البداية والنهاية، ط. دار هجر
[الْوَقْعَةُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ]
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَدَ الْخَبَرُ
بِأَنَّ الْأَمِيرَ الْكَبِيرَ يَلْبُغَا
(18/713)
الْخَاصِّكِيَّ خَرَجَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْأُمَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْبُغَا
الطَّوِيلِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ إِلَى قُبَّةِ النَّصْرِ،
فَالْتَقَوْا مَعَهُ هُنَالِكَ، فَقَتَلَ جَمَاعَةً وَجَرَحَ آخَرِينَ،
وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى مَسْكِ طَيْبُغَا الطَّوِيلِ وَهُوَ
جَرِيحٌ، وَمُسِكَ أَرْغُونَ الْإِسْعِرْدِيُّ الدَّوَادَارُ، وَخَلْقٌ
مِنْ أُمَرَاءِ الْأُلُوفِ وَالطَّبْلَخَانَاهْ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ
عَظِيمَةٌ اسْتَمَرَّ فِيهَا الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ يَلْبُغَا عَلَى
عِزِّهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَنَصْرِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي ثَانِي رَجَبٍ يَوْمِ السَّبْتِ تَوَجَّهَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بَيْدَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ الْأَمِيرِ يَلْبُغَا; لِيُؤَكِّدَ أَمْرَهُ
فِي دُخُولِ الْبَحْرِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ وَفَتْحِ قُبْرُسَ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ.
[مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ بَغْدَادَ]
مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ بَغْدَادَ
أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيُّ أَحَدُ
رُؤَسَاءِ بَغْدَادَ، وَأَصْحَابِ التِّجَارَاتِ، وَالشَّيْخُ شِهَابُ
الدِّينِ الْعَطَّارُ السِّمْسَارُ فِي الشَّرْبِ - بَغْدَادِيٌّ
أَيْضًا - أَنَّ بَغْدَادَ اسْتَعَادَهَا أُوَيْسٌ مَلِكُ الْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ مِنْ يَدِ الطَّوَاشِيِّ مَرْجَانَ، وَاسْتَحْضَرَهُ
فَأَكْرَمَهُ، وَأَطْلَقَ لَهُ، وَاتَّفَقَا أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ
مِنَ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ أَخِي الْوَزِيرِ، فَأَحْضَرَهُ السُّلْطَانُ
إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي كَرِشِهِ فَشَقَّهُ،
وَأَمَرَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَقَتَلَهُ، فَانْتَصَرَ أَهْلُ
السُّنَّةِ لِذَلِكَ نُصْرَةً عَظِيمَةً، وَأَخَذَ جُثَّتَهُ أَهِلُ
بَابِ الْأَزَجِ فَأَحْرَقُوهُ، وَسَكَنَتِ الْأُمُورُ، وَتَشَفَّوْا
بِمَقْتَلِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْأَنْبَارِيِّ الَّذِي
قَتَلَهُ الْوَزِيرُ الرَّافِضِيُّ فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ
سَرِيعًا.
(18/714)
[وَفَاةُ قَاضِي الْقُضَاةِ عِزِّ الدِّينِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَاتِمٍ الشَّافِعِيِّ]
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ قَدِمَ كِتَابٌ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِوَفَاةِ قَاضِي الْقُضَاةِ عِزِّ الدِّينِ
ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ جَمَاعَةَ
بِمَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - فِي الْعَاشِرِ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ فِي الْحَادِيَ عَشَرَ فِي بَابِ الْمُعَلَّى،
وَذَكَرُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ،
وَأَخْبَرَنِي صَاحِبُنَا الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الرَّحْبِيُّ -
حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كَثِيرًا:
أَشْتَهِي أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَعْزُولٌ، وَأَنْ تَكُونَ وَفَاتِي
بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُ اللَّهُ مَا تَمَنَّاهُ; عَزَلَ
نَفْسَهُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَهَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ
قَدِمَ الْمَدِينَةَ لِزِيَارَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِهَا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ
بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ.
وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، فَتُوُفِّيَ
عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ نَالَ الْعِزُّ عِزًّا فِي
الدُّنْيَا، وَرِفْعَةً هَائِلَةً، وَمَنَاصِبَ، وَتَدَارِيسَ
كِبَارًا، ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ، وَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ
وَالْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، فَيُقَالُ لَهُ مَا
قُلْتُهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاثِي:
فَكَأَنْ قَدْ أُعْلِمْتَ بِالْمَوْتِ حَتَّى ... قَدْ تَزَوَّدْتَ
مِنْ خِيَارِ الزَّادِ
(18/715)
وَحَضَرَ عِنْدِي فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ
تَاسِعِ شَوَّالٍ الْبَتْرَكُ بِشَارَةُ الْمُلَقَّبُ بِمِيخَائِيلَ
النَّصْرَانِيِّ الْمَلْكِيُّ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ الْمَطَارِنَةَ
بِالشَّامِ بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ جَعَلُوهُ بَتْرَكًا بِدِمَشْقَ
عِوَضًا عَنِ الْبَتْرَكِ بِأَنْطَاكِيَّةَ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ
هَذَا أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ
الْبَتَارِكَةُ إِلَّا أَرْبَعَةً; بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
وَبِالْقُدْسِ، وَبِأَنْطَاكِيَّةَ، وَبِرُومِيَّةَ، فَنُقِلَ بَتْرَكُ
رُومِيَّةَ إِلَى إِسْطَنْبُولَ وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَقَدْ
أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِذْ ذَاكَ، فَهَذَا الَّذِي
ابْتَدَعُوهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ! لَكِنِ
اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَنْ أَنْطَاكِيَّةَ،
وَإِنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْمُقَامِ بِالشَّامِ الشَّرِيفِ;
لِأَجْلِ أَنَّهُ أَمَرَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ
وَعَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ إِلَى صَاحِبِ قُبْرُسَ، يَذْكُرُ لَهُ مَا
حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ، وَالنَّكَالِ، وَالْجِنَايَةِ بِسَبَبِ
عُدْوَانِ صَاحِبِ قُبْرُسَ عَلَى مَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
وَأَحْضَرَ لِي الْكُتُبَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَلِكِ إِسْطَنْبُولَ،
وَقَرَأَهَا عَلَيَّ مِنْ لَفْظِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ
الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا - وَقَدْ تَكَلَّمْتُ مَعَهُ فِي
دِينِهِمْ وَنُصُوصِ مَا يَعْتَقِدُهُ كُلٌّ مِنَ الطَّوَائِفِ
الثَّلَاثِ; وَهُمُ الْمَلْكِيَّةُ، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ - وَمِنْهُمُ
الْإِفْرِنْجُ وَالْقِبْطُ - وَالنَّسْطُورِيَّةُ، فَإِذَا هُوَ
يَفْهَمُ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ حِمَارٌ مِنْ
أَكْفَرِ الْكُفَّارَ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ بَلَغَنَا اسْتِعَادَةُ السُّلْطَانِ أُوَيْسٍ
ابْنِ الشَّيْخِ حَسَنٍ مَلِكِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لِبَغْدَادَ
مِنْ يَدِ الطَّوَاشِيِّ مَرْجَانَ الَّذِي كَانَ نَائِبَهُ عَلَيْهَا
وَامْتَنَعَ مِنْ طَاعَةِ أُوَيْسٍ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فِي جَحَافِلَ
كَثِيرَةٍ، فَهَرَبَ مَرْجَانُ، وَدَخَلَ
(18/716)
أُوَيْسٌ إِلَى بَغْدَادَ دُخُولًا
هَائِلًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ
قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ أَمِيرَ مِائَةٍ مُقَدَّمَ أَلْفٍ،
وَعَلَى نِيَابَةِ يَلْبُغَا فِي جَمِيعِ دَوَاوِينِهِ بِدِمَشْقَ
وَغَيْرِهَا، وَعَلَى إِمَارَةِ الْبَحْرِ وَعَمَلِ الْمَرَاكِبِ،
فَلَمَّا قَدِمَ أَمَرَ بِجَمْعِ جَمِيعِ النَّشَّارِينَ،
وَالنَّجَّارِينَ، وَالْحَدَّادِينَ، وَتَجْهِيزِهِمْ لِبَيْرُوتَ
لِقَطْعِ الْأَخْشَابِ، فَسُيِّرُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ
رَمَضَانَ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِمْ إِلَى هُنَالِكَ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، ثُمَّ أُتْبِعُوا بِآخَرِينَ مِنْ
نَجَّارِينَ، وَحَدَّادِينَ، وَعَتَّالِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَجَعَلُوا كُلَّ مَنْ وَجَدُوهُ مِنْ رُكَّابِ الْحَمِيرِ
يُنْزِلُونَهُ وَيَرْكَبُوا إِلَى نَاحِيَةِ الْبِقَاعِ، وَسَخَّرُوا
لَهُمْ مِنَ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ خُطْبَةٌ عَظِيمَةٌ،
وَتَبَاكَى عَوَائِلُهُمْ وَأَطْفَالُهُمْ، وَلَمْ يُسْلَفُوا شَيْئًا
مِنْ أُجُورِهِمْ، وَكَانَ مِنَ اللَّائِقِ أَنْ يُسْلَفُوهُ حَتَّى
يَتْرُكُوهُ إِلَى أَوْلَادِهِمْ.
وَخَطَبَ بُرْهَانُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنَفِيُّ بِجَامِعِ
يَلْبُغَا عِوَضًا عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ
شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ، بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ وَمَرْسُومِ
نَائِبِ صَفَدَ أَسَنْدَمُرَ أَخِي يَلْبُغَا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ
وَعَلَى جَدِّهِ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الرَّابِعَ مِنْ رَمَضَانَ، هَذَا وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُرِئَ
تَقْلِيدُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ
لِقَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ
الدِّينِ الْمَرْدَاوِيِّ، عُزِلَ هُوَ وَالْمَالِكِيُّ مَعَهُ
أَيْضًا; بِسَبَبِ أُمُورٍ تَقَدَّمَ نِسْبَتُهَا لَهُمَا، وَقُرِئَ
التَّقْلِيدُ بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
الشَّافِعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَكَانَ الْمَالِكِيُّ مُعْتَكِفًا
بِالْقَاعَةِ
(18/717)
مِنَ الْمَنَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَلَمْ
يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ مَعْزُولٌ أَيْضًا بِسَرِيِّ الدِّينِ
قَاضِي حَمَاةَ، وَقَدْ وَقَعَتْ شُرُورٌ وَتَخْبِيطٌ
بِالصَّالِحِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ خُلِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ سَرِيِّ الدِّينِ
إِسْمَاعِيلَ الْمَالِكِيِّ - قَدِمَ مِنْ حَمَاةَ عَلَى قَضَاءِ
الْمَالِكِيَّةِ - عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ
الْمَسَلَّاتِيِّ - عُزِلَ عَنِ الْمَنْصِبِ - وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ
بِمَقْصُورَةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْجَامِعِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ شَوَّالٍ قَدِمَ
الْأَمِيرُ حَيَّارُ بْنُ مُهَنَّا إِلَى دِمَشْقَ سَامِعًا مُطِيعًا،
بَعْدَ أَنْ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُيُوشِ حُرُوبٌ
مُتَطَاوِلَةٌ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَطَأَ الْبِسَاطَ، فَأَبَى خَوْفًا
