البداية والنهاية، ط. دار الفكر
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ
ومائة
فِيهَا قَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ خُرَاسَانَ عَلَى السفاح، وذلك بعد
استئذانه الخليفة في القدوم عليه، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ فِي
خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ
وَتَرْتُ النَّاسَ، وإن أَخْشَى مِنْ قِلَّةِ الْخَمْسِمِائَةِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ يقدم فِي أَلْفٍ، فَقَدِمَ فِي ثَمَانِيَةِ
آلَافٍ، فَرَّقَهُمْ وَأَخَذَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ
وَالْهَدَايَا شَيْئًا كَثِيرًا. وَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
سِوَى ألف من الجند، فتلقاه القواد والأمراء إلى مسافة بعيدة. ولما
دَخَلَ عَلَى السَّفَّاحِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ
وَأَنْزَلَهُ قريبا منه، وكان يأتى إلى
__________
[1] سقط من المصرية.
(10/57)
الخلافة كُلَّ يَوْمٍ، وَاسْتَأْذَنَ
الْخَلِيفَةَ فِي الْحَجِّ فَأَذِنَ له، وقال: لولا أنى عينت الحج لأخى
أبى جعفر لأمرتك على الحج. وكان الّذي بين أبى جعفر وأبى مسلم خرابا
وكان يبغضه، وذلك لما رأى ما هو فيه من الحرمة حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ
نَيْسَابُورَ فِي الْبَيْعَةِ لِلسَّفَّاحِ وللمنصور بعده، فحار في
أمره لذلك، فحقد عليه المنصور وأشار على السفاح بقتله، فأمره بكتم ذلك.
وحين قدم أمره بقتله أيضا وحرضه على ذلك، فَقَالَ لَهُ السَّفَّاحُ:
قَدْ عَلِمْتَ بَلَاءَهُ مَعَنَا وخدمته لنا فقال أَبُو جَعْفَرٍ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا ذَلِكَ بدولتنا، والله لو أرسلت سنورا
لسمعوا لها وأطاعوا، وإنك إن لم تتعش به تغدى بِكَ هُوَ، فَقَالَ لَهُ:
كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذلك؟ فقال: إذا دخل عليك فحادثه ثم أجيء أنا
من ورائه فأضربه بالسيف.
قال: كيف بِمَنْ مَعَهُ؟ قَالَ: هُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ. فَأَذِنَ لَهُ
فِي قَتْلِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى السَّفَّاحِ
نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ أَذِنَ لِأَخِيهِ فِيهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَادِمُ يَقُولُ لَهُ: إن ذاك الّذي بينك وبينه نَدِمَ عَلَيْهِ
فَلَا تَفْعَلْهُ.
فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَادِمُ وجده محتبيا بالسيف قد تهيأ لِمَا يُرِيدُ
مِنْ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ. فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ غَضِبَ
أَبُو جَعْفَرٍ غَضَبًا شديدا. وفيها حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ عَنْ وِلَايَةِ أَخِيهِ السَّفَّاحِ، وَسَارَ مَعَهُ
إِلَى الْحِجَازِ أَبُو مسلم الخراساني عن أمر الخليفة، وأذن له في
الحج، فلما رجعا من الحج وكانا بِذَاتِ عِرْقٍ جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى
أَبِي جَعْفَرٍ- وَكَانَ يَسِيرُ قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ بِمَرْحَلَةٍ-
بِمَوْتِ أخيه السَّفَّاحِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ أَنْ قَدْ
حَدَثَ أَمْرٌ فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ، فَلَمَّا اسْتَعْلَمَ أَبُو
مُسْلِمٍ الْخَبَرَ عَجَّلَ السَّيْرَ وَرَاءَهُ، فَلَحِقَهُ إِلَى
الكوفة. وكانت بَيْعَةُ الْمَنْصُورِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
وَتَفْصِيلُهُ قريبا والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهذه ترجمة أبى العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس وَذِكْرُ وَفَاتِهِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ- وَيُقَالُ له المرتضى، والقاسم أيضا-
ابن محمد ابن الامام ابن على السجاد ابن عبد الله الخبر ابن العباس بن
عبد المطلب الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأُمُّهُ رَيْطَةُ- وَيُقَالُ رَائِطَةُ- بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عبد الدار الْحَارِثِيِّ، كَانَ مَوْلِدُ
السَّفَّاحِ بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ أَرْضِ الشراة من البلقاء بالشام،
ونشأ بها حتى أخذ مروان أخاه إبراهيم الامام فانتقلوا إلى الكوفة. بويع
لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ أَخِيهِ فِي حَيَاةِ مَرْوَانَ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بالكوفة
كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتُوفِّيَ بِالْجُدَرِيِّ بِالْأَنْبَارِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي
عَشَرَ، وَقِيلَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا، وَقِيلَ
ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وقيل ثمان
وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ
أَرْبَعُ سِنِينَ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيلًا
طَوِيلًا، أَقْنَى الْأَنْفِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، حَسَنَ اللِّحْيَةِ،
حَسَنَ الْوَجْهِ، فَصِيحَ الْكَلَامِ، حَسَنَ الرَّأْيِ، جَيِّدَ
الْبَدِيهَةِ.
دَخَلَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ وِلَايَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ
بْنِ حَسَنِ بْنِ علي وَمَعَهُ مُصْحَفٌ وَعِنْدَ السَّفَّاحِ وُجُوهُ
بَنِي هَاشِمٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِنَا حَقَّنَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ
لنا في هذا
(10/58)
المصحف. قال: فأشفق عليه الحاضرون أن يعجل
السفاح عليه بشيء أو يترك جوابه فيبقى ذلك مسبة عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ.
فَأَقْبَلَ السَّفَّاحُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُغْضَبٍ ولا منزعج، فقال: إن
جدك عليا كان خيرا منى وأعدل، وقد وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ فَأَعْطَى
جَدَّيْكَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وكانا خيرا منك، شيئا قد أعطيتك
وَزِدْتُكَ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ هَذَا جَزَائِي مِنْكَ. قَالَ: فَمَا
رَدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ جَوَابًا، وَتَعَجَّبَ
النَّاسُ مِنْ سُرْعَةِ جَوَابِهِ وجدته وجودته على البديهة.
وقد قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ
الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ عِنْدَ
انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ السفاح، يكون إعطاؤه المال حيثا» . وَكَذَا رَوَاهُ زَائِدَةُ
وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي
إِسْنَادِهِ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وقد تكلموا فيه. وفي أن المراد
بهذا الحديث هذا السَّفَّاحَ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ زَوَالِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ
أَخْبَارًا وَآثَارًا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سلمة بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ عِيسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- وَهُوَ
وَالِدُ السَّفَّاحِ- قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
مَنْ تَجِدُونَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ؟ قَالَ لَهُ: أنت.
فأقبل عمر بن عبد العزيز عليه فقال له: زدني من بيانك. فقال ثم آخر،
إلى أن ذكر خلافة بنى أمية إلى آخرها. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ:
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَعَلْتُ ذَلِكَ النَّصْرَانِيَّ فِي
بَالِي فَرَأَيْتُهُ يَوْمًا فَأَمَرْتُ غُلَامِي أَنْ يَحْبِسَهُ
عَلَيَّ، وَذَهَبْتُ إلى منزلي فسألته عما يكون فِي خُلَفَاءِ بَنِي
أُمَيَّةَ فَذَكَرَهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَتَجَاوَزَ عَنْ مَرْوَانَ
بْنِ مُحَمَّدٍ. قُلْتُ: ثُمَّ من؟ قال: ثم ابن الحارثية، وهو ابنك.
قال: وكان ابني ابن الحارثية إذ ذاك حملا. قال ووفد أهل المدينة على
السفاح فبادروا إلى تقبيل يده غيره عِمْرَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مطيع العدوي، فإنه لم يقبل يده، وإنما حياه
بالخلافة فَقَطْ.
وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ كان تقبيلها يزيدك
رفعة ويزيدني وَسِيلَةً إِلَيْكَ مَا سَبَقَنِي إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ
هؤلاء، وإني لغني عمالا أجر فيه، وربما قادنا عمله إلى الوزر ثم جلس.
قال: فو الله ما نقصه ذلك عنده حظا من حظ أصحابه، بل أحبه وزاده.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا أَنَّ السَّفَّاحَ بعث
رجلا ينادى في عسكر مروان بهذين البيتين ليلا ثم رجع:
يَا آلَ مَرْوَانَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ ... وَمُبْدِلٌ
أَمْنَكُمْ خَوْفًا وَتَشْرِيدَا
لَا عَمَّرَ اللَّهُ مِنْ أَنْسَالِكُمْ أَحَدًا ... وَبَثَّكُمْ فِي
بِلَادِ الْخَوْفِ تَطْرِيدَا
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ السَّفَّاحَ نَظَرَ يَوْمًا
فِي الْمِرْآةِ- وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَجْهًا- فَقَالَ:
اللَّهمّ لَا أَقُولُ كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بن عبد الملك: أنا
الخليفة الشاب، ولكن أَقُولُ: اللَّهمّ عَمِّرْنِي طَوِيلًا فِي
(10/59)
طَاعَتِكَ مُمَتَّعًا بِالْعَافِيَةِ.
فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَمِعَ غُلَامًا يَقُولُ لِآخَرَ:
الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ.
فَتَطَيَّرَ مِنْ كَلَامِهِ وَقَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ
إِلَّا باللَّه عَلَيْهِ توكلت وَبِهِ أَسْتَعِينُ. فَمَاتَ بَعْدَ
شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيُّ أَنَّ الرَّشِيدَ أَمَرَ ابْنَهُ
أَنْ يَسْمَعَ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ مَا يَرْوِيهِ
عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ السَّفَّاحِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ
عِيسَى أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى السَّفَّاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ بُكْرَةً
فَوَجَدَهُ صَائِمًا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحَادِثَهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا
ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ بِفِطْرِهِ عِنْدَهُ. قَالَ:
فَحَادَثْتُهُ حَتَّى أَخَذَهُ النَّوْمُ فَقُمْتُ عَنْهُ وَقُلْتُ:
أُقِيلَ فِي مَنْزِلِي ثُمَّ أَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَذَهَبْتُ
فَنِمْتُ قَلِيلًا ثُمَّ قُمْتُ فَأَقْبَلْتُ إِلَى دَارِهِ فَإِذَا
عَلَى بَابِهِ بشير يبشر بفتح السند وبيعتهم لِلْخَلِيفَةِ وَتَسْلِيمِ
الْأُمُورِ إِلَى نُوَّابِهِ. قَالَ: فَحَمِدْتُ الله الّذي وفقني في
الدخول عليه بهذه البشارة، فدخلت الدار فإذا بشير آخر معه بشارة بفتح
إفريقية، فحمدت الله فدخلت عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُهُ بِذَلِكَ وَهُوَ
يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ، فَسَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ
يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كُلُّ شَيْءٍ بَائِدٌ سِوَاهُ،
نَعَيْتَ والله إلى نفسي، حدثني إبراهيم الامام عن أبى هشام عن عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يَقْدَمُ عَلَيَّ
فِي مَدِينَتِي هَذِهِ وَافِدَانِ وَافِدُ السِّنْدِ وَالْآخَرُ
وَافْدُ إِفْرِيقِيَّةَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبَيْعَتِهِمْ،
فَلَا يَمْضِي بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى أَمُوتَ.
قَالَ: وَقَدْ أَتَانِي الْوَافِدَانِ فَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجَرَكَ يَا
عَمِّ فِي ابْنِ أَخِيكَ. فَقُلْتُ: كَلَّا، يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ بَلَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ!
لَئِنْ كَانَتِ الدنيا حبيبة إلى فالآخرة أحب إلى، ولقاء ربى خير لي،
وصحة الرواية عن رسول الله بذلك أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا، وَاللَّهِ
مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ
وَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُؤَذِّنُ يُعْلِمُهُ
بِوَقْتِ الظُّهْرِ خَرَجَ الخادم يعلمني أَنْ أُصَلِّيَ عَنْهُ،
وَكَذَلِكَ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وبت هناك، فلما كان
وقت السحر أتانى الْخَادِمُ بِكِتَابٍ مَعَهُ يَأْمُرُنِي أَنْ
أُصَلِّيَ عَنْهُ الصبح والعيد ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى دَارِهِ، وَفِيهِ
يَقُولُ: يَا عَمِّ إِذَا مِتُّ فَلَا تُعْلِمِ النَّاسَ بِمَوْتِي
حَتَّى تَقْرَأَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ فَيُبَايِعُوا لِمَنْ
فِيهِ. قَالَ:
فَصَلَّيْتُ بِالنَّاسِ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِ فإذا ليس به بأس،
ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فَإِذَا هُوَ عَلَى
حَالِهِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَتْ في وجهه حبتان صغيرتان، ثم
كبرتا، ثُمَّ صَارَ فِي وَجْهِهِ حَبٌّ صِغَارٌ بِيضٌ يُقَالُ إِنَّهُ
جُدَرِيٌّ، ثُمَّ بَكَّرْتُ إِلَيْهِ فِي اليوم الثاني فَإِذَا هُوَ
قَدْ هَجَرَ وَذَهَبَتْ عَنْهُ مَعْرِفَتِي ومعرفة غيري، ثم رجعت إليه
بالعشي فإذا هو انتفخ حتى صار مثل الزق، وتوفى الْيَوْمِ الثَّالِثِ
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَسَجَّيْتُهُ كَمَا أمرنى، وخرجت إلى
الناس فقرأت عليهم كتابه فَإِذَا فِيهِ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ إلى الأولياء وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَلَّدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ أخاه فاسمعوا وأطيعوا، وقد
قلدها من بعده عِيسَى بْنَ مُوسَى إِنْ كَانَ. قَالَ: فَاخْتَلَفَ
النَّاسُ فِي قَوْلِهِ «إِنْ كَانَ» قِيلَ إِنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ إِنْ كَانَ حَيًّا. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ
الصَّوَابُ، ذَكَرَهُ الخطيب
(10/60)
وَابْنُ عَسَاكِرَ مُطَوَّلًا. وَهَذَا
مُلَخَّصٌ مِنْهُ. وَفِيهِ ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهُوَ
مُنْكَرٌ جِدًّا. وَذَكَرَ ابن عساكر أن الطبيب دخل عليه فأخذ بيده
فأنشأ يقول عند ذلك:
انظر إلى ضعف الحراك ... وذله بعد السكون
ينبيك أَنَّ بَيَانَهُ ... هَذَا مُقَدِّمَةُ الْمَنُونْ
فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: أَنْتَ صَالِحٌ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يُبَشِّرُنِي بِأَنِّي ذُو صَلَاحٍ ... يَبِينُ لَهُ وَبِي دَاءٌ
دَفِينُ
لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنِّي غَيْرُ بِاقٍ ... وَلَا شَكٌّ إِذَا وَضَحَ
الْيَقِينُ
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كان آخر ما تكلم به السفاح: الْمُلْكُ
للَّه الْحَيِّ الْقَيُّومِ، مَلِكِ الْمُلُوكِ، وَجَبَّارِ
الْجَبَابِرَةِ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ اللَّهُ ثِقَةُ عَبْدِ
اللَّهِ. وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْجُدَرِيِّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ بِالْأَنْبَارِ الْعَتِيقَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ
سَنَةً. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ
عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ. وَصَلَّى عَلَيْهِ عَمُّهُ عِيسَى بْنُ
عَلِيٍّ. وَدُفِنَ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ مِنَ الأنبار. وترك تسع
جبات وأربعة أقمصة وخمس سراويلات وأربعة طَيَالِسَةٍ وَثَلَاثَةَ
مَطَارِفِ خَزٍّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عساكر فذكر بعض ما أوردناه
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ السَّفَّاحُ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، وَجَعْفَرُ بن أبى ربيعة، وحصين
ابن عبد الرحمن، وربيعة الراعي، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَعَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، وعبد اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَطَاءُ
بْنُ السَّائِبِ. وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل وللَّه الحمد.
