البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثنتين وثلاثين ومائة
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا جَازَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْفُرَاتَ
وَمَعَهُ الْجُنُودُ وَالْفُرْسَانُ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ مُخَيِّمٌ
عَلَى فَمِ الْفُرَاتِ مِمَّا يَلِي الْفَلُّوجَةَ، فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ
وَجَمٍّ غَفِيرٍ، وَقَدْ أَمَدَّهُ مَرْوَانُ بِجُنُودٍ كَثِيرَةٍ،
وَانْضَافَ إِلَيْهِ كُلُّ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ جَيْشِ ابْنِ
ضُبَارَةَ. ثُمَّ إِنَّ قَحْطَبَةَ عَدَلَ إِلَى الْكُوفَةِ
لِيَأْخُذَهَا، فَاتَّبَعَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ. فَلَمَّا كَانَتْ
لَيْلَةُ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الفريقين، ثم
ولى أَهْلُ الشَّامِ مُنْهَزِمِينَ وَاتَّبَعَهُمْ أَهْلُ خُرَاسَانَ،
وَفُقِدَ قَحْطَبَةُ مِنَ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ رَجُلٌ أَنَّهُ
قُتِلَ وأوصى أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ النَّاسِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَهُ
الْحَسَنَ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَسَنُ حَاضِرًا، فَبَايَعُوا حُمَيْدَ
بْنَ قَحْطَبَةَ لِأَخِيهِ الْحَسَنِ وَذَهَبَ الْبَرِيدُ إِلَى
الْحَسَنِ لِيَحْضُرَ. وَقُتِلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ جَمَاعَةٌ من
الأمراء. والّذي قتل قحطبة معن ابن زَائِدَةَ، وَيَحْيَى بْنُ حُصَيْنٍ
وَقِيلَ بَلْ قَتَلَهُ رجل ممن كان معه آخذا بثأر ابني نَصْرِ بْنِ
سَيَّارٍ فاللَّه أَعْلَمُ. وَوُجِدَ قَحْطَبَةُ في القتلى فدفن هنالك،
وجاء الحسن بن قحطبة فسار نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ خَرَجَ بِهَا
(10/38)
محمد بن خالد بن عبد الله القسري وَدَعَا
إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ وَسَوَّدَ، وَكَانَ خُرُوجُهُ ليلة عاشوراء
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَخْرَجَ عَامِلَهَا مِنْ
جِهَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ الْحَارِثِيُّ،
وَتَحَوَّلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ
فَقَصَدَهُ حَوْثَرَةُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ جهة ابن هبيرة، فلما
اقترب من الكوفة أصحاب حوثرة يَذْهَبُونَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ
فَيُبَايِعُونَهُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا رَأَى حَوْثَرَةُ
ذَلِكَ ارْتَحَلَ إِلَى وَاسِطَ، وَيُقَالُ بَلْ دَخَلَ الْحَسَنُ بْنُ
قَحْطَبَةَ الْكُوفَةَ، وَكَانَ قَحْطَبَةُ قَدْ جَعَلَ فِي
وَصِيَّتِهِ أَنْ تَكُونَ وِزَارَةُ الْخِلَافَةِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ
حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ مَوْلَى السَّبِيعِ الْكُوفِيِّ الْخَلَّالِ،
وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ أَشَارَ أَنْ
يَذْهَبَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ
إِلَى قِتَالِ ابْنِ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطَ، وَأَنْ يَذْهَبَ أَخُوهُ
حُمَيْدٌ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَبَعَثَ الْبُعُوثَ إلى كل جانب
يفتتحونها، وفتحوا البصرة، افتتحها مسلم بْنُ قُتَيْبَةَ لِابْنِ
هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ هبيرة جَاءَ أَبُو مَالِكٍ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُسَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ فَأَخَذَ الْبَصْرَةَ لِأَبِي
مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِأَبِي
العباس السفاح، وهو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَهُ أَبُو
مَعْشَرٍ وَهِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فاللَّه أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الامام
[أخى السفاح، وهو الّذي كانت الدعوة له، أرسل أبا مسلم إلى بلاد خراسان
ليدعو الناس إلى البيعة له كما تقدم ذلك] [1] .
قَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَنَّ
مَرْوَانَ اطَّلَعَ عَلَى كِتَابٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ إِلَى
أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، يَأْمُرُهُ فِيهِ بِأَنْ لَا يُبْقِي
أَحَدًا بِأَرْضِ خُرَاسَانَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ
إِلَّا أَبَادَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ مَرْوَانُ عَلَى ذَلِكَ سَأَلَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ فَقِيلَ لَهُ هُوَ بِالْبَلْقَاءِ، فَكَتَبَ إِلَى
نَائِبِ دِمَشْقَ أَنْ يحضره فبعث نائب دمشق بريدا ومعه صفته ونعته،
فذهب الرسول فوجده أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ، فَاعْتَقَدَ
أَنَّهُ هُوَ فَأَخَذَهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِهِ،
وَإِنَّمَا هُوَ أَخُوهُ، فَدَلَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَأَخَذَهُ
وَذَهَبَ معه بأم ولد له كان يُحِبُّهَا، وَأَوْصَى إِلَى أَهْلِهِ
أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ
السَّفَّاحُ، وَأَمَرَهُمْ بالمسير إلى الكوفة، فارتحلوا من يومهم
إليها، مِنْهُمْ أَعْمَامُهُ السِّتَّةُ وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ،
وَدَاوُدُ، وَعِيسَى، وَصَالِحٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ،
بَنُو عَلِيٍّ، وأخواه أبو العباس السفاح، ومحمد ابْنَا مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ، وَابْنَاهُ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنَا
إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ الْمَمْسُوكِ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ. فَلَمَّا
دَخَلُوا الْكُوفَةَ أَنْزَلَهُمْ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ دار
الوليد بن سعد، مولى بنى هشام، وَكَتَمَ أَمْرَهُمْ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنَ القواد
__________
[1] زيادة من نسخة الأستانة.
(10/39)
والأمراء، ثم ارتحل بهم إلى موضع آخر، ثم
لم يزل ينقلهم من مكان إلى مكان حَتَّى فُتِحَتِ الْبِلَادُ.
ثُمَّ بُويِعَ لِلسَّفَّاحِ. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْإِمَامُ فَإِنَّهُ سِيرَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ مَرْوَانَ ابن محمد وهو بحران فحبسه، وَمَا زَالَ
فِي السِّجْنِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَاتَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا فِي
السِّجْنِ، عَنْ ثمان وأربعين سنة. وقيل إنه غمّ بمرققة وُضِعَتْ عَلَى
وَجْهِهِ حَتَّى مَاتَ عَنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَصَلَّى
عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بهلول بْنُ صَفْوَانَ، وَقِيلَ إِنَّهُ
هُدِمَ عَلَيْهِ بَيْتٌ حَتَّى مَاتَ، وَقِيلَ بَلْ سُقِيَ لَبَنًا
مَسْمُومًا فَمَاتَ، وَقِيلَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ شَهِدَ
الْمَوْسِمَ عَامَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ
هُنَالِكَ لَأَنَّهُ وَقَفَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَنَجَائِبَ
كَثِيرَةٍ، وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، فَأَنْهَى أَمْرَهُ إِلَى مَرْوَانَ
وَقِيلَ لَهُ: إن أبا مسلم يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَذَا
وَيُسَمُّونَهُ الْخَلِيفَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَقَتَلَهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَهَذَا أصح مما تقدم: وقيل إنه إنما أخذه مِنَ الْكُوفَةِ
لَا مِنْ حُمَيْمَةِ الْبَلْقَاءِ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا كِرِيمًا جَوَادًا له فضائل وفواضل،
وروى الحديث عن أبيه عن جده، وَأَبِي هَاشِمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الحنفية، وعنه أخواه عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ،
وَأَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ المنصور، وأبو سلمة عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ هاشم. ومن
كلامه الحسن: الْكَامِلُ الْمُرُوءَةِ مَنْ أَحْرَزَ دِينَهُ، وَوَصَلَ
رَحِمَهُ، وَاجْتَنَبَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ.
خِلَافَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ
لَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْكُوفَةِ مَقْتَلُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُحَمَّدٍ، أَرَادَ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ أَنْ يحول الخلافة إلى
آل على ابن أبى طالب، فغلبه بقية النقباء والأمراء، وَأَحْضَرُوا أَبَا
الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ،
وَذَلِكَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سِتًّا
وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ
بِالْخِلَافَةِ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ صَلَاةِ الجمعة خرج
السَّفَّاحُ عَلَى بِرْذَوْنٍ أَبْلَقَ، وَالْجُنُودُ مُلَبَّسَةٌ
مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المسجد
الجامع وصلى بالناس، ثم صعد المنبر وبايعه الناس وَهُوَ عَلَى
الْمِنْبَرِ فِي أَعْلَاهُ، وَعَمُّهُ دَاوُدُ ابن عَلِيٍّ وَاقِفٌ
دُونَهُ بِثَلَاثِ دَرَجٍ، وَتَكَلَّمَ السَّفَّاحُ، وَكَانَ أَوَّلَ
مَا نَطَقَ بِهِ أَنْ قَالَ: الحمد للَّه الّذي اصطفى الإسلام لنفسه
دينا، وكرمه وَشَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ، وَاخْتَارَهُ لَنَا، وَأَيَّدَهُ
بِنَا، وَجَعَلَنَا أَهْلَهُ وَكَهْفَهُ وَالْقُوَّامَ بِهِ
وَالذَّابِّينَ عَنْهُ وَالنَّاصِرِينَ لَهُ، وَأَلْزَمَنَا كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَجَعَلَنَا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، خَصَّنَا بِرَحِمِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وقرابته، ووضعنا بالإسلام
وأهله في الموضع الرَّفِيعِ، وَأَنْزَلَ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ
الْإِسْلَامِ كِتَابًا يُتْلَى عَلَيْهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى إِنَّما
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33: 33 وقال قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى 42: 23 وقال: وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ
(10/40)
الْأَقْرَبِينَ 26: 214 وَقَالَ: مَا
أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ 59: 7
الآية. فأعلمهم عَزَّ وَجَلَّ فَضْلَنَا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ
حَقَّنَا وَمَوَدَّتَنَا، وَأَجْزَلَ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ
نَصِيبَنَا تَكْرِمَةً لَنَا، وتفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبابية الضُّلَّالُ أَنَّ غَيْرَنَا أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ
وَالسِّيَاسَةِ وَالْخِلَافَةِ منا، فشاهت وجوههم. أيها الناس بنا هدى
الله الناس بعد ضلالتهم، ونصرهم بَعْدَ جَهَالَتِهِمْ، وَأَنْقَذَهُمْ
بَعْدَ هَلَكَتِهِمْ وَأَظْهَرَ بِنَا الْحَقَّ وَأَدْحَضَ بِنَا
الْبَاطِلَ، وَأَصْلَحَ بِنَا مِنْهُمْ مَا كَانَ فَاسِدًا، وَرَفَعَ
بِنَا الْخَسِيسَةَ، وَأَتَمَّ النَّقِيصَةَ وَجَمَعَ الْفِرْقَةَ،
حَتَّى عَادَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ أَهْلَ تَعَاطُفٍ وَبِرٍّ
وَمُوَاسَاةٍ فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ فِي أُخْرَاهُمْ، فَتَحَ الله علينا ذلك منة ومنحة
بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه إليه قام بذلك الأمر بَعْدِهِ
أَصْحَابُهُ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنِهِمْ، فَحَوَوْا مَوَارِيثَ
الْأُمَمِ فَعَدَلُوا فِيهَا، وَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا،
وَأَعْطَوْهَا أَهْلَهَا، وَخَرَجُوا خِمَاصًا مِنْهَا. ثُمَّ وَثَبَ
بَنُو حَرْبٍ ومروان فابتزوها لأنفسهم، تداولوها. فَجَارُوا فِيهَا
وَاسْتَأْثَرُوا بِهَا، وَظَلَمُوا أَهْلَهَا، فَأَمْلَى الله لهم حينا
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ 43: 55 فانتزع منهم ما بأيديهم
بأيدينا، ورد الله علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وتولى أمرنا والقيام
بنصرنا لِيَمُنَّ بِنَا عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ،
وَخَتَمَ بِنَا كَمَا افْتَتَحَ بِنَا، وَإِنِّي لَأَرْجُوَ [أَنْ] لَا
يَأْتِيَكُمُ الْجَوْرُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الْخَيْرُ، وَلَا
الْفَسَادُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الصَّلَاحُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا
أَهْلَ الْبَيْتِ إِلَّا باللَّه. يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنْتُمْ
مَحَلُّ مَحَبَّتِنَا وَمَنْزِلُ مَوَدَّتِنَا، وَأَنْتُمْ أَسْعَدُ
النَّاسِ بِنَا وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْنَا، وَقَدْ زِدْتُكُمْ فِي
أَعْطِيَاتِكُمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَاسْتَعِدُّوا فَأَنَا السَّفَّاحُ
الْهَائِجُ وَالثَّائِرُ الْمُبِيرُ. وَكَانَ بِهِ وَعْكٌ فَاشْتَدَّ
عَلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَنَهَضَ عمه داود فقال:
الحمد للَّه شُكْرًا الَّذِي أَهْلَكَ عَدُوَّنَا وَأَصَارَ إِلَيْنَا
مِيرَاثَنَا من بيتنا. أَيُّهَا النَّاسُ الْآنَ انْقَشَعَتْ حَنَادِسُ
الظُّلُمَاتِ وَانْكَشَفَ غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، فطلعت شمس
الخلافة من مطلعها، ورجع الحق إلى نصابه، إلى أهل نبيكم أهل الرأفة
والرحمة وَالْعَطْفِ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا وَاللَّهِ
مَا خرجنا لهذا الأمر لنكنز لُجَيْنًا وَلَا عِقْيَانًا وَلَا
لِنَحْفِرَ نَهْرًا وَلَا لنبنى قصرا ولا لنجمع ذهبا ولا فضة، وإنما
أخرجتنا الأنفة من انتزاع حَقَّنَا وَالْغَضَبُ لِبَنِي عَمِّنَا،
وَلِسُوءِ سِيرَةِ بَنِي أُمَيَّةَ فِيكُمْ، وَاسْتِذْلَالُهُمْ
لَكُمْ، وَاسْتِئْثَارُهُمْ بِفَيْئِكُمْ وَصَدَقَاتِكُمْ، فلم علينا
ذمة الله وذمة رسوله الْعَبَّاسِ، أَنْ نَحْكُمَ فِيكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العمامة والخاصة بسيرة
رسول الله، تباتبا لِبَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي مَرْوَانَ، آثَرُوا
الْعَاجِلَةَ عَلَى الْآجِلَةِ، وَالدَّارَ الْفَانِيَةِ عَلَى
الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، فَرَكِبُوا الْآثَامَ وَظَلَمُوا الْأَنَامَ،
وَارْتَكَبُوا الْمَحَارِمَ، وَغَشَوُا الْجَرَائِمَ، وَجَارُوا فِي
سِيرَتِهِمْ فِي الْعِبَادِ، وَسُنَّتِهِمُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي
بِهَا اسْتَلَذُّوا تَسَرْبُلَ الْأَوْزَارِ، وَتَجَلْبُبَ الْآصَارِ،
وَمَرِحُوا فِي أَعِنَّةِ الْمَعَاصِي، وَرَكَضُوا فِي ميادين الغي،
جهلا منهم باستدراج الله، وعميا عن أخذ اللَّهِ، وَأَمْنًا لِمَكْرِ
اللَّهِ، فَأَتَاهُمْ بِأْسُ اللَّهِ بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ،
فَأَصْبَحُوا أَحَادِيثَ وَمُزِّقُوا كُلَّ ممزق،
(10/41)
فبعدا للقوم الظالمين. وأدان اللَّهُ مِنْ
مَرْوَانَ، وَقَدْ غَرَّهُ باللَّه الْغَرُورُ، وأرسل عدو الله في
عنانه حتى عثر جواده فِي فَضْلِ خِطَامِهِ، أَظَنَّ عَدُوُّ اللَّهِ
أَنْ لن يقدر عليه أحد؟ فنادى حزبه وجمع جنده وَرَمَى بِكَتَائِبِهِ
فَوَجَدَ أَمَامَهُ وَوَرَاءَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ
وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تحته مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَبَأْسِهِ
وَنِقْمَتِهِ مَا أَمَاتَ باطله، ومحق ضلاله، وأحل دائرة السوء به،
وأحاط به خطيئته، ورد إلينا حقنا وآوانا.
أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَصَرَهُ اللَّهُ
نَصْرًا عَزِيزًا، إِنَّمَا عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَ صلاة
الجمعة لِأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْلِطَ بِكَلَامِ الْجُمُعَةِ
غَيْرَهُ، وإنما قطعة عن استتمام الكلام شِدَّةُ الْوَعْكِ، فَادْعُوا
اللَّهَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَافِيَةِ، فَقَدْ أَبْدَلَكُمُ
اللَّهُ بِمَرْوَانَ عَدُوِّ الرَّحْمَنِ، وَخَلِيفَةِ الشيطان، المتبع
للسفلة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. المتوكل على الله المقتدى
بالأبرار الْأَخْيَارِ الَّذِينَ أَصْلَحُوا الْأَرْضَ بَعْدَ
فَسَادِهَا بِمَعَالِمِ الْهُدَى، وَمَنَاهِجِ الْتُّقَى. قَالَ
فَعَجَّ النَّاسُ لَهُ بِالدُّعَاءِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا يَا
أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَمْ يَصْعَدْ مِنْبَرَكُمْ هَذَا خَلِيفَةٌ
بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَمِيرُ المؤمنين
هَذَا- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّفَّاحِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ هذا
الأمر فينا ليس بخارج عنا، حَتَّى نُسْلِمَهُ إِلَى عِيسَى بْنِ
مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ
عَلَى مَا أَبْلَانَا وَأَوْلَانَا. ثُمَّ نَزَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ
وَدَاوُدُ حَتَّى دَخَلَا الْقَصْرَ. ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ
يُبَايِعُونَ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى
اللَّيْلِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ خَرَجَ فَعَسْكَرَ بظاهر الكوفة واستخلف
عليها عمه داود، وبعث عمه عبد الله ابن على إلى أبى عون بن أبى
يَزِيدَ، وَبَعَثَ ابْنَ أَخِيهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى إِلَى الْحَسَنِ
بْنِ قَحْطَبَةَ. وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِوَاسِطَ يحاصر ابْنَ هُبَيْرَةَ،
وَبَعَثَ يَحْيَى بْنَ [جَعْفَرِ بْنِ] تَمَّامِ بْنِ الْعَبَّاسِ
إِلَى حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ بِالْمَدَائِنِ، وَبَعَثَ أَبَا
الْيَقْظَانِ عُثْمَانَ بْنَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ
بْنِ يَاسِرٍ إِلَى بَسَّامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ
بِالْأَهْوَازِ، وَبَعَثَ سَلَمَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ إِلَى
مَالِكِ بْنِ الطَّوَّافِ. وَأَقَامَ هُوَ بِالْعَسْكَرِ أَشْهُرًا،
ثُمَّ ارْتَحَلَ فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ الْهَاشِمِيَّةَ فِي قَصْرِ
الْإِمَارَةِ، وَقَدْ تَنَكَّرَ لِأَبِي سَلَمَةَ الْخَلَّالِ،
وَذَلِكَ لِمَا كَانَ بَلَغَهُ عَنْهُ مِنَ الْعُدُولِ بِالْخِلَافَةِ
عَنْ ابن الْعَبَّاسِ إِلَى آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ
آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أمية، وتحول الخلافة إلى بنى العباس مأخوذ من
قوله تعالى وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247 وقوله قُلِ
اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 الآية. وقد ذكرنا أن مروان لما بلغه
خبر أبى مسلم وأتباعه وما جرى بأرض خراسان، تَحَوَّلَ مِنْ حَرَّانَ
فَنَزَلَ عَلَى نَهْرٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَوْصِلِ، يُقَالُ لَهُ
الزَّابُ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ
السَّفَّاحَ قَدْ بويع له بالكوفة والتفت عليه الجنود، واجتمع له أمره،
شق عليه جِدًّا، وَجَمَعَ جُنُودَهُ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُو عَوْنِ
بن أبى يزيد في جيش كثيف وهو أحد أمراء السفاح، فَنَازَلَهُ عَلَى
الزَّابِ وَجَاءَتْهُ الْأَمْدَادُ مِنْ جِهَةِ السفاح، ثم ندب السفاح
الناس ممن يلي القتال من أهل
(10/42)
بيته، فانتدب له عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَلِيٍّ فَقَالَ: سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسَارَ فِي جُنُودٍ
كَثِيرَةٍ فَقَدِمَ عَلَى أَبِي عَوْنٍ فَتَحَوَّلَ لَهُ أَبُو عَوْنٍ
عَنْ سُرَادِقِهِ، وَخَلَّاهُ لَهُ وَمَا فِيهِ، وَجَعَلَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى شُرْطَتِهِ حِيَاشَ ابن حبيب الطائي، ونصير
بْنَ الْمُحْتَفِزِ، وَوَجَّهَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ
فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيٍّ يَحُثُّهُ عَلَى مُنَاجَزَةِ مروان، والمبادرة إلى قتاله
ونزاله قبل أن تحدث أمور، وتبرد نيران الحرب. فتقدم عبد الله بن على
بجنوده حَتَّى وَاجَهَ جَيْشَ مَرْوَانَ، وَنَهَضَ مَرْوَانُ فِي جنوده
وَتَصَافَّ الْفَرِيقَانِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ
كَانَ مَعَ مَرْوَانَ يَوْمَئِذٍ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ ألفا،
ويقال مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا. فَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ العزيز بن
عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنْ زَالَتِ الشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ
يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل
الزوال ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 ثُمَّ
أَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يَسْأَلُهُ
الْمُوَادَعَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَذَبَ ابْنُ زُرَيْقٍ، لَا
تَزُولُ الشَّمْسُ حَتَّى أُوطِئَهُ الْخَيْلَ إِنْ شَاءَ الله، وكان
ذلك يوم السبت لإحدى عشر لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السنة، فقال مروان: قفوا لا تبتدئون بِقِتَالٍ، وَجَعَلَ
يَنْظُرُ إِلَى الشَّمْسِ فَخَالَفَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
بْنِ مَرْوَانَ- وَهُوَ خَتَنُ مَرْوَانَ على ابنته- فحمل، فغضب مروان
فشتمه فَقَاتَلَ أَهْلُ الْمَيْمَنَةِ فَانْحَازَ أَبُو عَوْنٍ إِلَى
عبد الله بن على، فقاتل مُوسَى بْنُ كَعْبٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيٍّ، فأمر الناس فنزلوا ونودي الأرض الأرض، فنزلوا وَأَشْرَعُوا
الرِّمَاحَ وَجَثَوْا عَلَى الرَّكْبَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَجَعَلَ أَهْلُ
الشَّامِ يَتَأَخَّرُونَ كَأَنَّمَا يُدْفَعُونَ، وَجَعَلَ عَبْدُ الله
يمشى قدما، وجعل يَقُولُ: يَا رَبِّ حَتَّى مَتَى نُقْتَلُ فِيكَ،
ونادى: يا أهل خراسان، يا شارات إبراهيم الامام، يا محمد يا منصور،
واشتد القتال جدا بين الناس، فلا تسمع إلا وقعا كالمرازب على النحاس،
فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى قُضَاعَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالنُّزُولِ
فَقَالُوا: قُلْ لِبَنِي سُلَيْمٍ فَلْيَنْزِلُوا، وَأَرْسَلَ إِلَى
السَّكَاسِكِ أن احملوا فقالوا: قل لبني عامر أن يحملوا، فَأَرْسَلَ
إِلَى السَّكُونِ أَنِ احْمِلُوا فَقَالُوا: قُلْ إلى غطفان
فَلْيَحْمِلُوا.
