البداية والنهاية، ط. دار الفكر

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وثمانين
فَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ نَائِبُ الْحَجَّاجِ عَلَى مَرْوٍ وَخُرَاسَانَ، بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَرْضِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ وَتَسَلَّمَ قِلَاعًا وَحُصُونًا وَمَمَالِكَ، ثُمَّ قَفَلَ فَسَبَقَ الْجَيْشَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ قَاصِدًا بِلَادَ الْعَدُوِّ فَكُنْ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَإِذَا قَفَلْتَ رَاجِعًا فَكُنْ فِي سَاقَةِ الْجَيْشَ- يَعْنِي لِتَكُونَ رَدْءًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَغَيْرِهِمْ بِكَيْدٍ- وَهَذَا رَأْيٌ حَسَنٌ وَعَلَيْهِ جَاءَتِ السنة، وكان في السَّبْيِ امْرَأَةُ بَرْمَكَ- وَالِدِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ- فَأَعْطَاهَا قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ قُتَيْبَةَ مَنَّ عَلَى السَّبْيِ وَرُدَّتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَهِيَ حُبْلَى مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ وَلَدُهَا عِنْدَهُمْ حَتَّى أَسْلَمُوا فَقَدِمُوا بِهِ مَعَهُمْ أَيَّامَ بَنِي الْعَبَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا رَجَعَ قُتَيْبَةُ إِلَى خُرَاسَانَ تَلْقَاهُ دَهَاقِينُ بُلْغَارَ بهدايا عظمة، ومفتاح من ذهب.
وَفِيهَا كَانَ طَاعُونٌ بِالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ وَيُسَمَّى طَاعُونَ الْفَتَيَاتِ، لِأَنَّهُ أَوَّلَ مَا بَدَأَ بِالنِّسَاءِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ. وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ وَافْتَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، وَفِيهَا عَقْدَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مِصْرَ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَدَخَلَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الروم الأخرم لورى لَا رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا حَبَسَ الْحَجَّاجُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هِشَامُ بْنُ إسماعيل المخزومي. وفي هذه السنة توفى أبو أمامة الْبَاهِلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ فِي قَوْلٍ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا وَهُوَ آخِرُ من مات من الصحابة بمصر.
[وممن توفى في هذه السنة]
وفيها في شَوَّالِهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ
وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بن مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،

(9/61)


وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ. سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عفان، وشهد الدار مع أبيه وهو ابن عَشْرُ سِنِينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَارَ بِالنَّاسِ فِي بِلَادِ الرُّومِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ يُجَالِسُ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ وَالصُّلَحَاءَ وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَبَرِيرَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ. وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وَرَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ وَجَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ. ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ القاسم وكان يكنى بأبي القاسم، ثم غَيَّرَ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ بِعَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَحْمَدَ وَالِدُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَرُوضِيُّ. وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَقِيَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بَاقِي الْبِلَادِ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْخِلَافَةِ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ وَمَوْلِدُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْفُقَهَاءِ الْمُلَازِمِينَ لِلْمَسْجِدِ التَّالِينَ لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ. وَكَانَتْ أَسْنَانُهُ مُشَبَّكَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ أَفْوَهَ مَفْتُوحَ الْفَمِ، فَرُبَّمَا غَفَلَ فَيَنْفَتِحُ فَمُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّبَابُ، وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ له أبو الذباب. وَكَانَ أَبْيَضَ رَبْعَةً لَيْسَ بِالنَّحِيفِ وَلَا الْبَادِنِ، مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ أَشْهَلَ كَبِيرَ الْعَيْنَيْنِ دَقِيقَ الْأَنْفِ مُشْرِقَ الْوَجْهِ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ حَسَنَ الْوَجْهِ لم يخضب، ويقال إنه خضب بعد. وَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا شَابٌّ أَشَدَّ تَشْمِيرًا وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك ابن مَرْوَانَ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: كَانَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةً سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وقبيصة ابن ذُؤَيْبٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِمَارَةِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدَ النَّاسُ أَبْنَاءً وَوَلَدَ مَرْوَانُ أَبًا- يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ- وَرَآهُ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كُنْتُ أجالس بريدة بن الحصيب فقال لي يوما:
يَا عَبْدَ الْمَلِكِ إِنَّ فِيكَ خِصَالًا، وَإِنَّكَ لِجَدِيرٌ أَنْ تَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاحْذَرِ الدِّمَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ باب الجنة بعد أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا عَلَى مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ يُرِيقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ الزبيري عن مالك عن يحيى بن سعيد بن داود الزبيري قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَفِتْيَانٌ مَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ. وَقَالَ الشعبي:

(9/62)


مَا جَالَسْتُ أَحَدًا إِلَّا وَجَدْتُ لِي الْفَضْلَ عَلَيْهِ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فَإِنِّي ما ذاكرته حديثا إلا زادني منه، وَلَا شِعْرًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ. وَذَكَرَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ أَنِ ابْعَثِ ابْنَكَ عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى بَعْثِ الْمَدِينَةِ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ، فَذَكَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ وَغِنَائِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَجْلَى بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ هُنَالِكَ، فَقَدِمَ مَعَ أَبِيهِ الشَّامَ، ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الْإِمَارَةُ مَعَ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ أَقَامَ فِي الْإِمَارَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمَّا سُلِّمَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَانَ فِي حِجْرِهِ مُصْحَفٌ فَأَطْبَقَهُ وَقَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: صُنِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ مَجْلِسٌ تُوُسِّعَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ بُنِيَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَدَخَلَهُ وقال: لقد كان حثمة الأحوازى- يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- يَرَى أَنَّ هَذَا عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمُصْحَفَ مِنْ حِجْرِهِ قَالَ. هَذَا آخَرُ الْعَهْدِ مِنْكَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَهُ إِقْدَامٌ عَلَى سَفْكِ الدماء، وَكَانَ حَازِمًا فَهِمًا فَطِنًا سَائِسًا لِأُمُورِ الدُّنْيَا، لَا يَكِلُ أَمْرَ دُنْيَاهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبُوهَا مُعَاوِيَةُ هُوَ الَّذِي جَدَعَ أَنْفَ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ خَرَجَ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ: اللَّهمّ احْجِزْ بَيْنَ هَذَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَوَلِّ الْأَمْرَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْكَ. فظفر عبد الملك- وقد كان مصعب من أعز الناس على عَبْدُ الْمَلِكِ- وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا بُويِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فيه ومن أصدق من الله حديثا) لا أحد والسلام. وبعث به مع سلام فَوَجَدُوا عَلَيْهِ إِذْ قَدَّمَ اسْمَهُ عَلَى اسْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فِي كُتُبِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ، فَاحْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ الواقدي: حدثني ابن أبى ميسرة عن أبى موسى الخياط عن أبى كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يَقُولُ: يا أهل المدينة أنا أحق الناس أن يلزم الأمر الأول، وَقَدْ سَالَتْ عَلَيْنَا أَحَادِيثُ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَشْرِقِ وَلَا نَعْرِفُهَا وَلَا نَعْرِفُ مِنْهَا إِلَّا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَالْزَمُوا مَا فِي مُصْحَفِكُمُ

(9/63)


الّذي حملكم عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمَظْلُومُ، وَعَلَيْكُمْ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي جَمَعَكُمْ عَلَيْهَا إِمَامُكُمُ الْمَظْلُومُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَنِعْمَ الْمُشِيرُ كَانَ لِلْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْكِمَا مَا أحكما، واستقصيا مَا شَذَّ عَنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَامَيْنِ، فَخَطَبَنَا فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ كَانَ مَنْ قَبْلِي من الخلفاء يأكلون من المال ويوكلون، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُدَاوِي أَدْوَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَلَسْتُ بِالْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضْعَفِ- يَعْنِي عُثْمَانَ- وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمُدَاهِنِ- يَعْنِي مُعَاوِيَةَ- وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمَأْبُونِ- يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ- أَيُّهَا النَّاسُ إنا نحتمل منكم كل الغرمة مَا لَمْ يَكُنْ عَقْدَ رَايَةٍ أَوْ وَثَوْبٍ عَلَى مِنْبَرٍ، هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ حَقُّهُ حقه، قرابته وابنه، قَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا فَقُلْنَا بِسَيْفِنَا هَكَذَا، وَإِنَّ الْجَامِعَةَ الَّتِي خَلَعَهَا مِنْ عُنُقِهِ عِنْدِي، وَقَدْ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا أَضَعَهَا فِي رَأْسِ أَحَدٍ إِلَّا أَخْرَجَهَا الصُّعَدَاءَ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ سَلْمِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ: رَكِبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بَكْرًا فَأَنْشَأَ قَائِدُهُ يَقُولُ: -
يَا أَيُّهَا الْبَكْرُ الَّذِي أَرَاكَا ... عَلَيْكَ سَهْلُ الْأَرْضِ فِي مَمْشَاكَا
وَيْحَكَ هَلْ تَعْلَمُ مَنْ عَلَاكَا ... خَلِيفَةُ اللَّهِ الَّذِي امْتَطَاكَا
لَمْ يَحْبُ بَكْرًا مِثْلَ مَا حَبَاكَا
فَلَمَّا سَمِعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ: إِيْهًا يَا هَنَاهُ، قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَصِرَ فَقَالَ: إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّا نَسْكُتُ حَصْرًا وَلَا نَنْطِقُ هَذْرًا، وَنَحْنُ أُمَرَاءُ الْكَلَامِ، فِينَا رَسَخَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَدَلَّتْ أَغْصَانُهُ، وَبَعْدَ مَقَامِنَا هَذَا مَقَامٌ، وَبَعْدَ عِيِّنَا هَذَا مَقَالٌ، وَبَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا أَيَّامٌ، يُعْرَفُ فِيهَا فَصْلُ الْخِطَابِ وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا وَأَنَا أَعْرِضُ عَقْلِي عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ قِيلَ لعبد الملك: أسرع إليك الشيب، فقال: وتنسى ارْتِقَاءِ الْمِنْبَرِ وَمَخَافَةُ اللَّحْنِ؟ وَلَحَنَ رَجُلٌ عِنْدَ عبد الملك- يعنى أسقط من كلامه الفا- فقال له عبد الملك زد ألف، فقال الرجل: وَأَنْتَ فَزِدْ أَلِفًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ غَيْرَ غَالٍ فِيهِ وَلَا جَافٍّ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُسَايِرُهُ فِي سَفَرِهِ: إِذَا رُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ، سَبِّحُوا بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ تِلْكَ الشجرة، كبروا بنا حتى نأتي تلك الحجرة، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَقَعَ مِنْهُ فَلْسٌ فِي بِئْرٍ قَذِرَةٍ فَاكْتَرَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ بين الناس يقوم السيافون على رأسه بالسيف فَيُنْشِدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُ مَنْ يُنْشِدُ فَيَقُولُ:

