العواصم من القواصم - ط دار الجيل
الباب الثاني
قاصمة
المظالم والمناكير التي ادعوها على عثمان
...
قاصمة:
قالوا [مبعدين]67، متعلقين برواية كذابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم
ومناكير، منها:
1- ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه.
2- ولابن مسعود حتى كسر أضلاعه، ومنعه عطاءه.
3- وابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف.
4- وحمى الحمى.
5- وأجلى أبا ذكر إلى الربذة.
6- وأخرج من الشام أبا الدرداء.
7- ورَدَّ الحكم بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
9- 12- وولَّى معاوية، "وعبد الله بن عامر بن كريز"68، ومروان، وولَّى
الوليد بن عقبة، وهو فاسق ليس من أهل الولاية.
ـــــــ
= قد يجنح معها إلى الهوى، ذكروا ذلك في ترجمته؛ ليكون دارس أخبارهم
ملمًّا بنواحي القوة والضعف من هذه الأخبار، والذين يتهجمون على
الكتابة في تاريخ الإسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن يستكملوا العدة لذلك
-ولاسيما في نقد الرواة ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم-
يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا فيها لو أنهم استكملوا
وسائل العلم بهذه النواحي."خ".
67 في ب، ج، ز= مبعدين، وكتب على هامش "ز" في نسخة "مفترين" وغيَّرها
الشيخ محب الدين الخطيب إلى "متعدين". "س".
68 سقط اسم بن كريز من الأصل سهوا من الناسخ أو من الطابع في مطبوعة
الجزائر، مع أنه ذكر في الدفاع الآتي بعد، ومطبوعة الجزائر طبعت على
أصل سقيم بخط ناسخ غير متمكن، وقد وقع تقديم وتأخير في ترتيب التهم
وأجوبتها، ويلوح لنا أن مجلد الأصل المخطوط الذي طبعت عليه مبطوعة
الجزائر وضع بعض الورق في غير مواضعه عند التجليد، فأعدنا ترتيب التهم
وأجوبتها على نسق، ولم نزد على الأصل كلمة ولم ننقص منه كلمة، وبذلك
تلافينا الاضطراب الذي كان باديًا للقارئ في المطبوعة الجزائرية."خ".
(1/76)
13- وأعطى
مروان خمس أفريقية.
14- * وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا69.
15- وعلا على درجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد انحط عنها
أبو بكر وعمر.
16- ولم يحضر بدرًا، وانهزم يوم أحد، وغاب عن بيعة الرضوان.
17- ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان "الذي أعطى السكين إلى أبي
لؤلؤة، وحرضه على قتل عمر حتى قتله".
18- وكتب مع عبده على [جهله] كتابا إلى ابن أبي سرح في قتل من ذكر
فيه70.
ـــــــ
69 الدرة عصا صغيرة يحملها السلطان يزع بها.خ
* هذه الأرقام المسلسلة من عمل الشيخ محب الدين الخطيب، وليست من عمل
المؤلف رحمهما الله."س".
70 تصرف الشيخ محب فأخر قوله: وكتب مع عبده علي جهله [وعنده "خ": جمله]
كتاب إلى..." وقال: إنه رتب التهم على نسق ،ولكن جميع النسخ جاءت على
خلاف ما تصرف فيه. فقدم وآخر صفحات بأكملها- ولا حول ولا قوة إلا
بالله."س".
(1/77)
عاصمة
بيان بطلان هذه الدعاوى سندا ومتنا
...
عاصمة:
هذا كله باطل سندًا ومتنًا، أما قولهم: "جاء عثمان بمظالم ومناكير
فباطل"71.
1-2 وأما ضربه لعمار وابن مسعود ومنعه عطاءه فزور72،
ـــــــ
72 كما ترى من الأدلة التي سيوردها المؤلف في نقض هذه التهم واحدة بعد
واحدة حتى يأتي على آخرها."خ".
73 تقدم في هاشم صـ 70 قول عبد الله بن مسعود لما بوقع عثمان: "بايعنا
خيرنا ولم نألُ" ويروي "ولينا أعلانا، ذا فوق ولم نألُ"، وعند ولاية
عثمان كان ابن مسعود واليًا لعمر على أموال الكوفة، وسعد بن أبي وقاص
واليًا على صلاتها وحربها، فاختلف سعد وابن مسعود على قرض استقرضه سعد
-كما سيأتي-، فعزل عثمان سعدًا وأبقى ابن مسعود، وإلى هنا لا يوجد
(1/77)
موقف عثمان من عبد الله بن مسعود
...
وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدًا74.
ـــــــ
= بين ابن مسعود وخليفته إلا الصفو، فلما عزم عثمان على تعميم مصحف
واحد في العالم الإسلامي يجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على أنه هو المصحف الكامل الموافق لآخر عرضة عرض بها كتاب الله عز وجل
على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته، كان ابن مسعود يود لو أن
كتابة المصحف نيطت به، وكان يود أيضًا لو يبقى مصحفه الذي كان يكتبه
لنفسه فيما مضى، فجاء عمل عثمان على خلاف ما كان يوده ابن مسعود في
الحالتين: أما في اختيار عثمان زيد بن ثابت لكتابة المصحف الموحد فلأن
أبو بكر وعمر اختارا زيد بن ثابت في البداية؛ لأنه هو الذي حفظ العرضة
الأخيرة لكتاب الله على الرسول صلى الله عليه قبيل وفاته، فكان عثمان
على حق في هذا، وهو يعلم كما يعلم سائر الصحابة مكانة ابن مسعود وعلمه
وصدق إيمانه، ثم كان على حق أيضًا في غسل المصاحف الأخرى كلها ومنها
مصحف ابن مسعود؛ لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان في استطاعة
البشر هو من أعظم أعمال عثمان بإجماع الصحابة، وكان جمهور الصحابة في
كل ذلك مع عثمان على ابن مسعود "انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن
تيمية: 191:3-192".
وعلى كل حال فإن عثمان لم يضرب ابن مسعود ولم يمنعه عطاءه، وبقى يعرف
له قدره كما بقى ابن مسعود على طاعته لإمامه الذي بايع له، وهو يعتقد
أنه خير المسلمين وقت البيعة."خ".
73 روى الطبري: 99:5 عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة
بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب. قلت: وهذا مما
يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده، وكم فعل عمر مثل
ذلك بأمثار عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية على
المسلمين، ولما نظم السبأيون حركة الإشاعات، وصاروا يرسلون الكتب من كل
مصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة، فأشار الصحابة على عثمان بأن
يبعث رجالًا ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال،
تناسى عثمان ما كان بينه وبين عمار وأرسله إلى مصر؛ ليكون موضع ثقته في
كشف حالها، فأبطأ عمار في مصر، والتف به السبأيون؛ ليستميلوه إليهم،
فتدارك عثمان وعامله في مصر هذا الأمر وجيء بعمار إلى المدينة مكرمًا،
وعاتبه عثمان لما قدم عليه فقال له على ما رواه الحافظ ابن عساكر في
تاريخ دمشق 429:7: يا أبا اليقظان قذفت ابن أبي لهب أن قذفك، وغضبت علي
أن أخذت لك بحقك وله بحقه، اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة،
اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي، أخرج عني يا
عمار فخرج، فكان إذا لقى العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك، وإذا لقي
من يأمنه أقر
(1/78)
وقد اعتذر عن
ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن تشتغل بها؛ لأنها مبنية على باطل74، ولا
يبنى حق على باطل، ولا تُذْهِب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا
آخر له.
ـــــــ
= بذلك وأظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه. قال شيخ الإسلام ابن
تيمية في منهاج السنة: 192:3-193: وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه، وهو
أفضل من ابن مسعود، وعمار، وأبي ذر، ومن غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت
ذلك بالدلائل، فليس جعل الكلام المفضول قادحًا في الفاضل بأولى من
العكس. وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان، وقول الحسن فيه "أي في
عمار". نقل أن عمارًا قال: لقد كفر عثمان كفرة صلعاء، فأنكر الحسن بن
علي ذلك عليه، وكذلك علي وقال له: "يا عمار، أتكفر برب أمن به عثمان؟"
قال ابن تيمية: وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي الله قد
يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي الله، ويكون مخطئًا في هذا
الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته، كما ثبت فيء
الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: "إنك منافق تجادل عن المنافقين"، وكما قال عمر بن الخطاب
لحاطب بن أبي بلتعة: "دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق"، فقال
صلى الله عليه وآله وسلم : "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع
على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فعمر أفضل من عمار،
وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة، بدرجات كثيرة، وحجة عمر فيما قال
لحاطب أظهر من حجة عمار، ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة، فكيف لا يكون
عثمان وعمار من أهل الجنة، وإن قال أحدهما للآخر ما قال. مع أن طائفة
من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك.... ثم قال شيخ الإسلام: وفي
الجملة، فإذا قيل أن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمارًا فهذا لا يقدح في
أحد منهم، فإنَّا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء
الله المتقين، وأن ولي الله قد يصدر عنه ما يستحق عليه العقوبة
الشرعية، فكيف بالتعزير، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما
رأى الناس يمشون خلفه وقال: "هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع"، فإن كان
عثمان أدب هؤلاء، فإما أن يكون عثمان مصيبًا في تعزيرهم؛ لاستحقاقهم
ذلك، ويكون ذلك الذي عُزِّروا عليه تابوا منه، وكفر عنهم بالتعزير
وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك. وأما إن يقال كانوا
مظلومين مطلقًا، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة؛ فإنه أفضل منهم،
وأحق بالمغفرة والرحمة... إلخ."خ".
74 أي على ادعاء الكاذبين أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن أمير المؤمنين عثمان ضرب عمارًا حتى فتق أمعاءه، وضرب ابن
مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه."خ".
(1/79)
موقف عثمان من عمار بن ياسر
...
3- وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى، وخصلته الكبرى، وإن كان وجدها
كاملة، لكنه أظهره ورَدَّ الناس إليها، وحسم مادة الخلاف فيها، وكان
نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه حسبما بينَّا في كتب القرآن
وغيرها75.
روى الأئمة بأجمعهم76 أن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل
اليمامة77، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: أن عمر أتاه فقال:
إن القتل استحرَّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن
ـــــــ
= 75 قد قمنا بعمل ترجمة جديدة لابن العربي فانظر هذه الكتب مفصلة
فيها."س".
76 وفي مقدمته الإمام أحمد في مسنده: 13:1 الطبعة الأولى- رقم76 الطبعة
الثاني، و188:5-189 الطبعة الأولى، والإمام البخاري في صحيحه كتاب
التفسير: ك 65 السورة 9 ب، 20 ج، 5 صـ 210-211.
وكتاب فضائل القرآن: ك 66 ب 3، و4 ج 6، صـ 98-99. وكتاب الأحكام: ك 93
ب 37، ج 8، صـ 118-119. وكتاب التوحيد: ك 97 ب 22، ج 8، صـ
176-177."خ".
77 وذلك لما ارتدت بنو حنيفة برئاسة مسليمة الكذاب وبتحريض عدو الله
الرجال بن عنفوة بن نهشل الحنفي، وكانت قيادة المسلمين لسيف الله خالد
بن الوليد، واستشهد في هذه الملحمة زيد بن الخطاب أخو عمر، وكان حفظة
القرآن من الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل
السحر اليوم، وتحنط خطيب الأنصار وحامل ولائهم ثابت بن قيس، ولبس كفنه،
وحفر لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه، ولم يزل يقاتل وهو ثابت بالراية
في موضعه حتى استشهد، وقال المهاجرون لسالم موبى أبي حذيفة: أتخشى أن
نؤتى من قبلك؟ فأجاب: بئس حامل القرآن أنا إذن, وقاتل حتى استشهد، وقال
أبو حذيفة: زينوا القرآن بالفعال، وما زال يقاتل حتى أصيب، وممن استشهد
يومئذ حزن بن أبي وهب المخزومي جد سعيد بن المسيب وكان شعار الصحابة
يومئذ: وامحمداه؛ وصبروا يومئذ صبرًا لم يعهد مثله حتى ألجأوا المرتدين
إلى حديقة الموت، فاعتصم فيها مسيلمة ورجاله، فقال البراء بن مالك: يا
معشر المسلمين، ألقوني عليهم في داخل الحديقة أفتح لكم بابها، فاحتملوه
فوق الجحف ورفعوه بالرماح وألقوه في الحديقة من فوق سورها، فمازال
يقاتل المردتين دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون
=
(1/80)
جمع القرآن حسنة عثمان العظمة وخصلته الكبرى
...
يستحرَّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن
تجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله
صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر"، قال زيد: قال [لي] أبو بكر:
أنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من
الجبال ما كان أثقل على مما [كلفاني وأمراني] به من جمع القرآن، قلت:
كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله وآله وسلم؟ قال عمر:
"هذا والله خير"، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر
أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال78،
حتى وجدت آخر سورة التوبة مع [أبي] خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد
غيره : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حتى خاتمة
براءة.
فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند
حفصة بنت عمر، حتى قدم حذيفة بن اليمان على عثمان79، وكان يغازي أهل
الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، [فأفزع] حذيفة اختلافهم
في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل
أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن
أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها.
ـــــــ
= وكان النصر، وممن اقتحم الحديثة أبو دجانة من مجاهدي بدر حتى وصل إلى
مسليمة وعلاه بالسيف فقتله، وكسرت رجله رضي الله عنه في تلك الوقعة ثم
نال الشهادة، وفي البداية والنهاية: 334:6-340 أسماء كثيرين من شهداء
هذا اليوم العظيم في الإسلام، ومنهم حفظة كتاب الله."خ".
78 العسب: جمع عسيب أي جريدة النخل، وهي السعفة التي لا ينبت عليها
الخوص، واللخاف: جمع لخفة وهي حجارة بيض رقاق، كانوا يكتبون عليهما إذا
تعذر الورق."خ".
79 وحديثه عن ذلك في صيح البخاري: ك 66، ب 3-ج 6، صـ 99 عن ابن شهاب
الزهري عن أنس بن مالك."خ".
(1/81)
وقعة اليمامة وستمائة حملة القرآن من الصحابة في تلك المعركة
...
إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله ابن
الزبى، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في
المصاحف80.
ـــــــ
80 العناية التي بذلها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر، وأتمها أخوهما
وصنوهما ذو النورين عثمان في جمع القرآن وتثبيته وتوحيد رسمه، كان لهم
بها أعظم المنة على المسلمين، وبها حقق الله وعده في قوله سبحانه:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقد
تولى الخلافة بعد هؤلاء الشيوخ الثلاثة أمر المؤمنين علي فأمضى عملهم،
وأقر مصحف عثمان برسمه وتلاوته، في جميع أمصار ولايته، وبذلك انعقد
إجماع المسلمين في الصدور الأولى على أن ما قام به أبو بكر وعمر وعثمان
هو أعظم حسناتهم، بل نقل بعض علماء الشيعة هذا الإجماع على لسان أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب. جاء في كتاب تاريخ القرآن لأبي عبد الله
الزنجاني "صـ 46" أن علي بن موسى المعروف بابن طاوس "589-664"، وهو من
علمائهم نقل في كتابه سعد السعود عن الشهرستاني في مقدمة تفسيره عن
سويد بن علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: "أيها
الناس، الله، ا لله، إياكم والغلو في أمر عثمان، وقولكم: حراق المصاحف،
فوالله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، جمعنا، وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها،
يلقى الرجل الرجل فيقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يجر إلى الكفر؟
فقلنا: ما الرأي؟ قال: أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن
اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافًا، فقلنا: نعم ما رأيت، ومما لا
ريب فيه أن البغاة أنفسهم كانوا في خلافة علي رضي الله عنه يقرأون في
مصاحف عثمان التي أجمع عليها الصحابة وعلي فيهم، لكن نجم لهم أذناب في
العصور التالية فضحوا أنفسهم بسخفهم وكفرهم، كشيطان الطاق محمد بن جعفر
الرافضي فيما رواه الإمام ابن حزم في "الفصل" 181:4 عن الجاحظ قال:
أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قالا لمحمد بن
جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق: ويحك، أما استحييت من الله أن تقول
في كتابك في الإمامة: أن الله تعالى لم يقل قط في القرآن : {ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا
تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ؟قالا: فضحك والله شيطان الطاق ضحكًا
طويلًا حتى كأنا نحن الذين أذنبنا، وشيطان الطاق هذا أكبر دعاة الشيعة
في زمن الإمامين زيد وأخيه جعفر الصادق، وهو الذي ابتدع أكذوبة أن
الإمامة معهود بها إلى أشخاص بأعيانهم، ولم يكن أحد يقول بذلك قبل
شيطان الطاق هذا، وأنكرها عليه الإمام زيد في مجلس جعفر.
ودعوى الرافضة بتبديل القرآن، مع تصريح علي بإجماع الصحابة على ما قام
به عثمان، صارت مادة دسمة لدعاة النصارى يحتجون بها، فقال لهم
=
(1/82)
ابن طاوس الشيعي يروي عن علي إجماع الصحابة على مصحف عثمان
...
وقال عثمان للرهط القرشين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في
شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم" ففعلوا.
حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى
كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن
يحرق.
قال ابن شهاب81: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت
قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقرأ بها، فالتمسانها فوجدناها مع خزيمة الأنصاري
{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ} فألحقناها في سورتها في المصحف.
وأما ما روى أنه أحرقها أو خرقها -بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة،
وكلاهما جائز- إذا كان في بقائها فساد، أو كان فيها ما ليس من القرآن
أو ما نسخ منه، أو على غير نظمه، وقد83 سلم في ذلك الصحابة كلهم83
ـــــــ
= الإمام ابن حزم في الفصل 78:2: "أن الروافض ليسوا من المسلمين... وهي
طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر"، قلت: وآخر من افتضح
منهم بهذا الأمر وفضح به الشيعة جميعًا حسين بن محمد تقي النوري
الطبرسي بكتابه الذي اقترفه في المشهد المنسوب لأمير المؤمنين علي في
النجف سنة 1292، وطبع في إيران سنة 1298، وعندي نسخة منه، وأن من طبيعة
التحزب والتعصب والتشيع أن يذهب بعقول أصحابه وأخلاقهم، ثم يذهب
بحياتهم ودينهم، كما برهن على ذلك علم النفس الاجتماعي، وفي مقدمته
الدكتور غوستاف لوبون. "خ".
81 فيما رواه عنه الإمام البخاري في صحيحه: ك 56 ب 12 ج 3، صـ 205-206،
وك 64 ب 17 ج5، صـ 31، وك 65 السورة 9ب20 والسورة 33ب3، وك 66 ب3، 4،
وك 93 ب97، و ك 97 ب22 خ.
82 في جميع النسخ "وقد"، فأصلحها الشيخ محب الدين الخطيب "فقد"، ولكنه
لم ينص على ذلك "صفحة 71". "س".
83 ولقد حاول بعض الناس أن يلوموا عثمان رضي الله عنه على أمره بإحراق
المصاحف، فقال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو لم يصنعه
=
(1/83)
عبد الله بن مسعود ومصحفه
...
إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال: أما بعد فإن الله قال:
{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة} ، وإني غالٌّ
مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغلَّ مصحفه فليغلَّ، وأراد ابن مسعود أن
يؤخذ بمصحفه، وأن يثبت ما يعلم فيه، فلما لم يفعل ذلك له قال ما قال،
فأكرهه عثمان على رفع مصحفه، ومحا رسومه، فلم تثبت له قراءة أبدًا،
ونصر الله عثمان والحق بمحوها من الأرض84.
4- وأما أمر الحِمَى، فكان قديمًا85، فيقال أن عثمان زاد فيه
ـــــــ
= عثمان لصنعته أنا"، فجزى الله عثمان عن الأمة خير الجزاء، فقد أحسن
وبرَّ فيما صنع، وكان له فضل في رد الناس إلى قراءة واحدة كفضل أبي بكر
في جمع القرآن راجع الإتقان للسيوطي."م".
84 عبد الله بن مسعود من كبار علماء الصحابة ومن أجودهم قراءة لكتاب
الله، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة على حسن تلاوة
ابن مسعود للقرآن، فتسارع أبو بكر وعمر ليوصلا إليه البشرى بهذا الثناء
النبوي، انظر مسند أحمد: 25:1-26 الطبعة الأولى- رقم 175 الطبعة
الثانية، إلا أن ابن مسعود كان يكتب ما يوحي من القرآن في مصحفه كلما
بلغه نزول آيات منه، فهو يختلف في ترتيب هذه الآيات عما امتازت به
مصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض الأخير على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بقدر ما أدى إليه اجتهاد الصحابة المؤيد بإجماعهم، ويحتمل أن
يكون ابن مسعود فاته في مصحفه بعض ما استقصاه زيد بن ثابت وزملاؤه من
الآيات التي كانت عند آخرين من قراء الصحابة، زد على ذلك أن ابن مسعود
كان تغلب عليه لهجة قومه من هذيل، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص
لمثل ابن مسعود أن يقرأوا بلهجاتهم، ولكن ليس لابن مسعود أن يحمل الأمة
في زمنه والأزمان بعده على لهجته الخاصة، فكان من الخير توحيد* الأمة
على قراءة كتاب ربها باللهجة المضرية التي كان عليها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم.
85 كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضًا في حيه استعوى كلبًا، فحمى
لخيله وإبله وسوائمه مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، فلما جاء
الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حِمَى إلا لله ورسوله"
رواه البخاري
=
ـــــــ
* قال ابن كثير في فضائل القرآن: "ادعى الطحاوي والباقلاني وابن عبد
البر أن قراءة القرآن على سبع لغات كان رخصة في أول الأمر، ثم نسخ
بزوال العذر وتيسر الحفظ وكثرة الضبط وتعلم الكتابة"."م".
(1/84)
أبو ذر ومسيره إلى الربذه
...
لما زادت الرعية، واجتاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة؛ لزيادة
الحاجة.
5- وأما نفيه* أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل 86، كان أبو ذر زاهدًا،
ـــــــ
من حديث الصعب بن جثامة في كتاب المساقاة: ك 42 ب 11، وكتاب الجهاد: ك
56 ب 146 من صحيحه، ورواه الإمام أحمد في مسنده: 71:4 و73 الطبعة
الأولى، من حديث الصعب بن جثامة أيضًا، وقد حمى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم مكانًا يسمى "النقيع" وهو "نقيع الخضمات" كما في مسند
الإمام أحمد: 91:2، 155، 157 الطبعة الأولى- رقم 5655 و 6438 و 6464
الطبعة الثانية من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر العمري عن نافع
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمى النقيع للخيل، قال
حماد بن خالد راوي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري: يا أبا عبد
الرحمن خيله؟ قال: خيل المسلمين "أي المرصودة للجهاد، أو ما يملكه بيت
المال". والنقيع هذا في المدينة على عشرين فرسخًا منها ومساحته ميل في
ثمانية أميال كما في موطأ مالك برواية ابن وهب، ومعلوم أن الحال استمر
في خلافة أبي بكر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم؛ لأن أبا بكر لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في زمن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، لا سيما وأن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت
عن قبل.
وفي زمن عمر اتسع الحمى، فشمل "سرف" "والربذة"، وكان لعمر عامل على
الحمى هو مولى له يدعى هنيًّا، وفي كتاب الجهاد من صحيح البخاري: ك 56
ب 180 من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية أمير المؤمنين عمر لعامله
هذا على الحمى بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن
عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة؛ لئلا تهلك ماشيتهما.
وكما اتسع عمر في الحمى عما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وأبي بكر؛ لزيادة سوائم بيت المال في زمنه، اتسع عثمان بعد ذلك؛
لاتساع الدولة وازدياد الفتوح، فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لسوائم بيت المال، ومضى على مثله أبو بكر وعمر، يجوز مثله لبيت
المال في زمن عثمان، ويكون الاعتراض عليه اعتراضًا على أمر داخل
التشريع الإسلامي، ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه
على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات
المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما
منعوا ولا نحوا منها أحدًا. وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان
أكثر العرب بعيرًا وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل من
يعرف ذلك من الصحابة: أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم."خ".
86 وإنما اختار أبو ذر أن يعتزل في الربذة فوافقه عثمان على ذلك، كما
سيأتي في صـ 88، وأكرمه وجهزه بما فيه راحته."خ".
* وفي نسخة "د": بعثه."س".
(1/85)
وكان يقرِّع
عمال عثمان، ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس
حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم، وهو
غير لازم. قال ابن عمر وغيره من الصحابة [وهو الحق]*: إن ما أديت
زكاته، فليس بكنز87، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام88، فخرج إلى
المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: لو
اعتزلت. معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطًا
وللعزلة مثلها، ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه،
أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى
الربذة زاهدًا فاضلًا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال
أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا89، فسبحان
مرتب المنازل.
ـــــــ
* زيادة من نسخة "د"."س".
87 انظر البيان الفقهي والتفصيل الشرعي لهذه المسألة في منهاج السنة
لشيخ الإسلام ابن تيمية: 198:3-199."خ".
