الدرر في اختصار المغازي والسير

غزوة بني النضير:
وكان سبب غزوة بني النضير، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قَالَ لعمرو بْن أمية: " لقد قتلت قتيلين، لأَدِيَنَّهُمَا " خرج إلى بني النضير مستعينا بهم في دية ذينك القتيلين، فلما كلمهم، قالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك، فنقوم ونتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا له، فقعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي بكر، وعمر، وعلي، ونفر من الأنصار إلى جدار من جدرهم، فاجتمع بنو النضير، وقالوا: مَنْ رَجُلٌ يَصْعَدُ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ فَيُلْقِي عَلَى مُحَمَّدٍ صَخْرَةً فيقتله فيريحنا منه؟ فإنا لن نجده أقرب منه الآن، فانتدب لذلك عمرو بْن جحاش بْن كعب، فأوحى الله عز وجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما ائتمروا به من ذلك، فقام ولم يُشْعِرْ أحدا ممن معه، ونهض إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه وأرث عليهم خبره، أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقيته وقد دخل أزقة المدينة، وقالت اليهود لأصحابه: لقد عجل أَبُو القاسم قبل أن نقيم له حاجته، فقام أصحابه ولحقوه بالمدينة، فأخبرهم بما أوحى الله عز وجل إليه مما أرادت اليهود فعله به، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالتهيؤ لقتالهم وحربهم، وخرج إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، فتحصنوا منه في الحصون، فحاصرهم ست ليال، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم
الخمر،

(1/174)


ودس عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغتروا بذلك، فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم، فألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم: حيي بْن أخطب، وسلام بْن أبي الحقيق، وكنانة بْن الربيع بْن أبي الحقيق، فدانت لهم خيبر، وقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموال بني النضير بين المهاجرين خاصة، إلا أنه أعطى منها أبا دجانة سماك بْن خرشة، وسهل بْن حنيف، وكانا فقيرين، وإنما قسمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين، لأنهم إذ قدموا المدينة شاطرتهم الأنصار ثمارهم، وعلى ذلك بايعوا ليلة العقبة على نصرته ومواساة أصحابه، فرد المهاجرون على الأنصار ثمارهم، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بْن عمير بْن كعب بْن عمرو بْن جحاش، وأبو سعد بْن وهب، أسلما فأحرزا أموالهما، وَذُكِرَ أن يامين بْن عمير جعل جعلا لمن قتل ابن عمه عمرو بْن جحاش لما هم به في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت سورة الحشر في بني النضير، قَالَ الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ إلى قوله: لَئِنْ
أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ إلى قوله: وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ

(1/175)


سورة الحشر آية -، فكان إجلاء بني النضير أول الحشر في الدنيا إلى الشام، ولذلك قيل: الشام أرض الحشر

غزوة ذات الرقاع:
ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إجلاء بني النضير بالمدينة شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى صدر السنة الرابعة بعد الهجرة، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة بْن سعد بْن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر، وقيل: بل استعمل يومئذ عليها عثمان بْن عفان، والأول أكثر، ونهض عليه السلام حتى نزل نخلا، وإنما سميت هذه الغزوة ذات الرقاع، لأن أقدامهم نقبت، فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: بل قيل لها ذات الرقاع، لأنهم رقعوا راياتهم فيها، ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع تدعى ذات الرقاع، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان من حمرة، وصفرة، وسواد، فسموا غزوتهم تلك ذات الرقاع، والله أعلم، ولقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنخل جمعان من غطفان فتواقفوا، إلا أَنَّهُ لم يكن بينهم قتال، وصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ صلاة الخوف، وقد أوضحنا اختلاف الروايات في التمهيد في هيئة صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، وفي انصرافهم من تلك الغزوة أبطأ جمل جابر بْن عَبْد اللهِ، فنخسه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق متقدما بين يدي الركاب،

(1/176)


ثم قَالَ له: " أَتَبِيعَنِيهِ؟ " فابتاعه منه، وقال: لك ظهره إلى المدينة، فلما وصل إلى المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل، لم يأخذه منه، وفي هذه الغزاة أتى رجل من بني محارب بْن خصفة ليفتك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرط ذلك لقومه، وأخذ سيف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْلَتَهُ بعد أن استأذنه في أن ينظر إلى السيف، فلما أَصْلَتَهُ هَمَّ به فصرفه الله عنه ولحقه بُهْتٌ، فَقَالَ: من يمنعك مني يا مُحَمَّد؟ قَالَ: " الله " فَرُدَّ السيف في غمده، فقيل: فيه نزلت : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ} الآية، وقيل: نزلت هذه الآية فيما أراد بنو النضير أن يفعلوا به من رمى الحجر عليه وهو جالس إلى حائط حصنهم

غزوة بدر الثالثة:
وكان أَبُو سفيان يوم أحد قد نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: موعدنا معكم بدر في العام المقبل، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أصحابه أن يجيبه بنعم، وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ من ذات الرقاع بالمدينة بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان من السنة الرابعة للميعاد المذكور، واستعمل على المدينة عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول، ثم نهض حتى أتى بدرا فأقام هناك ثماني ليال، وخرج أَبُو سفيان بْن حرب في أهل مكة حتى بلغ عسفان، ثم انصرف واعتذر هو وأصحابه بأن العام عام جدب

(1/177)


غزوة دومة الجندل
: وانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة فأقام بها إلى أن انسلخ ذو الحجة من السنة الرابعة من الهجرة، ثم غزا عليه السلام دومة الجندل في ربيع الأول، وذلك أول السنة الخامسة من احتلاله المدينة، واستعمل على المدينة سباع بْن عرفطة، وانصرف عليه السلام من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل، ولم يلق حربا

(1/178)