فَقَالَ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: انْزِلْ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ لَا
أَجْعَلُ نَفْسِي غَرَضًا. قَالَ: أَمَا والله لأسوءنك. قال:
وددت والله لو قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ قَالُوا: ثُمَّ
انْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ واتبعتهم أَهْلُ خُرَاسَانَ فِي
أَدْبَارِهِمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
غَرِقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْمَخْلُوعُ، وَقَدْ أَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِعَقْدِ
الْجِسْرِ، واستخراج من غرق في الماء، وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلَهُ
تَعَالَى وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ 2: 50 وأقام عبد
الله ابن عَلِيٍّ فِي مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ،
وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي مَرْوَانَ
وَفِرَارِهِ يَوْمَئِذٍ:
لَجَّ الْفِرَارُ بِمَرْوَانٍ فَقُلْتُ لَهُ ... عَادَ الظَّلُومُ
ظَلِيمًا هَمُّهُ الْهَرَبُ
(10/43)
أَيْنَ الْفِرَارُ وَتَرْكُ الْمُلْكِ إِذْ
ذَهَبَتْ ... عَنْكَ الهوينا فَلَا دِينٌ وَلَا حَسَبُ
فَرَاشَةُ الْحِلْمِ فِرْعَوْنُ الْعِقَابِ وَإِنْ ... تَطْلُبْ
نَدَاهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كَلِبُ
واحتاز عبد الله ما فِي مُعَسْكَرِ مَرْوَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ، وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ امْرَأَةً سِوَى
جَارِيَةٍ كَانَتْ لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أبى العباس السفاح
بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّصْرِ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ
مِنَ الْأَمْوَالِ. فَصَلَّى السَّفَّاحُ رَكْعَتَيْنِ شُكْرًا للَّه
عَزَّ وَجَلَّ، وَأَطْلَقَ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ
خَمْسَمِائَةٍ خَمْسَمِائَةٍ، وَرَفَعَ فِي أَرْزَاقِهِمْ إلى ثمانين،
وجعل يتلو قوله فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ 2: 249 الآية
صفة مقتل مروان
لما انهزم مروان سَارَ لَا يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ، فَأَقَامَ عَبْدُ
الله بن على في مقام المعركة سبعة أيام، ثم سار خلفه بِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْجُنُودِ، وَذَلِكَ عَنْ أَمْرِ السَّفَّاحِ لَهُ بِذَلِكَ،
فَلَمَّا مَرَّ مَرْوَانُ بَحَرَّانَ اجتازها وَأَخْرَجَ أَبَا
مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيَّ مِنْ سِجْنِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عليها أبان بن
يزيد- وهو ابن أخته، وَزَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ عُثْمَانَ- فَلَمَّا
قَدِمَ عَبْدُ الله عَلِيٍّ حَرَّانَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَبَانُ بْنُ
يَزِيدَ مُسَوِّدًا فَأَمَّنَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ
وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَهَدَمَ الدَّارَ الَّتِي سُجِنَ فِيهَا
إبراهيم الامام، واجتاز مروان قنسرين قاصدا حِمْصَ، فَلَمَّا جَاءَهَا
خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا بِالْأَسْوَاقِ والمعايش، فَأَقَامَ بِهَا
يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ شَخَصَ منها، فلما رأى أهل حمص قلة من
معه اتبعوه ليقتلوه ونهبوا ما معه، وقالوا: مرعوب مهزوم، فَأَدْرَكُوهُ
بِوَادٍ عِنْدَ حِمْصَ فَأَكْمَنَ لَهُمْ أَمِيرَيْنِ، فَلَمَّا
تَلَاحَقُوا بِمَرْوَانَ عَطَفَ عَلَيْهِمْ فَنَاشَدَهُمْ أَنْ
يَرْجِعُوا فَأَبَوْا إِلَّا مُقَاتَلَتَهُ، فَثَارَ الْقِتَالُ
بَيْنَهُمْ وَثَارَ الْكَمِينَانِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَانْهَزَمَ
الْحِمْصِيُّونَ، وَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَى
نِيَابَتِهَا مِنْ جِهَتِهِ زوج ابنته الوليد ابن مُعَاوِيَةَ بْنِ
مَرْوَانَ، فَتَرَكَهُ بِهَا وَاجْتَازَ عَنْهَا قَاصِدًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بن على لا يمر
ببلد وَقَدْ سَوَّدُوا فَيُبَايِعُونَهُ وَيُعْطِيهِمُ الْأَمَانَ،
وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قِنَّسْرِينَ وَصَلَ إِلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ
الصَّمَدِ ابن على في أربعة آلاف، قد بَعَثَهُمُ السَّفَّاحُ مَدَدًا
لَهُ، ثُمَّ سَارَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى أَتَى حِمْصَ، ثُمَّ سَارَ
مِنْهَا إلى بعلبكّ، ثم منها حتى أتى دِمَشْقَ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمِزَّةِ فَنَزَلَ بِهَا يَوْمَيْنِ أو ثلاثة، ثم وصل إليه أخوه صالح
ابن عَلِيٍّ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ مَدَدًا مِنَ السَّفَّاحِ،
فَنَزَلَ صَالِحٌ بِمَرْجِ عَذْرَاءَ، وَلَمَّا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ نَزَلَ عَلَى الْبَابِ الشرقي، ونزل صالح أخوه
عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ، وَنَزَلَ أَبُو عَوْنٍ عَلَى باب كيسان،
ونزل بسام على الباب الصَّغِيرِ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ عَلَى
بَابِ تُومَا، وَعَبْدُ الصَّمَدِ وَيَحْيَى بْنُ صَفْوَانَ
وَالْعَبَّاسُ بْنُ يزيد على باب الفراديس، فحاصرها أَيَّامًا ثُمَّ
افْتَتَحَهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا
وَأَبَاحَهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَهَدَمَ سُورَهَا، ويقال إن أهل دمشق
لما حاصرهم عبد الله اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، مَا بَيْنَ
عَبَّاسِيٍّ وَأُمَوِيٍّ، فاقتتلوا فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
وَقَتَلُوا نَائِبَهُمْ ثُمَّ سَلَّمُوا الْبَلَدَ، وَكَانَ أَوَّلَ
مَنْ صَعِدَ السُّورَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ الطَّائِيُّ، وَمِنْ
(10/44)
نَاحِيَةِ الْبَابِ الصَّغِيرِ بَسَّامُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أُبِيحَتْ دِمَشْقَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ حَتَّى
قِيلَ إِنَّهُ قُتِلَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ نَحْوًا مِنْ خمسين
ألفا.
[وذكر ابن عساكر في ترجمة عبيد بْنِ الْحَسَنِ الْأَعْرَجِ مِنْ وَلَدِ
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ
مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فِي حِصَارِ دِمَشْقَ، أَنَّهُمْ
أَقَامُوا مُحَاصِرِيهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ مِائَةُ يَوْمٍ،
وَقِيلَ شَهْرًا وَنِصْفًا، وَأَنَّ الْبَلَدَ كَانَ قَدْ حَصَّنَهُ
نَائِبُ مَرْوَانَ تَحْصِينًا عَظِيمًا، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَهْلُهَا
فِيمَا بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ الْيَمَانِيَةِ وَالْمُضَرَيَّةِ، وَكَانَ
ذَلِكَ سَبَبَ الْفَتْحِ، حَتَّى إِنَّهُمْ جَعَلُوا فِي كُلِّ
مَسْجِدٍ مِحْرَابَيْنِ لِلْقِبْلَتَيْنِ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ مِنْبَرَيْنِ، وَإِمَامَيْنِ يَخْطُبَانِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرَيْنِ، وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ مَا وَقَعَ،
وَغَرِيبِ مَا اتَّفَقَ، وَفَظِيعِ مَا أُحْدِثَ بِسَبَبِ الْفِتْنَةِ
وَالْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ والعافية.
