البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وثمانين
فَفِيهَا فَتَحَ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
مَدِينَةَ قَالِيقَلَا وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا غَنَائِمَ
كَثِيرَةً، وَفِيهَا قُتِلَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ، قتله بجير بْنُ
وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ، وَكَانَ بُكَيْرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
الشجعان، ثم ثار لبكير ابن وِشَاحٍ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ
صَعْصَعَةُ بن حرب العوفيّ الصريمى، فقتل بجير بْنَ وَرْقَاءَ الَّذِي
قَتَلَ بُكَيْرًا، طَعْنُهُ بِخِنْجَرٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ
الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ
بِآخِرِ رَمَقٍ، فَبَعَثَ
(9/34)
المهلب بصعصعة إليه، فلما تمكن منه بجير
بْنُ وَرْقَاءَ قَالَ ضَعُوا رَأْسَهُ عِنْدَ رِجْلِي، فوضعوه فطعنه
بجير بِحَرْبَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ وَمَاتَ عَلَى إِثْرِهِ. وَقَدْ
قَالَ لَهُ أَنَسُ بْنُ طَارِقٍ: اعْفُ عَنْهُ فَقَدْ قَتَلْتَ
بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمُوتُ وَهَذَا
حَيٌّ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا قُتِلَ بَعْدَ
مَوْتِهِ فاللَّه أَعْلَمُ.
فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ
سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَوَافَقْنَاهُ فِي
ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ
كَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُ ذَلِكَ وَيُضْمِرُ
لَهُ السُّوءَ وَزَوَالَ الْمُلْكِ عَنْهُ، فَلَمَّا أَمَّرَهُ
الْحَجَّاجُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ،
وَأَمَرَهُ بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَمَضَى
وَصَنَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَخْذِهِ بَعْضَ بِلَادِ التُّرْكِ،
ثُمَّ رَأَى لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُقِيمُوا حَتَّى يَتَقَوَّوْا إِلَى
الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ
إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَسْتَهْجِنُ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَيَسْتَضْعِفُ
عَقْلَهُ وَيَقْرَعُهُ بِالْجُبْنِ وَالنُّكُولِ عَنِ الْحَرْبِ،
وَيَأْمُرُهُ حَتْمًا بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ، ثُمَّ أَرْدَفَ
ذَلِكَ بِكِتَابٍ ثَانٍ ثُمَّ ثَالِثٍ مع البريد، وكتب في جملة ذلك يا
ابن الحائك الغادر المرتد، امض إلى ما أمرتك به من الإيغال في أرض
العدو وإلا حل بك ما لا يطاق.
وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث: ويقول هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الّذي
سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم
بن عقيل حتى قتله، وجده الأشعث ارتد عن الإسلام وما رأيته قط إلا هممت
بقتله، ولما كتب الحجاج إلى ابن الأشعث بذلك وترادفت إليه البرد بذلك،
غضب ابن الأشعث وقال: يكتب إلى بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون من بعض
جندي ولا من بعض خدمي لخوره وضعف قوته؟ أما يذكر أباه من ثقيف هذا
الجبان صاحب غزالة- يعنى أن غزالة زوجة شبيب حملت على الحجاج وجيشه
فانهزموا منها وهي امرأة لما دخلت الكوفة- ثم إن ابن الأشعث جمع رءوس
أهل العراق وقال لهم: إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد
العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم
فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم أما أنا فلست مطيعة ولا أنقض رأيا
رأيته بالأمس، ثم قام فيهم خطيبا فأعلمهم بما كان رأى من الرأى له
ولهم، وطلب في ذلك من إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى
يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون في بلاد العدو
فيفتحونها بلدا بلدا إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك في مدينة العظماء،
ثم أعلمهم بما كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْأَمْرِ
بِمُعَاجَلَةِ رُتْبِيلَ. فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَقَالُوا: لَا
بَلْ نَأْبَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ وَلَا نَسْمَعُ لَهُ
وَلَا نُطِيعُ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ:
فَحَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بن عامر بن وائلة الْكِنَانِيُّ أَنَّ أَبَاهُ
كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ شَاعِرًا خَطِيبًا،
وَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الرَّأْيِ
وَمَثَلَنَا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ لِأَخِيهِ احْمِلْ عَبْدَكَ عَلَى
الْفَرَسِ فَإِنْ
(9/35)
هلك هلك، وإن نجا فلك، أنتم إذا ظَفِرْتُمْ
كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ، وَإِنْ هَلَكْتُمْ كُنْتُمُ
الْأَعْدَاءَ الْبُغَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ
الْحَجَّاجَ- وَلَمْ يَذْكُرْ خَلْعَ عَبْدِ الملك- وبايعوا لأميركم
عبد الرحمن ابن الْأَشْعَثِ فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ
خَالِعٍ لِلْحَجَّاجِ. فَقَالَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: خَلَعْنَا
عَدُوَّ اللَّهِ، وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْأَشْعَثِ فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا
خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ
إلى رتبيل فصالحه على أنه إن ظفروا بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى
رُتْبِيلَ أَبَدًا. ثُمَّ سَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ
الَّذِينَ مَعَهُ مُقْبِلًا مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى الْحَجَّاجِ
لِيُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ العراق، فلما تَوَسَّطُوا الطَّرِيقَ
قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لابن مروان فخلعوهما
وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ فَبَايَعَهُمْ عَلَى
كِتَابِ اللَّهِ وَسِنَةِ رَسُولِهِ وَخَلْعِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ
وَجِهَادِ الملحدين، فَإِذَا قَالُوا نَعَمْ بَايَعَهُمْ. فَلَمَّا
بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا صَنَعُوا مِنْ خَلْعِهِ وَخَلْعِ ابْنِ
مَرْوَانَ، كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ
وَيَسْتَعْجِلُهُ فِي بَعْثِهِ الْجُنُودَ إِلَيْهِ، وَجَاءَ
الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَبَلَغَ الْمُهَلَّبَ خَبَرُ
ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَى
عَلَيْهِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَتَبَ
الْمُهَلَّبُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ يَا ابْنَ
الْأَشْعَثِ قَدْ وَضَعْتَ رَجْلَكَ فِي رِكَابٍ طَوِيلٍ، أَبْقِ عَلَى
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، انظر إلى نفسك فَلَا
تُهْلِكْهَا، وَدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَسْفِكْهَا،
وَالْجَمَاعَةِ فَلَا تُفَرِّقْهَا، وَالْبَيْعَةِ فَلَا تَنْكُثْهَا،
فَإِنْ قُلْتَ أَخَافُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِي فاللَّه أَحَقُّ أَنْ
تَخَافَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تُعَرِّضْهَا للَّه فِي سَفْكِ
الدِّمَاءِ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مُحَرَّمٍ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ
أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْكَ مِثْلَ السَّيْلِ المنحدر
من علو لَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَرَارِهِ،
وإن لأهل العراق شدة فِي أَوَّلِ مَخْرَجِهِمْ، وَصَبَابَةً إِلَى
أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُمْ حَتَّى
يَصِلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ وينبسطوا إلى نسائهم وَيَشَمُّوا
أَوْلَادَهُمْ. ثُمَّ وَاقِعْهُمْ عِنْدَهَا فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ
عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْحَجَّاجُ كِتَابَهُ
قَالَ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ، لَا وَاللَّهِ مَا لِي نَظَرَ
وَلَكِنْ لِابْنِ عمه نصح. ولما وصل البريد بكتاب الْحَجَّاجِ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ هَالَهُ ذَلِكَ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ وَبَعَثَ
إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَأَقْرَأَهُ كِتَابَ
الْحَجَّاجِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَ هَذَا
الْحَدَثُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَخَفْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ
سِجِسْتَانَ فَلَا تَخَفْهُ، ثُمَّ أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي
تَجْهِيزِ الْجُنُودِ مِنَ الشَّامِ إِلَى العراق في نصرة الحجاج
وتجهيزه في الخروج إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَعَصَى رَأْيَ
الْمُهَلَّبِ فِيمَا أشار به عليه، وكان في شوره النُّصْحُ
وَالصِّدْقُ، وَجُعِلَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ صَبَاحًا وَمَسَاءً،
أَيْنَ نَزَلَ وَمِنْ أَيْنَ ارْتَحَلَ، وَأَيُّ النَّاسِ إِلَيْهِ
أَسْرَعُ. وَجَعَلَ النَّاسُ يَلْتَفُّونَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ سَارَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ
وَثَلَاثُونَ أَلْفَ فَارِسٍ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ،
وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُنُودِ الشَّامِ مِنَ الْبَصْرَةِ نَحْوَ
ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَنَزَلَ تُسْتَرَ وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ
مُطَهِّرَ بْنَ حيي الكعبي
(9/36)
أَمِيرًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُمَيْتٍ أَمِيرًا آخَرَ، فَانْتَهَوْا إِلَى
دُجَيْلٍ فَإِذَا مُقَدِّمَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ
فَارِسٍ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانٍ الْحَارِثِيُّ،
فَالْتَقَوْا فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عِنْدَ نَهْرِ دُجَيْلٍ،
فَهُزِمَتْ مُقَدِّمَةُ الْحَجَّاجِ وَقَتَلَ أَصْحَابُ ابْنِ
الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَاحْتَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ خُيُولٍ وَقُمَاشٍ
وَأَمْوَالٍ. وَجَاءَ الْخَبَرُ إلى الحجاج بهزيمة أصحابه وأخذه مَا
دَبَّ وَدَرَجَ.
وَقَدْ كَانَ قَائِمًا يَخْطُبُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْجِعُوا
إِلَى الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ أرفق بالجند، فرجع بالناس وتبعهم خُيُولُ
ابْنِ الْأَشْعَثِ لَا يُدْرِكُونَ مِنْهُمْ شَاذًّا إِلَّا قَتَلُوهُ،
وَلَا فَاذًّا إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَمَضَى الْحَجَّاجُ هَارِبًا لَا
يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ حَتَّى أَتَى الزَّاوِيَةَ فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا
وَجَعَلَ يَقُولُ: للَّه در المهلب أي صاحب حرب هذا، قَدْ أَشَارَ
عَلَيْنَا بِالرَّأْيِ وَلَكِنَّا لَمْ نَقْبَلْ، وَأَنْفَقَ
الْحَجَّاجُ عَلَى جَيْشِهِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَكَانِ مِائَةً
وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ
خَنْدَقًا، وَجَاءَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ
وَاجْتَمَعُوا بِأَهَالِيهِمْ وَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ، وَدَخَلَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ البصرة فخطب الناس بهم وَبَايَعَهُمْ وَبَايَعُوهُ عَلَى
خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنَائِبِهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ،
وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَيْسَ الْحَجَّاجُ بِشَيْءٍ،
وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ لِنُقَاتِلَهُ،
وَوَافَقَهُ عَلَى خَلْعِهِمَا جَمِيعُ من في البصرة مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْقُرَّاءِ وَالشُّيُوخِ وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ، وَكَانَ
ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هذه السنة.