خلافة أبى جعفر المنصور
واسمه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ قد تقدم أنه لما مات السفاح كان في الحجاز فبلغه موته
وهو بذات عرق راجعا من الحج، وكان معه أبو مسلم الخراساني، فعجل السير
وعزاه أبو مسلم في أخيه، فبكى المنصور عند ذلك، فقال له:
أتبكي وقد جاءتك الخلافة؟ أنا أكفيكها إن شاء الله. فسرى عنه، وَأَمَرَ
زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ وَالِيًا
عَلَيْهَا، وَكَانَ السَّفَّاحُ قَدْ عزلها عَنْهَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بن عباس فأقره عليها. والنواب على
أعمالهم حتى انساخت هَذِهِ السَّنَةُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ على قدم على بن أخيه السَّفَّاحِ الْأَنْبَارَ فَأَمَّرَهُ عَلَى
الصَّائِفَةِ، فَرَكِبَ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ،
فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُ مَوْتُ السَّفَّاحِ
فَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى حَرَّانَ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَزَعَمَ
أَنَّ السَّفَّاحَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى
الشَّامِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَالْتَفَّتْ
عَلَيْهِ جُيُوشٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ
فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْمَنْصُورِ
لَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ من الحج بعد موت أخيه
السفاح، دخل الكوفة فخطب بأهلها يوم
(10/61)
الجمعة وصلى بهم، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا
إِلَى الْأَنْبَارِ. وَقَدْ أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ الْبِلَادِ سِوَى الشَّامِ، وَقَدْ
ضَبَطَ عِيسَى بْنُ على بُيُوتَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلَ
لِلْمَنْصُورِ حَتَّى قَدِمَ، فَسَلَّمَ إليه الأمر، وكتب إلى عمه عبد
الله بن على يُعْلِمُهُ بِوَفَاةِ السَّفَّاحِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ
الْخَبَرُ نَادَى فِي النَّاسِ الصَّلَاةُ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعَ
إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ وَفَاةَ
السَّفَّاحِ، ثُمَّ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ أَنَّ السَّفَّاحَ
كَانَ عَهِدَ إليه حين بعثه إلى مروان أنه إن كسره كان الأمر إليه من
بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، وَنَهَضُوا إِلَيْهِ
فَبَايَعُوهُ، وَرَجَعَ إِلَى حَرَّانَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ نَائِبِ
الْمَنْصُورِ بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وقتل مقاتل
العتكيّ نَائِبُهَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ مَا كَانَ مِنْ أمر
عمه بَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ وَمَعَهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَقَدْ تَحَصَّنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ بِحَرَّانَ، وَأَرْصَدَ عِنْدَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ من
الأطعمة والسلاح شيئا كثيرا جدا، فسار إليه أبو مسلم الخراساني وعلى
مقدمته مالك بن هيثم الخزاعي، فلما تحقق عبد الله قُدُومَ أَبِي
مُسْلِمٍ إِلَيْهِ خَشِيَ مِنْ جَيْشِ العراق أَنْ لَا يُنَاصِحُوهُ،
فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَرَادَ قَتْلَ حُمَيْدِ
بْنِ قُحْطُبَةَ فَهَرَبَ منه إلى أبى مسلم، فركب عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ فَنَزَلَ نَصِيبِينَ وَخَنْدَقَ حَوْلَ عَسْكَرِهِ، وَأَقْبَلَ
أَبُو مُسْلِمٍ فَنَزَلَ نَاحِيَةً وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ:
إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِكَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالِيًا عَلَى الشَّامِ فَأَنَا أُرِيدُهَا. فَخَافَ
جُنُودُ الشَّامِ مِنْ هذا الكلام فقالوا: إنا نخاف على ذرارينا
وديارنا وَأَمْوَالِنَا، فَنَحْنُ نَذْهَبُ، إِلَيْهَا نَمْنَعُهُمْ
مِنْهُ. فَقَالَ عبد الله: وَيْحَكُمْ! وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ
إِلَّا لِقِتَالِنَا. فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَرْتَحِلُوا نَحْوَ
الشَّامِ، فَتَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ وَقَصَدَ
نَاحِيَةَ الشام، فنهض أبو مسلم فنزل موضعه وغوّر ما حوله من المياه-
وكان موضع عبد الله الّذي تحول منه موضعا جيدا جدا- فاحتاج عبد الله
وأصحابه فنزلوا في موضع أبى مُسْلِمٍ فَوَجَدُوهُ مَنْزِلًا رَدِيئًا،
ثُمَّ أَنْشَأَ أَبُو مسلم القتال فحاربهم خمسة أَشْهُرٍ، وَكَانَ
عَلَى خَيْلِ عَبْدِ اللَّهِ أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ،
وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ بَكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَعَلَى
مَيْسَرَتِهِ حَبِيبُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَسَدِيُّ.
وَعَلَى مَيْمَنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْحَسَنُ بْنُ قُحْطُبَةَ، وَعَلَى
مَيْسَرَتِهِ أَبُو نَصْرٍ خَازِمُ بن خزيم، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ
وَقَعَاتٌ وَقُتِلُ مِنْهُمْ جَمَاعَاتٌ في أيام نحسات، وكان أَبُو
مُسْلِمٍ إِذَا حَمَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
مَنْ كَانَ يَنْوِي أَهْلَهُ فَلَا رَجَعْ ... فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ
وَفِي الْمَوْتِ وَقَعْ
وَكَانَ يُعْمَلُ لَهُ عرش فَيَكُونُ فِيهِ إِذَا الْتَقَى
الْجَيْشَانِ فَمَا رَأَى فِي جَيْشِهِ مِنْ خَلَلٍ أَرْسَلَ
فَأَصْلَحَهُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ أَوِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ
خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ الْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَمَكَرَ بِهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ! بَعَثَ إِلَى الْحَسَنِ بن
قحطبة أمير الميمنة فأمره أَنْ يَتَحَوَّلَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَّا
الْقَلِيلَ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ
الشَّامِ انْحَازُوا إِلَى الْمَيْمَنَةِ بِإِزَاءِ الْمَيْسَرَةِ
الَّتِي تَعَمَّرَتْ، فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى
الْقَلْبِ أَنْ يَحْمِلَ بِمَنْ بَقِيَ فِي الْمَيْمَنَةِ عَلَى
مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ فَحَطَّمُوهُمْ، فَجَالَ أَهْلُ الْقَلْبِ
(10/62)
والميمنة من الشاميين فحمل الخراسانيون على
أهل الشام وكانت الْهَزِيمَةُ، وَانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ بَعْدَ تَلَوُّمٍ، وَاحْتَازَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا كَانَ فِي
معسكرهم، وَأَمَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ بَقِيَّةَ النَّاسِ فَلَمْ يَقْتُلْ
مِنْهُمْ أَحَدًا، وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ
الْمَنْصُورُ مَوْلَاهُ أَبَا الْخَصِيبِ لِيُحْصِيَ مَا وَجَدُوا فِي
مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيُّ. وَاسْتَوْسَقَتِ الْمَمَالِكُ لِأَبِي جَعْفَرٍ
المنصور، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ الصمد
على وجهيهما، فَلَمَّا مَرَّا بِالرُّصَافَةِ أَقَامَ بِهَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ وَجَدَهُ بِهَا
فَأَخَذَهُ معه مُقَيَّدًا فِي الْحَدِيدِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى
الْمَنْصُورِ فَدَفَعَهُ إلى عيسى بن موسى فاستأمن له الْمَنْصُورِ،
وَقِيلَ بَلِ اسْتَأْمَنَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ. وَأَمَّا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ ذهب إلى أخيه سليمان ابن
عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ زَمَانًا مُخْتَفِيًا، ثُمَّ
علم به المنصور فبعث إليه فسجنه [في بيت بنى أسامة على الملح ثم أطلق
عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد الله فمات. وهذه من بعض
دواهي المنصور والله سبحانه أعلم] [1] . فلبث في السجن سبع سنين ثم سقط
عليه في الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَمَاتَ كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذكر مهلك أبى مسلم الخراساني صاحب دعوة بنى
العباس
في هذه السنة أيضا لما فرغ أبو مسلم من الحج سبق الناس بمرحلة فجاءه
خبر السفاح في الطريق فكتب إلى أبى جعفر يعزيه في أخيه وَلَمْ
يُهَنِّئْهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَا رَجَعَ إِلَيْهِ. فَغَضِبَ المنصور
من ذلك مع ما كان قد أضمر له من السوء إذا أفضت إليه الخلافة، وقيل إن
المنصور هو الّذي كان قد تقدم بين يدي الحج بمرحلة، وأنه لما جاءه خبر
موت أخيه كتب إلى أبى مسلم يستعجله في السير كما قدمنا. فقال لأبى
أيوب: اكتب له كتابا غليظا، فلما بلغه الكتاب أرسل يُهَنِّئُهُ
بِالْخِلَافَةِ وَانْقَمَعَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الأمراء
للمنصور: إنا نرى أَنْ لَا تُجَامِعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ مَعَهُ
مِنَ الْجُنُودِ مَنْ لَا يُخَالِفُهُ، وَهُمْ لَهُ أهيب، وعلى طاعته
أحرص، وليس معك أحد، فأخذ المنصور بِرَأْيِهِ ثُمَّ كَانَ مِنْ
أَمْرِهِ فِي مُبَايَعَتِهِ لأبى جعفر ما ذكرنا، ثم بعثه إلى عمه عبد
الله فَكَسَرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ بَعَثَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ
الْحَسَنُ بْنُ قُحْطُبَةَ لِأَبِي أَيُّوبَ كَاتِبِ رَسَائِلِ
الْمَنْصُورِ يُشَافِهُهُ وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ متهم
عند أبى جعفر، فإنه إذا جاءه كتاب منه يقرأه ثُمَّ يَلْوِي شِدْقَيْهِ
وَيَرْمِي بِالْكِتَابِ إِلَى أَبِي نَصْرٍ وَيَضْحَكَانِ
اسْتِهْزَاءً، فَقَالَ: أَبُو أَيُّوبَ: إِنَّ تُهْمَةَ أَبِي مُسْلِمٍ
عِنْدَنَا أَظْهَرُ مِنْ هَذَا. وَلَمَّا بَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ
مَوْلَاهُ أَبَا الْخَصِيبِ يَقْطِينَ لِيَحْتَاطَ عَلَى مَا أُصِيبَ
مِنْ مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ
الثَّمِينَةِ وَغَيْرِهَا، غَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ فَشَتَمَ أَبَا
جَعْفَرٍ وَهَمَّ بأبي الخصيب، حتى قيل له: إنه رسول فتركه ورجع. فلما
قدم أخبر الْمَنْصُورَ بِمَا كَانَ وَبِمَا هَمَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ
مِنْ قَتْلِهِ، فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ وَخَشِيَ أَنْ يذهب أبو مسلم إلى
__________
[1] زيادة وجدت بهامش نسخة الاستانة.
