العواصم من القواصم - ط دار الجيل
المقدمات
مفتاح رموز التحقيق
...
مفتاح رموز التحقيق:
ج= نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية، تحت رقم "42654".
ز= نسخة ثانية مخطوطة في دار الكتب المصرية، تحت رقم "621" عقائد
تيمور.
د= نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية، تحت رقم "22031ب".
ب= النسخة المبطوعة التي نشرها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله،
في قسنطينة، الجزائر، الجزء الأول سنة 1927، الجزء الثاني سنة 1982.
وكان قد نشرها اعتمادًا على مخطوطة واحدة توجد بجامع الزيتونة، بتونس,
فيها بياض وخروم في بعض المواطن، وقد اجتهد في قراءة النص اجتهادًا
جيدًا، وحاول أن يحافظ على النص كما هو1.
* والجدير بالذكر أن العلامة الشيخ محب الدين الخطيب نشر هذا الكتاب
اعتمادًا على طبعة الشيخ باديس سالفة الذكر، دون غيرها كما نص على ذلك
في مقدمة كتابه2، ولم يعتمد على أية مخطوطة أخرى.
وهذا ما جعله يتصرف في بعض النصوص، فيقدم ويؤخر على حسب ما أداه إليه
اجتهاده، وخاصة في التهم التي وجهها الخوارج...، وتصرف في بعض التراكيب
والكلمات، وقد أشرنا إلى أغلب ذلك في هوامش الكتاب.
س= المكتب السلفي لتحقيق التراث.
خ= محب الدين الخطيب "رحمه الله".
م= محمود مهدي الإستانبولي.
ـــــــ
1 أراء أبي بكر بن العربي الكلامية, الجزء الأول, صفحة 290.
2 العواصم من القواصم, مقدمة المحقق، صفحة "8".
(1/5)
بسم الله
الرحمن الرحيم
التقدمة بقلم: الدكتور محمد جميل غازي:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
الثقافة الإسلامية بين الأصيل والدخيل.
1- الإسلام دين صاغ "دائرة معارف" هائلة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا,
وقد انبثق من هذه الدائرة العديد من العلوم والفنون والمؤلفات بل و
"دوائر المعارف" أيضًا.
وظلت البشرية منذ أن ابتدأت هذه الدائرة ترسل أضواءها الأولى بدءًا من:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} تعبُّ من هذا الحريق
المختوم، وترتوي من هذا المعين الصافي، وتتزود من هذا الزاد الذي لا
ينفد..
بحيث يحق لنا أن نقول: إن دائرة المعارف الإسلامية التي وضع لبناتها
الأولى الرسول الخاتم محمد بن عبد الله، عليه صلوات الله بوحي
(1/6)
من الله، ومدد
من هداه, ظلت, وستظل المصدر الأول لكل ثقافة، والمرجع الأساسي لكل علم،
والمحرك العظيم لأي حضارة...
أقر بهذا من أقر، وجهله من جهله، وأنكره من أنكر...
وموسوعة الثقافة الإسلامية هذه وسعت بين دفاتها عقولًا، وأممًا،
ومدارس، واتجاهات, وصاغت كل أولئك صياغة إسلامية موفقة, وباهرة.
ولم يكن بناة هذه الحضارة ودعاتها وأساتذتها من العرب وحدهم، بصفتهم هم
أول من تلقى الوحي، وآمن به.
وإنما شارك في ثراء هذه الحضارة الفكرية أجيال من المفكرين والعلماء
والأئمة مذكورون ومسطورون في أعز وأغلى صفحات الفكر الإسلامي
والإنساني.
إن الحضارة الفكرية الإسلامية لم تكن، ولن تكون ملكًا لأمة من الأمم,
أو دولة من الدول، أو جيل من الأجيال, بحيث يحق لأي فرد أو جماعة أن
يحتفظ لنفسه أو لأمته بحقوق التأليف والنشر والتصرف.
لأن هذه الثقافة ثقافة مرتبطة بالوحي الذي أنزله الله، لهداية البشر،
كل البشر.
2- وكانت السمة الغالبة على هذه الثقافة: الحرية، والاجتهاد،
والاختيار, وتلك ميزات نعرفها للثقافة التي تتفاعل مع الإنسان، كل
إنسان، وتتعامل مع الزمان، كل زمان، وتنداح حتى تستوعب المكان, كل
مكان.
وظل باب الاجتهاد في هذه الثقافة مفتوحًا، على كل مصاريعه؛ ليقول كلمة
الحق في كل ما يعتري المسيرة البشرية من مشكلات وتطلعات وارتباطات.
(1/7)
وينبغي لنا،
ويجمل بنا، أن نتوقف عند هذه النقطة من هذه المقدمة لنقول:
إن ثراء الثقافة الإسلامية...
وإن باب الاجتهاد المفتوح على مصاريعه فيها...
وإن ترحيبها المستمر بكل الأمم والشعوب...
إن كل أولئك كان مدخلًا تسللت منه رواسب ثقافات، وبقايا اعتقادات, ومزج
من الخرافات التي لا تتفق مع الإسلام في الشكل أو في الموضوع, أرأيت
إلى النهر العظيم، وهو يهدر في مجراه, وينساب قويًّا عظيمًا ليروي
الظماء من البشر والحيوان والطير والقفار.
كذلك نهر الثقافة الإسلامية.
ثم...
أرأيت إلى ما يعلق بهذا النهر من غثاء, ونباتات طفيلية, وجنادل, وصخور
ناتئة من شطآنه, أو ملقاة في سبيل مد الهادر.
وإذا كان كل نهر في حاجة إلى من يطهر مجراه, ويعمقه, ويزيل ما علق
بمجراه، من كل ما يعوق تدفقه واندفاعه, فكذلك الإسلام, وهذا هو دور
المجددين الذين قال فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها"
وكلمة "من" لا تعني مجددًا واحدًا, بل تعني عشرات، ومئات، وألوف
المجددين, على طول الزمان, وعرض المكان.
(1/8)
والتجديد يكون
لأمر الدين لا للدين نفسه.
وأمر الدين كله تتسع لتشمل كل المعارف التي فجرها هذا الدين، سواء
أكانت في أصول الدين، أم أصول الفقه، أم أصول الدنيا.
4- إن الأمم الكثيرة, والأملاء التي لا تكاد تنتهي حصرًا واستقصاء من
الداخلين في هذا الدين, قد جروا معهم عن قصد أو عن غير قصد، بحسن نية
أو بسوء نية مجموعة من الأفكار، والاتجاهات، والمأثورات الشعبية،
والأساطير القومية، والاتجاهات السياسية، والانتماءات الحزبية.
وكل ذلك وغيره كثير شكل ركامًا من الدخيل الذي ألصق بالثقافة الإسلامية
إلصاقًا, ومثل من نسميه بالخرافات والبدع والأقاصيص.
ولقد كان المجال التاريخي -ولا زال، وسيظل- معبرًا للتصورات الباهتة،
والروايات الموضوعة، التي تؤيد حزبًا ضد حزب، وتعين فريقًا على فريق,
إن الرواية التاريخية أصبحت على لسان المحاربين كالسيف الذي في أيديهم
يقتلون بها, ويثيرون القلاقل في صفوف أعدائهم.
وإذا كانت الحرب الباردة تعتمد على الإشارة والأكاذيب, فإن الإشاعة
والأكاذيب تحولت إلى روايات تاريخية, بل إلى روايات حديثية, يضعها
الوضاعون، ثم يرفعونها بلا خوف ولا خجل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يقفونها بلا حياء ولا استخزاء عند صحابته رضوان
الله عليهم.
5- وإن الله الذي تعهد بحفظ ذكره ووحيه قيض لهذه الثقافة من ينفي عنها
الخبث والعبث والضلال والتضليل والزيف والدخيل.
(1/9)
وما هذا الكتاب
الذي نقدمه للناس اليوم إلا واحد من هذه الأعمال الجليلة التي قام بها
علماء أجلاء ينافحون بها عن دين الله، ويبعدون بها الخرافة والضلالة عن
كواه.
