العواصم من القواصم - ط الأوقاف السعودية [قاصمة الظهر]
[وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم ووقعها في نفوس الصحابة]
قاصمة الظهر
بعد أن استأثر الله بنبيه صلى الله عليه وسلم
ـ وقد أكمل له ولنا دينه، وأتم عليه وعلينا
نعمته، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا} [المائدة: 3] وما من شيء في الدنيا
يكمل إلا وجاءه النقصان، ليكون الكمال الذي
يراد به وجه الله خاصة، وذلك العمل الصالح
والدار الآخرة، فهي دار الله الكاملة. قال
أنس: " ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا " (1) .
واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة
أبي بكر، فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم
(قاصمة الظهر) ومصيبة العمر:
[استخفاء علي
وإهجار عمر]
فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة (2) .
_________
(1) في مطبوعة الجزائر " نفوسنا " والمروي في
الحديث " قلوبنا" من وجوه متعددة أشار إليها
الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5: 273
ـ 274) أحدها للإمام أحمد عن أنس: (لما كان
اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان
اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء: قال:
وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا) وهكذا رواه
الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث
صحيح غريب. قال ابن كثير: وإسناده صحيح على
شرط الصحيحين.
(2) لأن فاطمة وجدت على أبي بكر لما أصر على
العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا
نورث، ما تركناه صدقة) وسيأتي تفصيل ذلك في ص
48 ـ 50، فعاشت فاطمة بعد موت النبي صلى الله
عليه وسلم ستة أشهر معتزلة في بيتها ومعها علي
كرم الله وجهه قال الحافظ ابن كثير في البداية
والنهاية (6: 333) : فلما مرضت جاءها الصديق
فدخل عليها فجعل يترضاها فرضيت. رواه البيهقي
من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ثم
قال. وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح. وقال البخاري
(ك 64 ب 38 ج 5 ص 82 - 83) من حديث عروة عن
عائشة: " فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم
يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من
الناس وجه في حياة فاطمة فلما توفيت استنكر
علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر
ومبايعته. . . إلخ ". وبيعة علي هذه هي
الثانية بعد بيعته الأولى في سقيفة بني ساعدة.
وأضاف الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية
(5: 249) أن عليا لم ينقطع عن صلاة من الصلوات
خلف الصديق، وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج
الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة.
ويحتمل أن يكون مراد المؤلف باستخفاء علي ما
كان منه ومن الزبير قبيل الاجتماع في سقيفة
بني ساعدة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى ذلك في
خطبته الكبرى التي خطبها في المدينة في عقب ذي
الحجة بعد آخر حجة حجها عمر، وهذه الخطبة في
مسند الإمام أحمد (1: 55 الطبعة الأولى - ج 1
رقم 391 الطبعة الثانية) من حديث ابن عباس.
(1/37)
وأما عثمان فسكت.
وأما عمر فأهجر وقال: " ما مات رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإنما واعده الله كما واعد
موسى (1) وليرجعن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
_________
(1) إشارة إلى قول الله عز وجل في سورة
البقرة: 51 وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وقوله سبحانه في سورة
الأعراف: 142 وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ
لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ
مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
(1/38)
فليقطعن أيدي أناس وأرجلهم " (1) .
[حوار العباس وعلي
في مرضه صلى الله عليه وسلم]
وتعلق بال العباس وعلي بأمر أنفسهما في مرض
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال العباس لعلي:
" إني أرى الموت في وجوه بني عبد المطلب،
_________
(1) في مسند أحمد (3: 196 الطبعة الأولى) حديث
أنس بن مالك عن يوم وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم وفيه: " ثم أرخى الستر، فقبض في يومه
ذاك. فقام عمر فقال: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يمت، ولكن ربه أرسل إليه كما
أرسل إلى موسى، فمكث عن قومه أربعين ليلة.
وإني لأرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين
وألسنتهم يزعمون (أو قال: يقولون) إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد مات ". وفي كتاب
فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 5) عن
عائشة: (. . . فقام عمر يقول: والله ما مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . والله ما
كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله
فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم) . ونقل الحافظ ابن
كثير في البداية والنهاية (5-242) ما رواه
البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن
عروة بن الزبير قال: قام عمر بن الخطاب يخطب
الناس ويتوعد من قال " مات " بالقتل والقطع،
ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
غشية لو قد قام قتل وقطع. وفي (5: 241) من
البداية والنهاية من حديث عائشة وهي تذكر
الساعة التي توفي فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم: فجاء عمر والمغيرة بن شعبة
فاستأذنا فأذنت لهما. . ثم قاما، فلما دنوا من
الباب قال المغيرة: يا عمر، مات رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فقال عمر: كذبت، بل أنت رجل
تحوسك (أي تخالطك) فتنة، إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله
المنافقين. ثم جاء أبو بكر. . . وخرج إلى
المسجد وعمر يخطب الناس ويقول: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله
المنافقين.