(10/63)
خراسان [فيشق عليه تحصيله بعد ذلك، وأن
تحدث حوادث، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَ يَقْطِينَ إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ
الشَّامَ وَمِصْرَ وَهُمَا خَيْرٌ مِنْ خُرَاسَانَ] [1] ، فَابْعَثْ
إِلَى مِصْرَ مَنْ شِئْتَ وَأَقِمْ أَنْتَ بِالشَّامِ، لِتَكُونَ
أَقْرَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا أَرَادَ لِقَاءَكَ
كُنْتَ مِنْهُ قَرِيبًا. فَغَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ وقال: قد ولانى الشام
ومصر، ولى ولاية خُرَاسَانُ، فَإِذًا أَذْهَبُ إِلَيْهَا
وَأَسْتَخْلِفُ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ. فَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ
بِذَلِكَ فَقَلِقَ الْمَنْصُورُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا. وَرَجَعَ أَبُو
مُسْلِمٍ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا خُرَاسَانَ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى
مُخَالَفَةِ الْمَنْصُورِ. فَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ
إِلَى الْمَدَائِنِ وكتب إلى أبى مسلم بالمسير إِلَيْهِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ عَلَى الزَّابِ عَازِمٌ عَلَى
الدُّخُولِ إِلَى خُرَاسَانَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَدُوٌّ إِلَّا أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ
كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ
الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ. فَنَحْنُ نَافِرُونَ مِنْ
قُرْبِكَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِكَ مَا وَفَّيْتَ،
حَرِيُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ غَيْرَ أَنَّهَا مِنْ بَعِيدٍ
حَيْثُ يقارنها السَّلَامَةُ. فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَلِكَ فَأَنَا
كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَ نَفْسَكَ
إِرَادَتَهَا نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي
عن مقامات الذل والإهانة. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى
الْمَنْصُورِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ
وَلَيْسَتْ صِفَتُكَ صفة أولئك الوزراء الغششة إلى مُلُوكَهُمُ
الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ اضْطِرَابَ حَبْلِ الدَّوْلَةِ لِكَثْرَةِ
جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدد نِظَامِ الْجَمَاعَةِ، فَلِمَ سَوَّيْتَ
نَفْسَكَ بِهِمْ وَأَنْتَ في طاعتك ومنا صحتك وَاضْطِلَاعِكَ بِمَا
حَمَلْتَ مِنْ أَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَا أَنْتَ بِهِ،
وَلَيْسَ مَعَ الشَّرِيطَةِ الَّتِي أَوْجَبْتَ مِنْكَ سَمْعٌ وَلَا
طَاعَةٌ، وَقَدْ حمل أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسالة ليسكن
إليها قلبك إن أصغيت إليها، وسأله أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ
وَنَزَغَاتِهِ وَبَيْنَكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بَابًا يُفْسِدُ بِهِ
نِيَّتَكَ أَوْكَدَ عنده من هذا ولا أقرب من طبه مِنَ الْبَابِ الَّذِي
فَتَحَهُ عَلَيْكَ. وَيُقَالُ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَى
الْمَنْصُورِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلًا إِمَامًا
وَدَلِيلًا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ فِي
مَحَلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلًا وَفِي قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا، فَاسْتَجْهَلَنِي
بِالْقُرْآنِ فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ طَمَعًا فِي قَلِيلٍ قَدْ
تعافاه الله إلى خلقه، وكان كَالَّذِي دُلِّيَ بِغُرُورٍ، وَأَمَرَنِي
أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ وأرفع المرحمة وَلَا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ
وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَفَعَلْتُ تَوْطِيدًا لِسُلْطَانِكُمْ
حَتَّى عَرَّفَكُمُ اللَّهُ مَنْ كَانَ يجهلكم، وأطاعكم من كان عدوكم،
وأظهركم الله بى بعد الإخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني باللَّه
بالتوبة. فان يعف عنى فقديما عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ
يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ. ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ.
وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ جَرِيرَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَرِيرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي- وقد كان أوحد أهل زمانه- في جماعة من
الأمراء، وأمره أن يكلم أبا مسلم باللين كلاما يقدر عليه، وأن يكون في
جماعة ما يكلمه به
__________
[1] سقط من المصرية.
(10/64)
أنه يريد رفع قدرك وعلو منزلتك والإطلاقات
لَكَ، فَإِنْ جَاءَ بِهَذَا فَذَاكَ، وَإِنْ أَبَى فقل هُوَ بَرِيءٌ
مِنَ الْعَبَّاسِ إِنْ شَقَقْتَ الْعَصَا وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه
وليقاتلنك دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ خُضْتَ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ
لَخَاضَهُ خَلْفَكَ حَتَّى يُدْرِكَكَ فَيَقْتُلَكَ أَوْ يَمُوتَ
قَبْلَ ذَلِكَ. وَلَا تَقُلْ لَهُ هَذَا حَتَّى تَيْأَسَ مِنْ
رُجُوعِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ
أُمَرَاءُ الْمَنْصُورِ بِحُلْوَانَ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَلَامُوهُ فيما
همّ به من منابذة أمير المؤمنين، وما هو فيه من مخالفته، ورغّبوه في
الرجوع إلى الطاعة، فشاور ذوى الرأى من أمرائه فكلهم نَهَاهُ عَنِ
الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَأَشَارُوا بِأَنْ يُقِيمَ فِي الرَّيِّ
فَتَكُونَ خُرَاسَانُ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَجُنُودُهُ طوعا لَهُ، فَإِنِ
اسْتَقَامَ لَهُ الْخَلِيفَةُ وَإِلَّا كَانَ في عزو منعة من الجند.
فعند ذلك أرسل أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أُمَرَاءِ الْمَنْصُورِ فَقَالَ
لَهُمُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَلَسْتُ أَلْقَاهُ. فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الَّذِي كَانَ
الْمَنْصُورُ أَمَرَهُمْ بِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ كَسَرَهُ جِدًّا
وَقَالَ قُومُوا عَنِّي السَّاعَةَ.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ أَبَا
دَاوُدَ إبراهيم بن خالد، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ فِي غَيْبَةِ
أَبِي مُسْلِمٍ حين اتهم: إن ولاية خراسان لك ما بقيت، فقد وليتكها
وعزلت عنها أبا مسلم. فعند ذلك كتب أَبُو دَاوُدَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ
حِينَ بَلَغَهُ ما عليه من منابذة الخليفة: إنه ليس يليق بنا منابذة
خلفاء أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَرْجِعُ إلى إمامك سامعا مطيعا والسلام. فَزَادَهُ
ذَلِكَ كَسْرًا أَيْضًا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنِّي
سَأَبْعَثُ إِلَيْهِ أَبَا إِسْحَاقَ وَهُوَ ممن أثق به. فبعث أبا
إسحاق إلى المنصور فأكرمه ووعده بنيابة العراق إِنْ هُوَ رَدَّهُ.
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ؟
قَالَ:
رَأَيْتُهُمْ مُعَظِّمِينَ لَكَ يَعْرِفُونَ قَدْرَكَ. فَغَرَّهُ
ذَلِكَ وَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَشَارَ
أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ نَيْزَكُ، فَنَهَاهُ، فَصَمَّمَ عَلَى
الذَّهَابِ، فَلَمَّا رآه نيزك عازما على الذهاب تمثل بِقَوْلِ
الشَّاعِرِ:
مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ... ذَهَبَ الْقَضَاءُ
بِحِيلَةِ الْأَقْوَامِ
ثُمَّ قَالَ لَهُ: احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ ثُمَّ بَايِعْ مَنْ شِئْتَ
بِالْخِلَافَةِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُخَالِفُونَكَ. وَكَتَبَ أَبُو
مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ يُعْلِمُهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِ. قَالَ
أَبُو أَيُّوبَ كَاتِبُ الرَّسَائِلِ: فَدَخَلْتُ عَلَى المنصور وهو
جالس في خباء شعر جالس في مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ كِتَابٌ فَأَلْقَاهُ إليّ فإذا هو كتاب أبى مسلم يعلمه
بالقدوم عليه، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيفَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَلَأْتُ
عَيْنِي مِنْهُ لِأَقْتُلَنَّهُ. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقُلْتُ
إِنَّا للَّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبِتُّ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ لا يأتينى نوم، أفكر فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَقُلْتُ:
إِنْ دَخَلَ أَبُو مسلم خائفا ربما يبدو منه شر إلى الخليفة، والمصلحة
تقتضي أَنْ يَدْخُلَ آمِنًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْأُمَرَاءِ وَقُلْتُ
لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَتَوَلَّى مَدِينَةَ كَسْكَرٍ فَإِنَّهَا
مُغِلَّةٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ لِي بِذَلِكَ؟
فَقُلْتُ لَهُ: فَاذْهَبْ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فتلقاه فِي الطَّرِيقِ
فَاطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَكَ تِلْكَ الْبَلَدَ، فَإِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ
(10/65)
وَيَسْتَرِيحَ لِنَفْسِهِ. وَاسْتَأْذَنْتُ
الْمَنْصُورَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَأَذِنَ لَهُ،
وَقَالَ لَهُ: سَلِّمْ عَلَيْهِ وَقُلْ لَهُ: إِنَّا بِالْأَشْوَاقِ
إِلَيْهِ. فسار ذلك الرجل- وهو سلمة بن فلان-[1] إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ
فَأَخْبَرَهُ بِاشْتِيَاقِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ
وَانْشَرَحَ، وَإِنَّمَا هُوَ غُرُورٌ وَمَكْرٌ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ
أَبُو مُسْلِمٍ بِذَلِكَ عَجَّلَ السير إلى منيته، فَلَمَّا قَرُبَ
مِنَ الْمَدَائِنِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْقَوَّادَ وَالْأُمَرَاءَ
أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، وَكَانَ دُخُولُهُ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنْ آخِرِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو أَيُّوبَ عَلَى الْمَنْصُورِ
أَنْ يُؤَخِّرَ قَتْلَهُ فِي سَاعَتِهِ هَذِهِ إِلَى الْغَدِ، فَقَبِلَ
ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ
مِنَ العشي أظهر له الكرامة والتعظيم، ثم قَالَ: اذْهَبْ فَأَرِحْ
نَفْسَكَ وَادْخُلِ الْحَمَّامَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِنِي.
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَجَاءَهُ النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ طَلَبَ الْخَلِيفَةُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ
فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ بَلَائِي عندك؟ فقال: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أقتل نفسي لقتلتها. قال: فكيف بك
لو أَمَرْتُكَ بِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ قَالَ: فَوَجَمَ سَاعَةً ثم
قال له أبو أيوب: مالك لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ قَوْلَةً ضَعِيفَةً:
أَقْتُلُهُ. ثُمَّ اخْتَارَ لَهُ مِنْ عُيُونِ الْحَرَسِ أَرْبَعَةً
فَحَرَّضَهُمُ على قتله، وقال لهم: كونوا من وراء الرواق فإذا صفقت
بيدي فاخرجوا عليه فاقتلوه. ثم أرسل المنصور إلى أبى مسلم رسلا تترى
يتبع بعضها بَعْضًا، فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَدَخَلَ دَارَ
الْخِلَافَةِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ يَبْتَسِمُ،
فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلَ الْمَنْصُورُ يُعَاتِبُهُ فِي
الَّذِي صَنَعَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ كله.
ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرْجُو أَنْ تكون نفسك قد
طابت عليّ. فقال المنصور: أما والله ما زادني هذا إلا غيظا عَلَيْكَ.
ثُمَّ ضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَخَرَجَ عُثْمَانُ
وَأَصْحَابُهُ فَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَلَفُّوهُ
فِي عَبَاءَةٍ ثُمَّ أَمَرَ بِإِلْقَائِهِ فِي دِجْلَةَ، وَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ
لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ما عاتبه به المنصور ان قَالَ: كَتَبْتَ إِلَيَّ
مَرَّاتٍ تَبْدَأُ بِنَفْسِكَ، وَأَرْسَلْتَ تَخْطُبُ عَمَّتِي
أَمِينَةَ، وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سُلَيْطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا يقال لي هذا وَقَدْ سَعَيْتُ فِي أَمْرِكُمْ
بِمَا عَلِمَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَقَالَ: وَيْلَكَ! لَوْ قَامَتْ فِي
ذَلِكَ أمة سوداء لأتمه الله لجدنا وحيطتنا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ
لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
لِأَعْدَائِكَ.
فَقَالَ: وَأَيُّ عَدُوٍّ لِي أعدى منك. ثم أمر بقتله كما تقدم:
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْآنَ
صِرْتَ خَلِيفَةً. وَيُقَالُ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَنْشَدَ عِنْدَ
ذَلِكَ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ
عَيْنًا بالإياب المسافر
وذكر ابن خلكان أن المنصور لما أراد قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ تَحَيَّرَ
فِي أَمْرِهِ هَلْ يَسْتَشِيرُ أَحَدًا فِي ذَلِكَ أَوْ يَسْتَبِدُّ
هُوَ به لئلا يشيع وينشر، ثم استشار واحدا من نصحاء أصحابه فقال: يا
أمير المؤمنين
__________
[1] كذا بالأصلين. وفي الطبري: سلمة بن سعيد بن جابر.
(10/66)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا 21: 22 فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ
أَوْدَعْتَهَا أُذُنًا وَاعِيَةً. ثُمَّ عزم على ذلك
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو مُسْلِمٍ صَاحِبُ
دَوْلَةِ بنى العباس، ويقال له أمير آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الخطيب: يقال له عبد الرحمن بن
شيرون بْنِ أَسْفَنْدِيَارَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، صَاحِبُ
الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، يَرْوِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ
وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، زَادَ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي شُيُوخِهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ حَرْمَلَةَ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ
الصَّائِغُ، وَبِشْرٌ وَالِدُ مُصْعَبِ بْنِ بِشْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ شُبْرُمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُنِيبٍ الْمَرْوَزِيُّ وَقُدَيْدُ بْنُ مَنِيعٍ صِهْرُ أَبِي
مُسْلِمٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وكان أبو مسلم فاتكا ذا رأى وعقل وتدبير وحزم، قتله
أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِالْمَدَائِنِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ
الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ: كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قِيلَ إِنَّهُ ولد بأصبهان،
وروى عن السدي وغيره، وقيل كان اسمه إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سندوس
ابن حوذون، مِنْ وَلَدِ بُزُرْجَمُهْرَ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا
إِسْحَاقَ، ونشأ بالكوفة وكان أبوه أوصى به إلى عيسى ابن مُوسَى
السَّرَّاجِ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ
سِنِينَ، فَلَمَّا بَعَثَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الامام إِلَى
خُرَاسَانَ قَالَ لَهُ: غَيِّرِ اسْمَكَ وَكُنْيَتَكَ. فتسمى عبد
الرَّحْمَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَاكْتَنَى بِأَبِي مُسْلِمٍ، فَسَارَ إلى
خراسان وهو ابن سبع عَشْرَةَ سَنَةً رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ بِإِكَافٍ،
وَأَعْطَاهُ إبراهيم بن محمد نفقة، فدخل خُرَاسَانَ وَهُوَ كَذَلِكَ،
ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى صَارَتْ لَهُ خُرَاسَانُ
بِأَزِمَّتِهَا وَحَذَافِيرِهَا، وَذَكَرَ أنه في ذهابه إليها عدا رجل
من بعض الحانات فقطع ذنب حماره، فلما تمكن أبو مسلم جعل ذلك المكان دكا
فكان بعد ذلك خرابا. وذكر بعضهم أنه أصابه سبى فِي صِغَرِهِ وَأَنَّهُ
اشْتَرَاهُ بَعْضُ دُعَاةِ بَنِي العباس بأربعمائة درهم، ثم إن إبراهيم
بن محمد الامام استوهبه واشتراه فانتمى إليه وزوجه إبراهيم بنت أبى
النجم إسماعيل الطائي، أحد دعاتهم، لما بعثه إلى خراسان، وَأَصْدَقَهَا
عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَوُلِدَ لِأَبِي مُسْلِمٍ بنتان
إحداهما أسماء أعقبت، وفاطمة لم تعقب.