88 نقل الطبري: 66:5 وأكثر المصادر الإسلامية أنه لما ورد ابن السوداء
"عبد الله بن سبأ" الشام لقى أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب إلى
معاوية يقول: المال مال الله، إلا إن كل شيء لله كأنه يريد أن يحتجنه
دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين، فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن
تسمى مال المسلمين مال الله؟ قال معاوية: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا
عباد الله؟، والمال ماله؟، والخلق خلقه؟، والأمر أمره؟، قال أبو ذر:
فلا تقله، قال معاوية: فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال
المسلمين، وأتى ابن السوداء "عبد الله بن سبأ" أبا الدرداء، فقال له
أبو الدرداء: من أنت أظنك والله يهوديًا، فأتى ابن سبأ عبد الله بن
الصامت، فتعلق به ابن الصامت فأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث
عليك أبا ذر."خ".
89 الذي تحصل عندي من تتبع نصوص الشريعة في أمر المال، ومراقبتي لتطبيق
هذه النصوص في سيرة السلف وعملهم بها، أن المسلم له في نفسه وذويه من
المال الذي يملكه ما يكفيه ويكفيهم بالمعروف كأمثاله وأمثالهم من أهل
العفة والقناعة والدين، وما زاد عن ذلك فعليه أولًا أن يؤدي زكاته
الشرعية مباشرة بحسب اجتهاده إن لم يكن أداها للحكومة الإسلامية
العاملة بأحكام الشرع. وبعد أداء زكاته يكون صاحب المال في امتحان من
الله كيف
=
(1/86)
ومن العجب أن
يؤخذ عليه في أمر فعله عمر، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سجن
ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استشهد، فأطلقهم عثمان؛
وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم90.
ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام، وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن
يقوله في زمان عمر، فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي من العامة أن تثور
منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها
ـــــــ
= يحسن التصرف فيه يما يرضى الله، ويزيد المسلمين قوة وسعادة وعزًّا،
فإن كان تاجرًا فمن طريق التجارة، أو مزارعًا فمن طريق الزراعة، أو
صاحب مصنع فمن طريق الصناعة، والإسلام في دور قيامه استفاد من ثروة
أغنياء الصحابة عونًا ويسرًا وقوة، وتجارة التاجر المسلم إذا أغنت
المسلمين عن متاجر أعدائهم تعتبر قوة لهم بقدر ما يصدق صاحبها في هذه
النية، وكذلك مصنع الصانع المسلم، وزراعة الزارع المسلم، والنية في هذه
الأمور أمرها عظيم، وميزانها العمل عندما تمس الحاجة إليه، وبالجملة
فإن للمسلم أن يكون غنيًّا بلا تحديد، بشرط أن يكون ذلك من حلّه، وأن
يكتفي منه بما يكفيه بالمعروف، محاولًا دائمًا أن يحرر نفسه من
العبودية والانقياد للكماليات فضلًا عن توافِهِ الحضارة وسفاسفها، وبعد
أن يؤدي زكاة ما يملك يعتبر ما زاد عن حاجته كالأمانة لله تحت يده،
فيتصرف فيه بما يزيد المسلمين ثروة وقوة ويسرًا وعزًّا وسعادة، أما
طريقة أبي ذرٍّ في أن لا يبين المسلم وعنده مال، فليست الآن من مصلحة
المسلمين، وطريقة أغنياء المسلمين الآن -في أن يعيشوا لأنفسهم ومتعهم
غير مبالين بعزة الإسلام وقوة دولته وحاجة أهله- فليست من الإسلام،
والإسلام لا يعرف الذين لا يعرفونه."خ".
90 في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 139:2 خبر مرسل رواه
شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه "إبرهيم بن عبد
الرحمن بن عوف" قال: قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذرٍّ "ما
هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، قال: وأحسبه لم
يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات، وقد نبه ابن حزم على أن هذا الخبر
مرسل، ولا يجوز الاحتجاج به، وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر بأن البيهقي
وافق ابن حزم على أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف "المتوفى سنة 66 أو
65 عن 75 سنة" لم يسمع من عمر، ولست أدري هل اعتمد ابن العربي في هذه
الفقرة على هذا الخبر المرسل أم على خبر آخر لم نطلع عليه."خ".
(1/87)
ما وقع بين أبي الدرداء ومعاوية
...
الناس كلهم، وإنما هي مخصوصة ببعضهم، فكتب إليه عثمان -كما قدمنا- أن
يقدم المدينة، فلما قدم اجتمع إليه الناس، فقال لعثمان: "أريد
الربذة"91. فقال. افعل. فاعتزل، ولم يكن يصلح له إلا ذلك؛ لطريقته93.
6- ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام، وكان أبو الدرداء زاهدًا فاضلًا
قاضيًا لهم93، فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها
عزلوه94، فخرج إلى المدينة.
ـــــــ
91 ولقد ذهب ضحية فرية نفى عثمان أبا ذر الشيخ محمد أبو زهرة، فراح
يقول في كتابه: المذاهب الإسلامية: 42/1: "فشكا معاوية أبا ذر إلى
عثمان، فأحضره إلى المدينة، ثم نفاه إلى الربذة"، هذا خلاف الحقيقة،
وقد ثبت لنا ذلك فيما سبق."م".
92 ذكر القاضي أبو الوليد بن خلدون في: العبر "بقية 139:2"، أن أبا ذر
استأذن عثمان في الخروج من المدينة وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعا"* فأذن له، ونزل
الربذة وبنى بها مسجدًا، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل، وأعطاه مملوكين،
وأجرى عليه رزقًا، وكان يتعاهد المدينة، وبين المدينة والربذة ثلاثة
أميال، قال ياقوت: وكانت من أحسن منزل في طريق مكة.
93 أي في دمشق."خ".
94 بل إن معاوية نفسه حاول السير على طريقة عمر، كما نقل ذلك الحافظ
ابن كثير في: البداية والنهاية: 131:8 عن محمد بن سعد قال: حدثنا عارم،
حدثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري "أن معاوية عمل سنتين عمل عمر
ما يخرم فيه، ثم أنه بعد عن ذلك". وقد يظن من لا نظر له في حياة الشعوب
وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا
خطأ؛ فللبيئة من التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم
ونظام الحكم** من التأثير على البيئة، وهذا من معاني قول الله عز وجل :
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِم} . "خ".
ـــــــ
* إن هذا الكلام مبالغ فيه، وقد جاء الإسلام ليطور البيئات المنحرفة
ويصلحها، لا ليتطور معها كالحرباء... وإلا كان لا معنى لنزوله, وهذه
حقيقة يجهلها الكثيرون."م".
** قال أبو ذر: "والله ما سير عثمان أبا ذر! ولكن رسول الله قال:
"وذكرت الحديث السابق" فلما بلغ البنيان سلعا خرج أبو ذر إلى الشام".
صححه الحاكم ووافقه الذهبي وبهذا الحديث تنهار الدعوى السابقة إلى
الحضيض."م".
(1/88)
عثمان وأبو الدرداء رد الحكم
...
وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين
بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر [براءة]* من عاب، وعثمان بريء أعظم براءة
وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سببًا فهو كله باطل.
7- وأما رد الحكم فلم يصح95.
وقال علماؤنا في جوابه: قد كان أذن له فيه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وقال "أي عثمان"96 لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك
شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده، وما كان عثمان ليصل مهجور
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان أباه ولا لينقض حكمه97.
ـــــــ
* كذا في جميع النسخ، وقد صححها الشيخ محب الدين هكذا "بريئان" ولم يشر
إلى ذلك صفحة 77."م".
95 أي لم يصح زعم البغاة على عثمان أن عثمان خالف في ذلك ما يقتضيه
الشرع."خ".
96 كتبها الشيخ محب الدين، وليست في أي من النسخ؛ ولكنه أراد توضيح
السياق."م".
97 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: 196:2: وقد طعن كثير من
أهل العلم في نفيه "أي في نفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكم"،
وقالوا: ذهب باختياره، وقصة نفى الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد
يعرف به أمرها، ثم قال: لم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة، فإن كان طرده
فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى
مكة.
وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم، وقالوا: هو ذهب باختياره.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عزر رجلًا بالنفي لم يلزم
أن يبقى منفيًّا طول الزمان، فإن هذا لا يُعرف في شيء من الذنوب، ولم
تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيًّا دائمًا، وقد كان عثمان شفع في عبد
الله بن سعد ابن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وآله وسلم شفاعته فيه
وبايعه، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم، وقد رووا أن عثمان سأله أن
يرده، فإذن له في ذلك، ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن
أبي سرح، وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد، وأما قصة الحكم فإنما
ذكرت مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه، فلم يكن
هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان، والمعلوم من فضائل عثمان
ومحبة النبي صلى الله عليه وآله
=
(1/89)
عثمان وإتمام الصلاة في منى
...
8- وأما ترك القصر: فاجتهاد، إذ سمع الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك
في منازلهم، فرأى أن السنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها مصلحة98
خوف الذريعة99، مع أن جماعة من العلماء
ـــــــ
= وسلم له، وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه، وشهادته له بالجنة، وإرساله
إلى مكة، ومبايعته له عنه، وتقديم الصحابة له في الخلافة، وشهادة عمر
وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو عنه راضٍ،
وأمثاله ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين
الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده، ولا يعرف كيف وقع، ويجعل لعثمان ذنب
بأمر لا تعرف حقيقته...إلخ، وانظر أيضًا: 235:3-236 من منهاج السنة،
ونقل الإمام أبو محمد ابن حزم في كتاب "الإمامة والمفاضلة" المدرج في
الجزء الرابع من كتابه "الفصل": صـ 154 قول من احتج لعثمان على من
أنكروا ذلك عليه: ونفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يكن
حدًّا واجبًا، ولا شريعة على التأبيد، وإنما كان عقوبة على ذنب استحق
به النفي والتوبة مبسوطة، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خوف من
أحد من أهل الإسلام، وصارت الأرض كلها مباحة، ونقل مجتهد الزيدية السيد
محمد بن إبراهيم الوزير اليمني "المتوفى سنة 840" في كتابه "الروض
الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم: 141:1-142" قول الحاكم المحسن بن
كرامة المعتزلي الشيعي في كتابه "سرح العيون" أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أذن في ذلك لعثمان.
قال ابن الوزير: "إن المعتزلة والشيعة من الزيدية يلزمهم قبول هذا
الحديث، وترك الاعتراض على عثمان لذلك؛ لأن راوي الحديث عندهم من
المشاهير بالثقة والعلم وصحة العقيدة، ثم بسط ابن الوزير الكلام على
هذا الموضوع بحجج واستدلالات استغرقت ثلاث صفحات دفاعا عن أمير
المؤمنين عثمان في رده الحكم، وهذه الحجج من أحد أئمة الزيدية
ومجتهدين-بعد روايته ذلك الحديث عن الإمام المعتزلي المتشيع- لها
دلالتها الخاصة، بعد الذي سمعته من إمامَيْ أهل السنة شيخ الإسلام ابن
تيمية والقاضي ابن العربي، ومن إمام أهل الظاهر أبي محمد بن حزم."خ".
98 "ب"،"ج"،"ز" بدون هذه الكلمة، ولكنها وجدت في "د"."م".
99 كان ذلك في منىً في موسم الحج سنة 29، وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف
عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منىً، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من
أهل اليمن وجفاة الناس قالوا في العام الماضي: إن الصلاة للمقيم،
ركعتان، وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن
عوف: وقد اتخذت بمكة أهلًا "أي أنه صار في حكم المقيم، لا المسافر"،
فرأيت أن أصلي أربعًا لخوف ما أخاف على الناس، ثم خرج عبد الرحمن بن
عوف من
=
(1/90)
......................
ـــــــ
= عند عثمان فلقى عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك فقال ابن مسعود:
"الخلاف شر* قد بلغني أنه صلى أربعًا، فصليت بأصحابي أربعًا"، فقال عبد
الرحمن بن عوف: "قد بلغني أنه صلى أربعًا فصليت بأصحابي ركعتين، وأما
الآن فسوف يكون الذي تقول" يعني: نصلى معه أربعًا" الطبري: 56:5-57.
ـــــــ
* قد يعترض معترض، فيقول: كيف يقول ابن مسعود: الاختلاف شر، والحديث
النبوي يقول: "اختلاف أمتي رحمة" ، وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إن
هذا الحديث لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم
يوفقوا، حتى قال السيوطي في الجامع الصغير: "ولعله خرج في بعض كتب
الحفاظ التي لم تصل إلينا".
وهذا بعيد عندي إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه صلى الله
عليه وآله وسلم، وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده، ونقل المناوي عن
السبكي أنه قال:
"وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا
موضوع"، وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي:
ق2/92.
ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء، فقال العلامة
ابن حزم في الإحكام في الأحكام: 64/5 بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث:
"وهذا من أفسد قول يكون؛ لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق
سخطًا، وهذا ما لا يقوله مسلم؛ لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا
رحمة أو سخط"، وقال في مكان آخر: "باطل مكذوب".
وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن كثيرًا من المسلمين يقرون بسببه
الاختلاف الواقع بين المذاهب الأربعة ولا يحاولون أبدًا لرجوع بها إلى
الكتاب والسنة الصحيحة كما أمرهم بذلك أئمتهم رضي الله عنهم، بل إن
أولئك ليرون أن مذاهب هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم إنما هي كشرائع
متعددة، كما صرح المناوي في: فيض القدير: 209/1، يقولون هذا مع علمهم
بما بينها من اختلاف وتعارض لا يمكن التوفيق بينها إلا برد بعضها
المخالف للدليل، وقبول البعض الآخر الموافق له، وهذا ما لا يفعلون،
وبذلك فقد نسبوا إلى الشريعة التناقض، وهو وحده دليل على أنه ليس من
الله عز وجل لو كانوا يتأملون قوله =
(1/91)
.......................
ـــــــ
= تعالى في حق القرآن : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} فالآية صريحة في أن الاختلاف
ليس من الله، فكيف يصح إذن جعله شريعة متبعة، ورحمة منزلة؟
وبسبب هذا الحديث ونحوه ظل أكثر المسلمين بعد الأئمة الأربعة إلى اليوم
مختلفين في كثير من المسائل الاعتقادية والعملية، ولو أنهم كانوا يرون
أن الخلاف شر كما قال ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم ودلت على ذلك
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة لسعوا إلى الاتفاق،
ولأمكنهم ذلك في أكثر هذه المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة
التي يعرف بها الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، ثم عذر بعضهم بعضًا
فيما قد يختلفون فيه، ولكن لماذا هذا السعي وهم يرون أن الاختلاف رحمة،
وأن المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة.
وإن شئت أن ترى أثر هذا الاختلاف والإصرار عليه، فانظر إلى كثير من
المساجد، تجد فيها أربعة محاريب يصلي فيها أربعة من الأئمة، ولكل منهم
جماعة ينتظرون الصلاة معه كأنهم أصحاب أديان مختلفة، وكيف لا، وعالمهم
يقول: إن مذاهبهم كشرائع متعددة، يفعلون ذلك وهم يعلمون قوله صلى الله
عليه وآله وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" رواه مسلم
وغيره، ولكنهم يستجيزون مخالفة هذا الحديث وغيره محافظة منهم على
المذهب، كأن المذهب محترم عندهم ومحفوظ أكثر من أحاديثه عليه الصلاة
والسلام.
وجملة القول أن الاختلاف مذموم في الشريعة، فالواجب محاولة التخلص منه
ما أمكن؛ لأنه من أسباب ضعف الأمة كما قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ، أما الرضا به وتسميته رحمة،
فخلاف للآيات الكريمة المصرحة بذمه، ولا مستند إلا هذا الحديث الذي لا
أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهنا وقد يرد سؤال وهو:
إن الصحابة قد اختلفوا وأفاضل الناس، أفيلحقهم الذم المذكور؟
وقد أجاب عنه ابن حزم رحمه الله تعالى، فقال: 67/5-68:
كلا، ما يلحق أولئك شيء من هذا؛ لأن كل امرئ منهم تحرى سبيل الله،
ووجهته الحق، فالمخطيء منهم مأجور أجرًا واحدًا؛ لنيته الجميلة في
إرادة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطأهم لأنهم لم يستعمدوه ولا قصدوه
ولا استهانوا بطلبهم، والمصيب منهم مأجور أجرين، وهكذا كل مسلم إلى يوم
القيامة فيما خفى عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذم المذكور والوعيد
المنصوص ، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى وهو القرآن وكلام النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بعد بلوغ النص إليه وقيام الحجة به عليه، وتعلق
بفلان وفلان =
(1/92)
قالوا: إن
المسافر مخير بن القصر والإتمام100، واختلف في ذلك
ـــــــ
100 ما أحسن كلام القاضي أبي بكر بأن ترك عثمان رضي الله عنه للقصر في
الصلاة في السفر "فاجتهاد" وفي الحديث : "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله
أجران، وإن أخطأ فله أجر" وعثمان في هذه المرة قد أخطأ، نقول ذلك
بصراحة، فإن الحق أحق أن يتبع، وهو مع ذلك مأجور على اجتهاده.
والدليل على خطئه من قول ابن عمر رضي الله عنهما: "صحبت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر
وعثمان كذلك" رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
قال الإمام الشوكاني: قوله: "وكان لا يزيد في السفر على ركعتين" فيه أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لازم القصر في السفر، ولم يصل فيه
تمامًا.
وحديث عائشة المتفق عليه: "فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر،
وأتمت صلاة الحضر".
وفي هذين الحديثين دليل قوي على أن القصر للوجوب، لا للندب كما زعم
بعضهم.
وإلى وجوب القصر في السفر ذهب علي وعمر وأكثر علماء السلف، وفقهاء
الأمصار، وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن، والحنفية، وقال حماد بن
سليمان: يعيد من يصلي في السفر أربعا، وقال مالك: "يعيد ما دام في
الوقت.
ـــــــ
= مقلدًا عامًّا للاختلاف داعيًا إلى عصبية وحمية الجاهلية، قاصدًا
للفرقة، متحريًا في دعواه برد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص
أخذ به، وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فهؤلاء هم المختلفون المذمومون، وطبقة أخرى وهم قوم
بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل
قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة في قول كل عالم، مقلدين له غير طالبين ما
أوجبه النص عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويشير في آخر كلامه إلى "التلفيق" المعروف عند الفقهاء، وهو أخذ قول
العالم بدون دليل، وإنما اتباعًا للهوى أو الرخص، وقد اختلفوا في جوازه
والحق تحريمه؛ لوجوه لا مجال الآن لبيانها، وتجويزه مستوحىً من هذا
الحديث وعليه استند من قال: "من قلد عالمًا لقى الله سالما" وكل هذا من
آثار الأحاديث الضعيفة، فكن على حذر منها إن كنت ترجو النجاة {يَوْمَ
لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَاْ بَنُوْنَ، إِلَّا مَنْ أَتَىْ اللهَ
بِقَلْبٍ سَلِيْمٍ} ، "الأحاديث الضعيفة والموضوعة: 70/1-72"."م".
(1/93)
الصحابة101.
ـــــــ
= والقائلون بأن القصر للندب لا للوجوب لا حجة قاطعة لهم، والأحاديث
التي يحتجون بها غير صحيحة، ومن أراد التحقق من ذلك فليراجع كتاب نيل
الأوطار للشوكاني: 213/3.
وقد أنكر جماعة من الصحابة على عثمان لما أتم بمنىً، وتأولوا له
تأويلات، قال ابن القيم: أحسنها أنه كان قد تأهل بمنىً، والمسافر إذا
أقام بموضع وتزوج فيه، أو كان له زوجة أتمَّ، وقد روى أحمد عن عثمان
أنه قال: أيها الناس لما قدمت تأهلت بها، وإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: "إذا تزوج رجل ببلد فليصل به صلاة مقيم"، وقد
أعلَّ البيهقي هذا الحديث بانقطاعه، وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم وهو
ضعيف كما قال البيهقي.
قال في الفتح: هذا حديث لا يصح؛ لأنه منقطع، وفي رواته من لا يُحتَجُّ
به.
وكذلك لا يصح ما نسب إلى عثمان أنه إنما ترك القصر خشية من أن يظن بعض
الأعراب أن الصلاة للمقيم ركعتين، راجع هامش صـ 64.
وإذا صح أن عائشة رضي الله عنها تأولت ما تأول عثمان رضي الله عنه فكان
يصلي في السفر أربعًا، فيصدق عليها ما سبق، وقلناه في عثمان رضي الله
عنه من أنها اجتهدت فأخطأت كما أخطأ الخليفة الراشد، والعصمة للأنبياء
فقط."م".
101 نقل محمد بن يحيى الأشعري المالكي المعروف بابن بكر: 674-741 في
كتابه "التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان" وهو من مخطوطات دار
الكتب المصرية "برقم 23 تاريخ" أنه روى عن جماعة من الصحابة إتمام
الصلاة في السفر، منهم عائشة وسلمان وأربعة عشر من الصحابة، وفي أبواب
التقصير من صحيح البخاري: ك 18 ب 5-ج 2، صـ 36 حديث الزهري عن عروة بن
الزبير عن عائشة أنها قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فأقرت صلاة
السفر، وأتمت صلاة الحضر" قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟
قال: ثم تأولت ما تأول عثمان، وفي مسند أحمد: 94:4 عن عباد بن عبد الله
بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجًّا قدمنا معه مكة، فصلى بنا
الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة، وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا
قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعًا أربعًا، فإذا خرج
إلى منىً وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرع من الحج وأقام بمنىً أتم الصلاة
حتى يخرج من مكة، فلما صلى بنا "أي معاوية" الظهر ركعتين نهض إليه
مروان وعمر بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته. قال
لهما: وما ذاك؟ فقالا له: لم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة، "فذكرهما أنه
صلاهما مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر".
قالا: فإن ابن عمك كان أتمها، "والظاهر أن معاوية رأى أن القصر رخصة،
وأن المسافر على التخيير، فصلى العصر أربعًا"."خ".
(1/94)
معاوية ومكانته في خلافة أبي بكر وعثمان
...
9- وأما معاوية: فعمر ولاه، وجمع له الشامات كلها، وأقره عثمان، بل
إنما ولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه ولي أخاه يزيد، واستخلفه
يزيد، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق
عثمان بعمر وأقره، فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها، [وأقدر
سردها]102، ولن يأتي مثلها بعدها أبدًا103.
ـــــــ
102 سقطت من طبعة الشيخ محب الدين الخطيب، ولكنها موجودة في المخطوطات،
وأثبتها الدكتور عمار طالبي."س".
103 إنما بلغت دولة الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الذروة في العزة،
وكانت مضرب الأمثال في الفلاح الإنساني وسعادة المجتمع؛ لأن أبا بكر
وعمر كانا يكتشفان بنور الله عز وجل كوامن السجايا في أهلها وعناصر
الرجولة في الرجال، فيوليانهم القيادة، ويبوِّئانهم مقاعد السيادة،
ويأتمنانهم على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهما يعلمان أنهما
مسئولان عن ذلك بين يدي الله عز وجل، وقد رأيت أن يزيد بن أبي سفيان
وأخاه معاوية كانا من رجال دولة أبي بكر الصديق الذين اختارهم لحمل
أعباء الأمة في حربها وسلمها، فأحسن بذلك كل الإحسان، ولما ولي يزيد
قيادة أحد جيوشه خرج معه أبو بكر يشيعه ماشيًا. "الطبري 30:4". ومعاوية
مذكور في التاريخ بعد أخيه يزيد؛ لأنه أصغر منه سنًّا، لا لأنه أقل منه
في استكمال صفات القيادة والسيادة، وقبل أن يكون معاوية من رجال
الدولتين البكرية والعمرية كان أحد الذين استعملهم رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم واستعان بهم، وكان يدعوه لذلك في بعض الأحيان -ومعاوية
يأكل- ويلح في دعوته، ويرسل إليه المرة بعد المرة يستعجله في المجيء
إليه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولى معاوية شيئًا من عمله قبل أن
يوليه أبو بكر وعمر، وولى يزيد بن أبي سفيان أيضًا كما في فتوح البلدان
للبلاذري: "صـ 48 طبع مصر سنة 1350". والذين يضطغنون البغضاء والحقد
لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولاسيما بني أمية منهم لم
يستطيعوا أن ينكروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمل معاوية في
الكتابة له، فقالوا: إنه كان يكتب له، ولكنه لم يكن يكتب الوحي، وهم
يقولون هذا بوحي أوحي إليهم من الشيطان، وليس في يدهم نص تاريخي أو
دليل شرعي يرجعون إليه، فميزوا بين أمور لا حجة لهم في التمييز بينها،
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يميز بين كتبته في أمور دون
أمور لتواتر ذلك عنه، ولنقله الناقلون كما وقع فيما هو أقل من هذا
شأنًا.
سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال: ما تقول
في معاوية؟ فقلت له: ومن أنا حتى أُسأَل عن عظيم من عظماء هذه الأمة،
وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ إنه مصباح من
مصابيح
=
(1/95)
.....................