ومؤلف هذا الكتاب هو الإمام الحجة الثبت محمد بن عبد الله بن محمد بن
عبد الله بن أحمد المعافري الأشبيلي المعروف بالقاضي أبي بكر بن
العربي، ولد في 22 شعبان سنة 468هـ, وتوفي في ربيع الأول سنة 543هـ.
6- والعواصم من القواصم مؤلف عظيم للقاضي أبي بكر بن العربي.
نشره الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1347هـ في جزئين وذلك عن مخطوطة
جامع الزيتونة بتونس, وبالمخطوطة خروم وسقطات وتقديم وتأخير،ولعل ذلك
من الناسخ.
أخذ منه الشيخ محب الدين الخطيب قسمًا من الجزء الثاني منه, ابتداء من
صفحة 98 إلى صفحة 193, ونشره معتمدًا على هذه المطبوعة فقط, ولم يلتفت
إلى أي مخطوطة أخرى3، وسماه:
"العواصم من القواصم"
في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وذلك للمرة الأولى سنة 1371هـ ثم توالت الطبعات عن هذه الطبعة نفسها.
نشر الكتاب بعد ذلك كاملًا في قسمين الأستاذ الدكتور "عمار طالبي"
الأستاذ بكلية الآداب جامعة الجزائر, ورئيس قسم الفلسفة آنذاك.
- القسم الأول: دراسة لآراء أبي بكر بن العربي الكلامية, ونقده للفلسفة
اليونانية.
ـــــــ
3 انظر مقدمته للكتاب, صفحة 8.
(1/10)
القسم الثاني:
النص الكامل والصحيح للمرة الأولى لكتاب: "العواصم من القواصم".
نشر الأستاذ محمود مهدي الإستنابولي حفظه الله, طبعة الشيخ محب الدين
الخطيب نفسها محتفظًا بتعليقات الشيخ الخطيب كاملة, إلا أنه زاد عليه
في التعليق فقط في إثبات بعض التحقيقات الحديثية والتاريخية.
7- وما قام به الأخوة الكرام في المكتب السلفي لتحقيق التراث1 هو:
- المقابلة على مخطوطات ثلاث كلها في دار الكتب المصرية:
1- الأولى برقم 22031ب.
2- الثانية برقم 621 عقائد تيمور.
3- الثالثة برقم 4 ش علم الكلام.
وإثبات ما رأوه صحيحًا بين قوسين [-].
- حذف التعليقات التي بناها الشيخ الخطيب على أخطاء مطبوعة الشيخ
العلامة عبد الحميد بن باديس.
مع الاحتفاظ بكل التعليقات الأخرى، وقليل ما حذفوا.
- عمل ترجمة للإمام القاضي أبي بكر بن العربي وكتبه.
- زيادة تخريج وتحقيق الأحاديث النبوية، وإن كان صديقنا العلامة
ـــــــ
1 هو هيئة علمية تتكون من خيرة متخصصة في تحقيق التراث, وهي تابعة لدار
الكتب السلفية تقوم بنشر النادر والثمين من تراثنا الإسلامي.
وقد أخذت على عاتقها إعادة نشر كتب التراث التي لم تأخذ حقها من
التحقيق, أو نشرت بدون الاعتماد على مخطوطات موثقة، كذا إعداد الفهارس؛
لتيسير البحث والاستفادة لطلاب العلم, والله الموفق وهو وحده المستعان.
(1/11)
محمود مهدي
الإستانبولي-حفظه الله- قد قام بذلك, ولكن صدق من قال: "كم ترك الأول
للآخر".
وكذلك قد أثبتوا جميع الفوائد التي كتبها الشيخ محمود مهدي في نشرته.
- توثيق نص الكتاب بالاعتماد على المخطوطات سالفة الذكر، دون أخطاء.
- إضافة بعض التعليقات التي اقتضاها الموضوع.
وإنني إذ أقدم هذا الكتاب العظيم، لذلك المؤلف العظيم، لا يسعني إلا أن
أسجل هنا كلمة تحية وتقدير للشاب السلفي الغيور الأستاذ شرف حجازي:
الذي قام بخراج هذا الكتاب ومتابعة العمل فيه، على هذا النحو الجيد...
وإن كنت لا أنسى أن أسجل له -أعزه الله ووفقه- جهوده الكبيرة والكريمة
في سبيل إخراج كثير من كتب التراث النافعة، بهذا الإخراج الطيب.
فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك.
الزيتون في 3 من شهر جمادى الآخرة 1405هـ..
الدكتور محمد جميل غازي
رئيس المركز الإسلامي العام لدعاة التوحيد والسنة
(1/12)
ترجمة القاضي أبي بكر بن العربي
468 - 543 هـ
اسمه ونسه:
هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الأشبيلي
المالكي.
ولد في سنة 22 شعبان سنة 468هـ, 31 مارس 1076م, بمدينة أشبيلية، في
أحضان أسرة كانت لها حظوة لدى المعتمد بن عباد في عصر دول الطوائف.
مكانته العلمية, وثناء العلماء عليه:
- قال الشيخ صديق حسن خان في "التاج المكلل": 308/280: "إمام في الأصول
والفروع، سمع ودرس الفقه والأصول, وجلس للوعظ والتفسير، وصنف في غير
فن، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أوذي في ذلك بذهاب
كتبه وماله, فأحسن الصبر على ذلك كله". أهـ.
وقال الشيخ العلامة أحمد بن محمد الشهير بالمقري من كتابه "نفح الطيب
من غصن الأندلس الرطيب": "علم الأعلام، الطاهر الأثواب، الباهر
الأبواب، الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس, وأنتج الفرع من
الأصل، وغدا في الإسلام أمضى من النصل" أهـ, من التاج المكلل.
فوائد منقولة عنه:
1- قوله: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهة
نضرة؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نضر الله امرءًا
سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها..." الحديث.
(1/13)
قال: وهذا دعاء
منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحملة علمه، ولابد بفضل الله
تعالى من نيل بركته".
2- ومنها أيضًا:
قوله: "تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري حديث أبي ثعلبة
المرفوع: "إن من ورائكم أيامًا للعامل فيها أجر خمسين منكم، فقالوا:
منهم؟ فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، وهم لا يجدون
عليه أعوانًا" ، وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر
الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام وعضدوا الدين، وأقموا المنار،
واقتحموا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة.
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح في
البخاري: "لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبًا ما بلغ أحدهم ولا
نصيفه", فتراجعنا القول وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح, وخلاصته أن
الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد، ولا يدانيهم فيها
بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص
إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم, والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين، والإسلام، وهو أيضًا انتهاؤه؛ وقد
كان قليلًا في ابتداء الإسلام صعب المرام؛ لغلبة الكفار على الحق؟ وفي
آخر الزمان أيضًا يعود كذلك؛ لوعد الصادق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل واستيلاء التبديل
والتغيير على الحق من الخلق وركوب من يأتي من سنن من مضى من أهل
الكتاب, كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لتركبن سنن من
قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه".
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود
غريبًا كما بدأ, فطوبى للغرباء". رواه مسلم.
(1/14)
فلابد والله
تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من
واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا قام به قائم مع
احتواشه بالمخاوف, وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من
الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنًا منه, معانًا عليه بكثرة الدعاة إلى
الله تعالى، وذلك قوله: "لأنكم تجدون على الخير أعوانًا, وهم لا يجدون
عليه أعوانًا" حتى ينقطع ذلك انقطاعًا تامًّا؛ لضعف الدين, وقلة
اليقين.
كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقوم الساعة حتى لا
يقال في الأرض الله: الله" رواه مسلم, ويروى برفع الهاء ونصبها؛ فالرفع
على معنى: لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل؛ والنصب على معنى: لا يبقى
آمر بمعروف, وناهٍ عن منكر.