وحج بالناس فيها إسحاق بن عيسى فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو
مَعْشَرٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِيهَا غَزَا
مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ فَافْتَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً،
وَأَرَاضِيَ عَامِرَةً، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ
وَصَلَ إلى الرقاق الْمُنْبَثِقِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ
الْمُحِيطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
بجير بن ورقاء الصريمى
أحد الأشراف بخراسان، والقواد والأمراء الَّذِي حَارَبَ ابْنَ خَازِمٍ
وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ ثُمَّ قُتِلَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
سُوِيدُ بْنُ غَفْلَةَ بْنِ عَوْسَجَةَ بْنِ عَامِرٍ
أَبُو أُمَيَّةَ الْجَعَفِيُّ الْكُوفِيُّ، شَهِدَ الْيَرْمُوكَ
وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ
الْمُخَضْرَمِينَ وَيُقَالُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ وُلِدَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى مَعَهُ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ لَمْ يره، وَقِيلَ إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَهُ بِسَنَتَيْنِ،
وَعَاشَ مِائَةً وعشرين سنة لم ير يوما محتنيا ولا متساندا، وافتض بكرا
عام وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، قَالَهُ أَبُو
عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ
كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الزهاد، والعلماء، وَلَهُ وَصَايَا وَكَلِمَاتٌ
حِسَانٌ، وَقَدْ رَوَى عِدَّةَ أحاديث عن الصحابة وعن خَلْقٌ مِنَ
التَّابِعِينَ
(9/37)
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو الْقَاسِمِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ
بابن الحنفية، وكانت سوداء سندية من بَنِي حَنِيفَةَ اسْمُهَا
خَوْلَةُ. وُلِدَ مُحَمَّدٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
وَقَدْ صَرَعَ مَرْوَانَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ
وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَنَاشَدَهُ مَرْوَانُ باللَّه وَتَذَلَّلَ لَهُ
فَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ذَكَّرَهُ
بِذَلِكَ فَقَالَ عَفْوًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَفَا عَنْهُ
وأجزل له الجائزة، وكان محمد ابن عَلِيٍّ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ،
وَمِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَمِنَ الْأَقْوِيَاءِ
الْمَذْكُورِينَ، وَلَمَّا بُويِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ
يُبَايِعْهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا شَرٌّ عَظِيمٌ حَتَّى هَمَّ ابْنُ
الزُّبَيْرِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، فَلَمَّا
قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَبَايَعَهُ ابْنُ عُمَرَ تَابَعَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقِيلَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بِجَبَلِ رَضْوَى، وَأَنَّهُ حَيٌّ
يُرْزَقُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، وَقَدْ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي
ذَلِكَ
أَلَا إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ ... وُلَاةُ الْحَقِّ
أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ
عَلَيٌّ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ بَنِيهِ ... هُمُ الْأَسْبَاطُ لَيْسَ
بِهِمْ خَفَاءُ
فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمَانٍ وَبِرٍّ ... وَسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ
كَرْبُلَاءُ
وَسِبْطٌ لَا تَرَاهُ الْعَيْنُ حتى ... تعود الخيل يقدمها لواء
ولما هم ابن الزبير بابن الحنفية كتب ابن الحنفية إلى شيعتهم بالكوفة
مع أبى الطفيل واثلة بن الأسقع وعلى الكوفة المختار بن عبيد الله، وقد
كان ابن الزبير جمع لهم حطبا كثيرا على أبوابهم ليحرقهم بالنار، فلما
وصل كتاب ابن الحنفية إلى المختار، وقد كان المختار يدعو إليه ويسميه
المهدي، فبعث المختار أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف فاستنقذوا بنى
هاشم من يدي ابن الزبير. وخرج معهم ابن عباس فمات بالطائف وبقي ابن
الحنفية في شيعته، فأمره ابن الزبير أن يخرج عنه فخرج إلى أرض الشام
بأصحابه وكانوا نحو سبعة آلاف، فلما وصل إلى أيلة كتب إليه عبد الملك:
إما أن تبايعنى وإما أن تخرج من أرضى، فكتب إليه ابن الحنفية: أبايعك
على أن تؤمّن أصحابى، قال نعم فقام ابن الحنفية في أصحابه فحمد الله
وأثنى عليه فقال: الحمد للَّه الّذي حقن دماءكم وأحرز دينكم فمن أحب
منكم أن يأتى مأمنه إلى بلده محفوظا فليفعل، فرحل عنه الناس إلى بلادهم
حتى بقي في سبعمائة رجل، فأحرم بعمرة وقلد هديا وسار نحو مكة، فلما
أراد دخول الحرم بعث إليه ابن الزبير خيلا فمنعه أن يدخل، فأرسل إليه:
إنا لم نأت لحرب ولا لقتال، دعنا ندخل حتى نقضي نسكنا ثم نخرج عنك،
فأبى عليه وكان معه بدن قد قلدها فرجع إلى المدينة فأقام بها محرما حتى
قدم الحجاج وقتل ابن الزبير. فكان ابن الحنفية في تلك المدة محرما،
فلما سار الحجاج إلى العراق مضى ابن الحنفية إلى مكة وقضى نسكه
(9/38)
وذلك بعد عدة سنين، وكان القمل يتناثر منه
في تلك المدة كلها، فلما قضى نسكه رجع إلى المدينة أقام بها حتى مات،
وقيل إن الحجاج لما قتل ابن الزبير بعث إلى ابن الحنفية: قد قتل عدو
الله فبايع، فكتب إليه إذا بايع الناس كلهم بايعت، فقال الحجاج: والله
لأقتلنك، فقال ابن الحنفية:
إن للَّه في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ، في كل نظرة
ثلاثمائة وستون قضية، فلعل الله تعالى أن يجعلني في قضية منها فيكفينيك
فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك فأعجبه قوله وكتب إليه قد عرفنا أن
محمدا ليس عنده خلاف فارفق به فهو يأتيك ويبايعك، وكتب عبد الملك
بكلامه ذلك إن للَّه ثلاثمائة وستين نظرة إلى ملك الروم، وذلك أن ملك
الروم كتب إلى عبد الملك يتهدده بجموع من الجنود لا يطيقها أحد، فكتب
بكلام ابن الحنفية فقال ملك الروم: إن هذا الكلام ليس من كلام عبد
الملك، وإنما خرج من بيت نبوة، ولما اجتمع الناس على بيعة عبد الملك
قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء فبايع، فكتب بيعته إلى عبد الملك
ووفد عليه بعد ذلك.
توفى ابن الحنفية في المحرم بالمدينة وعمره خمس وستون سنة، وكان له من
الولد عبد الله وحمزة وعلى وجعفر الأكبر والحسن وإبراهيم والقاسم وعبد
الرحمن وجعفر الأصغر وعون ورقية، وكلهم لأمهات شتى. وَقَالَ
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَتْ شِيعَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ
يَمُتْ وَفِيهِ يَقُولُ السَّيِّدُ
أَلَا قُلْ لِلْوَصِيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي ... أَطَلْتَ بِذَلِكَ
الْجَبَلِ الْمُقَامَا
أَضَرَّ بِمَعْشَرٍ وَالَوْكَ مِنَّا ... وَسَمَّوْكَ الْخَلِيفَةَ
وَالْإِمَامَا
وَعَادَوْا فِيكَ أَهْلَ الْأَرْضِ طُرًّا ... مَقَامُكَ فيهم سِتِّينَ
عَامَا
وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ ... وَلَا وَارَتْ لَهُ
أَرْضٌ عِظَامَا
لَقَدْ أَمْسَى بِمُورِقِ شِعْبِ رَضْوَى ... تُرَاجِعُهُ
الْمَلَائِكَةُ الْكَلَامَا
وَإِنَّ لَهُ بِهِ لَمَقِيلَ صِدْقٍ ... وَأَنْدِيَةً تُحَدِّثُهُ
كراما
هدانا الله ادخرتم لأمر ... به عليه يلتمس التماما
تمام نوره الْمَهْدِيِّ حَتَّى ... تَرَوْا رَايَاتِهِ تَتْرَى
نِظَامَا
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ إِلَى إِمَامَتِهِ
وَأَنَّهُ يُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا
يَنْتَظِرُ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ
الْعَسْكَرِيَّ، الَّذِي يَخْرُجُ فِي زَعْمِهِمْ مِنْ سِرْدَابِ
سَامَرَّا، وهذا من خرافاتهم وهذيانهم وجهلهم وضلالهم وترهاتهم، وسنزيد
ذلك وضوحا في موضعه وإن شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ
فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ
ابْنِ الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ
لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ توافقوا يَوْمًا
آخَرَ فَحَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ أَحَدُ أُمَرَاءِ أَهْلِ
الشَّامِ عَلَى
(9/39)
مَيْمَنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهَا
وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ فِي هذا اليوم، وخر الحجاج للَّه ساجدا بعد ما كان جثى
عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَسَلَّ شَيْئًا مِنْ سَيْفِهِ وَجَعَلَ
يَتَرَحَّمُ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَقُولُ: مَا كان أكرمه
حتى صَبَرَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ
مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَبُو الطُّفَيْلِ بن عامر بن وائلة
اللَّيْثِيُّ، وَلَمَّا فَرَّ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ رَجَعَ ابن
الأشعث بمن بقي معه ومن تبعه مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَسَارَ حَتَّى
دَخَلَ الْكُوفَةَ فَعَمَدَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عياش بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فَبَايَعُوهُ، فَقَاتَلَ الْحَجَّاجَ خَمْسَ لَيَالٍ
أَشَدَّ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ،
وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَنَابَ
الْحَجَّاجُ عَلَى الْبَصْرَةِ أيوب بن الحكم ابن أَبِي عَقِيلٍ،
وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْكُوفَةَ فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى
خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ وَكَثُرَ مُتَابِعُو ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى ذَلِكَ،
وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ جِدًّا وعظم الخطب،
واتسع الخرق على الراقع.
قال الواقدي: ولما الْتَقَى جَيْشُ الْحَجَّاجِ وَجَيْشُ ابْنِ
الْأَشْعَثِ بِالزَّاوِيَةِ جَعَلَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ يَحْمِلُ
عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَقَالَ الْقُرَّاءُ وَكَانَ
عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ-: أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ
الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بأقبح مِنْكُمْ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ
وَدُنْيَاكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ وَاسْتِذْلَالِهِمُ
الضُّعَفَاءَ وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ حَمَلَتِ الْقُرَّاءُ-
وَهُمُ الْعُلَمَاءُ- عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ حملة صادقة فبرعوا
فِيهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا فَإِذَا هُمْ بِمُقَدَّمِهِمْ جَبَلَةُ بن زحر
صريعا، فهدمهم ذَلِكَ فَنَادَاهُمْ جَيْشُ الْحَجَّاجِ يَا أَعْدَاءَ
اللَّهِ قَدْ قَتَلْنَا طَاغِيَتَكُمْ، ثُمَّ حَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ
الْأَبْرَدِ وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَيْسَرَةِ ابن
الأشعث وعليها الأبرد بن مرة التميمي، فانهزموا ولم يقاتلوا كثيرا
قِتَالٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ
مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ الْأَبْرَدُ شُجَاعًا لَا يَفِرُّ،
وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَامَرَ، فَنُقِضَتِ الصُّفُوفُ وَرَكِبَ
النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يُحَرِّضُ
النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ أَخَذَ
مَنِ اتَّبَعَهُ وَذَهَبَ إِلَى الْكُوفَةِ فبايعه أهلها، ثُمَّ
كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ من هذه السنة.
وقعة دير الجماجم
قال الْوَاقِدِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا قَصَدَ
الْكُوفَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا فَتَلَقَّوْهُ وَحَفَوْا بِهِ
وَدَخَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً
أَرَادَتْ أَنْ تُقَاتِلَهُ دُونَ مَطَرِ بْنِ نَاجِيَةَ نَائِبِ
الْحَجَّاجِ فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَعَدَلُوا إِلَى
الْقَصْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الكوفة أمر
بالسلالم فَنُصِبَتْ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ فَأَخَذَهُ
وَاسْتَنْزَلَ مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَقَالَ لَهُ:
اسْتَبْقِنِي فَإِنِّي خَيْرٌ مِنْ فُرْسَانِكَ، فَحَبَسَهُ ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ فَأَطْلَقَهُ وَبَايَعَهُ وَاسْتَوْثَقَ لِابْنِ
الْأَشْعَثِ أَمْرُ الْكُوفَةِ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَأَمَرَ بِالْمَسَالِحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحُفِظَتِ
(9/40)
الثُّغُورُ وَالطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ رَكِبَ فَيْمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ
الشَّامِيَّةِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْبَرِّ حَتَّى مَرَّ بَيْنَ
الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْعَبَّاسِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنَ
الْمَصْرَيْنِ فَمَنَعُوا الحجاج من دخول الْقَادِسِيَّةِ، فَسَارَ
الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ، وَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ
بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الْبَصْرِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ حَتَّى
نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ، وَمَعَهُ جنود كثيرة، وفيهم القراء
وَخَلْقٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ
يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْعَثِ، أَمَا كَانَ يَزْجُرُ
الطَّيْرَ حَيْثُ رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ دَيْرَ قُرَّةَ، وَنَزَلَ هُوَ
بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ
الْأَشْعَثِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ،
وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، وَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ
فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّامِ، وَخَنْدَقَ
كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلَ جَيْشِهِ
خَنْدَقًا يُمْتَنَعُ بِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّ
النَّاسَ كَانَ يَبْرُزُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ
فيقتتلون قتالا شديدا في كل حين، حَتَّى أُصِيبَ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ
خَلْقٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ
مُدَّةً طَوِيلَةً، وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَةِ
عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كَانَ
أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرْضِيهِمْ مِنْكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمُ
الْحَجَّاجَ فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ،
فَاسْتَحْضَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ
مَرْوَانَ وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، وَمَعَهُمَا جُنُودٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَتَبَ مَعَهُمَا
كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ
يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عنكم عزلته عنكم، وبعثت
عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ، وَلْيَخْتَرِ
ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا
عَاشَ وَعِشْتُ، وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ
مَرْوَانَ، وَقَالَ فِي عَهْدِهِ هَذَا: فَإِنْ لم تجب أَهْلُ
الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ فَالْحَجَّاجُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ
وَإِلَيْهِ إِمْرَةُ الْحَرْبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طاعة الحجاج وَتَحْتَ أَمْرِهِ لَا
يَخْرُجُونَ عَنْ رَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى
أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ عَزْلِهِ إِنْ رَضُوا بِهِ شَقَّ عَلَيْهِ
ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً جِدًّا وَعَظُمَ شَأْنُ هَذَا الرَّأْيِ
عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَاللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَ أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي
عَنْهُمْ لَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يُخَالِفُوكَ
وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ، وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً
عَلَيْكَ، أَلَمْ تَرَ وَتَسْمَعْ بِوُثُوبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ
الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ؟ فَلَمَّا سَأَلَهُمْ
مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا
نَزَعَهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ حَتَّى سَارُوا إِلَيْهِ
فَقَتَلُوهُ؟
وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ، كَانَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا
ارْتَأَيْتَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
قَالَ: فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ
عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا أَمَرَ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ
وَمُحَمَّدٌ فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ،
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ، وَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ،
فَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُوهُ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ
الْخِصَالِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ: وَأَنَا رَسُولُ
(9/41)
أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكُمْ
بِذَلِكَ، فَقَالُوا: نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا غَدًا وَنَرُدُّ
عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ عَشِيَّةً، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَاجْتَمَعَ
جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ فَقَامَ فِيهِمْ
خَطِيبًا وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ
عَزْلِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ وَبَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَإِبْقَاءِ
الْأُعْطِيَّاتِ وَإِمْرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ
بَدَلَ الْحَجَّاجِ، فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَالُوا:
لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ، نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا
وَعُدَدًا، وَهُمْ فِي ضِيقٍ مِنَ الْحَالِ وَقَدْ حَكَّمْنَا
عَلَيْهِمْ وَذَلُّوا لَنَا، وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ
أَبَدًا. ثُمَّ جَدَّدُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ ونائبة ثَانِيَةً،
وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ.