ـــــــ
=
الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا
بأنوارها، فغلبت أنوارها على نوره. نقل الحافظ ابن كثير في: البداية
والنهاية: 133:8 عن الليث بن سعد "وهو إمام مصر وعالمها ورئيسها
المتوفى سنة 175" قال: حدثنا بكير، "وهو ابن عبد الله الأشج المدني
المصري المتوفى سنة 127، قال عنه الإمام النسائي: ثقة ثبت" عن بسر بن
سعيد المدني "المتوفى سنة 100 قال عنه ابن معين: ثقة. وقال عنه الليث
بن سعد: كان من العباد المنقطعين، أهل الزهد في الدنيا والورع" أن سعد
بن أبي وقاص "أحد العشرة المبشرين المبشرين بالجنة" قال: "ما رأيت
أحدًا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب" يعني معاوية، وروى ابن
كثير أيضًا: 135:8 عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام
الحفاظ "وكان ينسب إلى التشيع"، عن معمر بن راشد أبي عروة البصري ثم
اليماني وكان أحد الأعلام، عن همام بن منبه الصنعاني وكان ثقة قال:
سمعت ابن عباس يقول: "ما رأيت رجلًا أخلق بالملك من معاوية، وهل يكون
الرجل أخلق بالملك إلا أن يكون عادلًا حكيمًا حليمًا، يحسن الدفاع عن
ملكه، ويستعين الله في نشر دعوة الله في الممالك الأخرى، ويقوم
بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله عليها؟ والذي يكون أخلق الناس
بالملك، هل يلام عثمان على توليته؟ ويا عجبًا كيف يلام عثمان على
توليته، وقد ولاه من قبله عمر، وتولى لأبي بكر من قبل عمر، وتولى بعض
عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تصير الخلافة إلى أبي
بكر وعمر وعثمان، إن المخ الذي يعبث به الشيطان فيسول له مثل هذه
الوساوس لا شك أنه مخ فاسد، يفسد على الناس عقولهم ومنطقهم قبل أن يفسد
عليهم دينهم وتاريخهم، فمن الواجب على محبي الحق والخير أن يتحاموا كل
من يحمل في رأسه مثل هذا المخ كما يتحامون المجذوم، روى الإمام الترمذي
عن أبي إدريس الخولاني من كبار علماء التابعين، وأعلم أهل الشام بعد
أبي الدرداء أن عمر بن الخطاب لما عزل عمير بن سعد الأنصاري الأوسي عن
حمص وولى معاوية، قال الناس: عزل عميرًا وولي معاوية، قال البغوي في
معجم الصحابة: وكان عمير يقال له نسيج وحده، قال ابن سيرين: أن عمر كان
يسميه بذلك؛ لإعجابه به. وكان عمير من الزهاد فقال عمير: لا تذكروا
معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"اللهم اهد به" ، ويروى أن الذي شهد هذه الشهادة لمعاوية أمير المؤمنين
عمر، فإن كان هو الذي شهدها له، وروى دعاء رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لمعاوية بأن يهدي الله به، فذلك أمر عظيم؛ لعظم مكانة عمر،
وإن كان الذي شهد بذلك عمير بن سعد الأنصاري مع أنه هو المعزول بمعاوية
عن ولاية حمص، فإن ذلك لا يقل عظمة عما لو كانت الشهادة لمعاوية من
عمر، وقد علمت أن عميرًا من أصحاب =
(1/96)
تولية عثمان عبد الله بن عامر بن كريز
...
10- وأما عبد الله بن كريز؛ فولاه -كما قال- لأنه كريم العمات
والخالات105.
ـــــــ
= رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه من زهاد الأنصار، قال شيخ
الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: 189:3: وكانت سيرة معاوية مع رعيته
من خيار سيرة الولاة، وكان رعيته يحبونه، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم
ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم
ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" ، ولم يتسع المقام هنا لأكثر من هذا،
وسنكمل الصورة الحقيقية لمعاوية عند ذكر خلافته لتعلم إلى أي حد كنا
مخدوعين بأكاذيب أعداء الصدر الأول للإسلام، هذا قطعة من حديث صحيح كما
سنرى فيما بعد."خ".
104 هو عبد الله بن عامر بن كريز، توفي سنة 59هـ / 678م على أصح
الروايات "الذهبي: العبر: 67/1"."س".
105 هو عبشمي الآباء، هاشمي الخؤولة، فإن أم أبيه أروى بنت كريز أمها
البيضاء بنت عبد الملطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما وُلِدَ أتي به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لبني عبد
شمس: "هذا أشبه بنا منه بكم" ثم تفل في فيه فازدرده، فقال صلى الله
عليه وآله وسلم: "أرجو أن يكون مسقيًّا *" فكان لا يعالج أرضًا إلا ظهر
منها الماء. ونشأ سخيًّا كريمًا شجاعًا ميمون النقيبة كثير المناقب،
افتتح خراسان كلها، وأطراف فارس، وسجستان، وكرمان حتى بلغ أعمال غزنة،
وقضى على يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس، ويعتقد الإيرانيون أن سلسلة
ملوكهم بدأت بآدمهم الذي يسمونه "جيومرت" فلم يزل ملك أولاده منتظمًا
على سياق إلى أن كان القضاء الأخير عليه بسلطان الإسلام في خلافة أمير
المؤمنين عثمان بجهاد هذا العبشمي الآباء الهاشمي الخؤولة عبد الله بن
عامر بن كريز.
وهي حرقة في قلوب أهل النزعة المجوسية على الإسلام، وعلى عثمان وابن
كريز، فهم يحقدون على هؤلاء ويحاربونهم إلى اليوم بسلاح الكذب، والبغض،
والدسائس، وسيستمر ذلك إلى يوم القيامة، أما صادقو الإسلام ممن أنجبت
إيران أيام كانت شافعية المذهب، ولما كان ينبغ منها علماء السنة
المحمدية قبل ذلك، وفيهم كبار الأئمة والمحدثون والفقهاء، فقد نزهوا
قلوبهم عن أن يكون فيها غل للذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم حتى
فتح الله الأقطار على أيديهم، وهدى الأمم بسببهم، فهم يحبونهم ويجلونهم
على أقدارهم، ونحن لا ندعى العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله
=
ـــــــ
* روى ابن عبد البر -كما جاء في الإصابة لابن حجر- نحو هذين الحديثين.
(1/97)
تولية عثمان الوليد بن عقبة وإلمامه بنشأة الوليد وجهاده
...
11- وأما تولية الوليد بن عقبة [فلأن] الناس -على فساد النيات- أسرعوا
إلى السيئات قبل الحسنات. فذكر [الأسفرائيون]106 أنه إنما ولاه للمعنى
الذي تكلم به، قال عثمان: ما وليته؛ لأنه أخي107، وإنما وليته؛ لأنه
ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوأمة
أبيه، وسيأتي بيانه إن شاء الله108.
ـــــــ
=وسلم، ونتوقع الخطأ من كل إنسان صحابيًّا كان أو من التابعين، أو
الذين يتبعونهم بإحسان، ولكن الذين ملأوا الدنيا بالحسنات كأنها
الجبال، فإن الذي يعمى عنها، ويدس أنفه في مرمى القاذورات ليستخرج منها
ما يذم العظماء به، وإن لم يجد يختلق ويكذب، فإن من كرامة المسلم على
نفسه أن يترفع عن الإصغاء لأمثال هؤلاء والانخداع لهم، ودع عنك فتوح
عبد الله بن عامر بن كريز التي وصلت إلى أقصى المشارق، وتقويضه آخر أمل
للإمبراطورية المجوسية، فإن حسناته الإنسانية أيضًا جديرة بالتسجيل.
قال ابن كثير في: البداية والنهاية: 88:8 إنه أول من اتخذ الحياض بعرفة
لحجاج بيت الله الحرام، وأجرى إليها الماء المعين، وقال عنه شيخ
الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: 189:3-190: "إن له من الحسنات
والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر"، ومثل هؤلاء الرجال لو كانوا من سلف
الإنجليز أو الفرنسيين لخلدوا عظمتهم في كتب الدراسة والثقافة
والتهذيب، فتهافتت وزارات معارفنا على نقل ذلك إلى كتبنا المدرسية،
ليؤمن جيلنا بعظمة أسلاف المستعمرين، أما عظمة أسلافنا نحن فقط سلط
الشيطان عليها قلوبًا فاسدة تقبض بالسوء، وصدق أكاذيبها الأكثرون
منَّا، فأمسينا كالأمة التي لا مجد لها، بينما هي نائمة على تراث من
المجد لا تحلم الإنسانية بمثله."م".
116 وكتبها الشيخ محب الدين الخطيب "الافترائيون"، ولكنها ليست في أي
من المخطوطات الثلاثة."س".
107 هو أخوه لأمه أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد الملطب بن
هاشم."خ".
108 قد لا يظن من لا يعرف صدر هذه الأمة أن أمير المؤمنين عثمان جاء
بالوليد بن عقبة من عرض الطريق فولاه الكوفة، أما الذين أنعم الله
عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله فيعلمون أن دولة الإسلام
الأولى من خلافة أبي بكر تلقفت هذا الشاب الماضي العزيمة، الرضي
الخلقي، الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل الله إلى أن توفي أبو
بكر، وأول عمل له في خلافة أبي بكر أنه كان موضع السر في الرسائل
الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار
مع الفرس سنة 12 "الطبري: 7:4"، ثم وجهه مددًا إلى قائده عياض بن غنم
الفهري "الطبري: 22:4"، وفي سنة 13كان
(1/98)
الولاية اجتهاد على ولي أقاربه
...
والولاية اجتهاد109، وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص، وقدم أقل
ـــــــ
= الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام
كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة، فكتب
إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد،
فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار الوليد بن عقبة قائدًا
على شرق الأردن "الطبري 29:4-30"، ثم رأينا الوليد في سنة 15 أميرًا
على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة "الطبري 155:4" يحمي ظهور المجاهدين في
شمال الشام لئلًا يؤتوا من خلفهم، فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ مسلمهم
وكافرهم، وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولايته وقيادته على هذه الجهة
التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية فكان -مع جهاده الحربي
وعمله الإداري- داعيًا إلى الله يستعمل جميع أساليب الحكمة الموعظة
الحسنة لحمل نصارى أياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب، وهربت
منه إياد إلى الأناضول وهو تحت حكم البيزنطيين، فحمل الوليد خليفته عمر
على كتابة كتاب تهديد إلى قيصر القسطنطينية بأن يردهم إلى حدود الدولة
الإسلامية.وحاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في نشره الدعوة الإسلامية
بين شبابها وأطفالها، فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان الإسلامي،
وقال فيهم كلمته المشهورة:
إذا ما عصبت الرأس مني بمشوذ ... فغيّك مني تغلب ابنة وائل
وبلغت هذه الكلمة عمر، فخاف أن يبطش قائده الشاب بنصارى تغلب، فيفلت من
يده زمامهم في الوقت الذي يحاربون فيه مع المسلمين حمية للعروبة، فكف
عنهم يد الوليد ونحاه عن منطقتهم، وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في
خلافة عثمان فتولى الكوفة له، وكان من خير ولاتها عدلًا ورفقًا
وإحسانًا، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة
ظافرة موفقة على ما سنذكره فيما بعد."خ".
109 للمؤلف في أواخر هذا الكتاب فصل عنوانه "نكتة" أشار فيه إلى
المعاني والحقائق التي يلاحظها ولي الأمر عند اجتهاده في تولية الولاة
وعزلهم، وذلك لفقه عظيم ومعارف بديعة بينها أئمة الإسلام وعلماؤه في
الفصول التي عقدوها للإمامة وسياسة الدولة في كتبهم المصنفة في أصول
الدين، وقد زعم طاغية الشيعة ومدلسهم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه
"منهاج الكرامة" أن عثمان ولَّى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية،
فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية في: منهاج السنة: 173:3-176 أن عليًّا
رضي الله عنه ولَّى زياد بن أبي سفيان وولى الأشتر النخعي وولى محمد بن
أبي بكر وأمثال هؤلاء، ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان كان خيرًا
من هؤلاء كلهم، قال: ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان أنه ولى
أقاربه من بني أمية، ومعلوم أن عليًّا ولى =
(1/99)
كان النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول من ولى بني أمية واستعان بهم
...
منه درجة110.
ـــــــ
= أقاربه من قبل أبيه وأمه فولى عبد الله بن عباس على اليمن، وولى على
مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن
حنيف وقيل ثمامة ربيبة محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره، "لأنه تزوج
أمه بعد وفاة أبي بكر وكان محمد صغيرًا".
ثم إن الإمامية تدعي أن عليًّا نص على أولاده في الخلافة -أو على ولده،
وولده على ولده الآخر وهلم جرَّا- ومن المعلوم أن كان تولية الأقربين
منكرًا، فتولية الخلافة العظمة أعظم من إمارة بعض الأعمال... وإذا قال
القائل: لعلي حجة فيما فعله، قيل له: وحجة عثمان فيما فعله أعظم، وإذا
ادعى لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين، كان يدعى لعثمان
الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول... ثم
قال: إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعملهم في
حياته، واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم: أبو بكر وعمر، ولا تعرف
قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد،
فاستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عزة الإسلام على أفضل الأرض:
مكة عتاب بن أسيد ابن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان
بن حرب بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج،
وعلى صنعاء واليمن حتى مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستعمل
عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة، واستعمل أبان بن
سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها
بعد العلاء بن الحضرمي "حليف بني أمية" حتى توفي النبي صلى الله عليه
وآله وسلم.
فيقول عثمان: أنا لم أستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده... فكان الاحتجاج
على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني
هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل، وذلك صدق باتفاق أهل
العلم بالنقل، "وانظر أيضًا منهاج السنة: 236:3-237". والذي يستعرض
حياة عمال عثمان وجهادهم وفضائلهم يراهم في الذروة العليا من رجال
الدولة، ولا يتردد في أنهم من بناة الأساس الأقوم في مجد الإسلام
الإداري والعسكري، ولهم ثواب نتائجه في الفتوح وانتشار دعوة الإسلام
بما يعده التاريخ من معجزاته الخارقة للعادات."خ".
110 كان ذلك سنة 21، والذين تولوا بعد سعد: عبد الله بن عبد الله =
(1/100)
عدالة مروان وأنه من كبار الأمة عند الصحابة وفقهاء المسلمين
...
12- وأما قول [القائل] في مروان والوليد، فشديد عليهم، وحكمهم عليهما
بالفسق فسق منهم.
مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين،
أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه111. وأما التابعون فأصحابه
في السن، وإن [كان] جازهم باسم الصحبة في أحد القولين112، وأما قهاء
الأمصار فكلهم على تعظيمه، واعتبار [خلافه]113، والتفلت
ـــــــ
= ابن عتبان، "وفي زمانه كانت وقعة نهاوند" ثم زياد بن حنظلة، وألح في
الاستعفاء فأعفي، وولي بعده عمار بن ياسر "الطبري 246، وما قبلها"."خ".
111 وروايته عنه في صحيح البخاري وغيره."خ".
112 وفي طليعة من روى عنه من كبار التابعين زيد العابدين علي بن الحسين
السبط، نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في: منهاج السنة: 123:2،
والحافظ ابن حجر في الإصابة، وترى تفصيله في طبقات الشافعية الكبرى
للتاج السبكي في ترجمة اللغوي الشهير أبي منصور محمد بن أحمد بن الأزهر
صاحب تهذيب اللغة: "282-370"، وممن نص الحافظ ابن حجر على روايتهم عن
مروان: سعيد بن المسيب رأس علماء التابعين، وإخوانهمن الفقهاء السبعة
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وعبيد الله بن عبد
الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، وأضرابهم كعراك
بن مالك الغفاري المدني فقيه أهل دهلك وكان يصوم الدهر، وكعبد الله بن
شداد بن الهاد أحد الرواة عن عمر وعلي ومعاذ: وإن رواية عروة بن الزبير
عن مروان في مسند الإمام أحمد "الطبعة الأولى 321:4، 323، 326، 328،
189:5"، ورواية عراك عن مروان نقلها إمام أهل مصر الليث بن سعد عن يزيد
بن حبيبة في مسند أحمد: 328:4 ورواية عبد الله بن شداد بن الهاد عن
مروان في مسند أحمد: 317:6 و 323، والذي يتأمل في الأحاديث المروية عن
مروان يجد حملتها من الأئمة الثقات تتسلسل روايتهم عنه مدة جيلين
وأكثر، وكلهم أعلى مرتبة في الإسلام من الذين يبردون الغل الذي في
قلوبهم بالطعن في مروان، ومن هو خير من مروان. بل في رواة أحاديث مروان
عبد الرزاق إمام أهل اليمن، وكانت فيه نزعة تشيع، وفي مسند أحمد: 312:6
حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه كان رسول مروان إلى أم المؤمنين
أم سلمة في تحقيق بعض الأحكام الشرعية، وفي 299:6 من مسند أحمد نموذج
لعظيم عناية مروان بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بأقصى ما
يمكن أن يصدر عن أئمة المسلمين وأمرائهم."خ".
113 في "ب"،"ج"،"ز": خلافته "س".
(1/101)
سقوط كل ما استدلوا به على الوليد في آية {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ}
...
إلى فتواه، والانقياد إلى روايته، وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء
فيقولون على أقدارهم114.
وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين أنه الله سماه فاسقًا في قوله :{إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] فإنها-في قولهم- نزلت فيه، أرسله النبي صلى
الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، فأرسل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم خالد بن الوليد، فتثبت في
أمرهم فبيَّن بطلان قوله، وقد اختلف فيه، فقيل:نزلت في ذلك115، وقيل في
علي، والوليد في قصة
ـــــــ
114 ومن غريب أمر هؤلاء البغاة والمفترين أنهم يحملون على مروان
ويتهمونه بمختلف التهم، وهو منها براء، وقد وقع أسيرًا يوم الجمل في
أيدي أصحاب علي رضي الله عنه، فلم يمسه أحد بسوء، لا بإذن علي، ولا
بغير إذنه."م".
115 كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة،
ويسميه الله فاسقًا، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ، وأوردنا
الأمثلة عليها في هامش صـ 98 عند استعراضنا ماضيه في بضعة عشر عامًا
قبل أن يوليه عثمان الكوفة، إن هذا التناقض -بين ثقة أبي بكر وعمر
بالوليد بن عقبة، وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه
فاسقًا- حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه، لا استبعادًا لوقوع
أمر من الوليد يعد به فاسقًا، ولكن استبعادًا لأن يكون الموصوم بالفسق
في صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في أولياء الله عز وجل بعد
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من هو أقرب إلى الله منهما. وبعد أن
ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية:
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ......} ، فلما عكفت على دراستها
وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة، أو ابن أبي ليلى، أو يزيد بن
رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو
أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث،وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة
من مشارب مختلفة، وإن الذين لهم هوىً في تسويء سمعة مثل الوليد ومن هم
أعظم مقامًا من الوليد قد ملأوا الدنيا أخبارًا مريبة ليس لها قيمة
علمية، وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء
الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم، وعلماء الجرح
والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ولا أسماءهم، فمن غير الجائز شرعًا
وتاريخًا الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها، وهناك
خبران موصولان =
(1/102)
أخرى، وقيل: إن
الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فمسح على رؤوسهم وبرك عليهم، إلا هو فقال: إنه كان على رأسي
خلوق، فامتنع [صلى الله عليه وآله وسلم]116 من مسه، فمن يكون في مثل
هذه السنة يرسل مصدقًا117.
ـــــــ
= أحدهما عن أمة سلمة، زعم موسى بن عبيد الله أنه سمعه من ثابت مولى أم
سلمة.
وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة، وثابت
المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم،
فلم يذكر في تهذيب التهذيب، ولا في تقريب التهذيب، ولا في خلاصة تهذيب
الكمال، بل لم أجده ولا في قفصي الاتهام أعني ميزان الاعتدال ولسان
الميزان.
وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد فقرأتها واحدًا
واحدًا، فلم أجد فيها هذا الخبر، بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيها
اسم مولى لها يدعى ثابت. زِدْ على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا
الخبر -إن صح عنها، ولا سبيل إلى أن يصح عنها- أن الآية نزلت في
الوليد، بل قالت -أي قيل على لسانها-: بعث رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم رجلًا في صدقات بني المصطلق، والخبر الثاني الموصول رواه
الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن
عباس. والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه؛ لأن ابن سعد لما توفى
ببغداد سنة 230كان الطبري طفلًا في السادسة من ،عمره ولم يخرج إلى ذلك
الحين من بلده آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها، وابن سعد وإن
كان في نفسه من أهل العدالة في الدين والجلالة في العلم، إلا أن هذه
السلسلة من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء أكثرهم فضلًا عن أن
يعرفوا شيئًا من أحوالهم، فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز
أن يؤاخذ بها، مجاهد كان موضع ثقة أبي بكر وعمر، وقام بخدمات للإسلام
يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله.
أضف إلى كل ما تقدم أنه في الوقت الذي حدثت فيه لبني المصطلق الحادثة
التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير السن كما سيأتي في الفقرة
التالية."خ".
116 زيادة من عمل الشيخ محب الدين الخطيب؛ لتوضيح السياق، ولكنها ليست
في أي من المخطوطات الثلاثة. "س".
117 هذا الحديث عن سن الوليد بن عقبة يوم فتح مكة رواه الإمام أحمد في
مسنده: 32:4 الطبعة الأولى عن شيخ له هو فياض بن محمد الرقي، عن جعفر
بن برقان الرقي عن ثابت بن الحجاج الكلابي الرقي عن عبد الله الهمداني
"وهو عبد الله بن مالك بن الحارث" عن الوليد بن عقبة، والظاهر أن
الوليد بن عقبة تحدث بهذا الحديث عندما اعتزل الناس في السنين الأخيرة
=
(1/103)
وبهذا الاختلاف
يسقط العلماء الأحاديث القوية، وكيف يفسق118 رجل يتمثل هذا الكلام؟
فكيف برجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟!
ـــــــ
= من حياته واختيار الإقامة في قرية له من أعمال الرقة، فتسلسلت رواية
الخبر في الرواة الرقيين، وأخذه الإمام أحمد عن شيخ له منهم، وعبد الله
الهمداني ثقة، لكن التبس اسمه في غير هذه الرواية آخر يكنى أبا موسى
واسمه مالك بن الحارث أي على اسم والد عبد الله الهمداني، وهو مجهول
عند أهل الجرح والتعديل، وأما عبد الله الهمداني الذي ينتهي إليه الخبر
في رواية الإمام أحمد فمعروف وموثوق به، وعلى روايته وأمثاله اعتمد
القاضي ابن العربي في الحكم على سن الوليد بن عقبة، بأنه كان صبيًّا
عند فتح مكة، وأن الذي نزلت فيه آية: {إِنْ جَاءِكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ} هو شخص آخر، ومن عجيب أمر الذين كان لهم هوىً في تشويه سمعة
هذا الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن السيرة في الناس أهم
حاولوا إدحاض حجة صغر سنه في ذلك الوقت بخبر آخر روي عن قدومه مع أخيه
عمارة إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة ليطلبا من النبي صلى الله
عليه وآله وسلم رد أختهما أم كلثوم إلى مكة، وأصل هذا الخبر -إن صح-
مقدم فيه اسم عمارة على اسم الوليد، وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو
الأصل في هذه الرحلة وأن الوليد جاء في صحبته، وأي مانع يمنع قدوم
الوليد صبيًّا بصحبة أخيه الكبير كما يقع مثل ذلك في كل زمان ومكان؟
فقول الوليد أنه كان في سنة الفتح صبيًّا ليس في خبر قدومه مع أخيه
الكيبر إلى المدينة في السنة السابقة ما يمنعه أو يناقضه، فإذا تقرر
عندك أن جميع الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب نزول الآية:
{إِنْ جَاءَكْمُ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} لا يجوز علميًّا أن ينبي عليها حكم
شرعي أو تاريخي، وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام أحمد عن سن الوليد
في سنة الفتح، يتبين لك بعد ذلك حكمة استعمال أبي بكر وعمر الوليد
وثقتهما به واعتمادهما عليه مع أنه كان لا يزال في صدرشبابه."خ".
118 قال محققو تفسير "زاد المسير في علم التفسير" للإمام بن الجوزي:
491/7 طبعة المكتب الإسلامي الذي يديره الأخ الفاضل الأستاذ زهير
الشاويش، وهو أحد المشتركين في التحقيق:
"ذكر الواحدي أن قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكْمُ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوْا} نزلت في الوليد بن عقبة"... ذكر ذلك في أسباب النزول
بغير سند، ورواه الطبري من حديث أم سلمة،وفي سنده موسى بن عبيدة، وهو
ضعيف. ورواه أحمد في المسند من حديث الحارث بن ضرار الخزاعي. قال
الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف: رواه ابن إسحاق، والطبراني من حديث =
(1/104)
إقامة عمر الحد على صهره قدامة بن مظعون من رجال بدر
...
وأما حده في الخمر، فقد حد عمر قدامة بن مظعون على الخمر وهو أمير
وعزله، [ثم قيل* له صالحه]119.
ـــــــ
= أم سلمة، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، قال: ونحوه رواه أحمد
والطبراني أيضًا من حديث الحارث بن ضرار الخزاعي، وأخرجه ابن مردويه من
طريق عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن موسى بن المسيب عن سالم بن
الجعد عن جابر...ا.هـ. باختصار. مما سبق ندرك أنه لا مجال لقول المؤلف
هنا برد الأحاديث القوية عند الاختلاف والاضطراب."م".