(9/64)


إِنَّا إِذَا نَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى ... وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ
وَاصْطَرَعَ النَّاسُ بِأَلْبَابِهِمْ ... نَقْضِي بِحُكْمٍ عَادِلٍ فأصل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلفظ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا ... فنجهل الحق مع الجاهل
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَشْكُو الْحَجَّاجَ وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لَوْ أَنَّ رجلا خدم عيسى بن مريم أو رآه أو صحبه تعرفه النصارى أو تعرف مكانه لهاجرت إليه ملوكهم، ولنزل من قلوبهم بالمنزلة العظيمة، وَلَعَرَفُوا لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ موسى أو رآه تعرفه اليهود لفعلوا به من الخير والمحبة وغير ذلك ما استطاعوا، وَإِنِّي خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ ورأيته وأكلت معه، ودخلت وخرجت وجاهدت معه أعداءه، وَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ أَضَرَّ بِي وَفَعَلَ وَفَعَلَ، قال: أخبرنى مَنْ شَهِدَ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَهُوَ يَبْكِي وَبَلَغَ بِهِ الْغَضَبُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِكِتَابٍ غَلِيظٍ، فَجَاءَ إلى الحجاج فقرأه فتغير ثُمَّ قَالَ إِلَى حَامِلِ الْكِتَابِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ نَتَرَضَّاهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَيَّامِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنَّكَ أَعَزُّ مَا تَكُونُ باللَّه أحوج ما تكون إليه، وأذل ما تكون للمخلوق أحوج ما تكون إليهم، وَإِذَا عَزَزْتَ باللَّه فَاعْفُ لَهُ، فَإِنَّكَ بِهِ تَعِزُّ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ فَأَمَرَ من عنده بالانصراف، فلما خلا به وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك: احذر في كلامك ثلاثا، إِيَّاكَ أَنْ تَمْدَحَنِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْكَ، أَوْ تَكْذِبَنِي فَإِنَّهُ لَا رَأْيَ لِكَذُوبٍ، أَوْ تسعى إلى بأحد من الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وَإِنْ شِئْتَ أَقَلْتُكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ:
أَقِلْنِي فَأَقَالَهُ. وَكَذَا كَانَ يَقُولُ لِلرَّسُولِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ: اعْفِنِي مِنْ أَرْبَعٍ وَقُلْ مَا شِئْتَ، لَا تُطْرِنِي، وَلَا تُجِبْنِي فِيمَا لَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَلَا تَكْذِبْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي عَلَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ إِلَى رَأْفَتِي وَمَعْدَلَتِي أَحْوَجُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِرَجُلٍ كَانَ مَعَ بَعْضِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
اضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي مِنْكَ، فَقَالَ: وَمَا جَزَاؤُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مَعَ فُلَانٍ إِلَّا بِالنَّظَرِ لَكَ، وَذَلِكَ أَنِّي رَجُلٌ مَشْئُومٌ مَا كُنْتُ مَعَ رَجُلٍ قَطُّ إِلَّا غُلِبَ وَهُزِمَ، وَقَدْ بَانَ لَكَ صِحَّةُ مَا ادَّعَيْتُ، وَكُنْتُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مَعَكَ تنصحك، لقد كنت مع فلان فكسر وهزم وتفرق جمعه، وكنت مع فلان فقتل، وكنت مع فلان فهزم- حتى عد جماعة من الأمراء- فَضَحِكَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ تَوَاضَعَ عَنْ رِفْعَةٍ وَزَهَدَ عَنْ قُدْرَةِ، وَتَرَكَ النُّصْرَةَ عَنْ قُوَّةٍ. وَقَالَ أَيْضًا لَا طُمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ضِدُّ الْحَزْمِ. وَقَالَ: خَيْرُ الْمَالِ مَا أَفَادَ حَمْدًا وَدَفَعَ ذَمًّا، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، فَإِنَّ

(9/65)


الْخَلْقَ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَيَنْبَغِي أَنَّ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمُؤَدِّبِ أَوْلَادِهِ- وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ-: عَلِّمْهُمُ الصِّدْقَ كَمَا تُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَجَنِّبْهُمُ السفلة فإنهم أسوأ الناس رغبة في الخير وَأَقَلُّهُمْ أَدَبًا، وَجَنِّبْهُمُ الْحَشَمَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَحْفِ شُعُورَهُمْ تَغْلُظْ رِقَابُهُمْ، وَأَطْعِمْهُمُ اللَّحْمَ يَقْوُوا، وَعَلِّمُهُمُ الشِّعْرَ يَمْجُدُوا وَيُنْجُدُوا، وَمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَاكُوا عَرْضًا، وَيَمُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا، وَلَا يَعُبُّوا عَبًّا، وإذا احتجت أن تتناولهم فتناولهم بِأَدَبٍ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي سِرٍّ لَا يَعْلَمُ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَاشِيَةِ فَيَهُونُوا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ إِذْنًا خَاصًّا، فَدَخَلَ شَيْخٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ لَمْ يَأْبَهْ لَهُ الْحَرَسُ، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ صَحِيفَةً وَخَرَجَ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ، وَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ (بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ 38: 26) (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ 83: 4- 6) (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ 11: 103) (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ 11: 104) إن اليوم الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لَوْ بَقِيَ لِغَيْرِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا 27: 52) وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ 37: 22) (أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ 11: 18) قَالَ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَدَخَلَ دَارَ حَرَمِهِ وَلَمْ تَزَلِ الْكَآبَةُ فِي وَجْهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا. وَكَتَبَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا وَفِي آخِرِهِ: وَلَا يُطْمِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُولِ الْبَقَاءِ مَا يظهر لك في صِحَّتِكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ وَاذْكُرْ مَا تَكَلَّمَ بِهِ
الْأَوَّلُونَ إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادَهَا ... وَبَلِيَتْ مَنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا
وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا ... تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فَلَمَّا قَرَأَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بَكَى حَتَّى بَلَّ طَرْفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ زِرٌّ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِغَيْرِ هَذَا كَانَ أَرْفَقَ. وَسَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُونَ سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: أنهى عن ذكر عمر فإنه مرارة للامراء مَفْسَدَةٌ لِلرَّعِيَّةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يحيى القباني عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ بِدِمَشْقَ، فَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ شربت الطلا بعد العبادة والنسك، فقال: إي والله، والدما أَيْضًا قَدْ شَرِبْتُهَا. ثُمَّ جَاءَهُ غُلَامٌ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ لَعَنَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَعَّانٌ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ قَدْ صِرْتُ لَا أَفْرَحُ بِالْحَسَنَةِ أَعْمَلُهَا، وَلَا أَحْزَنُ عَلَى السَّيِّئَةِ أَرْتَكِبُهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: الْآنَ تَكَامَلَ مَوْتُ قَلْبِهِ.

(9/66)


وقال الأصمعي عن أبيه عن جده قَالَ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا خُطْبَةً بَلِيغَةً ثُمَّ قَطَعَهَا وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ قَلِيلَ عَفْوِكَ أَعْظَمُ مِنْهَا، اللَّهمّ فَامْحُ بِقَلِيلِ عَفْوِكَ عَظِيمَ ذُنُوبِي.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ فَبَكَى وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَلَامٌ يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ لَكُتِبَ هَذَا الْكَلَامُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ نحو ذلك، أي أنه لما بلغه هذا الكلام قال مثل ما قال الحسن. وقال مُسْهِرٍ الدِّمَشْقِيُّ:
وُضِعَ سِمَاطُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: ائْذَنْ لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، فَقَالَ:
مات يا أمير المؤمنين، قال: فلأبيه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: مات، قال: فلخالد بن يزيد ابن معاوية، قال: مات، قال فلفلان وفلان- حتى عد أقواما قد ماتوا وهو يعلم ذلك قبلنا- فأمر برفع السماط وأنشأ يقول:
ذهبت لذتي وانقضت أيامهم ... وغبرت بَعْدَهُمْ وَلَسْتُ بِخَالِدِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ فَبَكَى فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا هَذَا؟ أَتَحِنُّ حَنِينَ الْجَارِيَةِ والأمة؟ إذا أنامت فَشَمِّرْ وَاتَّزِرْ وَالْبَسْ جِلْدَ النَّمِرِ، وَضَعِ الْأُمُورَ عِنْدَ أَقْرَانِهَا، وَاحْذَرْ قُرَيْشًا.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا وَلِيدُ اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَسْتَخْلِفُكُ فِيهِ، وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُعَاوِيَةَ فَصِلْ رَحِمَهُ وَاحْفَظْنِي فِيهِ، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُحَمَّدٍ فأمره على الجزيرة ولا تعزله عنها، وانظر إلى ابن عمنا على بْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ إِلَيْنَا بِمَوَدَّتِهِ وَنَصِيحَتِهِ وَلَهُ نَسَبٌ وَحَقٌّ فَصِلْ رَحِمَهُ وَاعْرِفْ حقه، وانظر إلى الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ فَأَكْرِمْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي مهد لك البلاد وقهر الأعداء وخلص لَكُمُ الْمُلْكَ وَشَتَّتَ الْخَوَارِجَ، وَأَنْهَاكَ وَإِخْوَتَكَ عَنِ الْفِرْقَةِ وَكُونُوا أَوْلَادَ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَكُونُوا فِي الْحَرْبِ أَحْرَارًا، وَلِلْمَعْرُوفِ مَنَارًا، فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تُدْنِ مَنِيَّةً قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنَّ الْمَعْرُوفَ يُشَيِّدُ ذِكْرَ صَاحِبِهِ وَيُمَيِّلُ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ، وَيُذَلِّلُ الْأَلْسِنَةَ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ، وللَّه دَرُّ الْقَائِلِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا ... بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ مفند
عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ ... فَالْكَسْرُ والتوهين للمتبدد
ثم قال: إذا أنامت فَادْعُ النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِكَ فَمَنْ أَبَى فَالسَّيْفُ، وعليك بالإحسان إلى أخواتك فَأَكْرِمْهُنَّ وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيَّ فَاطِمَةُ- وَكَانَ قَدْ أَعْطَاهَا قُرْطَيْ مَارِيَةَ وَالدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ- ثُمَّ قَالَ: اللَّهمّ احْفَظْنِي فِيهَا. فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا.
وَلَمَّا احْتُضِرَ سَمِعَ غَسَّالًا يَغْسِلُ الثِّيَابَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا غَسَّالٌ، فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتَ غَسَّالًا أَكْسِبُ مَا أَعِيشُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَلَمْ أَلِ الْخِلَافَةَ. ثُمَّ تَمَثَّلَ فَقَالَ: -
لَعَمْرِي لَقَدْ عُمِّرْتُ فِي الْمُلْكِ بُرْهَةً ... وَدَانَتْ لِيَ الدُّنْيَا بِوَقْعِ الْبَوَاتِرِ
وَأُعْطِيتُ حمر المال والحكم والنهى ... ولى سلّمت كل الملوك الجبابر