وقد بسط ذلك ابن عساكر في هذه التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَكَرَ
فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
النَّوْفَلِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ
أَوَّلَ مَا دخل دمشق، دخلها بالسيف، وأباح القتل فيها ثلاث ساعات،
وجعل جامعها سبعين يوما اسطبلا لِدَوَابِّهِ وَجِمَالِهِ، ثُمَّ نَبَشَ
قُبُورَ بَنِي أُمَيَّةَ فَلْمْ يَجِدْ فِي قَبْرِ مُعَاوِيَةَ إِلَّا
خَيْطًا أَسْوَدَ مِثْلَ الْهَبَاءِ، وَنَبَشَ قَبْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بن مروان فوجد جمجمة، وكان يجد في القبر العضو بعد العضو، إلا هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ وَجَدَهُ صَحِيحًا لم يبل منه غير
أرنبة أنفقه، فَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ وَهُوَ مَيِّتٌ وَصَلَبَهُ
أَيَّامًا ثُمَّ أحرقه ودق رماده ثم ذره فِي الرِّيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ
هِشَامًا كَانَ قَدْ ضَرَبَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، حِينَ
كَانَ قد اتهم بِقَتْلِ وَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ، سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ،
ثُمَّ نَفَاهُ إِلَى الْحُمَيْمَةِ بِالْبَلْقَاءِ. قَالَ: ثُمَّ
تَتَبَّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَوْلَادِ
الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ واحد اثنين
وتسعين ألفا عِنْدَ نَهْرٍ بِالرَّمْلَةِ، وَبَسَطَ عَلَيْهِمُ
الْأَنْطَاعَ وَمَدَّ عليهم سماطا فأكل وهم يختلجون تحته، وهذا من
الجبروت والظلم الّذي يجازيه الله عليه، وقد مضى ولم يدم له ما أراده
ورجاه، كما سيأتي في ترجمته. وَأَرْسَلَ امْرَأَةَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَهِيَ عَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ صَاحِبَةُ الْخَالِ، مَعَ نَفَرٍ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ
إلى البرية ماشية حافية حاسرة عن وجهها وجسدها عن ثيابها ثم قتلوها. ثم
أحرق ما وجده من عظم ميت منهم. وأقام بها عبد الله خمسة عشر يوما] [1]
وَقَدِ اسْتَدْعَى بِالْأَوْزَاعِيِّ فَأُوقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ له: يا أبا عمر وما تقول في هذا الّذي صنعناه؟
قال فقلت لَهُ: لَا أَدْرِي، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم عن علقمة
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ الأوزاعي: وانتظرت رأسي أن يَسْقُطُ بَيْنَ رِجْلَيَّ ثُمَّ
أُخْرِجْتُ، وَبَعَثَ إِلَيَّ بمائة دينار. ثم سار
__________
[1] سقط من المصرية.
(10/45)
وَرَاءَ مَرْوَانَ فَنَزَلَ عَلَى نَهْرِ
الْكُسْوَةِ وَوَجَّهَ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيَّ نَائِبًا
عَلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ مَرْجَ الرُّومِ، ثُمَّ أَتَى
نَهْرَ أَبِي فُطْرُسَ فَوَجَدَ مَرْوَانَ قَدْ هَرَبَ فدخل مصر، وجاءه
كتاب السفاح: ابعث صالح بن على في طلب مروان وأقم أنت بالشام نائبا
عليها، فسار صالح يطلب مَرْوَانَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، ومعه أبو عمر وَعَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، فَنَزَلَ عَلَى
سَاحِلِ الْبَحْرِ وَجَمَعَ مَا هُنَاكَ مِنَ السُّفُنِ وَبَلَغَهُ
أَنَّ مروان قد نزل الفرما، وقيل الفيوم، فَجَعَلَ يَسِيرُ عَلَى
السَّاحِلِ وَالسُّفُنُ تُقَادُ مَعَهُ فِي الْبَحْرِ حَتَّى أَتَى
الْعَرِيشَ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى النِّيلِ ثُمَّ سَارَ
إِلَى الصَّعِيدِ، فَعَبَرَ مَرْوَانُ النِّيلَ وَقَطَعَ الْجِسْرَ
وَحَرَّقَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ، وَمَضَى صَالِحٌ
فِي طَلَبِهِ. فَالْتَقَى بِخَيْلٍ لِمَرْوَانَ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ
جَعَلَ كُلَّمَا الْتَقَوْا مَعَ خَيْلٍ لِمَرْوَانَ يَهْزِمُونَهُمْ
حَتَّى سَأَلُوا بَعْضَ مَنْ أَسَرُوا عَنْ مَرْوَانَ فدلهم عليه، وإذا
به في كنيسة أبوصير، فَوَافَوْهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَانْهَزَمَ
مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانُ فِي نَفَرٍ
يسير معه فَأَحَاطُوا بِهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، طَعَنَهُ رَجُلٌ مِنْ أهل
البصرة يقال له معود، وَلَا يَعْرِفُهُ حَتَّى قَالَ رَجُلٌ صُرِعَ
أَمِيَرُ المؤمنين. فابتدره رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ
يَبِيعُ الرُّمَّانَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَبَعَثَ بِهِ عَامِرُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ أَمِيُرُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ إِلَى أَبِي عَوْنٍ،
فَبَعَثَ بِهِ أَبُو عَوْنٍ إِلَى صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، فَبَعَثَ بِهِ
صَالِحٌ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
هَانِئٍ كَانَ عَلَى شرطته، لأمير الْمُؤْمِنِينَ السَّفَّاحِ.
وَكَانَ مَقْتَلُ مَرْوَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ يَوْمَ الخميس لست مضين منها سنة ثنتين
وثلاثين ومائة، وكانت خِلَافَتُهُ خَمْسَ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ على المشهور، واختلفوا في سنه فَقِيلَ أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَقِيلَ سِتٌّ وَقِيلَ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ
سِتُّونَ وَقِيلَ اثْنَتَانِ وَقِيلَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ تِسْعٌ
وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانُونَ فاللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ صَالِحَ بْنَ عَلِيٍّ سَارَ إِلَى الشَّامِ وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى مِصْرَ أَبَا عَوْنِ بن أبى يزيد والله سبحانه أعلم.
وهذا شيء من ترجمة مَرْوَانَ الْحِمَارِ
وَهُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ بْنِ أمية، القرشي الأموي، أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأُمُّهُ
أَمَةٌ كُرْدِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا لُبَابَةَ، وَكَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ
بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ، أَخَذَهَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ
يَوْمَ قَتَلَهُ فَاسْتَوْلَدَهَا مَرْوَانَ هَذَا، وَيُقَالُ إِنَّهَا
كَانَتْ أَوَّلًا لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَتْ دَارُ
مَرْوَانَ هَذَا فِي سوق الأكافين، قاله ابْنُ عَسَاكِرَ. بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ قَتْلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَبَعْدَ
مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ الوليد، ثم قدم دمشق وخلع إبراهيم بن الوليد،
واستمر له الأمر في نصف صفر سنة سبع وعشرين ومائة. قال أَبُو مَعْشَرٍ:
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي رَبِيعٍ الأول سنة تسع وَعِشْرِينَ
وَمِائَةٍ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ، نسبة إلى رأى
الجعد بن درهم، وتلقب بِالْحِمَارِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَلَكَ مِنْ
بَنِي أمية، وكانت خِلَافَتُهُ خَمْسَ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وقيل
(10/46)
خمس سنين وشهرا، وبقي بعد أن بويع للسفاح
تسعة أشهر، وكان أبيض مشربا حمرة، أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، كَبِيرَ
اللِّحْيَةِ، ضَخْمَ الْهَامَةِ، رَبْعَةً، وَلَمْ يَكُنْ يُخَضِّبُ.
وَلَّاهُ هِشَامٌ نِيَابَةَ أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ
وَالْجَزِيرَةَ، فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَفَتَحَ
بِلَادًا كَثِيرَةً وَحُصُونًا مُتَعَدِّدَةً فِي سِنِينَ كثيرة، وكان
لا يفارق الغزو في سبيل الله، وقاتل طوائف من الناس الكفار ومن الترك
وَالْخَزَرِ وَاللَّانِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَسَرَهُمْ وَقَهَرَهُمْ،
وَقَدْ كَانَ شجاعا بطلا مقداما حازم الرأى، لولا أن جنده خذلوه بتقدير
الله عز وجل لما له في ذلك من حكمة سلب الخلافة لشجاعته وصرامته. ولكن
من يخذل الله يخذل، ومن يهن الله فما له من مكرم.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يَرَوْنَ أن تَذْهَبُ مِنْهُمُ
الْخِلَافَةُ إِذَا وَلِيَهَا مَنْ أُمُّهُ أمة، فلما وليها مروان هذا
أخذت منهم في سنة ثنتين وثلاثين ومائة. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ: أَخْبَرَنَا أَبُو محمد عبد الرحمن بن أبى الحسين أخبرنا
سهل بن بشر أنبأ الخليل ابن هبة الله بن الخليل أنبأ عَبْدُ
الْوَهَّابِ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْجَهْمِ أَحْمَدُ بن
الحسين أنبأ العباس ابن الوليد بن صبح ثنا عباس بن يحيى أَبُو
الْحَارِثِ حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي راشد بن
داود عن أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ الْخِلَافَةُ في بنى أمية
يتلقفونها تلقف الغلمان الكرة، فإذا خرجت من أيديهم فَلَا خَيْرَ فِي
عَيْشٍ» . هَكَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عساكر وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا،
وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ: مَنْ خَيْرُ
الْخُلَفَاءِ نَحْنُ أو بَنُو أُمَيَّةَ؟ فَقَالَ: هُمْ كَانُوا
أَنْفَعَ لِلنَّاسِ، وأنتم أقوم للصلاة، فَأَعْطَاهُ سِتَّةَ آلَافٍ.