ومعنى أهجر: خلط في كلامه وهذى، وأكثر الكلام
فيما لا ينبغي. وذلك من هول ما وقع في نفس عمر
من هذا الحدث العظيم، فهو لا يكاد يصدقه.
(1/39)
فتعال حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا علمناه (1) .
وتعلق بال العباس وعلي بميراثهما فيما تركه
النبي صلى الله عليه وسلم من فدك وبني النضير
وخيبر (2) .
[اضطراب أمر
الأنصار واجتماع سقيفة بني ساعدة]
واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم، أو
الشركة فيه مع المهاجرين (3) .
_________
(1) فأجابه علي كرم الله وجهه: (إنا والله لئن
سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله
لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه
البخاري في كتاب المغازي من صحيحه (ك 64 ب 83
ج 5 ص 140 - 141) . ونقله ابن كثير في البداية
والنهاية (5: 227 و251) من حديث الزهري عن عبد
الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس. ورواه
الإمام أحمد في مسنده (1: 263 و325 الطبعة
الأولى وج 4 رقم 2374 وج5 رقم 2999 الطبعة
الثانية) .
(2) سيأتي تفصيله في ص 48 عند الكلام على حديث
(لا نورث، ما تركناه صدقة) .
(3) فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وبين
ظهرانيهم سعد بن عبادة، وهم يرون أن الأمر
لهم، لأن البلد بلدهم وهم أنصار الله وكتيبة
الإسلام، أما قريش فإن دافة منهم دفت، فلا
ينبغي أن تختزل الأمر من دون الأنصار. وقال
خطيب منهم - وهو الحباب بن المنذر - (أنا
جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. منا أمير
ومنكم أمير) . (وجذيلها المحكك: هو أصل شجرتها
الذي تتحكك به الإبل. وعذيقها المرجب: نخلتها
التي دعمت ببناء أو خشب لكثرة حملها) . ومع
ذلك فقد كان رجل من الأنصار - وهو بشير بن سعد
الخزرجي والد النعمان بن بشير - يسابق عمر إلى
مبايعة أبي بكر. وقبيل ذلك كان في السقيفة
الرجلان الصالحان عويم بن ساعدة الأوسي ومعن
بن عدي حليف الأنصار ولم تعجبهما هذه النزعة
من الأنصار فخرجا وهما يريان أن يقضي
المهاجرون أمرهم غير ملتفتين إلى أحد، لكن
حكمة أبي بكر ونور الإيمان الذي ملأ قلبه كانا
أبعد مدى وأحكم تدبيرا لهذه الملة في أعظم
نوازلها.
(1/40)
وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع
أسامة بن زيد بالجرف (1) .
[عاصمة]
[تدارك الله
الإسلام والأنام بأبي بكر الصديق]
عاصمة
فتدارك الله الإسلام والأنام ـ وانجابت
[الغمة] انجياب الغمام، ونفذ وعد الله
باستئثار رسول الله (2) وإقامة دينه على
التمام، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية
الإسلام ـ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه (3) .
_________
(1) كان هذا الجيش سبعمائة، والأمير عليهم
إسامة بن زيد، وكان قد ندبهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم للمسير إلى تخوم البلقاء (شرق
الأردن) حيث قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي
طالب وابن رواحة. ولما انتقل صلى الله عليه
وسلم إلى الرفيق الأعلى أشار كثير من الصحابة
- ومنهم عمر - ألا ينفذ الصديق هذا الجيش لما
وقع من الاضطراب في الناس ولا سيما في
القبائل. نقل ابن كثير في البداية والنهاية
(6: 304 - 305) حديث القاسم بن محمد بن أبي
بكر وعمرة بنت سعيد الأنصارية عن عائشة قالت:
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت
العرب قاطبة وأشربت النفاق، والله لقد نزل بي
ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى
مطيرة في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة. فوالله
ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها
وعنانها وفصلها.
(2) استأثر الله فلانا، وبفلان، إذا مات.
(3) أي فتدارك الله الإسلام والأنام بأبي بكر.
(1/41)
[رباط جأش أبي
بكر في اليوم الرهيب]
وكان ـ إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم ـ
غائبا في ماله بالسنح (1) فجاء إلى منزل ابنته
عائشة رضي الله عنها ـ وفيه مات النبي صلى
الله عليه وسلم ـ فكشف عن وجهه، وأكب عليه
يقبله وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت
حيا وميتا ـ والله لا يجمع الله عليك
الموتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد
متها، ثم خرج إلى المسجد ـ والناس فيه، وعمر
يأتي بهجر من القول كما قدمنا ـ فرقي المنبر
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد أيها
الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ـ
ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". ثم
قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل
عمران: 144] (آل عمران: 144)
_________
(1) في البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5:
244) : كان الصديق قد صلى بالمسلمين صلاة
الصبح، وكان إذا ذاك قد أفاق رسول الله صلى
الله عليه وسلم إفاقة من غمرة ما كان فيه من
الوجع، وكشف سترة الحجرة ونظر إلى المسلمين
وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر، فأعجبه ذلك
وتبسم صلى الله عليه وسلم حتى هم المسلمون أن
يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به، وحتى
أراد أبو بكر أن يتأخر ليصل الصف، فأشار إليهم
صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا كما هم، وأرخى
الستارة، وكان آخر العهد به صلى الله عليه
وسلم. فلما انصرف أبو بكر من الصلاة دخل عليه
وقال لعائشة ما أرى رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت
خارجة - يعني إحدى زوجتيه وكانت ساكنة بالسنح
شرقي المدينة - فركب على فرس وذهب إلى منزله،
وتوفي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى. . .
فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق فأعلمه بموت
النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الصديق حين
بلغه الخبر، وكان منه ما سيذكره المؤلف.
والسنح منازل بني الحارس بن الخزرج في عوالي
المدينة، بينها وبين مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ميل واحد.
(1/42)
فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها
لم تنزل إلا ذلك اليوم (1) .
[موقفه في سقيفة
بني ساعدة]
واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتشاورون،
ولا يدرون ما يفعلون، [وبلغ ذلك المهاجرين]
فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر: بل
نمشي إليهم، فسار إليهم المهاجرون، منهم أبو
بكر وعمر وأبو عبيدة، فتراجعوا الكلام، فقال
بعض الأنصار: منا أمير ومنكم أمير (2) . فقال
أبو بكر كلاما كثيرا مصيبا، يكثر ويصيب، منه:
نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: «الأئمة من قريش» (3)
وقال: «أوصيكم بالأنصار خيرا: أن تقبلوا من
محسنهم، وتتجاوزوا عن
_________
(1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة من
صحيحه (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 194) من حديث عائشة.
وفي سنن الدارقطني (3: 406) والبداية والنهاية
للحافظ ابن كثير (5: 242) من حديث أبي سلمة بن
عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد أعلام المسلمين،
عن عائشة أم المؤمنين التي وقعت هذه الحوادث
في بيتها وفي المسجد النبوي الذي يطل بيتها
عليه. وجميع دواوين السنة سجلت هذا الموقف
العظيم للصديق الأكبر بأصح الأحاديث. وألفاظها
قريب بعضها من بعض.
(2) الذي قال ذلك من خطباء الأنصار الحباب بن
المنذر، وقد تقدم في هامش 3 ص 40.
(3) الحديث في مسند الطيالسي برقم 926 عن أبي
برزة، وبرقم 2133 منه عن أنس. وفي كتاب
الأحكام من صحيح البخاري ك 93 ب 2 - ج8 ص104 -
105) عن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: " إن هذا الأمر في قريش لا
يعاديهم أحد إلا كبة الله على وجهه ما أقاموا
الدين " وعن عبد الله بن عمر قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لا يزال هذا الأمر في
قريش ما بقي منهم اثنان " وفي مسند الإمام
أحمد (3: 129 الطبعة الأولى) عن أنس بن مالك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب
البيت ونحن فيه فقال " الأئمة من قريش. إن لهم
عليكم حقا. . . إلخ " ورواه الإمام أحمد أيضا
في المسند (3: 183 الطبعة الأولى) عن أنس قال:
كنا في بيت رجل من الأنصار فجاء النبي صلى
الله عليه وسلم حتى وقف فأخذ بعضادة الباب
فقال " الأئمة من قريش، ولهم عليكم حق، ولكم
مثل ذلك. . . إلخ " ورواه الإمام أحمد كذلك
(4: 421 الطبعة الأولى) عن أبي برزة يرفعه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأئمة من
قريش: إذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا،
وإذا حكموا عدلوا. فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
(1/43)
مسيئهم» (1) إن الله سمانا (الصادقين) (2)
وسماكم (المفلحين) (3) وقد أمركم أن تكونوا
معنا حيثما كنا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (التوبة: 119)
إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة
_________
(1) في كتاب مناقب الأنصار من صحيح البخاري (ك
63 ب 11) من حديث هشام بن زيد بن أنس قال:
سمعت أنس بن مالك يقول: مر أبو بكر والعباس
رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار يبكون
(والظاهر أن ذلك كان في مرض النبي صلى الله
عليه وسلم الذي مات به) فقال: ما يبكيكم؟
قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم
فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره
بذلك. قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد
عصب على رأسه حاشية برد. قال فصعد المنبر -
ولم يصعده بعد ذلك اليوم - فحمد الله وأسنى
عليه ثم قال: " أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي
وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقى الذي لهم،
فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ".
وبعده في صحيح البخاري حديث لعكرمة عن ابن
عباس، وحديث لقتادة عن أنس بمعنى ذلك.
وقريب من ذلك في صحيح مسلم عن أبي سعيد
الخدري، وفي سنن الترمذي عن ابن عباس.