(9/67)


فَأَضْحَى الَّذِي قَدْ كَانَ مِمَّا يَسُرُّنِي ... كَحُلْمٍ مضى في المزمنات الفوابر
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ بِالْمُلْكِ لَيْلَةً ... وَلَمْ أسع في لذات عيش نواضر
وَقَدْ أَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ 6: 94 الْآيَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمَرَ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ مِنْ قصره، فلما فتحت سمع قصارا بالوادي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا قَصَّارٌ، فَقَالَ: يَا ليتني كنت قصارا أعيش من عمل يدي، فَلَمَّا بَلَغَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَوْلُهُ قَالَ: الحمد للَّه الّذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم. وقال:
لما حضره الموت جعل يندم ويندب وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي اكتسبت قوتي يوما بيوم واشتغلت بعبادة ربى عز وجل وطاعته. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ فَوَصَّاهُمْ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَا يسأل أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ يُنْشِدُ: -
فَهَلْ مِنْ خَالِدٍ إِمَّا هَلَكْنَا ... وَهَلْ بالموت للباقين عَارُ
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: ارْفَعُونِي، فَرَفَعُوهُ حَتَّى شَمَّ الْهَوَاءَ وَقَالَ: يَا دُنْيَا مَا أَطْيَبَكِ! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإنا كُنَّا بِكِ لَفِي غُرُورٍ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ البيتين:
إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ ... عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ
أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رَبٌّ صَفُوحٌ ... عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ
قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَقِيلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَقِيلَ الْخَمِيسِ، فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ سِتِّينَ سَنَةً. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَصَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَقِيلَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ، وقيل ثماني وَخَمْسِينَ. وَدُفِنَ بِبَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ذِكْرُ أَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَمَرْوَانُ الْأَكْبَرُ دَرَجَ وَعَائِشَةُ، وَأُمُّهُمْ وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضٍ، وَيَزِيدُ وَمَرْوَانُ الْأَصْغَرُ وَمُعَاوِيَةُ دَرَجَ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهِشَامٌ وَأُمُّهُ أُمُّ هِشَامٍ عَائِشَةُ- فِيمَا قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ- بِنْتُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ. وَأَبُو بَكْرٍ وَاسْمُهُ بَكَّارٌ وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، وَالْحَكَمُ دَرَجَ وَأُمُّهُ أُمُّ أَيُّوبَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيِّ، وَفَاطِمَةُ وَأُمُّهَا الْمُغِيرَةُ بِنْتُ الْمُغِيرَةِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. وَعَبْدُ اللَّهِ وَمَسْلَمَةُ وَالْمُنْذِرُ وَعَنْبَسَةُ وَمُحَمَّدٌ وَسَعْدُ الْخَيْرِ وَالْحَجَّاجُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى، فَكَانَ جُمْلَةُ أَوْلَادِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا،

(9/68)


وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ مُشَارِكًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَنَصِفٌ مُسْتَقِلًّا بِالْخِلَافَةِ وَحْدَهُ. وَكَانَ قَاضِيَهُ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَكَاتِبُهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ، وَحَاجِبُهُ يُوسُفُ مَوْلَاهُ، وَصَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ وَالْخَاتَمِ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ. وَعَلَى شُرْطَتِهِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عُمَّالَهُ فِيمَا مَضَى. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ أُخَرَ، شَقْرَاءُ بِنْتُ سَلَمَةَ بْنِ حَلْبَسٍ الطَّائِيِّ، وَابْنَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ أَبِيهَا بِنْتُ عَبْدِ الله بن جعفر. وَمِمَّنْ يُذْكَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تقريبا
. أرطاة بن زفر
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ ضمرة بن غقعان بن أبى حارثة بن مرة بن شبة بن نميط بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ الوليد المري، ويعرف بابن شهبة، وهي أمه بنت رامل بْنِ مَرْوَانَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خديج بن جشم بن كعب بن عون بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفٍ- سَبِيَّةٌ مِنْ كَلْبٍ- وَكَانَتْ عِنْدَ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى زُفَرَ وَهِيَ حَامِلٌ فَأَتَتْ بِأَرْطَاةَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَدْ عُمِّرَ أَرْطَاةُ دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى جَاوَزَ الْمِائَةَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُطْبِقًا قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: ويقال إن بنى غقعان بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مازن بن الحارث دخلوا في بنى مرة بن شبة فقالوا بنى غقعان بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ مُرَّةَ. وَقَدْ وَفَدَ أَبُو الْوَلِيدِ أَرْطَاةُ بْنُ زُفَرَ هَذَا عَلَى عبد الملك فَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا: -
رَأَيْتُ الْمَرْءَ تَأْكُلُهُ اللَّيَالِي ... كَأَكْلِ الْأَرْضِ سَاقِطَةَ الْحَدِيدِ
وَمَا تُبْقِي الْمَنِيَّةُ حِينَ تَأْتِي ... عَلَى نَفْسِ ابْنِ آدَمَ مِنْ مَزِيدِ
وَأَعْلَمُ أَنَّهَا سَتَكُرُّ حَتَّى ... تُوُفِّيَ نَذْرَهَا بِأَبِي الْوَلِيدِ
قَالَ: فَارْتَاعَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَظَنَّ أَنَّهُ عَنَاهُ بِذَلِكَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا عَنَيْتُ نَفْسِي، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَأَنَا وَاللَّهِ سيمر بى ما الّذي يمر بك، وزاد بعضهم في هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: -
خُلِقْنَا أَنْفُسًا وَبَنِي نُفُوسٍ ... وَلَسْنَا بالسلام ولا الحديد
لئن أفجعت بِالْقُرَنَاءِ يَوْمًا ... لَقَدْ مُتِّعْتُ بِالْأَمَلِ الْبَعِيدِ
وَهُوَ الْقَائِلُ وَإِنِّي لَقَوَّامٌ لَدَى الضَّيْفِ مُوهِنًا ... إِذَا أَسْبَلَ السِّتْرَ الْبَخِيلُ الْمُوَاكِلُ
دَعَا فَأَجَابَتْهُ كِلَابٌ كَثِيرَةٌ ... عَلَى ثِقَةٍ مِنِّي بِأَنِّي فَاعِلُ
وَمَا دُونَ ضَيْفِي مِنْ تِلَادٍ تَحُوزُهُ ... لِيَ النَّفْسُ إلا أن تصان الحلائل
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ
كَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يَقُولُ مَا أُوتِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، وَعُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ زَمَانِهِمْ. وَقَالَ: إِذَا اسْتَوَتْ سريرة العبد

(9/69)


وَعَلَانِيَتُهُ قَالَ اللَّهُ هَذَا عَبْدِي حَقًّا. وَقَالَ: إذا دخلتم على مربض فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَدْعُوَ لَكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ حُرِّكَ- أَيْ قَدْ أُوقِظَ مِنْ غَفْلَتِهِ بِسَبَبِ مَرَضِهِ- فَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ مِنْ أَجْلِ كَسْرِهِ وَرِقَّةِ قَلْبِهِ. وَقَالَ:
إِنَّ أَقْبَحَ مَا طُلِبَتْ بِهِ الدنيا عمل الآخرة.
خلافة الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ
لَمَّا رَجَعَ مِنْ دَفْنِ أَبِيهِ خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ- وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَقِيلَ الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السنة- لَمْ يَدْخُلِ الْمَنْزِلَ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ- مِنْبَرَ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ بِدِمَشْقَ- فَخَطَبَ النَّاسَ فَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 وَاللَّهُ المستعان على مصيبتنا في أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَمْدُ للَّه عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنَ الْخِلَافَةِ، قُومُوا فَبَايِعُوا. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: -
اللَّهُ أَعْطَاكَ الَّتِي لَا فَوْقَهَا ... وَقَدْ أَرَادَ الْمُلْحِدُونَ عَوْقَهَا
عَنْكَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا سَوْقَهَا ... إِلَيْكَ حَتَّى قَلَّدُوكَ طَوْقَهَا
ثم بايعه وبايع النَّاسُ بَعْدَهُ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ اللَّهُ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ الله وسابقته ما كَتَبَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ وَمَلَائِكَتِهِ الْمَوْتُ، وقد صار إلى منازل الأبرار بما لاقاه فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ- يَعْنِي بِالَّذِي يَحِقُّ للَّه عَلَيْهِ- مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى الْمُرِيبِ وَاللَّيِّنِ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضْلِ وَإِقَامَةِ مَا أَقَامَ اللَّهُ مِنْ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَائِهِ مِنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ وَغَزْوِ هَذِهِ الثُّغُورِ وَشَنِّ هَذِهِ الْغَارَاتِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَلَا مُفَرِّطًا، أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الجماعة فان الشيطان مع الواحد، أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَبْدَى لَنَا ذَاتَ نَفْسِهِ ضَرَبْنَا الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، وَمَنْ سَكَتَ مَاتَ بدائه. ثم نزل فنظر مَا كَانَ مِنْ دَوَابِّ الْخِلَافَةِ فَحَازَهَا.
وَكَانَ جبارا عنيدا. وقد ورد في ولاية الْوَلِيدِ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يزيد بن عبد الملك كما سيأتي، وكما تقدم تقريره في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا فَقَدْ كَانَ صَيِّنًا فِي نَفْسِهِ حَازِمًا فِي رَأْيِهِ، يُقَالُ إِنَّهُ لَا تُعْرَفُ لَهُ صَبْوَةٌ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِهِ مَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أن الله قص لنا قصة قوم لوط في كتابه ما ظننا أن ذكرا كان يَأْتِي ذَكَرًا كَمَا تُؤْتَى النِّسَاءُ، كَمَا سَيَأْتِي ذلك في ترجمته عند ذكر وفاته، وهو باني مسجد جَامِعِ دِمَشْقَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فِي الْآفَاقِ أَحْسَنُ بِنَاءً مِنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي بِنَائِهِ وَتَحْسِينِهِ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ، فَلَمَّا أَنْهَاهُ انْتَهَتْ أَيَّامُ خِلَافَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا. وَقَدْ كَانَ مَوْضِعُ هَذَا الْمَسْجِدِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا كَنِيسَةُ يُوحَنَّا، فَلَمَّا فَتَحَتِ الصَّحَابَةُ دِمَشْقَ جَعَلُوهَا مُنَاصَفَةً، فَأَخَذُوا مِنْهَا الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ فَحَوَّلُوهُ مَسْجِدًا، وَبَقِيَ الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ كَنِيسَةً