فَلَمَّا بَلَغَ عبد الله بن عبد الملك وعمه محمدا الْخَبَرُ قَالَا
لِلْحَجَّاجِ: شَأْنُكَ بِهِمْ إِذًا، فَنَحْنُ فِي طَاعَتِكَ كَمَا
أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَا إِذَا لَقِيَاهُ سَلَّمَا
عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ وَيُسَلِّمُ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ
بِالْإِمْرَةِ، وَتَوَلَّى الْحَجَّاجُ أَمْرَ الْحَرْبِ
وَتَدْبِيرَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَزَ
كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، فَجَعَلَ
الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمَانَ،
وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ، وَعَلَى
الخليل سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ وَعَلَى الرَّجَّالَةِ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ حَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ. وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ
عَلَى ميمنته الحجاج بن حارثة الجشمي، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ
الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَعَلَى الخيالة عبد الرحمن
ابن عياش بن أبى رَبِيعَةَ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ مُحَمَّدَ بْنَ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ الزُّهْرِيَّ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ
جَبَلَةَ بْنَ زحر بن قيس الجعفي، وكان فيهم سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى
وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ- وَكَانَ شجاعا فاتكا على كبر سنه- وأبو
البحتري الطَّائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَجَعَلُوا يَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ
يَوْمٍ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ مِنَ
الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ، من العلف والطعام، وأما أهل الشام
الذين مع الحجاج فهم في أضيق حال مِنَ الْعَيْشِ، وَقِلَّةٍ مِنَ
الطَّعَامِ، وَقَدْ فَقَدُوا اللَّحْمَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا
يَجِدُونَهُ، وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا
حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ
وَقِتَالِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ،
وَالدَّائِرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي
أَكْثَرِ الْأَيَّامِ. وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ
زِيَادُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَسَرَ بِسْطَامُ بْنُ مِصْقَلَةَ فِي
أَرْبَعَةِ آلَافٍ جُفُونَ سُيُوفِهِمْ وَاسْتَقْتَلُوا وَكَانُوا مِنْ
أَصْحَابِ ابن الأشعث.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي
صُفْرَةَ، وَهُوَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ظَالِمٌ أَبُو
سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ أَحَدُ أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
وَوُجُوهِهِمْ وَدُهَاتِهِمْ وَأَجْوَادِهِمْ وَكُرَمَائِهِمْ، وُلِدَ
عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانُوا يَنْزِلُونَ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ
وَالْبَحْرَيْنِ، وقد ارتد قومه فقالتهم عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ
فَظَفِرَ بِهِمْ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الصِّدِّيقِ وَفِيهِمْ أَبُو
صُفْرَةَ وَابْنُهُ الْمُهَلَّبُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ،
ثُمَّ نَزَلَ الْمُهَلَّبُ الْبَصْرَةَ وَقَدْ غَزَا فِي أَيَّامِ
مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الْهِنْدِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَوَلِيَ
الْجَزِيرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ
وَلِيَ حَرْبَ الْخَوَارِجِ أَوَّلَ دَوْلَةِ الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ
مِنْهُمْ فِي وَقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَمَانَمِائَةٍ،
فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحَجَّاجِ.
وَكَانَ فَاضِلًا شُجَاعًا كَرِيمًا يُحِبُّ الْمَدْحَ، وَلَهُ كَلَامٌ
حَسَنٌ، فَمِنْهُ: نِعْمَ الْخَصْلَةُ السَّخَاءُ تَسْتُرُ عَوْرَةَ
الشَّرِيفِ
(9/42)
وَتَلْحَقُ خَسِيسَةَ الْوَضِيعِ،
وَتُحَبِّبُ الْمَزْهُودَ فِيهِ. وَقَالَ: يُعْجِبُنِي فِي الرَّجُلِ
خَصْلَتَانِ أَنْ أَرَى عَقْلَهُ زَائِدًا عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا
أَرَى لِسَانَهُ زَائِدًا على عقله.
توفى المهلب غازيا بمروالروذ وَعُمْرُهُ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً
رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ لَهُ عَشْرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ وَهُمْ:
يَزِيدُ، وَزِيَادٌ، وَالْمُفَضَّلُ، وَمُدْرِكٌ، وَحَبِيبٌ،
وَالْمُغِيرَةُ، وَقَبِيصَةُ، وَمُحَمَّدٌ، وَهِنْدٌ، وَفَاطِمَةُ.
تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ
الشُّجْعَانِ وَلَهُ مَوَاقِفُ حَمِيدَةٌ، وَغَزَوَاتٌ مَشْهُورَةٌ فِي
التُّرْكِ وَالْأَزَارِقَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الخوارج، وجعل
الأمر من بعده ليزيد بْنِ الْمُهَلَّبِ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ
فَأَمْضَى لَهُ ذلك الحجاج وعبد الملك بن مروان.
[ممن توفى في هذه السنة]
أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي
وكان جوادا ممدحا، حكى أَنَّهُ رَأَى يَوْمًا شَابًّا عَلَى بَابِ
دَارِهِ جَالِسًا فَسَأَلَهُ عَنْ قُعُودِهِ عَلَى بَابِهِ فَقَالَ:
حَاجَةٌ لَا أَسْتَطِيعُ ذِكْرَهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ:
جَارِيَةٌ رَأَيْتُهَا دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ
مِنْهَا وَقَدْ خَطَفَتْ قَلْبِي مَعَهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ
وَأَدْخَلَهُ دَارَهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِ كُلَّ جَارِيَةٍ عِنْدَهُ
حَتَّى مَرَّتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ فَقَالَ: هَذِهِ، فَقَالَ لَهُ:
اخْرُجْ فَاجْلِسْ عَلَى الْبَابِ مَكَانَكَ، فَخَرَجَ الشَّابُّ
فَجَلَسَ مَكَانَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ
وَالْجَارِيَةُ مَعَهُ قَدْ أَلْبَسَهَا أَنْوَاعَ الْحُلِيِّ، وَقَالَ
لَهُ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْكَ وَأَنْتَ دَاخِلَ
الدَّارِ إِلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ لِأُخْتِي، وَكَانَتْ
ضَنِينَةً بِهَا، فَاشْتَرَيْتُهَا لَكَ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ،
وَأَلْبَسْتُهَا هَذَا الْحُلِيَّ، فَهِيَ لَكَ بِمَا عَلَيْهَا،
فَأَخَذَهَا الشَّابُّ وَانْصَرَفَ.
الْمُغِيرَةُ بن المهلب
ابن أَبِي صُفْرَةَ، كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، لَهُ مواقف
مشهورة.
الحارث بن عبد الله
ابن رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ الْمَعْرُوفُ بِقُبَاعٍ، وَلِيَ
إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
كَانَ مِنْ فُضَلَاءِ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَعْقَلِهِمْ،
تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
عَبْدُ اللَّهِ بن أبى طلحة بن أبى الْأَسْوَدِ
وَالِدُ الْفَقِيهِ إِسْحَاقَ حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ
لَيْلَةَ مَاتَ ابْنُهَا فَأَصْبَحَ أَبُو طلحة فأخبر النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم:
«عرستم بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا» . وَلَمَّا وُلِدَ
حَنَّكَهُ بِتَمَرَاتٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، لَهُ روايات، توفى بالمدينة هذه
السنة
.
(9/43)
عفان بْنُ وَهْبٍ
أَبُو أَيْمَنَ الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ
وَرِوَايَةٌ، وَغَزَا الْمَغْرِبَ، وَسَكَنَ مِصْرَ وَبِهَا مات.
جميل بن عبد الله
ابن مَعْمَرِ بْنِ صَبَّاحِ بْنِ ظَبْيَانَ بْنِ الْحَسَنِ بن ربيعة بن
حرام بن ضبة بن عبيد بْنِ كَثِيرِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ هذيم
بن زيد بن ليث بن سرهد بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ.
أَبُو عَمْرٍو الشَّاعِرُ صَاحِبُ بُثَيْنَةَ، كَانَ قَدْ خَطَبَهَا
فَمُنِعَتْ مِنْهُ، فَتَغَزَّلَ فِيهَا وَاشْتَهَرَ بِهَا، وَكَانَ
أَحَدَ عُشَّاقِ الْعَرَبِ، كَانَتْ إِقَامَتُهُ بِوَادِي الْقُرَى،
وكان عفيفا حييا دَيِّنًا شَاعِرًا إِسْلَامِيًّا، مِنْ أَفْصَحِ
الشُّعَرَاءِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ رَاوِيَتَهُ،
وَهُوَ يَرْوِي عن هدبة بن خثرم عَنِ الْحُطَيْئَةِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ
أَبِي سُلْمَى، وَابْنِهِ كَعْبٍ، قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ كَانَ
جَمِيلٌ أشعر العرب حيث يقول: -
وأخبرتمانى أَنَّ تَيْمَاءَ مَنْزِلٌ ... لِلَيْلَى إِذَا مَا
الصَّيْفُ ألقى المراسيا
فهذه شُهُورُ الصَّيْفِ عَنَّا قَدِ انْقَضَتْ ... فَمَا لِلنَّوَى
تَرْمِي بِلَيْلَى الْمَرَامِيَا
وَمِنْهَا قَوْلُهُ
وَمَا زِلْتِ بى يابثن حَتَّى لَوَ انَّنِي ... مِنَ الشَّوْقِ
أَسَتَبْكِي الْحَمَامَ بَكَى لِيَا
وَمَا زَادَنِي الْوَاشُونَ إِلَّا صَبَابَةً ... وَلَا كَثْرَةُ
النَّاهِينَ إِلَّا تَمَادِيَا
وَمَا أَحْدَثَ النأى المفرق بيننا ... سلوّا ولا طول اجتماع
تَقَالِيَا
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَذْبَةَ الرِّيقِ أَنَّنِي ... أَظَلُّ إِذَا
لَمْ أَلْقَ وَجْهَكِ صَادِيَا
لَقَدْ خِفْتُ أَنْ أَلْقَى الْمَنِيَّةَ بَغْتَةً ... وَفِي النَّفْسِ
حاجات إليك كما هيا
وله أيضا
إِنِّي لَأَحْفَظُ غَيْبَكُمْ وَيَسُرُّنِي ... لَوْ تَعْلَمِينَ
بِصَالِحٍ أَنْ تَذْكُرِي
إِلَى أَنْ قَالَ
مَا أَنْتِ وَالْوَعْدُ الَّذِي تَعِدِينَنِي ... إِلَّا كَبَرْقِ
سَحَابَةٍ لَمْ تمطر
وقوله وروى لعمرو:
مَا زِلْتُ أَبْغِي الْحَيَّ أَتْبَعُ فَلَّهُمْ ... حَتَّى دفعت إلى
ربيبة هودج
ابن أبى ربيعة.
فَدَنَوْتُ مُخْتَفِيًا أُلِمُّ بِبَيْتِهَا ... حَتَّى وَلَجْتُ إِلَى
خفي المولج
فيما نقله ابن عساكر
قَالَتْ وَعَيْشِ أَخِي وَنِعْمَةِ وَالِدِي ... لَأُنَبِّهَنَّ
الْحَيَّ إِنْ لَمْ تَخْرُجِ
فَتَنَاوَلَتْ رَأْسِي لِتَعْرِفَ مَسَّهُ ... بِمُخَضَّبِ
الْأَطْرَافِ غَيْرِ مُشَنَّجِ
فَخَرَجْتُ خِيفَةَ أَهْلِهَا فَتَبَسَّمَتْ ... فَعَلِمْتُ أَنَّ
يَمِينَهَا لَمْ تَحَرَّجِ
فَلَثَمْتُ فاها آخذا بقرونها ... فرشفت ريقا باردا متثلج
قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: لَقِيَنِي جَمِيلُ بُثَيْنَةَ فَقَالَ: من
أين أقبلت؟ فقلت: من عنده هذه الحبيبة، فقال وإلى أين؟ فقلت: وإلى
هَذِهِ الْحَبِيبَةِ- يَعْنِي عَزَّةَ- فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ
لَمَا رَجَعْتَ إِلَى بُثَيْنَةَ فَوَاعَدْتَهَا لِي فَإِنَّ لِي مِنْ
أَوَّلِ الصَّيْفِ مَا رَأَيْتُهَا، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِي بِهَا
بِوَادِي الْقُرَى، وَهِيَ تَغْسِلُ هي
(9/44)
وَأُمُّهَا ثَوْبًا فَتَحَادَثْنَا إِلَى
الْغُرُوبِ، قَالَ كُثَيِّرٌ: فَرَجَعْتُ حَتَّى أَنَخْتُ بِهِمْ.
