العواصم من القواصم - ط دار الجيل

الباب الرابع
قاصمة
...
قاصمة:
ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق277: هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان، ويقولون: لا نبابع من يؤوي القتلة278.
وعلي يقول: "لا أمكن طالبا من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم"، ومعاوية يقول: "لا نبايع متهمًا [بقتله] أو قاتلًا له، هو أحد من نطلب فكيف نحكمه أو نبايعه، وهو خليفة عداء وتسور".
ـــــــ
277 في موضع يسمى صفين بقرب الرقة على شاطيء الفرات آخر تخوم العراق وأول أرض الشام، سار إليها علي بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36."خ".
378 لما انتهى علي من حرب الجمل وسار من البصرة إلى الكوفة، فدخلها يوم الاثنين 12 من رجب، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية في دمشق يدعوه إلى طاعته. فجمع معاوية رءوس الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام، واستشارهم فيما يطلب عليه، فقالوا: لا نبايعه حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلمهم إلينا، فرجع جرير إلى علي: بذلك، فاستخلف علي على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر، وخرج منها فعسكر بالنخيلة أول طريق الشام من العراق، وقد أشار عليه ناس بأن يبقى في الكوفة، وبعث غيره إلى الشام فأبى، وبلغ معاوية أن عليًّا تجهز وخرج بنفسه لقتاله، فأشار عليه رجلاه أن يخرج هو أيضًا بنفسه، فخرج الشاميون نحو الفرات من ناحية صفين، وتقدم علي بجيوشه إلى تلك الجهة، وكان جيش علي في مائة وعشرين ألفًا وجيش معاوية في تسعين ألفًا، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشات ومبارزات، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37 واستؤنف القتال بعده، وقتل في هذه الحرب سبعون ألفًا، وكانت الوقائع 90 وقعة في 110 أيام، وامتازت هذه الحرب بنبل الشجاعة في القتال، ونبل التعامل والاتصال عند التهادن والراحة، ثم كتب كتاب التحكيم يوم 13 صفر سنة 37 على أن يعلن الحكمان حكمهما في رمضان بدومة الجندل بمكان منها يسمى أذرح."خ".

(1/166)


وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى استفعال رسائل279، واستخراج أقوال، وإنشاء أشعار، وضرب أمثال تخرج عن سيرة السلف، يقرأها الخَلْف وينبذها الخَلَف280.
ـــــــ
279 أي انتحالها زورًا ولا أصل لها، وأكثر ما تجد فيما يرويه أخباريو الشيعة عن رواة مجهولين أو كذابين. وأخفهم وطأة أبو مخنف لوط بن يحيى، قال الحافظ الذهبي: "أبو مخنف إخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره". وقال فيه ابن عدي: "شيعي محترق صاحب أخبارهم" ثم جاء بعده آخرون منهم كانوا شرًّا على تاريخ الإسلام من لوط هذا...فأفسدوا على الأمة معرفتها بماضيها."خ".
280 الخَلْف بفتح الخاء وسكون اللام: الطالح. وفي التنزيل {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى}. والخَلَف بفتح الخاء واللام: الصالح. ومنه الحديث "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين "*."خ ".
ـــــــ
* يريد بذلك علماء الحديث محاربي المبتدعة والمعطلة."م".

(1/167)


عاصمة
موقف علي من قتلة عثمان
...
عاصمة:
أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعًا، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعًا، وأما الصواب فيه فمع علي؛ لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب الحق عنده، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه، وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا281.
ـــــــ
281 وجود قتلة عثمان في معسكر علي حقيقة لا يماري أحد فيه، بل أن الأشتر، وهو من رؤوس البغاة على عثمان كان أكبر مسعر للحرب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين في معسكر علي والذين في معسكر معاوية، ولما طالب علي معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه احتكموا إليه في قتلة عثمان، وطلبوا منه أن يقيم حد الله عليهم، أو أن يسلمهم إليهم، فيقيموا عليهم حد الله، وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين علي بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم، فكان علي يرى -بينه وبين نفسه- أن قتلهم يفتح عليه بابًا لا يستطيع سده بعد ذلك. وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي، وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلحة والزبير، فأذعنوا لها وعذروا عليًّا، ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم إلى الخروج من هذه الفتنة، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين، فالمطالبون بإقامة حد الله على قتلة عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق، سواء كانوا من أصحاب الجمل، أو من أهل الشام. وتقصير علي في إقامة حد الله كان عن ضرورة قائمة ومعلومة، ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين، وكان سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن بن علي كارهًا خروج أبيه من المدينة إلى العراق لما يخشاه من نشوب الحرب مع أهل الشام، ولو أن عليًّا لم يتحرك من الكوفة استعدادًا لهذا القتال لما حرك معاوية فيه ساكنًا، قال شيخ الإسلام بن تيمية في منهاج السنة 219:2: "لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء"، ومع ذلك فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب
=