مِنَ الْمَسْكِ وَالْحَبْسِ أَوِ الْقَتْلِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ
قَدِمَ هَذَا الْيَوْمَ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ;
لِيَصْطَلِحَ مَعَ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ يَلْبُغَا، فَتَلَقَّاهُ
الْحَجَبَةُ، وَالْمَهْمَنْدَارِيَّةُ، وَالْخَلْقُ، وَخَرَجَ النَّاسُ
لِلْفُرْجَةِ، فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ، وَقَدِمَ مَعَهُ
نَائِبُ حَمَاةَ عُمَرُ شَاهْ فَنَزَلَ مَعَهُ ثَانِيَ يَوْمٍ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَأَقْرَأَنِي الْقَاضِي وَلِيُّ الدِّينِ
عَبْدُ اللَّهِ وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ كِتَابَ وَالِدِهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ قَاضِي قُضَاةِ
الشَّافِعِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ; أَنَّ الْأَمِيرَ
الْكَبِيرَ جَدَّدَ دَرْسًا بِجَامِعِ ابْنِ طُولُونَ فِيهِ سَبْعَةُ
مُدَرِّسِينَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَجَعَلَ لَكُلِّ فَقِيهٍ مِنْهُمْ فِي
الشَّهْرِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَإِرْدَبَّ قَمْحٍ، وَذَكَرَ فِيهِ
أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَلُوا إِلَى
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِيَنْزِلُوا فِي هَذَا الدَّرْسِ.
(18/718)
[دَرْسُ التَّفْسِيرِ بِالْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ]
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
شَوَّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ حَضَرَ الشَّيْخُ
الْعَلَّامَةُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ دَرْسَ التَّفْسِيرِ
الَّذِي أَنْشَأَهُ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا، مِنْ أَوْقَافِ
الْجَامِعِ الَّتِي جَدَّدَهَا فِي حَالِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ، أَثَابَهُ
اللَّهُ، وَجَعَلَ مِنَ الطَّلَبَةِ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ
خَمْسَةَ عَشَرَ طَالِبًا، لِكُلِّ طَالِبٍ فِي الشَّهْرِ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ، وَلِلْمُعِيدِ عِشْرُونَ، وَلِكَاتِبِ الْغَيْبَةِ
عِشْرُونَ، وَلِلْمُدَرِّسِ ثَمَانُونَ، وَتَصَدَّقَ حِينَ دَعَوْتُهُ
لِحُضُورِ الدَّرْسِ، فَحَضَرَ، وَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَأَخَذْتُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ " الْفَاتِحَةِ "،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ
التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
(18/719)
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
اسْتَهَلَّتْ وَقَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ الشَّيْخُ شَرَفُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ
الْمَقْدِسِيُّ، وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ سَعْدُ الدِّينِ بْنُ
التَّاجِ إِسْحَاقَ، وَكَاتِبُ السِّرِّ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ
الشَّهِيدِ، وَهُوَ شَيْخُ الشُّيُوخِ أَيْضًا، وَنَاظِرُ الْجُيُوشِ
الشَّامِيَّةِ بُرْهَانُ الدِّينِ بْنُ الْحِلِّيِّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ
الْمَالِ الْقَاضِي وَلِيُّ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءِ
الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ.
[سَفَرُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ]
لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
قَدِمَ طَشْتَمُرُ دَوَادَارُ يَلْبُغَا عَلَى الْبَرِيدِ، فَنَزَلَ
بِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ رَكِبَ هُوَ وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ
بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ فِي الْمَشَاعِلِ، وَالْحَجَبَةُ
بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، وَالْخَلَائِقُ يَدْعُونَ لِنَائِبِهِمْ،
وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ ذَاهِبِينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَكْرَمُهُ يَلْبُغَا وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُونَ
بِبِلَادِ حَلَبَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَعَادَ فَنَزَلَ بِدَارِ
سَنْجَرَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى حَلَبَ،
وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِهِ هُنَالِكَ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ،
وَنَابَ فِي الْغَيْبَةِ الْأَمِيرُ
(18/720)
سَيْفُ الدِّينِ زُبَالَةَ، إِلَى أَنْ
قَدِمَ النَّائِبُ الْمُعِزُّ السَّيْفِيُّ أَقْتَمُرُ عَبْدُ
الْغَنِيِّ، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَتُوُفِّيَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَنَفِيُّ
الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْحَكَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ
السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ
بِالْبَابِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ أَوِ الَّذِي بَعْدَهُ تُوُفِّيَ الْقَاضِي
شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْوَزَوَازَةِ، نَاظِرُ الْأَوْقَافِ
بِالصَّالِحِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَالِثِ صَفَرٍ نُودِيَ فِي
الْبَلَدِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْ أَجْنَادِ الْحَلْقَةِ
عَنِ النَّفِيرِ إِلَى بَيْرُوتَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِذَلِكَ،
فَبَادَرَ النَّاسُ وَالْجَيْشُ مُلْبِسِينَ إِلَى سَطْحِ الْمِزَّةِ،
وَخَرَجَ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ أَمِيرُ عَلِيٌّ - نَائِبُ الشَّامِ -
مِنْ دَارِهِ دَاخِلَ بَابِ الْجَابِيَةِ فِي جَمَاعَتِهِ مُلْبِسِينَ
فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ، وَوَلَدُهُ الْأَمِيرُ
نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَطُلْبُهُ مَعَهُ، وَقَدْ جَاءَ نَائِبُ
الْغَيْبَةِ وَالْحَجَبَةُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى وِطَاقِهِ،
وَشَاوَرُوهُ فِي الْأَمْرِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي هَاهُنَا أَمْرٌ،
وَلَكِنْ إِذَا حَضَرَ الْحَرْبُ وَالْقِتَالُ، فَلِي هُنَاكَ أَمْرٌ.
وَخَرَجَ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مُتَبَرِّعِينَ، وَخَطَبَ قَاضِي
الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ بِالنَّاسِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ،
وَقَدْ أَلْبَسَ جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِهِ اللَّأْمَةَ وَالْخُوَذَ،
وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْمَسِيرِ مَعَ النَّاسِ إِلَى بَيْرُوتَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ
النَّهَارِ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ
الْخَبَرُ بِأَنَّ الْمَرَاكِبَ الَّتِي رُئِيَتْ فِي الْبَحْرِ
إِنَّمَا هِيَ مَرَاكِبُ تُجَّارٍ لَا مَرَاكِبَ قِتَالٍ،
(18/721)
فَطَابَتْ قُلُوبُ النَّاسِ، وَلَكِنْ
ظَهَرَ مِنْهُمُ اسْتِعْدَادٌ عَظِيمٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ خَامِسِ صَفَرٍ قُدِمَ بِالْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ شَرْشَيٍّ - الَّذِي كَانَ إِلَى آخِرِ وَقْتٍ نَائِبَ حَلَبَ
- مُحْتَاطًا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى دَارِ
السَّعَادَةِ بِدِمَشْقَ، فَسُيِّرَ مَعْزُولًا عَنْ حَلَبَ إِلَى
طَرَابُلُسَ بَطَّالًا، وَبُعِثَ فِي سَرْجَيْنِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ
عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ صُبْحٍ.