فَقَالَ أَبُو بُثَيْنَةَ: مَا رَدَّكَ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَقُلْتُ:
أَبْيَاتٌ قُلْتُهَا فَرَجَعْتُ لِأَعْرِضَهَا عَلَيْكَ. فَقَالَ:
وَمَا هِيَ؟ فَأَنْشَدْتُهُ وَبُثَيْنَةُ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ
الْحِجَابِ: -
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ أَرْسَلَ صَاحِبِي ... إِلَيْكِ رَسُولًا
وَالرَّسُولُ مُوَكَّلُ
بِأَنْ تَجْعَلِي بَيْنِي وَبَيْنَكِ مَوْعِدًا ... وَأَنْ
تَأْمُرِينِي مَا الَّذِي فِيهِ أَفْعَلُ
وَآخِرُ عَهْدِي مِنْكِ يَوْمَ لَقِيتِنِي ... بِأَسْفَلِ وَادِي
الدَّوْمِ والثوب يغسل
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَقْبَلَتْ بُثَيْنَةُ إِلَى الْمَكَانِ
الَّذِي وَاعَدَتْهُ إِلَيْهِ، وَجَاءَ جَمِيلٌ وَكُنْتُ مَعَهُمْ
فَمَا رَأَيْتُ لَيْلَةً أَعْجَبَ مِنْهَا وَلَا أَحْسَنَ
مُنَادِمَاتٍ، وَانْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ وَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا
أَفْهَمُ لِمَا فِي ضَمِيرِ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ
السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَمِيلٍ وَهُوَ يَمُوتُ فَقَالَ
لَهُ:
مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ قَطُّ، وَلَمْ يَزْنِ
قَطُّ، وَلَمْ يَسْرِقْ وَلَمْ يَقْتُلِ النَّفْسَ وَهُوَ يَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: أَظُنُّهُ قَدْ نَجَا
وَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ، فَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: أنا، فقلت الله: ما
أظنك سلمت وأنت تشبب بالنساء مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، بِبُثَيْنَةَ.
فَقَالَ: لَا نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَإِنِّي لَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ
وَآخَرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِنْ كُنْتُ وَضَعْتُ يَدِي
عَلَيْهَا بِرِيبَةٍ، قَالَ: فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى مَاتَ. قُلْتُ:
كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ فأكرمه وسأله عن حبه بثينة فقال: شديدا،
وَاسْتَنْشَدَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ وَمَدَائِحِهِ فَأَنْشَدَهُ
فَوَعَدَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَعَاجَلَتْهُ
الْمَنِيَّةُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ
آمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ جَمِيلًا قَالَ لَهُ:
هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً إِلَى حَيِّ بُثَيْنَةَ وَلَكَ
مَا عِنْدِي؟ قَالَ نَعَمْ! قَالَ: إذا أنامت فَارْكَبْ نَاقَتِي
وَالْبَسْ حُلَّتِي هَذِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ أَبْيَاتًا مِنْهَا
قَوْلُهُ
قُومِي بُثَيْنَةَ فَانْدُبِي بعويل ... وابكى خَلِيلًا دُونَ كُلِّ
خَلِيلِ
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حيهم أنشد الأبيات فخرجت بثينة كأنها بدرسرى
في جنة وَهِيَ تَتَثَنَّى فِي مَرْطِهَا فَقَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ إِنْ
كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ قَتَلْتَنِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدْ
فَضَحْتَنِي. فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ صَادِقٌ وهذه حلته وناقته،
فلما تحققت ذلك أنشدت أبياتا ترثيه بها وتتأسف عليه فيها، وأنه لا يطيب
لها العيش بعده، ولا خير لها في الحياة بعد فقده، ثم ماتت من ساعتها:
قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً
مِنْ يَوْمئِذٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ بِدِمَشْقَ: لَوْ
تَرَكْتَ الشِّعْرَ وَحَفِظْتَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: هَذَا أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةً»
(9/45)
عمر بن عبيد الله
ابن مَعْمَرِ بْنِ عُثْمَانَ أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ التَّمِيمِيُّ
أَحَدُ الْأَجْوَادِ وَالْأُمَرَاءِ الْأَمْجَادِ، فُتِحَتْ عَلَى
يَدَيْهِ بُلْدَانٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ نَائِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ
عَلَى الْبَصْرَةِ، وَقَدْ فَتَحَ كَابُلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَازِمٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ قُطْرِيَّ بْنَ الفجاءة، وروى عن ابن
عمر وجابر وغيرهما، وعن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَابْنُ عَوْنٍ،
وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ. قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ. وَحُكِيَ أَنَّ
رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً كَانَتْ تُحْسِنُ الْقُرْآنَ وَالشِّعْرَ
وَغَيْرَهُ فَأَحَبَّهَا حُبًّا شَدِيدًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مَالَهُ
كُلَّهُ حَتَّى أَفْلَسَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ سِوَى هَذِهِ
الْجَارِيَةِ، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: قَدْ أَرَى مَا بِكَ مِنْ
قِلَّةِ الشَّيْءِ. فَلَوْ بِعْتَنِي وَانْتَفَعْتَ بِثَمَنِي صَلُحَ
حَالُكَ، فَبَاعَهَا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا- وَهُوَ
يَوْمئِذٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ- بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا
قَبَضَ الْمَالَ نَدِمَ وَنَدِمَتِ الجارية، فأشارت تخاطب سيدها بأبيات
شعر وهي: -
هَنِيئًا لَكَ الْمَالُ الَّذِي قَدْ أَخَذْتَهُ ... وَلَمْ يَبْقَ فِي
كَفِّي إِلَّا تَفَكُّرِي
أَقُولُ لِنَفْسِي وهي في كرب عيشة ... أَقَلِّي فَقَدْ بَانَ
الْخَلِيطُ أَوْ أَكْثَرِي
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ عِنْدَكِ حِيلَةٌ ... وَلَمْ تَجِدِي
بُدًّا مِنَ الصَّبْرِ فَاصْبِرِي
فَأَجَابَهَا سَيِّدُهَا فَقَالَ: -
وَلَوْلَا قُعُودُ الدَّهْرِ بِي عَنْكِ لَمْ يكن ... لفرقتنا شيء سوى
الموت فاصبرى
أَءُوبُ بِحُزْنٍ مِنْ فِرَاقِكِ مُوجِعٍ ... أُنَاجِي بِهِ قَلْبًا
طَوِيلَ التَّذَكُّرِ
عَلَيْكِ سَلَامٌ لَا زِيَارَةَ بَيْنَنَا ... وَلَا وَصْلَ إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ ابْنُ مَعْمَرِ
فَلَمَّا سَمِعَهُمَا ابْنُ مَعْمَرٍ قَدْ شَبَّبَتْ قَالَ: وَاللَّهِ
لَا فَرَقْتُ بَيْنَ مُحِبَّيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ الْمَالَ-
وَهُوَ مِائَةُ أَلْفٍ- وَالْجَارِيَةَ لَمَّا رَأَى مِنْ
تَوَجُّعِهِمَا عَلَى فِرَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَأَخَذَ
الرِّجْلُ الْجَارِيَةَ وَثَمَنَهَا وَانْطَلَقَ. تُوُفِّيَ عُمَرُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ هَذَا بِدِمَشْقَ بِالطَّاعُونِ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَمَشَى فِي
جِنَازَتِهِ وَحَضَرَ دَفْنَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ،
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ طَلْحَةُ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ
تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ
عَلَى صَدَاقٍ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَوْلَدَهَا
إِبْرَاهِيمَ وَرَمْلَةَ، فَتَزَوَّجَ رَمْلَةَ إِسْمَاعِيلُ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
كُمَيْلُ بْنُ زِيَادِ
ابن نهيك بن خيثم النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ. رَوَى عَنْ عُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَشَهِدَ
مَعَ عَلَيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا، وَزَاهِدًا
عَابِدًا، قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ عَاشَ
مِائَةَ سَنَةٍ قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَمَ
عَلَيْهِ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقِصَاصَ
مِنْ لَطْمَةٍ لَطَمَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ عُثْمَانُ مِنْ
نَفْسِهِ عَفَا عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَوَ مِثْلُكَ
يَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ القصاص؟
(9/46)
ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ،
قَالُوا: وَذَكَرَ الْحَجَّاجُ عَلِيًّا فِي غُبُونِ ذَلِكَ فَنَالَ
مِنْهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ كُمَيْلٌ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ:
وَاللَّهِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكَ مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا أَكْثَرَ
مِمَّا تُحِبُّهُ أَنْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنَ أَدْهَمَ، وَكَانَ
مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَيُقَالُ أَبَا الْجَهْمِ بْنَ كِنَانَةَ
فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْ كُمَيْلٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ التَّابِعِينَ وَلَهُ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ الَّذِي أَوَّلُهُ «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا
أَوْعَاهَا» وَهُوَ طَوِيلٌ قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ
الثِّقَاتِ وَفِيهِ مَوَاعِظُ وَكَلَامٌ حسن رضى الله عن قائله.
ذاذان أَبُو عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ
أَحَدُ التَّابِعِينَ كَانَ أَوَّلًا يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَضْرِبُ
بِالطُّنْبُورِ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ التَّوْبَةَ على يد عبد الله ابن
مَسْعُودٍ وَحَصَلَتْ لَهُ إِنَابَةٌ وَرُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ،
وَخَشْيَةٌ شَدِيدَةٌ، حَتَّى كَانَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ خشبة.
قَالَ خَلِيفَةُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أَحَدُ
أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ
مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ
إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ ترجمة (شقيق بْنُ
سَلَمَةَ) أَبُو وَائِلٍ، أَدْرَكَ مِنْ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ سَبْعَ
سِنِينَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
أُمُّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى
اسْمُهَا هُجَيْمَةُ وَيُقَالُ جُهَيْمَةُ تَابِعِيَّةٌ عَابِدَةٌ
عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ كَانَ الرِّجَالُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهَا
وَيَتَفَقَّهُونَ فِي الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ بِجَامِعِ دِمَشْقَ،
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَتِهَا
مَعَ الْمُتَفَقِّهَةِ يَشْتَغِلُ عَلَيْهَا وَهُوَ خَلِيفَةٌ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالنَّاسُ مُتَوَاقِفُونَ لِقِتَالِ
الْحَجَّاجِ وَأَصْحَابِهِ بِدَيْرِ قُرَّةَ، وَابْنُ الْأَشْعَثِ
وَأَصْحَابُهُ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ، وَالْمُبَارَزَةُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَاقِعَةٌ، وَفِي غَالِبِ الْأَيَّامِ تَكُونُ
النُّصْرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى قِيلَ
إِنَّ أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ كَسَرُوا
أَهْلَ الشَّامِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ
مَرَّةً يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَالْحَجَّاجُ ثَابِتٌ
فِي مَكَانِهِ صَابِرٌ وَمُصَابِرٌ لَا يَتَزَحْزَحُ عَنْ مَوْضِعِهِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ لَهُ ظَفَرٌ فِي يَوْمٍ مِنَ
الْأَيَّامِ يَتَقَدَّمُ بِجَيْشِهِ إلى نحو عَدُّوِهِ، وَكَانَ لَهُ
خِبْرَةٌ بِالْحَرْبِ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ
حَتَّى أَمَرَ بِالْحَمْلَةِ عَلَى كَتِيبَةِ الْقُرَّاءِ، لِأَنَّ
النَّاسَ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَهُمْ
عَلَى الْقِتَالِ وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَصَبَرَ الْقُرَّاءُ
لِحَمْلَةِ جَيْشِهِ، ثُمَّ جَمَعَ الرُّمَاةَ مِنْ جَيْشِهِ وَحَمَلَ
بِهِمْ، وَمَا انْفَكَّ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
ثُمَّ حَمَلَ على ابن الأشعث وعلى من معه من الجيش فَانْهَزَمَ
أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَذَهَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَهَرَبَ
ابْنُ الْأَشْعَثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَعَهُ فَلٌّ قَلِيلٌ مِنَ
النَّاسِ، فَأَتْبَعُهُ الْحَجَّاجُ جَيْشًا كثيفا مع عمارة بن غنم
اللَّخْمِيِّ وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَالْإِمْرَةُ
لِعِمَارَةَ، فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ يَطْرُدُونَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَظْفَرُونَ بِهِ قَتْلًا أَوْ أَسْرًا، فَمَا زَالَ يَسُوقُ
وَيَخْتَرِقُ الْأَقَالِيمَ
(9/47)
وَالْكُورَ وَالرَّسَاتِيقَ، وَهُمْ فِي
أَثَرِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَرْمَانَ، وَاتَّبَعَهُ الشَّامِيُّونَ
فَنَزَلُوا فِي قَصْرٍ كَانَ فِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَبْلَهُمْ،
فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ قَدْ كَتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ
أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِينَ فَرُّوا مَعَهُ مَنْ شعر أبى
خلدة الْيَشْكُرِيِّ يَقُولُ:
أَيَا لَهَفَا وَيَا حُزْنَا جَمِيعًا ... وَيَا حَرَّ الْفُؤَادِ
لِمَا لَقِينَا
تَرَكْنَا الدِّينَ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا ... وَأَسْلَمْنَا
الْحَلَائِلَ وَالْبَنِينَا
فَمَا كُنَّا أناسا أهل دينا ... فَنَمْنَعُهَا وَلَوْ لَمْ نَرْجُ
دِينًا
تَرَكْنَا دَوْرَنَا لِطَغَامِ عَكٍّ ... وَأَنْبَاطِ الْقُرَى
وَالْأَشْعَرِينَا
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ دَخَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْفَلِّ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَأَكْرَمَهُ
رُتْبِيلُ وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ وَأَمَّنَهُ وَعَظَّمَهُ قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَمَرَّ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى
بِلَادِ رُتْبِيلَ عَلَى عَامِلٍ لَهُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ كَانَ
ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ رُجُوعِهِ
إِلَى الْعِرَاقِ، فَأَكْرَمَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ وَأَهْدَى إِلَيْهِ
هَدَايَا وَأَنْزَلَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً بِهِ وَمَكْرًا،
وَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ إِلَى عِنْدِي إِلَى الْبَلَدِ لِتَتَحَصَّنَ
بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ وَلَكِنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ
يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
الْمَكْرَ بِهِ، فَمَنْعَهُ أَصْحَابُهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ،
فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَثَبَ
عَلَيْهِ الْعَامِلُ فَمَسَكَهُ وَأَوْثَقَهُ بِالْحَدِيدِ وَأَرَادَ
أَنْ يَتَّخِذَ بِهِ يَدًا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ
رُتْبِيلَ سُرَّ بِقُدُومِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا
حَدَثَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِلِ بِمَدِينَةِ بُسْتَ، سَارَ
حَتَّى أَحَاطَ بِبُسْتَ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَامِلِهَا يَقُولُ لَهُ:
وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى
أَسَتَنْزِلُكَ وَأَقْتُلُ جَمِيعَ مَنْ فِي بَلَدِكَ، فَخَافَهُ
ذَلِكَ الْعَامِلُ وَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ فَأَكْرَمَهُ
رُتْبِيلُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ لرُتْبِيلَ: إِنَّ هَذَا
الْعَامِلَ كَانَ عَامِلِي وَمِنْ جِهَتِي، فَغَدَرَ بِي وَفَعَلَ مَا
رَأَيْتَ، فَأْذَنْ لِي فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: قَدْ أَمَّنْتُهُ.
وَكَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عياش ابن أبى
رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ هو الّذي
يصلى بالناس لك فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ
الْفَلِّ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا وَسَارُوا
وَرَاءَ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِيُدْرِكُوهُ فَيَكُونُوا مَعَهُ- وَهُمْ
قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا- فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سِجِسْتَانَ
وَجَدُوا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ دَخَلَ إِلَى عِنْدِ رُتْبِيلَ
فَتَغَلَّبُوا عَلَى سِجِسْتَانَ وَعَذَّبُوا عَامِلَهَا عبد الله بن
عامر النعار وإخوته وقرابته، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَانْتَشَرُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَخَذُوهَا،
ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا
حَتَّى نَكُونَ مَعَكَ نَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ، وَنَأْخُذُ
بِلَادَ خراسان، فان بها جندا ومنعة كثيرة مِنَّا، فَنَكُونُ بِهَا
حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ أَوْ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَنَرَى
بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْنَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ
وَسَارَ بِهِمْ قَلِيلًا إِلَى نَحْوِ خُرَاسَانَ فَاعْتَزَلَهُ
شِرْذِمَةٌ مِنْ أَهْلِ العراق مع عبيد الله بْنِ سَمُرَةَ، فَقَامَ
فِيهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ
(9/48)
خَطِيبًا فَذَكَرَ غَدْرَهُمْ
وَنُكُولَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِكُمْ،
وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى صَاحِبِي رُتْبِيلَ فَأَكُونُ عِنْدَهُ. ثُمَّ
انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَبَقِيَ مُعْظَمُ
الْجَيْشِ. فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَايَعُوا
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن عياش بن أبى رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيَّ، وَسَارُوا
مَعَهُ إِلَى خُرَاسَانَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُهَا يَزِيدُ بْنُ
الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صفرة، فمنعهم من دخول بلاده، وكتب إلى عبد
الرحمن بن عياش يَقُولُ لَهُ: إِنَّ فِي الْبِلَادِ مُتَّسَعًا
فَاذْهَبْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ بِهَا سُلْطَانٌ فَإِنِّي أَكْرَهُ
قِتَالَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا بَعَثْتُ إِلَيْكَ. فقال له:
إنا لم نجيء لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جِئْنَا نَسْتَرِيحُ
وَنُرِيحُ خَيْلَنَا ثم نذهب وليست بنا حاجة إلى شيء مِمَّا عَرَضْتَ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِمَّا
حَوْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ مِنْ كور خراسان، فخرج إليه يزيد بن الملهب
وَمَعَهُ أَخُوهُ الْمُفَضَّلُ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ، فَلَمَّا
صَادَفُوهُمُ اقْتَتَلُوا غَيْرَ كَثِيرٍ ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ
عبد الرحمن بن عياش، وقتل يزيد منهم مقتلة كبيرة، واحتاز ما في معسكره،
وَبَعَثَ بِالْأُسَارَى وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَاصٍّ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَيُقَالُ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ
قَالَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ: أَسْأَلُكَ بِدَعْوَةِ أَبِي
لِأَبِيكَ لَمَا أَطْلَقْتَنِي، فَأَطْلَقَهُ.
قَالَ ابن جَرِيرٍ: وَلِهَذَا الْكَلَامِ خَبَرٌ فِيهِ طُولٌ، وَلَمَّا
قَدِمَتِ الْأُسَارَى عَلَى الْحَجَّاجِ قَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَعَفَا
عَنْ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ ظَهَرَ على ابن
الأشعث نَادَى مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ: مَنْ رَجَعَ فَهُوَ آمن ومن
لحق بمسلم بن قتيبة بالري فهو آمن، فلحق بمسلم خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ
كَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَأَمَّنَهُمُ الْحَجَّاجُ، وَمَنْ لَمْ
يَلْحَقْ بِهِ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِهِمْ، فَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا حتى كان آخر من قتل منهم سعيد بْنُ جُبَيْرٍ
عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَكَانَ الشعبي من جملة من صار إلى مسلم
بن قتيبة فذكره الحجاج يوما فقيل له: إنه سار إلى مسلم بن قتيبة، فكتب
إلى مسلم: أن ابعث لي بِالشَّعْبِيِّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَمَّا
دَخَلْتُ عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ ثُمَّ قُلْتُ:
أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَمَرُونِي أَنْ أَعْتَذِرَ
إِلَيْكَ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَايْمُ
اللَّهِ لَا أَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا الْحَقَّ كائنا في
ذلك ما كان، قد والله تمردنا عليك، وخرجنا وَجَهَدْنَا كُلَّ الْجَهْدِ
فَمَا آلَوْنَا، فَمَا كُنَّا بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ، وَلَا
بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ، وَلَقَدْ نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا
وَأَظْفَرَكَ بِنَا فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا وَمَا جَرَّتْ
إِلَيْكَ أَيْدِينَا، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فبحلمك، وبعد فلك الحجة
عَلَيْنَا.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَنْتَ وَاللَّهِ يَا شَعْبِيُّ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ دِمَائِنَا ثُمَّ
يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ، قَدْ أَمِنْتَ عِنْدَنَا يَا
شَعْبِيُّ. قَالَ: فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا مَشَيْتُ قَلِيلًا قَالَ:
هَلُمَّ يَا شَعْبِيُّ، قَالَ:
فَوَجَلَ لِذَلِكَ قَلْبِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ قَدْ أَمِنْتَ يَا
شَعْبِيُّ فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي، فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ
بَعْدَنَا يَا شَعْبِيُّ؟ - قال: وكان لي مكرما قبل الخروج عليه-
فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، قَدِ اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ
السهر، واستوعرت السهل، وَاسْتَوْخَمْتُ الْجَنَابَ، وَاسْتَحْلَسْتُ
الْخَوْفَ، وَاسْتَحْلَيْتُ الْهَمَّ،
(9/49)
وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ
أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ خلفا. قال انصرف يا شعبى، فانصرفت. ذكر ذلك ابن
جرير وغيره. ورواه أبو مخنف عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عَنِ
الشَّعْبِيِّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ مسألة في الفرائض وهي أم
زوج وَأُخْتٌ وَمَا كَانَ يَقُولُهُ فِيهَا الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ
وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ
قَوْلٌ فِيهَا، فَنَقَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ الشَّعْبِيُّ فِي ساعة
فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَ عَلِيٍّ وَحَكَمَ بِقَوْلِ عُثْمَانَ، وَأُطْلِقَ
الشَّعْبِيُّ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ
خَمْسَةَ آلَافِ أَسِيرٍ مِمَّنْ سَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ
الْمُهَلَّبِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ
فَدَخَلَهَا فَجَعَلَ لَا يُبَايِعُ أَحَدًا من أهلها إلا قال: اشهد
عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ قَدْ كَفَرْتَ، فَإِذَا قَالَ نَعَمْ
بَايَعَهُ، وَإِنْ أَبَى قَتَلَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا
مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ، قَالَ
فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: مَا أَظُنُّ هَذَا يَشْهَدُ
عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ- وَأَرَادَ
الْحَجَّاجُ مُخَادَعَتَهُ- فَقَالَ: أَخَادِعِي أَنْتَ عَنْ نَفْسِي؟
أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وأكفر من فرعون وهامان ونمروذ. قَالَ:
فَضَحِكَ الْحَجَّاجُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ أَنَّ أَعْشَى
هَمْدَانَ أُتِيَ بِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ- وَكَانَ قَدْ عَمِلَ
قَصِيدَةً هَجَا فِيهَا الْحَجَّاجَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ
وَيَمْدَحُ فِيهَا ابْنَ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ- فَاسْتَنْشَدَهُ
إِيَّاهَا فَأَنْشُدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً دَالِيَّةً، فِيهَا مَدْحٌ
كَثِيرٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَجَعَلَ أَهْلُ
الشَّامِ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَقَالَ
الْحَجَّاجُ: إِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ، إِنَّمَا يَقُولُ هَذَا
مُصَانَعَةٌ، ثُمَّ أَلَحَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْشُدَهُ قَصِيدَتَهُ
الْأُخْرَى، فَلَمَّا أَنْشَدَهَا غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ
وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَاسْمُ
الْأَعْشَى هَذَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ أَبُو الْمُصْبِحِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ الشَّاعِرُ،
أَحَدُ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ
فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ فِي مُبْتَدَئِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ
عَلَى الشِّعْرِ فَعُرِفَ بِهِ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ
بَشِيرٍ وَهُوَ أَمِيرٌ بِحِمْصَ فَامْتَدَحَهُ، وَكَانَ مَحْصُولُهُ
فِي رِحْلَتِهِ إِلَيْهِ مِنْهُ وَمِنْ جُنْدِ حِمْصَ أَرْبَعِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ زَوْجَ أُخْتِ الشَّعْبِيِّ، كَمَا أَنَّ
الشَّعْبِيَّ كَانَ زَوْجَ أُخْتِهِ أَيْضًا، وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ
مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَتَلَهُ الْحَجَّاجُ كَمَا ذَكَرْنَا
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ وَهُوَ مُوَاقِفٌ لِابْنِ الْأَشْعَثِ بَعَثَ
كَمِينًا يَأْتُونَ جَيْشَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ
تَوَاقَفَ الْحَجَّاجُ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَهَرَبَ الْحَجَّاجُ
بِمَنْ مَعَهُ وَتَرَكَ مُعَسْكَرَهُ، فَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ
فَاحْتَازَ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ وَبَاتَ فِيهِ، فَجَاءَتِ
السَّرِيَّةُ إِلَيْهِمْ لَيْلًا وَقَدْ وَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ
فَمَالُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَرَجَعَ الْحَجَّاجُ
بِأَصْحَابِهِ فَأَحَاطُوا بِهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا،
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَغَرِقَ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ
إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَقَتَلَ مَنْ وَجَدَهُ فِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ
وَالْأَعْيَانِ، وَاحْتَازُوهُ بِكَمَالِهِ، وَانْطَلَقَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ هَارِبًا فِي ثَلَاثمِائَةٍ فَرَكِبُوا دُجَيْلًا فِي
السُّفُنِ وَعَقَرُوا دَوَابَّهُمْ وَجَازَوْا إلى البصرة، ثم ساروا من
هنالك
(9/50)
إلى بلاد الترك، وكان في دخوله بلاد رتبيل
ما تقدم، ثُمَّ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِ أَصْحَابِ ابْنِ
الأشعث فجعل يقتلهم مَثْنَى وَفُرَادَى، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ قَتَلَ
مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ
أَلْفًا، قاله النضر ابن شُمَيْلٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ،
مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَجَمَاعَاتٌ
مِنَ السادات الأخيار، والعلماء الأبرار، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ
سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَمَا
سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
بِنَاءُ وَاسِطٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنِي الحجاج واسط،
وَكَانَ سَبَبَ بِنَائِهِ لَهَا أَنَّهُ رَأَى رَاهِبًا عَلَى أَتَانٍ
قَدْ أَجَازَ دِجْلَةَ، فَلَمَّا مَرَّ بِمَوْضِعِ وَاسِطٍ وَقَفَتْ
أَتَانُهُ فَبَالَتْ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَعَمَدَ إِلَى مَوْضِعِ
بَوْلِهَا فَاحْتَفَرَهُ وَرَمَى بِهِ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ
الْحَجَّاجُ: عَلَيَّ بِهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ صَنَعْتَ
هَذَا؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ يُبْنَى فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ مَسْجِدٌ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ
أَحَدٌ يُوَحِّدُهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَطَّ الْحَجَّاجُ مَدِينَةَ
وَاسِطٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ فِي ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ عَطَاءِ بْنِ رَافِعٍ
صَقَلِّيَةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جحيرة
الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ أَمِيرُ مِصْرَ قَدْ جَمَعَ
لَهُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَصَصِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ
رِزْقُهُ فِي الْعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ مِنْهَا
شَيْئًا.
