الدرر في اختصار المغازي والسير
غزوة الخندق:
ثم كانت غزوة الخندق في شوال من
السنة الخامسة، وكان سببها، أن نفرا من اليهود منهم كنانة بْن الربيع
بْن أبي الحقيق، وسلام بْن مشكم، وحيي بْن أخطب النضريون، وهوذة بْن
قيس، وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم يهود، وهم الذين حزبوا الأحزاب
وألبوا وجمعوا، خرجوا في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل فأتوا
مكة، فدعوا قريشا إلى حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك، فأجابهم أهل مكة
إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك،
فأجابوهم، فخرجت قريش يقودهم أَبُو سفيان بْن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم
عيينة بْن حصن بْن حذيفة بْن بدر الفزاري على فزارة، والحارث بْن عوف
المري على بني مرة، ومسعود بْن رخيلة على أشجع، فلما سمع رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باجتماعهم وخروجهم إليه،
(1/179)
شاور أصحابه،
فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، فرضي رأيه، وقال المهاجرون يومئذ: سلمان
منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ " وعمل
المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لواذا،
فنزلت فيهم آيات من القرآن، ذكرها ابن إسحاق وغيره، وكان من فرغ من
المسلمين من حصته عاد إلى غيره فأعانه حتى كمل الخندق، وكان فيه آيات
بينات، وعلامات للنبوات مذكورات عند أهل السير والآثار، منها أن كدية
اعتاصت على المسلمين فدعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إليها، فضربها بالفأس ضربة طار منها الشرار، وقطع منها
الثلث، وقال: " اللهُ أَكْبَرُ، فُتِحَ قَيْصَرُ، وَاللهِ إِنِّي
لأَرَى الْقُصُورَ الْحُمْرَ " ثم ضرب الثانية فقطع منها الثلث الثاني،
وقال: " اللهُ أَكْبَرُ،
(1/180)
فُتِحَ
كِسْرَى، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى الْقُصُورَ الْبِيضَ " ثم ضرب الثالثة
فقطع الثلث الباقي، وقال: " اللهُ أَكْبَرُ، فُتِحَ الْيَمَنُ، وَاللهِ
إِنِّي لأَرَى بَابَ صَنْعَاءَ " وقد نصر الله عبده، وصدق وعده، والحمد
لله رب العالمين، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة،
وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع
في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم، والخندق بينهم وبين المشركين، واستعمل
على المدينة ابن أم مكتوم، وفي قول ابن شهاب: وخرج عدو الله حيي بْن
أخطب النضري حتى أتى كعب بْن أسد القرظي، وكان صاحب عقد بني قريظة
ورئيسهم، وكان
قد وادع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاقده وعاهده،
فلما سمع كعب بْن أسد بحيي بْن أخطب، أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح
له، فقال له: افتح لي يا كعب بْن أسد، فقال: لا أفتح لك، فإنك رجل
مشئوم، تدعوني إلى خلاف مُحَمَّد، وأنا عاقدته وعاهدته ولم أر فيه إلا
وفاء وصدقا، فلست بناقض ما بيني وبينه، فقال حيي: افتح لي حتى أكلمك
فأنصرف عنك، قَالَ: لا أفعل، قَالَ: إنما تخاف أن آكل
(1/181)
معك جشيشتك،
فغضب كعب وفتح له، فقال: إنما جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش وسادتها،
وغطفان وقادتها، قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه، فقال له
كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام لا غيث فيه، ويحك يا حيي دعني،
فلست بفاعل ما تدعوني إليه، فلم يزل حيي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه
وعاهده على خذلان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه،
وأن يصير معهم، وقال له حيي بْن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان، دخلت
عندك بمن معي من يهود، فلما انتهى خبر كعب وحيي إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، بعث سعدَ بْن عبادة وهو سيد
الخزرج، وسيد الأوس سعد بْن معاذ، وبعث معهما عَبْدَ اللهِ بْن رواحة،
وخوات بْن جبير، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " انطلقوا إلى بني قريظة، فإن كان ما قيل لنا حقا، فالحنوا
لنا لحنا نعرفه، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين،
(1/182)
وإن كان كذبا،
فاجهروا به للناس " فانطلقوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم
عنهم، ونالوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا:
لا عهد له عندنا، فشاتمهم سعد بْن معاذ وشاتموه، وكانت فيه حدة، فقال
له سعد بْن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالذي بيننا وبينهم أكبر من
المشاتمة، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعة المسلمين، فقالا: عضل والقارة، يعرضان
بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيبٍ وأصحابِهِ، فقال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبشروا يا معشر المسلمين " وعظم
عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتى المسلمين عدُوُّهُمْ من فوقهم ومن
أسفل منهم، حتى ظنوا بالله الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا
يسرون، فمنهم من قَالَ: إن بيوتنا عورة فلننصرف إليها، فإنا نخاف
عليها، ومن قَالَ ذلك: أوس بْن قيظي إلا أنه مع ذلك ولد ولدا سيدا
فاضلا، وهو عرابة بْن أوس، الذي قَالَ فيه الشاعر: إذا ما راية رفعت
لمجد تلقاها عرابة باليمين
(1/183)
وقد قيل: إن له
صحبةً بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم من قَالَ:
يعدنا مُحَمَّد أن نفتح كنز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه
أن يذهب إلى الغائط، وممن قَالَ ذلك: معتب بْن قشير أحد بني عمرو بْن