(2) في سورة الحشر: 8 - 9 لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ.
(3) في سورة الحشر: 8 - 9 لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ.
(1/44)
والأدلة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك
وانقادت إليه، وبايعوا أبا بكر الصديق رضي
الله عنه (1) .
وقال أبو بكر لأسامة: انفذ لأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش
والعرب قد اضطربت عليك! ؟ فقال: لو لعبت
الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددت جيش
أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
_________
(1) نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية
(5: 247) من حديث الأمام أحمد عن حميد بن عبد
الرحمن بن عوف الزهري (ابن أخت أمير المؤمنين
عثمان) خطبة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة،
ومنها قوله: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " لو سلك الناس واديا وسلكت
الأنصار واديا سلكت وادي الأنصار " ولقد علمت
يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
وأنت قاعد: " قريش ولاة هذا الأمر: فبر الناس
تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "، فقال له
سعد: " صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء ".
(2) نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية
(6: 305) عن الحافظ أبي بكر البيهقي حديث محمد
بن يوسف الفريابي الحافظ (قال البخاري: كان
أفضل أهل زمانه) ، عن عياد بن كثير الرملي أحد
شيوخه (قال ابن المديني: كان ثقة لا بأس به)
عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (أحد التابعين،
توفي بالإسكندرية) عن أبي هريرة قال: " والله
الذي لا إله إلا هو، لولا أبو بكر استخلف ما
عبد الله " ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة.
فقيل له: مه يا أبا هريرة. فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وجه إسامة بن زيد في
سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول
المدينة. فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر، رد هؤلاء،
توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول
المدينة؟ ! فقال: " والذي لا إله غيره، لو جرت
الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت
لواء عقده رسول الله ". فوجه إسامة، فجعل لا
يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن
لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن
ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم
وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.
(1/45)
[موقفه من
مانعي الزكاة]
وقال له عمر وغيره: إذا منعك العرب الزكاة
فاصبر عليهم. فقال: " والله لو منعوني عقالا
كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم لقاتلتهم عليه. والله لأقاتلن من فرق بين
الزكاة والصلاة " (1) .
_________
(1) لما مضى جيش إسامة في طريقه إلى شرق
الأردن جعلت وفود القبائل تقدم المدينة، يقرون
بالصلاة ويمتنعون عن أداء الزكاة. قال ابن
كثير (6: 311) : ومنهم من احتج بقوله تعالى
(التوبة: 103) : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ
لَهُمْ. قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من
صلاته سكن لنا. وقد تكلم الصحابة مع الصديق في
أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم
حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم ثم هم بعد ذلك
يزكون، فامتنع الصديق من ذلك وأباه. وقد روى
الجماعة في كتبهم - سوى ابن ماجه - عن أبي
هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: علام
تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا
إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فقال
أبو بكر: والله لو منعوني عناقا (وفي رواية:
عقالا) كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأقاتلنهم على منعها. إن الزكاة حق
المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة
والزكاة. قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد
شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. وهذا
الحديث في مسند أحمد (1: 11، 19، 35- 36
الطبعة الأولى - ج 1 رقم 67 و117 و239 الطبعة
الثانية) من حديث عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة عن أبي هريرة. وفي البداية والنهاية (6:
312) قال القاسم بن محمد (ابن أبي بكر الصديق،
وهو أحد الفقهاء السبعة) : اجتمعت أسد وغطفان
وطيئ على طليحة الأسدي، وبعثوا وفودا إلى
المدينة فنزلوا على وجوه الناس، فأنزلوهم إلا
العباس، فحملوهم إلى أبي بكر على أن يقيموا
الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر
على الحق وقال " لو منعوني عقالا لجاهدتهم ".
(1/46)
قيل: ومع من تقاتلهم؟ قال: " وحدي، حتى
تنفرد سالِفَتي " (1) .
[تنظيمه جيش
الخلافة]
وقدَّم الأمراء على الأجناد والعمال في البلاد
مختارا لهم، مرتئيا فيهم، فكان ذلك من أسد
عمله، وأفضل ما قدمه للإسلام (2) .
_________
(1) السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من
جانبيه، ولا تنفرد إحداهما عما يليها إلا
بالموت.
(2) وفي طليعة هؤلاء القواد: أبو عبيدة عامر
بن عبد الله بن الجراح الفهري، وعمرو بن العاص
السهمي، وخالد بن الوليد المخزومي وخالد بن
سعيد بن العاص الأموي، ويزيد بن أبي سفيان،
وعكرمة بن أبي جهل، والمهاجر بن أبي أمية شقيق
أم المؤمنين أم سلمة، وشرحبيل بن حسنة،
ومعاوية بن أبي سفيان، وسهيل بن عمرو العامري
خطيب قريش، والقعقاع بن عمرو التميمي، وعرفجة
بن هرثمة البارقي، والعلاء بن الحضرمي حليف
بني أمية، والمثنى بن حارثة الشيباني، وحذيفة
بن محصن الغطفاني. وفي طليعة ولاته: عتاب بن
أسيد الأموي، وعثمان بن العاص الثقفي، وزياد
بن لبيد الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ
بن جبل، ويعلى بن منية، وجرير بن عبد الله
البجلي، وعياض بن غنم، والوليد بن عقبة بن أبي
معيط، وعبد الله بن ثور أحد بني غوث، وسويد بن
مقرن المزني.