وَبَلَغَنَا وَفَاةُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ نُبَاتَةَ
حَامِلِ لِوَاءِ شُعَرَاءِ زَمَانِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ بِمَرِسْتَانِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
سَابِعَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي لَيْلَةِ ثَامِنِهِ هَرَبَ أَهْلُ حَبْسِ السُّدِّ مِنْ
سِجْنِهِمْ، وَخَرَجَ أَكْثَرُهُمْ، فَأَرْسَلَ الْوُلَاةُ صَبِيحَةَ
يَوْمَئِذٍ فِي إِثْرِهِمْ، فَمُسِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ هَرَبَ،
فَضَرَبُوهُمْ أَشَدَّ الضَّرْبِ، وَرَدُّوهُمْ إِلَى شَرِّ
الْمُنْقَلَبِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَهُ نُودِيَ بِالْبُلْدَانِ
أَنْ لَا يُعَامَلَ الْفِرِنْجُ الْبَنَادِقَةُ، وَالْجَنَوِيَّةُ،
وَالْكَنْبَلَانُ، وَاجْتَمَعْتُ فِي آخِرِ هَذَا الْيَوْمِ
بِالْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ زُبَالَةَ نَائِبِ الْغَيْبَةِ
النَّازِلِ بِدَارِ الذَّهَبِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ الْبَرِيدِيَّ
أَخْبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُسَ رَأَى فِي النُّجُومِ أَنَّ
قُبْرُسَ مَأْخُوذَةٌ، فَجَهَّزَ مَرْكَبَيْنِ مِنَ الْأَسْرَى
الَّذِينَ عِنْدَهُ مِنَ
(18/722)
الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَلْبُغَا، وَنَادَى
فِي بِلَادِهِ أَنَّ مَنْ كَتَمَ مُسْلِمًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا
قُتِلَ، وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ لَا يُبْقِيَ أَحَدًا مِنَ
الْأُسَارَى إِلَّا أَرْسَلَهُ.
وَفِي آخِرِ نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَهُ قَدِمَ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ
الْمَسَلَّاتِيُّ الْمَالِكِيُّ الَّذِي كَانَ قَاضِيَ
الْمَالِكِيَّةِ، فَعُزِلَ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ
الْمَاضِي، فَحَجَّ، ثُمَّ قَصَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
فَدَخَلَهَا لَعَلَّهُ يَسْتَغِيثُ، فَلَمْ يُصَادِفْهُ قَبُولٌ،
فَادَّعَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْحُجَّابِ، وَحَصَلَ لَهُ مَا يَسُوؤُهُ،
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَجَاءَ فَنَزَلَ فِي التُّرْبَةِ
الْكَامِلِيَّةِ شَمَالِيَّ الْجَامِعِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
مَنْزِلِ ابْنَتِهِ مُتَمَرِّضًا، وَالْطُلَابَاتُ وَالدَّعَاوَى
وَالْمُصَالَحَاتُ عَنْهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَأَحْسَنَ اللَّهُ
عَاقِبَتَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ بَعْدَ الْعَصْرِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ طَيْبُغَا الطَّوِيلُ مِنَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ إِلَى
دِمَشْقَ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَرَحَلَ بَعْدَ
يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ إِلَى نِيَابَةِ حَمَاةَ - حَرَسَهَا
اللَّهُ تَعَالَى - بِتَقْلِيدٍ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِتَوْلِيَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
مَنْكَلِي بُغَا نِيَابَةَ حَلَبَ عِوَضًا عَنْ نِيَابَةِ دِمَشْقَ،
وَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّشْرِيفِ، وَالتَّكْرِيمِ،
وَالتَّشَارِيفِ بِدِيَارِ مِصْرَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمَالٌ جَزِيلٌ،
وَخُيُولٌ، وَأَقْمِشَةٌ، وَتُحَفٌ يَشُقُّ حَصْرُهَا، وَأَنَّهُ قَدِ
اسْتَقَرَّ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَقْتَمُرُ عَبْدُ
الْغَنِيِّ الَّذِي كَانَ حَاجِبَ الْحُجَّابِ بِمِصْرَ، وَعُوِّضَ
عَنْهُ فِي الْحُجُوبِيَّةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبُغَا
أُسْتَاذُ دَارِ يَلْبُغَا، وَخُلِعَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اشْتُهِرَ