قَالُوا وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ هذا كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ كَثِيرَ
الْعُجْبِ، يُعْجِبُهُ اللَّهْوَ وَالطَّرَبَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ
يَشْتَغِلُ عَنْ ذَلِكَ بِالْحَرْبِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيِّ
بْنِ مُقَلَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُنْقِذٍ بن الْأَمِيرِ فِي مَجْمُوعٍ
لَهُ:
كَتَبَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى جَارِيَةٍ لَهُ تَرَكَهَا
بِالرَّمْلَةِ عِنْدَ ذهابه إِلَى مِصْرَ مُنْهَزِمًا:
وَمَا زَالَ يَدْعُونِي إِلَى الصَّبْرِ مَا أَرَى ... فَآبَى
وَيُدْنِينِي الَّذِي لَكَ فِي صَدْرِي
وَكَانَ عَزِيزًا أَنْ تَبِيتِي وَبَيْنَنَا ... حِجَابٌ فَقَدْ
أَمْسَيْتِ مِنِّي عَلَى عَشْرِ
وَأَنْكَاهُمَا وَاللَّهِ لِلْقَلْبِ فَاعْلَمِي ... إِذَا زِدْتُ
مِثْلَيْهَا فَصِرْتُ عَلَى شَهْرِ
وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَيْنِ وَاللَّهِ أَنَّنِي ... أَخَافُ بِأَنْ لَا
نَلْتَقِي آخِرَ الدَّهْرِ
سَأَبْكِيكِ لَا مُسْتَبْقِيًا فَيْضَ عَبْرَةٍ ... وَلَا طَالِبًا
بِالصَّبْرِ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اجْتَازَ مَرْوَانُ وَهُوَ هَارِبٌ بِرَاهِبٍ
فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الرَّاهِبُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا
رَاهِبُ هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ بِالزَّمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ! عِنْدِي
مِنْ تَلَوُّنِهِ أَلْوَانٌ. قَالَ: هَلْ تَبْلُغُ الدُّنْيَا مِنَ
الْإِنْسَانِ أَنْ تجعله مملوكا [بعد أن كان مالكا؟ قال: نعم! قال:
فكيف؟ قال: بحبه لها وحرصه على نيل شهواتها]
(10/47)
[وتضييع الحزم وترك انتهاز الفرض. فان كنت
تحبها فان عبدها من أحبها] [1] قال فما السبيل إلى العتق؟ قال: ببغضها
والتجافي عَنْهَا. قَالَ: هَذَا مَا لَا يَكُونُ. قَالَ الراهب: أما
إنه سيكون، فبادر بالهرب منها قبل أن تسلبها. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟
قَالَ: نَعَمْ! أَنْتَ مِلْكُ العرب مروان، تقبل في بلاد السودان:
وتدفن بلا أكفان، فلولا أن الموت في طلبك لدلتك على موضع هربك. قال بعض
الناس: كان يقال في ذلك الزمان يقع ع بْنِ ع بْنِ ع م بْنَ م بْنِ م
يَعْنُونَ يَقْتُلُ عَبْدُ اللَّهِ بن على بْنِ عَبَّاسٍ مَرْوَانَ
بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَلَسَ مَرْوَانُ يَوْمًا وَقَدْ أُحِيطَ بِهِ
وَعَلَى رَأْسِهِ خَادِمٌ لَهُ قَائِمٌ، فَقَالَ مروان لِبَعْضِ مَنْ
يُخَاطِبُهُ: أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ لَهْفِي عَلَى أَيْدٍ مَا
ذُكِرَتْ، وَنِعَمٍ مَا شُكِرَتْ، وَدَوْلَةٍ مَا نُصِرَتْ. فَقَالَ
لَهُ الْخَادِمُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ تَرَكَ الْقَلِيلَ
حَتَّى يَكْثُرَ، وَالصَّغِيرَ حَتَّى يَكْبُرَ، وَالْخَفِيَّ حَتَّى
يَظْهَرَ، وَأَخَّرَ فِعْلَ الْيَوْمِ لِغَدٍ، حَلَّ بِهِ أَكْثَرُ
مِنْ هَذَا. فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الْقَوْلُ أَشُدُّ عَلَيَّ مِنْ
فَقْدِ الْخِلَافَةِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَرْوَانَ قُتِلَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ،
وَبَلَغَ الثَّمَانِينَ. وَقِيلَ إِنَّمَا عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَهُوَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ بِهِ
انْقَضَتْ دَوْلَتُهُمْ.
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي انْقِضَاءِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ
وَابْتِدَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنَ الْأَخْبَارِ
النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا
قَالَ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِذَا بلغ بنو الْعَاصِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا
دِينَ اللَّهِ دَغَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَمَالَ اللَّهِ
دُوَلًا» . وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ، وَرَوَى ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ
عَنِ ابْنِ وهب أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ
مَرْوَانُ بن الحكم فتكلم فِي حَاجَةٍ فَقَالَ: اقْضِ حَاجَتِي
فَإِنِّي لَأَبُو عشرة، وأخو عشرة وعم عَشَرَةٍ. فَلَمَّا أَدْبَرَ
مَرْوَانُ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى
السَّرِيرِ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا بَلَغَ بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ
رَجُلًا اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دُوَلًا، وَعِبَادَ
اللَّهِ خَوَلًا، وَكِتَابَ اللَّهِ دَغَلًا، فَإِذَا بَلَغُوا
سَبْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعَمِائَةٍ، كَانَ هَلَاكُهُمْ أَسْرَعَ
مِنْ لَوْكِ تَمْرَةٍ» . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
اللَّهمّ نعم؟ فلما أدبر مروان قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْشُدُكَ باللَّه
يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا فَقَالَ: «أَبُو
الْجَبَابِرَةِ الْأَرْبَعَةِ» . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهمّ
نَعَمْ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِىُّ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ
بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مَازِنٍ الرَّاسِبِيُّ قَالَ: قَامَ
رجل إلى الحسين بن على فقال: يا مسود وجوه المؤمنين! فقال الحسين: لَا
تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بَنِي أُمَيَّةَ يَخْطُبُونَ عَلَى
مِنْبَرِهِ رَجُلًا رَجُلًا فَسَاءَهُ ذَلِكَ فنزلت إِنَّا
أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ 108: 1 وَهُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ،
وَنَزَلَتْ إِنَّا أَنْزَلْناهُ 97: 1
__________
[1] سقط من المصرية.
(10/48)
في لَيْلَةِ الْقَدْرِ 97: 1 السورة إلى
قوله خَيْرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ 97: 3 مملكة بنى أُمَيَّةَ. قَالَ:
فَحَسَبْنَا ذَلِكَ فَإِذَا هُوَ كَمَا قال لا يزيد وَلَا يَنْقُصُ.
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْ
أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ
إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ
وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ. قَالَ: وَشَيْخُهُ
يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ وَيُقَالُ يُوسُفُ بْنُ مَازِنٍ، رَجُلٌ
مَجْهُولٌ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ
بْنِ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَى نَكَارَةِ
هَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّفْسِيرِ بِكَلَامٍ مبسوط، وإنما يكون متجها
إذا قيل إن دولتهم ألف شهر بأن نسقط منها أيام ابن الزُّبَيْرِ،
وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بُويِعَ لَهُ مُسْتَقِلًّا بِالْمُلْكِ فِي
سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَهِيَ عَامُ الْجَمَاعَةِ حِينَ سَلَّمَ إِلَيْهِ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَمْرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ قَتْلِ
عَلِيٍّ، ثُمَّ زَالَتِ الْخِلَافَةُ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ فِي هَذِهِ
السنة، وهي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ
ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سنة، وإذا أسقط منها تسع سنين خلافة ابن الزبير
بقي ثلاث وثمانون سنة، وهي مباينة لِمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ،
وَلَكِنْ لَيْسَ هذا الحديث مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه فسر هذه الآية بهذا العدد، وإنما هذا
من قول بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ
مُطَوَّلًا فِي التَّفْسِيرِ، وَتَقَدَّمُ فِي الدَّلَائِلِ أَيْضًا
تَقْرِيرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «رَأَيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَيَّ فَأُنْزِلَتْ:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» فِيهِ ضَعْفٌ
وَإِرْسَالٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا
يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ
سُفْيَانَ الثوري عن على بن يزيد عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي
قَوْلُهُ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ 17: 60 قَالَ: رَأَى نَاسًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
عَلَى الْمَنَابِرِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّمَا هِيَ دنيا يعطونها وتضمحل عن قليل فَسُرِّيَ عَنْهُ. وَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى فلانا وهو من
بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ فشق ذلك
عليه فأنزل الله وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ
إِلى حِينٍ 21: 111 وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: سَمِعْتُ أَبَا
الجوزاء يقول والله ليعزّن الله ملك بنى أمية كما أعز ملك من كان
قبلهم، ثم ليذلنّ ملكهم كما أذلّ ملك من كان قبلهم، ثم تلا قَوْلَهُ
تَعَالَى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ 3: 140.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ
ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ
بْنُ سَيْفٍ مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيَّبِ وهو يقول لأبى بكر بن سليمان بن أبى خيثمة-
وَذَكَرُوا بَنِي أُمَيَّةَ- فَقَالَ:
لَا يَكُونُ هَلَاكُهُمْ إِلَّا بَيْنَهُمْ. قَالُوا كَيْفَ؟ قَالَ:
يَهْلَكُ خُلَفَاؤُهُمْ وَيَبْقَى شِرَارُهُمْ فَيَتَنَافَسُونَهَا،
ثُمَّ يَكْثُرُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ فَيُهْلِكُونَهُمْ. وَقَالَ
يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْأَزْرَقِيُّ ثَنَا الزِّنْجِيُّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بنى
أبى»
(10/49)
الْحَكَمِ أَوْ بَنِي أَبِي الْعَاصِ
يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي كَمَا تَنْزُو الْقِرَدَةُ: قَالَ فَمَا
رُئِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُسْتَجْمِعًا ضاحكا بعدها حَتَّى تُوُفِّيَ» . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الداريّ [لعله الدَّارِمِيُّ]
: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ-
أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ- عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ
الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ هُوَ الْحِمْصِيُّ عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: جَاءَ الْحَكَمُ بْنُ
أَبِي الْعَاصِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ كَلَامَهُ فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ صبت
عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَعَلَى مَنْ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ إِلَّا
الْمُؤْمِنِينَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، يُشَرَّفُونَ في الدنيا ويوضعون في
الآخرة، ذو ودهاء وخديعة، يعطون فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ: أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ
الْحَافِظُ أنبأ أبو القاسم تمام بْنُ خُرَيْمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَرْوَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
هِشَامِ بْنِ ملابس ثَنَا أَبُو النَّضِرِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ يَزِيدَ [مَوْلَى أَمِّ الْحِكَمِ بِنْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ] [1] بْنُ رَبِيعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ
الصَّنْعَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِ
أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، فَنَحَبَ ثُمَّ تَبَسَّمَ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ نَحَبْتَ ثُمَّ
تَبَسَّمْتَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ بَنِي أمية يَتَعَاوُرُونَ عَلَى
مِنْبَرِي فَسَاءَنِي ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَنِي الْعَبَّاسِ
يَتَعَاوُرُونَ عَلَى مِنْبَرِي فَسَرَّنِي ذَلِكَ» . وَقَالَ
يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ هشام المعيطي عن أبان بن الوليد عن
عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مَعِيطٍ. قَالَ: قَدِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى
مُعَاوِيَةَ وَأَنَا حَاضِرٌ فَأَجَازَهُ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ،
ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ! هَلْ يكون لَكُمْ دَوْلَةٌ؟
فَقَالَ: أَعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:
لَتُخْبِرَنِّي، قَالَ نَعَمْ! قَالَ فَمَنْ أَنْصَارُكُمْ؟
قَالَ: أَهْلُ خُرَاسَانَ. وَلِبَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
نَطَحَاتٍ.