(1/168)


حرب صفين ودعوى الفريقين وما اخترع في ذلك من أكاذيب
...
ولئن اتهم علي بقتل عثمان فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهو متهم به، أو قل معلوم قطعًا أنه قتله؛ لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفًا282.
وهبك أن عليًّا وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار، ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته؟.
فلا يخلو أن يكون لأنهم رأوا أولئك طلبوا حقًّا، وفعلوا حقًّا، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام. وإن كان قعدوا عنه استهزاء بالدين، وأنهم لم يكن لهم [رأس مال] في الحال، ولا مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال، فهي ردة ليست معصية؛ لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أن يتعدوا حد عثمان وإشارته فأي ذنب لهم فيه؟ وأي حجة لمروان وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح -[والمطالبون] ينظرون؟
ـــــــ
=
الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معًا على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم، ولو في القرن الحادي والعشرين، وأن كثيرًا من قواعد فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة."خ".
282 ليس في أهل السنة رجل واحد يتهم عليًّا بقتل عثمان، لا في زماننا ولا في زمانه، وقد مضى الكلام على ذلك في هذا الكتاب، وكل ما في الأمر وجود قتلة عثمان مع علي، وموقف علي منهم، وعذره بينه وبين الله في موقفه هذا.
فنحن جميعًا على رأي القعقاع بن عمرو بأن موقف علي موقف ضرورة، غير أن الحمقى من أخباريي الشيعة دسوا على علي أخبارًا تشعر بغير ما كان في قلبه من المحبة والرضا والموالاة والتأييد لعثمان أثناء محنته، فأساءوا بذلك إلى علي من حيث يريدون الإساءة إلى عثمان، أما معاوية وفريقه فلم يذكروا عليًّا في أمر البغي على عثمان إلا لمناسبة انضواء قتلة عثمان إليه واستعانته بهم، فقتلة عثمان هم الذين أساءوا إلى الإسلام وإلى عثمان وإلى علي أيضًا، فالله حسيبهم، ولو أن كل المسلمين كانوا كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حزمه قبل أن تستفحل الفتنة ويفلت زمام من أيدي العقلاء لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.

(1/169)


ولو كان بهم قوة أو أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحدًا أن يراه منهم ولا يداخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله ابن الزبير ما جسروا، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض منهم حي.
ولكن عثمان سلَّم نفسه، فتُرك ورأيه، وهي مسألة اجتهاد كما قدمنا.
وأي كلام كان يكون لعلي [لو كتبت عنده البيعة]284 وحضر عنده ولي عثمان وقال الخليفة "له: يا أيها" [وما]285 تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه، وهم معلومون، ماذا كان يقول إلا: أثبت، وخذ. وفي يوم كان يثبت، إلا أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقًّا للقتل286.
وتالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبدًا، وكان يكون الوقت أمكن للطلب، وأرفق في الحال، وأيسر وصولًا إلى المطلوب287.
ـــــــ
284 غير الشيخ محب هذه العبارة فكتب "لما تمت له البيعة"، ولم يشر إلى ذلك، وهو مخالف للنص في جميع النسخ "صـ 167"، وهذا أدلى إلى تغيير المعنى الذي قصد إليه المؤلف. "س".
285 غير الشيخ محب الدين النص هنا أيضًا هكذا "وقال له: إن الخليفة قد تمالأ عليه... "وهو مخالف لجميع النسخ المخطوطة ومؤدٍ إلى تغيير في المعنى. "س".
286المؤلف معترف بأن الإثبات كان في متناول اليد؛ لأن الجريمة مشهودة، والمجرمون أعلنوا فيها فجورهم، فلم يتكتموا، ولكن كيف يكون التنفيذ، ومن الذي يقوم به ومدينة الرسول مسكتينة تحت وطأة الإرهاب؟ ومن ذا الذي يضمن لعلي حياته إذا أصدر هذا الحكم؟ أليس هؤلاء هم الذين تداولوا في قتله لما عقدوا مؤتمرهم في ذي قار بعد خطبة علي التي ألقاها على الغرائر قبيل مسيره إلى البصرة؟ "الطبري 165:5" ألم يسخط الأشتر على أمير المؤمنين علي بعد وقعة الجمل؛ لأنه ولى ابن عمه عبد الله بن عباس على البصرة، ولم يولها الأشتر، ففارقه غاضبًا، ولحق به علي فتلافى ما يكون منه من الشر "الطبري 194:5"، والخوارج على علي ألم ينبتوا من هذه النواة؟ ولما قتل علي ألم يقتل بمثل السلاح الذي قتل به عثمان؟"خ".
287 كان يكون الوقت أمكن الطالب لو وجدت في المدينة القوة التي كان يتمناها عثمان، ويقال إن قوة من جند الشام كانت خرجت من دمشق قاصدة المدينة، فلما جاءها خبر شهادة أمير المؤمنين عثمان رجعت من
=