عوف، وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام
المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي
بالنبل والحصا، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه اشتد على المسلمين البلاء، بعث إلى عيينة بْن حصن الفزاري، وإلى
الحارث بْن عوف بْن أبي حارثة المري وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث
ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان وأهل نجد ويرجعا بقومهما
عنهم، وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا، فلما رأى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهما قد أنابا ورضيا، أتى سعدَ بْن
معاذ، وسعدَ بْن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما، فقالا: يا رسول الله
هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر
تصنعه لنا، قَالَ: " بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا لأنني قد
رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بْن معاذ: يا رسول
الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان،
لا نعبد اللهَ ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا بشراء
أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم
أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسر
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وقال لهم: " أنتم
وذاك " وقال لعيينة والحارث: " انصرفا، فليس لكم عندنا إلا السيف "
وتناول الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها،
(1/184)
فأقام رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون على حالهم،
والمشركون يحاصرونهم، ولا قتال منهم، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو
بْن عَبْد ود العامري من بني عامر بْن لؤي، وعكرمة بْن أبي جهل، وهبيرة
بْن أبي وهب، وضرار بْن الخطاب الفهري، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم،
أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت
العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت
منه، وصاروا بين الخندق وبين سلع، وخرج علي بْن أبي طالب رضي الله عنه
في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت
الفرسان نحوهم، وكان عمرو بْن عَبْد ود قد أثبتته الجراح يوم بدر فلم
يشهد أحدا، وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه، فلما وقف هو وخيله نادى: هل
من مبارز؟ فبرز له علي بْن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو
إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت
إحداهما، قَالَ: نعم، وقال: إني أدعوك لله عز وجل والإسلام، قَالَ: لا
حاجة لي بذلك، قَالَ: وأدعوك إلى البراز، قَالَ: يا بْن أخي، والله ما
أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك، فقال له علي: أنا والله أحب أن
أقتلك، فحمي عمرو بْن عَبْد ود العامري، ونزل عن فرسه، وسار نحو علي
فتنازلا، وتجاولا، وثار النقع بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى النقع
حتى رؤي علي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي،
اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين، وقال علي رضي الله عنه في ذلك:
(1/185)
نَصَرَ الحجارة
من سفاهة رأيه ونصرت دين مُحَمَّد بضراب لا تَحْسَبُنَّ الله خاذِلَ
دينه ونبيه يا معشر الأحزاب نازلته وتركته متجدلا كالجذع بين دكادك
وروابي، ورمي يومئذ سعد بْن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل، رماه حبان بْن
قيس بْن العرقة أحد بني عامر بْن لؤي، فلما أصابه قَالَ له: خذها إليك
وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، وقيل: بل الذي
رماه أَبُو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، ولحسان بْن ثابت مع صفية بنت
عَبْد المطلب خبر طريف يومئذ، وكان حسان قد تخلف عن الخروج مع الخوالف
بالمدينة، ذكره ابن إسحاق وطائفة من أهل السير، وقد أنكره منهم آخرون،
فقالوا: لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك من كان يهاجيه في
الجاهلية والإسلام، ولهجي بذلك ابنه عَبْد الرحمن، فإنه كان كثيرا ما
يهاجي الناس من شعراء العرب، مثل النجاشي وغيره، وأتى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعيم بْن مسعود بْن عامر الأشجعي، فقال: يا
رسول الله إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال
له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما أنت رجل واحد
من غطفان، فلو خرجت فخذلت عنا كان أحب إلينا من بقائك، فاخرج فإن الحرب
خدعة " فخرج نعيم بْن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان ينادمهم
(1/186)
في الجاهلية،
فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا:
قل، فلست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد
بلدكم، وفيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب
مُحَمَّد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوا، وإن كان
غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا
تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا، ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال
لهم: قد عرفتم ودي بكم معشر قريش، وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر أرى من
الحق أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا علي، قالوا: نفعل، قَالَ: أتعلمون
أن معشر يهود قد ندموا على ما كان من خلافهم محمدا، وأرسلوا إليه إنا
قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا رجالا