(1/47)
[حديث لا نورث
ما تركناه صدقة]
وقال لفاطمة وعلي والعباس: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركناه صدقة»
. فذكر الصحابة ذلك (1) .
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري
(62 ب 12 - ج 4 ص 209 ـ 210) حديث الزهري عن
عروة بن الزبير عن عائشة أن فاطمة أرسلت إلى
أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه
وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه
وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي
بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو
بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا
نورث، ما تركنا فهو صدقة. إنما يأكل آل محمد
من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن
يزيدوا على المأكل " وإني والله لا أغير شيئا
من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت
عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فتشهد علي ثم قال: إنا عرفنا يا
أبا بكر فضيلتك (وذكر قرابتهم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحقهم) فتكلم أبو بكر
فقال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي.
وأوسع منه في كتاب المغازي بباب غزوة خيبر من
صحيح البخاري (ك 64 ب 28 - ج 5 ص 82) .
وفي كتاب الوصايا من صحيح البخاري (ك 55 ب 32
- ج 3 ص 197) وكتاب فرض الخمس (ك 57 ب 3 ـ ج 4
ص 45) حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا
يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي
ومؤونة عاملي فهو صدقة ". قال شيخ الإسلام ابن
تيمية في مناهج السنة (2: 158) : قول النبي
صلى الله عليه وسلم " لا نورث، ما تركنا صدقة
" رواه عنه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي،
وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن عوف،
والعباس بن عبد المطلب، وأزواج النبي صلى الله
عليه وسلم، وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء
ثابتة في الصحاح والمسانيد. وقال قبل ذلك (2:
167) : إن الله تعالى صان الأنبياء أن يورثوا
دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم
بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم. ثم إن من
ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه ومنهن
عائشة بنت أبي بكر وقد حرمت نصيبها بهذا
الحديث النبوي، ولو جرى أبو بكر مع ميله
الفطري لأحب أن ترث ابنته.
وفي كتاب فرض الخمس من صحيح البخاري (ك 57 ب
1ـ ج 4 ص 42) حديث ابن شهاب عن عروة بن الزبير
أن عائشة أم المؤمنين أخبرت أن فاطمة ابنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر
الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله صلى
الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها
أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" لا نورث، ما تركنا صدقة ". . . فأبى أبو بكر
عليها ذلك وقال: " لست تاركا شيئا كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به.
فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ ".
وفي الباب نفسه من صحيح البخاري (ج 4 ص 42 -
44) من حديث الإمام مالك بن أنس عن ابن شهاب
عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري أنه قال:
بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار، إذا
رسول عمر بن الخطاب، فقال: أجب أمير المؤمنين
فانطلقت معه. فبين أنا جالس عنده أتاه حاجبه
يرفأ فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف
والزبير وسعد بن أبي وقاص يستأذنون؟ قال: نعم.
فأذن لهم. . . ثم جلس يرفأ يسيرا ثم قال: هل
لك في علي وعباس؟ قال: نعم. فأذن لهما فدخلا
فسلما فجلسا فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض
بيني وبين هذا - وهما يختصمان فيما أفاء الله
على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير -
فقال الرهط، عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين
اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. قال عمر:
تيدكم. أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء
والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " لا نورث، ما تركنا صدقة " يريد
رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ قال
الرهط: قد قال ذلك. فأقبل عمر على علي وعباس
فقال: أنشدكما الله، أتعلمان أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك.
(وبعد أن ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق
على أهله سنتهم من هذا المال ثم يجعل ما بقي
مال الله، واستشهد على ذلك فشهدوا، قال) : ثم
توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو
بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقبضها، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله
عليه وسلم، والله يعلم أنه فيها لصادق بار
راشد تابع للحق. ثم توفى الله أبا بكر، فكنت
أنا ولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي،
أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وما عمل فيها أبو بكر والله يعلم أني
فيها لصادق بار راشد تابع للحق. ثم جئتماني
تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد، جئتني
يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا
- يريد عليا - يريد نصيب امرأته من أبيها،
فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " لا نورث، ما تركنا صدقة ". فلما بدا لي
أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما
على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها
بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبما عمل فيه أبو بكر، وبما عملت فيها منذ
وليتها. فقلتما: ادفعها إلينا: فبذلك دفعتها
إليكما فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟
قال الرهط: نعم. ثم أقبل على علي وعباس فقال:
أنشدكما بالله، هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا:
نعم. قال: أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك! فوالله
الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها
قضاء غير ذلك، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي
فإني أكفيكماها.