لأهل العلم في مثل هذه المسألة مذاهب:
- النظر في الناسخ والمنسوخ.
- الجمع بينهما أن أمنك [تأويل مختلف الحديث].
- النظر في المحكم والمتشابه، العام والخاص، المطلق والمقيد.
إلى غير ذلك من المذاهب، وهذا كله إن كان الحديث في نفسه صحيحًا."س".
119 قدامة بن مظعون الجمحي أحد السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهدا
بدرًا، وكان صهر أمير المؤمنين عمر على أخته، وقيل بل هو خال أم
المؤمنين حفصة بنت عمر وأخيها عبيد الله، وفي إمارة قدامة على البحرين
في خلافة عمر قدم الجارود سيد بني عبد القيس على عمر من البحرين وادعى
أن قدامة شرب فسكر. فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة.
فاستشهد أبا هريرة فقال: لم أره شرب، ولكني رأيته سكران يقيء، فقال له
عمر: لقد تنطعت في الشهادة. واستقدم قدامة من البحرين، فقال الجارود
لعمر: أقم على هذا كتاب الله. فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال:
شهيد. فقال عمر: قد أديت شهادتك. فصمت الجارود، ثم غدا على عمر فقال:
أقم على هذا حد الله. فقال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنك. فقال: يا
عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوؤني... ثم جيء بزوجة
لقدامة فأقامت الشهادة على زوجها، وأراد عمر أن يقيم عليه الحد، فقال
له الصحابة: لا نرى أن تحده ما دام مريضًا، ثم عاوده، فقالوا له كما
قالوا من قبل. فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السياط أحب إلى من ألقاه
وهو في عنقي. وجلده. فغاضبه قدامة. وعند قفولها من الحج جيء به إلى
عمر، فكلمه عمر واستغفر له، ومن حسن حظ قدامة بن مظعون أنه قرشي من بني
جمح، ولو أنه كان قرشيًّا من بني عبد شمس لانطلقت ألسنة السوء بالبذاءة
عليه واختراع الأكاذيب فيه ما دام في الدنيا كذب."خ".
* في جميع النسخ هكذا، وأصلحه الشيخ محب الدين الخطيب: [وقيل إنه
صالحه]، ولم يشر -رحمه الله- إلى ذلك."س".
(1/105)
وليست الذنوب
مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة120.
وقد قيل لعثمان: إنك وليت الوليد لأنه أخوك لأمك أروى بنت كريز
ـــــــ
120 هذا حق، ولكن في مثل ما تقدم عن قدامة بن مظعون، وفي مثل ما هو
مشهور عند الناس عن أبي محجن الثقفي الشاعر الفارسي الذي كان له يوم
أغر في حرب القادسية، أما الوليد بن عقبة المجاهد الفاتح العادل
المظلوم الذي كان منه لأمته كل ما استطاعه من عمل طيب، ثم رأى بعينه
كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم فيهم، فاعتزل الناس بعد
مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر ميلًا
عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها ويدعو نصاراها إلى
الإسلام في خلافة عمر فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن ينكشف عنها
غوارها. ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرنًا،
فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه. أراد الوليد بن عقبة -منذ ولي
الكوفة لأمير المؤمنين عثمان- أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل
والسيرة الطيبة مع الناس، كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامه
للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين لرايته، الناشرين
لرسالته، وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات، وداره إلى اليوم
الذي زايل فيه الكوفة ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أو لا
يعرف، فكان يغشاها كل من شاء متى شاء من ليل أو نهار. ولم يكن بالوليد
حاجة لأن يستتر عن الناس:
فالستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر
وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب لأنه أقام لغربائهم
دور الضيافة، وأدخل على الناس خيرًا حتى جعل يقسم المال للولائد
والعبيد ورد على كل مملوك من فضل الأموال من كل شهر ما يتسعون به من
غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم.وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقة بحب
هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه. إلا أن فريقًا من الأشرار وأهل
الفساد أصاب بنيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد، فوقفوا حياتهم
على ترصيد الأذى له، ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي
وآخر يسمى أبا مورع وثالث اسمه جندب أبو زهير قبضت السلطات على أبنائهم
في ليلة نقبوا بها على ابن الحيسمان داره وقتلوه، وكان نازلًا بجواره
رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جيش خزاعة يوم فتح
مكة، فجاء هو وابنه من المدينة إلى الكوفة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد
بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو الشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام،
فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن
الحيسمان، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين، فأنفذ
الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة، فكتب آباؤهم العهد
على أنفسهم للشيطان =
(1/106)
ابن ربيعة بن
حبيب بن عبد شمس، قال: بل لأنه ابن عمة رسول الله صلى
ـــــــ
= بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم، وبثوا عليه العيون والجواسيس
ليترقبوا حركاته، وكان بيته مفتوحًا دائما. وبينما كان عنده ذات يوم
ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانيًّا في أخواله من تغلب بأرض الجزيرة
وأسلم على يد الوليد، فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان
نصرانيًّا لابد أن يكون ممن يشرب الخمر ولعل الوليد أن يكرمه بذلك،
فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من
ناحية المسجد، ولم يكن لداره باب، فلما فوجيء بهم نحى شيئا أدخله تحت
السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا أذن من صاحب الدار، فلما أخرج ذلك
الشيء من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب، وإنما نحاه الوليد
استحياء أن يروا طبقه ليس عليه إلا تفريق عنب، فأقبل بعضهم على بعض
يتلاومون من الخجل، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم.
وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك وصبر، ثم تكررت
مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون
تأويله ويفترون الكذب، وذهب بعض الذين كانوا عمالًا في الحكومة ونحاهم
الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم، فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد
لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله عن الكوفة، وفيما كان هؤلاء في
المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من
غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح، فخرج بقية القوم،
وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة خاتم الوليد من داره
وخرجا. فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه، فسأل عنه زوجتيه -وكانت في
مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر- فقالتا: إن آخر من بقى في
الدار رجلان، وذكرتا صفتهما وحلتيهما للوليد، فعرف أنهما أبو زينب وأبو
المورع، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيتاها، فأرسل في
طلبهما فلم يوجدا في الكوفة، وكانا قد سافرا إلى توا إلى المدينة،
وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر "وأكبر ظني أنهما استلهما
شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مظعون في
خلافة عمر" فقال لهما عثمان: كيف رأيتما؟ قالا: كنا في غاشيته، فدخلنا
عليه وهو يقيء الخمر. فقال عثمان: ما يقيء الخمر إلا شاربها. فجيء
بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: نقيم الحدود،
ويبوء شاهد الزور بالنار.
هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة 30 من تاريخ الطبري،
وليس فيها -على تعدد مصادرها القديمة- شيء غير ذلك، وعناصر الخبر عند
الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعددت شواهد
غلهم عليه، ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها فضلًا عن أن تكون =
(1/107)
الله عليه وآله
وسلم أم حكيم البيضاء جدة عثمان وجدة الوليد لأمهما أروى
ـــــــ
= اثنتين أو أربعًا، وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب. فقد نقل
خبرها عن الحضين بن المنذر "أحد أتباع علي" أنه كان مع علي عند عثمان
ساعة أقيم الحد على الوليد، وتناقل عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه:
كتاب الحدود ب 8 ح 38-ج 5، صـ 126، بلفظ: شهدت عثمان بن عفان وأتي
بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما
حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فالشاهدان لم يشهدا بأن
الوليد صلى الصبح ركعتين، وقال أزيدكم، بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر
وشهد الآخر بأنه تقيأ. أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام
حضين، ولم يكن حضين من الشهود. ولا كان في الكوفة في وقت الحادث
المزعوم، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف،
ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم، وارد في ثلاثة مواضع في
مسند أحمد رويًا عن حضين، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي
سمعه منه في مسند أحمد بمواضعه الثلاثة، فالموضعان الأول والثاني: ج
1صـ 82 و 140 الطبعة الأولى -ج2 رقم 264 و 1184 الطبعة الثانية ليس
فيهما ذكر للصلاة عن لسان حضين فضلًا عن غيره، فلعل أحد الرواة من بعده
أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد،
وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد: ج 1 صـ 144-145 الطبعة الأولى ج 2
رقم 1229 فقد جاء فيه على لسان حضين "أن الوليد صلى بالناس الصبح
أربعًا" وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم، ففي إحدى
الروايتين تحريف الله أعلم بسببه. وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عن
أنه من كلام حضين، وحضين ليس بشاهد، ولم يروِ عن شاهد، فلا عبرة بهذا
الجزء من كلامه، وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن
شيوخه. وأزيدك علمًا بأمر حمران، وهو عبد من عبيد عثمان كان قد عصى
الله قبل شهادته على الوليد، فتزوج في مدينة الرسول امرأة مطلقة، ودخل
بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى
قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة، فجاء الكوفة يعيث فيها فسادًا،
ودخل على العابد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال
الدولة، وكان سبب تسييره إلى الشام. وأنا أترك أمر هذا الشاهد
والشاهدين والآخرين قبله إلى ضمير القارئ، يحكم به عليهم بما يشاء، وفي
اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة
والرعاع، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش
فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله،
وكان وضعه ثقة عند ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام =
(1/108)
المذكورة أم
حكيم توأمة عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأي حرج
على المرء أن يولي أخاه أو قريبه121، 122.؟.
ـــــــ
= أبي بكر وعمر وعثمان، وأن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة
أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم
والقسوة عليهم لئلا يقال: أن له هوىً في ذوي قرابته. ورأينا الذين
يتسلون بأعراض الناس يتفكهون بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس
وردت في صـ 85 من ديوانه، ولا تحملهم سليقة النقد على الشعور بما في
هذه الأبيات من التضارب والتعارض، فأين مدحه فيها للوليد بقوله:
ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطى على الميسور والعسر
فنزعت مكذوبًا عليك ولم ... تردد إلى عوز ولا فقر
من بيقة الأبيات التي فيها:
نادى وقد تمت صلاتهم ... أزيدكم ثملًا وما يدري
فالذي يقول البيت الأخير لا يعقل أن يقول مع البيتين الأولين فيكون
مادحًا وذامًّا في قطعة واحدة لا تزيد على ستة أبيات، وقد كانت لي
مقالة مطولة عن "التخليط في الشعر" ضربت فيها الأمثلة على دس أبيات
غريبة في قصائد من وزنها ورويها لغير ناظمها. وعلى كل حال فالشهود
الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدعوا حكاية الصلاة، مع أنهم لم يكونوا
ممن يخاف الله واليوم الآخر. والآن أقولها لوجه الله صريحة مدوية أن
الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوروبي كلويس التاسع الذي أسرناه في
دار لقمان بالمنصورة لعدوه قديسًا؛ لأن لويس لم يحسن إلى فرنسا، كإحسان
الوليد بن عقبة إلى أمته، ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام،
والعجب لأمة تسيء إلى أبطالها، وتشوه جمال تاريخها، وتهدم أمجادها كما
يفعل الأشرار منا، ثم ينشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو
الحق."خ".
121 وقد تقدم في هامش صـ 98 أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب جعل
الأمراء في مدة خلافته على أكثر أمصار حكمه من ذوي قرابته. وأن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ولى رجال بني أمية وشبابهم. وكذلك فعل
أبو بكر وعمر، فلم يفعل عثمان إلا الذي سبقه إليه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وصاحباه. بل إن عثمان لما أقام الحد على أخيه لأمه فعل ما لا
نظن أحدًا يفعله بشهادة الشهود المغرضين الذين لم يريدوا الله
بشهادتهم. وإذا كان الشهود على الوليد من هذه الطبقة المغرضة، فقد شهد
له بظهر الغيب قاضٍ من أعظم قضاة الإسلام في التاريخ علمًا وفضلًا
وإنصافًا وهو الإمام عامر بن شراحبيل الشعبي. روى الطبري: 60:5 أن
الشعبي سمع في أوائل بطولة مسلمة بن عبد الملك حفيدًا للوليد بن عقبة
يتحدث عن جهاد مسلمة، فقال
(1/109)
.................................
ـــــــ
= الشعبي: "كيف لو أدركتم الوليد غزوة وإمارته؟ إن كان ليغزو فينتهي
إلى كذا وكذا... ما قصر، ولا انتقض عليه أحد. حتى عزل عن عمله وعلى
الباب "أي الدربند ، وراء بحر الخزر في روسيا، وكان من أمنع معاقل
الدنيا". عبد الرحمن الباهلي "وهو من أعظم قواد الوليد". وإن كان مما
زاد عثمان على يده "أي على يد الوليد" أن رد على كل مملوك بالكوفة من
فضول الأموال ثلاثة في كل شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من
أرزاقهم". فهذه ثلاثة في كل شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من
أرزاقهم. فهذه الشهادة من الإمام الشعبي للوليد في جهاده الحربي
الظافر، وفي إحسانه لرعيته في معايشهم، تفقأ عيون المبطلين، وتقر أعين
الصالحين، وصدق أمير المؤمنين عثمان يوم طيب قلب أخيه المظلوم بقوله:
"نقيم الحدود، ويبوء شاهد الزور بالنار". {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} .إلخ.
122 ومما يؤسف له أن الشيخ محمد أبا زهرة الأستاذ في كلية الشريعة
بجامعة القاهرة انساق مع من انساق في أن أسباب الثورة على عثمان رضي
الله عنه:
"اشتهاره بحبه لقرابته، وليس في ذلك إثم ولا لوم، ولكنه ولائهم
وقربئهم، وكان يستشيرهم في كثير من شئون الدولة، وفيهم من ليس أهل
للثقة، وبمقدار الاكثار من استشارتهم لم يكثر من استشارة عليه الصحابة:
كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة وغيرهم"...المذاهب
الإسلامية صـ 43.
نستدرك على عبارة الأستاذ أبي زهرة ما يلي:
أولا: ليس في تولية الأقارب إثم ولوم ما داموا أكفاء مخلصين، فقد ولى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمه عليًّا بن أبي طالب على
الأخماس باليمن والقضاء بها، كما ولى كثير من رجال بني أمية المناصب
الهامة، وهم يمتنون إليه بالقرابة "راجع جوامع السيرة لابن حزم"، وكذلك
فعل علي بن أبي طالب لما ولي الخلافة، فكان من ولاته عبد الله بن عباس،
وقثم بن عباس، وثمامة بن عباس..
ثانيا: كنا نتمنى من الأستاذ أبي زهرة أن يذكر لنا مثالًا من أقرباء
عثمان رضي الله عنه الذين ليسوا أهلًا للثقة كما زعم، كما تقدم معنا.
ولعله يقصد بذلك مروان بن الحكم، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي قال
عنه صـ 44: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أباح دمه إذ ارتد
بعد إيمان، وقد ولاه بعد عمرو بن العاص"....
أما مروان فقد تحدث عنه مؤلف العواصم ما فيه الكفاية...
وأما عبد الله بن سعد فقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في
منهاج
(1/110)
ما فعله عثمان والذين قبله في خمس الخمس والإقطاع
...
13- وأما عطاؤه خمس إفريقية لواحد فلم يصح132، على أنه قد
ـــــــ
= السنة 196: "كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد، فقبل صلى الله عليه
وآله وسلم شفاعته فيه وبايعه".
وقد أبلى هذا الصحابي بلاءً حسنًا في محاربة الروم، ففتح بلاد النوبة
وصالحه أهله على دفع الجزية، واشترك مع معاوية رضي الله عنه في تأسيس
الأسطول الإسلامي، وفي معركة "ذات الصواري" في حرب الروم حتى أتم النصر
للمسلمين عليهم، وكان لأسطول ابن سعد الفضل في حماية سواحل مصر
وأفريقية من غزو الروم، فرحمه الله وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.
ثالثًا: وما قاله الأستاذ أبو زهرة من إكثار استشارته لأقربائه من بني
أمية، وعدم الإكثار من استشارة كبار الصحابة، فكلام متهافت لا دليل له
عليه، والأدلة على عكس ما يقول أكثر من أن تذكر، وهي مبنية بتفصيل في
بطون كتب التاريخ ويعرفها حتى صغار الطلبة.
وقد كان عثمان رضي الله عنه عالمًا بكل ذلك، فكيف يكون من الحزم أن
يتقاتل المسلمون ويذهب منهم كثير من الضحايا، وهو عارف أنه مقتول لا
محالة.
ومما أخذه الأستاذ أبو زهرة وغيره على عثمان رضي الله عنه كما جاء في
المصدر السابق. صـ 46
"لم يكن رضي الله عنه حازمًا مع الذين ثاروا عليه وهاجموا داره... ولو
أنه أخذ أولئك العصاة بالشدة... لأدى ذلك إلى نجاته... ولقد كان عظماء
الصحابة على استعداد لنصرته، وكلما هموا بحمل السلاح ثبطهم... وقد
منعهم سيدنا عثمان؛ إيثارًا للعاقبة، ومنعًا للقتل والقتال بين
المسلمين.
لقد غاب عن الأستاذ أبي زهرة أن عثمان رضي الله عنه كان عالمًا بمصيره،
فقد بشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة على بلوى تصيبه كما
جاء في صحيح البخاري، كما بشره بالشهادة أيضًا، فعن أنس أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم صعد أحدًا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه
برجله فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" رواه البخاري.
إن الحزم كل الحزم كان ما فعله هذا الخليفة الراشد."م".
123 والذي صح هو إعطاؤه خمس الخمس لعبد الله بن أبي سرح جزاء جهاده
المشكور، ثم عاد فاسترده منه. جاء في حوادث سنة 27 من تاريخ الطبري:
"49:5 مصر، 2814:1-2815 طبع أوربا" أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد
بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: "إن فتح الله عليك
غدًا أفريقية، فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة
نفلًا"،فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر، وأوغلوا في أرض أفريقية =
(1/111)
عثمان لم يضرب أحدا بالعصا
...
ذهب مالك وجماعة إلى الإمام يرى رأيه في الخمس، وينفذ فيه ما أداه إليه
اجتهاده، وإن أعطاه لواحد جائز، وقد بينا ذلك في مواضعه134.
ـــــــ
= وفتحوها سهلها وجبلها، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم
وأخذ خمس الخمس وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصرى، فشكا
وفد ممن معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله بن سعد، فقال لهم عثمان: "أنا
أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو ردٌّ"، قالوا: إنا نسخطه، فأمر عثمان عبد
الله بن سعد بأن يرده فرده. ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح
أفريقية.
124 أي في مؤلفاته الأخرى عند بسطه هذه المسألة من أحكام الفقه
الإسلامي. قال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي: "إنما القطائع على وجه
النفل من خمس ما أفاء الله". قال: "وأقطع عمر طلحة وجرير بن عبد الله
والربيل بن عمرو. وأقطع "أي عمر" أبا مفزر دار الفيل". وممن أقطعهم عمر
بن الخطاب نافع أخو زياد وأبي بكرة لأمهما، وأقطعه أرضًا في البصرة
لخيله وإبله مساحتها عشرة أجربة "انظر ترجمة نافع في الإصابة" قال
القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج: صـ 61: "وقد أقطع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وتألف على الإسلام أقوامًا، وأقطع الخلفاء من بعده من
رأوا أن في أقطاع صلاحًا "وضرب أبو يوسف الأمثلة على ذلك". وانظر باب
القطائع في صـ 77-78 من كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي طبع السلفية.
وذكر الإمام الشعبي بعض الذين أقطعهم عثمان فقال: "وأقطع الزبير،
وخباب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن هبار أزمان عثمان،
فأين يكن عثمان أخطأ، فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا، وهم الذين أخذنا
عنهم ديننا" "الطبري: 148:4". واقطع علي بن أبي طالب كردوس بن هانيء
الكردوسية، وأقطع سويدًا بن غفلة أرضًا لدى ذويه. فكيف ينكرون على
عثمان ويسكتون على عمر وعلي. وللقاضي أبو يوسف كلام سديد في هذا
الموضوع في كتاب الخراج صـ 60-63 طبعة السلفية سنة 1352. وما زعمه
الزاعمون من أن عثمان كان يود ذوي قرابته ويعطيهم، فمودته ذي قرابته من
فضائله، وعلي أثنى على عثمان بأنه أوصل الصحابة للرحم، وعثمان أجاب عن
موقفه هذا بقوله: "وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم. فأما حبي لهم
فإنه لم يُملْ معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم. وأما إعطاؤهم فإني
إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من
الناس. وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص.
أفحين أتت علي أسنان أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال
الملحدون ما قالوا" وقال الطبري 103:5: "وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه
في بني أمية، =
(1/112)
علو عثمان على
منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
...
14- وأما قولهم إنه ضرب بالعصا، فما سمعته ممن أطاع أو عصى، وإنما هو
باطل يحك، وزر ينثى125، فيالله وللنهي.
15- وأما علوه على درجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما سمعته
ممن فيه تقية. وإنما هي إشاعة منكر؛ ليروي ويذكر، فيتغير قلب من يتغير.
قال علماؤنا: ولو صح ذلك فما في هذا ما يحل دمه، ولا يخلو أن يكون ذلك
حقًّا، فلم تنكره الصحابة عليه إذ رأيت جوازه ابتداء أو لسبب اقتضى
ذلك. وإن كان لم يكن فقد انقطع الكلام 128.
16- وأما انهزامه يوم حنينن وفراره يوم أحد، ومغيبه عن بدر وبيعة
ـــــــ
= وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم
عشرة آلاف فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني
العاص وبني العيص وفي بني حرب". بل تمادى شيخ الإسلام ابن تيمية مع
أوسع الاحتمالات فذكر في منهاج السنة: "3: 178-188" أن سهم ذوي القربى
ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور، وأن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية... وقيل
هو لمن ولي الأمر بعده.. قال: وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر
كان يخص بعض أقاربه إما بولاية أو بمال. ثم قال في: 237:3: "أن ما فعله
عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدهما أنه عامل عليه، والعامل يستحق مع
الغنى. الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام. الثالث أنهم "أي ذوو
عثمان وقرابته" كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر، فكان
يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية
أقاربهما وإعطائهم. وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به"."خ".
125 نثى الخبر والحديث: أذاعه وأظهره. والنثا مثل الثناء، إلا أنه في
الخير والشر، والثناء في الخير خاصة."م".
128 كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضيق المساحة في عصر
النبوة وخلافة أبي بكر، وكان من مناقب عثمان في زمن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم عندما زاد الصحابة أن اشترى من ماله مساحة من الأرض وسع
بها المسجد النبوي، ثم وضعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار العباس بن
عبد المطلب، ثم ازداد عدد المصلين بازدياد عدد سكان المدينة وقاصديها،
فوسعه أمير المؤمنين عثمان مرة أخرى، وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه
خمسين ومائة ذراع، وجدد بناءه، فاتساع المسجد وازياد غاشيته وبعد أمكنة
بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون من ضرورات ارتفاع الخطيب ليراهم
ويروه ويسمعوه."خ".
(1/113)
تخلفه بالمدينة عن بدر لتمريض زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم
...
الرضوان، فقد بيَّن عبد الله بن عمر وجه الحكم في شأن البيعة وبدر
وأحد، وأما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقى ممن مضى في الصحيح،
وإنما هي أقوال، منها أنه ما بقي معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم،
فناهيك بهذا الاختلاف، وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة، وقد عفا الله عنه
ورسوله، فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون، أخرج البخاري129:
جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله وقال: لعل ذلك
يسؤوك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن علي، فذكر من
محاسن عمله، وقال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، ثم قال: لعل ذلك يسؤوك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك. انطلق
فاجهد على جهدك. وقد تقدم في حديث: "بني الإسلام على خمس" زيادة فيه
للبخاري في علي وعثمان130. وقد أخرج البخاري أيضًا131 من حديث عثمان بن
عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت، فرأى قومًا
جلوسًا، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ
فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء
فحدثني عنه، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: تعلم أنه
تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعالَ
أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه
عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت
مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لك أجر رجل ممن
شهد بدرًا وسهمه" 132. وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو
ـــــــ
129 في كتاب فضائل الصحابة: ك 62، ب 9-ج 4، صـ 208 من حديث سعد بن
عبيدة."خ".
130 لعل المؤلف يشير إلى حديث ابن عمر في كتاب التفسير من صحيح
البخاري: ك 65 ب 2 تفسير البقرة الحديث: 30 ج 5، صـ 157."خ".
131 في كتاب فضائل الصحابة: ك 26، ب 7، ج 4، صـ 203-204."خ".
132 وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببشرى النصر في بدر مع زيد بن
حارثة إلى عثمان في المدينة. قال أسامة بن زيد -فيما رواه الطبري:
286:2: "فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله=
(1/114)
لو لم يكن لعثمان من الشرف إلا بيعة الرضوان لكفاه
...
كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعث مكانه، فبعث رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم عثمان133، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى
مكة134، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده اليمنى: "هذه يد
عثمان" ، فضرب بها على يده فقال: "هذه لعثمان" 135.ثم
ـــــــ
= صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، وكان رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم خلفني عليها مع عثمان"، ثم في ربيع الأول
من السنة التالية لغزوة بدر تزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة."خ".