(9/70)


بِحَالِهِ مِنْ لَدُنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى أَخْذِ بَقِيَّةِ الْكَنِيسَةِ مِنْهُمْ وَعَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ مَرْيَمَ لِدُخُولِهَا فِي جَانِبِ السَّيْفِ، وَقِيلَ عَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ تُومَا، وَهَدَمَ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَأَضَافَهَا إِلَى مَسْجِدِ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ الْجَمِيعَ مَسْجِدًا وَاحِدًا عَلَى هَيْئَةٍ بَدِيعَةٍ لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أو أكثرهم لها نظيرا في البنيان والزينات والآثار والعمارات، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وثمانين
فَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ عَمِّهِ وَزَوْجَ أُخْتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الملك عمر بن عبد العزيز، فدخلها على ثَلَاثِينَ بَعِيرًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَنَزَلَ دَارَ مَرْوَانَ وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَعَمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَلَمَّا صَلَّى الظَّهْرَ دَعَا عَشَرَةً مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ عُرْوَةُ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبة، وأبو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَبُو بَكْرِ بن سليمان بن خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخُوهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَجَلَسُوا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنَّمَا دَعَوْتُكُمْ لِأَمْرٍ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ وَتَكُونُونَ فِيهِ أَعْوَانًا عَلَى الْحَقِّ، إِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا إِلَّا بِرَأْيِكُمْ أَوْ بِرَأْيِ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا يَتَعَدَّى أَوْ بَلَغَكُمْ عَنْ عَامِلٍ لِي ظُلَامَةٌ، فَأُحَرِّجُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَبْلَغَنِي. فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ يَجْزُونَهُ خَيْرًا، وَافْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَنْ يُوقِفَ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ للناس عند دار مروان- وكان يسيء الرأى فيه- لأنه أساء إلى أهل المدينة فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى سَعِيدِ بْنِ المسيب وعلى بن الحسين. قال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ وَمَوَالِيهِ: لَا يَعْرِضُ منكم أحد لهذا الرجل فىّ، تَرَكْتُ ذَلِكَ للَّه وَلِلرَّحِمِ. وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَا أُكَلِّمُهُ أَبَدًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَإِنَّهُ مر به وهو موقوف فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى خاصته أن لا يعرض أحد منهم له، فلما اجتاز به وتجاوزه ناداه هشام الله يعلم حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً وَغَنِمَ غَنَائِمَ جَمَّةً، وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي غَزَا بِلَادَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَفَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ، وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ، وَبُحَيْرَةَ الفرمسان، وَحِصْنَ بُولَسَ، وَقُمَيْقِمَ، وَقَتَلَ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ وَسَبَى ذَرَّارِيَّهُمْ. وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ التُّرْكِ وَصَالَحَهُ مَلِكُهُمْ نَيْزَكُ عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ، وَعَلَى أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ مَنْ بِبِلَادِهِ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بِيكَنْدَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ عِنْدَهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَرْضِهِمُ اسْتَنْجَدُوا عَلَيْهِ بِأَهْلِ الصغد ومن

(9/71)


حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَأَتَوْهُمُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ فَأَخَذُوا عَلَى قُتَيْبَةَ الطُّرُقَ وَالْمَضَايِقَ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَهُمْ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أن يبعث إليهم رسولا ولا يأتيه منهم رَسُولٌ، وَأَبْطَأَ خَبَرُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى خَافَ عَلَيْهِ وَأَشْفَقَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ مِنَ التُّرْكِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْصَارِ، وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَتِلُونَ مَعَ التُّرْكِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ لِقُتَيْبَةَ عَيْنٌ مِنَ الْعَجَمِ يُقَالُ لَهُ تندر، فأعطاه أهل بخارى ما لا جَزِيلًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ قُتَيْبَةَ فَيُخَذِّلَهُ عَنْهُمْ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَخْلِنِي، فَأَخْلَاهُ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ سِوَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ضِرَارُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ تَنْدُرُ:
هَذَا عَامِلٌ يَقْدَمُ عَلَيْكَ سَرِيعًا بِعَزْلِ الْحَجَّاجِ، فَلَوِ انْصَرَفْتَ بِالنَّاسِ إِلَى مَرْوَ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ لِمَوْلَاهُ سِيَاهٍ اضرب عنقه فقتله، ثم قال لِضِرَارٍ: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَ هَذَا غَيْرِي وَغَيْرُكَ وَإِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنْ ظَهَرَ هذا حتى ينقضي حربنا ألحقتك به، فاملك علينا لسانك، فان انتشار هذا في مثل هذا الحال ضعف في أعضاد الناس ونصرة للأعداء، ثُمَّ نَهَضَ قُتَيْبَةُ فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْحَرْبِ، وَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الرَّايَاتِ يُحَرِّضُهُمْ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قتالا شديدا ثم أنزل اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الصَّبْرَ فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ فَهُزِمَتِ التُّرْكُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ مَا شَاءُوا، وَاعْتَصَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ قُتَيْبَةُ الْفَعَلَةُ بِهَدْمِهَا فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ عَظِيمٍ فَصَالَحَهُمْ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ وَعِنْدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ ثُمَّ سَارَ رَاجِعًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى خَمْسِ مَرَاحِلَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَتَلُوا الْأَمِيرَ وَجَدَعُوا أُنُوفَ مَنْ كان معه، فرجع إليها وَحَاصَرَهَا شَهْرًا. وَأَمَرَ النَّقَّابِينَ وَالْفَعَلَةَ فَعَلَّقُوا سُورَهَا عَلَى الْخَشَبِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُضْرِمَ النَّارَ فِيهَا، فَسَقَطَ السُّورُ فَقَتَلَ مِنَ الْفِعْلَةِ أَرْبَعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَأَبَى، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى افْتَتَحَهَا فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ، وَكَانَ الَّذِي أَلَّبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أَعْوَرُ مِنْهُمْ، فَأُسِرَ فَقَالَ أَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ صِينِيَّةٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ أَلْفٍ، فَأَشَارَ الْأُمَرَاءُ عَلَى قُتَيْبَةَ بِقَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُرَوِّعُ بِكَ مُسْلِمًا مَرَّةً ثانية، وأمر به فضربت عنقه. وهذا من الزهد في الدنيا، ثم إن الغنائم سيدخل فيها ما أراد أن يفتدى به نفسه فان المسلمين قد غنموا مِنْ بِيكَنْدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ والفضة والأصنام من الذهب، وكان من جملتها صَنَمٌ سُبِكَ فَخَرَجَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَوَجَدُوا فِي خَزَائِنِ الملك أموالا كثيرا وسلاحا كثيرا وعددا متنوعة، وَأَخَذُوا مِنَ السَّبْيِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَكَتَبَ قُتَيْبَةُ [إلى الحجاج يسأله] أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ لِلْجُنْدِ فَأَذِنَ لَهُ فَتَمَوَّلَ المسلمون وتقووا على قتال الأعداء، وصار لكل واحد منهم مال مستكثر جدا، وصارت لهم أسلحة وعدد وخيول كثيرة فقووا بذلك قُوَّةً عَظِيمَةً وللَّه الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ

(9/72)


عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الحجاج، وَنَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ وَقَاضِيهِ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَامِلُهُ عَلَى الْحَرْبِ بِالْكُوفَةِ زِيَادُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى خراسان وأعمالها قتيبة بن مسلم.
وفيها تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ، يُرْوَى أَنَّهُ شَهِدَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَعَنِ الْعِرْبَاضِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَسْلَمَ قَبْلِي بِسَنَةٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ. وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ بجير ابن سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ لَحَقَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَقِيلِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: اشْتَكَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرْيَ فكساني خيشتين فلقد رأيتني وأنا أكسى الصحابة] [1]
المقدام بن معديكرب
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ أَيْضًا، لَهُ أَحَادِيثُ، وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ. قَالَ محمد ابن سعد والفلاس وأبو عبيدة: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تُوُفِّيَ بَعْدَ التِّسْعِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
أَبُو أُمَامَةُ الْبَاهِلِيُّ
واسمه صديّ بن عجلان، نَزَلَ حِمْصَ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ «تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْوَفَيَاتِ.
قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ
أَبُو سُفْيَانَ الْخُزَاعِيُّ الْمَدَنِيُّ، وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ وَأُتِيَ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ لَهُ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذَنٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ إِذَا وَرَدَتْ مِنَ الْبِلَادِ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْبِلَادِ فِيهَا، وَكَانَ صَاحِبَ سِرِّهِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ بِبَابِ الْبَرِيدِ، وَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.
عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَلِيَ إِمْرَةَ الْكُوفَةِ لِلْحَجَّاجِ، وَكَانَ شَرِيفًا لَبِيبًا مُطَاعًا فِي النَّاسِ، وَكَانَ أَحْوَلَ. تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ
يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ،
كَانَ قَاضِيَ مَرْوَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ وَلَهُ أَحْوَالٌ وَمُعَامَلَاتٌ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُصَحَاءِ، أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ.
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالاستانة.