طَارِقُ بْنُ شهاب
ابن عَبْدِ شَمْسٍ الْأَحْمَسِيُّ مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَا فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ
وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ غَزَاةً،
تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عدي
ابن الْخِيَارِ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وحدث عن جماعة من الصحابة عبد الله بن قيس ابن مخرمة، كان
قاضى المدينة. وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ قُرَيْشٍ وَعُلَمَائِهِمْ
وَأَبُوهُ عَدِيٌّ ممن قتل يوم بدر كافرا وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْخَيْرِ الْيَزْنِيُّ.
وَفِيهَا فُقِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ
كَانُوا مَعَ الْأَشْعَثِ، مِنْهُمْ مَنْ هَرَبَ وَمِنْهُمْ مَنْ
قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ فَضَرَبَ
الْحَجَّاجُ عُنُقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَبَّعَهُ الْحَجَّاجُ حَتَّى
قَتَلَهُ، وَقَدْ سَمَّى مِنْهُمْ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ طَائِفَةً
مِنَ الْأَعْيَانِ، فَمِنْهُمْ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ،
وَأَبُو مَرَّانَةَ الْعِجْلِيُّ قُتِلَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ
الغفار قتل، وعقبة بن وشاح قتل، وعبد الله بن خالد الْجَهْضَمِيُّ
قُتِلَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ الرَّبَعِيُّ قُتِلَ، وَالنَّضِرُ بن
أنس، وعمران والد أبى حمزة الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو الْمِنْهَالِ
سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ الرِّيَاحِيُّ، ومالك بن دينار، ومرة بن ذباب
الهدادى وأبو نجيد الجهضمي، وأبو سبيج الْهَنَائِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ
أَبِي الْحَسَنِ، وَأَخُوهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ أَيُّوبُ:
(9/51)
قِيلَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنْ
أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَمَا قُتِلُوا حَوْلَ
هَوْدَجِ عَائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَأَخْرِجِ الْحَسَنَ مَعَكَ،
فَأَخْرَجَهُ. وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
شَدَّادٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَطَلْحَةُ بْنُ
مُصَرِّفِ، وَزُبَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيَّانِ، وَعَطَاءُ بْنُ
السائب. قال أيوب: فما منهم صُرِعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَّا
رَغِبَ عَنْ مَصْرَعِهِ، وَلَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا حَمِدَ
اللَّهَ الَّذِي سَلَّمَهُ. وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ قَتَلَ الْحَجَّاجُ
عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الضُّبَعِيُّ، وَالِدُ أَبِي حجزة، كَانَ مِنْ
عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ صَالِحًا عَابِدًا، أُتِيَ بِهِ
أَسِيرًا إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ لَهُ: اشْهَدْ عَلَى نَفْسِكَ
بِالْكُفْرِ حَتَّى أُطْلِقَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي مَا
كَفَرْتُ باللَّه مُنْذُ آمنت به، فأمر به فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ، وَلِأَبِيهِ أَبِي لَيْلَى صُحْبَةٌ. أَخَذَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، خَرَجَ مَعَ
ابْنِ الأشعث فأتى به الحجاج فَضُرِبَ عُنُقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
صَبْرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِيهَا افْتَتَحَ عبد الله بن عبد الملك
الْمِصِّيصَةَ، وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ
أَرْمِينِيَّةَ فقتل منهم خلقا وصرف كَنَائِسَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ
وَتُسَمَّى سَنَةَ الْحَرِيقِ، وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الحجاج على فارس
محمد ابن الْقَاسِمِ الثَّقَفِيَّ، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ الْأَكْرَادِ.
وَفِيهَا وَلَّى عبد الملك الإسكندرية عياض بن غنم البجينى وَعَزَلَ
عَنْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي الْكَنُودِ الَّذِي كَانَ قَدْ
وَلِيَهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي. وَفِيهَا افْتَتَحَ مُوسَى بْنُ
نُصَيْرٍ طَائِفَةً مِنْ بلاد المغرب من ذلك بلد أرومة، وَقَتَلَ مِنْ
أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا جِدًّا، وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ
أَلْفًا.
وَفِيهَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ أيضا جماعة من أَصْحَابِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ،
مِنْهُمْ: أَيُّوبُ بْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا وَاعِظًا، قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ. وَهُوَ أيوب بن
زيد ابن قَيْسٍ أَبُو سُلَيْمَانَ الْهِلَالِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْقِرِّيَّةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ.
وَسَعْدُ بن إياس الشيباني، وأبو غنينما الْخَوْلَانِيُّ. لَهُ
صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، سَكَنَ حِمْصَ وَبِهَا تُوُفِّيَ وَقَدْ قَارَبَ
الْمِائَةَ سَنَةٍ. عَبْدُ اللَّهِ ابن قتادة، وغير هؤلاء جماعة منهم
من قتلهم الْحَجَّاجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُوُفِّيَ. أَبُو زُرْعَةَ
الْجُذَامِيُّ الْفِلَسْطِينِيُّ، كَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ
الشَّامِ، فَخَافَ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبُو
زُرْعَةَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَهْدِمْ رُكْنًا
بَنَيْتَهُ، وَلَا تُحْزِنُ صَاحِبًا سَرَرْتَهُ، وَلَا تُشْمِتْ
عَدُوًّا كَبَتَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ مُعَاوِيَةُ.
وَفِيهَا توفى عتبة بن منذر السلمي صحابى جليل، كان يعد في أهل الصفة.
عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الْخَارِجِيُّ، كَانَ أَوَّلًا مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْخَوَارِجِ
حَسَنَةً جَمِيلَةً جِدًّا فَأَحَبَّهَا، وَكَانَ هُوَ دَمِيمَ
الشَّكْلِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى السُّنَّةِ فَأَبَتْ
فَارْتَدَّ مَعَهَا إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنَ الشعراء
(9/52)
المفلقين، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَتْلِ
عَلِيٍّ وَقَاتِلِهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ
مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا
إِنِّي لَأَذْكُرهُ يوما فأحسبه ... أو في الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ
مِيزَانَا
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُونُ الطَّيْرِ قَبْرُهُمُ ... لَمْ يَخْلِطُوا
دِينَهُمُ بَغْيًا وَعُدْوَانَا
وَقَدْ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِهِ هَذِهِ فِي
الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ قَوْلُهُ: -
أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُونَهَا ... عَلَى أَنَّهُمْ
فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ
قَلِيلٍ تَقَشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضَوْا حَاجَاتِهِمْ وَتَرَّحَلُوا ... طَرِيقَهُمُ بَادِي
الْعَلَامَةِ مَهْيَعُ
مَاتَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ. وَقَدْ
رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَبْيَاتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ
فِي قَتْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبْيَاتٍ عَلَى
قَافِيَتِهَا وَوَزْنِهَا:
بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ
مِنْ ذِي الْعَرْشِ خُسْرَانَا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ ... أَشْقَى الْبَرِيَّةِ
عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا
رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ
كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَسْتَشِيرُهُ
فِي أُمُورِهِ.
وَفِيهَا كَانَ مَهْلِكُ عَبْدُ الرحمن بن الأشعث الْكِنْدِيُّ وَقِيلَ
فِي الَّتِي بَعْدَهَا فاللَّه أَعْلَمُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ
كَتَبَ إِلَى رُتْبِيلَ مَلِكِ الترك الّذي لجأ إليه ابن الأشعث
يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ لَمْ
تَبْعَثْ إِلَيَّ بِابْنِ الْأَشْعَثِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَى بِلَادِكَ
أَلْفَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَلِأُخَرِّبَنَّهَا. فَلَمَّا تَحَقَّقَ
الْوَعِيدُ مِنَ الْحَجَّاجِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ
الْأُمَرَاءِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ ابْنِ الْأَشْعَثِ
إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُخَرِّبَ الْحَجَّاجُ دِيَارَهُ وَيَأْخُذَ
عَامَّةَ أَمْصَارِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْتَرِطُ
عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ فِي
كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا إِلَّا مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الْخَرَاجِ،
فَأَجَابَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ إِنَّ الْحَجَّاجَ
وَعْدَهُ أَنْ يُطْلِقَ لَهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ سَبْعَ سِنِينَ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ غَدَرَ رُتْبِيلُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ فَقِيلَ إِنَّهُ
أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعَثَ
بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ
قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ،
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى ثَلَاثِينَ مِنْ
أَقْرِبَائِهِ فَقَيَّدَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ وَبَعَثَ بِهِمْ مَعَ
رُسُلِ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطريق بمكان
يقال له الرجح، صَعِدَ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ
بِالْحَدِيدِ إِلَى سَطْحِ قَصْرٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ مُوكَّلٌ بِهِ
لِئَلَّا يَفِرَّ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْرِ وَسَقَطَ
مَعَهُ الْمُوكَّلُ بِهِ فَمَاتَا جَمِيعًا، فَعَمَدَ الرَّسُولُ إِلَى
رَأْسِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَاحْتَزَّهُ، وَقَتَلَ مَنْ مَعَهُ مِنْ
أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْحَجَّاجِ
فَأَمَرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْعِرَاقِ، ثم بعثه إلى عَبْدِ
الْمَلِكِ فَطِيفَ
(9/53)
بِرَأْسِهِ فِي الشَّامِ، ثُمَّ بَعَثَ
بِهِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمِصْرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ
هُنَالِكَ، ثم دفنوا رأسه بمصر وجثته بالرجح، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ: -
هَيْهَاتَ مَوْضِعُ جُثَّةٍ مِنْ رَأْسِهَا ... رَأْسٌ بِمِصْرَ
وَجُثَّةٌ بالرجح
وَإِنَّمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَقْتَلَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي
سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَعَبْدُ الرحمن هذا هو أبو مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ،
قَدْ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَدِيثُ «إِذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ
البائع أو تشاركا» . وَعَنْهُ أَبُو الْعُمَيْسِ وَيُقَالُ إِنَّ
الْحَجَّاجَ قَتَلَهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ سَنَةً فاللَّه أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ
بِالْإِمَارَةِ وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنْدِيٌّ
مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ
عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَاحْتَجَّ
عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ
الْأَنْصَارَ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَمِيرٌ مَعَ أَمِيرِ
الْمُهَاجِرِينَ فَأَبَى الصِّدِّيقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ
هَذَا كُلِّهِ ضَرَبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الَّذِي دَعَا إِلَى
ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا
تَقَدَّمَ. فَكَيْفَ يَعْمِدُونَ إِلَى خَلِيفَةٍ قَدْ بُويِعَ لَهُ
بِالْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ سِنِينَ فَيَعْزِلُونَهُ
وَهُوَ مِنْ صلبية قُرَيْشٍ وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ
بَيْعَةً لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيه
خلق كثير ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156
أيوب بن الْقِرِّيَّةِ
وَهِيَ أُمُّهُ وَاسْمُ أَبِيهِ يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ زُرَارَةَ
بْنِ مُسْلِمٍ النَّمِرِيُّ الْهِلَالِيُّ، كَانَ أَعْرَابِيًّا
أُمِّيًّا، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي فَصَاحَتِهِ
وَبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ، صَحِبَ الْحَجَّاجَ وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ، ثُمَّ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ
لَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَئِنْ لَمْ تَقُمْ خَطِيبًا فَتَخْلَعُ
الْحَجَّاجَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَفَعَلَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ،
فَلَمَّا ظَهَرَ الْحَجَّاجُ اسْتَحْضَرَهُ وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ
مَقَامَاتٌ وَمَقَالَاتٌ فِي الْكَلَامِ، ثم آخِرِ الْأَمْرِ ضَرَبَ
عُنُقَهُ وَنَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ضَرْبِ
عُنُقِهِ، وَلَكِنْ نَدِمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ. كَمَا
قِيلَ: وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ وَقَدْ
ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ خَلِّكَانَ فِي
الْوَفِيَّاتِ وَأَطَالَ تَرْجَمَتَهُ وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ
حَسَنَةً، قَالَ: والْقِرِّيَّةُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ
الْيَاءِ وهي جدته واسمها جماعة بِنْتُ جُشَمَ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ وَجُودَهُ وَوُجُودَ مَجْنُونِ لَيْلَى،
وَابْنِ أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَقَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
روح بن زنباع
ابن سَلَامَةَ الْجُذَامِيُّ أَبُو زُرْعَةَ وَيُقَالُ أَبُو زِنْبَاعٍ
الدِّمَشْقِيُّ دَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ الْبُزُورِيِّينَ عِنْدَ
دار
(9/54)
ابن عقب صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ. وَهُوَ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ-
وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَمُعَاوِيَةُ
وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ. كَانَ رَوْحٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ
كَالْوَزِيرِ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ
يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَقَدْ أَمَّرَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
عَلَى جُنْدِ فِلَسْطِينَ، وَزَعَمَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَّ
رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يُتَابَعْ
مُسْلِمٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ
وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَمِنْ مَآثِرِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا
أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ يُعْتِقُ نسمة، قال
ابن زيد: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ بِالْأُرْدُنِّ، وَزَعَمَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً فَنَزَلَ عَلَى مَاءٍ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ فَأَمَرَ فَأُصْلِحَتْ لَهُ أَطْعِمَةٌ مُخْتَلِفَةُ
الْأَلْوَانِ، ثُمَّ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ
يَأْكُلُ إِذْ جَاءَ رَاعٍ مِنَ الرُّعَاةِ يَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعَاهُ
رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ،
فَجَاءَ الرَّاعِي فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ،
فَقَالَ لَهُ رَوْحٌ: فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الطَّوِيلِ
الشَّدِيدِ الْحَرِّ تَصُومُ يَا رَاعِي؟ فَقَالَ الرَّاعِي:
أَفَأَغْبِنُ أيامى من أجل طعامك؟ ثُمَّ إِنَّ الرَّاعِيَ ارْتَادَ
لِنَفْسِهِ مَكَانًا فَنَزَلَهُ وَتَرَكَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ،
فَقَالَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ: -
لَقَدْ ضَنِنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا رَاعِي ... إِذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ
بْنُ زِنْبَاعِ
ثُمَّ إِنَّ رَوْحًا بَكَى طَوِيلًا وَأَمَرَ بِتِلْكَ الْأَطْعِمَةِ
فَرُفِعَتْ، وَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهَا آكِلًا مِنْ
هَذِهِ الْأَعْرَابِ أَوِ الرُّعَاةِ؟ ثُمَّ سَارَ مِنْ ذَلِكَ
الْمَكَانِ وَقَدْ أَخَذَ الرَّاعِي بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ وَصَغُرَتْ
إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خمس وثمانين
فِيهَا كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ مَقْتَلُ عبد الرحمن بن
الأشعث فاللَّه أَعْلَمُ، وَفِيهَا عَزَلَ الْحَجَّاجُ عَنْ إِمْرَةِ
خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ
الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ
الْحَجَّاجَ وَفِدَ مَرَّةً عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا انْصَرَفَ
مَرَّ بِدَيْرٍ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ فِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ عَالِمًا، فَدُعِيَ فَقَالَ: يَا شَيْخُ هَلْ تَجِدُونَ فِي
كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ لَهُ فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ:
نَجِدُهُ مَلِكًا أَقْرَعَ، مَنْ يَقُمْ في سبيله يُصْرَعُ، قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ، قَالَ:
ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ ثُمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ يَفْتَحُ بِهِ
على الناس، قال: فتعرفني له قال: قد أخبرت بك. قال: أفتعرف مآلى؟
قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَمَنْ يَلِي الْعِرَاقَ بَعْدِي؟ قَالَ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، قَالَ أَفِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟
قَالَ لَا أَدْرِي، قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ يَغْدِرُ
غَدْرَةً لَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ
الْحَجَّاجِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَسَارَ سَبْعًا
وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يَسْتَعْفِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ لِيَعْلَمَ
مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ؟ فَجَاءَ الْكِتَابُ بِالتَّقْرِيعِ
وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ
وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ
جَلَسَ يَوْمًا مُفَكِّرًا وَاسْتَدْعَى
(9/55)
بِعُبَيْدِ بْنِ مَوْهَبٍ فَدَخَلَ
عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ
فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُبَيْدُ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ
أَنَّ مَا تَحْتَ يَدِي سَيَلِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، وَقَدْ
تَذَكَّرْتُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ ويزيد ابن حصين بن نمير ويزيد
بن دينار وليسوا هناك، وما هو إِلَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ.
فَقَالَ عُبَيْدٌ: لَقَدْ شرفتهم وعظمت ولايتهم وإن لهم لقدرا
وَجَلَدًا وَحَظًّا فَأَخْلِقْ بِهِ. فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْحَجَّاجِ
على عزل يزيد ابن الْمُهَلَّبِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
يَذُمُّهُ وَيُخَوِّفُهُ غَدْرُهُ وَيُخْبِرُهُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ
ذَلِكَ الشَّيْخُ الكتابي، فجاء البريد بكتاب فيه قَدْ أَكْثَرْتَ فِي
شَأْنِ يَزِيدَ فَسَمِّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ، فَوَقَعَ
اخْتِيَارُ الْحَجَّاجِ عَلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ
فَوَلَّاهُ قَلِيلًا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَغَزَا بلاد عبس وَغَيْرَهَا
وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ
عَزَلَهُ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُوسَى بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ
وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ
بَلَدٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَعَلَ
كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْ بَلْدَةٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا
فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا
مِنْ تِرْمِذَ وَكَانَ مَلِكُهَا فِيهِ ضَعْفٌ، فَجَعَلَ يُهَادِنُهُ
وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالْأَلْطَافِ وَالتُّحَفِ، حَتَّى جَعَلَ
يَتَصَيَّدُ هُوَ وَهُوَ، ثُمَّ عَنَّ لِلْمَلِكِ فَعَمِلَ لَهُ
طَعَامًا وَبَعَثَ إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ أَنِ
ائْتِنِي فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ
جَيْشِهِ مِائَةً مِنْ شُجْعَانِهِمْ، ثُمَّ دخل البلد فلما فرغت
الضيافة اضطجع موسى فِي دَارِ الْمَلِكِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا
أَقْوَمُ مِنْ هُنَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْمَنْزِلُ مَنْزِلِي أَوْ
يَكُونَ قَبْرِي: فَثَارَ أَهْلُ الْقَصْرِ إِلَيْهِ فَحَاجَفَ عَنْهُ
أَصْحَابُهُ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ
تِرْمِذَ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ تِرْمِذَ خَلْقٌ كَثِيرٌ
وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، وَاسْتَدْعَى مُوسَى ببقية جَيْشِهِ إِلَيْهِ
وَاسْتَحْوَذَ مُوسَى عَلَى الْبَلَدِ فَحَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا مِنَ
الْأَعْدَاءِ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَلِكُهَا هَارِبًا فَلَجَأَ إِلَى
إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَاسْتَنْصَرَهُمْ فَقَالُوا له: هؤلاء
قوم نحو من مائة رجل أخرجوك من بلدك، لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ
هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ مَلِكُ تِرْمِذَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ
التُّرْكِ فَاسْتَصْرَخَهُمْ فَبَعَثُوا مَعَهُ قُصَّادًا نَحْوَ
مُوسَى لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِقُدُومِهِمْ-
وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ- أَمْرَ أَصْحَابَهُ أَنْ
يُؤَجِّجُوا نَارًا وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَيُدْنُوا
أَيْدِيَهُمْ مِنَ النَّارِ كَأَنَّهُمْ يَصْطَلُونَ بِهَا، فَلَمَّا
وَصَلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ رَأَوْا أَصْحَابَهُ وَمَا يَصْنَعُونَ
فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فقالوا لهم: ما هذا الّذي نراكم تفعلون؟
فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا نَجِدُ الْبَرْدَ فِي الصَّيْفِ وَالْكُرْبَ
فِي الشِّتَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: مَا
هَؤُلَاءِ بَشَرٌ، مَا هَؤُلَاءِ إِلَّا جِنٌّ ثُمَّ عَادُوا إِلَى
مَلِكِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا
بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ صَاحِبُ تِرْمِذَ فَاسْتَجَاشَ
بِطَائِفَةٍ أُخْرَى فَجَاءُوا فحاصرهم بِتِرْمِذَ وَجَاءَ
الْخُزَاعِيُّ فَحَاصَرَهُمْ أَيْضًا، فَجَعَلَ يُقَاتِلُ
الْخُزَاعِيَّ أَوَّلَ النَّهَارِ وَيُقَاتِلُ آخِرَهُ الْعَجَمَ،
ثُمَّ إِنَّ مُوسَى بَيَّتَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً
عَظِيمَةً وَأَفْزَعَ ذَلِكَ عُمَرَ الْخُزَاعِيَّ فَصَالَحَهُ وَكَانَ
مَعَهُ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَلَيْسَ
يرى معه سلاحا فقال له عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ
(9/56)
أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ
مِثْلَكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلَا سِلَاحٍ، فَقَالَ: إِنَّ
عِنْدِي سِلَاحًا، ثُمَّ رَفَعَ صَدْرَ فِرَاشِهِ فَإِذَا سَيْفُهُ
مُنْتَضًى فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَضَرْبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ وَخَرَجَ
هَارِبًا، ثُمَّ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَازِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ
عَلَى عَزْلِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ إِمْرَةِ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ رَوْحُ بْنُ
زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ
عَلَيْهِمَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي الليل، وكان لا يحجب عنه في
أَيَّ سَاعَةٍ جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ فَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْعَزْمِ
عَلَى عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى إِرَادَةِ عَزْلِهِ أَنَّهُ
أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ
الْوَلِيدِ ثُمَّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ يَزِيدَ ثُمَّ هِشَامِ، وَذَلِكَ
عَنْ رَأْيِ الْحَجَّاجِ وَتَرْتِيبِهِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ،
وَكَانَ أَبُوهُ مَرْوَانُ عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَرَادَ عَبْدُ
الْمَلِكِ أَنْ يُنَحِّيَهُ عَنِ الْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَجْعَلَ الْأَمْرَ فِي أَوْلَادِهِ وَعَقِبِهِ،
وَأَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ بَاقِيَةً فِيهِمْ وَاللَّهُ أعلم.
عبد العزيز بن مروان
هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو الْأَصْبَغِ
الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ دَخَلَ
الشَّامَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ
بَعْدِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ أَبُوهُ إِمْرَةَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فَكَانَ
وَالِيًا عَلَيْهَا إِلَى هَذِهِ السنة، وشهد قتل سعيد بن عمرو بْنِ
الْعَاصِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بدمشق وهي دار
الصوفية الْيَوْمَ، الْمَعْرُوفَةُ بِالْخَانَقَاهِ
السُّمَيْسَاطِيَّةِ ثُمَّ كَانَتْ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ تنقلت إلى أن صارت خانقاها
لِلصُّوفِيَّةِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ
الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ في مسند أحمد
وسنن أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ جبن خالع وشح هالع» .