ونسلمهم إليكم لتضربوا أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى
تستأصلهم؟ ثم أتى غطفان، فقال مثل ذلك، فلما كانت ليلة السبت، وكان ذلك
من صنع الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين، أرسل أَبُو سفيان إلى بني قريظة
عكرمةَ بْنَ أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار
مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نفاجئ محمدا،
فأرسلوا إليهم إن اليوم السبت، وقد
علمتم ما نال منا مَنْ تعدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم أحدا حتى
تعطونا رهنا، فلما رجع الرسول بذاك، قالوا: صدقنا والله نعيم بْن
مسعود، فردوا إليهم الرسل، وقالوا: والله لا نعطيكم رهنا أبدا، فاخرجوا
معنا إن شئتم، وإلا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله
نعيم بْن مسعود، وَخَذَّلَ بينهم، واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم
ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد، فجعلت الريح تقلب أبنيتهم وتكفأ
قدورهم،
(1/187)
فلما اتصل
برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلاف أمرهم، بعث حذيفة
بْن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان،
يقول: يا معشر قريش، ليتعرف كل امرئ منكم جليسه، قَالَ حذيفة: فأخذت
بيد جليسي، وقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان، ثم قَالَ أَبُو سفيان: يا
معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف،
وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء،
ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على
جمله، فما حل عقال يده إلا وهو قائم، قَالَ حذيفة: ولولا عهد رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي إذ بعثني، وقال لي: " مر إلى
القوم فاعلم ما هم عليه، ولا تُحْدِثْ شيئا " لقتلته بسهم، ثم أتيت
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند
رحيلهم، فوجدته قائما يصلي، فأخبرته، فحمد الله، ولما أصبح رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ذهب الأحزاب، رجع إلى المدينة،
ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في صورة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة ديباج، فقال له: يا
مُحَمَّد، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها، إن الله
يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم، فأمر رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناديا ينادي في الناس: لا
يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، وكان سعد بْن معاذ إذ أصابه السهم
دعا ربه، فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه
لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم إن كنت
وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من
بني قريظة
(1/188)
غزوة بني قريظة:
فخرج المسلمون مبادرين إلى بني قريظة، فطائفة خافوا فوات الوقت فصلوا،
وطائفة قالوا: والله لا صلينا العصر إلا في بني قريظة، فبذلك أمرنا
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم علم صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باجتهادهم فلم يعنف واحدا منهم، وأعطى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية علي بْن أبي طالب، واستخلف
على المدينة ابن أم مكتوم، ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة
ونازلوهم، وسمعوا سب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فانصرف علي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وَعَرَّضَ
له، فقال له: " أَظُنُّكَ سَمِعْتَ مِنْهُمْ شَتْمِي، لَوْ رَأَوْنِي
لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ " ونهض إليهم، فلما رأوه، أمسكوا، فقال لهم: "
نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته "، فقالوا:
ما كنت جاهلا يا مُحَمَّد فلا تجهل علينا، ونزل رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وعرض عليهم
سيدهم كعب بْن أسد ثلاث خصال ليختاروا أيها شاءوا: إما أن يسلموا
ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا، قَالَ: وتحرزوا أموالكم ونساءكم
وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه في كتابكم، وإما أن
يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا فيقاتلوا حتى يموتوا عن آخرهم، وإما
أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا، فقالوا
له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوارة، وأما قتل أبنائنا
ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعدى في السبت،
(1/189)
ثم بعثوا إلى
أبي لبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بْن عوف وسائر الأوس، فأتاهم، فجمعوا
إليه أبناءهم ورجالهم ونساءهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل
على حكم مُحَمَّد؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح إن فعلتم،
ثم ندم أَبُو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمر لا
يستره الله عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق إلى
المدينة ولم يرجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فربط
نفسه في سارية وأقسم لا يبرح مكانه حتى يتوب الله عليه، فكانت امرأته
تحله لوقت كل صلاة، قَالَ ابن عيينة وغيره: فيه نزلت : {يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا
أَمَانَاتِكُمْ} وأقسم أن لا يدخل أرض بني قريظة أبدا مكانا أصاب فيه
الذم، فلما بلغ ذلك النبيَّ من فعل أبي لبابة، قَالَ: " أما إنه لو