وقد تقدم ذكر كَيْفِيَّةَ اسْتِقْلَالِ أَبِي مُسْلِمٍ بِأُمُورِ
خُرَاسَانَ فِي سنة تسع وعشرين ومائة، وكيف نشر دَعْوَةَ بَنِي
الْعَبَّاسِ، وَقَدْ كَانَ ذَا هَيْبَةٍ وصرامة وإقدام وتسرع في
الأمور. وقد روى ابن عساكر باسناده، أن رجلا قام إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ
وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّوَادُ الَّذِي أَرَى
عَلَيْكَ؟
فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» .
وهذه ثياب الهيئة وَثِيَابُ الدَّوْلَةِ. يَا غُلَامُ اضْرِبْ
عُنُقَهُ. وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيبٍ عَنْهُ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(10/67)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ
أَرَادَ هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللَّهُ» . وَقَدْ كَانَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّائِغُ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَجُلَسَائِهِ فِي زَمَنِ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يَعِدُهُ إِذَا ظَهَرَ
أَنْ يُقِيمَ الحدود، فلما تمكن أبو مسلم ألح عليه إبراهيم ابن ميمون
فِي الْقِيَامِ بِمَا وَعَدَهُ بِهِ حَتَّى أَحْرَجَهُ، فأمر بضرب
عنقه، وقال له: لم لا كُنْتَ تُنْكِرُ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ
وَهُوَ يَعْمَلُ أَوَانِيَ الْخَمْرِ مِنَ الذَّهَبِ فَيَبْعَثُهَا
إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يقربونى من
أنفسهم ويعدوني منها ما وعدتني أنت. وقد رأى بعضهم لإبراهيم بن ميمون
هذا مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ بِصَبْرِهِ عَلَى الْأَمْرِ
بالمعروف والنهى عن المنكر، فإنه كان آمرا ناهيا قائما في ذلك، فقتله
أبو مسلم رحمه الله.
وقد ذكرنا طاعة أبى مسلم للسفاح واعتناءه بأمره وامتثال مراسيمه، فلما
صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَنْصُورِ اسْتَخَفَّ بِهِ وَاحْتَقَرَهُ،
ومع هذا بعثه المنصور إلى عمه عبد الله إلى الشام فكسره واستنقذ منه
الشام وَرَدَّهَا إِلَى حُكْمِ الْمَنْصُورِ. ثُمَّ شَمَخَتْ نَفْسُهُ
على المنصور وهم بقتله، فَفَطِنَ لِذَلِكَ الْمَنْصُورُ مَعَ مَا كَانَ
مُبْطِنًا لَهُ مِنَ الْبِغْضَةِ، وَقَدْ سَأَلَ أَخَاهُ السَّفَّاحَ
غير مرة أن يقتله كما تقدم ذلك فأبى عليه، فلما تولى المنصور ما زال
بما كره ويخادعه حتى قدم عليه فقتله. قَالَ بَعْضُهُمْ: كَتَبَ
الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ أما بعد فإنه يرين على القلوب ويطبع
عليها المعاصي، فع أيها الطائش، وأفق أيها السكران، وانتبه أيها
النائم، فإنك مغرور بأضغاث أحلام كاذبة، في برزخ دنيا قد غرت من كان
قَبْلَكَ وَسُمَّ بِهَا سَوَالِفُ الْقُرُونِ (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ
مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) وَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُعْجِزُهُ مَنْ هَرَبَ، وَلَا يفوته من طلب، فلا تَغْتَرَّ بِمَنْ
مَعَكَ مِنْ شِيعَتِي وَأَهْلِ دَعْوَتِي، فكأنهم قد صالوا عليك بعد أن
صالوا معك، إن أنت خلعت الطاعة وفارقت الجماعة وبدا لَكَ مِنَ اللَّهِ
مَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَسِبُ، مَهْلًا مَهْلًا، احْذَرِ الْبَغْيَ أَبَا
مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ من بغى واعتدى تخلى الله عنه، وَنَصَرَ عَلَيْهِ
مَنْ يَصْرَعُهُ لِلْيَدَيْنِ وَالْفَمِ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ
سُنَّةً فِي الَّذِينَ قَدْ خَلَوْا من قبلك، ومثلة لمن يأتى بعدك،
فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ وَأَعْذَرْتُ إِلَيْكَ وَإِلَى أَهْلِ طاعتي
فيك. قال تَعَالَى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ
آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ
الْغاوِينَ 7: 175 فَأَجَابَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ
قَرَأْتُ كِتَابَكَ فَرَأَيْتُكَ فِيهِ لِلصَّوَابِ مُجَانِبًا، وَعَنِ
الْحَقِّ حَائِدًا إِذْ تَضْرِبُ فِيهِ الْأَمْثَالَ عَلَى غَيْرِ
أشكالها، وكتبت إلى فِيهِ آيَاتٍ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ
لِلْكَافِرِينَ، وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ، وَإِنَّنِي وَاللَّهِ مَا انْسَلَخْتُ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ، وَلَكِنَّنِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ كُنْتُ
رَجُلًا مُتَأَوِّلًا فِيكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ أَوْجَبَتْ
لَكُمْ بِهَا الْوِلَايَةَ وَالطَّاعَةَ، فَأْتَمَمْتُ بِأَخَوَيْنِ
لَكَ مِنْ قَبْلِكَ ثُمَّ بِكَ مِنْ بَعْدِهِمَا، فَكُنْتُ لَهُمَا
شيعة متديّنا أحسبنى هاديا مهتديا، وأخطأت في التأويل وقدما أخطأ
المتأولون، وقد قال تَعَالَى وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى)
(10/68)
(نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ
مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ
فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 6: 54 وإن أَخَاكَ السَّفَّاحَ ظَهَرَ فِي
صُورَةِ مَهْدِيٍّ وَكَانَ ضالا فأمرنى أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ
وَأَقْتُلَ بِالظِّنَّةِ وَأُقْدِمَ بِالشُّبْهَةِ وَأَرْفَعَ
الرَّحْمَةَ وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَوَتَرْتُ أَهْلَ الدُّنْيَا
فِي طَاعَتِكُمْ، وَتَوْطِئَةِ سُلْطَانِكُمْ، حَتَّى عَرَفَكُمْ الله
مَنْ كَانَ جَهِلَكُمْ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَدَارَكَنِي
مِنْهُ بِالنَّدَمِ وَاسْتَنْقَذَنِي بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ
عَنِّي وَيَصْفَحْ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، وَإِنْ
يُعَاقِبْنِي فَبِذُنُوبِي وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
فَكَتَبَ إليه المنصور: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الْمُجْرِمُ الْعَاصِي،
فَإِنَّ أَخِي كان إمام هدى يدعوه إلى الله على بينة من ربه، فأوضح لك
السبيل، وحملك على المنهج السديد، فلو بأخي اقتديت لما كنت عن الحق
حائدا، وعن الشيطان وأوامره صَادِرًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْنَحْ لَكَ
أَمْرَانِ إِلَّا كنت لأرشدهما تاركا، ولأغواهما راكبا، تَقْتُلُ
قَتْلَ الْفَرَاعِنَةِ، وَتَبْطِشُ بَطْشَ الْجَبَابِرَةِ، وَتَحْكُمُ
بالجور حكم المفسدين، وتبذر المال وتضعه في غير مواضعه فعل المسرفين،
ثُمَّ مِنْ خَبَرِي أَيُّهَا الْفَاسِقُ أَنِّي قَدْ وليت موسى ابن كعب
خراسان، وأمرته أن يقيم بِنَيْسَابُورَ، فَإِنْ أَرَدْتَ خُرَاسَانَ
لَقِيَكَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُوَّادِي وَشِيعَتِي، وَأَنَا مُوَجِّهٌ
لِلِقَائِكَ أَقْرَانَكَ، فَاجْمَعْ كَيْدَكَ وَأَمْرَكَ غَيْرَ
مُسَدَّدٍ وَلَا مُوَفَّقٍ، وحسب أمير المؤمنين ومن اتبعه اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَلَمْ يَزَلِ الْمَنْصُورُ يُرَاسِلُهُ تَارَةً بِالرَّغْبَةِ
وَتَارَةً بِالرَّهْبَةِ، وَيَسْتَخِفُّ أَحْلَامَ مَنْ حوله من
الأمراء والرسل الذين يبعثهم أبو مسلم إلى المنصور ويعدهم، حتى حسنوا
لأبى مسلم في رأيه القدوم عليه سِوَى أَمِيرٍ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ
نَيْزَكُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى
أَبَا مسلم وقد انطاع لهم أنشد عند ذلك البيت المتقدم، وهو:
مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ... ذَهَبَ الْقَضَاءُ
بحيلة الأقوام.
وأشار عليه بأن يقتل المنصور ويستخلف بدله فلم يمكنه ذلك، فإنه لَمَّا
قَدِمَ الْمَدَائِنَ تَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ عَنْ أَمْرِ
الْخَلِيفَةِ، فَمَا وَصَلَ إِلَّا آخِرَ النَّهَارِ، وَقَدْ أشار أبو
أيوب كاتب الرسائل أن لا يقتله يومه هذا كما تقدم [فَلَمَّا وَقَفَ
بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَظْهَرَ
احْتِرَامَهُ، وَقَالَ: اذْهَبِ اللَّيْلَةَ فَأَذْهِبْ عَنْكَ
وَعْثَاءَ السَّفَرِ ثُمَّ ائْتِنِي مِنَ الْغَدِ.] [1] فَلَمَّا كَانَ
الْغَدُ أَرْصَدَ لَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَنْ يَقْتُلُهُ، مِنْهُمْ
عُثْمَانُ بْنُ نَهِيكٍ، وَشَبِيبُ بْنُ واج، فقتلوه كما تقدم. ويقال
بل أقام أياما يظهر له المنصور الاكرام والاحترام، ثم نشق مِنْهُ
الْوَحْشَةُ فَخَافَ أَبُو مُسْلِمٍ وَاسْتَشْفَعَ بِعِيسَى بن موسى
واستجار به، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَ: لَا
بأس عليك فانطلق فانى آت وراءك، أنت فِي ذِمَّتِي حَتَّى آتِيَكَ، -
وَلَمْ يَكُنْ مَعَ عيسى خَبَرٌ بِمَا يُرِيدُ بِهِ الْخَلِيفَةُ-
فَجَاءَ أَبُو مسلم يستأذن على المنصور فَقَالُوا لَهُ: اجْلِسْ
هَاهُنَا فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَضَّأُ، فَجَلَسَ وَهُوَ
يَوَدُّ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسُهُ لِيَجِيءَ عِيسَى بْنُ مُوسَى
فَأَبْطَأَ، وَأَذِنَ لَهُ الخليفة
__________
[1] زيادة من المصرية.
(10/69)
فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يُعَاتِبُهُ
فِي أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنْهُ فَيَعْتَذِرُ عَنْهَا جَيِّدًا، حَتَّى
قَالَ لَهُ: فلم قتلت سليمان بن كثير، وإبراهيم بن ميمون، وَفُلَانًا
وَفُلَانًا؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ عَصَوْنِي وَخَالَفُوا أَمْرِي.
فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَنْصُورُ وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَنْتَ
تَقْتُلُ إِذَا عُصِيتَ، وَأَنَا لَا أَقْتُلُكَ وَقَدْ عَصَيْتَنِي
وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ وَكَانَتِ الْإِشَارَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمُرْصَدِينَ لِقَتْلِهِ-، فَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ
فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ استبقني لِأَعْدَائِكَ، فَقَالَ: وَأَيُّ
عَدُوٍّ لِي أَعْدَى مِنْكَ. ثم زجرهم المنصور فقطعوه قِطَعًا
وَلَفُّوهُ فِي عَبَاءَةٍ، وَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى إِثْرِ
ذَلِكَ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا
أَبُو مُسْلِمٍ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ،
2: 156 فَقَالَ لَهُ المنصور: احمد الله الّذي هَجَمْتَ عَلَى
نِعْمَةٍ، وَلَمْ تَهْجُمْ عَلَى نِقْمَةٍ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو
دُلَامَةَ: -
أَبَا مُسْلِمٍ مَا غَيَّرَ اللَّهُ نِعْمَةً ... عَلَى عَبْدِهِ
حَتَّى يغيرها العبد
أبا مسلم خوفتني القتل فانتخى ... عَلَيْكَ بِمَا خَوَّفْتَنِي
الْأَسَدُ الْوَرْدُ
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ تَقَدَّمَ إِلَى عُثْمَانَ
بْنِ نَهِيكٍ وَشَبِيبِ بْنِ وَاجٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ حَرْبِ بْنِ
قَيْسٍ وَآخَرَ مِنَ الْحَرَسِ أَنْ يَكُونُوا قَرِيبًا مِنْهُ،
فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَخَاطَبَهُ وَضَرَبَ
بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَلْيَقْتُلُوهُ. فلما دخل عليه
أبو مسلم قال له المنصور: مَا فَعَلَ السَّيْفَانِ اللَّذَانِ
أَصَبْتَهُمَا مِنْ عَبْدِ الله بن على؟ فقال: هذا أحدهما. فقال:
أرنيه، فناوله السيف فوضعه تَحْتَ رُكْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ:
مَا حَمَلَكَ على أن تكتب لأبى عبد الله السَّفَّاحَ تَنْهَاهُ عَنِ
الْمَوَاتِ، أَرَدْتَ أَنْ تُعَلِّمَنَا الدِّينَ؟ قَالَ: إِنَّنِي
ظَنَنْتُ أَنْ أَخْذَهُ لَا يحل، فلما جاءني كتاب أمير المؤمنين علمت
أنه وَأَهْلَ بَيْتِهِ مَعْدِنُ الْعِلْمِ. قَالَ:
فَلِمَ تَقَدَّمْتَ عَلَيَّ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ؟ قَالَ: كَرِهْتُ
اجْتِمَاعَنَا عَلَى الْمَاءِ فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ،
فَتَقَدَّمْتُ الْتِمَاسَ الرِّفْقِ. قَالَ: فَلِمَ لَا رَجَعْتَ
إِلَيَّ حِينَ أَتَاكَ خَبَرُ مَوْتِ أَبِي الْعَبَّاسِ؟ قَالَ:
كَرِهْتُ التضييق على الناس في طريق الحج، وعرفت أنا سنجتمع
بِالْكُوفَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنِّي خِلَافٌ. قَالَ: فَجَارِيَةُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَرَدْتَ أَنْ تَتَّخِذَهَا لنفسك؟ قال:
لا! ولكن خِفْتَ أَنْ تَضِيعَ فَحَمَلْتُهَا فِي قُبَّةٍ وَوَكَّلْتُ
بِهَا مَنْ يَحْفَظُهَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الْكَاتِبَ
إِلَيَّ تَبْدَأُ بِنَفْسِكَ وَالْكَاتِبَ إِلَيَّ تَخْطُبُ آمنة
بِنْتَ عَلِيٍّ؟ وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ؟ هَذَا كُلُّهُ وَيَدُ الْمَنْصُورِ فِي يَدِهِ
يَعْرِكُهَا وَيُقَبِّلُهَا وَيَعْتَذِرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَمَا
حَمَلَكَ عَلَى مُرَاغَمَتِي وَدُخُولِكَ إِلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ:
خِفْتُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَكَ منى شيء فأردت أن أدخل خُرَاسَانَ
وَأَكْتُبُ إِلَيْكَ بِعُذْرِي. قَالَ: فَلِمَ قَتَلْتَ سُلَيْمَانَ
بْنَ كَثِيرٍ وَكَانَ مِنْ نُقَبَائِنَا وَدُعَاتِنَا قِبَلَكَ؟ قَالَ:
أَرَادَ خِلَافِي. فَقَالَ: وَيْحَكَ وَأَنْتَ أَرَدْتَ خِلَافِي
وَعَصَيْتَنِي، قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ.
ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَمُودِ الْخَيْمَةِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ
فَضَرَبَهُ عُثْمَانُ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ، وَضَرَبَهُ شبيب
فقطع رجله، وحمل عليه بقيتهم بالسيوف، والمنصور يصيح: ويحكم اضربوه
قَطَعَ اللَّهُ أَيْدِيَكُمْ. ثُمَّ ذَبَحُوهُ
(10/70)
وَقَطَّعُوهُ قِطَعًا قِطَعًا، ثُمَّ
أُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ. ويروى أن المنصور لما قتله وَقَفَ عَلَيْهِ
فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا مُسْلِمٍ، بايعتنا فبايعناك، وعاهدتنا
وعاهدناك، ووفيت لنا فوفينا لَكَ، وَإِنَّا بَايَعْنَاكَ عَلَى أَنْ
لَا يَخْرُجُ عَلَيْنَا أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَّا
قَتَلْنَاهُ، فَخَرَجْتَ عَلَيْنَا فَقَتَلْنَاكَ، وَحَكَمْنَا
عَلَيْكَ حُكْمَكَ عَلَى نفسك لنا. ويقال إن المنصور قال: الحمد للَّه
الّذي أرانا يَوْمَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ
وَقَالَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ ذَلِكَ: -
زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْتَضَى ... فَاسْتَوْفِ بِالْكَيْلِ
أَبَا مُجْرِمٍ
سُقِيتَ كَأْسًا كُنْتَ تَسْقِي بِهَا ... أَمَرَّ فِي الْحَلْقِ من
العلقم
ثم إن المنصور خطب في النَّاسَ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ:
أَيُّهَا الناس، لا تنفّروا أطيار النعم بترك الشكر، فتحل بكم النقم،
وَلَا تُسِرُّوا غِشَّ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُسِرُّ
مِنْكُمْ شَيْئًا إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ
وَجْهِهِ، وَطَوَالِعِ نَظَرِهِ وَإِنَّا لَنْ نَجْهَلَ حُقُوقَكُمْ
مَا عَرَفْتُمْ حَقَّنَا، وَلَا نَنْسَى الْإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ مَا
ذَكَرْتُمْ فَضْلَنَا، وَمَنْ نَازَعَنَا هذا القميص أوطأنا أم رأسه،
حتى يستقيم رجالكم، وترتدع عمالكم. وإن هذا الغمر أَبَا مُسْلِمٍ
بَايَعَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ نَكَثَ بيعتنا وأظهر غشنا فقد أباحنا دمه،
فنكث وَغَدَرَ وَفَجَرَ وَكَفَرَ، فَحَكَمْنَا عَلَيْهِ لِأَنْفُسِنَا
حُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَنَا، وَإِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ أَحْسَنَ
مبتديا وأساء منتهيا، وأخذ من الناس بنا لنفسه أَكْثَرَ مِمَّا
أَعْطَانَا. وَرَجَحَ قَبِيحُ بَاطِنِهِ عَلَى حُسْنِ ظَاهِرِهِ،
وَعَلِمْنَا مِنْ خُبْثِ سَرِيرَتِهِ وَفَسَادِ نِيَّتِهِ مَا لَوْ
عَلِمَ اللَّائِمُ لَنَا فِيهِ لما لام، ولو اطلع على ما أطلعنا عليه
منه لَعَذَرَنَا فِي قَتْلِهِ، وَعَنَّفَنَا فِي إِمْهَالِهِ، وَمَا
زَالَ يَنْقُضُ بَيْعَتَهُ وَيَخْفِرُ ذِمَّتَهُ حَتَّى أَحَلَّ لَنَا
عُقُوبَتَهُ وَأَبَاحَنَا دَمَهُ، فَحَكَمْنَا فِيهِ حُكْمَهُ في غيره
ممن شق العصا، وَلَمْ يَمْنَعْنَا الْحَقُّ لَهُ مِنْ إِمْضَاءِ
الْحَقِّ فِيهِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ النَّابِغَةُ
الذُّبْيَانِيُّ لِلنُّعْمَانِ- يَعْنِي ابْنَ الْمُنْذِرِ-:
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بطاعته ... كما أطاعك والله عَلَى
الرَّشَدِ
وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً ... تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا
تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بن المبارك سئل عن أبى مسلم أهو خير أَمِ الْحَجَّاجُ؟
فَقَالَ: لَا أَقُولُ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ،
وَلَكِنْ كَانَ الحجاج شرا منه، قد اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى
الْإِسْلَامِ، وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَلَمْ أر فيما ذكروه عن
أبى مسلم مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ
يَخَافُ اللَّهَ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَقَدِ ادعى التوبة فيما كان منه من
سفك الدِّمَاءِ فِي إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَمْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ارتديت الصبر، وآثرت
الكفاف، وحالفت الأحزان والأشجان، وشامخت الْمَقَادِيرَ
وَالْأَحْكَامَ، حَتَّى بَلَغْتُ غَايَةَ هِمَّتِي، وَأَدْرَكْتُ
نِهَايَةَ بُغْيَتِي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
(10/71)
قد نلت بالعزم وَالْكِتْمَانِ مَا عَجَزَتْ
... عَنْهُ مُلُوكُ بَنِي مَرْوَانَ إِذْ حَشَدُوا
مَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ بِالسَّيْفِ فَانْتَبَهُوا ... من رقدة لم
ينمها قبلهم أحد
وطفت أَسْعَى عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ ... وَالْقَوْمُ فِي
مُلْكِهِمْ في الشام قَدْ رَقَدُوا
وَمَنْ رَعَى غَنَمًا فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ ... وَنَامَ عَنْهَا
تَوَلَّى رَعْيَهَا الْأَسَدُ
وَقَدْ كان قتل أبى مسلم بِالْمَدَائِنِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
لِسَبْعٍ خَلَوْنَ، وَقِيلَ لِخَمْسٍ بَقِينَ، وَقِيلَ لِأَرْبَعٍ،
وَقِيلَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وثلاثين ومائة- قال بَعْضُهُمْ:
كَانَ ابْتِدَاءُ ظُهُورِهِ فِي رَمَضَانَ مِنْ سنة تسع وعشرين ومائة،
وقيل في شعبان سنة سبع وعشرين وَمِائَةٍ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُتِلَ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ
أَرْبَعِينَ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ، فَإِنَّ بغداد لم تكن
بنيت بعد كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد، ورد هذا القول.
ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ شَرَعَ فِي تَأْلِيفِ أَصْحَابِ أبى مسلم
بالأعطية والرغبة والرهبة والولايات، وَاسْتَدْعَى أَبَا إِسْحَاقَ-
وَكَانَ مِنْ أَعَزِّ أَصْحَابِ أبى مسلم- وكان على شرطة أبى مسلم،
وَهَمَّ بِضَرْبِ عُنُقِهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَاللَّهِ مَا أَمِنْتُ قَطُّ إِلَّا فِي هَذَا اليوم، وما من يوم كنت
أدخل عليك إلا تحنطت ولبست كفني. ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ثِيَابِهِ الَّتِي
تَلِي جَسَدَهُ فَإِذَا هُوَ مُحَنَّطٌ وَعَلَيْهِ أَدْرَاعُ
أَكْفَانٍ، فَرَقَّ لَهُ الْمَنْصُورُ وَأَطْلَقَهُ وَذِكَرَ ابْنُ
جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ قَتَلَ فِي حُرُوبِهِ وَمَا كَانَ
يَتَعَاطَاهُ لِأَجْلِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ
صبرا زيادة عن من قتل بغير ذلك. وَقَدْ قَالَ لِلْمَنْصُورِ وَهُوَ
يُعَاتِبُهُ عَلَى مَا كَانَ يَصْنَعُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
لَا يُقَالُ لي هَذَا بَعْدَ بَلَائِي وَمَا كَانَ مِنِّي. فَقَالَ له:
يا ابن الخبيثة، لو كانت أمة مكانك لأجزأت ناحيتها، إنما عملت ما عملت
بدولتنا وبريحنا، لو كان ذلك إليك لما وصلت إلى فتيل. وَلَمَّا
قَتَلَهُ الْمَنْصُورُ لُفَّ فِي كِسَاءٍ وَهُوَ مُقَطَّعٌ إِرَبًا
إِرَبًا، فَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ أَبُو مُسْلِمٍ؟
قال: قد كان ها هَاهُنَا آنِفًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
قَدْ عَرَفْتَ طَاعَتَهُ وَنَصِيحَتَهُ وَرَأْيَ إِبْرَاهِيمَ
الْإِمَامِ فِيهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَنْوَكُ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ
فِي الْأَرْضِ عَدُوًّا أَعْدَى لَكَ مِنْهُ، هَا هُوَ ذَاكَ فِي
الْبِسَاطِ. فَقَالَ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. فَقَالَ لَهُ
الْمَنْصُورُ: خَلَعَ الله قلبك! وهل كان لكم مكان أَوْ سُلْطَانٌ أَوْ
أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ؟ ثُمَّ اسْتَدْعَى
الْمَنْصُورُ بِرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ فَجَعَلَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي
قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِقَتْلِهِ، فَكُلُّهُمْ
يُشِيرُ بِقَتْلِهِ، وَمِنْهُمْ من كان إذا تكلم أسر كلامه خوفا من أبى
مسلم لئلا ينقل إليه، فلما أطلعهم على قتله أفزعهم ذَلِكَ وَأَظْهَرُوا
سُرُورًا كَثِيرًا. ثُمَّ خَطَبَ الْمَنْصُورُ الناس بذلك كما تقدم.
ثم كتب المنصور إِلَى نَائِبِ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى أَمْوَالِهِ
وَحَوَاصِلِهِ بكتاب على لسان أَبِي مُسْلِمٍ أَنْ يَقْدُمَ بِجَمِيعِ
مَا عِنْدَهُ من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر، وختم الكتاب
بخاتم أبى مسلم بكماله، مطبوعا بكل فص الخاتم، فلما رآه الخازن
اسْتَرَابَ فِي الْأَمْرِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ تقدم إلى
(10/72)
خازنه أنه إذا جاءك كتابي فان رأيته مختوما
بنصف الفص فامض لما فيه، فانى إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك
الكتاب مختوما عليه بكماله فلا تقبل ولا تمض ما فيه. فامتنع عند ذلك
خازنه أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور بعد ذلك إليه من أخذ
جميع ذلك وقتل ذلك الرجل الخازن، وكتب المنصور إلى أبى داود إبراهيم بن
خالد بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ كَمَا وَعَدَهُ قَبْلَ ذَلِكَ عِوَضًا عن
أبى مسلم.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ سِنْبَاذُ يَطْلُبُ بِدَمِ أبى مسلم،
وَقَدْ كَانَ سِنْبَاذُ هَذَا مَجُوسِيًّا تَغَلَّبَ عَلَى قومس
وأصبهان، ويسمى بِفَيْرُوزَ أَصْبَهْبَذَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ جَيْشًا هُمْ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ
عَلَيْهِمْ جَهْوَرُ بْنُ مَرَّارٍ الْعِجْلِيُّ- فَالْتَقَوْا بَيْنَ
هَمَذَانَ وَالرَّيِّ بالمفازة، فَهَزَمَ جَهْوَرٌ لِسِنْبَاذَ
وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتِّينَ أَلْفًا وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ،
وَنِسَاءَهُمْ، وَقُتِلَ سِنْبَاذُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَتْ أَيَّامُهُ
سَبْعِينَ يَوْمًا.