(9/73)


شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْقَاضِي
أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَاسْتَقْضَاهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ فَمَكَثَ بِهَا قَاضِيًا خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ عَالِمًا عَادِلًا كَثِيرَ الْخَيْرِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فِيهِ دُعَابَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ كَوْسَجًا لَا شَعْرَ بِوَجْهِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وقيس بن سعد بن عبادة، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ وَسِنِّهِ وَعَامِ وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَفَاتَهُ فِي هذه السنة.
[قلت: قد تقدمت ترجمة شريح القاضي في سنة ثمان وسبعين بما فيها من الزيادة الكثيرة غير ما ذكره المؤلف هنا وهناك] [1]
. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَافْتَتَحَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ طُوَانَةَ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ- وَكَانَ حصينا مَنِيعًا- اقْتَتَلَ النَّاسُ عِنْدَهُ قِتَالًا عَظِيمًا ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّصَارَى فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمُ الْكَنِيسَةَ، ثُمَّ خَرَجَتِ النَّصَارَى فَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَوْقِفِهِ إِلَّا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ وَمَعَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَيْنَ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: نَادِهِمْ يَأْتُوكَ، فَنَادَى يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَتَرَاجَعَ النَّاسُ فَحَمَلُوا عَلَى النَّصَارَى فَكَسَرُوهُمْ ولجئوا إِلَى الْحِصْنِ فَحَاصَرُوهُمْ حَتَّى فَتَحُوهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جرير أنه فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ كِتَابُ الْوَلِيدِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ يُوَسِّعَهُ مِنْ قِبْلَتِهِ وَسَائِرِ نَوَاحِيهِ، حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فِي مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، فَمَنْ باعك ملكه فاشتره مِنْهُ وَإِلَّا فَقَوِّمْهُ لَهُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ أهدمه وَادْفَعْ إِلَيْهِمْ أَثْمَانَ بُيُوتِهِمْ، فَإِنَّ لَكَ فِي ذَلِكَ سَلَفَ صِدْقٍ عُمَرَ وَعُثْمَانَ. فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُجُوهَ النَّاسِ وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الْوَلِيدِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا:
هَذِهِ حُجَرٌ قَصِيرَةُ السُّقُوفِ، وَسُقُوفُهَا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَحِيطَانُهَا مِنَ اللَّبِنِ، وَعَلَى أَبْوَابِهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا أَوْلَى لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ وَالْمُسَافِرُونَ، وَإِلَى بُيُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمِّرُونَ فِيهَا إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ وَيُكِنُّ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَالِيَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْفَرَاعِنَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَكُلِّ طَوِيلِ الْأَمَلِ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْخُلُودِ فِيهَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْوَلِيدِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخَرَابِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلِّيَ سُقُوفَهُ.
فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ بُدًّا مِنْ هَدْمِهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا فِي الْهَدْمِ صَاحَ الْأَشْرَافُ وَوُجُوهُ النَّاسِ من بنى هاشم وغيرهم،
__________
[1] زيادة في المصرية.

(9/74)


وَتَبَاكَوْا مِثْلَ يَوْمِ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وأجاب مَنْ لَهُ مِلْكٌ مُتَاخِمٌ لِلْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ، وَشَرَعَ فِي بِنَائِهِ وَشَمَّرَ عَنْ إِزَارِهِ واجتهد في ذلك، وأرسل الوليد إليه فعولا كثيرة، فَأَدْخَلَ فِيهِ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ- حُجْرَةَ عَائِشَةَ- فَدَخَلَ الْقَبْرُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ حَدَّهُ مِنَ الشَّرْقِ وَسَائِرُ حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَمَرَ الْوَلِيدُ، وَرُوِّينَا أَنَّهُمْ لَمَّا حَفَرُوا الْحَائِطَ الشَّرْقِيَّ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ بَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَخَشُوا أَنْ تَكُونَ قَدَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تحققوا أنها قدم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ- كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُ صُنَّاعًا لِلْبِنَاءِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ صَانِعٍ وَفُصُوصٍ كثيرة من أجل المسجد النبوي، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فاللَّه أَعْلَمُ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَحْفِرَ الْفَوَّارَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ يُجْرِيَ مَاءَهَا فَفَعَلَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْفِرَ الْآبَارَ وَأَنْ يُسَهِّلَ الطُّرُقَ وَالثَّنَايَا، وَسَاقَ إِلَى الْفَوَّارَةِ الْمَاءَ مِنْ ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَالْفَوَّارَةُ بُنِيَتْ فِي ظَاهِرِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بُقْعَةٍ رَآهَا فَأَعْجَبَتْهُ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَلِكَ الترك كور بغانون ابْنَ أُخْتِ مَلِكِ الصِّينِ، وَمَعَهُ مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنْ أَهْلِ الصُّغْدِ وَفَرْغَانَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ مَعَ قُتَيْبَةَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مَأْسُورًا فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَسَبَى وَأَسَرَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَخْبَرُوهُ عَنْ قِلَّةِ الْمَاءِ بِمَكَّةَ لِقِلَّةِ الْمَطَرِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا نَسْتَمْطِرُ؟ فَدَعَا وَدَعَا النَّاسُ فَمَا زَالُوا يَدْعُونَ حَتَّى سُقُوا وَدَخَلُوا مَكَّةَ وَمَعَهُمُ الْمَطَرُ، وَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ حَتَّى خَافَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ شِدَّةِ الْمَطَرِ، وَمُطِرَتْ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى، وَأَخْصَبَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ السَّنَةَ خِصْبًا عَظِيمًا بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دعاء عمر وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَكَانَ النُّوَّابُ عَلَى الْبُلْدَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هُمُ الَّذِينَ كانوا قبلها.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرِ بْنِ أَبِي بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
صَحَابِيٌّ كَأَبِيهِ، سَكَنَ حِمْصَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التابعين، قال الواقدي: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، زَادَ غَيْرُهُ وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوَفِّيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعِيشُ قَرْنًا، فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى
عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيُّ ثُمَّ الْأَسْلَمِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَقِيلَ قَارَبَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
.

(9/75)


وفيها توفى هشام بن إسماعيل
ابن هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ، وَكَانَ حَمَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَنَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ دِرَاسَةَ الْقُرْآنِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ فمات فيها في السبع.
عمير بن حكيم
الْعَنْسِيُّ الشَّامِيُّ، لَهُ رِوَايَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الشَّامِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيبَ الْحَجَّاجَ عَلَانِيَةً إلا هو وابن محيريز أبو الأبيض، قُتِلَ فِي غَزْوَةِ طُوَانَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ في هذه السنة.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا وَفَتَحَا حُصُونًا كَثِيرَةً، مِنْهَا حِصْنُ سُورِيَّةَ وَعَمُّورِيَّةَ وَهِرَقْلَةَ وَقَمُودِيَّةَ. وَغَنِمَا شَيْئًا كَثِيرًا وَأَسَرَا جَمًّا غَفِيرًا. وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ الصُّغْدِ وَنَسَفَ وكش، وَقَدْ لَقِيَهُ هُنَالِكَ خَلْقٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ إِلَى بُخَارَى فَلَقِيَهُ دُونَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّرْكِ فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ عِنْدَ مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ خَرْقَانُ، وَظَفِرَ بِهِمْ فَقَالَ فِي ذَلِكَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ:
وَبَاتَتْ لَهُمْ مِنَّا بِخَرْقَانَ لَيْلَةٌ ... وَلَيْلَتُنَا كَانَتْ بِخَرْقَانَ أَطْوَلَا
ثُمَّ قَصَدَ قُتَيْبَةُ وَرْدَانَ خُذَاهْ مَلِكَ بُخَارَى فَقَاتَلَهُ وَرْدَانُ قِتَالًا شَدِيدًا فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ قُتَيْبَةُ، فَرَجَعَ عَنْهُ إِلَى مَرْوَ، فَجَاءَهُ البريد بكتاب الْحَجَّاجِ يُعَنِّفُهُ عَلَى الْفِرَارِ وَالنُّكُولِ عَنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِصُورَةِ هَذَا الْبَلَدِ- يَعْنِي بُخَارَى- فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِصُورَتِهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ ارْجِعْ إِلَيْهَا وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِكِ وَائْتِهَا مِنْ مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَرِدْ وَرْدَانَ خُذَاهْ، وَإِيَّاكَ وَالتَّحْوِيطَ، وَدَعْنِي وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِمْرَةَ مَكَّةَ لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَحَفَرَ بِئْرًا بِأَمْرِ الْوَلِيدِ عِنْدَ ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ، فَجَاءَتْ عَذْبَةَ الْمَاءِ طيبة، وكان يستقى منها الناس. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ. قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: أَيُّهَا النَّاسُ! أَيُّهُمَا أَعْظَمُ خَلِيفَةً الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ أَمْ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ؟ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَعْلَمُوا فَضْلَ الْخَلِيفَةِ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ اسْتَسْقَاهُ فَسَقَاهُ مِلْحًا أُجَاجًا، وَاسْتَسْقَى الْخَلِيفَةُ فَسَقَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا- يَعْنِي الْبِئْرَ الَّتِي احْتَفَرَهَا بِالثَّنِيَّتَيْنِ ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ- فَكَانَ يُنْقَلُ مَاؤُهَا فَيُوضَعُ فِي حَوْضٍ مِنْ أَدَمٍ إِلَى جَنْبِ زَمْزَمَ لِيُعْرَفَ فَضْلُهُ عَلَى زَمْزَمَ. قَالَ ثُمَّ غَارَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ فَذَهَبَ مَاؤُهَا فَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ إِلَى الْيَوْمِ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ غَرِيبٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ يتضمن

(9/76)