133 وقبل أن يبعث عثمان دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه
أشراف قريش ما جاء له، فقال عمر: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على
نفسي، وليس في مكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، ولكني أدلك على رجل
هو أعز مني فيها: عثمان بن عفان. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش. ويوم تدون الدول الإسلامية
تاريخ السفارات في الإسلام، سيكون اسم عثمان أول سفراء الإسلام في
التاريخ."خ".
124 لأن عثمان لما أدى رسالته في السفارة التي بعث لها احتبس أيامًا،
فلم يعد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الموعد الذي كان يقدر له
أن يعود فيه، فوصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن سفيره
قتل، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة إلى بيعة الرضوان،
انتصارًا لعثمان، على نية أن يذهب بأصحابه إلى مكة، فيناجز المشركين
لما بلغه عن قتلهم عثمان. فبيعة الرضوان كانت رمزًا من رموز الشرف
لعثمان، وأي شرف أعظم من اجتماع قوى الإسلام بقيادة الرسول الأعظم
للأخذ بثأر هذا الرجل الحبيب إلى المسلمين، والرفيع المنزلة عند سيد
الأولين والآخرين. ثم لما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في
اللحظة الأخيرة التي اجتمع فيها الصحابة لعقد البيعدة- أن عثمان حي،
مضى في إتمام البيعة، على سنته صلى الله عليه وآله وسلم في أنه إذا بدا
بخير يمضي في إكماله، ولو زال سببه، وحينئذ كان لعثمان الشرف المضاعف
بأن يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نابت عن يده في عقد البيعة
عنه، فبيعة الرضوان كانت انتصارًا لعثمان، وجميع الصحابة بايعوا بأيدي
أنفسهم إلا عثمان فإن أشرف يد في الوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته
ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا هذاب لكفاه."خ".
135 أخرج البخاري نحوه في صحيحه: 291/7."م".
(1/115)
مؤاخذتهم عثمان بأنه لم يقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان
...
قال له ابن عمر: "اذهب بها الآن معك"133.
17- وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن
ـــــــ
136 لو أن أمير المؤمنين عثمان كان من حواريي المسيح عليه السلام،
وكانت له من سيدنا عيسى بن مريم مثل هذه المنقبة التي كرمه الله بها من
نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لعبدته النصارى لأجلها،
فالعجب لأمة يكون فيها جهلة يعيبون على عثمان -في زمانه- غيبته عن بيعة
الرضوان، ويكون فيهم من يستشعر الشجاعة في نفسه عند الإقدام على سفك دم
هذا الخليفة الرحيم لأمور هذا منها، ثم يحمل مثل هذا الجهل في دماغه
رجل جاء يعبد الله بأداء فريضة الحج، فيواجه به جماعة الصحابة من قريش
ورئيسهم عبد الله بن عمر، ثم تمس الحاجة إلى التعرض لبيان هذه الحقائق
في عصر القاضي أبي بكر بن العربي، ثم يشعر أمثالنا في عصرنا بأن عثمان
لا يزال من بعض أمته في موقف يحتاج فيه إلى إنصافه* ودفع قالة السوء
عنه. حقا إننا أمة مسكينة... ولأمر ما بلغ بنا الحال بين الأمم إلى ما
كنا فيه، وإلى ما لا نزال غارقين فيه {لَاْ يُغَيِّرُ اللهُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّىْ يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ." خ".
ـــــــ
* ونقول بهذه المناسبة: إن عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه ينبغي أن
يسمى العصر الذهبي للإسلام على الرغم من تشويهه من قبل الحساد
والمفترين والمضللين، رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه، وجزاه عن الإسلام
والمسلمين بما هو أهله، أجر ما جاهد وأنفق من قبل الفتح، ومن بعد
الفتح، وحتى في زمن خلافته.
لقد تمت في عهد هذا الخليفة العظيم أمور تنظيمية، وكان من أجَلِّها
جمعه الناس على مصحف واحد.
وزاد في عطاء الناس مئة مئة كما رأينا بل روي ما يدل على ما كان من
كثرة الخير في زمنه، والتوسع في العطاء وتنويعه حيث رُوي عن الحسن
البصري من علماء التابعين، قال: "شهدت منادي عثمان ينادي: أيها الناس
اغدوا على أعطياتكم فيغدون، ويأخذونها وافية، ثم ينادي: أيها الناس
اغدوا على أرزاقكم، فيغدون ويأخذونها وافية، حتى والله سمعته أذناي
يقول: اغدوا على كسوتكم، فيأخذون الحلل، واغدوا على السمن والعسل:
أرزاق دارة، وخير كثير وذات بين حسن. ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنًا،
إلا يرده وينصره ويألفه. فلو صبر الأنصار على الأثرة، لوسعهم ما كانوا
فيه من العطاء والرزق..."
واستمرت حركة الفتح في مختلف الميادين في زمنه، فتم في عهده فتح شمال
أفريقية، وفتح الإسكندرية مرة ثانية بعدما كرَّ الروم عليها، وغزا بلاد
النوبة، وأخذ الجزية من أهلها على يد قائده عبد الله بن سرح.
(1/116)
ذلك باطل137.
[وإن] كان لم يفعل فالصحابة متوافرون، والأمر في
ـــــــ
137 بشهادة ابنه القماذبان، روى الطبري: "34:5-44 مصر، و2801:1 طبعة
أوربا" عن سيف بن عمر بسنده إلى أبي منصور قال: سمعت القماذبان يحدث عن
قتل أبيه... قال: "فلما ولي عثمان دعاني، فأمكنني منه "أي من عبيد الله
بن عمر بن الخطاب"، ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا،
فاذهب فاقتله". فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون
إلي فيه، فقلت لهم: إلى قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا عبيد الله. فقلت:
أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا. وسبوه. فتركته لله ولهم. فاحتملوني،
فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم". هذا كلام ابن
الهرمزان، وإن كل منصف يعتقد، "ولعل ابن الهرمزان أيضًا كان يعتقد" أن
دم أمير المؤمنين عمر في عنق الهرمزان، وأن أبا لؤلؤة لم يكن إلا آلة
في يد هذا الفارسي، وأن موقف عثمان وإخوانه أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من هذا الحادث لا نظير له في تاريخ العدالة
الإنسانية."خ".
ـــــــ
= وفي خلافة عثمان أنشيء أول أسطول إسلامي، وأول من فكر في ذلك معاوية
بن أبي سفيان، وكان واليًا على الشام، استعان بهذا الأسطول على غزو
قبرص، وأخذ الجزية من أهلها.
ولقد اقتدى عبد الله بن سعد والي مصر بمعاوية، فأنشأ هو الآخر أسطول
لحماية سواحل مصر وشمال إفريقية.
وارتاع الروم من تقدم العرب البحري فسيروا أسطولًا عظيمًا بلغ عدد
مراكبه 600 لعلهم يقضون به على القوة البحرية الإسلامية الناشئة التي
أذهلتهم. وكان ذلك بقيادة الملك قسطنطين نفسه على ما رواه الطبري.
وقد قابلت أساطيل المسلمين هذه الحملة البحرية بحماسة وشجاعة واشتبكت
معها في معركة "ذات الصواري" تم النصر فيها للمسلمين بعدما غطت القتلى
من الطرفين سطح البحر، واحمرت مياهه بدمائهم.
وفي عهد الخليفة عثمان تم فتح أرمنية وأذربيجان كما تم فتح بقية بلاد
فارس.
وقد عم الرخاء في عهد عثمان بسبب هذه الفتوحات، وكثر المال والرقيق
بصورة لم يعرف لها مثيل من قبل.
وقد رثى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه كثير من الشعراء نذكر منهم
ليلى الأخيلية في بعض أبيات لها قالت:
أبعد عثمان ترجو الخير أمته ... قد كان أفضل من يمشي على ساقِ
خليفة الله أعطاهم وخولهم ... ما كن من ذهب حلو وأوراق."م".
(1/117)
أوله138. وقد
قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه139. وكان
قتل عبيد الله له، وعثمان لم يَلِ بعد. ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد
الله حقًّا، لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله140.
ـــــــ
138 وقد تصرف عثمان في هذا الأمر بعد أن ذاكر الصحابة فيه، قال الطبري:
41:5 جلس عثمان في جانب المسجد، ودعا عبيد الله، وكان محبوسًا في دار
سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من يده.. فقال عثمان لجماعة من
المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق،
فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس، ويقتل ابنه
اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن الله أعفاك أن يكون
هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان
لك. قال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية، واحتملتها في مالي."خ".
139 في تاريخ الطبري: 42:5 حديث سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي
بكر الصديق قال غداة طعن عمر: "مررت على أبي لؤلؤة عشى أمس، ومعه جفينة
"وكان نصرانيًّا من أهل الحيرة ظئرًا لسعد ابن أبي وقاص" والهرمزان،
وهم نهجى، فلما رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان، نصابه في وسطه،
فانظ، فرجع إليهم التميمي وقد كان ألفظ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى
أخذه. وجاء بالخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر. فسمع بذلك عبيد
الله بن عمر. فأمسك حتى مات عمر، ثم اشتمل على السيف فأتى الهرمزان
فقتله."خ".
140 وكذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رأى جواز قتل علوج الفرس الذين
في المدينة بلا استثناء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة:
200:3: وقد قال عبد الله بن عباس لما طعن عمر -وقال له عمر: كنت أنت
وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة- فقال "أي ابن عباس": إن شئت أن
نقتلهم، فقال عمر: "كذبت" أفبعد أن تكلموا بلسانكم، وصلوا إلى قبلتكم؟.
قال ابن تيمية: فهذا ابن عباس -وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين
وأفضل بكثير- يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقًا الذين كانوا
بالمدينة، لما اتهموه بالفساد، اعتقد جواز مثل هذا... وإذا كان
الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين،
فيجب قتله لذلك، ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله، لكن القاتل
متأولًا ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة، صار ذلك شبهة تدرأ على القاتل
"يعني عن عبيد الله بن عمر". قلت: وإلى هذا ذهب عثمان في اكتفائه
بالدية=
(1/118)
تحقيق علمي عن الكتاب المنسوب لعثمان
...
وأيضًا فإن أحدًا لم يقم بطلبه، [فكيف] يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن
ينظر في أمر لم يصح؟.
18- وأما تعلقهم بأن الكتاب وجد مع غلامه -ولم يقل أحد قط أنه كان
غلامه141- إلى عبد الله بن أبي سرح يأمره بقتل حامليه142
ـــــــ
= واحتملها من ماله الخاص*. ولو أن حادث مقتل أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب -بجميع ظروفه- وقع مثله في أي بلد آخر مهما بلغ في ذروة الحضارة
لما كان منهم مثل الذي كان من الصحابة في تسامحهم إلى حد المطالبة حتى
بقتل ابن أمير المؤمنين المقتول بيد الغدر والنذالة والبغي الذميم."خ".
141 وإنما قالوا أنه غلام الصدقة، أي أحد رعاة إبل الصدقة. وإبل الصدقة
ألوف كثيرة لها مئات من الرعاة، وإن صح أنه من رعاة إبل الصدقة فهؤلاء
لكثرتهم وتبدلهم دائمًا بغيرهم لا يكاد يعرفهم رؤسائهم فضلًا عن أن
يعرفهم أمير المؤمنين وكبار عماله وأعوانه. ومع افتراض أنه من رعاة إبل
الصدقة فما أيسر أن يستأجره هؤلاء البغاة لغرض من أغراضهم، وقد ثبت أن
الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها مقتنعين
بأجوبة عثمان وحججه. وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير
الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار، ولم يكن لأحد
غير الأشتر وأصحابه مصلحة في تجديد الفتنة. وكم لها من حيل أكثر
التواءًا من استئجار راعٍ يرعى في إبل الصدقة. بل لقد ذكروا عن محمد بن
أبي حذيفة ربيب عثمان الآبق من نعمته أنه كان في نفس ذلك الوقت موجودًا
في مصر يؤلب الناس على أمير المؤمنين ويزوِّر الكتب على لسان أزواج
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل
رجالًا على ظهور البيوت في الفسطاط ووجوههم إلى الشمس لتلوح وجوههم
تلويح المسافر ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق الحجاز بمصر ثم يرسلوا
رسلًا يخبرون عنهم الناس ليستقبلوهم... فإذا لقوهم قالوا إنهم يحملون
كتبًا من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
ـــــــ
* وكما قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان، قتل ابنة أبي لؤلؤة، وقتل أيضًا
جفينة النصراني لاتهامه بذلك، فقال أعداء عثمان رضي الله عنه إنه لم
يقتص من عبيد الله بسبب ذلك.
والجواب أن ابنة أبي لؤلؤة كانت مجوسية، وجفينة كان نصرانيًّا، وقد قال
النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في البخاري: "لا يقتل مسلم بكافر"،
وقد دفع عثمان ديتهما كما دفع دية الهرمزان بعد عفو ابنه عن عبيد الله
كما رأينا في غير هذا المكان."م".
(1/119)
قول علي أن الخارجين على عثمان حساد طلاب دنيا
...
فقد قال لهم عثمان: إما أن تقيموا شاهدين علي [بذلك]، وإلا فيميني أني
ما كتبت ولا أمرت143. وقد يكنز على لسان الرجل، ويضرب على خطه، وينقش
على خاتمه144.
فقالوا: [تسلم] لنا مروان، فقال: لا أفعل، ولو سلمه لكان ظالمًا145،
وأنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان وسواه، فما ثبت
ـــــــ
= الشكوى من حكم عثمان، وتتلى هذه الكتب في جامع عمرو بالفسطاط على ملأ
الناس وهي مكذوبة مزورة وحملتها كانوا في مصر ولم يذهبوا إلى الحجاز،
انظر كتاب الأستاذ المحقق الشيخ صادق عرجون عن عثمان بن عفان صـ
132-133. فتزوير الكتب في مأساة البغي على أمير المؤمنين عثمان كان من
أسلحة البغاة، استعملوه من كل وجه وفي كل الأحوال. وقد تقدم المثال على
ذلك، وسيأتي طرف منه فيما بعد.
142 وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وقد أذن له بالمجيء إلى
المدينة، ويعلم أنه خرج من مصر "الطبري 122:5" وكان المتسلط على الحكم
في الفسطاط محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة.
ومضمون الكتاب المزور قد اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه. وسيأتي
الكلام على ذلك كله فيما بعد."خ".
143 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 188:3: كل ذي علم بحال
عثمان يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله، ولا
عرف منه قط أنه قتل أحدًا من هذا الضرب. وقد سعوا في قتله "أي في قتل
أمير المؤمنين عثمان" ودخل عليه محمد فيمن دخل، وهو لا يأمر بقتالهم
دفعًا عن نفسه، فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم."خ".
144 وقد حدث مثل ذلك في زمن عمر، كما رواه البلاذري في فتوح البلدان:
صـ 448 طبع سنة 1350، والحافظ بن حجر في الإصابة: 528:3 طبع سنة
1328."خ".
145 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 189:3: بل عثمان إن كان
أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان؛ لأن
عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يدفع شره
إلا بقتله، وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض،
ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد، وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد
ابن أبي بكر، ولا هو "أي ابن أبي بكر" أشهر بالعلم والدين منه "أي من
مروان". بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل
الفتيا، واختلف في صحبته. ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند
الناس... ومروان من أقران ابن الزبير...إلخ."خ".
(1/120)
كان هو منفذه
وآخذه ان كان له اخذه والممكن لمن يأخذه بالحق ومع سابقته وفصيلته
ومكانته لم يثبت عليه ما يوجب خلعه فضلا عن قتله
وأمثل ما روى في قصته انه بالقضاء السابق تألب عليه قوم لأحفاداعتقدوها
ممن طلب امرا فلم يصل اليه وحسد حسادة اظهر داءها وحمله على ذلك قلة
دين وضعف يقين وإيثار العاجلة على الآجلة 146 وإذا نظرت اليهم ذلك صريح
ذكرهم على دناءة قدرهم وبطلان أمرهم 147
كان الغافقي المصري أمير القوم 148 وكنانة بن بشر التجيبي 150
ـــــــ
146 بمثل هذه الأوصاف وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الخطبة
التي خطبها على الغرائر في معسكره بالكوفة عندما كان الصحابي الفارس
المجاهد القعقاع بن عمرو التميمي يسعى بإتمام المهمة التي جاءت عائشة
وطلحة والزبير لإتمامها ، فروى الطبري ( 5 : 194 ) أن عليا ذكر إنعام
الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه . وقال على مسمع من
قتلة عثمان : « ثم حدث هذا الحادث الذي جره على الأمة أقوام طلبوا هذه
الدنيا ، حسدوا من أفاء الله عليه على الفضيلة ، وأرادوا رد الأشياء
على أدبارها » ثم ذكر أنه راحل غدا إلى البصرة ليجتمع بأم المؤمنين
وأخويه طلحة والزبير وقال : « ألا ولا يرتحلن غدا أحد أعان على عثمان -
رضي الله عنه - بشيء في شيء من أمور الناس ، وليغن السفهاء عني أنفسهم
» .
147 أجملنا في هامش ص 58 أوصاف البارزين ممن خرج على عثمان . أول من
اكتشف سريرتهم ، ونظر إلى وجوههم بنور الله فتشاءم منهم ، رجل الإسلام
المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صاحب الفراسة التي لا تخطئ . روى
الطبري ( 4 : 86 ) أن عمر لما استعرض الجيوش للجهاد سنة 14 مرت أمامه
قبائل السكون اليمنية مع أول كندة يتقدمهم حصين بن نمير السكوني
ومعاوية بن حديج أحد الصحابة الذين فتحوا مصر ثم كان أحد ولاتها ،
فاعترضهم عمر ، فإذا فيهم فتية دلم سباط ، فأعرض عنهم ثم أعرض ثم أعرض
، حتى قيل له : ما لك ولهؤلاء ؟ فقال : إني عنهم لمتردد ، وما مر بي
قوم من العرب أكره إلي منهم . فكان منهم سودان بن حمران وخالد بن ملجم
وكلاهما من البغاة على عثمان .
148 هو الغافقي بن حرب العكي من أبناء وجوه القبائل اليمنية التي نزلت
مصر عند الفتح . فلما تظاهر ابن سبأ بالتشيع لعلي . ولم يجد مرتفعا =
(1/121)
................................
ـــــــ
= لفساده في الحجاز ولا في الشام، اكتفى باصطناع بعض الأعوان في البصرة
والكوفة، واختار الإقامة في الفسطاط، فكان الغافقي هذا من قنائصه، وقد
استمالوه من ناحية تهافته على الرئاسة والجاه. وكان محمد بن أبي حذيفة
ابن عتبة الأموي ربيب عثمان الآبق من نعمته هو اليد اليمنى لتنفيذ خطط
السبأيين في مصر. والغافقي للتصدر والظهور. وفي شوال سنة 35 أعوا عدتهم
للزحف من مصر على المدينة بأربع فرق مجموع رجالها نحو ستمائة، وعلى كل
فرقة رئيس ورئيسهم العام الغافقي هذا، وتظاهروا بأنهم يقصدون الحج، وفي
المدينة تطورت حركاتهم حتى استفحل الأمر، ومنعوا عثمان من الصلاة
بالناس في المسجد النبوي، فصار الغافقي هو الذي يصلي بالناس "الطبري:
107:5" ثم لما أقنعهم الشيطان بالجرأة على الجناية الكبرى كان الغافقي
أحد المجترئين عليه وضربه بحديدة معه، وضرب* المصحف برجله، فاستدار
"الطبري: 130:5" وبعد قتل عثمان بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها
الغافقي بن حرب "الطبري: 155:5"."خ".
150 وهذا أيضًا كان من قنائص ابن سبأ في مصر. ولما أرسل عثمان عمارا**
إلى مصر؛ ليكتشف له أمر الإشاعات وحقيقة الحال، استماله السبأبون, وكان
كنانة بن بشر هذا واحدًا منهم "الطبري: 99:5". وعندما جمعوا أوشاب
القبائل للزحف على المدينة بحيلة الحج في شوال سنة 35 انقسموا في مصر
إلى أربع فرق على كل فرقة أمير، وكان كنانة بن بشر أميرًا على إحدى هذه
الفرق "الطبري: 103:5" ثم كان في طليعة من اقتحم الدار على عثمان،
وبيده شعلة من نار تنضج بالنفط، فدخل من دار عمرو بن حزم، ودخلت الشعل
على أثره "الطبري: 123:5"، ووصل كنانة التجيبي إلى عثمان فأشعره مشقصًا
"أي نصلًا طويلًا عريضًا" فانتضح الدم على آية {فَسَيَكْفِيْكَهُمُ
الله} [الطبري: 126:5] وقطع يد نائلة زوجة عثمان، واتكأ بالسيف على صدر
عثمان وقتله "الطبري: 131:5"، قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني عبد
الرحمن بن أبي الزناد المدني، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
المخزومي المدني المتوفى سنة 43 قال: الذي قتل أمير المؤمنين عثمان هو
كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي "الطبري: 132:5" وفيه يقول الوليد بن
عقبة بن أبي معيط:
ـــــــ
* في سند الخبر الغريب الموحش سيف الذي يكتب التاريخ، وهو متهم بالكذب
كما جاء في الميزان واللسان."م".
** قضية استمالة السبئيين لعمار، وصلاة الغافقي بالناس في المدينة في
سندهما سيف بن عمر التيمي الجرمي: ضعيف جدًّا واتهم بالوضع والزندقة،
كما جاء في التهذيب لابن حجر، وهكذا نرى قسمًا كبيرًا من تاريخنا من
وضع الزنادقة، فهل من معتبر؟!."م".
(1/122)
وسودان بن
حمران151، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي125،
ـــــــ
=
ألا إن خير الخلق بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
وكانت عاقبة كنانة هذا وقوعه قتيلًا في الحرب التي نشبت سنة 38 في مصر
بين محمد بن أبي بكر الصديق نائب علي، وبين عمرو بن العاص ومن معه من
جيش معاوية ابن حديج السكوني "الطبري 58:6-59، 60". "خ".
151 السكوني، من قبائل مراد اليمنية النازلة في مصر. وقد تقدم أنه كان
في سنة 14- أحد الذين قدموا في خلافة عمر للجهاد مع جيوش اليمن بقيادة
حصين بن نمير ومعاوية بن حديج، فلما استعرضهم أمير المؤمنين وقع نظره
على سودان بن حمران هذا وعلى زميله خالد بن ملجم فتشاءم منهما وكرههما.
ولما أرسل أمير المؤمنين عثمان عمارًا إلى مصر؛ ليكتشف له مصدر
الإشاعات الكاذبة وحقيقة الحال التف السبأيون بعمار وكان سودان بن
حمران منهم "الطبري: 99:5". ولما سير السبأيون متطوعة الفتنة من أوشاب
القبائل اليمنية التي في مصر في شوال سنة 35 نحو المدينة وجعلوهم أربع
فرق كان سودان قئد إحدى هذه الفرق "الطبري: 103:5"، ولما وصل متطوعة
الفتنة إلى المدينة، وخرج لهم محمد بن مسلمة ليعظم لهم حق عثمان وما في
رقابهم من البيعة له رآهم ينقادون لأربعة هذا واحد منهم "الطبري
118:5". وفي 131:5 من تاريخ الطبري وصف تَسَوُّر سودان ومعه آخرون من
دار عمرو بن حزم إلى دار عثمان، وفي 130:5 بعض تفاصيل ما وقع من سودان
عند ارتكابهم الجناية العظمى. ولما انتهوا من قتل أمير المؤمنين خرج
سودان من الدار وهو ينادي: قد قتلنا عثمان بن عفان "الطبري 123:5"."خ".
152 كان أبوه رجلًا مسنًّا من مسلمة الفتح. وورد ذكر عبد الله بن بديل
في الفتنة العظمة على أمير المؤمنين عثمان، فذكر الطبري 124:5-125 أن
المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بن زهرة خرج هو وعبد الله بن
الزبير ومروان وغيرهم يدافعون عن أمير المؤمنين على باب الدار، فحمل
عبد الله بن بديل على الأخنس بن شريق وقتله. ونقل الحافظ ابن حجر في
الإصابة 280:2 عن ابن الكلبي أن عبد الله بن بديل وأخاه عبد الرحمن
شهدا صفين مع علي وقتلا بها، والظاهر أن أخاه قتل قبله، فقد نقل ابن
حجر في الإصابة 281:2 عن ابن إسحاق في كتاب الفردوس أن عبيد الله بن
عمر بن الخطاب لما قدم الكوفة -أي مع جيش أهل الشام- لقى عبد الله بن
بديل، فنصح له ابن بديل بأن لا يهرق دمه في هذه الفتنة، فاعتذر عبيد
الله بن عمر بأنه يطلب بدم أمير المؤمنين عثمان الذي قتل ظلمًا، واعتذر
ابن بديل بأنه يطلب بدم أخيه الذي قتل ظلمًا. وكيف يكون أخوه قتل ظلمًا
=
(1/123)
وحكيم بن جبلة
من أهل البصرة153، ومالك بن الحارث الأشتر154 في طائفة هؤلاء رؤوسهم،
فناهيك بغيرهم.