وَأُخِذَ مَا كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَبِي
مُسْلِمٍ الَّتِي كَانَتْ بِالرَّيِّ. وَخَرَجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أيضا رجل يقال له ملبّد [بن حرملة الشيباني] في ألف من الخوارج
بالجزيرة فجهز إليه المنصور جيوشا متعددة كثيفة كلها تنفر منه وتنكسر
ثُمَّ قَاتَلَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ،
فَهَزَمَهُ مُلَبَّدٌ وَتَحَصَّنَ مِنْهُ حُمَيْدٌ فِي بَعْضِ
الْحُصُونِ ثُمَّ صَالَحَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ عَلَى مائة ألف
فدفعها إليه وقبلها ملبد وتقلع عَنْهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمُّ الْخَلِيفَةِ
إِسْمَاعِيلُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَهُ
الْوَاقِدِيُّ.
وَكَانَ نَائِبَ الْمَوْصِلِ- يعنى عم المنصور- وَعَلَى نِيَابَةِ
الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى البصرة سليمان ابن عَلِيٍّ،
وَعَلَى الْجَزِيرَةِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى مِصْرَ
صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَبُو داود إبراهيم ابن
خالد، وَعَلَى الْحِجَازِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَلَمْ يَكُنْ
لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ لِشُغْلِ الخليفة بسناباذ
وغيره. ومن مشاهير من توفى فيها أبو مسلم الخراساني كما تقدم، ويزيد بن
أبى زياد أحد من تكلم فيه كما ذكرناه في التَّكْمِيلِ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثمان وثلاثين ومائة
فيها دخلت قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ مَلَطِيَةَ عَنْوَةً فَهَدَمَ
سُورَهَا وعفا عمن قدر عليه من مقاتلتها.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ نَائِبُ مصر، فبنى
ما كان هدم مَلِكُ الرُّومِ مِنْ سُوَرِ مَلَطْيَةَ، وَأَطْلَقَ
لِأَخِيهِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَكَذَلِكَ أَعْطَى لِابْنِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا بَايَعَ عَبْدُ الله بن
على الّذي كسره أبو مسلم وَانْهَزَمَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَجَارَ
بِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، حَتَّى بَايَعَ لِلْخَلِيفَةِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَرَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ. وَلَكِنْ حُبِسَ فِي
سِجْنِ بغداد كما سيأتي. وفيها خلع جمهور بن مرار العجليّ الخليفة
المنصور بعد ما كسر سنباذ واستحوذ على حواصله وعلى أَمْوَالِ أَبِي
مُسْلِمٍ، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ وَظَنَّ أنه لا يقدر عليه بعد.
فأرسل إليه
(10/73)
الْخَلِيفَةُ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ
الْخُزَاعِيَّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَهُزِمَ جَهْوَرٌ وَقُتِلَ عامة من معه، وَأُخِذَ مَا كَانَ مَعَهُ
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ والذخائر، ثُمَّ لَحِقُوهُ
فَقَتَلُوهُ. وَفِيهَا قُتِلَ الْمُلَبَّدُ الْخَارِجِيُّ عَلَى يَدَيْ
خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَقُتِلَ مِنْ
أَصْحَابِ الْمُلَبَّدِ مَا يَزِيدُ على ألف وانهزم بقيتهم.
قال الواقدي: وحج بالناس فيها الفضل بن على، والنواب فيها هم المذكورون
بالتي قبلها وممن توفى فيها من الأعيان زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ،
وَالْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وليث بن أَبِي سُلَيْمٍ فِي
قَوْلٍ [وَفِيهَا كَانَتْ خِلَافَةُ الداخل من بنى أمية إلى بِلَادِ
الْأَنْدَلُسِ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بن هشام ابن
عبد الملك بن مروان الهاشمي. قلت: ليس هو بهاشمي إنما هو من بنى أمية
ويسمى أمويا، كان قد دخل إلى بلاد المغرب فرارا من عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فاجتاز بمن معه من أصحابه
الذين فروا معه بِقَوْمٍ يَقْتَتِلُونَ عَلَى عَصَبِيَّةِ
الْيَمَانِيَةِ وَالْمُضَرِيَّةِ، فَبَعَثَ مَوْلَاهُ بَدْرًا
إِلَيْهِمْ فَاسْتَمَالَهُمْ إِلَيْهِ فَبَايَعُوهُ وَدَخَلَ بِهِمْ
فَفَتَحَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا
وَانْتَزَعَهَا من نائبها يوسف بن عبد الرحمن ابن حَبِيبِ بْنِ أَبِي
عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ الْفِهْرِيِّ وَقَتَلَهُ.
وَسَكَنَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قُرْطُبَةَ وَاسْتَمَرَّ فِي خِلَافَتِهِ
فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ هذه السنة إِلَى سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. فَتُوُفِّيَ فِيهَا وَلَهُ فِي الْمُلْكِ
أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَشْهُرٌ. ثُمَّ قَامَ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ هِشَامٌ سِتَّ سنين وأشهرا. ثم مات فولى بعده الْحَكَمُ بْنُ
هِشَامٍ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا ثم مات. ثم ولى
بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ ثَلَاثًا وثلاثين
سنة ثم مات. ثم ولى بَعْدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَكَمِ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ ابْنُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ
الْمُنْذِرِ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ بِدَهْرٍ،
ثم زالت تلك الدولة كما سنذكره من زوال تلك السنون وأهلها وما قضوا
فيها من النعيم والعيش الرغيد والنساء الحسان ثم انقضت تلك السنوات
وأهلها كأنهم على ميعاد، ثم أضحوا كأنهم ورق جف ألوت عليه الصبا
والذبول] [1]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَكْمَلَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَاءَ مَلَطْيَةَ ثُمَّ غزا
الطائفة عَلَى طَرِيقِ الْحَدَثِ، فَوَغَلَ فِي بِلَادِ الرُّومِ،
وَغَزَا مَعَهُ أُخْتَاهُ أُمُّ عِيسَى وَلُبَابَةُ ابْنَتَا عَلِيٍّ،
وَكَانَتَا نَذَرَتَا إِنْ زَالَ مُلْكُ بَنِي أمية أن يجاهدا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِيهَا كَانَ الفداء الّذي حصل بين
المنصور وبين ملك الرُّومِ، فَاسْتَنْقَذَ بَعْضَ أَسْرَى
الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ صَائِفَةٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ لِاشْتِغَالِ
الْمَنْصُورِ بِأَمْرِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ كَمَا
سَنَذْكُرُهُ. وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ
قَحْطَبَةَ غَزَا الصَّائِفَةَ مَعَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ فاللَّه أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَنْصُورُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَكَانَتْ
هَذِهِ السَّنَةُ خِصْبَةً جدا- أي كثيرة الخصب فكان
__________
[1] زيادة من نسخة استامبول.
(10/74)
يقال لها السنة الخصبة- وَقِيلَ إِنَّمَا
كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ. وفيها عزل المنصور عمه سليمان عن
إمرة البصرة، فَاخْتَفَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ
خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَبَعَثَ الْمَنْصُورُ إِلَى نَائِبِهِ
عَلَى الْبَصْرَةِ، وَهُوَ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، يَسْتَحِثُّهُ
فِي إِحْضَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَيْهِ، فَبَعَثَهُ فِي
أَصْحَابِهِ فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ وَسَجَنَ عَبْدَ اللَّهِ بن على عمه،
وَبَعَثَ بَقِيَّةَ أَصْحَابِهِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ نَائِبِ خراسان
فقتلهم هناك وحج بالناس فيها الْعَبَّاسُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَمْرُو بْنُ
مجاهد، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، وَيُونُسُ بْنُ
عُبَيْدٍ، أَحَدُ الْعُبَّادِ وَصَاحِبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
ثم دخلت سنة أربعين ومائة
فيها نار جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ نَائِبِ
الخراسان، وَحَاصَرُوا دَارَهُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ
يَسْتَغِيثُ بِجُنْدِهِ لِيَحْضُرُوا إِلَيْهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى
آجُرَّةٍ فِي الْحَائِطِ فانكسرت به فسقط فانكسر ظهره فمات، فخلفه على
خراسان عاصم، صاحب الشرطة حتى قدم الأمير من جهة الخليفة عليها، وَهُوَ
عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ، فَتَسَلَّمَ
بِلَادَ خُرَاسَانَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ لِأَنَّهُ
بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى خِلَافَةِ آلِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَحَبَسَ آخَرِينَ، وَأَخَذَ نُوَّابَ أَبِي
دَاوُدَ بِجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ الْمُنْكَسِرَةِ عندهم.
وفيها حج بالناس الخليفة المنصور أحرم من الْحِيرَةِ وَرَجَعَ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْحَجِّ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثم رحل إلى بيت المقدس فزاره،
ثُمَّ سَلَكَ الشَّامَ إِلَى الرَّقَّةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى
الْهَاشِمِيَّةِ- هَاشِمِيَّةِ الْكُوفَةِ- وَنُوَّابُ الْأَقَالِيمِ
هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى خُرَاسَانَ
فَإِنَّهُ مَاتَ نَائِبُهَا أَبُو دَاوُدَ، فَخَلَفَهُ مَكَانَهُ
عَبْدُ الجبار الأزدي. وفيها توفى داود بن أَبِي هِنْدَ، وَأَبُو
حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ،
وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ بن قيس السكونيّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خرجت طائفة يقال لها الرَّاوَنْدِيَّةُ عَلَى الْمَنْصُورِ.
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ أَنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ
خُرَاسَانَ، وَهُمْ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ،
كَانُوا يَقُولُونَ بِالتَّنَاسُخِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رُوحَ آدَمَ
انْتَقَلَتْ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ نَهِيكٍ، وَأَنَّ رَبَّهُمُ الَّذِي
يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ. وَأَنَّ
الْهَيْثَمَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جبريل، قبحهم الله.
قال ابن جرير: فَأَتَوْا يَوْمًا قَصْرَ الْمَنْصُورِ فَجَعَلُوا
يَطُوفُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: هَذَا قَصْرُ رَبِّنَا، فَأَرْسَلَ
الْمَنْصُورُ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ فَحَبَسَ مِنْهُمْ مِائَتَيْنِ،
فَغَضِبُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: عَلَامَ تَحْبِسُهُمْ؟ ثُمَّ
عَمَدُوا إِلَى نَعْشٍ فَحَمَلُوهُ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَاجْتَمَعُوا حوله كأنهم يشيعون جنازة، واجتازوا
بِبَابِ السِّجْنِ، فَأَلْقَوْا النَّعْشَ وَدَخَلُوا السِّجْنَ
قَهْرًا وَاسْتَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَقَصَدُوا
نَحْوَ المنصور
(10/75)
وَهُمْ فِي سِتِّمِائَةٍ، فَتَنَادَى
النَّاسُ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ
الْقَصْرِ مَاشِيًا، لِأَنَّهُ لم يجد دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا، ثُمَّ
جِيءَ بِدَابَّةٍ فَرَكِبَهَا وَقَصَدَ نَحْوَ الرَّاوَنْدِيَّةِ
وَجَاءَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وجاء معن من زائدة، فلما رأى
المنصور تَرَجَّلَ وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّةِ الْمَنْصُورِ، وَقَالَ:
يَا أمير المؤمنين ارجع! نحن نكفيكهم. فأبى وقام أهل الأسواق
إِلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ، وَجَاءَتِ الْجُيُوشُ فَالْتَفُّوا
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَحَصَدُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ
يَبْقَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ. وَجَرَحُوا عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ
بِسَهْمٍ بين كتفيه، فمرض أياما ثم مات، فصلى عليه الخليفة، وَقَامَ
عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى دُفِنَ وَدَعَا لَهُ، وَوَلَّى أَخَاهُ عِيسَى
بْنَ نَهِيكٍ عَلَى الْحَرَسِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَدِينَةِ
الْهَاشِمِيَّةِ مِنَ الْكُوفَةِ.
وَلَمَّا فَرَغَ الْمَنْصُورُ مِنْ قِتَالِ الرَّاوَنْدِيَّةِ ذَلِكَ
الْيَوْمَ صَلَّى بِالنَّاسِ الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، ثُمَّ
أُتِيَ بِالطَّعَامِ فَقَالَ أَيْنَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ؟ وَأَمْسَكَ
عَنِ الطَّعَامِ حَتَّى جَاءَ مَعْنٌ فأجلسه إلى جنبه، ثُمَّ أَخَذَ
فِي شُكْرِهِ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ لِمَا رَأَى مِنْ شَهَامَتِهِ
يَوْمَئِذٍ. فَقَالَ مَعْنٌ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
لَقَدْ جِئْتُ وَإِنِّي لَوَجِلٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُ اسْتِهَانَتَكَ
بِهِمْ وَإِقْدَامَكَ عَلَيْهِمْ قَوِيَ قلبي واطمأن، وَمَا ظَنَنْتُ
أَنَّ أَحَدًا يَكُونُ فِي الْحَرْبِ هَكَذَا، فَذَاكَ الَّذِي
شَجَّعَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَرَ لَهُ الْمَنْصُورُ
بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَرَضِيَ عَنْهُ وَوَلَّاهُ الْيَمَنَ.
وَكَانَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيًا، لِأَنَّهُ
قَاتَلَ الْمُسَوِّدَةَ مَعَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا
فِي هَذَا الْيَوْمِ.
فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ صِدْقَهُ فِي قِتَالِهِ رَضِيَ عنه.