3- ومن فوائده أيضًا:
أنه قال: كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور بن جهير؛ فقرأ القارئ:
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلام} , وكنت بظهر أبي الوفاء بن
عقيل إمام الحنبلية بمدينة السلام, وكان معتزلي الأصول، فلما سمعت
الآية, قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله
تعالى في الآخرة، فإن العرب لا تقول: لقيت فلانًا إلا إذا رأته، فصرف
أبو الوفاء وجهه مصرعًا إلينا؟ وقال: ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله
لا يرى في الآخرة، فقد قال تعالى : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي
قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} , وعندك أن المنافقين لا يرون
الله تعالى في الآخرة, وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين وتقدير الآية:
فأعقبهم هو نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه؛ فيحتمل ضمير
{يَلْقَوْنَهُ} أن يعود إلى ضمير الفاعل في {أَعْقَبَهُمْ} المقدر
بقولنا "هو", ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازًا على تقدير الجزاء".
اهـ.
(1/15)
4- ومن فوائده
أيضًا:
قوله: أنه كان بمدينة السلام إمام من الصوفية, وأي إمام يعرف بابن
عطاء, فتكلم يومًا على يوسف وأخباره, حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من
مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالحليقة من كل طائفة فقال: يا
شيخ, يا سيدنا, فإِذَن يوسف هَمَّ وما تَمَّ؟, فقال: نعم؛ لأن العناية
من ثَمّ. فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله,
والعالم في اختصاره واستيفائه.
ولذا قال علماؤنا الصوفية: أن فائدة قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} أن الله أعطاه العلم والحكمة
أيام غلبة الشهوة؛ لتكون سببا للعصمة. ا.هـ.
5- ومنها قوله:
كنت بمكة مقيمًا في سنة 489، وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرًا, وكلما شربت
نويت العلم والإيمان؛ ففتح الله لي ببركته في المقدار الذي يسره لي من
العلم, ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله لي
فيهما، ولم يقدر فكان صفوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله الحفظ
والتوفيق برحمته.
6- ومنها قوله:`
حكاية عن الجوهري: أنه كان يقول: إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام
والسبابة, وارتفعت سائر الأصابع كان شكلها مقروءًا بقولك: "الله"
فكأنها إشارة منه سبحانه لتيسير الوزن إلى الله سبحانه مطلع عليك فأعدل
في وزنك.أ.هـ.
(1/16)
مؤلفاته:
للإمام القاضي أبي بكر بن العربي مؤلفات كثيرة لم يصلنا أغلبها، وقد
قضى أربعين سنة في الإملاء والتدريس، وفي بث ما حصله من العلوم،
ونستطيع أن نصنف أسماء مصنفاته حسب موضوعاتها.
أما التصنيف حسب تاريخ تأليفها فمن الصعب القيام به؛ لأنه يحيل إلى
كتبه في أماكن كثيرة من مصنفاته، مما يدل على أنه يملي في وقت واحد عدة
كتب, وأنه لا يقتصر على كتاب واحد حتى يفرغ منه، ثم يبدأ في غيره5.
أ- علوم القرآن:
1- أحكام القرآن:
لا شك في نسبة هذا الكتاب إلى أبي بكر بن العربي؛ لأنه قد ذكره في
كتابه: "شرح صحيح الترمذي" المسمى بـ "عارضة الأحوذي".ج1/ صـ
204،124،116،59،51.
وذكره في "سراج المريدين", "ورقة 237".
ونسبه إليه تلميذه أبو بكر بن خير الأشبيلي في فهرست ما رواه عن شيوخه.
"ط. سرقسطة, 1893، صـ 54. ونسبه إليه ابن فرحون في "الديباج", صـ 281.
2- أنوار الفجر:
هو أعظم كتاب له، كان كثيرًا ما يفتخر به، ويشيد بأهميته في مختلف
ـــــــ
5 آراء أبي بكر بن العربي الكلامية, د. عمار طالبي: ج65/1.
(1/17)
كتبه، ذكر أنه
ألفه في مدة عشرين عامًا، وأن به ثمانين ألف ورقة، ولم يصل إلينا شيء
منه فيما نعلم6. وذكره المقري في "نفح الطيب": ج2 صـ 242.
2- قانون التأويل:
ذكر أبو بكر بن العربي أنه ألفه في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة, وصرح
بذلك في مقدمة كتابه "عارضة الأحوذي": ج11, صـ 49. وذكره المقرئ في
"نفح الطيب": ج2, صـ 242.
4- الناسخ والمنسوخ:
ذكره في كتابه "سراج المريدين" ورقة 237, وتحدث عنه في عدة مواضع من
"أحكام القرآن", وذكره ابن خير والمقري، وابن فرحون في "الديباج": صـ
282.
5- المقتبس في القراءات:
نسبه إليه حاجي خليفة في "كشف الظنون": 499/2.
ـــــــ
6 آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: ج1, صـ 67, د. عمار طالبي.
7 آراء أبي بكر بن العربي الكلامية" ج1, صـ 69.
(1/18)
ب- الحديث:
1- عارضة الأحوذي في شرح الترمذي:
ذكره بهذا العنوان ابن خلكان في "وفيات الأعيان" ط. محيي الدين عبد
الحميد، القاهرة: 4024/3, وسماه في كتابه "سراج المريدين", ورقة 237,
بشرح الترمذي.
وذكره المقري في "نفح الطيب": 242/2. وطبع الكتاب في ثلاثة عشر مجلدًا.
2- شرح الحديث:
ذكر المؤلف هذا الكتاب في أحكام القرآن في ثلاثة مواضع, ويحتمل أن يكون
هو نفس كتاب شرح صحيح الترمذي.
3- كتاب النيرين في الصحيحين:
وسماه أحيانا شرح الصحيحن كما فعل في كتابه "أحكام القرآن", وذكره في
كتابه "العواصم من القواصم".
واقتصر أحيانًا على تسميته "بالنيرين" كما فعل في كتابه "عارضة
الأحوذي": 22/10.
5- الأحاديث المسلسلات:
نسبه إليه أبو بكر بن خير الأشبيلي في فهرست ما رواه عن شيوخه: صـ 175,
وأخذه عنه، وذكره في "نفح الطيب": 242/2.
(1/19)
6- الأحاديث
السباعيات:
نسبه إليه أبو بكر بن خير الأشبيلي, ودرسه عليه: صـ 175, وذكره أيضًا
المقري في "نفح الطيب": 242/2.
7- شرح حديث أم زرع:
نسبه إليه المقري "نفح الطيب": 242/2.
8- شرح حديث الإفك:
نسبه إليه المقري "نفح الطيب": 242/2.
9- شرح حديث جابر في الشفاعة:
نسبه إليه المقري "نفح الطيب": 242/2.
10- الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب:
ذكره المقري "نفح الطيب": 242/2.
11- كتاب مصافحة البخاري ومسلم:
أخذه عنه أبو بكر الأشبيلي: "صـ 166 في فهرسته".
ج- مشكل القرآن والحديث:
يدخل تحت هذا القسم كتاب واحد وهو كتاب "المشكلين", ذكره في "أحكام
القرآن", ونص عليه في "عارضة الأحوذي": 275/11.
(1/20)
د- أصول الدين
أو علم الكلام:
1- العواصم من القواصم:
وهو كتابنا هذا.
وقد أشار المؤلف نفسه إلى كتابه في عدة كتب من تأليفه كسراج المريدين,
وعارضة الأحوذي: 255/13، 229/13. ونسبه إليه المقري في "نفح الطيب":
242/2.
وابن فرحون في "الديباج": صـ 121. والشاطبي في "الاعتصام":
343،316،202،194, ج154/3 والذهبي في "تذكرة الحفاظ": ج325،324/3
2- الدواهي والنواهي:
ذكره في كتبه كأحكام القرآن والعواصم من القواصم. ونسبه إليه المقري
"نفح الطيب": 242/2 وذكره حاجي خليفة "كشف الظنون": ج496/1
3- رسالة الغرة:
ذكرها المؤلف في العواصم من القواصم وبين أنه كتبها ردًّا على رسالة
لابن حزم تسمى "برسالة الدرة في الاعتقاد". "العواصم من القواصم: صـ
266- طبعة د. عمار طالبي."
4- الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا:
نوه بكتابه هذا في عدة مواضع من مصنفاته كشرح الترمذي وأحكام القرآن.
ونسبه المقري في "نفح الطيب" إليه: 242/2.
قال الدكتور عمار طالبي, حفظه الله:
(1/21)
"وقد عثرنا على
الكتاب مخطوطًا في خزانة الوثائق بالرباط سنة 1967, ووقفنا عليه، وهو
يقع تحت رقم ق4".
5- كتاب المتوسط في معرفة صحة الاعتقاد، والردُّ على من خالف السنة،
وذوي البدع والإلحاد:
ذكره في كتابه "عارضة الأحوذي": 118/12.
ذكره أبو بكر بن خير الأشبيلي في فهرست ما رواه عن شيوخه: صـ 259,
ونسبه إليه المقري في "نفح الطيب": 242/2
6- كتاب المقسط في شرح المتوسط:
ذكره في كتابه "أحكام القرآن", ونص عليه في غير ما كتاب من مؤلفاته.
ونسبه إليه أبو بكر بن خير في فهرست ما رواه عن شيوخه: صـ 258.
7- نزهة الناظر وتحفة الخواطر:
وسماه أحيانا "نزهة المناظر وتحف الخواطر"، ذكره في "العواصم من
القواصم": صـ 7 من طبعه د. عمار طالبي ولم يذكره المقري ولا ابن خير.
هـ- كتب الزهد:
1- سراج المريدين في سبيل المهتدين, كاستنارة الأسماء والصفات في
المقامات والحالات الدينية والدنيوية، بالأدلة العقلية والشرعية
القرآنية والسنية:
هو الكتاب الذي سماه "القسم الرابع من علوم القرآن في التذكير", ذكره
مؤلفه في كتابه: "شرح صحيح الترمذي عارضة الأحوذي": 28/1, وحاجي خليفة
"كشف الظنون": 23/2, نقلا عن تذكرة القرطبي.
ونسبه إليه ابن فرحون "الديباج المذهب": 282.
(1/22)
وذكره ابن
الحاج العبدري 737 هـ, في كتابه "مدخل الشرع"، البابي الحلبي، القاهرة،
1960، ج4, صـ 301.
ويوجد هذا الكتب كاملًا مصورًا في دار الكتب المصرية تحت رقم "20348ب",
وهو مأخوذ عن نسخة الشيخ أحمد بن الصديق الغماري المغربي.
وتوجد نسخة أخرى منه في مكتبة الكتاني بخط أندلسي واضح.
2- سراج المهتدين:
نسبه إليه ابن فرحون "الديباج: صـ 282".
والمقري في "نفح الطيب: 242/1".
2- مراقي الزلفي:
نسبه إليه العبدري في "مدخل الشرع: ج 119،66/1", ج125،123/2", "ج
295،294،25،23/4".
والمقري في "نفح الطيب: 242/2".
4- كتاب العقد الأكبر للقلب الأصغر:
نسبه إليه المقري "نفح الطيب: 242/2
5- تفصيل التفصيل بين التحميد والتهليل:
ذكره المقري في "نفح الطيب: ج2, صـ 242".
و- أصول الفقه
1- كتاب المحصول في أصول الفقه:
أشار إليه المؤلف في "أحكام القرآن".
(1/23)
وابن فرحون في
"الديباج المذهب: صـ 292".
والمقري في "نفح الطيب: 242/2
2- كتاب التمحيص:
ذكره المؤلف في "أحكام القرآن"، وفي "العواصم من القواصم: 24", من طبعة
د. عمار طالبي, وذكره في "سراج المريدين: ورقة 138".
ز- كتب الفقه "الفروع":
1- المسالك في شرح موطأ الإمام مالك:
بني هذا الكتاب على أساس المسائل الفقهية فهو كتاب حديث وفقه في آن
واحد، ولكن اخترنا أن نعتبره من كتب الفقه؛ لاهتمام أبي بكر بن العربي
في شرحه بمسائل الفقه، ولمعارضته فيه للظاهرية، ونقده لها أعنف النقد
فيما يتعلق بالرأي عند الإمام مالك8.
نسبه إليه ابن فرحون "الديباج: صـ 282".
والمقري في "نفح الطيب: ج2, صـ 242"، وسماه "ترتيب المسالك في شرح موطأ
الإمام مالك".
وتوجد من هذا الكتاب نسختان: الأولى في المكتبة الوطنية بالجزائر "رقم
425"، والثانية في خزانة جامعة القرويين بفاس تحت رقم "180", وتاريخ
نسخها 711هـ.
2- القبس على موطأ مالك بن أنس:
نسبه إليه أبو بكر بن خير, وسماه "القبس من شرح مالك بن أنس". فهرست ما
رواه عن شيوخه صـ 88.
وذكره المقري "نفح الطيب: ج1،صـ 242".
ـــــــ
8 د. عمار طالبي، آراء أبي بكر بن العربي الكلامية: ج1, صـ 78.
(1/24)
وابن فرحون في
"الديباج: صـ 282".
ويوجد للكتاب سبعة نسخ متفرقة في مكتبات الجزائر والمغرب وتركيا.
انظر مجلة معهد المخطوطات العربية: مجلد 5, صـ 176،192
2- شرح غريب الرسالة:
وهو شرح للألفاظ اللغوية والفقهية الغربية من رسالة ابن أبي زيد
القيرواني المالكي 389 هـ.
نسبه إليه المقري "نفح الطيب: ج2, صـ 242".
4- تبيين الصحيح في تعيين الذبيح:
نسبه إليه المقري في "نفح الطيب: ج1, صـ 242".
5- كتاب ستر العورة:
ذكره المقري في "نفح الطيب: ج2, صـ 242.
6- كتاب التقصي:
ويبدو أنه في الفقه لإشارة المؤلف إليه في أحكام القرآن بصدد مسألة في
الوضوء.
7- تخليص التخليص:
ذكره مؤلفه في كتابه "أحكام القرآن", وأحال إليه في مسألة قصر الصلاة,
والنية في الإحرام, وابن فرحون "الديباج: 383", والمقري "نفح الطيب:
ج2, صـ 242".
8- تخليص الطريقتين:
ذكره في كتابه "أحكام القرآن"، ويبدو أنه كتاب في الفقه؛ لأنه لأحال
إليه في مسألة فقهية تتعلق بالتسمية في الذبح.
(1/25)
ح- الجدل
والخلافات:
1- الكافي في أن لا دليل على النافي:
نسبه إليه المقري "نفح الطيب: ج2, صـ 242".
2- الإنصاف في مسائل الخلاف:
يقع هذا الكتاب في عشرين مجلدًا، أشار إليه مؤلفه في بعض مصنفاته,
وسماه "كتاب المسائل", "عارضة الأحوذي: 65/1
ونسبه إليه المقري "نفح الطيب: 242/2
", وحاجي خليفة: "160/1 من كشف الظنون".
ط- اللغة والنحو:
1- رسالة له في النحو واللغة أطلق عليها "ملجئة المتفقيهن إلى معرفة
غوامض النحويين، واللغويين":
ذكرها أبو بكر بن العربي في عدة مواضع من كتبه، في "أحكام القرآن", وفي
شرح الترمذي "عارضة الأحوزي: 144/1".
ونسبها إليه المقري في "نفح الطيب: 242/2".
2- رده على ابن السيد البطليوسي:
رد أبو بكر بن العربي علي أبي محمد عبد الله بن السيد البطليوسي "521
هـ" في شرحه على ديوان أبي العلاء المعري المسمى بلزوم ما لا يلزم, ورد
ابن السيد على رد أبي بكر بن العربي بكتاب سماه "الانتصار عمن عدل عن
الاستبصار".
وقد نسب هذا الرد إلى أبي بكر بن العربي تلميذه أبو بكر بن خير
الأشبيلي, فهرست ما رواه عن شيوخه صـ 419.
(1/26)
ى- تاريخ:
1- ترتيب الرحلة للترغيب في الملة:
ذكره مؤلفه في كتابه "سراج المريدين: ورقة 97".