أتاني لاستغفرت له، وَأَمَّا إذ فعل فلست أُطْلِقُهُ حتى يطلقه الله "
فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ} الآية، فلما نزل فيه القرآن، أمر رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإطلاقه، ونزل في تلك الليلة التي في
صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثعلبة وأسيد ابنا سعية وأسد بْن عبيد، وهم نفر من هدل بني عم
قريظة والنضير،
(1/190)
وليسوا من
قريظة والنضير، نزلوا مسلمين فأحرزوا أموالهم وأنفسهم، وخرج في تلك
الليلة عمرو بْن سعدي القرظي، ومر بحرس رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه مُحَمَّد بْن مسلمة، وكان قد أبى أن يدخل
فيما دخل فيه بنو قريظة، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا، فقال له مُحَمَّد
بْن مسلمة إذ عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، فخرج على وجهه
حتى بات في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ذهب فلم
يُرَ بعد ولم يعلم حيث سقط، وَذُكِرَ لرسول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره، فقال: " ذلك رجل نجاه الله بوفائه "، فلما
أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فتواثب الأوس إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وقالوا: يا رسول الله، قد علمت أنهم حلفاؤنا، وقد شَفَّعْتَ
عَبْدَ اللهِ بْن أبي بْن سلول في بني قينقاع حلفاء الخزرج، فلا يكن
حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا، فهم موالينا، فقال لهم رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا معشر الأوس، ألا ترضون أن
يحكم فيهم رجل منكم؟ " قالوا: بلى، قَالَ: " فذلك إلى سعد بْن معاذ "،
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب له خيمة في
المسجد ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق، فلما
حَكَّمَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بني قريظة
أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا
جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأحاطوا به في طريقهم، يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنما
ولاك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لتحسن إليهم،
فقال لهم: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من معه
إلى ديار بني عَبْد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة، فلما أطل سعد
على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ للأنصار: قوموا
إلى سيدكم، فقام
المسلمون، فقالوا: يا أبا عمرو،
(1/191)
إن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم،
فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا:
نعم، قَالَ: وعلى من هنا؟ من الناحية التي فيها رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو معرض عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجلالا له، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم "، قَالَ سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل
الرجال، وتسبى الذراري والنساء، وتقسم الأموال، فقال له رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى
من فوق سبعة أرقعة "، وأمر بهم رسول الله فأخرجوا إلى موضع سوق
المدينة، فخندق بها خنادق، ثم أمر بهم النبي عليه السلام فضربت أعناقهم
في تلك الخنادق، وقتل يومئذ حيي بْن أخطب، وكعب بْن أسد، وكانوا من
الست مائة إلى السبع مائة، وقتل من نسائهم امرأة وهي بنانة امرأة الحكم
القرظي، التي طرحت الرحى على خلاد بْن سويد فقتلته، وأمر رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل كل من أنبت منهم، وترك كل من
لم ينبت، وكان عطية القرظي من جملة من لم ينبت، فاستحياه رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مذكور
(1/192)
في الصحابة،
ووهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثابت بْن قيس بْن
الشماس ولد الزبير بْن باطا فاستحياهم، منهم عَبْد الرحمن بْن الزبير،
أسلم
وله صحبة، ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بْن سموءل القرظي لأم المنذر
سلمى بنت قيس، أخت سليط بْن قيس، من بني النجار، وكانت قد صلت
القبلتين، فأسلم رفاعة، وله صحبة ورواية، وقسم عليه السلام أموال بني
قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما، وقد قيل للفارس سهمان،
وللراجل سهم، وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثون فرسا، ووقع للنبي
من سبيهم ريحانة بنت عمرو بْن خناقة إحدى بني عمرو بْن قريظة، فلم تزل
عنده إلى أن مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: إن غنيمة
قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها
الخمس لله ورسوله، وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عَبْد اللهِ بْن
جحش، والله أعلم، وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة بني قريظة أول غنيمة فيها
الخمس بعد نزول قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، وكان عَبْد اللهِ قد خمس قبل ذلك
في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل فعله، وذلك من فضائله رحمة الله عليه، وقد
ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي
القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة، فلما تم أمر بني
قريظة أجيبت دعوة الرجل الصالح سعد بْن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه
فجرى دمه، ومات رضي الله عنه، وهو الذي أتى الحديث فيه أنه اهتز لموته
عرش الرحمن، يعني سكان العرش من
الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له
(1/193)
ذكر من استشهد من المسلمين يوم الخندق
سعد بْن معاذ أَبُو عمرو من بني عَبْد الأشهل، وأنس بْن أوس بْن عتيك،
وعبد الله بْن سهل وكلاهما أيضا من بني عَبْد الأشهل، والطفيل بْن
النعمان، وثعلبة بْن عنمة وكلاهما من بني سلمة، وكعب بْن زيد من بني
دينار بْن النجار، أصابه سهم غرب فقتله
ذكر من قتل من المشركين يوم الخندق
وأصيب من المشركين يوم الخندق منبه بْن عثمان بْن عبيد بْن السباق بْن
عَبْد الدار، أصابه سهم مات منه بمكة، وقد قيل: إنما هو عثمان بْن أمية
بْن منبه بْن عبيد بْن السباق، ونوفل بْن عَبْد اللهِ بْن المغيرة
المخزومي، اقتحم الخندق فقتل فيه، وعمرو بْن عَبْد ود قتله عَلِيٌّ
مبارزة
شهداء يوم قريظة:
واستشهد من المسلمين يوم قريظة خلاد بْن سويد بْن ثعلبة بْن عمرو، من
بني الحارث بْن الخزرج، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته، ومات
في الحصار أَبُو سنان بْن محصن، فدفنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقبرة بني قريظة التي يتدافن المسلمون السكان
بها اليوم، ولم يصب غير هذين، ولم يغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق
(1/194)
بَعْثُ عَبْدِ
اللهِ بْن عتيك إلى قتل أبي رافع سلام بْن أبي الحقيق اليهودي:
وانقضى شأن الخندق وقريظة، وكان أَبُو رافع سلام بْن أبي الحقيق ممن
حزب الأحزاب وألب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بْن الأشرف في عداوته رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الأوس والخزرج يتصاولان
تصاول الفحول، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بذلك فضلا
علينا، ولا ينتهون حتى يوقعوا مثله، وإذا فعلت الخزرج شيئا كفضل في
الإسلام، أو بر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت
الأوس مثل ذلك،
فتذاكرت الخزرج مَنْ في العدواة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتله فأذن لهمْ، فخرج إليه خمسة
نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة وهم: عَبْد اللهِ بْن عتيك، وعبد الله
بْن أنيس، وأبو قتادة بْن ربعي، ومسعود بْن سنان، وخزاعي بْن أسود حليف
لهم من أسلم، وَأَمَّرَ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْن عتيك، ونهاهم عن قتل النساء والصبيان،
فنهضوا حتى أتوا خيبر ليلا، وكان سلام في حصنه ساكنا في دار مع جماعة
وهو في علية منها، فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته: من أنتم؟ فقالوا:
أناس من العرب يطلبون الميرة،
(1/195)
فقالت لهم:
هذاكم صاحبكم فادخلوا، فلما دخلوا أغلقوا الباب على أنفسهم، فأيقنت
بالشر وصاحت، فهموا بقتلها، ثم ذكروا نهي النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والولدان فأمسكوا عنها، ثم تعاوروه
بأسيافهم وهو راقد على فراشه أبيض في سواد الليل كأنه قبطية، ووضع
عَبْد اللهِ بْن عتيك سيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني، ثم
نزلوا، وكان عَبْد اللهِ بْن عتيك سيئ البصر، فوقع فَوَثِئَتْ رِجْلُهُ
وَثَأً شَدِيدًا، فحمله أصحابه حتى أتوا منهرا من مناهرهم فدخلوا فيه
واستتروا، وخرج أهل الآطام لصياح امرأته وأوقدوا النيران في كل جهة،
فلما يئسوا رجعوا، فقال أصحاب ابن عتيك: كيف لنا أن نعلم أن عدو الله
قد مات
؟ فرجع أحدهم فدخل بين الناس، فسمع امرأة ابن أبي الحقيق تقول: والله
لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟
قَالَ: ثم إنها نظرت في وجهه، فقالت: فاظ وإله يهود، قَالَ: فسررت،
وانصرفت إلى أصحابي فأخبرتهم بذلك، فرجعوا إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه، وتداعوا في قتله، فقال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هاتوا أسيافكم " فأروه إياها،
فقال عليه السلام عن سيف عَبْد اللهِ بْن أنيس: " هذا قتله، أرى فيه
أثر الطعام " وحديث البراء بْن عازب في قتل ابن أبي الحقيق بخلاف هذا
المساق، والمعنى واحد
(1/196)
غزوة بني
لحيان:
وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد فتح
بني قريظة بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفرا، وربيعا الأول، وربيعا الآخر،
وخرج عليه السلام في جمادى الأولى في الشهر السادس من فتح بني قريظة،
وهو الشهر الثالث من السنة السادسة من الهجرة، قاصدا إلى بني لحيان،
مطالبا بثأر عاصم بْن ثابت، وخبيب بْن عدي، وأصحابهما المقتولين
بالرجيع، فسلك عليه السلام على طريق الشام من المدينة على جبل يقال له
غراب، ثم أخذ ذات الشمال، ثم سلك المحجة من طريق مكة، فأغذ السير حتى
أتى وادي غران بين أمج وعسفان، وهي منازل بني لحيان، فوجدوهم قد حذروا
وتمنعوا في رءوس الجبال، فتمادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في مائتي راكب
حتى نزل عسفان، وبعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين من
أصحابه فارسين حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا ورجعا، ورجع صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قافلا إلى المدينة، وفي
غزوة بني لحيان قالت الأنصار:
المدينة خالية منا، وقد بعدنا عنها، ولا نأمن عدوا يخالفنا إليها،
فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن على أنقاب
المدينة ملائكة، على كل نقب منها ملك يحميها بأمر الله عز وجل
(1/197)
غزوة ذِي
قَرَدَ:
ولما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بني لحيان،
لم يبق بالمدينة إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بْن حصن في بني عَبْد