ويقال: إن المنصور قال عن نفسه: أَخْطَأْتُ فِي ثَلَاثٍ:
قَتَلْتُ أَبَا مُسْلِمٍ وَأَنَا فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ، وَحِينَ
خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ وَلَوِ اخْتَلَفَ سَيْفَانِ بِالْعِرَاقِ
لَذَهَبَتِ الْخِلَافَةُ، وَيَوْمَ الرَّاوِنْدِيَّةِ لَوْ أَصَابَنِي
سَهْمٌ غَرْبٌ لَذَهَبْتُ ضَيَاعًا. وَهَذَا مِنْ حَزْمِهِ
وَصَرَامَتِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ولى المنصور ابنه محمدا العهد من بعده ودعاه
بالمهديّ وولاه بِلَادَ خُرَاسَانَ وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ
الْجَبَّارِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا
مِنْ شِيعَةِ الْخَلِيفَةِ، فَشَكَاهُ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي
أَيُّوبَ كَاتِبِ الرَّسَائِلِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
اكْتُبْ إليه ليبعث جيشا كثيفا من خراسان إلى غزو الروم، فإذا خرجوا
بعثت إليه من شئت فأخرجوه من بلاد خراسان ذليلا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ
الْمَنْصُورُ بِذَلِكَ، فَرَدَّ الْجَوَابَ بِأَنَّ بِلَادَ خُرَاسَانَ
قَدْ عَاثَتْ بِهَا الْأَتْرَاكُ، وَمَتَى خرج منها جيش خيف عليها وفسد
أَمْرُهَا. فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِأَبِي أَيُّوبَ: مَاذَا تَرَى؟ قال:
فاكتب إليه: إن بلاد خراسان أحق بالمدد لثغور المسلمين من غيرها، وقد
جهزت إليك بالجنود. فكتب إليه أيضا: إن بلاد خراسان ضيقة في هذا العام
أَقْوَاتُهَا، وَمَتَى دَخَلَهَا جَيْشٌ أَفْسَدَهَا. فَقَالَ
الْخَلِيفَةُ لِأَبِي أَيُّوبَ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا رَجُلٌ قَدْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ
وَخَلَعَ فَلَا تُنَاظِرْهُ. فَحِينَئِذٍ بَعَثَ الْمَنْصُورُ ابْنَهُ
مُحَمَّدًا المهدي ليقيم بالري، فبعث المهدي بين يديه خازم بن خزيمة
مقدمة إلى عبد الجبار، فما زال به يخدعه ومن معه حتى هرب من معه وأخذوه
هو فَأَرْكَبُوهُ بَعِيرًا مُحَوَّلًا وَجْهُهُ إِلَى نَاحِيَةِ ذَنَبِ
الْبَعِيرِ. وَسَيَّرُوهُ كَذَلِكَ
(10/76)
فِي الْبِلَادِ حَتَّى أَقْدَمُوهُ عَلَى
الْمَنْصُورِ وَمَعَهُ ابْنُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَضَرَبَ
الْمَنْصُورُ عُنُقَهَ وسير ابنه ومن معه إلى جزيرة فِي طَرَفِ
الْيَمَنِ، فَأَسَرَتْهُمُ الْهُنُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ فَوِدِيَ
بَعْضُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاسْتَقَرَّ الْمَهْدِيُّ نائبا على
خراسان، وَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ يَغْزُوَ طَبَرِسْتَانَ، وَأَنْ
يُحَارِبَ الْأَصْبَهْبَذَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ وَأَمَدَّهُ
بِجَيْشٍ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ
النَّاسِ بِحَرْبِ طَبَرِسْتَانَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ
الشَّاعِرُ:
فَقُلْ لِلْخَلِيفَةِ إِنْ جِئْتَهُ ... نَصِيحًا وَلَا خير في المتهم
إذا أيقظتك حروب العدي ... فَنَبِّهْ لَهَا عُمَرًا ثُمَّ نَمْ
فَتًى لَا يَنَامُ عَلَى دِمْنَةٍ ... وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ إِلَّا
بِدَمْ
فَلَمَّا تَوَاقَفَتِ الْجُيُوشُ عَلَى طَبَرِسْتَانَ فَتَحُوهَا
وَحَصَرُوا الْأَصْبَهْبَذَ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى قَلْعَتِهِ
فَصَالَحَهُمْ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الذَّخَائِرِ، وَكَتَبَ
الْمَهْدِيُّ إِلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ الْأَصْبَهْبَذُ
بِلَادَ الدَّيْلَمِ فَمَاتَ هُنَاكَ. وَكَسَرُوا أَيْضًا مَلِكَ
التُّرْكِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَصْمُغَانُ، وَأَسَرُوا أُمَمًا
مِنَ الذَّرَارِي، فهذا فتح طبرستان الأول.
وفيها فرغ بناء المصيصة على يدي جبريل بْنِ يَحْيَى الْخُرَاسَانِيِّ،
وَفِيهَا رَابَطَ مُحَمَّدُ بْنُ إبراهيم الامام ببلاد ملطية. وفيها
عزل المنصور زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ إِمْرَةِ الْحِجَازِ
وولى المدينة محمد بن خالد القسري وقدمها فِي رَجَبٍ. وَوَلِيَ مَكَّةَ
وَالطَّائِفَ الْهَيْثَمُ بْنُ معاوية العكي. وَفِيهَا تُوُفِّيَ
مُوسَى بْنُ كَعْبٍ وَهُوَ عَلَى شرطة المنصور. وعلى مصر من كان عليها
في السنة الماضية، ثم ولى مصر محمد بن الأشعث ثم عزله عنها وَوَلِيَ
عَلَيْهَا نَوْفَلُ بْنُ الْفُرَاتِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا
صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ نَائِبُ قِنِّسْرِينَ وَحِمْصَ
وَدِمَشْقَ، وَبَقِيَّةِ الْبِلَادِ عَلَيْهَا مَنْ ذَكَرْنَا فِي
الَّتِي قَبْلَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ،
صَاحِبُ الْمَغَازِي، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ فِي قَوْلٍ
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
. ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ عُيَيْنَةُ بْنُ مُوسَى بْنِ كعب نائب السند الخليفة،
فجهز إليه العساكر صحبة عمر بن حفص ابن أَبِي صُفْرَةَ، وَوَلَّاهُ
السِّنْدَ وَالْهِنْدَ، فَحَارَبَهُ عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ وَقَهَرَهُ
عَلَى الْأَرْضِ وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ. وَفِيهَا نَكَثَ أَصْبَهْبَذُ
طَبَرِسْتَانَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ طَائِفَةً مِمَّنْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ،
فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْجُيُوشَ صُحْبَةَ خَازِمِ بْنِ
خُزَيْمَةَ، وَرَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَمَعَهُمْ مَرْزُوقٌ أَبُو
الْخَصِيبِ، مَوْلَى الْمَنْصُورِ، فَحَاصَرُوهُ مُدَّةً طَوِيلَةً،
فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ فَتْحُ الْحِصْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ احْتَالُوا
عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْخَصِيبِ قَالَ: اضْرِبُونِي
وَاحْلِقُوا رَأْسِي وَلِحْيَتِي، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَذَهَبَ إليه
كأنه مغاضب للمسلمين قد ضربوه وحلقوا لحيته، فَدَخَلَ الْحِصْنَ
فَفَرِحَ بِهِ الْأَصْبَهْبَذُ وَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ، وجعل أبو
الخصيب يظهر له النُّصْحِ وَالْخِدْمَةِ حَتَّى خَدَعَهُ، وَحَظِيَ
عِنْدَهُ جِدًّا وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَتَوَلَّى فَتْحَ
الْحِصْنِ وغلقه، فلما تمكن من ذلك كاتب المسلمين وأعلمهم أنه في
الليلة الفلانية يفتح لهم، فَاقْتَرِبُوا مِنَ الْبَابِ حَتَّى
(10/77)
أَفْتَحَهُ لَكُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ
تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَتَحَ لهم باب الحصن فدخلوا فَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ
مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ وامتص الأصبهبذ خاتما
مسموما فمات. وكان فيمن أسروا يومئذ أم منصور بن الْمَهْدِيِّ، وَأُمُّ
إِبْرَاهِيمَ ابْنِ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَتَا مِنْ بنات الملوك الحسان.
وَفِيهَا بَنَى الْمَنْصُورُ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ قِبْلَتَهُمُ
الَّتِي يصلون عندها بالجبان، وتولى بناءها سلمة بن سعيد ابن جَابِرٍ
نَائِبُ الْفُرَاتِ وَالْأُبُلَّةِ. وَصَامَ الْمَنْصُورُ شَهْرَ
رَمَضَانَ بِالْبَصْرَةِ وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ فِي ذَلِكَ
الْمُصَلَّى.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ نَوْفَلَ بْنَ الْفُرَاتِ عَنْ إِمْرَةِ
مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا حُمَيْدَ بْنَ قحطبة. وحج بالناس فيها
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عم الْخَلِيفَةِ وَنَائِبُ
الْبَصْرَةِ. كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً،
وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ. رَوَى عَنْ أَبِيهِ
وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي بُرْدَةَ بن أَبِي مُوسَى. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ بَنُوهُ جَعْفَرٌ، وَمُحَمَّدٌ، وَزَيْنَبُ وَالْأَصْمَعِيُّ.
وَكَانَ قَدْ شَابَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَخَضَّبَ
لِحْيَتَهُ مِنَ الشَّيْبِ فِي ذَلِكَ السِّنِّ، وَكَانَ كَرِيمًا
جَوَادًا مُمَدَّحًا. كَانَ يَعْتِقُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي كُلِّ
سَنَةٍ مِائَةَ نَسَمَةٍ، وَبَلَغَتْ صِلَاتُهُ لِبَنِي هَاشِمٍ
وَسَائِرِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفٍ وَاطَّلَعَ
يَوْمًا مِنْ قَصْرِهِ فَرَأَى نِسْوَةً يَغْزِلْنَ فِي دَارٍ من دور
البصرة، فاتفق في نظره هذا إليهن أن قالت واحدة منهن: لو أن الأمير نظر
إلينا واطلع على حالنا فأغنانا عن الغزل؟ فنهض من فوره فَجَعَلَ
يَدُورُ فِي قَصْرِهِ وَيَجْمَعُ مِنْ حُلِيِّ نسائه من الذهب والجواهر
وغيرها ما ملأ به منديلا كبيرا، ثم دلاه إليهن ونثر عليهنّ من الدنانير
والدراهم شيئا كثيرا، فماتت إحداهن من شدة الفرح، فأعطى ديتها وما
تركته من ذلك لورثتها. وقد ولى الحج في أيام السفاح، وولى البصرة أيام
المنصور، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَهُوَ أَخُو
إِسْمَاعِيلَ وَدَاوُدَ وَصَالِحٍ وَعَبْدِ الصَّمَدِ وَعَبْدِ اللَّهِ
وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ.
وَمِمَّنْ توفى فيها من الأعيان خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَعَاصِمٌ
الْأَحْوَلُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيُّ فِي قَوْلٍ.
وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ بن ثوبان، ويقال ابن كيسان، التيمي
مَوْلَاهُمْ أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ،
شَيْخُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبِي
الْعَالِيَةِ وَأَبِي قِلَابَةَ، وَعَنْهُ الْحَمَّادَانِ وَسُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ والأعمش- وكان من أقرانه- وعبد الوارث ابن سَعِيدٍ،
وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَيَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَيْسَ بِأَهْلٍ
أَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى
بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَزَادَ ابن معين وكان رجل سوء وكان
مِنَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّمَا النَّاسُ مِثْلُ
الزَّرْعِ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: مَتْرُوكٌ صَاحِبُ بِدْعَةٍ. كَانَ
يَحْيَى الْقَطَّانُ يُحَدِّثُنَا عَنْهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَكَانَ ابْنُ
مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَتْرُوكٌ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ
بْنِ عُبَيْدٍ: كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ.
(10/78)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: قَالَ لِي
حُمَيْدٌ: لَا تَأْخُذْ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَكَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ وَابْنُ
عَوْنٍ. وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا كُنْتُ أَعُدُّ لَهُ عقلاء، وَقَالَ
مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُهُ فِي شَيْءٍ. وَقَالَ
ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّمَا تَرَكُوا حَدِيثَهُ لِأَنَّهُ كَانَ
يَدْعُو إِلَى الْقَدَرِ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ آخَرُونَ فِي
عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَتَقَشُّفِهِ. قَالَ الحسن البصري: هذا سيد
شباب القراء مَا لَمْ يُحْدِثْ. قَالُوا: فَأَحْدَثَ وَاللَّهِ أَشَدَّ
الْحَدَثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ
وَالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ
الْحَسَنِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ فَسُمُّوا الْمُعْتَزِلَةَ، وَكَانَ
يَشْتُمُ الصَّحَابَةَ وَيَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ، وَهْمًا لَا
تَعَمُّدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتْ تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ في اللوح المحفوظ فما تعد منه عَلَى ابْنِ آدَمَ
حُجَّةٌ. وَرُوِيَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا
الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ
أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» حَتَّى قَالَ: «فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ
كَلِمَاتٍ. رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ، وَعَمَلُهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ»
إِلَى آخِرِهِ. فَقَالَ: لَوْ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَرْوِيهِ
لَكَذَّبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ من زيدين وَهْبٍ لَمَا أَحْبَبْتُهُ،
وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَا قَبِلْتُهُ، وَلَوْ
سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَرَدَدْتُهُ، وَلَوْ سَمِعَتُ اللَّهَ يَقُولُ هَذَا لَقُلْتُ مَا
عَلَى هَذَا أَخَذْتَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ. وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ
الْكُفْرِ، لَعَنَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا. وإذا كان مكذوبا
عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه وقد قال عبد الله ابن الْمُبَارَكِ
رَحِمَهُ اللَّهُ:
أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا ... ايتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ
فُخُذِ الْعِلْمَ بِحِلْمٍ ... ثُمَّ قيده بقيد
وذر البدعة من ... آثار عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ عمرو يَغُرُّ النَّاسَ بِتَقَشُّفِهِ،
وَهُوَ مَذْمُومٌ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جدا، معلن بالبدع. وقال الدار
قطنى: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ:
جَالَسَ الْحَسَنَ وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَتِهِ ثُمَّ أَزَالَهُ [وَاصِلُ
بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ بِالْقَدَرِ
وَدَعَا إليه، واعتزل أصحاب الحديث، وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ وَإِظْهَارُ
زُهْدٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ] [1] وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وُلِدَا
سَنَةَ ثَمَانِينَ، وحكى البخاري أن عمرا مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ أَوْ
ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ بطريق مكة، وقد كان عمرو محظيا عند
أبى جعفر المنصور، كان المنصور يحبه ويعظمه لأنه كان يفد على المنصور
مع القراء فيعطيهم المنصور فيأخذون، ولا يأخذ عمرو منه شيئا، وكان
يسأله أن يقبل كما يقبل أصحابه فلا يقبل منه، فكان ذلك مما يغر المنصور
ويروج به عليه حاله، لأن المنصور كان بخيلا وكان يعجبه ذلك منه وينشد:
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ ... كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ
غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدْ
وَلَوْ تَبَصَّرَ الْمَنْصُورُ لَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
أُولَئِكَ الْقُرَّاءِ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلِ عَمْرِو
بْنِ عُبَيْدٍ،
__________
[1] زيادة من المصرية.