وَقَالَ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:
سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: يَكُونُ مِنَّا ثَلَاثَةٌ أَهْلَ
الْبَيْتِ السَّفَّاحُ، وَالْمَنْصُورُ، وَالْمَهْدِيُّ. رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَرَوَاهُ الْأَعْمَشِ عَنِ
الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي
خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَمَا افْتَتَحَ اللَّهُ بِأَوَّلِنَا فَأَرْجُو أَنْ يَخْتِمَهُ
بِنَا. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَذَا وقع ويقع للمهدي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ
الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي عِنْدَ انْقِطَاعٍ مِنَ
الزَّمَانِ وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ، يُقَالُ لَهُ السَّفَّاحُ،
يُعْطِي الْمَالَ حيثا» . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا
الثَّوْرِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ
أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رسول
__________
[1] زيادة من المصرية.
(10/50)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «يَقْتَتِلُ عِنْدَ حرتكم هَذِهِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ
وَلَدُ خَلِيفَةٍ لَا تَصِيرُ إلى واحد منهم، ثم تقبل الرايات مِنْ
خُرَاسَانَ فَيَقْتُلُونَكُمْ مَقْتَلَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا. ثم ذكر
شيئا فإذا كان كذلك فَأْتُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ،
فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ» . وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ
عَنْ ثَوْبَانَ فَوَقَفَهُ وَهُوَ أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ
وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: ثنا راشد بن سعد حدثني يونس ابن
يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ قَبِيصَةَ هُوَ ابْنُ ذُؤَيْبٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ
لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى تنصب بإيليا» . وَقَدْ رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ راشد بْنِ سَعْدٍ
الْمِصْرِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ قَالَ: قد روى قريبا مِنْ هَذَا
عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَهُوَ أَشْبَهُ. ثم رواه عن كعب أيضا قَالَ:
«تَظْهَرُ رَايَاتٌ سُودٌ لِبَنِي الْعَبَّاسِ حَتَّى يَنْزِلُوا
الشَّامَ، وَيَقْتُلُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ كُلَّ جبار وعدو لهم»
. وروى إبراهيم بن الحسين عَنِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنِ ابْنِ أَبِي
ذؤيب عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَامِرِيِّ عَنْ
سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: «فيكم النوبة
وفيكم المملكة» . وروى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ
مَعِينٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي
قُبَيْلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ مَوْلَى الْعَبَّاسِ قَالَ سَمِعْتُ
الْعَبَّاسَ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: «انْظُرْ هَلْ تَرَى فِي
السَّمَاءِ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: مَا تدري؟
قُلْتُ: الثُّرَيَّا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ سَيَمْلِكُ هَذِهِ
الْأُمَّةَ بِعَدَدِهَا مِنْ صُلْبِكَ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ:
عُبَيْدُ بْنُ أَبِي قُرَّةَ لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. وَرَوَى
ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حَجَّاجُ بْنُ
تَمِيمٍ عَنْ مَيْمُونٍ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
«مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَعَهُ جِبْرِيلُ وَأَنَا أَظُنُّهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ، فَقَالَ
جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّهُ لَوَسِخُ الثِّيَابِ، وَسَيَلْبِسُ وَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ
السَّوَادَ» .
وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا شَكَّ أن بنى العباس كان
السواد من شعارهم، أخذوا ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ
عمامة سوداء، فأخذوا بذلك وجعلوه شعارهم في الأعياد والجمع
وَالْمَحَافِلِ. وَكَذَلِكَ كَانَ جُنْدُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
عَلَى أَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ، وَمِنْ ذلك الشر بوش الّذي
يلبسه الأمراء إذا خلع عليهم. وكذلك دخل عبد الله بن على دمشق يوم
دخلها وعليه السواد، فجعل النساء والغلمان يَعْجَبُونَ مِنْ لِبَاسِهِ،
وَكَانَ دُخُولُهُ مِنْ بَابِ كيسان. وقد خطب الناس يَوْمَ الْجُمُعَةِ
وَصَلَّى بِهِمْ وَعَلَيْهِ السَّوَادُ. وَقَدْ روى ابن عساكر عن بعض
الخراسانية قال: لما صلى عبد الله بن على بالناس يوم الجمعة صلى إلى
جانبي رجل فقال: الله أكبر، سبحانك اللَّهمّ ويحمدك وَتَبَارَكَ
اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، انظروا إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ مَا أَقْبَحَ وجهه وأشنع سواده؟! وشعارهم
إلى يومك هذا كما تراه على الخطباء يوم الجمعة والأعياد.
(10/51)
ذكر استقرار أبى
العباس السفاح
وهو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ واستقلاله بالخلافة وَمَا اعْتَمَدَهُ فِي أَيَّامِهِ
مِنَ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ قد تقدم أنه أول ما بويع له بالخلافة
بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، سَنَةَ ثنتين
وثلاثين ومائة، ثم جرد الجيوش إلى مروان فطردوه عن المملكة وأجلوه
عنها، وما زالوا خلفه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد، بأرض مصر، فِي
الْعُشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هذه السنة على ما تقدم
بيانه، وحينئذ استقل السفاح بالخلافة وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى
بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْحِجَازِ والشام والديار المصرية،
خلا بلاد الأندلس، فإنه لم يحكم عليها ولا وصل سلطانه إليها، وذلك أن
بعض من دخلها من بنى أمية استحوذ عليها وملكها كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ. وَقَدْ خَرَجَ عَلَى السَّفَّاحِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
طَوَائِفُ، فَمِنْهُمْ أَهْلُ قِنَّسْرِينَ بعد ما بايعوه على يدي عمه
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَقَرَّ عَلَيْهِمْ أَمِيرُهُمْ
مَجْزَأَةُ بْنُ الْكَوْثَرِ بْنِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ
الْكِلَابِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مَرْوَانَ وَأُمَرَائِهِ،
فَخَلَعَ السَّفَّاحَ وَلَبِسَ الْبَيَاضَ، وَحَمَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ
عَلَى ذَلِكَ فَوَافَقُوهُ، وَكَانَ السَّفَّاحُ يَوْمَئِذٍ
بِالْحِيرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ مَشْغُولٌ بِالْبَلْقَاءِ
يُقَاتِلُ بِهَا حبيب بن مرة المزي وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ
الْبَلْقَاءِ وَالْبَثَنِيَّةِ وَحَوْرَانَ على خلع السفاح، فَلَمَّا
بَلَغَهُ عَنْ أَهْلِ قِنَّسْرِينَ مَا فَعَلُوا صالح حبيب بن مرة وسار
نَحْوَ قِنَّسْرِينَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِدِمَشْقَ- وَكَانَ بِهَا
أَهْلُهُ وَثِقَلُهُ- اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَبَا غَانِمٍ عَبْدَ
الحميد بن ربعي الكناني فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا جَاوَزَ
الْبَلَدَ وَانْتَهَى إِلَى حِمْصَ، نَهَضَ أَهْلُ دِمَشْقَ مَعَ
رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ سراقة
فخلعوا السفاح وبيضوا وقتلوا الأمير أبا غانم وَقَتَلُوا جَمَاعَةً
مِنْ أَصْحَابِهِ وَانْتَهَبُوا ثِقَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ
وَحَوَاصِلِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَهْلِهِ. وتفاقم الأمر على عبد
الله وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ تَرَاسَلُوا مَعَ أَهْلِ حمص
وتزمروا وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ، وَهُوَ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ معاوية بن أبى
سفيان، فبايعوه بِالْخِلَافَةِ وَقَامَ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا فَقَصَدَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فَالْتَقَوْا
بِمَرْجِ الأخرم، فَاقْتَتَلُوا مَعَ مُقَدِّمَةِ السُّفْيَانِيِّ
وَعَلَيْهَا أَبُو الْوَرْدِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا
وَهَزَمُوا عَبْدَ الصَّمَدِ وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أُلُوفٌ،
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بن على ومعه حميد بن قحطبة
فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، وَجَعَلَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ
يَفِرُّونَ وَهُوَ ثَابِتٌ وهو حميد. وَمَا زَالَ حَتَّى هُزِمَ
أَصْحَابُ أَبِي الْوَرْدِ، وثبت أبو الورد في خمسمائة فارس مِنْ
أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَوْمِهِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا وَهَرَبَ أَبُو
مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى لَحِقُوا بِتَدْمُرَ،
وَآمَنَ عَبْدُ اللَّهِ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ وَسَوَّدُوا وبايعوه
ورجعوا إلى الطاعة، ثم كر عبد الله راجعا إلى دِمَشْقَ وَقَدْ بَلَغَهُ
مَا صَنَعُوا، فَلَمَّا دَنَا منها تفرقوا عنها ولم يكن منهم قتال
فأمنهم ودخلوا في الطاعة. وَأَمَّا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ
فَإِنَّهُ مَا زَالَ مضيعا ومشتتا حَتَّى لَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ
فَقَاتَلَهُ
(10/52)
نائب أبى جعفر المنصور في أيام المنصور،
فَقَتَلَهُ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ وَبِابْنَيْنِ لَهُ أَخَذَهُمَا
أَسِيرَيْنِ فأطلقهما المنصور في أيامه. وقد قيل إن وقعة السفياني
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سنة ثنتين
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ خَلَعَ السَّفَّاحَ أَيْضًا أَهْلُ الْجَزِيرَةِ حِينَ
بَلَغَهُمْ أَنَّ أَهْلَ قنسرين خلعوا، فوافقوهم وَبَيَّضُوا
وَرَكِبُوا إِلَى نَائِبِ حَرَّانَ مِنْ جِهَةِ السَّفَّاحِ- وَهُوَ
مُوسَى بْنُ كَعْبٍ- وَكَانَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ قَدِ اعْتَصَمَ
بِالْبَلَدِ، فَحَاصَرُوهُ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ بَعَثَ
السَّفَّاحُ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ فِيمَنْ كَانَ
بِوَاسِطَ مُحَاصِرِي ابْنِ هبيرة، فمر في مسيره إلى حران بقرقيسياء
وَقَدْ بَيَّضُوا فَغَلَّقُوا أَبْوَابَهَا دُونَهُ، ثُمَّ مَرَّ
بِالرَّقَّةِ وَعَلَيْهَا بِكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُمْ كَذَلِكَ، ثم
بحاجر وَعَلَيْهَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ
الْجَزِيرَةِ يُحَاصِرُونَهَا فَرَحَلَ إِسْحَاقُ عَنْهَا إِلَى
الرُّهَا، وَخَرَجَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ فِيمَنْ مَعَهُ من جند حران
فتلقاه المنصور وَدَخَلُوا فِي جَيْشِهِ، وَقَدِمَ بَكَّارُ بْنُ
مُسْلِمٍ عَلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ مُسْلِمٍ بِالرُّهَا
فَوَجَّهَهُ إِلَى جَمَاعَةِ رَبِيعَةَ بَدَارَا وَمَارِدِينَ،
وَرَئِيسُهُمْ حَرُورِيٌّ يقال له بريكة، فصارا حِزْبًا وَاحِدًا،
فَقَصَدَ إِلَيْهِمْ أَبُو جَعْفَرٍ فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَقَتَلَ بَرِيكَةَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَهَرَبَ بَكَّارٌ إِلَى
أَخِيهِ بِالرُّهَا، فَاسْتَخْلَفَهُ بِهَا وَمَضَى بمعظم العسكر [حتى
نزل] سميساط وخندق عَلَى عَسْكَرِهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ
فَحَاصَرَ بَكَّارًا بِالرُّهَا، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ وَقَعَاتٌ.