ـــــــ
= وقد قتل في فتنة تطوع للمساهمة فيها مختارًا، بينما عثمان وهو أمير
المؤمنين الذي له حق الولاية عليه من ابن بديل وأمثاله ومن هم أقل منه
شأنًا، ومع ذلك لم يقاتل أحدًا، ولم يدافع عن نفسه، ونهى الناس عن أن
يدافعوا عنه أوباشًا قدموا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
من مختلف البلاد ليرتكبوا الشر والإثم. وأين عثمان الذي ملأت حسناته
الأرض وتعطرت بأريجها السماء، من عبد الرحمن بن بديل الذي لا يكاد يعرف
له التاريخ عملًا."خ".
153 حكيم بن جبلة العبدي من قبائل عبد القيس، أصلهم من عمان وسواحل
الخليج الفارسي*، وتوطن بالبصرة بعد تمصيرها، وكان حكيم هذا شابًّا
شجاعًا، وكانت الجيوش الإسلامية التي تزحف نحو الشرق لنشر الدعوة
والفتوح تصدر عن البصرة والكوفة، فكان حكيم بن جبلة يرافق هذه الجيوش.
ويجازف في بعض حملات الخطر، كما تفعل كتائب "الكوماندوز" في هذا العصر.
وقد استعملته جيوش أمير المؤمنين عثمان في إحدى هذه المهمات عند
محاولتها استشكاف الهند، كما نوهت بذلك في مقالة "طلائع الإسلام في
الهند"، ويؤكد شيوخ سيف بن عمر التميمي "وهو أعرف المؤرخين بتاريخ
العراق" على ما نقله عنه الطبري 90:5 أن حكيم بن جبلة كان إذا قفلت
الجيوش خنس عنهم، فسعى في أرض فارس، فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم
ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى
عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر أن أحبسه ومن كان مثله فلا
يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشدًا، فحبسه "أي منعه من مبارحة
البصرة". فلما قدم عبد الله بن سبأ البصرة نزل على حكيم بن جبلة،
واجتمع إليه نفر، فنفث فيهم سمومه، فأخرج ابن عامر عبد الله بن سبأ من
البصرة، فأتى الكوفة فأخرج منها، ومن هناك رحل ابن سبأ إلى الفسطاط
ولبث فيه وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، ويختلف الرجال بينهم، وذكر الطبري
104:5 أن السبئية لما قرروا الزحف من الأمصار على مدينة الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم كان عدد من خرج منهم من البصرة كعدد من خرج من
مصر، وهم مقسمون كذلك إلى أربع فرق، والأمير على إحدى هذه الفرق حكيم
بن جبلة، ونزلوا في المدينة في مكان يسمى ذا خشب. ولما حصبوا أمير
المؤمين عثمان، وهو يخطب على المنبر النبوي كان حكيم بن جبلة واحدا
منهم "الطبري: 106:5" ولما رحل الثوار عن المدينة في المرة الأولى بعد
مناقشتهم لعثمان =
ـــــــ
* بل الخليج العربي.م.
(1/124)
تسيير عثمان مثيري الفتنة إلى معاوية بالشام
...
وقد كانوا أثاروا فتنة، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد، وصاروا في جماعتهم.
ـــــــ
وسماعهم دفاعه واقتناعهم، تخلف في المدينة الأشتر وحكيم بن جبلة
"الطبري 120:5" وفي ذلك شبهة قوية بأن لهما دخلًا في افتعال الكتاب
المزور على أمير المؤمنين، ولما جاءت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة،
وأوشكوا أن يتفاهموا مع أمير المؤمنين علي على رد الأمور إلى نصابها
كان حكيم بن جبلة هو الذي أنشب القتال؛ لئلا يتم التفاهم والاتفاق
"الطبري 176:5، وما بعدها" وارتكب دناءة قتل امرأة من قومه سمعته يشتم
أم المؤمنين عائشة فقالت له: يا ابن الخبيثة أنت أولى بذلك، فطعنها
فقتلها "الطبري 179:5" وحينئذ تخلى قومه عن نصرته إلا الأغمار منهم،
وما زال يقاتل حتى قطعت رجله، ثم قُتِل وقتل معه كل من كان في الواقعة
من البغاة على عثمان، ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة: ألا من كان
فيكم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة، فليأتنا بهم" فجيء بهم كما يجاء
بالكلاب فقتلوا، فما أفلت منهم إلا حرقوص بن زهير السعدي من بني تميم
"الطبري 180:5". روى عامر بن حفص عن أشياخه قال: ضرب عنق حكيم بن جبلة
رجل من الحدان، يقال له ضخيم، فمال رأسه فتعلق بجلده فصار وجهه في قفاه
"الطبري 182:5"."خ".
154 من النخع، وهي قبيلة يمنية من قبائل مذحج. بطل شجاع من أبطال
العرب، كان أول مشاهده الحربية في اليرموك، وفيها فقد إحدى عينيه. ثم
شاء أن يكون سيفه مسلولًا على إخوانه المسلمين في مواقف الفتنة. ولو
أنه لم يكن ممن ألب على أمير المؤمنين عثمان، وكتب الله أن تكون وقائعه
الحربية في نشر دعوة الإسلام وتوسيع الفتوح، لكان له في التاريخ شأن
آخر.
والذي دفعه في هذا الطريق غُلُوُّه في الدين وحبه للرئاسة والجاه، ولست
أدري كيف اجتمعتا فيه. والأشتر أحد الذين اتخذوا الكوفة دار إقامة لهم،
فلما كانت إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة كان الأشتر يشعر في نفسه
بأنه أهل للولاية والرئاسة. فأنزلق مع العائبين على الدولة ورجالها من
الخليفة الأعلى في المدينة إلى عامله على الكوفة الوليد بن عقبة. ولما
سرق أبو زينب وأبو مورع خاتم الوليد من منزله وذهبا به إلى المدينة،
فشهدا على الوليد بشرب الخمر كما تقدم في صـ 76 أسرع الأشتر وآخرون معه
بالذهاب إلى المدينة لتوسيع دائرة الفتنة، حتى إذا عزل عثمان الوليد
سعيد بن العاص عاد الأشتر مع سعيد إلى الكوفة "الطبري 63:5". وكان
عثمان قد سن نظام مبادلة الأراضي، فمن كانت له أرض من الفيء في مكان
بعيد عنه يبادل عليها بأرض قريبة منه بالتراضي بين المتبادلين. وبهذه
الطريقة تخلى طلحة بن عبيد الله عن أسهمه في خيبر واشترى بها من فيء
أهل المدينة بالعراق أرضًا يقال لها النشاستج "الطبري 64:5". وبينما
كان سعيد بن العاص في دار الإمارة بالكوفة والناس عنده أثنى رجل على
طلحة بن عبيد الله بالجود، فقال سعيد =
(1/125)
...........................
ـــــــ
= بن العاص: لو كان لي مثل أرض النشاستج لأعاشكم الله عيشًا رغدًا.
فقال له عبد الرحمن بن خنيس الأسدي: وددت لو كان هذا الملطاط لك.
والملطات أرض على جانب الفرات كانت لآل كسرى. فغضب الأشتر وأصحابه
وقالوا للأسدي: تتمنى له سودانا! فقال والده: ويتمنى لكم أضعافه.
فثار الأشتر وصحبه على الأسدي وأبيه وضربوهما في مجلس الإمارة حتى غشى
عليهما. وسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وأحاطوا بالقصر ليدافعوا عن
رجليهما، فتلافى سعيد بن العاص هذه الفتنة بحكمته، ورد بني أسد عن
الأشتر وجماعته، وكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان في إخراج هؤلاء
المشاغبين من بلدهم، فأرسلهم إلى معاوية في الشام "الطبري 85:5-86" ثم
أخرجهم معاوية فنزلوا جزيرة ابن عمر تحت حكم عبد الرحمن بن خالد بن
الوليد إلى أن تظاهروا بالتوبة، فذهب الأشتر إلى المدينة ليرفع إلى
عثمان توبتهم، فرضي عنه عثمان، وأباح له الذهاب حيث شاء، فاختار العودة
إلى زملائه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الجزيرة "الطبري
87:5-88". وفي الوقت الذي كان فيه الأشتر يعرض على عثمان توبته وتوبة
زملائه، وذلك في سنة 34 كان السبأيون في مصر يكاتبون أشياعهم في الكوفة
والبصرة بأن يثوروا على أمرائهم، واتعدوا يومًا، فلم يستقم ذلك إلا
لجماعة الكوفة، فثار بهم يزيد بن قيس الأرحبي "الطبري 101:5".
ولما وصل الأشتر من المدينة إلى إخوانه الذين عند عبد الرحمن بن خالد
بن الوليد وجد بين أيديهم كتابًا من يزيد بن قيس الأرحبي يقول لهم فيه:
لا تضغوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا. فتشاءموا من هذه الدعوة وآثروا
البقاء، وخالفهم الأشتر، فرجع عاصيًا بعد توبته، والتحق بثوار الكوفة،
وقد نزلوا في الجرعة "مكان مشرف على القادسية"، وهناك تلقوا سعيد بن
العاص أمير الكوفة وهو عائد من المدينة فردوه، ولقي الأشتر مولى لسعيد
بن العاص فضرب الأشتر عنقه. وبلغ عثمان أنهم يريدون إقالة سعيد بأبي
موسى الأشعري، فأجابهم ألى ما طلبوا "الطبري 93:5-94". ولما فشل موعد
سنة 34 واقتصرت الفتنة على ما كان في الجرعة، اتعد السبأيون للسنة التي
بعدها سنة 35، ورتبوا أمرهم على التوجه إلى المدينة مع الحجاج كالحجاج،
وكان الأشتر مع خوارج الكوفة رئيسًا على فرقة من فرقهم الأربع "الطبري
104:5" وبعد وصولهم إلى المدينة ناقشتهم أمير المؤمنين عثمان، وبيَّن
لهم حجته في كل ما كانوا يظنونه فيه، فاقتنع جمهورهم بذلك، وحملوا
رؤساء الفتنة على الرضا بأجوبة عثمان، وارتحلوا من المدينة للمرة
الأولى. إلا أن الأشتر وحكيم بن جبلة اختلفا في المدينة ولم يرتحلا
معهم "الطبري 120:5". ولما وصل المصريون إلى مكان يسمى البويب اعترضهم
راكب مثل لهم دور حامل الكتاب المزعوم، =
(1/126)
عند معاوية155،
فذكرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الأمة156، حتى قال له زيد
بن صوحان [يومًا]- فيما يروى157-:
ـــــــ
= وسيأتي الحديث عن ذلك فيما بعد، ونقل الطبري 194:5 أن الأشتر كان في
مؤتمر السبئيين الذي عقدوه قبيل ارتحال علي من الكوفة إلى البصرة
للتفاهم مع طلحة والزبير وعائشة. فقرر السبئيون في مؤتمرهم هذا أن
ينشبوا الحرب بين الفريقين قبل أن يصطلحا عليهم. وفي وقعة الجمل اصطرع
عبد الله بن الزبير والأشتر واختلفا ضربتين وقال عبد الله بن الزبير
كلمته المشهورة: "اقتلوني ومالكًا" فأفلت منه مالك الأشتر، روى الطبري
217:5 عن الشعبي أن الناس كانوا لا يعرفون الأشتر باسم مالك، ولو قال
ابن الزبير "اقتلوني والأشتر"، وكانت للأشتر ألف ألف نفس ما نجا منها
شيء، ومازال يضطرب في يدي ابن الزبير حتى أفلت، وروى الطبري 194:5 أن
عليًّا لما فرغ من البيعة بعد وقعة الجمل واستعمل عبد الله بن عباس على
البصرة بلغ الأشتر الخبر باستعمال علي ابن عباس فغضب وقال: على ما
قتلنا الشيخ إذن؟ اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله،
والكوفة لعلي! ثم دعا بدابته فركب راجعًا. وبلغ ذلك عليًّا فنادى:
الرحيل ثم أجد السير فلحق به فلم يُرِهِ أنه بلغه عنه وقال: "ما هذا
السير؟ سبقتنا" وخشي إن ترك والخروج أن يوقع في نفس الناس شرًّا، ثم
اشترك الأشتر في حرب صفين. وولاه علي إمارة مصر بعد صرف قيس بن سعد بن
عبادة عنها. فلما وصل القلزم "السويس" شرب شربة عسل فمات، فقيل إنها
كانت مسمومة، وكان ذلك سنة 38 "الإصابة 482:3"."خ".
155 أثاروا الفتنة يوم ضربوا عبد الرحمن بن خنيس الأسدي وأباه وهم في
دار الإمارة بالكوفة، فكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان بإخراجهم
إلى بلد آخر، فسيرهم إلى معاوية في الشام. والذين سُيِّروا إلى معاوية
هم: الأشتر النخعي، وابن الكواء اليشكري، وصعصعة بن صوحان العبدي،
وأخوه زيد، وكميل بن زياد النخعي، وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب
الأزدي، وثابت بن قيس بن منقع، وعروة بن الجعد البارقي، وعمرو بن الحمق
الخزاعي."خ".
156 نص كلام معاوية كما رواه الطبري: 86:5: "إنكم قوم من العرب، لكم
أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا، وغلبتم الأمم، وحويتم
مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا، وإن قريشًا لو لم تكن
عدتم أذلة كما كنتم. إن أئمتكم اليوم جنة، فلا تسدوا عن جئتكم، وإن
أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور،و يحتملون منكم المؤونة، لتنتهن أو
ليبتلينكم الله بمن يسومكم ثم لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونوا شركاءهم
فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم"."خ".
157 بل القائل أخوه صعصعة."خ".
(1/127)
قولهم لمعاوية كم تكثر علينا بالأمرة وبقريش
...
"كم تكثر علينا [من الأمرة] وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم
سيوفها وقريش تجاهد158" فقال له معاوية: "لا أم لك، أذكرك بالإسلام
وتذكرني بالجاهلية، قبح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم، فما أنتم
ممن ينفع أو يضر. أخرجوا عني"159.
وأخبره ابن الكوا بأهل الفتنة160 في كل بلد ومؤامراتهم164.
ـــــــ
158 وقال أيضًا لمعاوية: "وأما ما ذكرت من الجنة، فإن الجنة إذا اخترقت
خلص إلينا" أي إذا قتلنا ولاتنا صارت الولاية إلينا. ولو أن هذه الكلمة
قالها ثائر وهو من قبضة حاكمه -منذ بدأت الحكومات إلى أن تقوم الساعة-
ما وجد من حاكمه حلمًا وسعة صدر كالذي وجده صعصعة من معاوية مع قدرته
عليه."خ".
159 وجواب معاوية على كلام صعصعة في وصف قريش ومكانتها طويل ونفيس، وقد
أورده الطبري 86:5."خ".
160 قد يقول قائل: فلا يدل ما وقع من الحوادث في مأساة استشهاد الخليفة
عثمان على غفلته في عدم علمه فيما يجري في الخفاء من تآمر المتآمرين.
في الحقيقة أن هذا الخليفة لم يكن على الرغم من اشتغاله بالفتوحات
الواسعة التي تمت في عهده، غافلًا عن المؤامرات التي كانت تحاك ضده من
أجل الكيد للإسلام، بل كان على مستوى الأحداث بعيدًا عن تهمة الضعف
التي تتردد على ألسنة خصومه.
قال الأستاذ المؤرخ محمد عزة دروزة:
وقد نشط ابن سوداء "أي عبد الله بن سبأ" وجماعاته في بث الدعاية ضد
عثمان وأمرائه حتى أوسعوا الأرض إذاعة كما جاء في رواية الطبري. وكانوا
يكتبون كتبًا في الغيب فيهم ويرسلونها للناس في الأمصار. وبلغ ذلك أهل
المدينة فجاءوا إلى عثمان يسألونه هل أتاه من الأمصار مثل ما أتاهم.
فقال لهم: والله ماجاءني إلا السلامة، فأخبروه. فقال لهم: أنتم شركائي
وشهود المؤمنين، فأشيروا علي، فأشاروا عليه إرسال أشخاص ممن يثق فيهم
للأمصار، ليقولوا لأهلها إنهم لم ينكروا شيئًا من عثمان، لا أعلامهم
ولا عوامهم... وأن الأمراء يقسطون بين الناس "الطبري ج3 صـ 379".
ثم كتب إلى أهل الأمصار كتابًا عامًّا يذكر فيه ما بلغه من الإذاعات
والطعن على الأمراء، ويقول: إنه تولى أمر المؤمنين ليقوم الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنه ولى عماله على ذلك، وأنه مستعد لسماع
كل شكوى منه ومن عماله وإنصاف صاحبها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ويدعو من
له شكوى إلى موافاته في الموسم "380-381" الطبري نقلًا عن تاريخ الجنس
العربي: 231/7 ثم استدعى ولاة الأمصار واستطلعهم الأمر: وقال: إني أخشى
أن=
(1/128)
فكتب إلى عثمان
يخبره بذلك، فأرسل إليه بأشخاصهم إليه، فأخرجهم
ـــــــ
=
يكون مصدقًا عليكم، فأكدوا له أنهم سالكون طريق الحق والمصلحة، وإن ما
بلغه دسائس ووساوس تبث سرًّا، واقترح بعضهم تعقب المذيعين، وقتلهم،
فأمرهم بالانتباه والرفق والتسامح فيما لا يكون فيه ضياع حقوق الأمة،
ومن الولاة معاوية بن أبي سفيان "عن الجنس العربي: 232/7" وقد نقله عن
الطبري، وذكر المؤرخون أن عثمان جمع بعض خاصته، فشاورهم في أمر الناس،
سمع منهم ثم قال لهم:
لقد سمعت كل ما أشرتم به، ولكل أمر باب يؤتى منه. إن هذا الأمر الذي
يخاف على هذه الأمة كائن. وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن، فنكفكفه
باللين والمواتاة إلا في حدود الله، فإن فتح فلا يكونن لأحد علي حجة،
وقد علم الله أن لم آل الناس خيرًا، وإن رحى الفتنة دائرة، فطوبى
لعثمان إن مات ولم يحركها.
سكِّتُوا الناس وهبوا لهم حقوقهم، فإذا تعوطيت حقوق الله فلا توهنوا،
"الخليفة المفترى عليه: صـ 64 للأستاذ محمد صادق عرجون".
ومن أروع الأدلة على قوة عثمان ورباطة جأشه موقفه حين اشتد عليه هجوم
الثوار وأصحاب الفتنة، يقتحمون عليه داره ليقتلوه، وكبار الصحابة
الصناديد مع أبنائهم يرجونه للدفاع عنه، كما فصلنا القول في غير هذا
المكان، "فيعزم على كل من رأى أن له عليه سمعًا وطاعة أن يكف يده ويلقى
سلاحه" حرصًا على دماء المسلمين، ولو بتعريض حياته للهلاك والقتل.
ليت شعري أي شجاعة نفسية، وأي صبر يطلبه الناس وراء هذا؟ إذا كانت
الشجاعة هي ضبط النفس عند النوازل في غير قلق، والصبر على المكاره من
غير جزع، ومصابرة الحوادث من غير سأم، والثبات لجسام الأحداث بلا
تزعزع، فلم تنجب الأمهات مثل عثمان في شجاعته ورباطة جأشه، وقوة يقينه،
وثباته على رأيه فإن أحدًا من الناس في مثل حال عثمان وشأنه، لم يلقَ
ما لقي عثمان، ولا شيئًا منه، ولم يصبر أحد على ما لقي من البلاء
والمحنة مثل ما صبر عثمان. وكيف بصبر ينتهي بصاحبه -على علم منه
وبصيرة- إلى الموت قتلًا، وكان له لو كان جزوعًا وأراد إلا يصبر عن
يقين ورضًا، مخارج ينفذ منها، ويعيش في خفض من العيش، ولكن عثمان رضي
الله عنه لم يكن ضعيفًا ولا مستضعفًا -كما يزعم القاصرون والمقصرون- بل
كان قويَّ الإيمان، عظيم اليقين، كبير النفس، عبقري الشجاعة، نبيل
الصبر، نفاذ البصيرة، فَفَدَى الأمة، ووضع لها بذلك أعظم قواعد النظام
في تكوينها الاجتماعي "الخليفة المفترى عليه، للأستاذ عرجون صـ
65"."م".
161 قال ابن الكواء فيما نقله الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخ
دمشق 299:7 وأبو جعفر الطبري في تاريخه 92:5 يصف لمعاوية=
(1/129)
انتقال مثيري الفتنة إلى منطقة عبد الرحمن بن خالد ومعاملته لهم بالحزم
...
معاوية162، فمروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد163، فحبسهم، ووبخهم؛
وقال لهم: "اذكروا [لي] ما كنتم تذكرون لمعاوية"164، وحصرهم، وأمشاهم
بين يديه أذلاء حتى تابوا بعد حول165.
وكتب إلى عثمان بخبرهم، فكتب إليه أن سرِّحْهم إلي، فلما مثلوا بين
يديه جددوا التوبة، وحلفوا على صدقهم، وتبرأوا مما نسب إليهم166
ـــــــ
=
أهل الأحداث من أهل الأمصار، أما أهل الأحداث من أهل المدينة فهم أحرص
الأمة على الشر، وأعجزهم عنه. وأما أهل الأحداث من أهل الكوفة فإنهم
أنظر الناس في صغير، وأركبه الكبير، وأما أهل الأحداث من أهل البصرة
فإنهم يردون جميعًا ويصدرون شتى. وأما أهل الأحداث من أهل مصر فهم أوفى
الناس بشر، وأسرعه ندامة. وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس
لمرشدهم، وأعصاه لمغويهم."خ".
162 وكتب فيهم إلى عثمان: "إنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان.
أثقلهم الإسلام، وأضجرهم العدل. لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون
بحجة. إنما همهم الفتنة، وأموال أهل الذمة. والله مبتليهم ومختبرهم، ثم
فاضحهم ومخزيهم. وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم. فانْهَ سعيدًا
ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير". "الطبري:
87:5"."خ".
163 وكان يلي حمصًا لمعاوية، ويتبعه منطقة الجزيرة حران والرقة."خ".
164 وذلك بعد قوله لهم: "يا آلة الشيطان، لا مرحبًا بكم ولا أهل. وقد
رجع الشيطان محسورًا وأنتم بعد نشاط. خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم
حتى يحصركم. يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم، لكي لا تقولوا لي ما
يبلغني أنكم تقولون لمعاوية. أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من عجمته
العاجمات، أن ابن فاقئ الردة. والله لئن بلغني يا صعصعة بن ذل أن أحدًا
ممن معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى" "الطبري:
87:5"."خ".
165 كان كلما ركب أمشاهم، فإذا مر به "صعصعة" قال: أيا ابن الحطيئة،
أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر؟ مالك لا تقول كما كان يبلغني
أنك تقول لسعيد ومعاوية فيقول ويقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك
الله "الطبري: 87:5-88"."خ".
166 الذي قدم إلى أمير المؤمنين عثمان في المدينة هو الأشتر النخعي
وحده، وهو الذي ناب عن ابني صوحان وابن الكواء والآخرين في تجديد
التوبة التي أعلنوها من قبل لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، غير أن
الفتنة =
(1/130)
[فخيرهم] حيث
يسيرونه، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد: كوفة، وبصرة، ومصر،
فأخرجهم، فما استقروا في [جنب] ما ساروا حتى ثاروا وألبوا، حتى انضاف
إليهم جمع167.
وساروا إليه168: على أهل مصر عبد الرحمن بن عدس البلوي169،
ـــــــ
= لم تكن مقتصرة على هؤلاء، بل كانت جرثومتها في يد ابن سبأ الذي اختار
الإقامة في الفسطاط، وكان لها جناح في البصرة، وللأشتر وإخوانه بقية في
الكوفة. وبينما كان الأشتر يجدد توبته وتوبة إخوانه في المدينة كان
أعوان ابن سبأ يكاتبون البصرة والكوفة في موعد يثبون فيه على ولاتهم،
فما رجع الأشتر بتوبته إلى إخوانه الذين كانوا عند عبد الرحمن بن خالد
بن الوليد تى وجد عندهم كتابًا من أخوانهم في الكوفة يدعونهم للاشتراك
فيما اتعدوا له، فلم يبتهج بهذه الدعوة إلى الفتنة والشر إلا الأشتر
الذي لم يكن قد نسى توبته بعد، فأسرع إلى الكوفة وانضم إلى الفتنة التي
تسمى في التاريخ "يوم الجرعة" وكان ذلك في سنة 34."خ".
167 لما خفق السبأيون في الوثوب على ولاتهم سنة 34 في الموعد الذي وقعت
فيه فتنة يوم الجرعة، اتعدوا لفتنة أخرى بمقياس أوسع يقومون بها في
العام التالي سنة 35 فيذهب الحجاج للقيام بطاعة الله، ويذهب دعاة
الفتنة للمجاهرة بمعصية الله. وقد نظموا أنفسهم في اثنتي عشرة فرقة:
أربع فرق من مصر، وأربع من البصرة، وأربع من الكوفة. وفي كل فرقة نحو
مائة و خمسين مفتونًا، أي من كل بلد نحو ستمائة رجل."خ".
168 أي إلى أمير المؤمنين عثمان في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم."خ".