(10/79)
وَالزُّهْدُ لَا يَدُلُّ عَلَى صَلَاحٍ،
فَإِنَّ بَعْضَ الرهبان قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الزُّهْدِ مَا لَا
يطيقه عمرو ولا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ. وَقَدْ
رُوِّينَا عن إسماعيل بن خالد القعنبي قال: رأيت الحسن بن جَعْفَرٍ فِي
الْمَنَامِ بَعْدَ مَا مَاتَ بَعَبَّادَانَ فَقَالَ لِي: أَيُّوبُ
وَيُونُسُ وَابْنُ عَوْنٍ فِي الْجَنَّةِ. قُلْتُ: فَعَمْرُو بْنُ
عُبَيْدٍ؟
قَالَ: فِي النَّارِ. ثُمَّ رَآهُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَيُرْوَى
ثَالِثَةً، فيسأله فيقول له مثل ذلك. وقد رئيت له منامات قبيحة، وقد
أطال شيخنا في تهذيبه في ترجمته ولخصنا حاصلها في كتابنا التكميل،
وأشرنا هَاهُنَا إِلَى نُبَذٍ مِنْ حَالِهِ لِيُعْرَفَ فَلَا يُغْتَرُّ
بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا نَدَبَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ إِلَى غَزْوِ الدَّيْلَمِ،
لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خلقا، وأمر أهل الكوفة
والبصرة مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقْدِرُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فصاعدا
فليذهب مَعَ الْجَيْشِ إِلَى الدَّيْلَمِ، فَانْتَدَبَ خَلْقٌ كَثِيرٌ
وجم غفير لذلك. وحج بالناس فيها عِيسَى بْنُ مُوسَى نَائِبُ الْكُوفَةِ
وَأَعْمَالِهَا. وَفِيهَا توفى حجاج الصواف، وحميد بن رؤبة الطويل،
وسليمان بن طرخان التيمي، وقد ذكرناه في التي قبلها، وعمرو بن عبيد في
قول، وليث بن أَبِي سُلَيْمٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فيها سار محمد بن أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ عَنْ أَمْرِ عَمِّهِ
الْمَنْصُورِ إلى بلاد الديلم ومعه الجيوش من الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ
وَوَاسِطَ وَالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ. وَفِيهَا قَدِمَ محمد بن جعفر
المنصور والمهدي عَلَى أَبِيهِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَدَخَلَ
بِابْنَةِ عمة رائطة بِنْتِ السَّفَّاحِ بِالْحِيرَةِ. وَفِيهَا حَجَّ
بِالنَّاسِ أَبُو جعفر المنصور واستخلف على الحيرة والعسكر خازم بن
خزيمة، وولى رباح بن عثمان المزني المدينة وعزل عنها محمد بن خالد
القسري، وتلقى الناس أبا جعفر المنصور إلى أثناء طريق مكة في حجه في
سنة أربع وأربعين ومائة. وكان في جُمْلَةِ مَنْ تَلَقَّاهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
فَأَجْلَسَهُ الْمَنْصُورُ مَعَهُ عَلَى السِّمَاطِ، ثُمَّ جَعَلَ
يحادثه بإقبال زائد بحيث إن المنصور اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ
غَدَائِهِ، وَسَأَلَهُ عَنِ ابنيه إبراهيم ومحمد لم لا جا آنى مَعَ
النَّاسِ؟ فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ أَنَّهُ لَا يَدْرِي
أَيْنَ صَارَا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ. وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ
إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ كَانَ قَدْ
بَايَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ
مَرْوَانَ الْحِمَارِ بِالْخِلَافَةِ وَخَلَعَ مَرْوَانَ، وَكَانَ فِي
جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ،
وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْوِيلِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ،
فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
خَافَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَخُوهُ
إِبْرَاهِيمُ مِنْهُ خوفا شديدا.
وذلك لأن المنصور توهم منهما أنهما لا بدّ أن يخرجا عليه كما أرادا أن
يخرجا على مروان، والّذي توهم منه المنصور وقع فيه، فذهبا هَرَبًا فِي
الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ فَصَارَا إِلَى الْيَمَنِ، ثم سارا إلى الهند
فاختفيا
(10/80)
بِهَا، فَدَلَّ عَلَى مَكَانِهِمَا
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ فَهَرَبَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَاسْتَدَلَّ
عَلَيْهِ الْحَسَنُ بن زيد ودل عَلَيْهِمَا، ثُمَّ كَذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ أَلْبًا عَلَيْهِمَا عِنْدَ المنصور. والعجب منه أَنَّهُ
مِنْ أَتْبَاعِهِمَا. وَاجْتَهَدَ الْمَنْصُورُ بِكُلِّ طَرِيقٍ على
تحصيلهما فلم يتفق له ذلك، وإلى الْآنِ. فَلَمَّا سَأَلَ أَبَاهُمَا
عَنْهُمَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ صَارَا مِنْ أَرْضِ
اللَّهِ، ثُمَّ أَلَحَّ الْمَنْصُورُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فِي طَلَبِ
وَلَدَيْهِ فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَاللَّهِ
لَوْ كَانَا تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا دَلَلْتُكَ عَلَيْهِمَا. فَغَضِبَ
الْمَنْصُورُ وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ وَأَمَرَ ببيع رقيقه وأمواله، فلبث
فِي السِّجْنِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمَنْصُورِ
بِحَبْسِ بَنِي حَسَنٍ عَنْ آخِرِهِمْ فَحَبَسَهُمْ، وَجَدَّ في طلب
إبراهيم ومحمد جدا، وهذا وَهُمَا يَحْضُرَانِ الْحَجَّ فِي غَالِبِ
السِّنِينَ وَيَكْمُنَانِ فِي الْمَدِينَةِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ،
وَلَا يَشْعُرُ بهما من يتمّ عَلَيْهِمَا وللَّه الْحَمْدُ.
وَالْمَنْصُورُ يَعْزِلُ نَائِبًا عَنِ الْمَدِينَةِ وَيُوَلِّي
عَلَيْهَا غَيْرَهُ وَيُحَرِّضُهُ عَلَى إِمْسَاكِهِمَا وَالْفَحْصِ
عَنْهُمَا، وَبِذْلِ الْأَمْوَالِ فِي طَلَبِهِمَا، وَتُعْجِزُهُ
المقادير عنهما لما يريد اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ وَاطَأَهُمَا عَلَى أَمْرِهِمَا أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ
الْمَنْصُورِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْعَسَاكِرِ خَالِدُ بْنُ حَسَّانَ،
فَعَزَمُوا فِي بَعْضِ الحجات على الفتك بالمنصور بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ، فَنَهَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحسن لِشَرَفِ
الْبُقْعَةِ.
وَقَدِ اطَّلَعَ الْمَنْصُورُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمَ بِمَا
مَالَأَهُمَا ذَلِكَ الْأَمِيرُ، فَعَذَّبَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِمَا
كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَتْكِ بِهِ. فَقَالَ: وَمَا
الَّذِي صَرَفَكُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ
نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ فَغُيِّبَ فِي
الْأَرْضِ فَلَمْ يَظْهَرْ حَتَّى الْآنَ. وَقَدِ اسْتَشَارَ
الْمَنْصُورُ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ مِنْ ذَوِي
الرَّأْيِ فِي أَمْرِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حسن، وبعث الجواسيس
والقصاد في البلاد فَلَمْ يَقَعْ لَهُمَا عَلَى خَبَرٍ، وَلَا ظَهَرَ
لَهُمَا عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.
وَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى أُمِّهِ
فَقَالَ يَا أمه! إني قد شفقت عَلَى أَبِي وَعُمُومَتِي، وَلَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ أَضَعَ يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي. فذهبت أمه إِلَى
السِّجْنِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِمْ مَا قَالَ ابْنُهَا، فقالوا: لا ولا
كرامة، بَلْ نَصْبِرُ عَلَى أَمْرِهِ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ
عَلَى يَدَيْهِ خَيْرًا، وَنَحْنُ نَصْبِرُ وَفَرَجُنَا بيد الله إن
شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق. وتمالئوا كلهم على ذلك رحمهم الله.
وفيها نقل آل حسن من حبس الْمَدِينَةِ إِلَى حَبْسٍ بِالْعِرَاقِ وَفِي
أَرْجُلِهِمُ الْقُيُودُ، وَفِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ. وَكَانَ
ابْتِدَاءُ تَقْيِيدِهِمْ مِنَ الرَّبَذَة بِأَمْرِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ، وَقَدْ أَشْخَصَ مَعَهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْعُثْمَانِيَّ، وَكَانَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ،
وَكَانَتِ ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد حملت قريبا،
فاستحضره الخليفة وقال: قَدْ حَلَفْتَ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ
إِنَّكَ لَمْ تَغُشَّنِي، وَهَذِهِ ابْنَتُكَ حَامِلٌ، فَإِنْ كَانَ
مِنْ زَوْجِهَا فقد حبلت منه وأنت تعلم به، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ
فَأَنْتَ دَيُّوثٌ. فَأَجَابَهُ الْعُثْمَانِيُّ بِجَوَابٍ أَحْفَظَهُ
بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُرِّدَتْ عنه ثيابه فإذا جسمه مثل الفضة
النقية، ثم
(10/81)
ضربه بين يديه مِائَةً وَخَمْسِينَ سَوْطًا، مِنْهَا ثَلَاثُونَ فَوْقَ
رَأْسِهِ، أَصَابَ أَحَدُّهَا عَيْنَهُ فَسَالَتْ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى
السِّجْنِ وَقَدْ بَقِيَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ مِنْ زُرْقَةِ
الضَّرْبِ، وَتَرَاكُمِ الدِّمَاءِ فَوْقَ جِلْدِهِ، فَأُجْلِسَ إِلَى
جَانِبِ أَخِيهِ لِأُمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حسن، فاستسقى ماء فَمَا
جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَسْقِيَهُ حَتَّى سَقَاهُ خُرَاسَانِيٌّ مِنْ
جُمْلَةِ الْجَلَاوِزَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهِمْ. ثُمَّ ركب المنصور
هَوْدَجِهِ وَأَرْكَبُوا أُولَئِكَ فِي مُحَامِلَ ضَيِّقَةٍ،
وَعَلَيْهِمُ الْقُيُودُ وَالْأَغْلَالُ، فَاجْتَازَ بِهِمُ
الْمَنْصُورُ وَهُوَ فِي هَوْدَجِهِ، فَنَادَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَسَنٍ: وَاللَّهِ يا أبا جعفر ما هكذا صنعنا بأسرائكم يوم بدر، فأخسا
ذلك المنصور وثقل عَلَيْهِ وَنَفَرَ عَنْهُمْ. وَلَمَّا انْتَهَوْا
إِلَى الْعِرَاقِ حُبِسُوا بِالْهَاشِمِيَّةِ، وَكَانَ فِيهِمْ
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حسن، وكان جميلا
فتيا، فكان الناس يذهبون لينظروا إلى حسنه وجماله. وَكَانَ يُقَالُ
لَهُ: الدِّيبَاجُ الْأَصْفَرُ، فَأَحْضَرَهُ الْمَنْصُورُ بين يديه
وقال له:
أما لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا. ثُمَّ أَلْقَاهُ بَيْنَ
أُسْطُوَانَتَيْنِ وَسَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى مات. فعلى المنصور ما
يستحقه من عذاب الله ولعنته. وَقَدْ هَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي
السِّجْنِ حَتَّى فرج عنهم بعد هلاك المنصور عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
فَكَانَ فِيمَنْ هَلَكَ فِي السجن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ
حَسَنِ بْنِ على بن أبى طالب، وقد قيل والأظهر أنه قتل صبرا، وأخوه
إبراهيم بن الحسن وغيرهما، وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ
الْحَبْسِ، وَقَدْ جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانا، ولا
يعرفون فيه وقت صلاة إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ، ثُمَّ بَعَثَ أَهْلُ
خُرَاسَانَ يَشْفَعُونَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْعُثْمَانِيِّ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأَرْسَلَ
بِرَأْسِهِ إِلَى أَهْلِ خراسان، لا جزاه الله خيرا، ورحم الله محمد بن
عبد الله العثماني.
وَهُوَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
بْنِ عفان الأموي رحمه الله، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالدِّيبَاجِ، لِحُسْنِ وَجْهِهِ. وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ
بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ
وَأُمِّهِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُسٍ وَأَبِي الزِّنَادِ
وَالزُّهْرِيِّ وَنَافِعٍ وَغَيْرِهِمْ، وحدث عنه جماعة، ووثقه النسائي
وابن حبان، وَكَانَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ،
وَكَانَتِ ابْنَتُهُ رُقَيَّةُ زَوْجَةَ ابْنِ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بن
عبد الله، وكانت من أحسن النساء، وَبِسَبَبِهَا قَتَلَهُ أَبُو
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ كَرِيمًا
جَوَادًا مُمَدَّحًا. قَالَ الزُّبَيْرُ بن بكار: أنشدنى سليمان بن
عباس السعدي لأبى وجرة السعدي يمدحه.
وجدنا المحض الّا بيض مِنْ قُرَيْشٍ ... فَتًى بَيْنَ الْخَلِيفَةِ
وَالرَّسُولِ
أَتَاكَ المجد من هنا وهناك ... وَكُنْتَ لَهُ بِمُعْتَلَجِ السُّيُولِ
فَمَا لِلْمَجْدِ دُونَكَ مِنْ مَبِيتٍ ... وَمَا لِلْمَجْدِ دُونَكَ
مِنْ مَقِيلِ
ولا يمضى وراءك يبتغيه ... ولا هُوَ قَابِلٌ بِكَ مِنْ بَدِيلِ |