشايخ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ
وَمَكَانٍ مَخُوفٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ وَمُدُنٍ
كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً
جَزِيلَةً، وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرَةً، ثُمَّ حَبَسَ النَّاسَ عَنِ
التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ حَتَّى يُصْلِحُوا مَا
بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَتَقَوَّوْا بما فيها من
المغلات والحواصل، ثم يتقدمون فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ إِلَى
أَعْدَائِهِمْ فَلَا يَزَالُونَ يجوزون الأراضي والأقاليم حتى
يحاصروا رتبيل وجنوده فِي مَدِينَتِهِمْ مَدِينَةِ الْعُظَمَاءِ
عَلَى الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَّارِي حَتَّى
يَغْنَمُوهَا ثُمَّ يَقْتُلُونَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَى
ذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ، وَكَتَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ
إِلَى الْحَجَّاجِ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ وَمَا
صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ الَّذِي رَآهُ لَهُمْ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ وَجَّهَ هِمْيَانَ بْنَ
عَدِيٍّ السَّدُوسِيَّ إلى كرما مسلحا لِأَهْلِهَا لِيَمُدَّ
عَامِلَ سِجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ إِنِ احْتَاجَا إلى ذلك، فعصى
هميان ومن معه على الحجاج، فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ ابْنَ
الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهُ وَأَقَامَ ابن الأشعث بِمَنْ مَعَهُ،
وَمَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فَكَتَبَ
الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِإِمْرَةِ سِجِسْتَانَ
مَكَانَ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَجَهَّزَ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ
جَيْشًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ سِوَى أُعْطِيَاتِهِمْ،
وَكَانَ يُدْعَى هَذَا الْجَيْشُ جَيْشَ الطَّوَاوِيسِ، وَأَمَرَهُ
بِالْإِقْدَامِ عَلَى رُتْبِيلَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُ مَا
تَقَدَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا:
بَلْ حَجَّ بِهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ
عَلَى الصَّائِفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وعلى المدينة أبان ابن عُثْمَانَ، وَعَلَى الْمَشْرِقِ
بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو
بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى
بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَهُوَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ أَصْلُهُ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ
النمر اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ لَمَّا حَجَّ سَنَةَ إِحْدَى
عشرة،
(9/32)
وَتُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى
عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا وَلَهُ مَنَاقِبُ
كَثِيرَةٌ رَحِمَهُ الله.
جبير بن نفير
ابن مَالِكٍ الْحَضْرَمِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَكَانَ
مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْعِبَادَةِ
وَالْعِلْمِ تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ
سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ وَقِيلَ أَقَلُّ.
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ،
وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَفَاةً، سَكَنَ الْمَدِينَةَ،
وَلَمَّا اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ جَعْفَرٌ بِمُؤْتَةَ «أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِمْ
فَقَالَ: ائْتُونِي بِبَنِي أَخِي، فَأُتِيَ بِهِمْ كَأَنَّهُمْ
أَفْرُخٌ، فَدَعَا بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ ثُمَّ
قَالَ: اللَّهمّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ وَبَارِكْ
لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَتِهِ، فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ فَذَكَرَتْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ
لَهُمْ شَيْءٌ، فَقَالَ أَنَا لَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَبِيهِمْ»
وَقَدْ بَايَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
وَعُمْرُهُمَا سَبْعُ سِنِينَ، وَهَذَا لَمْ يَتَّفِقْ
لِغَيْرِهِمَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن جعفر بن أَسْخَى
النَّاسِ، يُعْطِي الْجَزِيلَ الْكَثِيرَ وَيَسْتَقِلُّهُ، وَقَدْ
تَصَدَّقَ مَرَّةً بِأَلْفَيْ أَلْفٍ، وَأَعْطَى مَرَّةً رَجُلًا
سِتِّينَ أَلْفًا، وَمَرَّةً أَعْطَى رَجُلًا أَرْبَعَةَ آلَافِ
دِينَارٍ، وَقِيلَ إِنَّ رَجُلًا جَلَبَ مَرَّةً سُكَّرًا إِلَى
الْمَدِينَةِ فَكَسَدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ فَأَمَرَ
ابْنُ جَعْفَرٍ قَيِّمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَأَنْ يهديه
لِلنَّاسِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ وَنَزَلَ فِي دَارِ
مَرْوَانَ قَالَ يَوْمًا لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ هَلْ تَرَى
بِالْبَابِ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ أَوِ ابْنَ جَعْفَرٍ أَوْ
فُلَانًا- وَعَدَّ جَمَاعَةً- فَخَرَجَ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا،
فَقِيلَ لَهُ: هُمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ يَتَغَدَّوْنَ، فَأَتَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ
فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا كَأَحَدِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ عَصًا
فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا ثُمَّ أَتَى بَابَ ابْنِ جَعْفَرٍ
فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ وَدَخَلَ فَأَجْلَسَهُ فِي صَدْرِ
فِرَاشِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ غَدَاؤُكَ يَا ابْنَ
جَعْفَرٍ؟
فَقَالَ: وَمَا تَشْتَهِي من شيء فأدعو بِهِ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
أَطْعِمْنَا مُخًّا، فَقَالَ يَا غلام هات مخا، فأتى بصحيفة
فَأَكَلَ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ لِغُلَامِهِ:
هات مخا، فجاء بصحيفة أُخْرَى مَلْآنَةً مُخًّا إِلَى أَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَتَعَجَّبَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: يَا
ابْنَ جعفر ما يشبعك إِلَّا الْكَثِيرُ مِنَ الْعَطَاءِ، فَلَمَّا
خَرَجَ مُعَاوِيَةُ أَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَكَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ صَدِيقًا لِمُعَاوِيَةَ وَكَانَ يَفِدُ
عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ فَيُعْطِيهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَيَقْضِي لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ. وَلَمَّا حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ
الْوَفَاةُ أَوْصَى ابنه يزيد، فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ جَعْفَرٍ
عَلَى يَزِيدَ قَالَ لَهُ: كَمْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
يُعْطِيكَ كُلَّ سَنَةٍ؟ قَالَ أَلْفَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ
أَضَعَفْنَاهَا لَكَ، وَكَانَ يُعْطِيهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ كُلَّ
سنة، فقال له عبد الملك بْنُ جَعْفَرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي
مَا قُلْتُهَا لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَقُولُهَا لِأَحَدٍ
بَعْدَكَ، فَقَالَ يَزِيدُ: وَلَا أَعْطَاكَهَا أَحَدٌ قَبْلِي
وَلَا يُعْطِيكَهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يُعْطِيكَهَا أَحَدٌ
بَعْدِي، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ ابْنِ جَعْفَرٍ جَارِيَةٌ
تُغَنِّيهِ تُسَمَّى عِمَارَةَ، وَكَانَ يُحِبُّهَا مَحَبَّةً
عَظِيمَةً، فَحَضَرَ عنده يزيد
(9/33)
ابن مُعَاوِيَةَ يَوْمًا فَغَنَّتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا
سَمِعَهَا يَزِيدُ افْتُتِنَ بِهَا وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى ابْنِ
جَعْفَرٍ أن يطلبها منه، فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِ يَزِيدَ مِنْهَا
حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ مُعَاوِيَةُ، فَبَعَثَ يَزِيدُ رَجُلًا مِنْ
أهل العراق وأمره أن يتطلع فِي أَمْرِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ،
فَقَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ جِوَارَ ابْنِ جَعْفَرٍ
وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَتُحَفًا كَثِيرَةً، وَأَنِسَ بِهِ،
وَلَا زَالَ حَتَّى أخذ الجارية وأتى يزيد. وكان الحسن البصري يذم
ابن جعفر على سماعه الغنى وَاللَّهْوِ وَشِرَائِهِ
الْمُوَلَّدَاتِ، وَيَقُولُ: أَمَا يَكْفِيهِ هَذَا الأمر القبيح
المتلبس بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا؟ حَتَّى
زَوَّجَ الْحَجَّاجَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: إِنَّمَا
تَزَوَّجْتُهَا لِأَذِلَّ بِهَا آلَ أَبِي طَالِبٍ، وَقِيلَ
إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ
إِلَيْهِ أن يطلقها فطلقها. أسند عبد الله ابن جَعْفَرٍ ثَلَاثَةَ
عَشَرَ حَدِيثًا.
أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ
اسْمُهُ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَهُ أَحْوَالٌ
وَمَنَاقِبُ، كَانَ يَقُولُ: قَلْبٌ نَقِيٌّ فِي ثِيَابٍ دَنِسَةٍ
خَيْرٌ مِنْ قَلْبٍ دَنِسٍ فِي ثِيَابٍ نَقِيَّةٍ، وَقَدْ تَوَلَّى
الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي
كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ.
مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الْقَدَرِيُّ
يُقَالُ إِنَّهُ مَعْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عليم، رَاوِي
حَدِيثِ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا
عَصَبٍ» .
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
وَغَيْرِهِمْ.
وَشَهِدَ يَوْمَ التَّحْكِيمِ، وَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فِي ذَلِكَ
وَوَصَّاهُ ثُمَّ اجْتَمَعَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَوَصَّاهُ
فِي ذلك فقال له:
أيها يا تيس جهنة ما أنت من أهل السر والعلانية، وَإِنَّهُ لَا
يَنْفَعُكَ الْحَقُّ وَلَا يَضُرُّكُ الْبَاطِلُ. وَهَذَا
تَوَسُّمٌ فِيهِ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلِهَذَا كَانَ هُوَ
أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَخَذَ
ذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
يُقَالُ لَهُ سوس، وَأَخَذَ غَيْلَانُ الْقَدَرَ مِنْ مَعْبَدٍ،
وَقَدْ كَانَتْ لِمَعْبَدٍ عِبَادَةٌ وَفِيهِ زَهَادَةٌ،
وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِهِ، وَقَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِيَّاكُمْ وَمَعْبَدًا فَإِنَّهُ ضَالٌّ
مُضِلٌّ، وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ
فَعَاقَبَهُ الْحَجَّاجُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً بِأَنْوَاعِ
الْعَذَابِ ثُمَّ قَتَلَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ: بَلْ صَلَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَرْوَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ بِدِمَشْقَ ثُمَّ قَتَلَهُ،
وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: مَاتَ قَبْلَ التِّسْعِينَ
فاللَّه أعلم، وقيل إن الأقرب قتل عبد الملك له وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
|