وأورد البخاري حديث مالك بن أوس هذا في كتاب
المغازي من صحيحه (ك 64 ب 14 - ج 5 ص 23 - 24)
من حديث شعيب عن الزهري عن مالك بن أوس وفي
كتاب النفقات من صحيحه (ك 69 ب 3 ـ ج 6 ص 190
ـ 192) ، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من
صحيحه (ك 96 ب 5 ج 8 ص 146 ـ 147) . وانظر
كتاب الفرائض من صحيح البخاري (ك 85 ب 3 - ج 8
ص3 ـ 5) . ومسند الإمام أحمد (1: 13 الطبعة
الأولى - ورقم 77 و78 الطبعة الثانية) .
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في مناهج السنة
(3: 230) إلى أن أبا بكر وعمر أعطيا من مال
الله أضعاف هذا الميراث للذين كانوا سيرثونه
قال: وإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة، لم يأخذ
منهم مدينة ولا قرية عظيمة. ثم قال (3 - 231)
وقد تولى علي بعد ذلك، وصارت فدك وغيرها تحت
حكمه، ولم يعطي لأولاد فاطمة ولا زوجات النبي
صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئا من
ميراثه. . . إلخ.
(1/48)
[حديث لا يدفن
نبي إلا حيث يموت]
وقال سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدفن
نبي إلا حيث يموت» (1) . وهو في ذلك كله رابط
الجأش، ثابت العلم والقدم في الدين.
ثم استخلف عمر، فظهرت بركة الإسلام، ونفذ
الوعد الصادق في الخليفتين (2) .
_________
(1) في كتاب الجنائز من موطأ مالك (ك16 ج27 ـ
ص231) أن مالكا بلغه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم توفي يوم الاثنين ودفن يوم
الثلاثاء. وصلى الناس أفذاذا لا يؤمهم أحد.
فقال ناس: يدفن عند المنبر. وقال آخرون: يدفن
بالبقيع. فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما دفن نبي
قط إلا في مكانه الذي توفي فيه " قال الحافظ
ابن عبد البر: صحيح من وجوه مختلفة وأحاديث
شتى جمعها مالك وفي كتاب الجنائز من جامع
الترمذي (ك8 ب33) حديث عائشة: لما قبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال
أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه
وسلم شيئا ما نسيته: ما قبض الله نبيا إلا في
الموضع الذي يجب أن يدفن فيه. ادفنوه في موضع
فراشه. وفي كتاب الجنائز من سنن ابن ماجه (ك 6
ب 65) عن ابن عباس: لقد اختلف المسلمون في
المكان الذي يحفر له فقال قائلون: يدفن في
مسجده وقال قائلون: يدفن مع أصحابه فقال أبو
بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض. ورواه ابن
إسحاق (في السيرة لابن هاشم 3: 103 بولاق) من
حديث عكرمة عن ابن عباس. وانظر البداية
والنهاية للحافظ ابن كثير (5: 266 ـ 268) .
(2) وهو وعد الله عز وجل في سورة النور: 55
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ
بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ولقد
كان المجتمع الإسلامي ـ بتوجيه هذين الخليفتين
ـ أسعد مجتمع إنساني عرفه التاريخ، لأن الناس
ـ من ولاة ورعية، كانوا يتعاملون بالإيثار،
وكان الواحد منهم يكتفي بما يفي بحاجته، ويبذل
من ذات نفسه أقصى ما يستطيع أن يستخرج منها من
جهد لإقامة الحق في الأرض وتعميم الخير بين
الناس. ويلقى الرجل الخير منهم رجلا لا تزال
تنزع به نزعات الشر، فلا يزال به حتى يخدر
عناصر الشر المتوثبة في نفسه، ويوقظ ما كمن
فيها من عناصر الخير إلى أن يكون من أهل الخير
المنتسبين إلى الإسلام، ولا تزال حتى يومنا
هذا طوائف امتلأت قلوبهم بالضغن حتى على أبي
بكر وعمر، فضلا عمن استعان بهم أبو بكر وعمر
من أهل الفضل والإحسان، فصنعوا لهم من الأخبار
الكاذبة شخصيات أخرى غير شخصياتهم التي كانوا
عليها في نفس الأمر، ليقنعوا أنفسهم بأنهم
إنما أبغضوا أناسا يستحقون منهم هذه البغضاء.
ولهذا امتلأ التاريخ الإسلامي بالأكاذيب، ولن
تتجدد للمسلمين نهضة إلا إذا عرفوا سلفهم على
حقيقته واتخذوا منه قدوة لهم ولن يعرفوا سلفهم
على حقيقته إلا بتطهير التاريخ الإسلامي مما
لصق به.