وَعَنْهُ ابْنُهُ عُمَرُ وَالزُّهْرِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ
وَجَمَاعَةٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً قَلِيلَ
الْحَدِيثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَلْحَنُ فِي الْحَدِيثِ وَفِي
كَلَامِهِ، ثُمَّ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فَأَتْقَنَهَا
وَأَحْسَنَهَا فَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ
أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَشْكُو خَتَنَهُ- وَهُوَ زَوْجُ
ابْنَتِهِ- فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: من ختنك؟ فقال الرجل: ختني
الْخَاتِنُ الَّذِي يَخْتِنُ النَّاسَ، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ وَيْحَكَ
بِمَاذَا أَجَابَنِي؟ فَقَالَ الْكَاتِبُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مَنْ خَتَنُكَ، فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ
أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ،
فَمَكَثَ جُمُعَةً وَاحِدَةً فَتَعَلَّمَهَا فَخَرَجَ وَهُوَ مِنْ
أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْزِلُ عَطَاءَ مَنْ
يُعْرِبُ كَلَامَهُ وَيَنْقُصُ عَطَاءَ مَنْ يَلْحَنُ فِيهِ،
فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ إِلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يوما إلى رجل: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ
بَنُو عَبْدِ الدَّارِ، فقال: تجدها في جائزتك، فنقصت جائزته مائة
دينار:
(9/57)
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ:
حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ
أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ
الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مَرْوَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: ارْفَعْ إِلَيَّ
حَاجَتَكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ
مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . وَلَسْتُ
أَسْأَلُكَ شَيْئًا وَلَا أَرُدُّ رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مِنْكَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ
أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سُوِيدِ بْنِ قَيْسٍ
قَالَ: بَعَثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ
إِلَى ابن عمر قال: فجئت فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَالَ:
أَيْنَ الْمَالُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُهُ اللَّيْلَةَ حَتَّى
أُصْبِحَ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا يَبِيتُ ابْنُ عُمَرَ اللَّيْلَةَ
وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ، قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيَّ الْكِتَابَ حَتَّى
جِئْتُهُ بِهَا فَفَرَّقَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَجَبًا لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ
وَيُوقِنُ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ وَيُخْلِفُ عَلَيْهِ، كَيْفَ
يَحْبِسُ مالا عن عظيم أجر وحسن ثناء. ولما حضرته الوفاة أحضر له مال
يحصيه وإذا هو ثلاثمائة مدّ مِنْ ذَهَبَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَوَدِدْتُ أَنَّهُ بَعْرٌ حَائِلٌ بِنَجْدٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ
لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَلَوَدِدْتُ أَنْ
أَكُونَ هَذَا الْمَاءَ الْجَارِيَ، أَوْ نَبَاتَةً بِأَرْضِ
الْحِجَازِ، وَقَالَ لهم: ائْتُونِي بِكَفَنِي الَّذِي تُكَفِّنُونِي
فِيهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أُفٍّ لَكَ مَا أَقْصَرَ طَوِيلَكَ،
وَأَقَلَّ كَثِيرَكَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عن الليث بن سعد
قال: كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ،
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ يَعْقُوبَ بن سفيان
وَالصَّوَابُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ عبد
الملك أخيه، ومات عبد الملك بعده بسنه سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ خِيَارِ
الْأُمَرَاءِ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ وَالِدُ
الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدِ
اكْتَسَى عُمْرُ أَخْلَاقَ أَبِيهِ وَزَادَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ
كَثِيرَةٍ. وَكَانَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ
عُمْرَ، عَاصِمٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَصْبَغُ- مَاتَ
قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ فَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا كَثِيرًا وَمَرِضَ
بَعْدَهُ وَمَاتَ. وَسُهَيْلٌ وَكَانَ له عدة بنات، أم محمد وسهيل
وَأُمُّ عُثْمَانَ وَأُمُّ الْحَكَمِ وَأُمُّ الْبَنِينَ وَهُنَّ مِنْ
أُمَّهَاتٍ شَتَّى، وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ مِصْرَ
وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ فِي النِّيلِ ودفن بها، وقد ترك عبد العزيز مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ
وَالْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْوَصْفُ، من جملة
ذلك ثلاثمائة مدّ من ذَهَبٍ غَيْرُ الْوَرِقِ، مَعَ جُودِهِ وَكَرَمِهِ
وَبَذْلِهِ وَعَطَايَاهُ الْجَزِيلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْطَى
النَّاسَ لِلْجَزِيلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ
كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْعَهْدِ الَّذِي لَهُ
مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ أَوْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ أَعَزُّ الْخَلْقِ عَلَيَّ. فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: إِنِّي أَرَى فِي أَبِي بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا تَرَى فِي الْوَلِيدِ. فَكَتَبَ
(9/58)
إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَأْمُرُهُ.
بِحَمْلِ خَرَاجِ مِصْرَ- وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لَا يَحْمِلُ
إِلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْخَرَاجِ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ
بِلَادُ مِصْرَ بِكَمَالِهَا وَبِلَادُ الْمَغْرِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ
كُلُّهَا لِعَبْدِ الْعَزِيزِ، مَغَانِمُهَا وَخَرَاجُهَا وَحِمْلُهَا-
فَكَتَبَ عبد العزيز إلى عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنِّي وَإِيَّاكَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قد بلغنا سنّا لا يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ بَيْتِكَ إِلَّا كَانَ بَقَاؤُهُ قَلِيلًا، وَإِنِّي لَا
أَدْرِي وَلَا تَدْرِي أَيُّنَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ أَوَّلًا، فَإِنْ
رَأَيْتَ أَنْ لا تعتب عَلَيَّ بَقِيَّةَ عُمْرِي فَافْعَلْ، فَرَقَّ
لَهُ عَبْدُ الملك وكتب إليه: لعمري لا أعتب عَلَيْكَ بَقِيَّةَ
عُمْرِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ
أَنْ يُعْطِيَكَهَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى رَدِّ
ذَلِكَ عنك، ثم قال لابنه الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ: هَلْ قَارَفْتُمَا
مُحَرَّمًا أَوْ حَرَامًا قط؟ فقالا: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ: اللَّهُ
أَكْبَرُ، نِلْتُمَاهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَيُقَالُ إِنَّ عَبْدَ
الْمَلِكِ لَمَّا امْتَنَعَ أخوه من إجابته إلى ما طلب منه في
بَيْعَتِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ دَعَا عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهمّ
إِنَّهُ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ، فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ لَيْلًا حَزِنَ وَبَكَى وَبَكَى أَهْلُهُ بُكَاءً كَثِيرًا
عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَكِنْ سَرَّهُ ذلك من جهة ابنيه فإنه نال
فيها مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ لَهُمَا مِنْ وِلَايَتِهِ إِيَّاهُمَا
بعده. وقد كان الحجاج بعث إلى عبد الملك يحسن له ولاية الوليد ويزينها
له مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْفَدَ إِلَيْهِ وَفَدًا فِي ذَلِكَ عليهم عمران
بن عصام العثرى، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَامَ عِمْرَانُ خَطِيبًا
فَتَكَلَّمَ وَتَكَلَّمَ الْوَفْدُ فِي ذَلِكَ وَحَثُّوا عَبْدَ
الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْشَدَ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ فِي ذَلِكَ:
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ نُهْدِي ... عَلَى النَّأْيِ
التَّحِيَّةَ وَالسِّلَامَا
أَجِبْنِي فِي بَنِيكَ يَكُنْ جَوَابِي ... لَهُمْ عَادِيَةً وَلَنَا
قِوَامَا
فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيدَ أُطَاعُ فِيهِ ... جَعَلْتَ لَهُ الْخِلَافَةَ
وَالذِّمَامَا
شَبِيهُكَ حَوْلَ قُبَّتِهِ قُرَيْشٌ ... بِهِ يَسْتَمْطِرُ النَّاسُ
الْغَمَامَا
وَمِثْلُكَ فِي التُّقَى لَمْ يَصْبُ يَوْمًا ... لَدُنْ خَلَعَ
الْقَلَائِدَ وَالْتِمَامًا
فَإِنْ تُؤْثِرْ أَخَاكَ بِهَا فَإِنَّا ... وَجَدِّكَ لَا نُطِيقُ
لَهَا اتِّهَامَا
وَلَكِنَّا نُحَاذِرُ مِنْ بَنِيهِ ... بَنِي الْعَلَّاتِ مَأْثَرَةً
سَمَامَا
وَنَخْشَى إِنْ جَعَلْتَ الْمُلْكَ فِيهِمْ ... سَحَابًا أَنْ تَعُودَ
لَهُمْ جَهَامَا
فَلَا يَكُ مَا حَلَبْتَ غدا لقوم ... وبعد غد بنوك هم العباما
فَأُقْسِمُ لَوْ تَخَطَّأْنِي عِصَامٌ ... بِذَلِكَ مَا عَذَرْتُ بِهِ
عِصَامَا
وَلَوْ أَنِّي حَبَوْتُ أَخًا بِفَضْلٍ ... أُرِيدُ بِهِ الْمَقَالَةَ
وَالْمَقَامَا
لِعَقَّبَ فِي بَنِيَّ عَلَى بَنِيهِ ... كَذَلِكَ أَوْ لَرُمْتُ لَهُ
مَرَامَا
فَمَنْ يَكُ فِي أَقَارِبِهِ صُدُوعٌ ... فَصَدْعُ الْمُلْكِ أبطؤه
التئاما
(9/59)
قال: فَهَاجَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كَتَبَ
لِأَخِيهِ يَسْتَنْزِلُهُ عَنِ الْخِلَافَةِ لِلْوَلِيدِ فَأَبَى
عَلَيْهِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْتَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَبْلَ مَوْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَامٍ وَاحِدٍ، فَتَمَكَّنَ
حِينَئِذٍ مِمَّا أَرَادَ مِنْ بَيْعَةِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ- ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ مَرْوَانَ، بُويِعَ لَهُ بِدِمَشْقَ ثُمَّ فِي سَائِرِ
الْأَقَالِيمِ ثُمَّ لِسُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ لَمَّا
انْتَهَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ امْتَنَعَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ أَنْ يُبَايِعَ فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَحَدٍ،
فَأَمَرَ بِهِ هشام بن إسماعيل نائب المدينة فضربه سِتِّينَ سَوْطًا،
وَأَلْبَسَهُ ثِيَابًا مِنْ شَعْرٍ وَأَرْكَبَهُ جَمَلًا وَطَافَ بِهِ
فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى ثَنِيَّةِ
ذُبَابٍ- وَهِيَ الثنية التي كانوا يصلون عندها ويقيلون- فَلَمَّا
وَصَلُوا إِلَيْهَا رَدُّوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَوْدَعُوهُ
السَّجْنَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لا
تقتلوننى لم ألبس هذا الثياب. ثُمَّ كَتَبَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْمَخْزُومِيُّ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمُخَالَفَةِ
سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ فِي ذَلِكَ
وَيَأْمُرُهُ بِإِخْرَاجِهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ سَعِيدًا كَانَ
أَحَقَّ مِنْكَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ مِمَّا فَعَلْتَ بِهِ، وَإِنَّا
لِنَعْلَمُ أَنَّ سَعِيدًا لَيْسَ عِنْدَهُ شِقَاقٌ وَلَا خِلَافٌ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُبَايِعَ،
فَإِنْ لَمْ يُبَايِعْ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ سَعِيدًا لما جاءت بيعة الوليد امْتَنَعَ
مِنَ الْبَيْعَةِ فَضَرَبَهُ نَائِبُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ- وَهُوَ
جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ- سِتِّينَ سَوْطًا أَيْضًا
وَسَجَنَهُ فاللَّه أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْمَخْزُومِيُّ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ
وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ
الذَّهَبِيُّ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ
الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً وَكَانَ بِهِ صَمَمٌ
وَوَضَحٌ كثير، وأصابه الفالج قبل أن يموت. عبد الله ابن عامر بن
ربيعة. عمرو بن حريث. عمرو بن سلمة. واثلة بن الأسقع. شَهِدَ وَاثِلَةُ
تَبُوكَ ثُمَّ شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ وَنَزَلَهَا، وَمَسْجِدُهُ بِهَا
عِنْدَ حَبْسِ بَابِ الصَّغِيرِ من القبلة. قلت: وقد احترق مسجده في
فتنة تمرلنك ولم يبق منه إلا رسومه، وعلى بابه من الشرق قناة ماء. خالد
بن يزيد بن معاوية ابن أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ
أُمَيَّةَ، كَانَ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِفُنُونِ الْعِلْمِ، وَلَهُ يَدٌ
طُولَى فِي الطِّبِّ، وَكَلَامٌ كَثِيرٌ فِي الْكِيمْيَاءِ، وَكَانَ
قَدِ اسْتَفَادَ ذَلِكَ مِنْ رَاهِبٍ اسْمُهُ مريانش، وكان خالد فصيحا
بليغا شاعرا منطيقا كَأَبِيهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مروان بحضرة الحكم بن أبى العاص، فشكى إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَهُ
الْوَلِيدَ يَحْتَقِرُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أهلها أذلة) فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ:
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَ
(9/60)
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً 17: 16) فَقَالَ عَبْدُ
الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ أَخُوكَ عَبْدُ اللَّهِ
فَإِذَا هُوَ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ، فَقَالَ خَالِدٌ: وَالْوَلِيدُ
لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَخَاهُ
سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ، فَقَالَ خَالِدٌ:
وَأَنَا أَخُو عَبْدِ اللَّهِ لَا أَلْحَنُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ-
وَكَانَ حَاضِرًا- لِخَالِدِ بن يزيد: اسكت، فو الله مَا تُعَدُّ فِي
الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ، فَقَالَ خَالِدٌ: اسْمَعْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ! ثُمَّ أَقْبَلَ خَالِدٌ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ:
وَيْحَكَ وَمَا هُوَ الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ غَيْرُ جِدِّي أَبِي
سُفْيَانَ صَاحِبِ الْعِيرِ، وَجَدِّي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ صَاحِبِ
النفير؟ ولكن لو قلت غنيمات وجبيلات وَالطَّائِفُ، وَرَحِمَ اللَّهُ
عُثْمَانَ، لَقُلْنَا صَدَقْتَ- يَعْنِي أَنَّ الْحَكَمَ كَانَ
مَنْفِيًّا بِالطَّائِفِ يَرْعَى غَنَمًا ويأوى إلى جبلة الْكَرَمِ
حَتَّى آوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حِينَ وَلِيَ- فَسَكَتَ
الْوَلِيدُ وَأَبُوهُ وَلَمْ يُحِيرَا جَوَابًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ. |