169 فارس شاعر، نزل مصر مع جيش الفتح، ولم يعرف له في سيرته شيء انفرد
بالامتياز به غير اشتراكه في هذه الفتنة، مع دعواه أنه كان من الذين
بايعوا تحت الشجرة. وأظنه لم يكن من الرؤوس المدبرين للفتنة، ولكن
مدبريها استغلوا ميله إلى الرئاسة، فاستفادوا من سنه ووجاهته بين فرسان
القبائل العربية بمصر، وولوه القيادة على إحدى الفرق الأربع التي خرجت
من مصر إلى المدينة، "وقادة الفرق الثلاثة الأخرى: كنانة بن بشر
التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني، ورئيسهم الأعلى
الغافقي بن حرب العكي"، وكان عبد الرحمن بن عديس في مدة الحصار شديد
الوطأة على أمير المؤمنين عثمان وأهل بيته. ثم كانت عاقبته القتل في
جبل الجليل بالقرب من حمص، لقيه أحد الأعراب فلما اعترف له بأنه من
قتلة عثمان بادر =
(1/131)
مسير فرق الثوار إلى المدينة
...
وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة170، وعلى أهل الكوفة الأشتر مالك بن
الحارث النخعي171. فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس وثلاثين173.
فاستقبلهم عثمان، فقالوا: ادع بالمصحف، فدعا به. فقالوا: افتح
[السابعة]173-يعني يونس- فقالوا: اقرأ. فقرأ حتى انتهى إلى قوله:
{آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُوْنَ} قالوا له: قف.
قالوا له: أرايت ما حميت من الحمى، أذن الله لك أم علي الله افتريت؟
قال: امضه، إنما نزلت في كذا، وقد حمى عمر، وزادت الإبل فزدت.
فجعلوا يتبعونه هكذا، وهو ظاهر عليهم، حتى قال لهم: ماذا تريدون؟
فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه ستًّا أو خمسًا175: أن المنفي [يقلب]176
ـــــــ
= بقتله "معجم البلدان لياقوت الحموي: الجليل". وأخطأ من نسب ابن عديس
إلى تجيب، فإنه بلوي من قضاعة،
أما تجيب بنت ثوبان المذحجية فلا ينسب إليها إلا بنو ولديها سعد وعدي
ابني أشرس بن شبيب بن السكون من كندة، وأين كندة من قضاعة."خ".
170 تقدم التعريف به، وهو أمير إحدى الفرق الأربع البصرية "والثلاثة
والآخرون: ذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح "الحطم"، وابن المحرش
الحنفي، ورئيسهم الأعلى حرقوص بن زهير السعدي"."خ".
171 تقدم التعريف به، وهو أمير إحدى الفرق الأربع الكوفية "والثلاثة
الآخرون: زيد بن صوحان العبدي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن
الأصم، ورئيسهم الأعلى عمرو بن الأصم"."خ".
172 نزلوا خارج المدينة على ثلاث مراحل منها، ثم تقدم ثوار البصرة
فنزلوا في ذي خشب، ونزل ثوار الكوفة الأعوص، ونزل عامتهم بذي
المروة."خ".
173 ب، ج، ز: التاسعة. قارن "الطبري ج2 صـ 117" "ويونس" يأتي ترتيبها
السابعة في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه. ونسخة "د" تتفق مع ما ورد في
الطبري. وكان الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله قد أثبتها التاسعة في
أصل الكتاب. "س".
175 أي اشترطوا عليه ستة شروط أو خمسة في المعاني الآتية."خ".
176 ب، ج، ز: "يعلب". وكتبها الشيخ محب الدين: "يعاد"؛ اجتهادًا منه،
ولكنه لم ينبه إلى ذلك، رغم أن الشيخ ابن باديس اقترح نفس اللفظة
"بقلب" في الهامش. وشهدت نسخة "د" لاقتراح العلامة ابن باديس."س".
(1/132)
والمحروم يعطى،
ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل [ذو] الأمانة والقوة، فكتبوا ذلك
في كتاب، وأخذ عليهم أن لا يشقوا عصًا، ولا يفرقوا جماعة، ثم رجعوا
راضين177، وقيل: أرسل إليهم عليًّا فاتفقوا على الخمس المذكورة ورجعوا
راضين، فبينما هم كذلك178، إذا راكب يتعرض لهم179، ثم يفارقهم
مرارًا180. قالوا: مالك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله
بمصر181 ففتشوه، فإذا هم بالكتاب على لسان
ـــــــ
177 كان الزاحفون من أمصارهم على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم، فريقين: رؤساء خادعين على درجات متفاوتة، ومرءوسين مخدوعين، وهم
الكثرة التي بثت فيها دعايات مغرضة حتى ظنت أن هنالك منفيين مظلومين
ومحرومين سلبوا حقهم...إلخ. وقد رأيت شهادة أصدق شاهدين في العراق
حينئذ، وهما الحسن البصري وصنوه ابن سيرين عن وفرة الأعطيات والأرزاق
وأنواع الخيرات حتى كان منادي عثمان ينادي بدعوة الناس لها فلا يمنع
عنها أحد. ورأيت فيما سبق شهادة الإمام الشعبي عن تعميم الرزق والخير
حتى إلى الإماء والعبيد. ولما أصغى عامة الثائرين إلى أجوبة عثمان
وعرفوا الحقيقة اقتنعوا ورجعوا، وكان رجوعهم من طريقين مختلفين باختلاف
اتجاه أمصارهم، فالمصريون اتجهوا شمالًا لغرب ليسايروا ساحل البحر
الأحمر إلى السويس ومصر، والعراقيون من بصريين وكوفيين اتجهوا شمالًا
لشرق منجدين ليبلغوا البصرة والكوفة من أرض العراق."خ".
178 أي فبينما العراقيون من بصريين وكوفيين في طريقهم نحو الشرق إلى
الشمال، والمصريون في طريقهم نحو الغرب إلى الشمال، وبين الفريقين
مراحل بعيدة؛ لأنهما تقدما في السير والمسافة تزداد بعدًا بينهما."خ".
179 أي للمصرين وحدهم."خ".
180 ولا يتعرض لهم، ثم يفارقهم، ويكرر ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه،
ويثير شكوكهم فيه. وهذا ما أراده مستأجروا هذا الرجل لتمثيل هذا الدور،
ومدبرو هذه المكيدة لتجديد الفتنة بعد أن صرفها الله وأراح المسلمين من
شرورها، ولا يعقل أن يكون تدبير هذا الدور التمثيلي صادرًا عن عثمان أو
مروان أو أي إنسان يتصل بهما؛ لأنه لا مصلحة لهما في تجديد الفتنة بعد
أن صرفها الله، وإنما المصلحة في ذلك للدعاة الأولين إلى إحداث هذا
الشغب، ومنهم الأشتر وحكيم بن جبلة اللذان لم يسافرا مع جماعتهما إلى
بلديهما، بل تخلفا في المدينة "الطبري 120:5"، ولم يكن لهما أي عمل
يتخلفان في المدينة لأجله إلا مثل هذه الخطط والتدابير التي لا يفكران
يومئذ في غيرها."خ".
181 وقد صرحوا بأنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح "الطبري: 120:5" =
(1/133)
عثمان، عليه
خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم182.
فأقبلوا حتى قدموا المدينة183، فأتوا عليًّا فقالوا له: ألم تر إلى عدو
الله
ـــــــ
= ولا يعقل أن يكتب إليه عثمان أو مروان؛ لأنه كان عقب خروج الثوار من
مصر متوجهين إلى المدينة كتب إلى عثمان يستأذنه بالقدوم عليه "الطبري:
122:5" وخرج بالفعل من مصر نحو العريش وفلسطين وأيلة "العقبة" وتغلب
محمد ابن أبي حذيفة على الحكم في مصر، وهو عدو لله ورسوله، وخارج على
خليفة المسلمين. فكيف يكتب عثمان أو مروان إلى عبد الله بن سعد وعندهما
كتابه الذي يستأذن به في القدوم إلى المدينة؟."خ".
182 الأخبار التي جاء فيها أن الراكب غلام عثمان، وأن الجمل جمل
الصدقة، وأن عثمان اعترف بذلك، كلها أخبار مرسلة لا يعرف قائلها أو
مكذوبة أذاعها رواة مطعون في صدقهم وأمانتهم، ومضمون الكتاب اضطربت
الروايات فيه، ففي بعض الروايات: "إذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس،
فاجلده مائة واحلق له رأسه ولحيته وأطل حبسه حتى يأتيك أمري. وعمرو ابن
الحمق فافعل به مثل ذلك. وسودان بن حمران مثل ذلك. وعروة ابن التباع
الليثي مثل ذلك"، وفي رواية: "إذا أتاك محمد بن أبي بكر الصديق وفلان
وفلان فاقتلهم، وأبطل كتابهم، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي"، وفي رواية
ثالثة أن مضمون الكتاب أمر عامله بالقتل والقطع والصلب على هؤلاء
الثوار، وهذا الاختلاف في مضمون كتاب واحد مما يزيد بالريبة في
أمره."خ".
183 وأعجب العجب أن قوافل الثوار العراقيين التي كانت متباعدة في الشرق
والغرب عادت معًا إلى المدينة في آن واحد، أي أن قوافل العراقيين التي
كانت بعيدة مراحل بعيدة عن قوافل المصريين علمت بالرواية المسرحية في
الساعة التي مثلت فيها في البويب فرجعت إلى المدينة وقت رجوع المصريين،
ووصلتا إلى المدينة معًا كأنما كانوا على ميعاد. ومعنى هذا أن الذين
استأجروا الراكب ليمثل دور حامل الكتاب أمام قوافل المصريين استأجروا
راكبًا آخر خرج من المدينة معه قاصدًا قوافل العراقيين ليخبرهم بأن
المصريين اكتشفوا كتابًا بعث به عثمان إلى عبد الله بن سعد في مصر بقتل
محمد بن أبي بكر، قال الطبري: 105:5. فقال لهم علي: "كيف علمتم يا أهل
الكوفة ويا أهل البصرة بما لقى أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم
نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة" "يشير كرم الله وجهه إلى تخلف
الأشتر وحكيم في المدينة، وأنهما هما اللذان دبرا هذه المسرحية". قال
الثوار العراقيون: "فضعوه على ما شئتم. لا حاجة لنا إلى هذا الرجل.
ليعتزلنا" وهذا تسليم منهم بأن قصة الكتاب مفتعلة، وأن الغرض الأول
والأخير هو خلع أمير المؤمنين عثمان وسفك دمه الذي عصمه الله بشريعة
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم."خ".
(1/134)
كتب فينا بكذا؟
وقد أحل الله دمه، قالوا له: فقم معنا إليه، قال والله لا أقوم معكم،
قالوا له: فلم كتبت184 إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم. فنظر بعضهم
إلى بعض185. وخرج علي من المدينة.
فانطلقوا إلى عثمان، فقالوا له: كتبت فينا كذا. قال لهم: إما أن تقيموا
ـــــــ
184 "د": "كتب" ورواية خليفة بن خياط: "كتبت" "تاريخ خليفة بن خياط:
146/1" والمؤلف هنا اعتمد على خليفة بن خياط في رواية أخبار الفتنة،
ووثقه فيها ونوه بإسناده "د. عمار طالبي"."س".
185 الطبري 108:5. وهذا الحوار بين علي والثوار مجمع عليه في كل
الروايات، وهو نص قاطع على أن اليد التي زورت الكتاب على عثمان، وبعثت
إلى العراقيين تخبرهم بذلك وتطلب منهم أن يعودوا إلى المدينة، وهي اليد
التي زورت على علي كتابًا إلى الثوار العراقيين بأن يعودوا. وقد قلنا
من قبل أن الثوار فريقان -خادع ومخدوع- فالذين نظر بعضهم إلى بعض عندما
حلف علي بأنه لم يكتب إليهم هم الفريق المخدوع، يتعجب كيف لم يكتب علي
إليهم وقد جاءهم كتابه، ومن ذا الذي يكون قد كتب الكتاب على لسانه إن
لم يكن هو الذي كتبه؟ وسيأتي قريبا أن مسروق بن الأجدع الهمداني "وهو
من الأئمة الأعلام المقتدى بهم" عاتب أم المؤمنين عائشة بأنها كتبت إلى
الناس تأمرهم بالخروج على عثمان، فأقسمت له بالله الذي آمن به المؤمنون
وكفر به الكافرون أنها ما كتبت إليهم سوادًا في بياض. قال سليمان بن
مهران الأعمش "أحد الأئمة الأعلام الحفاظ": "فكانوا يرون أنه كتب على
لسانها"، أيها المسملون في هذا العصر وفي كل عصر، إن الأيدي المجرمة
التي زورت الرسائل الكاذبة على لسان عائشة أو علي وطلحة والزبير هي
التي رتبت هذا الفساد كله، وهي التي طبخت الفتنة من أولها إلى آخرها،
وهي التي زورت الرسالة المزعومة على لسان أمير المؤمنين عثمان إلى
عامله في مصر في الوقت الذي كان يعلم فيه أنه لم يكن له عامل في مصر،
وقد زورت هذه الرسالة على لسان عثمان بالقلم الذي زورت به رسالة أخرى
على لسان علي، كل ذلك ليرتد الثوار إلى المدينة بعد أن اقتنعوا بسلامة
موقف خليفتهم، وأن ما كان ولم يكن صهر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم المبشر منه بالشهادة والجنة هو المجني عليه وحده بهذه المؤامرة
السبئية الفاجرة، بل الإسلام نفسه كان مجنيًّا عليه قبل ذلك. والأجيال
الإسلامية التي تلقت تاريخها الطاهر الناصع مشوهًا ومحرفًا هي كذلك ممن
جنى عليهم ذلك اليهودي الخبيث، والمنقادون له بخطام الأهواء والشهوات.
(1/135)
وقائع ومحاورات بين عثمان والبغاة عليه
...
اثنين من المسلمين، أو [بينة]* -كما تقدم ذكره- فلم يقبلوا ذلك منه186،
ونقضوا عهده187، وحصروه.
وقد روي أن عثمان جيء إليه بالأشتر، فقال له: يريد القوم منك إما أن
تخلع نفسك، أو تقص منها، أو يقتلوك. فقال: "أما خلعي، فلا أترك أمة
محمد بعضها على بعض. وأما القصاص، فصاحباي قبلي لم يقصا من أنفسهما،
ولا يحتمل ذلك بدني"188.
وروي أن رجلًا قال له: نذرت دمك. قال: [له: خذ جنبي، فشرط فيه بالسيف
شرطة أراق منه دمه]189،، ثم خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين190.
ـــــــ
186 لأنهم ما جاءوا ليقبلوا حقا أو يرجعوا إلى شرع، وإنما جاءوا
ليخلعوه أو يسفكوا دمه."خ".
187 الذي تقدم أنهم قطعوه على أنفسهم بأن لا يشقوا عصًا، ولا يفرقوا
جماعة."خ".
* وفي طبعة الشيخ الخطيب "يميني"."س".
188 هذا الخبر في تاريخ الطبري: 117:5-118، وفي البداية والنهاية
184:7، وفي أنساب الأشراف للبلاذري 92:5.
189 وفي مطبوعة الشيخ الخطيب "خذ جبتي، فشرط فيها شرطة بالسيف أراق منه
دمه"."س".
190 هذا الخبر في كتاب التمهيد للإمام أبي بكر الباقلاني صـ 216.
وأعجب من ذلك ما رواه الطبري 137:5-138 أن عمير بن ضابيء البرجمي وكميل
بن زياد النخعي خضرا إلى المدينة ليغتالا عثمان تنفيذًا لقرار اتخذوه
بالكوفة مع بقية عصابتهم، فلما وصلا إلى المدينة نكل عمير، وترصد كميل
للخليفة حتى مر به، فلما التقيا ارتاب منه عثمان، ووجأ وجهه فوقع على
استه، فقال لعثمان: أوجعتني يا أمير المؤمنين، قال عثمان: أولست بفاتك؟
قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، فاجتمع الناس وقالوا: نفتشه يا أمير
المؤمنين. فقال: لا. قد رزق الله العافية، ولا أشتهي أن أطلع منه على
غير ما قال. ثم قال لكميل: "إن كان كما قلت فاقتد مني "وجثا"، فوالله
ما حسبتك إلا تريدني". وقال: "إن كنت صادقًا فأجزل الله، وإن كنت
كاذبًا فأذل الله" وقعد له على قدميه وقال: "دونك" فقال كميل: "تركت"
أيها القارئ الكريم، إن هذا الموقف ليس موقف خليفة فضلًا عمن دونه، بل
هو موقف المتخلقين بأخلاق الأنبياء، على أن الله يمهل ولا
(1/136)
فتوى ابن عمر لعثمان بألا يخلع نفسه لئلا تتخذ عادة
...
ولقد دخل عليه ابن عمر، فقال "له عثمان: انظر ما يقول هؤلاء، يقولون:
اخلع نفسك أو نقتلك. قال له "ابن عمر": أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا،
قال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا، قال: هل يملكون لك جنة أو
نارًا؟ قال: لا، قال: فلا تخلع قميص الله عنك، فتكون سنة، كلما كره قوم
خليفتهم خلعوه أو قتلوه191.
وقد أشرف عليهم عثمان، واحتج عليهم بالحديث الصحيح في بنيان المسجد،
وحفر بئر رومة، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين رجف بهم
أحد193. وأقروا له به في أشياء ذكرها193.
ـــــــ
يهمل، فقد جاء الحجاج بعد أربعين سنة، فقتل ضائبًا وقتل كميلًا بما
أراده في هذا الحادث من الفتك برجل خلق قلبه من رحمة الله، و"إن الله
ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"*.
191 أورد البلاذري هذا الخبر في أنساب الأشراف: 76:5 من حديث نافع عن
ابن عمر، وقبل أن يفتي ابن عمر لخليفته بذلك ويدعوه إلى هذه التضحية
النبيلة، كان عثمان على بينة من ذلك ونور من الله، فقد أخرج ابن ماجه
في مقدمة سننه الباب 11 ج 1، صـ 28 من حديث النعمان بن بشير عن أم
المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعثمان: "يا
عثمان، إن ولاك الله هذا الأمر يومًا فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك
الذي قمصك الله فلا تخلعه ** يقول ذلك ثلاث مرات" وفي مسند الإمام أحمد
ج6 الطبعة الأولى: صـ 75، 86، 114، 149 حديث عائشة هذا بألفاظ مختلفة
يرويه عنها عروة بن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهما.
192 قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق
وشهيدان" رواه البخاري."م".
193 انظر في مسند الإمام أحمد: 59:1 الطبعة الأولى رقم 420 الطبعة
الثانية حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن. وسنن النسائي 124:2-125 وجامع
الترمذي 319:4-320.
ـــــــ
* رواه البخاري ومسلم. "م".
** أورد الترمذي وابن ماجه نحوه حسنه الترمذي وصححه محقق المشكاة."م".
(1/137)
إشراف عثمان على الناس واستشهاده إياهم بسوابقه
...
وقد ثبت أن عثمان أشرف عليهم وقال: أفيكم ابنا محدوج؟ أنشدكما الله
ألتسما تعلمان أن عمر قال: إن ربيعة فاجر أو غادر، وإني والله لا أجعل
فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر، وإنما مهر أحدهم عند
[طبيبه]194. وإني زدتهم في غزاة واحدة خمسمائة، حتى ألحقتهم بهم؟
قالوا: بلى.
قال: أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني، فقلتما: إن كندة آكلة
رأس، وإن ربيعة هي الرأس، وإن الأشعث بن قيس قد أكلهم. فنزعته
واستعملتكما؟ قالا: بلي.
قال: اللهم إنهم كفروا معروفي، وبدلوا نعمتي، فلا ترضهم عن إمامهم، ولا
ترض إمامًا عنهم.
وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال:
أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه195.
ـــــــ
194 كذا في طبعة الشيخ الخطيب، لكن في : ب، ج، ز: "طسه" وفي "د":
"طنيه" وهو ما نختاره، والطني: الفجور، والتهمة، وفي رواية خليفة بن
خياط: 149/1 طنبه: وهو سير يوصل بوتر القوس.س.
195 الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عن أو
الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء
المسلمين. إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها
البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى
هذه النتيجة، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه
قوة من جند الشام تكون رهن إشارته، فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة
بجند يساكنهم "الطبري: 101:5"، وأن لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من
إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل
دينه. فلما تذاءب عليه البغاة، واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء
جزافًا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن
مزالق العنف.
والأخبار بذلك مستفيضة فلي مصادر أوليائه وشانئيه. على أنه لو ظهرت في
الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه الثوار، وتضع حدًّا لغطرستهم
وجاهليتهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو مطئمن إليه من أنه لن
يموت إلا شهيدًا."خ".
(1/138)
موقف عثمان من أمر الدفاع عنه بالاستسلام للأقدار
...
ثم قال: قم يا ابن عمر- وعلى ابن عمر سيفه متقلدا- فأخبر به الناس196
فخرج ابن عمر. ودخلوا فقتلوه197.
وجاءه زيد بن ثابت فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت
كنا أنصار الله مرتين. قال عثمان لا حاجة لي في ذلك كفوا198.
ـــــــ
196 في البداية والنهاية: 182:7 عن مغازي ابن عقبة "أن ابن عمر لم يلبس
سلاحه إلا يوم الدار في خلافة عثمان، ويوم أراد نجدة الحروري أن يدخل
المدينة مع الخوارج أيام عبد الله بن الزبير"."خ".
197 في تاريخ الطبري 129:5 كان آخر من خرج عبد الله بن الزبير، أمره
عثمان أن يصير إلى أبيه بوصيته التي كتبها استعدادًا للموت، وأمره أن
يأتي أهل الدار "أي المدافعين عنه في ساحة القصر" فيأمرهم بالانصراف
إلى منازلهم، فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم، فما زال يدعى بها ويحدث
الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه، وإنما أوصى عثمان إلى الزبير؛ لأن
الزبير كان محل الثقة من كبار الصحابة، روى الحافظ ابن عساكر: 362:5 إن
ستة من الصحابة أوصوا إليه: عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود،
والمقداد، ومطيع بن الأسود، وأبو العاص بن الربيع، فكان ينفق على
أيتامهم من ماله، ويحفظ لهم أموالهم."خ".
198 أورده البلاذري في أنساب الأشراف: 73:5 من حديث ابن سيرين، وأخرج
الحافظ ابن عساكر عن مؤرخ الصدر الأول موسى بن عقبة الأسدي الذي قال
فيه الإمام مالك: "عليكم بمغازي ابن عقبة، فإنه ثقة، وهي أصح المغازي"
أن أبا حبيبة الطائي "وهو ممن يروي عنهم أبو داود والنسائي والترمذي
قال: "لما حضر عثمان جاء بنو عمرو بن عوف إلى الزبير فقالوا: يا أبا
عبد الله، نحن نأتيك ثم نصير إلى ما تأمرنا به" "أي من الدفاع عن أمير
المؤمنين" قال أبو حبيبة: فأرسلني الزبير إلى عثمان، فقال: أقرءه
السلام وقل: "يقول لك أخوك: إن بني عمرو بن عوف جاءوني ووعدوني أن
يأتوني، ثم يصيروا إلى ما أمرتهم به. فإن شئت أن آتيك فأكون رجلًا من
أهل الدار يصيبني ما يصيب أحدهم، فعلت. وإن شئت انتظرت معياد بني عمرو
فأدفع بهم عنك، فعلت" قال أبو حبيبة: فدخلت عليه "أي على عثمان" فوجدته
على كرسي ذي ظهر، ووجدت رياطًا مطروحة ومراكن مغلوة، ووجدت في الدار
الحسن بن علي، وابن عمر، وأبا هريرة، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم،
وعبد الله بن الزبير، فأبلغت عثمان رسالة الزبير، فقال: الله أكبر،
الحمد الله الذي عصم أخي. قل له: إنك إن تأت الدار تكن رجلًا
=
(1/139)
...............................
ـــــــ
= من المهاجرين، حرمتك حرمة رجل، وغناؤك غناء رجل. ولكن انتظر ميعاد
بني عمرو بن عوف، فعسى الله أن يدفع بك". قال: فقام أبو هريرة فقال:
"أيها الناس، لقد سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"تكون بعدي فتن وأحداث" فقلت: وأين النجاء منها يا رسول الله؟ قال
:"الأمير وحزبه" وأشار إلى عثمان**. فقال القوم: ائذن لنا فلنقاتل، فقد
أمكنتنا البصائر. فقال عثمان: "عزمت على أحد كانت لي عليه طاعة ألا
يقاتل". قال: فبادر -أي سبق- الذين قتلوا عثمان ميعاد بني عمرو بن عوف
فقتلوه.
وبنو عمرو بن عوف قبيل كبير من الخزرج أحد فرعي الأنصار، وكان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجرًا من مكة نزل
ضيفًا عليهم ثلاثة أيام ثم انتقل إلى بني النجار."خ".
ـــــــ
** رواه البيهقي في دلائل النبوة."م".
* وهذه المواقف المشرفة للصحابة رضوان الله عليهم تلقم خصوم الإسلام
الذين يقولون بأن الصحابة كلهم كانوا راضين بقتل عثمان، ويتبرؤون منه
حتى تركوه، ولم يدافعوا عنه، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا
كذبًا.
وقد ثبت في نهج البلاغة من كلام علي بن أبي طالب أنه قال: "والله دفعت
عنه".