وفي "العواصم من القواصم: صـ 43", من طبعة د. عمار طالبي.
ونسبه إليه المقري "نفح الطيب: ج2, صـ 242".
2- أعيان الأعيان:
نسبه إليه المقري "نفح الطيب: ج2، صـ 242".
3- فهرست شيوخه:
ألف أبو بكر بن العربي كتابًا ترجم فيه لشيوخه، سماه تلميذه أبو بكر بن
خير الأشبيلي "بكتاب فيه جملة من شيوخ الحافظ أبي بكر بن العربي", وذكر
أنهم واحد وأربعون رجلًا, خرَّج عن كل واحد منهم حديثًا، وأنه قرأه
عليه "فهرست ما رواه عن شيوخه: صـ 166".
وأخيرًا فإن أبا بكر ذكر أن له كتابًا يسمى "بالأمالي" ذكر لك في كتاب
"سراج المريدين: ورقة 97".
وذكره أيضًا في كتاب "العواصم من القواصم: صـ 176", من طبعة د. عمار
طالبي, وإن كان ذكره له في العواصم من القواصم قرن به "أنوار الفجر",
وأغلب الظن أنه ليس كتابًا مستقلًا, وإنما هو عبارة عن أماليه عامة بما
في ذلك أغلب كتبه التي كان يمليها.
وذكر أبو بكر بن العربي أن له كتابًا سماه "بالعوض المحمود", غير أن
هذا الكتاب محير لا نعرف أين نضعه غير أنه أشار إلى أنه تحدث فيه عن
مسألة الرؤيا, وبين اسم جزء من أجزاء هذا الكتاب وسماه "محاسن
(1/27)
الإنسان", انظر
"عارضة الأحوذي: 130،123/911", فلعله أن يكون في الأخلاق9.
ـــــــ
9 اعتمدنا في نقل مؤلفات القاضي أبي بكر بن العربي على الله سبحانه
وتعالى, ثم على الجهد العظيم الذي قام به الدكتور عمار طالبي حفظه الله
وأثابه عن العلم وأهله خيرًا.
(1/28)
وفاته:
أتاه أجله "بمغيلة" قرب مدينة "فاس" في ربيع الأول سنة 543 هـ, ودفن في
"فاس" خارج باب المحروق، على مسيرة يوم من "فاس" غربًا منها.
وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج، وفدن يوم الأحد 7 ربيع الأول سنة
453 هـ.
وبموته انطفأت شعلة من الذكاء متقدة، وأفل نجم طلعة متوثبة، وسكنت روح
ذات طموح غالب، وخمد ذهن نافذ كان ينير للناس ظلمات حالكة، ويذهب
بإشكالات معضلة.
وفاضت نفس تواقة إلى تحقيق العدل، وإشاعة مبادئ الأخلاق والدين في
الواقع الاجتماعي، وإلى بث الروح العلمية النافذة الفاحصة، وإلى تكوين
جيل جديد على أسس تربوية جديدة.
أقبل صاحب هذه الروح من المشرق ليغرسها في المغرب، وكفاه أنه ما فارق
الوجود حتى بذل جهده، وحقق بعض الذي كان يتوق إليه10.
رحمه الله رحمة واسعة.
ـــــــ
10 د. عمار طالبي: آراء أبو بكر بن العربي الكلامية: 88/1.
(1/29)
وصف المخطوطات التي اعتمدنا عليه في التحقيق:
المخطوطة الأولى "د":
كتب بخط أندلسي جميل وواضح، وإن كانت فيها آثار رطوبة ومحو في بعض
أوراقها، تقع تحت رقم 22031ب, بها مائة وأربع وثلاثون ورقة "134", وفي
كل ورقة 23 سطرًا، مقاس حجمها المكتوب 23 سطرًا معًا 27, ونصف 19، لا
يعرف ناسخها، ولا تاريخ نسخها ويبدو من خطها أنها أدقم النسخ، كتب على
أول ورقة منها: كتاب القواصم والعواصم "س1" للإمام العالم الأجل "س2"
أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي رضي الله عنه "س3"، وكتب في السطر
الرابع بخط حديث: ألفه في سنة 530 في شعبان, وفي الورقة الثانية: بسم
الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، "س1".
قال الشيخ الفقيه الإمام الأوحد الحافظ "س2"، العلامة الأمجد أبو بكر
بن العربي رضي الله عنه ورحمه "س3"، أول هذه النسخة الحمد لله رب
العالمين, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك
على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد
مجيد... إلخ، وكتبت العناوين فيها, وأوائل الفقرات بحروف بارزة سوداء،
وآخر هذه النسخة مبتور، كما ترى نقص بعض أوراق منها في أثناء الكتاب
كما هو مبين في الهوامش, ولكن نصها في أغلب الأحيان يعتبر أصح النصوص
وأوضحها رغم نقص بعض أوراقها، وينبغي التنبيه إلى أنه قد وقع خلط في
بعض أوراقها، إذ ما نقص منها في بعض مواضعها، وجد في آخر النسخة مرقمًا
على أنه تابع للنص ومسترسل معه، والواقع أنه راجع إلى ما نقص من مواضع
أخرى، وقد أشرنا إلى ذلك كله في الهوامش وآخر ما ورد في النسخة: من
رآني في المنام فقد رأني حقًّا...11 قطعًا أنه لا يرى ذات النبي.
ـــــــ
1 طمست منها كلمات.
(1/30)
المخطوطة
الثانية "ز":
أما النسخة الثانية فهي نسخة جيدة أيضًا، إلا أنها رغم أنها كاملة، لا
تبلغ جودة النسخة الأولى، وهي واقعة تحت رقم 621 عقائد تيمور, بدار
الكتب المصرية أيضًا، والورقة الأولى منها مزخرفة، وكتب في آخر ظهرها:
97 في ثاني الملل والنِّحَل لابن حزم كروية الأرض، وقوله تعالى:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِيْ لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ، وفي قصة ذا القرنين،
{وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} "س2" وكتب على وجه الورقة
الثانية: الحمد لله، اعلم أن كلام جميع الحكماء، والفلاسفة وعلومهم
مستفادة من الشرائع والملل السابقة، وأن كفرهم وضلالهم والعياذ بالله،
بسبب ارتباط العوائد الجارية، في العالم، وخفاء تعلق القدرة بالموجودات
وذلك مثل إنكار النصارى، وجود الكيمياء لغموض علمها، وخفاء سرها،
وأيضًا فلخفاء سر القدر، والحكمة الإلهية عند الخلق، نعوذ بالله من
الضلال، والخذلان، والاستهواء في خارف "كذا" الدنيا والميل إلى الراحة،
من مشقة التكليف، الطارئة مشقتها على الطبع البشري، لأنه وحده، بمجرده
لا يتوصل به إلى شيء إلا بما تقتضي التجربة، والتكرار المقتضيان لآلاف
عديدة وافرة من السنين، تأمله منصفًا وفوق كل من ذوي العلم، العليم هـ.
وفي ظهر الورقة الثانية كتب عنوان: فهرست الكتاب،وتحته كتب فهرست
تفصيلي لمسائل الكتاب متفق مع ما ورد فيه من موضوعات، وكتب ذلك على شكل
جدول ذي أربع مربعات، كل مربع، يوضع فيه رقم الورقة وعنوان المسألة
التي وردت في تلك الورقة, وفيما بعدها, هذه المربعات الأربع على عرض
الورقة، أما على طولها فهي ثمانية مربعات, ويكون ذلك مستطيلًا ذا اثنين
وثلاثين مربعًا صغيرًا، وكتب هذا الفهرست ابتداء من ظهر الورقة الثانية
إلى حوالي ثلثي وجه الورقة الخامسة, وبقى ظهر الورقة المذكورة بياضًا
مع وجود رسم ذلك الجدول.
وكتب على وجه الورقة الأولى التي تعتبر أول نص الكتاب حسب ترقيم الناسخ
الذي اعتبر أوراق الفهرست زوائد، وكتب على الجانب الأيسر من أعلى:
عقائد تيمور "ك1" أي رقم الكتاب ورقم الكراس الأول منه.