وَكَتَبَ السَّفَّاحُ إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَنْ
يَسِيرَ إِلَى سُمَيْسَاطَ وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ
مُسْلِمٍ سِتُّونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، فسار إليهم عبد
الله وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، فَكَاتَبَهُمْ
إِسْحَاقُ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ،
عَلَى إذن أمير المؤمنين. وولى السفاح أخاه أبا جعفر المنصور
الْجَزِيرَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ
عَلَيْهَا حَتَّى أفضت إليه الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَخِيهِ، وَيُقَالُ
إِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ مُسْلِمٍ الْعَقِيلِيَّ إِنَّمَا طَلَبَ
الْأَمَانَ لَمَّا تَحَقَّقَ أن مروان قد قُتِلَ، وَذَلِكَ بَعْدَ
مُضِيِّ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ مُحَاصَرٌ، وَقَدْ كَانَ صَاحِبًا
لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فَآمَنَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ذَهَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ
أَمْرِ أَخِيهِ السَّفَّاحِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
وَهُوَ أَمِيرُهَا، لِيَسْتَطْلِعَ رَأْيَهُ فِي قتل أبى سلمة، لأنه
كان يريد أن يصرف الخلافة عنهم، فيسأله هل ذلك كان عن ممالأة أبى مسلم
لأبى سلمة فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ
السَّفَّاحُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا عَنْ رَأْيِهِ إِنَّا لبعر بلاء عظيم،
إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ اللَّهُ عَنَّا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَقَالَ
لِي أَخِي: مَا تَرَى؟
فَقُلْتُ: الرأى رأيك. فقال: إنه لَيْسَ أَحَدٌ أَخَصُّ بِأَبِي
مُسْلِمٍ مِنْكَ، فَاذْهَبْ إليه فاعلم لي عِلْمَهُ، فَإِنْ كَانَ عَنْ
رَأْيِهِ احْتَلْنَا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ رَأْيِهِ طَابَتْ
أَنْفُسُنَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ قَاصِدًا
عَلَى وجل. قال المنصور: فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى الرَّيِّ إِذَا
كِتَابُ أَبِي ملم إلى نائبها يستحثنى إليه في المسير، فَازْدَدْتُ
وَجَلًا، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى نَيْسَابُورَ إِذَا كِتَابُهُ
يَسْتَحِثُّنِي أَيْضًا وَقَالَ لِنَائِبِهَا: لَا تَدْعْهُ يقر ساعة
(10/53)
وَاحِدَةً، فَإِنَّ أَرْضَكَ بِهَا
خَوَارِجُ، فَانْشَرَحْتُ لِذَلِكَ، فلما صرت من مرو على فرسخين، خرج
يتلقاني ومعه الناس، فلما واجهني ترجل فَقَبَّلَ يَدِي، فَأَمَرْتُهُ
فَرَكِبَ. فَلَمَّا دَخَلْتُ مَرْوَ نزلت في داره فمكث ثلاثا لا يسألنى
في أي شيء جئت، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ سَأَلَنِي مَا
أقدمك؟ فأخبرته بالأمر.
فَقَالَ: أَفْعَلَهَا أَبُو سَلَمَةَ؟ أَنَا أَكْفِيكُمُوهُ. فَدَعَا
مَرَّارَ بْنَ أَنَسٍ الضَّبِّيَّ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى الْكُوفَةِ
فَحَيْثُ لَقِيتَ أَبَا سَلَمَةَ فَاقْتُلْهُ، وَانْتَهِ فِي ذَلِكَ
إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. فَقَدِمَ مَرَّارٌ الْكُوفَةَ
الْهَاشِمِيَّةَ، وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ يَسْمُرُ عِنْدَ السَّفَّاحِ،
فَلَمَّا خَرَجَ قَتَلَهُ مَرَّارٌ وَشَاعَ أَنَّ الْخَوَارِجَ
قَتَلُوهُ، وَغُلِّقَتِ الْبَلَدُ. ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَخُو أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدُفِنَ
بِالْهَاشِمِيَّةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ.
وَيُقَالُ لِأَبِي مُسْلِمٍ أَمِيرُ آلِ محمد. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْوَزِيرَ وَزِيرَ آلِ مُحَمَّدِ ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
ويقال إن أبا جعفر إنما سار إلى أبى مسلم بعد قتل أبى سلمة وكان معه
ثلاثون رجلا على البريد، مِنْهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ،
وَإِسْحَاقُ بْنُ الْفَضْلِ الهاشمي، وجماعة مِنَ السَّادَاتِ.
وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ خراسان قال لأخيه: لَسْتَ
بِخَلِيفَةٍ مَا دَامَ أَبُو مُسْلِمٍ حَيًّا حتى تقتله، لما رأى من
طاعة العساكر له، فقال له السفاح: اكتمها فسكت. ثم إن السفاح بعث أخاه
أبا جعفر إلى قتال ابْنِ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطَ، فَلَمَّا اجْتَازَ
بِالْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ أَخَذَهَ مَعَهُ، فَلَمَّا أُحِيطَ
بِابْنِ هُبَيْرَةَ كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ لِيُبَايِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ
جَوَابَهُ، فَمَالَ إِلَى مُصَالَحَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَاسْتَأْذَنَ
أَبُو جَعْفَرٍ أَخَاهُ السَّفَّاحَ فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِي
الْمُصَالَحَةِ، فَكَتَبَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ كِتَابًا بِالصُّلْحِ،
فَمَكَثَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يُشَاوِرُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا. ثُمَّ خَرَجَ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ إِلَى
أَبِي جَعْفَرٍ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْبُخَارِيَّةِ،
فَلَمَّا دَنَا مِنْ سُرَادِقِ أَبِي جَعْفَرٍ هَمَّ أَنْ يَدْخُلَ
بِفَرَسِهِ فَقَالَ الْحَاجِبُ سَلَّامٌ: انْزِلْ أَبَا خَالِدٍ.
فَنَزَلَ وَكَانَ حَوْلَ السُّرَادِقِ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ
خُرَاسَانَ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ فَقَالَ: أَنَا وَمَنْ
مَعِي؟ قَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ وَحْدَكَ، فَدَخَلَ وَوُضِعَتْ لَهُ
وِسَادَةٌ فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَحَادَثَهُ أَبُو جَعْفَرٍ سَاعَةً
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَأَتْبَعَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بَصَرَهُ،
ثُمَّ جَعَلَ يَأْتِيهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ فِي خَمْسِمِائَةِ
فَارِسٍ وَثَلَاثِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى أَبِي
جَعْفَرٍ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لِلْحَاجِبِ: مُرْهُ فَلْيَأْتِ فِي
حَاشِيَتِهِ، فَكَانَ يَأْتِي فِي ثَلَاثِينَ نَفْسًا، فَقَالَ
الْحَاجِبُ: كأنك تأتى متأهبا [1] ؟ فقال: لو أمرتموني بالمشي لمشيت
إليكم، ثم كان يأتى فِي ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ.
وَقَدْ خَاطَبَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَوْمًا لِأَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ
لَهُ فِي غُبُونِ كَلَامِهِ: يَا هَنَاهُ- أَوْ قَالَ يَا أَيُّهَا
الْمَرْءُ- ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لِسَانُهُ
إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْذَرَهُ. وَقَدْ كَانَ السَّفَّاحُ كَتَبَ إِلَى
أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي مُصَالَحَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ
فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ السَّفَّاحُ لا يقطع أمرا دونه،
فَلَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى يَدَيْ أَبِي جَعْفَرٍ لم يحب السفاح
ذلك ولم يعجبه، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ،
فَرَاجَعَهُ أبو جعفر مرارا
__________
[1] في تاريخ ابن جرير «مباهيا» .
(10/54)
لا يفيده ذلك شيئا، حتى جاء كتاب السفاح أن
اقتله لا محالة [لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ
الْعَظِيمِ كيف يعطى الأمان وينكث؟ هذا فعل الجبابرة [1]] وَأَقْسَمَ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو جعفر طائفة من
الخراسانية فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ وَفِي
حِجْرِهِ صبي صَغِيرٌ، وَحَوْلُهُ مَوَالِيهِ وَحَاجِبُهُ، فَدَافَعَ
عَنْهُ ابْنُهُ حَتَّى قُتِلَ وَقُتِلَ خَلْقٌ مِنْ مَوَالِيهِ،
وَخَلَصُوا إِلَيْهِ، فَأَلْقَى الصَّبِيَّ مِنْ حِجْرِهِ وَخَرَّ
سَاجِدًا فَقُتِلَ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ، فَنَادَى
أَبُو جعفر في الناس بالأمان إلا عبد الملك بن بشر وخالد ابن سَلَمَةَ
الْمَخْزُومِيَّ وَعُمَرَ بْنَ ذَرٍّ. فَسَكَنَ النَّاسُ ثم استؤمن
لبعض هؤلاء وقتل بعضا.