اللهِ بْن غطفان، فاكتسحوا لقاحا كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغابة، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له،
فقتلوا الغفاري، وحملوا المرأة واللقاح، وكان أول من أنذرهم سلمة بْن
عمرو بْن الأكوع الأسلمي، كان ناهضا إلى الغابة، فلما علا ثنية الوداع
نظر إلى خيل الكفار وأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم فأبلى بلاء عظيما
حتى استنقذ أكثر ما في أيديهم، ووقعت الصيحة بالمدينة، فكان أول من جاء
إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حين الصيحة المقداد
بْن الأسود، ثم عباد بْن بشر وسعد بْن زيد الأشهليان، وأسيد بْن ظهير
الأنصاري، وعكاشة بْن محصن الأسدي، ومحرز بْن نضلة الأسدي الأخرم، وأبو
قتادة الحارث بْن ربعي، وأبو عياش الزريقي، واسمه عبيد بْن زيد بْن
صامت، فلما اجتمعوا أَمَّرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عليهم
سعد بْن زيد، وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أعطى فرس أبي عياش الزريقي معاذ بْن ماعص أو عائذ بْن ماعص، وكان أحكم
للفروسية من أبي عياش،
(1/198)
فأول من لحق
بهم محرز بْن نضلة الأخرم، فقتل رحمه الله، قتله عَبْد الرحمن بْن
عيينة بْن حصن، وكان على فرس لمحمود بْن مسلمة أخي مُحَمَّد بْن مسلمة،
أخذه وكان صاحبه غائبا، فلما قتل رجع الفرس إلى آريه في بني عَبْد
الأشهل، وقيل: بل أخذ الفرس عَبْد الرحمن بْن عيينة إذ قَتَلَ مُحْرِزَ
بْن نضلة عليه وركبه، ثم قتل سلمة بْن الأكوع عَبْد الرحمن بْن عيينة
بالرمي في خرجته تلك، واسترجع الفرس، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فرس لأبي طلحة، وقال: " إِنْ وَجَدْتُهُ
لَبَحْرًا "، وانهزم المشركون، وبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ماء يقال له: ذو قَرَدَ، ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة،
وأقام على ذلك الماء يوما وليلة، وكان الفضل في هذه الغزاة، والفعل
الكريم، والظهور، والبلاء الحسن لسلمة بْن الأكوع، وَكُلُّهُمْ ما
قَصَّرَ رضي الله عنهم، وكان المشركون قد أخذوا ناقة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء في غارتهم تلك على سرح المدينة
نجوا بها وبتلك المرأة الغفارية الأسيرة، امرأة الغفاري المقتول، وقد
قيل: إنها لم تكن امرأة الغفاري المقتول، وإنما كانت امرأة أبي ذر،
والأول قول ابن إسحاق وأهل السير، قَالَ: فنام القوم ليلة، وقامت
المرأة فجعلت
لا تضع شيئا على بعير إلا رغا، حتى أتت العضباء، فإذا ناقة ذلول،
فركبتها، ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة،
عُرِفَتْ نَاقَةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخْبِرَ
بذلك، فأرسل إليها، فجيء بها وبالمرأة، فقالت: يا رسول الله، نذرتُ إن
نجاني الله أن أنحرها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " بئس ما جَزَيْتِهَا، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا
فيما لا يملك ابن آدم "، وأخذ ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(1/199)
غزوة بني المصطلق من خزاعة
ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة باقي
جمادى الأولى ورجبا، ثم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من
الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل: بل نميلة بْن عَبْد
اللهِ الليثي، وأغار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على
بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له: المريسيع من ناحية قديد
مما يلي الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبي النساء والذرية، وكان شعارهم
يومئذ أَمِتْ، وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما بلغه ذلك خرج إليهم، فلقيهم على ماء
يقال له: المريسيع، فاقتتلوا، فهزمهم الله، والقول الأول أصح، أنه أغار
عليهم وهم غارون، ومن ذلك السبي جويرية بنت الحارث بْن أبي ضرار سيد
بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بْن قيس بْن شماس، فكابتها،
فأدى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقها
وتزوجها، وشهدت عائشة رضي الله عنها تلك الغزاة، قالت: ما هو إلا أن
وقفت جويرية بباب الخباء تستعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في كتابتها، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فرأيتُ على وجهها ملاحة
وحسنا، فأيقنت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا
رآها أعجبته، فما هو إلا أن كلمته، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أو خير من ذلك أن أودي كتابتك وأتزوجك " قالت:
وما رأيت أعظم بركة على قومها منها، فما هو إلا أن علم المسلمون أن
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه
(1/200)
ِ وَسَلَّمَ
تزوجها فأعتقوا كل ما بأيديهم من سبي بني المصطلق، وقالوا: أصهار رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلم سائر بني المصطلق، وقد
اختلف في وقت هذه الغزاة، قيل: كانت قبل الخندق وقريظة، وقيل: كانت بعد
ذلك وهو الصواب إن شاء الله، وقتل في هذه الغزاة هشام بْن صبابة الليثي
خطأ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة لم يعرفه وظنه من المشركين،
وفي هذه الغزاة قَالَ عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول: لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وذلك لشر وقع بين جهجاه بْن مسعود
الغفاري، وكان أجيرا لعمر بْن الخطاب رضي الله عنه، وبين سنان بْن وبر
الجهني حليف بني عوف بْن الخزرج، فنادى جهجاه الغفاري: يا للمهاجرين،
ونادى الجهني: يا للأنصار، وَبَلَّغَ زيدُ بْنُ أرقَمَ رسولَ الله
صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَقَالَةَ عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول، فأنكرها ابن أبي،
فأنزل الله عز وجل فيه سورة المنافقين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد بْن أرقم: " وَفَتْ أُذُنُكَ يا غلام " وأخذ
بأذنه، وتبرأ عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي من فعل أبيه، وأتى
رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا رسول الله
أنت والله العزيز وهو الذليل، أو قَالَ: أنت الأعز وهو الأذل، وإن شئت
والله لنخرجنه من المدينة، وقال سعد بْن عبادة: يا رسول الله، إن هذا
رجل يحمله
(1/201)
حسده على
النفاق، فدعه إلى عمله، وقد كان قومه على أن يتوجوه بالخرز قبل قدومك
المدينة ويقدموه على أنفسهم، فهو يرى أنك نزعت ذلك منه، وقد خاب وخسر
إن كان يضمر خلاف ما يظهر، وقد أظهر الإيمان، فَكِلْهُ إلى ربه، وقال
عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول: يا رسول الله، بلغني
أنك تريد قتل أبي، فإن كنت تريد ذلك، فمرني بقتله، فوالله إن أمرتني
بقتله لأقتلنه، وإني أخشى يا رسول الله إن قتله غيري أن لا أصبر عن طلب
الثأر فأقتلَ مسلما فأدخلَ النار، وقد علمت الأنصار أني من أبر أبنائها
بأبيه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرا،
ودعا له، وقال له: بر أباك، ولا يرى منك إلا خيرا، فلما وصل رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون إلى المدينة من تلك
الغزاة
، وقف عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي لأبيه بالطريق، وقال: والله
لا تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بالدخول، فأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بدخوله، وفي هذه الغزاة قَالَ أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها ما
قالوا، فبرأها الله مما قالوا، ونزل القرآن ببراءتها، ورواية من روى أن
سعد بْن معاذ راجع في ذلك سعد بْن عبادة وهم وخطأ، وإنما تراجع في ذلك
سعد بْن عبادة مع أسيد بْن حضير، كذلك ذكر ابن إسحاق، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عن عبيد الله بْن عَبْد اللهِ وغيره، وهو الصحيح، لأن
سعد بْن معاذ مات في منصرف رسول الله
(1/202)
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بني قريظة، لا يختلفون في ذلك، ولم يدرك غزوة
المريسيع ولا حضرها، وقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المدينة، فقدم عليه مقيس بْن صبابة مظهرا للإسلام وطالبا لِدِيَةِ أخيه
هشام بْن صبابة، فأمر له عليه السلام بالدية، فأخذها، ثم عدا على قاتل
أخيه فقتله وفر إلى مكة كافرا، وهو أحد الذين أمر رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلهم في حين دخوله مكة، ثم بعث رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأكثر
من عامين الوليد بْن عقبة بْن أبي معيط مصدقا لهم، فخرجوا ليتلقوه ففزع
منهم، وظن أنهم يريدونه بسوء، فرجع عنهم وأخبر رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم ارتدوا، ومنعوا الزكاة، وهموا بقتله،
فتكلم المسلمون
في غزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم عنهم دون
أن يأخذ صدقاتهم، وأنهم إنما خرجوا إليه مكرمين له، فأكذبه الوليد بْن
عقبة، فأنزل الله عز وجل : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} يعني الوليد بْن عقبة {فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} الآية
(1/203)
عمرة الحديبية:
فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة منصرفه من
غزوة بني المصطلق رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة معتمرا، فاستنفر
الأعراب الذين حول المدينة، فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه
من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربع مائة، وقيل: ألف وخمس مائة، وساق معه
الهدي، وأحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعمرة،
ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا، خرج جمعهم
صَادِّينَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد
الحرام ودخول مكة، وأنه إن قاتلهم قاتلوا دون ذلك، وقدموا خالد بْن
الوليد في خيل إلى كراع الغميم، فورد الخبر بذلك إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعسفان، فسلك طريقا يخرج منه في
ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيه رجلا من أسلم،
فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تعلمهم بذلك،
(1/204)
ولما وصل رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية بركت ناقته
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الناس: خَلأَتْ، خَلأَتْ
، فقال النبي عليه السلام: " ما خلأت وما هو لها بِخُلُقٍ، ولكن حبسها
حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة
رحم إلا أعطيتهم إياها "، ثم نزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هنالك، فقيل: يا رسول الله ليس بهذا الوادي ماء، فأخرج عليه السلام
سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب
فغرزه في جوفه، فجاش الماء الرواء، حتى كفى جميع أهل الجيش، وقيل: إن
الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بْن جندب بْن عمير الأسلمي، وهو سائق
بدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ، وقيل: نزل
بالسهم في القليب البراء بْن عازب، ثم جرت الرسل والسفراء بين رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كفار قريش، وطال التراجع
والتنازع إلى أن جاءه سهيل بْن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه
السلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا، ودخل هو وأصحابه مكة
بلا سلاح حاشا السيوف في قربها، فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون
بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، على
أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى
الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين،
فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين
فرجا
، فقال لأصحابه: اصبروا، فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه،
فأنس الناس إلى قوله بعد نفار منهم، وَأَبَى سهيل بْن عمرو أن يُكْتَبَ
في صدر صحيفة الصلح: من مُحَمَّد رسول الله، وقال له:
(1/205)
لو صدقناك بذلك
ما دفعناك عما تريد، ولا بد أن يُكْتَبَ: باسمك اللهم، فقال لعلي، وكان
كاتب صحيفة الصلح: " امح يا علي، واكتب باسمك اللهم " وأبى علي أن يمحو
بيده: رسول الله، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " اعرضه علي " فأشار إليه، فمحاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بيده، وأمره أن يكتب: من مُحَمَّد بْن عَبْد اللهِ، وأتى
أَبُو جندل بْن سهيل يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبيه، فعظم ذلك على المسلمين،
فأخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبر أبا جندل أن الله
سيجعل له فرجا ومخرجا، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قد بعث عثمان بْن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينئذ المسلمين للمبايعة على
الحرب والقتال لأهل مكة، وَرُوِيَ أنه بايعهم على أن لا يفروا، وهي
بيعة الرضوان تحت الشجرة التي أخبر الله عز وجل أنه رضي عن المبايعين
لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتها، وأخبر رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم لا يدخلون النار، وضرب رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيمينه على شماله لعثمان،
وقال: " هذه عن عثمان "، فهو كمن شهدها، ذكر وكيع، عن إسماعيل بْن أبي
خالد، عن الشعبي، قَالَ: أول من بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية أَبُو سنان الأسدي، وذكر ابن هشام عن
وكيع: كانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين أو ثمانين رجلا للإيقاع
بالمسلمين، وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم، فخرجوا
فأخذوهم أسرى، وكان ذلك
(1/206)
والسفراء يمشون
بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله، فهم الذين يسمون العتقاء، وإليهم
ينسب العتقيون فيم يزعمون، ومنهم معاوية وأبوه فيما ذكروا، فلما تم
الصلح بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أهل مكة
الذي تولى عقده لهم سهيل بْن عمرو على ما ذكروا، أَمَرَ رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا
بعد توقف كان بينهم أغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فقال عليه السلام: " لو نحرت لنحروا " فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه، فنحروا بنحره، وحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه، ودعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين واحدة، قيل:
إن الذي حلق رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ خراش بْن
أمية بْن الفضل الخزاعي، ثم رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى المدينة، فأتاه أَبُو بصير عتبة بْن أسيد بْن جارية
الثقفي حليف لبني زهرة هاربا من مكة مسلما، وكان ممن حبس بمكة مع
المسلمين
، فبعث فيه الأزهر بْن عَبْد عوف عم عَبْد الرحمن بْن عوف، والأخنس بْن
شريق الثقفي رجلا من بني عامر بْن لؤي، ومولى لهم، فأتيا النبي عليه
السلام فأسلمه إليهما على ما عقد في الصلح، فاحتملاه، فلما صاروا بذي
الحليفة، قَالَ أَبُو بصير لأحد الرجلين: أرى سيفك هذا سيفا جيدا
فأرنيه، فلما أراه إياه ضرب به العامري فقتله، وفر المولى، فأتى
النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في المسجد، فلما
رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هذا رجل
مذعور، ولقد أصاب هذا ذعر، فلما وصل إليه أخبره بما وقع، وقال: غدر
بنا، وبينما هو يكلمه إذ وصل أَبُو بصير، فقال: يا رسول الله، قد وفت
ذمتك وأطلقني الله عز وجل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَيْلُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لو كان له رجال، أو قَالَ:
أصحاب " فعلم أَبُو بصير
(1/207)
أنه سيرده،
فخرج حتى أتى سيف البحر، موضعا يقال له: العيص من ناحية ذي المروة على
طريق قريش إلى الشام، فجعل يقطع على رفاقهم، واستضاف إليه قوما من
المسلمين الفارين عن قريش منهم أَبُو جندل بْن سهيل، فجعلوا لا يتركون
لقريش عيرا ولا ميرة ولا مارا إلا قطعوا بهم، فكتبت في ذلك قريش إلى
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: نرى أن تضمهم
إليك إلى المدينة فقد آذونا، وأنزل الله تعالى بعد ذلك القرآن بفسخ
الشرط المذكور في رد
النساء، فمنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ردهن، ثم
نزلت سورة براءة فنسخ ذلك كله، ورد على كل ذي عهد عهده، وأن يمهلوا
أربعة أشهر، ومن لم يستقم على عهده لا يستقام له، وهاجرت أم كلثوم بنت
عقبة بْن أبي معيط، فأتى أخواها عمارة والوليد فيها ليؤدوها، فمنع الله
عز وجل من رد النساء المؤمنات إلى الكفار إذا امتحن فوجدن مؤمنات،
وأخبر أن ذلك لا يحل، وأمر المؤمنين أيضا أن لا يمسكوا بعصم الكوافر،
ولا ينكحوا المشركات، يعني الوثنيات حتى يؤمن
(1/208)
|