(1/31)
وكتب في وسط
الورقة من أعلى: كتاب العواصم من القواصم "س1"، تأليف الشيخ الفقيه،
قاضي القضاة "س2" أبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي "س3"، رحمه الله
تعالى آمين "س4"، وكتب على الجانب الأيسر: وكانت بداءة نسخه يوم2 الأحد
ثاني شهر ربيع الأنور بمولده الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من سنة 1258, وكتب تحت ذلك بخط آخر يبدو أنه أحدث من الأول: ودخلت في
توبة عبيد الله محمد الملكي بن عزور سنة 1313، وأسأل الله أن تبقى
لذريتي بإذن الله ينتفعون وينفعون بها إن شاء الله، ويبدو أن ذلك بخط
الشيخ محمد المكي بن عزوز نفسه، وهو من العلماء الجزائريين المعاصرين
كانت لهم مكانة مرموقة في العلوم الإسلامية في المغرب الإسلامي، ويبدو
أنه أتى بهذه النسخة إلى مصر حين وروده إليها، وذهابه إلى تركيا
مهاجرًا، وكتب على الورقة الثانية من النسخة: بسم الله الرحمن الرحيم,
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وأولها: قال صالح بن عبد
الملك بن سعيد: قرأت على الإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي رضي الله
عنه قال: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما
صليت على إبراهيم....إلخ.
بها 226 ورقة، وقد أخطأ الناس في الترقيم فعد الورقات "229" أي أنه زاد
ثلاث ورقات، وذلك أنه أخطأ من ترقيم ورقة 86 فكتها 89, واستمر على ذلك.
وفي كل ورقة 15 سطرًا, ومقاس حجمها "14×9" بالنسبة للمكتوب فقط, و21
ونصف ×15 ونصف للمكتوب والهامش.
أما الناسخ فهو الحاج حمودة بن حمودة بوسن "التونسي مولدًا الطرابلسي
القرباني أصلًا ونسبًا، المالكي مذهبًا، الأشعري اعتقادًا، وقد ذكر أنه
ابتدأ بنسخ الكتاب في 2 ربيع الأنور سنة 1258هـ, وفرغ من نسخه في 12 ذي
الحجة سنة 1258هـ، وقد كتب العناوين أيضًا بالحروف البارزة, وكذلك
أوائل الفقرات".
وتمتاز هذه النسخة بالتعليقات التي كتبها الناسخ وبالمقارنات التي
سجلها بالهوامش بين النسخ المتعددة التي قابل بها نسخته أو نسخ عنها.
(1/32)
المخطوطة
الثالثة "ج":
وهي تقع تحت رقم "4 توحيد ش" بدار الكتب المصرية.
وأول النسق:
قال صالح بن عبد الملك بن سعيد: قرأت على الإمام الحافظ أبي بكر ابن
العربي رضي الله عنه قال: الحمد لله رب العالمين, اللهم صلِّ على محمد
وآل محمد... إلخ.
وبهذه النسخة 215 ورقة.
وفي كل ورقة 21 سطرًا، ومقاس حجمها الكتوب "16×8", وبزيادة غير المكتوب
"22×16".
أما الناسخ, فهو غير مذكور.
وأما تاريخ النسخ فهو 14 يوم الأحد محرم سنة 1289هـ، وعلى العموم فهي
أقل النسخ جودة؛ لكثرة أخطائها ولجهل ناسخها.
(1/33)
صور المخطوطات التي اعتمدنا عليها في التحقيق
...
(1/34)
بسم الله
الرحمن الرحيم
تقديم الشيخ محمود مهدي الاستنابولي
حفظه الله:
إن المسلمين -بل الإنسانية كلها- أشد ما كانوا اليوم حاجة إلى معرفة
فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكرم معدنهم، وأثر
تربيته فيهم، وما كانوا عليه من علو المنزلة التي صاروا فيها الجيل
المثالي الفذ في تاريخ البشر.
وشباب الإسلام معذورون إذ لم يحسنوا التأسي بالجيل المثالي في الإسلام؛
لأن أخبار أولئك الأخيار قد طرأ عليها من التحريف والأغراض والبتر
والزيادة وسوء التأويل في قلوب شحنت بالغل على المؤمنين الأولين،
فأنكرت عليهم حتى نعمة الإيمان.
وقد أصبح من الفرض الديني والقومي والوطني على كل من يستطيع تصحيح
تاريخ صدر الإسلام أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات، وأن يبادر له,
ويجتهد فيه ما استطاع إلى أن يكون أمام شباب المسلمين مثال صالح من
سلفهم يقتدون به، ويجددون عهده، ويصلحون سيرتهم بصلاح سيرته1.
وهذا التوجيه يذكرنا بأثر ورد عن الصاحبي الجليل جابر بن عبد الله:
"إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم
العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم".
ـــــــ
126 من مقال "اليل المثالي" للأستاذ محب الدين الخطيب.
(1/42)
وقد كان أول من
سارع إلى القيام بهذا الواجب العلامة القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه
الله تعالى في كتابه العظيم: "العواصم من القواصم, في تحقيق مواقف
الصحابة بعد وفاة النبي، وتبرئتهم مما نسبه إليهم الملاحدة والمفسدون
والمضللون".
وقد كشف في هذا الكتاب عن نور الحق، وخذل الباطل، فإذا هو زاهق, وأضاء
المصباح بعدما كاد يخبو.
فإلى العالم الراقد في جدثه, الهانئ بمضجعه, تحفله مسحة من النور
الإلهي نهدي غاديات من الدعوات، ونستمطر وابلًا من الرحمات، فقد كان
بكتابه "العواصم من القواصم" كالبدر طلع علينا على خابط ليل ضل السبيل
وخانه الدليل، وكالغيث أصاب أرضًا قابلة, فأنبتت من كل زوج بهيج..
والعجب من كثير من علماء المسلمين أنهم نسوا كتاب "العواصم من
القواصم"*، فجعل الجيل المسلم الحقيقة التي تذبح على مائدة الخونة
والمتآمرين على الإسلام؛ ليضللوه وينفروه من سيرة الجيل المثالي؛ خشية
أن يقتدي به, ويحلِّق كما حلَّق سلفه من قبل في ذر المجد والعظمة,
فيعيد سيرة الإسلام الأولى.
لهذا كله رأينا أن نتحف بهذا الكتاب العظيم القراء؛ ليصحح الكثيرون
منهم ما تلقوه من معلومات خاطئة، آملين أن يضعوه بين أيدي أبنائهم
وبناتهم، لينجوا من الأفكار الخاطئة التي علقت في أذهانهم بسب الكتب
التي يتداولونها، والدروس التي يتلقونها، فيتخذوا من سيرة الصحابة
مثلًا عاليًا يحتذونه، وشحنة، بل شحنات قوية تدفع بهم إلى الأمام, إلى
آفاق العظمة والمجد والسؤدد، وإلى التشوق إلى حياة البطولة والجهاد
والشوق لرائحة الجنة.
ـــــــ
* المقصود من عنوان الكتاب: الحقائق التي تعصم المسلم من افتراءات
المفسدين القاصمة المدمرة، فتكشف عن أكاذيبهم وتجعلها هباء.
(1/43)
وزاد هذا
الكتاب روعة ونفعًا وإيضاحًا تعليقات فقيد الإسلام والعروبة العلامة
محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى, وأجزل ثوابه, وأسكنه فسيح جناته.
وقد أضفنا إليه بعض التحقيقات الحديثية والتاريخية، فجاء تحفة علمية,
ووثيقة تاريخية قليلة النظير.