(1/51)
[جعل عمر شورى
في اختيار الخليفة بعده]
ثم جعلها عمر شورى، فأخرج عبد الرحمن بن عوف
نفسه من الأمر حتى ينظر ويتحرى فيمن يقدم (1)
فقدم عثمان، فكان عند الظن به: ما
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري
(ك62 ب8 ـ ج4 ص204 ـ 207) حديث عمرو بن ميمون
أحد تلاميذ معاذ وابن مسعود ومن شيوخ الشعبي
وسعيد بن جبير وطبقتهما، وقد اشتمل هذا الحديث
على خبر مقتل أمير المؤمنين عمر، وكيف جعل عمر
الخلافة شورى بين الستة الذين توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وكيف أخرج
عبد الرحمن بن عوف نفسه منها. ثم انتهى إلى
تقديم عثمان. وهذا الحديث من أصح ما ثبت في
هذا الموضوع وأجوده.
واقرأ بعد ذلك ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية
عن موقف عمر في جعله الأمر شورى في كتاب منهاج
السنة (3: 168 ـ 172) ، وفيه إرشاد دقيق إلى
ما كان عليه بنو هاشم وبنو أمية من الاتفاق
والمحبة والتعاون في أيام النبي صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر وعمر، وأن عثمان وعليا كان
أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة
إليهما. ونقل ابن تيمية (في 3: 233ـ 234) قول
الإمام أحمد: لم يتفق الناس على بيعة كما
اتفقوا على بيعة عثمان: ولاه المسلمون بعد
تشاورهم ثلاثة أيام، وهم مؤتلفون متفقون
متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا. وقد
أظهرهم الله، وأظهر بهم ما بعث به نبيه من
الهدى ودين الحق، ونصرهم على الكفار ففتح بهم
بلاد الشام والعراق وبعض خراسان. . . إلخ.
(1/52)
خالف له عهدا، ولا نكث عقدا، ولا اقتحم
مكروها ولا خالف سنة (1) .
_________
(1) وكيف لا يكون عثمان عند الظن به وقد شهد
له بطهارة السيرة وحسن الخاتمة رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحي. قال الحافظ ابن حجر في ترجمة
عثمان من (الإصابة) : جاء من أوجه متواترة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر عثمان
بالجنة، وعده من أهل الجنة، وشهد له بالشهادة.
والحديث الذي يتواتر بذلك عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا يرتاب فيه ولا يجنح إلى غير
مدلوله إلا الذي يرضى لنفسه بأن يقتحم أبواب
الجحيم. وروى الترمذي من طريق الحارث بن عبد
الرحمن، عن طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لكل
نبي رفيق، ورفيقي بالجنة عثمان ".
وقال الحافظ ابن عبد البر في ترجمته عثمان من
كتاب (الاستيعاب) ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: " سألت ربي عز وجل أن لا يدخل
النار أحدا صاهر إلي أو صاهرت إليه ". وشهادة
أخرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا
الإنسان الأفضل يتمنى مثلها أبو بكر وعمر
وعلي. فقد روى الإمام مسلم في كتاب فضائل
الصحابة من صحيحه (ك 44 ب 26 ـ ج 7 ص 116 ـ
117) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال في عثمان: " ألا أستحيي من رجل
تستحيي منه الملائكة؟ " وفي صحيح البخاري (ك
62 ب 7 - ج 4 ص 203) عن نافع، عن عبد الله بن
عمر بن الخطاب قال: كنا في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر، ثم
عثمان. ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم لا نفاضل بينهم. وقيل للمهلب بن أبي
صفرة: لم قيل لعثمان ذا النورين؟ قال: لأنه لم
يعلم أن أحدا أرسل سترا على ابنتي نبي غيره.
وروى خيثمة في فضائل الصحابة عن النزال بن
سبرة العامري (أحد الذين أخذوا عن أبي بكر
وعثمان وعلي، وهو من شيوخ الشعبي والضحاك
وطبقتهما) قال: قلنا لعلي حدثنا عن عثمان،
فقال: "ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا
النورين". وقال ابن مسعود حين بويع عثمان
بالخلافة: "بايعنا خيرنا ولم نأل". ووصفه علي
بن أبي طالب بعد انقضاء أجله فقال: " كان
عثمان أوصلنا للرحم، وكان من الذين آمنوا، ثم
اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين ". وروى
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن أباه
قال: " لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها
عمر ما عتبوا عليه ". وعبد الله بن عمر كان
شاهد عيان لخلافة عثمان من أولها إلى آخرها،
وكان أشد الناس في التزام السنة المحمدية، ومع
ذلك فإنه يشهد لعثمان بأن كل ما عتبوا به عليه
كان يحتمل أن يكون من عمر ـ وهو أبوه ـ ولو
كان ذلك من عمر لما عتب أحد به عليه. وقال
مبارك بن فضالة مولى زيد بن الخطاب سمعت عثمان
يخطب وهو يقول " يا أيها الناس ما تنقمون علي،
وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرا ". وقال
الحسن البصري: شهدت منادى عثمان ينادي: يا
أيها الناس اغدوا على أعطياتكم، فيغدون
ويأخذونها وافية. يا أيها الناس اغدوا على
أرزاقكم فيغدون ويأخذونها وافية. حتى ـ والله
ـ سمعته أذناي يقول: اغدوا على كسوتكم.