كُفْرًا إِنْ صَحَّ عَنْ قَائِلِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ خالد بن عبد الله لَا يَصِحُّ عَنْهُ هَذَا الْكَلَامُ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَدْ قِيلَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَلِيفَةَ أَفْضَلَ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَتَضَمَّنُ كُفْرَ قَائِلِهَا.
وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم الترك حتى بلغ باب الأبواب من ناحية أذربيجان، وفتح حصونا ومدائن كثيرة هُنَالِكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز. قال شيخنا الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ صِقِلِّيَةُ وَمَيُورْقَةُ وقيل ميرقة، وهما في البحر بين جزيرة صقلّيّة وخدرة مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ.
وَفِيهَا سَيَّرَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ وَلَدَهُ إِلَى النِّقْرِيسِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ فَافْتَتَحَ بلادا كثيرة. وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَحَدُ التَّابِعِينَ الْعُذْرِيُّ الشَّاعِرُ، وَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّسَبَ. وَالْعُمَّالُ فِي هَذِهِ السنة هم المذكورون في التي قبلها.
ثم دخلت سنة تسعين من الهجرة
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ، فَفَتَحَا حُصُونًا وَقَتَلَا خَلْقًا مِنَ الرُّومِ وَغَنِمَا وَأَسَرَا خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِيهَا أَسَرَتِ الرُّومُ خَالِدَ بْنَ كَيْسَانَ صَاحِبَ الْبَحْرِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ فَأَهْدَاهُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا قُرَّةَ بْنَ شَرِيكٍ. وَفِيهَا قَتَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ مَلِكَ السِّنْدِ دَاهِرَ بْنَ صَصَّةَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ هَذَا عَلَى جَيْشٍ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ. وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَدِينَةَ بخارى وهزم جميع الْعَدُوِّ مِنَ التُّرْكِ بِهَا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ فُصُولٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ تَقَصَّاهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِيهَا طَلَبَ طَرْخُونُ مَلِكُ الصُّغْدِ بَعْدَ فَتْحِ بُخَارَى مِنْ قُتَيْبَةَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ فِي كُلِّ عَامٍ فَأَجَابَهُ قُتَيْبَةُ إِلَى ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا عَلَيْهِ. وَفِيهَا اسْتَنْجَدَ وَرْدَانُ خُذَاهْ بِالتُّرْكِ فَأَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي- وَهُوَ صَاحِبُ بُخَارَى بَعْدَ أَخْذِ قُتَيْبَةَ لَهَا- وَخَرَجَ وَرْدَانُ خُذَاهْ وَحَمَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَطَّمُوهُمْ ثُمَّ عَادَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَصَالَحَ قُتَيْبَةُ مَلِكَ الصُّغْدِ، وَفَتَحَ بُخَارَى وَحُصُونَهَا، وَرَجَعَ قُتَيْبَةُ بِالْجُنْدِ إِلَى بِلَادِهِ فَأَذِنَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا سَارَ إِلَى بِلَادِهِ بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَ الصُّغْدِ قَالَ لِمُلُوكِ التُّرْكِ: إِنِ الْعَرَبَ بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ فَإِنْ أُعْطُوا شَيْئًا ذَهَبُوا، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ هَكَذَا يَقْصِدُ الْمُلُوكَ، فَإِنْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا أَخْذَهُ وَرَجَعَ عَنْهُمْ، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ لَيْسَ بِمَلِكٍ وَلَا يَطْلُبُ مُلْكًا. فَبَلَغَ قُتَيْبَةَ قَوْلُهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَكَاتَبَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مُلُوكَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مِنْهُمْ مَلِكُ الطَّالَقَانِ، وَكَانَ قَدْ صَالَحَ قُتَيْبَةَ فَنَقَضَ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُتَيْبَةَ، وَاسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِالْمُلُوكِ كُلِّهَا، فَأَتَاهُ ملوك كثيرة كَانُوا قَدْ عَاهَدُوا قُتَيْبَةَ عَلَى الصُّلْحِ فَنَقَضُوا كُلُّهُمْ وَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى قُتَيْبَةَ، وَاتَّعَدُوا إِلَى الرَّبِيعِ وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فَيُقَاتِلُوا كُلُّهُمْ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قُتَيْبَةُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ مقتلة

(9/77)


عَظِيمَةً جِدًّا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَصَلَبَ مِنْهُمْ سِمَاطَيْنِ فِي مَسَافَةِ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ فِي نِظَامٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِمَّا كَسَرَ جُمُوعَهُمْ كُلَّهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَأَخَوَاهُ الْمُفَضَّلُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ سِجْنِ الْحَجَّاجِ، فَلَحِقُوا بِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَمَّنَهُمْ مِنَ الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدِ احْتَاطَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَاقَبَهُمْ عُقُوبَةً عَظِيمَةً، وَأَخَذَ مِنْهُمْ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَكَانَ أَصْبَرَهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، كَانَ لَا يُسْمَعُ لَهُ صوت ولو فعلوا به ما فعلوا نكاية لذلك، وكان ذلك يغيظ الحجاج، قَالَ قَائِلٌ لِلْحَجَّاجِ: إِنَّ فِي سَاقِهِ أَثَرَ نُشَّابَةٍ بَقِيَ نَصْلُهَا فِيهِ، وَإِنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا شَيْءٌ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَصْرُخَ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ أَنْ يُنَالَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْهُ بِعَذَابٍ، فَصَاحَ فَلَمَّا سَمِعَتْ أُخْتُهُ هِنْدُ بِنْتُ الْمُهَلَّبِ- وَكَانَتْ تَحْتَ الْحَجَّاجِ- صَوْتَهُ بَكَتْ وَنَاحَتْ عَلَيْهِ فَطَلَّقَهَا الْحَجَّاجُ ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَجَّاجُ إِلَى بَعْضِ الْمَحَالِّ لِيُنْفِذَ جَيْشًا إِلَى الْأَكْرَادِ وَاسْتَصْحَبَهُمْ مَعَهُ، فَخَنْدَقَ حَوْلَهُمْ وَوَكَّلَ بِهِمُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي أَمَرَ يزيد ابن المهلب بطعام كثير فصنع للحرس، ثُمَّ تَنَكَّرَ فِي هَيْئَةِ بَعْضِ الطَّبَّاخِينَ وَجَعَلَ لحيته لحية بيضاء وخرج فَرَآهُ بَعْضُ الْحَرَسِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِشْيَةً أَشْبَهَ بِمِشْيَةِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنْ هَذَا، ثم تبعه يَتَحَقَّقُهُ، فَلَمَّا رَأَى بَيَاضَ لِحْيَتِهِ انْصَرَفَ عَنْهُ، ثُمَّ لَحِقَهُ أَخَوَاهُ فَرَكِبُوا السُّفُنَ وَسَارُوا نَحْوَ الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ هَرَبُهُمُ انْزَعَجَ لِذَلِكَ وَذَهَبَ وَهْمُهُ أَنَّهُمْ سَارُوا إِلَى خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ يُحَذِّرُهُ قُدُومَهُمْ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ، وَأَنْ يَرْصُدَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَكْتُبَ إِلَى أُمَرَاءِ الثُّغُورِ وَالْكُوَرِ بِتَحْصِيلِهِمْ.
وَكَتَبَ إلى أمير المؤمنين يُخْبِرُهُ بِهَرَبِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَرَاهُمْ هَرَبُوا إِلَّا إلى خراسان، وخاف الحجاج من يزيد أن يصنع كما صنع ابن الْأَشْعَثِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَجَمْعِ النَّاسِ لَهُ، وتحقق عنده قول الراهب.
وَأَمَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَإِنَّهُ سَلَكَ عَلَى الْبَطَائِحِ وَجَاءَتْهُ خُيُولٌ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لَهُ أَخُوهُ مَرْوَانُ بْنُ الْمُهَلَّبِ لِهَذَا الْيَوْمِ، فَرَكِبَهَا وَسَلَكَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَزِيدَ، فَأَخَذَ بِهِمْ عَلَى السَّمَاوَةِ، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَنَّ يَزِيدَ قَدْ سَلَكَ نَحْوَ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَسَارَ يَزِيدُ حَتَّى نَزَلَ الْأُرْدُنَّ عَلَى وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيِّ- وَكَانَ كَرِيمًا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ- فَسَارَ وُهَيْبٌ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَخَوَيْهِ فِي مَنْزِلِي، قَدْ جَاءُوا مُسْتَعِيذِينَ بك من الحجاج، قال: فاذهب فأتنى بِهِمْ فَهُمْ آمِنُونَ مَا دُمْتُ حَيًّا، فَجَاءَهُمْ فَذَهَبَ بِهِمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَمَّنَهُمْ سُلَيْمَانُ وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْوَلِيدِ: إِنَّ آلَ الْمُهَلَّبِ قَدْ أَمَّنْتُهُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لِلْحَجَّاجِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَهِيَ عندي. فكتب إليه الوليد: لَا وَاللَّهِ لَا أُؤَمِّنُهُ حَتَّى تَبْعَثَ بِهِ إِلَيَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا أَبْعَثُهُ حَتَّى أَجِيءَ مَعَهُ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَفْضَحَنِي أَوْ تُخْفِرَنِي فِي جِوَارِي. فكتب إليه: لا والله لا تجيء مَعَهُ وَابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ فِي وَثَاقٍ. فَقَالَ يزيد: ابعث

(9/78)