والله سبحانه نسأل أن ينفع به ويدخر لنا ثوابه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ
مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
محمد مهدي الاستنابولي
(1/44)
تصدير للعلامة: محب الدين الخطيب: رحمه الله:
الحمد لله الذي أنعم على الإنسانية برسالة الإسلام، وصلى الله وسلم على
الإنسان الأعلى، والمعلم الأكمل، محمد بن عبد الله صفوته من خلقه،
وأعلى مقامَ الذين قاموا بتحقيق رسالته، ممن تشرفوا بصحبته، وأحسنوا
الخلافة على أمته، ومن واصلوا عملهم بعدهم، ملتزمين سنتهم، ومتحرين
أهدافهم، إلى يوم الدين.
وبعد فإن هذا العالم الإسلام الذي نعتز بالانتساب إليه، ونعيش لإسعاده
والسعادة به، قد افتتح أكثره في الدولة الإسلامية الأولى بعد الخلفاء
الراشدين، ودخل معظم شعوبه في هداية الإسلام على أيدي الخلفاء الأمويين
وولايتهم وقواد جيوشهم؛ إتمامًا لما بدأ به صاحبا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم, وخليفتاه الأولان -أبو بكر وعمر- سلام الله عليهما،
ورضي عنهما وأرضاهما، وأحسن جزاءهما عنا وعن الإسلام نفسه وجميع أهله.
وإن حادثة انتشار الإسلام، ودخول الأمم فيه، أصبحت في ذمة التاريخ،
والأجيال التي أتت بعد ذلك إلى يومنا هذا منهم من يفتخر بذلك، ويمتليء
قلبه سرورًا به، ويدعو بالخير لمن كانوا سبب هذا الخير العظيم، ومنهم
من ابتأس به، واملأ فؤاده حقدًا على الذين علموا فيه، وجعل من دأبه أن
يصمهم بكل نقيصة.
وقد نذر الذين لم يذوقوا حلاوة الإسلام، وحالت البيئة بينهم وبين الأنس
بعظمته، وشريف أغراضه، وسيرة الذين قاموا به، إذ نظروا إلى
(1/45)
تاريخ الإسلام
نظرةخاطئة، واتخذوا له في أذهانهم صورة غير صورته التي كانت له في
الواقع، ولكني أعترف -ولا فائدة من الإنكار- بأن في المنسوبين إلى
الاسلام من يبغض حتى الخليفة الأول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ, ويقلب جميع حسناته سيئات، وأن أحد الذين شاهدوا بأعينهم عدل
عمر،وزهده في متع الدنيا، وإنصافه لجميع الناس، لم يتسطع أن يمنع الحقد
الذي في فؤاده على الإسلام أن يدفعه إلى طعنه بالسكين دون أن يسيء
إليه، وفي قوم طاعن1 عمر بالسكين من يؤلفون المؤلفات إلى يومنا هذا في
تشويه حسنات هذا المثل الأعلى للعدل والإنسانية والخير, وفي عصر عثمان*
من ضاقت صدورهم بطيبة ذلك الخليفة الذي خلق قلبه من رحمة الله،
فاخترعوا له ذنوبًا، وما زالوا يكررونها على قلوبهم حتى صدقوها،
وتفننوا في إذاعتها، ثم استحلوا سفك دمه الحرام، في الشهر الحرام، بجور
قبر أبي زوجتيه محمد عليه الصلاة والسلام، وما برحت الإنسانية تشاهد
المعجزات من رجالات الإسلام في نشره, وإدخال الأمم فيه, وتوسيع النطاق
في الآفاق لكلمة: "الله أكبر... حي على الفلاح", حتى نودي بها على جبال
السند، في ربوع الهند، وعلى سواحل المحيط غربًا، وفي أودية أوربا
وجبالها، بما لم يملك أن يصفه حتى أعداء الإسلام إلا بأنه معجزة، كل
هذا في زمن هذه الدولة الأموية التي لو صدر عن المجوس، وعبدة الأوثان،
عشر ما صدر عنها من الخير، وجزء من مائة جزء مما أثر عن رجالها من
أنصاف ومروءة وكرم وشجاعة وإيثار وفصاحة ونبل، لرفعوا لأولئك المجوس
والوثنيين ألوية الثناء والتقدير في الخافقين، والتاريخ الصادق لا يريد
من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث
عن رجاله أن يذكر لهم حسناتهم على قدرها، وأن
ـــــــ
1 يحتفل بعض الزنادقة من كل عام في اليوم الذي استشهد فيه الخليفة عمر
على يد المجوسي أبي لؤلؤة الذي يعطونه لقب: "بابا شجاع", فيا للخيانة
الشنيعة والحقد الدفين. م.
* إن عصر عثمان رضي الله عنه هو من أسعد وأعظم العصور الإسلامية برخائه
وفتوحاته العظيمة, وقد حاول تشويهه أناس لا دين لهم, وأوضحنا ذلك في
الصفحات المقبلة.
(1/46)
يتقي الله في
ذكر سيئاتهم, فلا يبالغ فيها ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من
أكاذيبها.
نحن المسلمين لا نعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل من ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كاذب، فالإنسان إنسان، يصدر عنه ما
يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر، وقد
يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع فيعد من أهل الحق والخير، ولا
يمنع هذا من أن تكون له هفوات، وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر
بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدر منه
بوادر صالحات في بعض الأوقات.
يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات، أن لا يسيء ما
غلب عليهم من الحق والخير, فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات، ويجب
على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا لهم بوادر صالحات، أن لا يوهم
الناس أنهم من أهل الصالحات من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم
الصالحات.
إن أحداث المائة الأولى من عصور الإسلام كانت من معجزات التاريخ،
والعمل الذي عمله أهل المائة الأولى من ماضينا السعيد لم تعمل مثله أمة
الرومان، ولا أمة اليونان قبلها، ولا أمة من أمم الأرض بعدها.
أما أبو بكر وعمر، وسائر الخلفاء الأربعة الراشدين، وإخوانهم من العشرة
المبشرين بالجنة، وطبقتهم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، خصوصًا الذين لازموه، وراقبوه وتمتعوا بجميل صحبته "من أنفق
منهم من قبل الفتح وقاتل، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا" فإنهم جميعا
كانوا شموسًا طلعت في سماء الإنسانية مرة، ولا تطمع الإنسانية بأن يطلع
في سماءها شموس من طرازهم مرة أخرى، إلا إذا عزم المسملون على أن
يرجعوا إلى فطرة الإسلام، ويتأدبوا بأدبه من جديد، فيخلق الله منهم
(1/47)
خلقًا آخر يعيش
للحق والخير، ويجاهد الباطل والشر، حتى تعرف الإنسانية طريقها الحقيقي
إلى السعادة، وهذه الشموس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
تتفاوت أقدارها، وتتباين في أنواع فضائلها، إلا أنها كلها كانت من
الفضائل في مرتقى درجاتها, وإذا بدأ المشتغلون بتاريخ الإسلام من أفاضل
المسلمين في تمييز الأصيل عن الدخيل من سيرة هؤلاء الأفاضل العظماء،
فإنهم ستأخذهم الدهشة لما اخترعه إخوان أبي لؤلؤة، وتلاميذه عبد الله
بن سبأ، والمجوس الذين عجزوا عن مقاومة الإسلام وجهًا لوجه في قتال
شريف، فادعوا الإسلام كذبًا، ودخلوا قلعته مع جنوده خلسة، وقاتلوهم
بسلاح "التقية", بعد أن حولوا مدلولها إلى النفاق، فأدخلوا في الإسلام
ما ليس منه، وألصقوا بسيرة رجاله ما لم يكن فيها, ولا من سجية أهلها،
وبهذا تحولت أعظم رسالات الله وأكملها إلى طريقة من الخمول والعطالة
والجمود كان من حقها أن تقتل الإسلام والمسملين قتلًا، لولا قوة
الحيوية الخارقة التي في الإسلام، وهي التي يرجى -إذا رجعنا إلينا،
وجردناها من الطوارئ عليها، وخلصنا سيرة رجالها مما شيبت به، وسرنا في
طريقهم مخلصين- أن نعود مسلمين من ذلك الطراز الأول كما كان في الواقع،
لا كما أراد مبغضوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن يعرضوه على الناس.