(1/170)


والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه الأمر لم يمكنه أن قتل من قتلة عثمان أحدًا، إلا بحكم، إلا قمن قتل في حرب بتأويل، أو دس عليه فيما [قيل]288. حتى انتهى الأمر إلى "زمان" الحجاج، وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة، فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم أن يفعلوا ما أضحوا له يطلبون.
والذي تثلج به صدوركم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر في الفتن، وأشار وبين. وأنذر [الخوارج]290 وقال:" تقتلهم أدنى الطائفتين
ـــــــ
=
الطريق، فبقيت المدينة خاضعة لقتلة عثمان حتى بعد البيعة لعلي، وهم إن نزلوا على أحكام هذه البيعة فيما لا ضرر منه عليهم، لا ريب أنهم ينقلبون وحوشًا ضارية لو صدرت عليهم أحكام الله بإقامة الحدود فيما ارتكبوا من جرم شنيع."خ".
288 إن سطوة الله وعدله الأعلى نزلا بأكثر قتلة عثمان فلم يبق منهم في ولاية معاوية إلا المشرد الخائف الباحث عن جحر يختبيء فيه، وبزوال سطوتهم وتقلص شرهم لم يبق بمعاوية حاجة إلى تتبعهم.
290 اسم الخوارج جاء من جماعة خرجوا على علي بن أبي طالب وصحبه؛ لأنه قبل بالتحكيم قائلين: إن حكم الله واضح لا يحتاج إلى هذا التحكيم، وكان شعارهم: "لا حكم إلا لله"، ويسمون أيضًا بالحرورية نسبة إلى قرية في الكوفة تسمى "حروراء" خرجوا إليها، وقد حاربهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في الوقعة الشهيرة بوقعة "النهروان" وهزمهم، وقتل منهم كثيرًا، ولكنه لم يستطع إبادتهم، حتى دبروا له مكيدة قتله على يد عبد الرحمن بن ملجم عليه من الله ما يستحق.
وقد حارب الخوارج الدولة الأموية وأقلقوا راحتها في حروب متواصلة؛ بحجة أنها مغتصبة الخلافة بزعمهم، ولكنها استطاعت أن تنهك قواهم، غير أنها لم تستطع استئصالهم.
والخوارج يقولون بتكفير عثمان لما غير وبدل بزعمهم، وبتكفير علي لقبوله التحكيم وطعنوا في أصحاب الجمل، وكل ذلك من جهلهم وضلالهم.
وكان من نظريتهم أن الخلافة تكون باختيار حر من المسلمين، وقد خالفوا بذلك الشيعة القائلين بانحصار الخلافة في بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان ذلك بخلاف أهل السنة القائلين بأن الخلافة من قريش إذا وجدوا وتحققت فيهم الجدارة، وهو الحق.

(1/171)


الطائفتان كانتا على حق والبغات على عثمان ليسوا من إحداهما
...
إلى الحق"291 فبين أن كل طائفة "منهما" تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه.292 وقال تعالى :{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم اسم الأخوة بقوله بعده :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
ـــــــ
=
والخوارج على الرغم من ضلالهم وانحرافهم، لم يعرفوا بالكذب كالرافضة الذين ينكرون الأحاديث الصحيحة، ويضعون الأحاديث المكذوبة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤولون آيات القرآن الكريم حسب أهوائهم."م".
291 في صحيح مسلم: "ك12 ح150 ج3 صـ 113" من حديث أبي سعيد الخدري: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق"."خ".
292 أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن عليًّا ومعاوية ومن معهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا جميعًا من أهل الحق، وكانوا مخلصين في ذلك. والذي اختلفوا فيه إنما اختلفوا عن اجتهاد، كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه. وهم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ وثواب المصيب أضعاف ثواب المخطيء، وليس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر معصوم عن أن يخطيء وقد يخطيء بعضهم في أمور ويصيب في أخرى، وكذلك الآخرون، ومن مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان لا يعد من إحدى الطائفتين اللتين على الحق، وإن قاتل معها والتحق بها؛ لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان -كائنًا من كانوا- استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع، وفي حالة عدم استطاعته فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي -كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها- يعد إصرارًا منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك.
فإن قلنا إن الطائفتين كانتا من أهل الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا من الطائفتين ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وآله وسلم من التابعين، ونرى أن عليًّا المبشر بالجنة أعلى مقاما عند الله من معاوية خال المؤمنين وصاحب رسول الله رب العالمين، وكلاهما من أهل
=