بى إِلَيْهِ فَمَا أُحِبُّ أَنْ أُوقِعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً وَحَرْبًا، فَابْعَثْنِي إِلَيْهِ وَابْعَثْ مَعِي ابْنَكَ وَاكْتُبْ إِلَيْهِ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ تَقْدِرُ عَلَيْهَا فَبَعَثَهُ وَبَعَثَ مَعَهُ ابْنَهُ أَيُّوبَ، وَقَالَ لِابْنِهِ: إِذَا دَخَلْتَ فِي الدِّهْلِيزِ فَادْخُلْ مَعَ يَزِيدَ فِي السِّلْسِلَةِ، وَادْخُلَا عَلَيْهِ كَذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى الْوَلِيدُ ابْنَ أَخِيهِ فِي السِّلْسِلَةِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ سُلَيْمَانَ. وَدَفَعَ أَيُّوبُ كِتَابَ أَبِيهِ إِلَى عَمِّهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسِي فِدَاؤُكَ لَا تَخْفِرْ ذِمَّةَ أَبِي وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ مَنَعَهَا، وَلَا تَقْطَعْ مِنَّا رَجَاءَ مَنْ رَجَا السَّلَامَةَ فِي جِوَارِنَا لِمَكَانِنَا مِنْكَ، وَلَا تُذِلَّ مَنْ رَجَا الْعِزَّ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْنَا لِعِزِّنَا بِكَ. ثُمَّ قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ يا أمير المؤمنين فو الله إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ لَوِ اسْتَجَارَ بِي عَدُوٌّ قَدْ نَابَذَكَ وَجَاهَدَكَ فَأَنْزَلْتُهُ وَأَجْرَتْهُ أَنَّكَ لَا تذل جواري ولا تخفره، بَلْ لَمْ أُجِرْ إِلَّا سَامِعًا مُطِيعًا، حَسَنَ الْبَلَاءِ وَالْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ فَإِنْ كُنْتَ إنما تعد قطيعتي واخفار ذمتي وَالْإِبْلَاغَ فِي مَسَاءَتِي فَقَدْ قَدَرْتَ إِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ، وَأَنَا أُعِيذُكَ باللَّه مِنِ احْتِرَادِ قَطِيعَتِي وانتهاك حرمتي، وترك بري وإجابتي إلى ما سألتك، ووصلتي، فو الله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَدْرِي مَا بَقَائِي وَبَقَاؤُكَ، وَلَا مَتَى يُفَرِّقُ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَدَامَ اللَّهُ سُرُورَهُ أَنْ لَا يَأْتِيَ أَجَلُ الْوَفَاةِ عَلَيْنَا إِلَّا وَهُوَ لِي وَاصِلٌ وَلِحَقِّي مُؤَدٍّ، وَعَنْ مَسَاءَتِي نازع فليفعل، وو الله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَصْبَحْتُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ بِأَسَرَّ مِنِّي برضاك وسرورك، وإن رضاك وسرورك أحب إلى من رضائي وسروري، ومما ألتمس به رضوان الله عز وجل لصلتى ما بيني وبينك، وَإِنْ كُنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمًا مِنَ الدهر تريد صلتي وَكَرَامَتِي وَإِعْظَامَ حَقِّي فَتَجَاوَزْ لِي عَنْ يَزِيدَ، وَكُلُّ مَا طَلَبْتَهُ بِهِ فَهُوَ عَلَيَّ.
فَلَمَّا قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَهُ قَالَ: لَقَدْ أَشْفَقْنَا عَلَى سُلَيْمَانَ، ثُمَّ دَعَا ابْنَ أَخِيهِ فَأَدْنَاهُ مِنْهُ، وَتَكَلَّمَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ بَلَاءَكُمْ عِنْدَنَا أَحْسَنُ الْبَلَاءِ، فمن ينس ذلك فلسنا ننساه، وَمَنْ يَكْفُرُهُ فَلَسْنَا بِكَافِرِيهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ بَلَائِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي طَاعَتِكُمْ وَالطَّعْنِ فِي أَعْيُنِ أَعْدَائِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْعِظَامِ فِي الْمَشَارِقِ والمغارب، ما أن المنة فيه علينا عَظِيمَةٌ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأَمَّنَهُ وَكَفَّ عنه ورده إلى سليمان، فكان عنده حسن الهيئة، ويصف له ألوان الأطعمة الشهية، وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ لَا يُهْدَى إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ إلا أرسل له بنصفها، وتقرب يزيد ابن الْمُهَلَّبِ إِلَى سُلَيْمَانَ بِأَنْوَاعِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالتَّقَادُمِ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ إِنِّي لَمْ أَصِلْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَعَ أَخِي سُلَيْمَانَ، فَاكْفُفْ عَنْهُمْ وَالْهَ عَنِ الْكِتَابِ إِلَيَّ فِيهِمْ. فَكَفَّ الْحَجَّاجُ عَنْ آلِ الْمُهَلَّبِ وَتَرَكَ مَا كَانَ يُطَالِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، حَتَّى تَرَكَ لِأَبِي عُيَيْنَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حَتَّى هَلَكَ الحجاج في سنة خمس وتسعين، ثُمَّ وَلِيَ يَزِيدُ بِلَادَ الْعِرَاقِ بَعْدَ الْحَجَّاجِ كما أخبره الراهب.
وفيها توفى من الأعيان:

(9/79)


يتاذوق الطَّبِيبُ
الْحَاذِقُ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فَنِّهِ وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، مَاتَ فِي حُدُودِ سَنَةِ تِسْعِينَ بِوَاسِطٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ
وَأَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَتَوَلَّى غَزْوَ الْهِنْدِ، وَطَالَ عُمْرُهُ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ أَخُو الْحَجَّاجِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ يَلْعَنُ عَلِيًّا عَلَى الْمَنَابِرِ، قِيلَ إنه أمر حجر المنذري أَنْ يَلْعَنَ عَلِيًّا فَقَالَ: بَلْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَلْعَنُ عَلِيًّا، وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ إِنَّهُ وَرَّى فِي لَعْنِهِ فاللَّه أَعْلَمُ
. خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
أَبُو هَاشِمٍ الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ تَلِي دَارَ الْحِجَارَةِ، وَكَانَ عَالِمًا شَاعِرًا، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ، وَكَانَ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعَةِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ خَالِدُ يَصُومُ الْأَعْيَادَ كُلَّهَا الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ- يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ عِيدُ الْيَهُودِ، وَالْأَحَدُ لِلنَّصَارَى- وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ خِيَارِ الْقَوْمِ، وَقَدْ ذُكِرَ لِلْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَلْتَئِمْ لَهُ الْأَمْرُ، وَكَانَ مَرْوَانُ زَوْجَ أُمِّهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ: أَقْرَبُ شَيْءٍ الْأَجَلُ، وَأَبْعَدُ شَيْءٍ الْأَمَلُ، وَأَرْجَى شَيْءٍ الْعَمَلُ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
سألت الندا والجود حرّان أنتما ... فردا وقالا إننا لعبيد
فقلت ومن مولا كما فَتَطَاوَلَا ... عَلَيَّ وَقَالَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدِ
[قَالَ: فأمر له بمائة ألف. قلت: وقد رأيتهما قد أنشدا في خالد بن الوليد رضى الله عنه. فقال:
وقالا خالد بن وليد. والله أعلم. وخالد بن يزيد هذا كان أميرا على حمص، وهو الّذي بنى جامع حمص وكان له فيه أربعمائة عبد يعملون، فلما فرغ منه أعتقهم. وكان خالد يبغض الحجاج، وهو الّذي أشار على عبد الملك لما تزوج الحجاج بنت جعفر أن يرسل إليه فيطلقها ففعل. ولما مات مشى الوليد في جنازته وصلى عليه، وكان قد تجدد على خالد اصفرار وضعف، فسأله عبد الملك عن هذا فلم يخبره فما زال حتى أخبره أنه من حب رملة أخت مصعب بن الزبير، فأرسل عبد الملك يخطبها لخالد فقالت: حتى يطلق نساءه فطلقهن وتزوجها وأنشد فيها الشعر] [1] وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَقَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ، وَالصَّحِيحُ الأول.
عبد الله بن الزبير
ابن سَلِيمٍ الْأَسَدِيُّ الشَّاعِرُ أَبُو كَثِيرٍ، وَيُقَالُ أَبُو سعيد، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَفَدَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
[1] سقط من نسخة طوب قبو بالاستانة.

(9/80)


الزُّبَيْرِ فَامْتَدَحَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ وَصَاحِبَهَا، يُقَالُ إِنَّهُ مَاتَ فِي زَمَنِ الحجاج.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بِلَادَ التُّرْكِ حَتَّى بَلَغَ الْبَابَ مِنْ نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، فَفَتَحَ مَدَائِنَ وَحُصُونًا كَثِيرَةً أَيْضًا، وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدْ عَزَلَ عَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ عَنِ الْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَوَلَّاهُمَا أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَفِيهَا غَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِلَادَ الْمَغْرِبِ فَفَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً وَدَخَلَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَوَلَجَ فِيهَا حَتَّى دَخَلَ أَرَاضِيَ غَابِرَةً قَاصِيَةً فِيهَا آثَارُ قُصُورٍ وَبُيُوتٍ لَيْسَ بِهَا سَاكِنٌ، وَوَجَدَ هُنَاكَ مِنْ آثَارِ نِعْمَةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ مَا يَلُوحُ عَلَى سِمَاتِهَا أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا أَصْحَابَ أَمْوَالٍ ونعمة دارة سائغة، فَبَادُوا جَمِيعًا فَلَا مُخْبِرَ بِهَا.
وَفِيهَا مَهَّدَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ نَقَضُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصَالَحَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ وَحَرْبٍ يَشِيبُ لَهَا الْوَلِيدُ، وَذَلِكَ أَنَّ مُلُوكَهُمْ كَانُوا قَدِ اتعدوا في العام الماضي في أول الرَّبِيعِ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيُقَاتِلُوا قُتَيْبَةَ، وَأَنْ لَا يُوَلُّوا عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى يُخْرِجُوا الْعَرَبَ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا اجْتِمَاعًا هَائِلًا لَمْ يَجْتَمِعُوا مِثْلَهُ فِي مَوْقِفٍ، فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ وَقَتَلَ مِنْهُمْ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَرَدَّ الْأُمُورَ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُ صَلَبَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ المواضع من جملة من أخذه منهم سِمَاطَيْنِ طُولُهُمَا أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، عن يمينه وشماله، صلب الرجل منهم بجنب الرجل، وهذا شيء كثير، وقتل في الكفار قتلا ذريعا، ثم لا يزال يتتبع نَيْزَكَ خَانَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَمِنْ كُورَةٍ إِلَى كُورَةٍ، وَمِنْ رُسْتَاقٍ إِلَى رُسْتَاقٍ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُ حَتَّى حَصَرَهُ فِي قَلْعَةٍ هُنَالِكَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَ نَيْزَكَ خَانَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَأَشْرَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْهَلَاكِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ قُتَيْبَةُ مَنْ جَاءَ بِهِ مُسْتَأْمَنًا مَذْمُومًا مَخْذُولًا، فَسَجَنَهُ عِنْدَهُ ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَمْرِهِ فَجَاءَ الْكِتَابُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِقَتْلِهِ، فَجَمَعَ قُتَيْبَةُ الْأُمَرَاءَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَقَائِلٌ يَقُولُ:
اقْتُلْهُ. وَقَائِلٌ يَقُولُ لَا تَقْتُلْهُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّكَ أَعْطَيْتَ اللَّهَ عَهْدًا أَنَّكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِهِ لَتَقْتُلَنَّهُ، وَقَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَالَ قتيبة: والله إن لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي إِلَّا مَا يَسَعُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ لَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قَالَ:
اقْتُلُوهُ اقْتُلُوهُ اقتلوه، فقتل هو وسبعمائة من أصحابه من أمرائه فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَخَذَ قُتَيْبَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَخُيُولِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ فِي هَذَا الْعَامِ مُدُنًا كَثِيرَةً، وَقَرَّرَ مَمَالِكَ كثيرة.
وأخذ حصونا كثيرة مشحونة بالأموال والنساء، ومن آنية الذهب والفضة شيئا كثيرا، ثم سار قتيبة إلى الطالقان- وهي مدينة كبيرة وبها حصون وأقاليم- فأخذها واستعمل عليها، ثم سار إلى الفارياب وبها مدن ورساتيق، فخرج إليه ملكها سامعا مطيعا، فاستعمل عليها رجلا من أصحابه، ثم سار إلى