ونحن بتقديمنا هذه الحقائق من قلم الإمام ابن العربي، أو من النصوص
الأصلية التي علقنا بها عليها، إنما أردنا عكس ما يريد المتعرضون لهذه
البحوث من ترديد خلافات عفى عليها الزمن، والصحابة كانوا أسمى أخلاقًا,
وأصدق إخلاصًا لله, وترفعا عن خسائس الدنيا من أن يختلفوا للدنيا، لكن
كان في عصرهم من الأيدي الخبيثة التي عملت على إيجاد الخلاف وتوسيعه،
مثل الأيدي الخبيثة التي جاءت فيما بعد فصورت الوقائع بغير صورتها،
ولما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم قدوتنا في ديننا،
وهم حملة الكتاب الإلهي والسنة المحمدية إلى الذين حملوا عنهم أماناتها
حتى وصلت إلينا، فإن من حق هذه الأمانات على أمثالنا أن ندرأ عن سيرة
حفظتها الأولين كل ما ألصق بهم من إفك ظلمًا وعدوانًا؛ لتكون
(1/48)
صورتهم التي
تعرض على أنظار الناس هي الصورة النقية الصادقة التي كانوا عليها، فتحس
القدوة بهم, وتطمئن النفوس إلى الخير الذي ساقه الله للبشر على أيديهم،
وقد اعتبر في التشريع الإسلامي أن الطعن فيهم طعن في الدين الذي هم
رواته، وتشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها, وتشكيك في جميع الأسس
التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة، وأول
نتائجه حرمان شباب الجيل، وكل جيل بعده، من القدوة الصالحة التي مَنَّ
الله بها على المسلمين؛ ليتأسوا بها، ويواصلوا حمل أمانات الإسلام على
آثارها، ولا يكون ذلك إلا إذا ألَمُّوا بحسناتهم، وعرفوا كريم سجاياهم،
وأدركوا أن الذين شوهوا تلك الحسنات, وصوروا تلك السجايا بغير صورتها،
إنما أرادوا أن يسيئوا إلى الإسلام نفسه بالإساءة إلى أهله الأولين،
وقد آن لنا أن ننتبه من هذه الغفلة فنعرف لسلفنا أقدارهم؛ لنسير في
حاضرنا على هدًى ونور من سيرتهم الصحيحة وسريرتهم النقية الطاهرة.
وهذا الكتاب الذي ألفه عالم من كبار أئمة المسلمين؛ بيانًا لما كان
عليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفات
الكمال, وإدحاضًا لما ألصق بهم وبأعوانهم من التابعين لهم بإحسان، يصلح
على صغره لأن يكون صيحة من صيحات الحق, توقظ الشباب المسلم إلى هذه
الدسيسة التي دسها عليهم أعداء الصحابة ومبغضوهم؛ ليتخذوها نموذجًا
لأمثالها من الدسائس، فيتفرغ الموفقون إلى الخير منهم لدراسة حقيقة
التاريخ الإسلامي واكتشاف الصفات النبيلة في رجاله، فيعلموا أن الله عز
وجل قد كافأهم عليها بالمعجزات التي تمت على أيديهم وأيدي أعوانهم في
إحداث أعظم انقلاب عرفه تاريخ الإنسانية، ولو كان الصحابة والتابعون
بالصورة التي صورهم بها أعداؤهم ومبغضوهم, لكان من غير المعقول أن تتم
على أيديهم تلك الفتوح، وأن تستجيب لدعوتهم الأمم بالدخول في دين الله
أفواجًا.
والقاضي أبو بكر ابن العربي مؤلف "العواصم من القواصم" إمام من أئمة
المسلمين، ويعتبره فقهاء مذهب الإمام مالك أحد أئمتهم المقتدى
بأحكامهم، وهو من شيوخ القاضي عياض مؤلف كتاب "الشفا في التعريف بحقوق
المصطفى"، ومن شيوخ ابن رشد العالم الفقيه والد أبي الوليد
(1/49)
الفيلسوف، ومن
تلاميذه عشرات من هذه الطبقة كما سترى من ترجمته الآتية بعد**, وكتابه
"العواصم من القواصم"، من خيرة كتبه، ألفه سنة 536 هـ, وهو في دور
النضج الكامل بعد أن امتلأت الأمصار بمؤلفاته وبتلاميذه الذين صاروا في
عصرهم أئمة يهتدى بهم، وهذا الكتاب في جزئين متوسطي الحجم، ومبحث
الصحابة الذي نقدمه لقرائنا هو أحد مباحث جزئه الثاني من صـ 98 إلى صـ
193 من طبعة المطبعة الجزائرية الإسلامية في مدينة قسنطينة بالجزائر
سنة 1347, كان قد وقف على تلك الطبعة شيخ علماء الجزائر الأستاذ عبد
الحميد بن باديس رحمه الله، ومما يؤسف له أن الأصل الذي اعتمد عليه في
تلك الطبعة كان مكتوبًا بقلم ناسخ غير متمكن، فوقعت فيه تحريفات لفظية
وإملائية حرصنا على ردها إلى أصلها، بل إن النسخة المخطوطة التي طبعت
عليها طبعة الجزائر يظهر أن المجلِّد وضع بعض ورقاتها في غير موضعها،
فأرجعناها إلى ما دل عليه السياق في القول، والترتيب في المسائل، وفيما
عدا ذلك التزمنا الأمانة في عرض الكتاب إلى أقصى غاية، وعلقت على كل
بحث منه بما يزيده وضوحًا، مقتبسًا ذلك من أوثق المراجع وأمهات الكتب
الإسلامية المعتمدة، مبينًا في كل نص مأخذه بكل أمانة ووضوح.
وأرجو أن يجزل ثواب الإمام ابن العربي على دفاعه هذا عن أصحاب رسول
الله الذين حملوا معه صلى الله عليه وآله وسلم أعظم رسالات الله،
وكانوا أصدق أعوانه على تبليغها في حياته وبعد أن اختاره الله إليه، بل
كانوا سبب كياننا الإسلامي، ولهم ثواب انتمائنا إلى هذه الملة الحنيفية
السمحة التي لا عيب لها غير تقصيرنا في التخلق بآدابها في أنفسنا،
وتعميم سننها في بيوتنا ومجتمعنا وأسواقنا ومحاكمنا ودور حكمنا، وعسى
أن يكون في قراء هذا الكتاب من يعاهد الله على أن يكون خير منا عملًا
وأصح منا علمًا، وعلى الله قصد السبيل.
محب الدين الخطيب*
ـــــــ
** نلفت نظر القارئ أن الترجمة المثبتة من إعداد المكتب السلفي للتراث,
وقد رتبناها على أبواب جديدة مما يجعلها أكثر فائدة "س" .
* توفى العلامة محب الدين الخطيب -رحمه الله- سنة 1389هـ.
(1/50)
مقدمة المؤلف
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله [وسلم]
قال صالح بن عبد الملك بن سعيد:
قرأت على الإمام محمد بن أبي بكر بن العربي1 رضي الله عنه قال:
الحمد لله رب العالمين2 اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على
إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل
إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا [نستدعي من رضاك] المنحة، كما نستدفع بك المحنة، ونسألك
العصمة، كما نستوهب منك الرحمة.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العمل كما علمتنا، وأوزعنا
شكر ما آتيتنا، وانهج لنا سبيلا [تهدي] إليك، وافتح بيننا وبينك بابًا
نَفِدُ منه عليك، لك مقاليد السموات والأرض وأنت على كل شيء قدير.
ـــــــ
1 هو غير "ابن العربي" المتصوف الذي يكتب اسمه نكرة "م".
2 بهذا التحميد، والدعاء السديد، افتتح الإمام ابن العربي الجزء الأول
من كتابه "العواصم من القواصم"، فافتتحنا به هذا القسم من جزئه الثاني
من صـ 98 إلى صـ 193 من مطبوعة الجزائر سنة 1347, وهو ما اخترنا إفراده
بهذا السفر خاصًا بتحقيق مواقف الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما أشرنا إلى ذلك في تصدير
الكتاب. "خ".
(1/53)
|