فِي الْبَلَدِ قَضِيَّةُ الْفِرِنْجِ أَيْضًا بِمَدِينَةِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَقَدِمَ بَرِيدِيٌّ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِذَلِكَ، وَاحْتِيطَ عَلَى مَنْ
(18/723)
كَانَ بِدِمَشْقَ مِنَ الْفِرِنْجِ،
وَسُجِنُوا بِالْقَلْعَةِ، وَأُخِذَتْ حَوَاصِلُهُمْ، وَأَخْبَرَنِي
قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ يَوْمَئِذَ أَنَّ
أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّ سَبْعَةَ مَرَاكِبَ مِنَ التُّجَّارِ مِنَ
الْبَنَادِقَةِ مِنَ الْفِرَنْجِ قَدِمُوا إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فَبَاعُوا بِهَا وَاشْتَرَوْا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ
الْكَبِيرِ يَلْبُغَا أَنَّ مَرْكَبًا مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ
لِصَاحِبِ قُبْرُسَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْفِرَنْجِ يَقُولُ لَهُمْ أَنْ
يُسَلِّمُوا هَذِهِ الْمَرْكَبَ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ،
وَبَادَرُوا إِلَى مَرَاكِبِهِمْ، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمْ سِتَّةَ
شَوَانٍ مَشْحُونَةً بِالْمُقَاتِلَةِ، فَالْتَقَوْا هُمْ
وَالْفِرِنْجُ فِي الْبَحْرِ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ،
وَلَكِنْ مِنَ الْفِرَنْجِ أَكْثَرُ، وَهَرَبُوا فَارِّينَ بِمَا
مَعَهُمْ مِنَ الْبَضَائِعِ.
فَجَاءَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ أَيْضًا
فِي جَيْشٍ مُبَارَكٍ، وَمَعَهُ وَلَدُهُ وَمَمَالِيكُهُ فِي تَجَمُّلٍ
هَائِلٍ، فَرَجَعَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ، وَاسْتَمَرَّ نَائِبُ
السُّلْطَنَةِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَيْرُوتَ، وَنَظَرَ فِي أَمْرِهَا
وَعَادَ سَرِيعًا. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْفِرِنْجَ جَاءُوا
طَرَابُلُسَ غُزَاةً، وَأَخَذُوا مَرْكَبًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْمِينَا وَحَرَّقُوهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ
دَفْعَهُمْ، وَلَا مَنْعَهُمْ، وَأَنَّ الْفِرَنْجَ كَرُّوا
رَاجِعِينَ، وَقَدْ أَسَرُوا ثَلَاثَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. انْتَهَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَقْتَلُ يَلْبُغَا الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ]
جَاءَ الْخَبَرُ بِقَتْلِهِ إِلَيْنَا بِدِمَشْقَ فِي لَيْلَةِ
الِاثْنَيْنِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مَعَ
أَسِيرَيْنِ جَاءَا عَلَى الْبَرِيدِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَخْبَرَا بِمَقْتَلِهِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ
(18/724)
عَشَرَ هَذَا الشَّهْرِ; تَمَالَأَ
عَلَيْهِ مَمَالِيكُهُ حَتَّى قَتَلُوهُ يَوْمَئِذٍ، وَتَغَيَّرَتِ
الدَّوْلَةُ، وَمُسِكَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأُلُوفِ وَالطَّبْلَخَانَاهْ
جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَاخْتَبَطَتِ الْأُمُورُ جِدًّا، وَجَرَتْ
أَحْوَالٌ صَعْبَةٌ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ الْقَضِيَّةِ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ طُغَيْتَمُرُ النِّظَامِيُّ، وَقَوِيَ جَانِبُ
السُّلْطَانِ وَرَشَدَ، وَفَرِحَ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ بِمِصْرَ بِمَا
وَقَعَ، وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ
بَيْرُوتَ، فَأَمَرَ بِدَقِّ الْبَشَائِرِ وَتَزْيِينِ الْبَلَدِ،
فَفُعِلَ ذَلِكَ، وَأُطْلِقَتِ الْفِرَنْجُ الَّذِينَ كَانُوا
بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَلَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.
وَهَذَا آخِرُ مَا وُجِدَ مِنَ التَّارِيخِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
وَحْدَهُ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(18/725)
|