وفي هذه السنة بعث أبو مسلم الخراساني مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ
إِلَى فَارِسَ وَأَمَرَهُ أَنْ يأخذ عمال أبى سلمة الخلال فَيَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَفِيهَا وَلَّى السَّفَّاحُ أَخَاهُ
يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا، وَوَلَّى عمه داود
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْيَمَنَ وَالْيَمَامَةَ، وَعَزَلَهُ عَنِ
الْكُوفَةِ وولى مكانه عليها عيسى بن موسى، وولى قَضَاءَهَا ابْنَ
أَبِي لَيْلَى، وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ سُفْيَانُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الْمُهَلَّبِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا الحجاج ابن
أَرْطَاةَ، وَعَلَى السِّنْدِ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَعَلَى
فَارِسَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ. وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ
وَأَذْرَبِيجَانَ والجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام وأعمالها
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَمُّ السَّفَّاحِ، وَعَلَى مِصْرَ أَبُو
عَوْنٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَزِيدَ. وَعَلَى خُرَاسَانَ
وَأَعْمَالِهَا أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعَلَى دِيوَانِ
الْخَرَاجِ خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فيها دَاوُدُ
بْنُ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَبُو عَبْدِ
الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ، آخِرُ خلفاء بنى أمية، فقتل فِي الْعُشْرِ
الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هذه السنة كما تقدم ذلك مبسوطا،
وَوَزِيرُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، الْكَاتِبُ الْبَلِيغُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ
الْمَثَلُ، فَيُقَالُ فُتِحَتِ الرَّسَائِلُ بِعَبْدِ الْحَمِيدِ،
وَخُتِمَتْ بِابْنِ الْعَمِيدِ. وَكَانَ إِمَامًا فِي الْكِتَابَةِ
وَجَمِيعِ فُنُونِهَا، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِيهَا. وَلَهُ رَسَائِلُ
فِي أَلْفِ وَرَقَةٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ قيسارية ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ،
وَتَعَلَّمَ هَذَا الشَّأْنَ مَنْ سَالِمٍ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ وَزِيرُ الْمَهْدِيِّ
يَكْتُبُ بَيْنَ يديه، وعليه تخريج، وَكَانَ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَبْدِ الْحَمِيدِ مَاهِرًا فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ
أَوَّلًا يُعَلِّمُ الصبيان ثم تقلبت به الأحوال أن صار وزيرا لمروان،
وقتله السَّفَّاحُ وَمَثَّلَ بِهِ، وَكَانَ اللَّائِقُ بِمِثْلِهِ
الْعَفْوَ عَنْهُ. وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ: الْعِلْمُ شَجَرَةٌ
ثَمَرَتُهَا الْأَلْفَاظُ، وَالْفِكْرُ بَحْرٌ لُؤْلُؤُهُ الْحِكْمَةُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ وقد رأى رجلا [2] يكتب خطا رديئا فقال: أَطِلْ
جَلْفَةَ قَلَمِكَ وَأَسْمِنْهَا، وَحَرِّفْ قَطَّتَكَ وَأَيْمِنْهَا.
قَالَ الرَّجُلُ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَجَادَ خَطِّي. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ
أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى بَعْضِ الْأَكَابِرِ يُوصِيهِ بِهِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: حَقُّ مُوَصِّلِ كتابي إليك كحقّه عليّ
__________
[1] زيادة من نسخة استامبول.
[2] هو إبراهيم بن جبلة.
(10/55)
إِذْ رَآكَ مَوْضِعًا لِأَمَلِهِ، وَرَآنِي
أَهْلًا لِحَاجَتِهِ، وقد قضيت أنا حاجته فصدق أنت أَمَلَهُ. وَكَانَ
كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ: -
إذا خرج الكتاب كان دويهم ... قسيا وأقلام القسي لَهَا نَبْلًا
وَأَبُو سَلَمَةَ حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، هو أَوَّلُ مَنْ وَزَرَ
لِآلِ الْعَبَّاسِ، قَتَلَهُ أَبُو مسلم بالأنبار عَنْ أَمْرِ
السَّفَّاحِ، بَعْدَ وِلَايَتِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، في شهر رجب.
وكان ذا هيئة فاضلا حسن المفاكهة، وكان السفاح يأنس به وَيُحِبُّ
مُسَامَرَتَهُ لِطِيبِ مُحَاضَرَتِهِ، وَلَكِنْ تَوَهَّمَ مَيْلَهُ لآل
على فدس أبو مسلم عليه مَنْ قَتَلَهُ غِيلَةً كَمَا تَقَدَّمَ،
فَأَنْشَدَ السَّفَّاحُ عند قتله:
إِلَى النَّارِ فَلْيَذْهَبْ وَمَنْ كَانَ مِثْلُهُ ... عَلَى أَيِّ
شَيْءٍ فَاتَنَا مِنْهُ نَأْسَفُ
كَانَ يُقَالُ لَهُ وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ، وَيُعْرَفُ بِالْخَلَّالِ،
لِسُكْنَاهُ بدرب الخلالين بالكوفة، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ
بِالْوَزِيرِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ
أَنَّ اشْتِقَاقَ الْوَزِيرِ مِنَ الْوِزْرِ وَهُوَ الْحِمْلُ،
فَكَأَنَّ السُّلْطَانَ حمله أثقالا لاستناده إِلَى رَأْيِهِ، كَمَا
يَلْجَأُ الْخَائِفُ إِلَى جَبَلٍ يعتصم به.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا ولى السفاح عمه سليمان الْبَصْرَةَ وَأَعْمَالَهَا، وَكُوَرَ
دِجْلَةَ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ. وَوَجَّهَ عمه إسماعيل ابن
عَلِيٍّ إِلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ. وَفِيهَا قَتَلَ دَاوُدُ بْنُ
عَلِيٍّ مَنْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي أمية، وفيها توفى
داود ابن عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَاسْتَخْلَفَ ابنه موسى على عمله، وكانت ولايته على الحجاز ثلاثة
أشهر، فلما بلغ السفاح موته اسْتَنَابَ عَلَى الْحِجَازِ خَالَهُ
زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ الله بن عبد الدار الْحَارِثِيَّ، وَوَلَّى
الْيَمَنَ لِابْنِ خَالِهِ مُحَمَّدِ بْنِ يزيد بن عبيد الله بن عبد
الدار، وَجَعَلَ إِمْرَةَ الشَّامِ لِعَمَّيْهِ عَبْدِ اللَّهِ
وَصَالِحٍ بنى على، وأقر أبا عون على الديار المصرية نائبا. وَفِيهَا
تَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ
فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى فَتَحَهَا. وَفِيهَا خَرَجَ
شَرِيكُ بْنُ شَيْخٍ الْمَهْرِيُّ بِبُخَارَى عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ
وَقَالَ:
مَا عَلَى هَذَا بَايَعْنَا آلَ محمد، على سفك الدماء وقتل الأنفس؟
وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ زِيَادَ بْنَ صَالِحٍ الْخُزَاعِيَّ
فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ يحيى بن محمد عن الموصل، وولى
عليه عمه إسماعيل. وفيها ولى الصائفة من جهته صالح بن على بن سعيد بن
عبيد الله وغزا ما وراء الدروب. وحج بالناس خال السفاح زياد ابن عبيد
الله بن عبد الدار الْحَارِثِيُّ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ
الَّذِينَ كَانُوا فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى مِنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ
عُزِلَ
. ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ الطَّاعَةَ
وَخَرَجَ عَلَى السَّفَّاحِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَازِمَ بْنَ
خُزَيْمَةَ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَبَاحَ
عَسْكَرُهُ. ورجع فمر يملأ من بنى عبد الدار أخوال السفاح فسألهم
(10/56)
عَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ نُصْرَةٌ لِلْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يردوا عليه،
واستهانوا به، وأمر بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ- وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ
عِشْرِينَ رَجُلًا ومثلهم من مواليهم- فاستعدى بنو عبد الدار على خازم
بن خزيمة، إلى السفاح، وقالوا: قتل هؤلاء بِلَا ذَنْبٍ، فَهَمَّ
السَّفَّاحُ بِقَتْلِهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بِأَنْ
لَا يَقْتُلَهُ وَلَكِنْ لِيَبْعَثْهُ مبعثا صعبا، فان سلم فذاك، وإن
قتل كان الّذي أراد. فَبَعَثَهُ إِلَى عُمَانَ وَكَانَ بِهَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْخَوَارِجِ قَدْ تَمَرَّدُوا وَجَهَّزَ مَعَهُ سَبْعَمِائَةِ
رَجُلٍ، وكتب إلى عمه سليمان بالبصرة أن يحملهم فِي السُّفُنِ إِلَى
عُمَانَ فَفَعَلَ، فَقَاتَلَ الْخَوَارِجَ فكسرهم وقهرهم واستحوذ على
ما هناك من الْبِلَادِ، وَقَتَلَ أَمِيرَ الْخَوَارِجِ الصُّفْرِيَّةِ
وَهُوَ الْجُلُنْدَى، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَنْصَارِهِ نَحْوًا
مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْبَصْرَةِ،
فَبُعِثَ بِهَا نائب البصرة إِلَى الْخَلِيفَةِ. ثُمَّ بَعْدَ أَشْهُرٍ
كَتَبَ إِلَيْهِ السَّفَّاحُ أَنْ يَرْجِعَ فَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا
مَنْصُورًا.
وَفِيهَا غَزَا أَبُو مُسْلِمٍ بِلَادَ الصُّغْدِ وَغَزَا أَبُو
دَاوُدَ أَحَدُ نُوَّابِ أَبِي مُسْلِمٍ بِلَادَ كش، فقتل خلقا كثيرا
وَغَنِمَ مِنَ الْأَوَانِي الصِّينِيَّةِ الْمَنْقُوشَةِ بِالذَّهَبِ
شَيْئًا كثيرا جدا. وفيها بعث السفاح موسى ابن كَعْبٍ إِلَى مَنْصُورِ
بْنِ جُمْهُورٍ وَهُوَ بِالْهِنْدِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا،
فَالْتَقَاهُ مُوسَى بْنُ كعب وهو فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَهَزَمَهُ
وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ. وَفِيهَا مَاتَ عَامِلُ الْيَمَنِ مُحَمَّدُ
بْنُ يَزِيدَ بْنِ عبد الله بن عبد الدار، فَاسْتَخْلَفَ السَّفَّاحُ
عَلَيْهَا عَمَّهُ، وَهُوَ خَالُ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا تَحَوَّلَ
السَّفَّاحُ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى الْأَنْبَارِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَائِبُ الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، ونواب
الأقاليم هم هم. وفيها توفى من الأعيان أبو هارون العبديّ، وعمارة بْنُ
جُوَيْنٍ، وَيَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ الدمشقيّ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ مِنْ وَرَاءِ نَهْرِ بلخ على أبى
مسلم فأظفره الله بهم فبدد شملهم واستقر أمره بتلك النواحي. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ نَائِبُ الْبَصْرَةِ.
وَالنُّوَّابُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فيها من الأعيان: يزيد بْنُ سِنَانٍ، وَأَبُو
عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ] [1] |