(9/81)


الجوزجان فأخذها من ملكها واستعمل عليها، ثم أتى بلخ فدخلها وأقام بها نهارا واحدا، ثم خرج منها وقصد نيزك خان ببغلان، وقد نزل نيزك خان معسكرا على فم الشعب الّذي منه يدخل إلى بلاده، وفي فم الشعب قلعة عظيمة تسمى شمسية، لعلوها وارتفاعها واتساعها. فقدم على قتيبة الرؤب خان ملك الرؤب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة، فأمنه وبعث معه رجالا إلى القلعة فأتوها ليلا ففتحوها وقتلوا خلقا من أهلها وهرب الباقي، ودخل قتيبة الشعب وأتى سمنجان- وهي مدينة كبيرة- فأقام بها وأرسل أخاه عبد الرحمن خلف ملك تلك المدن والبلاد نيزك خان في جيش هائل، فسار خلفه إلى بغلان فحصره بها، وأقام بحصاره شهرين حتى نفذ ما عنده من الأقوات، فأرسل قتيبة من عنده ترجمانا يسمى الناصح، فقال له: اذهب فائتنى بنيزك خان ولئن عدت إلى وليس هو معك ضربت عنقك. وأرسل قتيبة معه هدايا وأطعمة فاخرة، فسار الترجمان إلى نيزك حتى أتاه وقدم إليه الأطعمة فوقع عليها أصحابه يتخاطفونها- وكانوا قد أجهدهم الجوع- ثم أعطاه الناصح الأمان وحلف له، فقدم به على قتيبة ومعه سبعمائة أمير من أصحابه ومن أهل بيته جماعة.
وكذلك استأمن قتيبة جماعة من الملوك فأمنهم وولى على بلادهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز أَشْرَافَ الْمَدِينَةِ فَتَلَقَّوْهُ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ فَأُخْلِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، فَلَمْ يَبْقَ بِهِ أَحَدٌ سِوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ أَنْ يُخْرِجَهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ لَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالُوا لَهُ: تَنَحَّ عَنِ الْمَسْجِدِ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْهُ، فَدَخَلَ الْوَلِيدُ الْمَسْجِدَ فَجَعَلَ يَدُورُ فِيهِ يُصَلِّي هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَجَعَلْتُ أَعْدِلُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِ سَعِيدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَرَاهُ، فحانت منه التفاتة فقال: من هذا هو سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المؤمنين، ولو علم بأنك قادم لقام إليك وسلم عليك. فقال: قد علمت بغضه لنا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه وإنه، وشرعت أثنى عليه، وشرع الْوَلِيدُ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ ضَعِيفُ الْبَصَرِ- وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَعْتَذِرَ لَهُ- فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ، فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُمْ لَهُ سَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ الْوَلِيدُ: كَيْفَ الشَّيْخُ؟ فَقَالَ: بِخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه، كَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: الْوَلِيدُ: بِخَيْرٍ وَالْحَمْدُ للَّه وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز: هذا فقيه النَّاسِ. فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ الْوَلِيدُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي الْخُطْبَةِ الأولى وانتصب في الثانية، قال وقال: هكذا خطب عثمان، ثُمَّ انْصَرَفَ فَصَرَفَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَهَبًا كَثِيرًا وَفِضَّةً كَثِيرَةً، ثُمَّ كَسَا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ كُسْوَةً مِنْ كُسْوَةِ الْكَعْبَةِ الَّتِي معه، وهي من ديباج غليظ.

(9/82)


وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ بن سعد بْنِ ثُمَامَةَ،
وَقَدْ حَجَّ بِهِ أَبُوهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمْرُ السَّائِبِ سَبْعَ سِنِينَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَلِهَذَا قال الواقدي: إنه ولد سنة سنة ثلاث من الهجرة، وتوفى سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ سِتٍّ وقيل ثمان وثمانين، فاللَّه أَعْلَمُ.
سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ
صَحَابِيٌّ مَدَنِيٌّ جَلِيلٌ، تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وكان ممن ختمه الحجاج في عنقه هُوَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي يَدِهِ، لِيُذِلَّهُمْ كَيْلَا يَسْمَعَ النَّاسُ مِنْ رَأْيِهِمْ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: لَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ، وَقَدْ قال البخاري وغيره: توفى سنة ثمان وثمانين فاللَّه أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ وَابْنُ أَخِيهِ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَا حُصُونًا كَثِيرَةً وَغَنِمَا شَيْئًا كَثِيرًا وَهَرَبَتْ مِنْهُمُ الرُّومُ إِلَى أَقْصَى بِلَادِهِمْ، وَفِيهَا غَزَا طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ مَوْلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ [بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ فِي اثْنَيْ عشر ألفا، فخرج إليه ملكها أذريقون فِي جَحَافِلِهِ وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَمَعَهُ سَرِيرُ مُلْكِهِ، فَقَاتَلَهُ طَارِقٌ فَهَزَمَهُ وَغَنِمَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ السَّرِيرُ، وَتَمَلَّكَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ بِكَمَالِهَا، قَالَ الذَّهَبِيُّ:
كَانَ طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ أَمِيرَ طَنْجَةَ وَهِيَ أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ نَائِبًا لِمَوْلَاهُ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ] [1] ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ يَسْتَنْجِدُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، فَدَخَلَ طَارِقٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ مِنْ زُقَاقِ سَبْتَةَ وَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ لِكَوْنِ الْفِرِنْجِ قَدِ اقْتَتَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَمْعَنَ طَارِقٌ فِي بِلَادِ الأندلس فافتتح قرطبة وقتل ملكها ادرينوق، وَكَتَبَ إِلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ بِالْفَتْحِ، فَحَسَدَهُ موسى على الانفراد بهذا للفتح، وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُبَشِّرُهُ بِالْفَتْحِ وَيَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَتَبَ إِلَى طَارِقٍ يَتَوَعَّدُهُ لِكَوْنِهِ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ مَكَانَهُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِ مُسْرِعًا بِجُيُوشِهِ فَدَخَلَ الْأَنْدَلُسَ وَمَعَهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيُّ، فَأَقَامَ سِنِينَ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَيَأْخُذُ الْمُدُنَ وَالْأَمْوَالَ، وَيَقْتُلُ الرِّجَالَ وَيَأْسِرُ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، فَغَنِمَ شَيْئًا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ وَلَا يُعَدُّ، مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَالذَّهَبِ والفضة، ومن آنية الذهب والفضة والإناث وَالْخُيُولِ وَالْبِغَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ وَالْمُدُنِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَكَانَ مِمَّا فَتَحَ مَسْلَمَةُ وَابْنُ أَخِيهِ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ حُصُونِ بِلَادِ الرُّومِ حِصْنُ سَوْسَنَةَ وَبَلَغَا إِلَى خَلِيجِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بن مسلم شومان وكش وَنَسَفَ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ فِرْيَابَ فَأَحْرَقَهَا، وَجَهَّزَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى الصُّغْدِ إِلَى طَرْخُونَ خَانَ مَلِكِ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَصَالَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وأعطاه طرخون خان
__________
[1] سقط من المصرية.

(9/83)


أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَقَدِمَ عَلَى أَخِيهِ وَهُوَ ببُخَارَى فَرَجَعَ إِلَى مَرْوَ، وَلَمَّا صَالَحَ طَرْخُونُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَرَحَلَ عَنْهُ اجْتَمَعَتِ الصُّغْدُ وَقَالُوا لِطَرْخُونَ: إِنَّكَ قَدْ بُؤْتَ بِالذُّلِّ، وَأَدَّيْتَ الْجِزْيَةَ، وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيكَ، ثُمَّ عزلوه وولوا عليهم غورك خان- أخاطر خون خَانَ- ثُمَّ إِنَّهُمْ عَصَوْا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ سِجِسْتَانَ يُرِيدُ رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَوَّلِ مَمْلَكَةِ رُتْبِيلَ تَلَقَّتْهُ رُسُلُهُ يُرِيدُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ، خُيُولٍ وَرَقِيقٍ وَنِسَاءٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، يُحْمَلُ ذَلِكَ إليه، فصالحه. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نائب المدينة.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مَالِكُ بْنُ أَوْسِ
بن الحدثان النضري، أبو سعيد المدني، مختلف في صحبته، قال بَعْضُهُمْ: رَكِبَ الْخَيْلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرَأَى أَبَا بَكْرٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالُوا: لَا تَصِحُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فاللَّه أَعْلَمُ.
طُوَيْسٌ الْمُغَنِّي
اسْمُهُ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْمَدَنِيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، كَانَ بَارِعًا فِي صِنَاعَتِهِ، وَكَانَ طَوِيلًا مُضْطَرِبًا أَحْوَلَ الْعَيْنِ، وكان مشئوما، لأنه ولد يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُطِمَ يَوْمَ تُوُفِّيَ الصِّدِّيقُ، وَاحْتَلَمَ يَوْمَ قُتِلَ عُمَرُ، وَتَزَوَّجَ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَوُلِدَ لَهُ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ وُلِدَ لَهُ يَوْمَ قُتِلَ عَلِيٌّ. حَكَاهُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَغَيْرُهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وثمانين سنة بالسويد- وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ-
الْأَخْطَلُ
كَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، فَاقَ أَقْرَانَهُ فِي الشِّعْرِ.