وقد نقل البلاذري في كتابه: أنساب الأشراف: 103:5 عن المدائني عن سلمة
بن عثمان عن علي بن زيد عن الحسن قال: "دخل علي بن أبي طالب على بناته
وهن يمسحن عيونهن، فقال: مالكنَّ تبكين؟ قلن: نبكي على عثمان، فبكى
وقال: ابكين".
وروى ابن السمان عن قيس بن عباد قال: سمعت عليًّا يوم الجمل يقول:
"اللهم أبرأ إليك من دم عثمان، وقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت
نفسي، وجاءوني للبيعة فقلت: ألا تستحي من الله أن أبايع قومًا قتلوا
رجلًا قال له رسول الله: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة". رواه
مسلم.
وقد جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه عبارة تصور موقف علي من مقتل
عثمان أحسن تصوير قال سعيد الخزاعي:
لقيت عليًّا بعد الجمل، فقلت له: إني سائلك عن مسألة كانت منك ومن
عثمان، فإن نجوت اليوم نجوت غدًا إن شاء الله، قال: سل عما بدا لك،
قلت: أخبرني أي منزلة وسعتك إذ قتل عثمان ولم تنصره؟ قال: إن عثمان كان
=
(1/140)
عثمان في ساعته الأخيرة
...
وقال له أبو هريرة: اليوم طاب الضرب معك. قال: عزمت عليك لتخرجن199.
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده، فإنه جاء الحسن والحسين وابن
عمر وابن الزبير ومروان، فعزم عليهم في وضع سلاحهم، وخروجهم، ولزوم
بيوتهم.
فقال له الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا ألا نبرح، ففتح عثمان
الباب، ودخلوا عليه في أصح الأقوال200.
فقتله المرء الأسود201.
وقيل: أخذ ابن أبي بكر بلحيته، وذبحه [رومان]202، وقيل:
ـــــــ
199 هذا الخبر في تاريخ الطبري: 5: 129. "خ".
200 أصل هذا الخبر في تاريخ الطبري: 128:5 عن سيف بن عمر التميمي عن
أشياخه."خ".
201 كذا في مطبوعة الجزائر، والذي في تاريخ الطبري: 125:5 "الموت
الأسود"، والأصول التي طبع عليها تاريخ الطبري أصح من الأصول التي طبع
عليها كتابنا في الجزائر، ومن الثابت أن ابن سبأ كان مع ثوار مصر عند
مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة "الطبري: 103:5-104" وهو في كل الأدوار
التي مثلها كان شديد الحرص على أن يعمل من وراء ستار، فلعل الموت
الأسود اسم مستعار له أراد أن يرمز به إليه؛ ليتمكن من مواصلة دسائسه
لهدم الإسلام."خ".
توضيح: ب، ج، ز: المرء. وتتفق "د" مع ما ورد في تاريخ الطبري حيث عبر
عن ذلك بالموت، فقال: ودخل عليه رجل يقال له الموت الأسود، وذكر خليفة
بن خياط: أنه رجل من بني سدوس يقال له: الموت الأسود: "152/1"."س".
202 رومان رجل من بني أسد بن خزيمة، وليس محرفًا كما قال الشيخ محب
الدين الخطيب، حيث وضع مكانه "كنانة بن بشر" بدعوى أن نسخة الجزائر
كثيرة التحريف، انظر تاريخ خليفة بن خياط: 153/1."س".
ـــــــ
= إمامًا وأنه نهى عن القتال، وقال: من سلَّ سيفه فليس مني، فلو قاتلنا
دونه عصيناه، قال: فأي منزلة وسعت عثمان إذا استسلم؟ قال: المنزلة التي
وسعت ابن آدم إذ قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.
.... وما أروع ما قاله محمد بن سيرين في هذا الموضوع: "ما علمت أن
عليًّا اتُّهِم في دم عثمان حتى بويع، فلما بويع اتهمه الناس، وذلك أمر
مركوز في الطبائع"."م".
(1/141)
رجل من أهل مصر
يقال له حمار203، فسقطت قطرة من دمه على المصحف على قوله:
{فَسَيَكْفِيْكَهُم} فإنها فيه ما حكت إلى الآن204.
وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت: "غضبت لكم من السوط، ولا أغضب
لعثمان من السيف؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه [كالفل]205 المصفى،
ومصتموه موص الإناء، وتركتموه كالثوب المنقى من الدنس، ثم قتلتموه".206
قال مسروق207: قلت لها: "هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج
عليه". فقالت عائشة: "والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت
إليهم سوادًا في بياض". قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على
لسانها208.
وقد روي أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: فهذا أشبه ما روي في الباب.
ـــــــ
203 لم أر هذا الاسم فيمن اجترءوا على ارتكاب الجريمة العظمى، ولعل
النساخ حرَّفوا اسم سودان بن حمران أو اسم عمرو بن الحمق."خ".
204 ذكرت هذه الحادثة في الطبري بسند حسن، وقد بعث الله على قتلة عثمان
من قتلهم جميعًا، ولعل الآية تشير إلى هذا الانتقام."م".
205 ب، ج، ز: "العبد"، وأصلحه الشيخ محب الدين: "القند"، ولعله الذهب،
لأنه قد ورد في تاريخ ابن الأثير في شأن عثمان "كما يخلص الذهب من خبثه
أو الثوب من درنه إذا ما صوه كما يماص الثوب بالماء": 207/2."س".
206 قالت ذلك أول مرة عند وصولها إلى المدينة عائدة من الحج، فاجتمع
إليها الناس، وألقت فيهم خطبة بليغة، وردت هذه الجملة في آخرها،
الطبري: "165:5-166". والموص: الغسل بالصابع، والقند: عسل قصب السكر
إذا جمد."خ".
207 هو من أئمة التابعين المقتدى بهم، توفي سنة 63. وهو الذي قال لعمار
بالكوفة قبل يوم الجمل: يا أبا اليقظان، علام قتلتم عثمان؟ قال: على
شتم أعراضنا وضرب أبشارنا** فقال مسروق: والله ما عاقبتم بمثل ما
عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "الطبري: 187:5".
وقد وجدت بعده في تاريخ الطبري ما يخالفه: خرج أبو موسى فلقى الحسن بن
علي... وقال لعمار: يا أبا يقظان، عدوت على أمير المؤمنين عثمان
قتلته؟، فقال: لم أفعل."7: 35"."م".
208 كما كتب على لسان علي: ولسان عثمان."خ".
(1/142)
الحكم الفقهي في موقف عثمان من الدفاع أو الإستسلام
...
وبه يتبين -وبأصل المسألة سلوك سبيل الحق- أن أحدًا من الصحابة لم يسع
عليه، ولا قعد عنه. ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين
ألفًا بلديين أو أكثر من ذلك209، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة210.
وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها: هل يلقى بيده، أو يستنصر211،
وأجاز بعضهم أن يستسلم ويلقى بيده اقتداء بفعل عثمان، وبتوصية النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في الفتنة212
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم
الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يكُ [ترى] في الأرض
منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب فتألبوا
ـــــــ
209 أين هذه المواقف الشريفة للصحابة دون استثناء واحد منهم مما يزعم
السفهاء من أن الصحابة كلهم كانوا راضين بقتله، ويتبرَّءون منه حتى
تركوه بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن، كما ذكره مؤلف التحفة الاثني عشرية
ورد عليهما بما ألقمهم حجرًا فكان مما قاله: "... إن هذا كله كذب صريح
وبهتان صريح لا يخفى على الصبيان فضلًا عن ذوي العرفان "مختصر التحفة
الاثني عشرية266"."م".
210 لأنه اختار بذلك أهون الشرين، فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة
الفتنة وسفك دماء المسلمين، وعثمان افتدى دماء أمته بدمه مختارًا، فما
أحسن الكثيرون منا جزاءه، وإن أوربا تعبد بَشَرًا بزعم الفداء، ولم يكن
فيه مختارًا."خ".
211 من سياسة الإسلام أن يختار في كل أقلها شرًّا وأخفها ضررًا، فإذا
كانت للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته، فالإسلام يهدي إلى قمع
الشر بقوة الخير بلا تردد، وإن لم يكن للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق
دائرته -كما كانت الحال في موقف أمير المؤمنين عثمان من البغاة عليه-
فمصلحة الإسلام في مثل ما جنح إليه عثمان أعلى الله مقامه في دار
الخلود."خ".
212 وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه الإمام البخاري في
كتاب المناقب ك61 ب 25 ج 4، صـ 177، وفي كتاب الفتن ك 92 ب9، ج 8، صـ
92 من صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم، فيها خير من الماشي،
والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو
معاذًا فليعذ به" ، وأعلن أبو موسى الأشعري في الكوفة قبل وقعة الجمل
أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الطبري: 188:5"."خ".
(1/143)
وألبوا، وثاروا
إليَّ [واستسلمت] لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدافعوا عن داري،
وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا علي، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق
من حسن المقدار لكنت قتيل الدار.
وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي صلى الله عليه
وآله وسلم المتقدمة214، والثاني الاقتداء بعثمان، والثالث سوء الأحدوثة
التي فر منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤيدة بالوحي215 فإن
من غاب عني، بل من حضر من الحسدة معي، خفت أن يقول: إن الناس مشوا
[مستعينين به] مستغيثين له، فأراق دمائهم.
وأمر عثمان كله سنة ماضية، وسيرة راضية، فإنه تحقق أنه مقتول بخير
الصادق له بذلك، وأنه بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد.
وروى أنه قال له في المنام: إن شئت نصرتك، أو تفطر عندنا الليلة217.
ـــــــ
214 وقد نقلناها آنفا عن حديث أبي هريرة في صحيح البخاري، ومن حديث أبي
موسى في الكوفة قبل وقعة الجمل."خ".
215 وذلك لما قال ابن سلول في غزوة بني المصطلق: "إذا رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، فأراد عمر أن يقتله، فمنعه النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل
أصحابه"." خ".
217 هذه الرواية لابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سلام في البداية
والنهاية: 182:7-183، ومن طريق آخر عنه في أنساب الأشراف للبلاذري:
82:5. وفي مسند أحمد: "72/1 الطبعة الأولى رقم 526 الثانية" من حديث
مسلم أبي سعيد مولى عثمان قال: إن عثمان أعتق عشرين مملوكًا، ودعا
بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: "إني رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البارحة في المنام ورأيت أبا بكر
وعمر، وأنهم قالوا لي: اصبر، فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف
فنشره بين يديه، فقتل وهو بين يديه". وروى الإمام أحمد هذا الحديث عن
نائلة زوجة عثمان 73:1 رقم 536 بقريب من هذا. وفي البداية والنهاية
182:7 من حديث أيوب السختياني عن نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب،
ومن طرق أخرى متعددة، وانظر تاريخ الطبري*: 125:5."خ".
ـــــــ
* روى الطبري نحوه مختصرًا وإسناده حسن."م".
(1/144)
وقد انتدبت
المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبًا
مؤلبًا، وبما جرى عليه راضيًا، واخترعوا كتابًا فيه فصاحة وأمثال كتب
عثمان به مستصرخًا إلى علي، وذلك كله مصنوع؛ ليوغر قلوب المسلمين على
السلف الماضين والخلفاء الراشدين218.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم،
محجوج بغير حجة219. وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم؛ لأنهم أتوا
إرادته، وسلموا له رأيه في إسلام نفسه.
ولقد ثبت -زائدًا إلى ما تقدم عنهم- أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان:
إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم، فائذن لنا، فقال:
أذكر الله رجلًا أراق لي دمه "أو قال دمًا"220.
ـــــــ
218 هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها أو المكذوبة شحنت بها
أسفار الأخبار وكتب الأدب. ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان: أحدهما
طريق أهل الحديث في أن لا يقبلوا إلا الأخبار المسندة إلى أشخاص
بأسمائهم، ثم يستعرضوا أحوال هؤلاء الأشخاص، فيقبلوا من صادقهم،
ويضربوا وجه الكذاب بكذبه، والطريق الثاني طريق علماء التاريخ: وهو أن
يعرضوا كل خبر على سجايا من يخبر عنه، ويقارنوه بسيرته، وهل هو مما
ينتظر وقوعه ممن نسب إليه، ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا،
وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقين معًا يقوم بهما علماء راسخون
فيهما."خ".
219 كما تبين في هذا الكتاب بأسانيده القاطعة. وانظر كتاب "التمهيد"
للإمام أبي بكر الباقلاني: صـ 220-227."خ".
220 ولما بدأ حجاج بيت الله يعودون إلى المدينة كان أول المسرعين منهم
المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي الصحابي، فأدرك عثمان قبل أن يقتل،
وشهد المناوشة على باب دار عثمان فجلس على الباب من داخل وقال: ما
عذرنا عند الله أن تركناك، ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت، وكان أول
من برز للبغاة المهاجمين، وقاتل حتى قتل. وخرج معه لقتالهم الحسن بن
علي بن أبي طالب، وهو يقول في تسفيه عمل البغاة:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى طمار شمام
أي إلى جبل أشم لا ينجو من سقط منه، وخرج معهما محمد بن طلحة بن عبيد
الله -وكان يعرف بالسجاد؛ لكثرة عبادته- وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزابًا على رغم معد
انظر تاريخ الطبري: 128:5-129."خ".
(1/145)
الذين دافعوا عن عثمان في الساعة الأخيرة خارج الدار
...
وقال سليط بن أبي سليط: نهانا عثمان عن قتالهم، فلو أذن لنا لضربناهم
حتى نخرجهم عن أقطارها221.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على
كل من رأى أن لي عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم غناء
من كف يده وسلاحه222.
وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان كلهم شاك في السلاح
حتى دخلوا الدار، فقال عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم
ولزمتم بيوتكم223.
فلما قضى الله من أمره ما قضى، ومضى في قدره ما مضى، علم أن الحق [ألا]
يترك الناس سدى، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر
فيه، ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدرًا وعلمًا وتقىً ودينًا.
ـــــــ
221 رواه الحافظ ابن عبد البر في "الاستيعاب: 118:2-119 هامش الإصابة"
من حديث ابن سيرين عن سليط، وأورده الحافظ ابن حجر مختصرًا في الإصابة
72:2."خ".
222 وفي تاريخ الطبري: 127:5 أن عثمان دعا عبد الله بن عباس فقال له:
"اذهب فأنت على الموسم" أي على إمارة الحج، فقال ابن عباس: "والله يا
أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحب إليَّ من الحج" فأقسم عليه لينطلقن،
فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة."خ".
223 قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "181:7": كان الحصار
مستمرًّا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة.
فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين
والأنصار-وكانوا قريبًا من سبعمائة، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن
الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه ولو تركهم
لمنعوه-: "أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده، وأن ينطلق إلى منزله"،
وقال لرقيقه: "من أغمد سيفه فهو حر" فبرد القتال من داخل، وحمي من
خارج. حتى كانت الساعة التي تم فيها للشيطان ما سعى له وتمناه، ويكفي
لبيان ما كان لهذه الفاجعة الكبرى من الأثر في النفوس ما نقله البلاذري
في أنساب الأشراف: 103:5 عن المدائني عن سلمة بن عثمان عن علي بن زيد
عن الحسن قال: دخل علي يومًا على بناته وهن يمسحن عيونهن. قال: مالكن
تبكين؟ قلن: نبكي على عثمان، فبكى وقال: ابكين..."خ".
(1/146)
خلافة علي
...
فانعقدت له البيعة، ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من
الأوباش ما لا يرقع خرقه، ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار، ورأى ذلك
فرضًا عليه، فانقاد إليه224.
ـــــــ
224 في تاريخ الطبري: 155:5 عن سيف* بن عمر التميمي عن أشياخه قالوا:
بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام أميرها الغافقي بن حرب يلتمسون
من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه: يأتي المصريون عليًّا فيختبيء
منهم ويلوذ بحيطان المدينة "أي يختبيء في بساتينها" فإذا لقوه باعدهم
وتبرأ منهم ومن مقالتهم مرة بعد مرة. ويطلب الكوفيون الزبير فلا
يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلًا فباعدهم وتبرأ من مقالتهم، ويطلب
البصريون طلحة، فإذا لقيهم باعدهم وتبرأ من مقالتهم... فبعثوا إلى سعد
بن أبي وقاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فأقدم
نبايعك، فبعث إليهم: "إني وابن عمر خرجنا منها، فلا حاجة لي فيها".. ثم
إنهم أتوا ابن عمر عبد الله فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال:
إن لهذا الأمر انتقامًا، والله لا أتعرضن له فالتمسوا غيري، وأخرج
الطبري: 156:5 عن الشعبي قال: أتى الناس عليًّا وهو في سوق المدينة،
وقالوا له: ابسط يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا، فإن عمر كان رجلًا
مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون، فارتد
الناس عن علي، ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان، ولم
يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة، فعادوا
إلى علي، فأخذ الأشتر بيده، فقبضها علي، فقال: أبعد ثلاثة؟ أما والله
لئن تركتها لتعصرن عينيك عليها حينًا، فبايعته العامة، وأهل الكوفة
يقولون: أول من بايعه الأشتر، وروى سيف عن أبي حارثة محرز العبشمي وعن
أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني قالا: لما كان يوم الخميس على رأس خمسة
أيام من مقتل عثمان جمعوا أهل المدينة، فوجدوا سعدًا والزبير خارجين
ووجدوا طلحة في حائط له... فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل
مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة،
فانظروا رجلًا تنصبونه، ونحن لكم تبع. فقال الجمهور: علي بن أبي طالب
نحن به راضون... فقال علي: دعوني والتمسوا غيري... فقالوا: ننشدك الله،
ألا ترى الفتنة، ألا تخاف الله؟ فقال: إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن
تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم.
ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد "أي يوم الجمعة" فلما أصبحوا من يوم
الجمعة حضر الناس المسجد، وجاء علي حتى صعد المنبر فقال: "يا أيها
الناس عن ملأ وأذن. إن هذا أمركم، ليس لأحد
ـــــــ
* سيف هذا متهم بالكذب كما جاء في اللسان والميزان."م".
(1/147)
قولهم في بيعة طلحة يد شلاء وفي طلحة والزبير بايعا مكرهين
...
وعقد له البيعة طلحة، فقال الناس: بايع عليًّا يد شلاء، والله لا يتم
هذا الأمر235.
فإن قيل: بايعا مكرهين236. قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن
بايعهما، ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك؛ لأن واحدا أو اثنين تنعقد البيعة
بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعًا، ولو
لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام227.
وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من
بايع، ولم يكن كذلك228.
فإن قيل: فقد قال طلحة: "بايعت واللج229 على قفى"230. قلنا: اخترع هذا
الحديث من أراد أن يجعل الحديث في "القفا" لغة "قفى" كما يجعل في
"الهوى": "هوى". وتلك لغة هذيل لا قريش231 فكانت كذبة لم تدبر.
ـــــــ
= فيه حق إلا إن أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم عقدت
لكم، وإلا فلا أجد على أحد" فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس.
وهذه الوقائع على بساطتها تدل على أن بيعة علي كانت كبيعة إخوانه من
قبل جاءت على قدرها وفي إبانها، وإنها مستمدة من رضا الأمة في حينها،
لا من وصية سابقة مزعومة أو رموز خيالية موهومة."خ".
225 قائل هذه الكلمة حبيب بن ذؤيب. رواه الطبري: 153:5 عن أبي المليح
الهذلي."خ".
226 يعني طلحة والزبير."خ".
227 القاضي ابن العربي يقر هنا الحكم الشرعي في عقد البيعة، لا على أنه
رأى له، وللإمام أبي بكر الباقلاني كلام سديد في التمهيد: صـ 231."خ".
228 وقد علمت أن أهل الكوفة يقولون إن الأشتر كان أول من بايع، ولو
كانت يد طلحة هي الأولى في البيعة لكانت أعظم بركة؛ لأنها يد دافعت عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويد الأشتر لا تزال رطبة من دم
الشهيد المبشر بالجنة."خ".
229 في جميع النسخ المخطوطة "اللح" وصوابه "اللج" وهو كالسيف، وقد
أصلحه الشيخ محب الدين الخطيب ولم ينبه إلى ذلك."س".
230 بل هي أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل، فقد قال ابن الأثير في
النهاية "مادة لجج" إنها لغة طائية، يشددون ياء المتكلم."خ".
231 كان طلحة من العصابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله =
(1/148)
وأما قولهم "يد
شلاء" لو صح فلا متعلق فهم فيه، فإن يدًا شلت في وقاية رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه232، وقد
تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه. وجهل المبتدع ذلك
فاخترع ما هو حجة عليه.
ـــــــ
= وسلم على الموت يوم أحد حين انهزم المسلمون، فصبروا ولزموا، ورمى
مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
-وكان لا يخطيء رميه- فاتقاه طلحة بيده عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، فكان ذلك سبب الشلل في يده من خنصره، وأقبل رجل من بني عامر
يجر رمحًا له على فرس كميت أغر مدججًا في الحديد يصيح أنا أبو ذات
الودع، دلوني على محمد، فضرب طلحة عرقوب فرسه، فاكتسعت، ثم تناول رمحه
فلم يخطيء به عن حدقته، فخار كما يخور الثور، فما برح طلحة واضعًا رجله
على خده حتى مات، قالت بنتاه -عائشة وأم إسحاق-: جرح أبونا يوم أحد
أربعًا وعشرين جراحة في جميع جسده، وقد غلبه الغشى، وهو مع ذلك محتمل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كسرت رباعيتاه يرجع به القهقرى،
كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب. فكان النبي
صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا رأى طلحة: "من أحب أن ينظر إلى شهيد
يمشي على الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" * رواه أبو نعيم
الأصبهاني، وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: "ذاك يوم كان يوم طلحة".
وسمع علي بن أبي طالب رجلًا يقول بعد يوم الجمل: ومن طلحة؟ فزبره علي،
وقال: "إنك لم تشهد يوم أحد، لقد رأيته وإنه ليحترس بنفسه دون رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن السيوف لتغشاه، وإن هو إلا جنة
بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". أخرج الحافظ ابن عساكر:
78:7 من طريق ابن منده عن طلحة قال: سماني رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يوم أحد "طلحة الخير"، وفي غزوة العسرة "طلحة الفياض" ويوم
حنين "طلحة الجود"."خ".
232 وانظر "التمهيد" للباقلاني: صـ 231، 235، 236، وحقيقة موقف علي من
قتلة عثمان أنهم عند البيعة له كانوا هم المستولين على زمام الأمر في
المدينة، وفي حالة الإرهاب التي كانت سائدة يومئذ لم يكن في استطاعة
علي ولا غيره أن يقف منهم مثل موقف الصحابة من عبيد الله بن عمر لما
قتل الهرمزان، مع الفارق العظيم بن دم أمير المؤمنين الخليفة الراشد،
والأسير الحربي المجوسي الذي قال أنه أسلم بعد وقوعه في الأسر، ولما
انتقل علي من المدينة إلى العراق ليكون على مقربة من الشام انتقل معه
قتلة عثمان، ولاسيما أهل البصرة والكوفة منهم، فلما صاروا في بصرتهم
وكوفتهم صاروا في معقل =
ـــــــ
* إسناده صحيح لشواهده كما جاء في الأحاديث الصحيحة "2/ 32."م".
(1/149)
موقف علي من قتلة عثمان
...
فإن قيل: بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان، قلنا: هذا لا يصح في شرط
البيعة، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم،
ويحضر المطلوب، وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة، ويقع الحكم،
فأما على الهجم عليه بما كان من قول مطلق، أو فعل غير محقق، أو سماع
كلام، فليس ذلك في دين الإسلام232.
قالت العثمانية: تخلف عنه من الصحابة جماعة، منهم سعد بن أبي وقاص
ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم.
قلنا: أما بيعته فلم يتخلف عنها، وأما نصرته فتخلف عنها قوم، منهم من
ذكرتم؛ لأنها كانت مسألة اجتهاد، فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب
قدره233.
ـــــــ
= قوتهم وعنجهية قبائلهم، ولا شك أن عليًّا أعلن البراءة منهم، وأراد
أن يتفق مع أصحاب الجمل على ما يمكن الاتفاق عليه في هذا الشأن، فأنشب
قتلة عثمان القتال بين معسكر علي ومعسكر أصحاب الجمل، وتمكن أصحاب
الجمل من قتل المصريين من قتلة عثمان إلا واحدًا من بني سعد بن زيد
مناة بن تميم حمته قبيلته، فلما اتسعت الأمور وسفكت الدماء كان علي في
موقف يحتاج فيه إلى بأس هؤلاء المعروفين بأنهم من قتلة عثمان، وفي
مقدمتهم الأشتر وأمثاله، وأن كثيرين منهم انقلبوا على علي بعد ذلك،
وخرجوا عليه معتقدين كفره.
ويقول علماء السنة والمؤرخون أن الله كان بالمرصاد لقتلة عثمان، فانتقم
منهم بالقتل والنكال واحدًا بعد واحد، حتى الذين طال بهم العمر إلى زمن
الحجاج كانت عاقبتهم سفك دمائهم؛ جزاء بما قدمت أيديهم، والله أعدل
الحاكمين."خ".
233 وانظر التمهيد للباقلاني: صـ 233-234.
(1/150)
|