(1/172)


حديث ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين
...
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في عمار: "تقتله الفئة الباغية" 293.
وقال في الحسين: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" ، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه294.
ـــــــ
=
الخير، وإذا اندس فيهم طوائف من أهل الشر فإن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يَرَهُ، نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 277:7، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني قاضي أفريقية المتوفى سنة 156، وكان رجلًا صالحًا من الآمرين بالمعروف -وذكر أهل صفين- فقال: كانوا عربًا يعرف بعضهم بعضًا في الجاهلية، فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا، واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم، قال الشعبي: "هم أهل الجنة، لقى بعضهم بعضًا، فلم يفر أحد من أحد"."خ".
293 قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لما كانوا يبنون المسجد، فكان الناس ينقلون لبنة لبنة، وعمار ينقل لبنتين لبنتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه هذه الكلمة على ما رواه أبو سعيد الخدري لعكرمة مولى ابن عباس ولعلي بن عبد الله بن عباس، وهو في كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري: ك 56 ب 17 ج 3، صـ 207، وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين؛ لأنه لم يردها، ولم يبتئدها، ولم يأتِ لها إلا بعد أن خرج علي من الكوفة، وضرب معسكره في النخيلة ليسير إلى الشام كما تقدم، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية: إنما قتله من أخرجه. وفي اعتقادي الشخصي أن كل من قتل من المسلمين بأيدي المسلمين منذ قتل عثمان، فإنما أثمه على قتلة عثمان لأنهم فتحوا باب الفتنة، ولأنهم واصلوا تسعير نارها، ولأنهم الذين أوغروا صدور المسلمين بعضهم على بعض، فكما كانوا قتلة عثمان فإنهم كانوا القاتلين لكل من قتل بعده، ومنهم عمار، ومن هم أفضل من عمار كطلحة والزبير، إلى أن انتهت فتنتهم بقتلهم عليًّا نفسه، وقد كانوا من جنده، وفي الطائفة التي كان قائما عليها. فالحديث من أعلام النبوة. والطائفتان المتقاتلتان في صفين كانتا طائفتين من المؤمنين، وعلي أفضل من معاوية، وعلي ومعاوية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن دعائم دولة الإسلام. وكل ما وقع من الفتن قائمة على مورئي نارها؛ لأنهم السبب الأول فيها، فهم الفئة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في وقعتي الجمل وصفين وما تفرع عنهما."خ".
294 سيأتي الكلام على هذا عند الكلام على الصلح بين الحسن ومعاوية."خ".

(1/173)


وكذلك يروى أنه أذن في الرؤيا لعثمان أن يستسلم ويفطر عنده الليلة.
فهذه كلها أمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق الفقه، ولا تعدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة296.
وما وقع من روايات في كتب التاريخ -عدا ما ذكرناه- فلا تلتفوا إلى حرف منها، فإنها كلها باطلة.
ـــــــ
296 نص الحديث:" إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد" رواه البخاري ومسلم."م".
279 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 219:2-220: "لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء، بل كان من أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه. وقتال صفين للناس فيه أقوال: فمنهم من يقول كلاهما كان مجتهدًا مصيبًا، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول: كل مجتهد مصيب، ويقول: كانا مجتهدين. وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم، وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وتقول الكرامية: كلاهما أمام مصيب، ويجوز نصب إمامين للحاجة، ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه، وهذا قول طائفة منه، ومنهم من يقول: علي هو المصيب وحده ومعاوية مجتهد مخطئ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة، وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله حامد من أصحاب الإمام أحمد وغيره ومنهم من يقول: كان الصواب أن لا يكون قتال، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية، والقتال قتال فتنة ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، مع أن عليًّا كان أولى بالحق، وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول عمران بن حسين رضي الله عنه، وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال، ويقول: هو بيع السلاح في الفتنة. وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة؛ فإنه قد ثبتت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومحبتهم."خ".

(1/174)