فيأخذون الحلل. واغدوا على السمن والعسل. قال
الحسن: أرزاق دارة، وخير كثير، وذات بين حسن.
ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلا يوده وينصره
ويألفه. فلو صبر الأنصار على الأثرة لوسعهم ما
كانوا فيه من العطاء والرزق ولكنهم لم يصبروا
وسلوا السيف مع من سل، فصار عن الكفار مغمدا،
وعلى المسلمين مسلولا (روى ذلك عنه الحافظ ابن
عبد البر) وقال ابن سيرين ـ صنو الحسن البصري
وزميله وهو أيضا كان معاصرا لعثمان ـ: " كثر
المال في زمان عثمان حتى بيعت جارية بوزنها،
وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم ". وسئل
عبد الله بن عمر بن الخطاب عن علي وعثمان.
فقال للسائل: (قبحك الله! تسألني عن رجلين ـ
كلاهما خير مني ـ تريد أن أغض من أحدهما وأرفع
من الآخر؟ !) .
(1/53)
[سجايا عثمان
وصفاته الممتازة]
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن
عمر شهيد، وبأن عثمان شهيد، وبأن له الجنة على
بلوى تصيبه (1) .
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك
62 ب 7 ـ ج 4 ص 202) حديث أبي موسى الأشعري
قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا
(أي بستانا) وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل
يستأذن، فقال صلى الله عليه وسلم: " ائذن له
وبشره بالجنة " فإذا أبو بكر. ثم جاء آخر
يستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " فإذا
عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة ثم قال: "
ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه " فإذا
عثمان بن عفان. (وانظر صحيح البخاري ك 62 ب 5
و6 ـ ج 4 ص 195 ـ 197 و201 ـ 202) ومثله في
كتاب فضل الصحابة من صحيح مسلم (ك 44 ح 28 و29
ـ ج 7 ص 117 ـ 119) من حديث أبي موسى الأشعري
أيضا. وروى ابن ماجه في الباب 11 رقم 111 من
مقدمة السنن (ج 1 ص 41 بتحقيق الأستاذ فؤاد
عبد الباقي) عن محمد بن سيرين من أئمة
التابعين، عن كعب بن عجرة البلوي حليف الأنصار
وأحد الذين شهدوا عمرة الحديبية مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ونزلت فيه آية الفدية 195
من سورة البقرة، قال كعب بن عجرة: ذكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها، فمر رجل
مقنع رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " هذا يومئذ على الهدى " فوثبت فأخذت
بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقلت: هذا؟ قال: هذا. ومن مسند أحمد
(1: 58 الطبعة الأولى ـ رقم 407 الطبعة
الثانية) عن أبي سهلة مولى عثمان ـ وهو تابعي
ثقة ـ أن عثمان قال يوم الدار حين حصر: " إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا،
فأنا صابر عليه " والحديث عند الترمذي (4:
324) من طريق وكيع. وقال حديث حسن صحيح. وعند
ابن ماجه (1: 41، 42 رقم 112، 113) حديثان
أحدهما لأبي سهلة مولى عثمان والآخر لعائشة.
وأوردهما الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1:
99) عن عائشة.
(1/55)
وهو وزوجه رقية ابنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم أول مهاجر بعد إبراهيم الخليل صلى
الله عليه وسلم، دخل به في باب " أول من. .
(1) " وهو علم كبير جمعه الناس.
ولما صحت إمامته قتل مظلوما (2) وليقضي الله
أمرا كان مفعولا.
_________
(1) للجلال السيوطي وغيره من العلماء قبله
وبعده كتب ألفوها في تسمية الأشخاص الذين
سبقوا غيرهم إلى شيء من الأعمال المحمودة
وغيرها، فيقولون (مثلا) : كان عثمان أول من
هاجر في سبيل الله الهجرة الأولى إلى الحبشة.
(2) روى الإمام أحمد في مسنده (2: 115 الطبعة
الأولى ـ ج 8 رقم 5953 الطبعة الثانية) عن عبد
الله بن عمر بن الخطاب قال: ذكر رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل، فقال صلى الله
عليه وسلم: " يقتل فيها هذا المقنع يومئذ
مظلوما " قال (عبد الله بن عمر) : فنظرت، فإذا
هو عثمان بن عفان. قال الشيخ أحمد شاكر:
والحديث رواه الترمذي (4: 323) ونقل شارحه عن
الحافظ ابن حجر أنه قال إسناده صحيح. وروى
الحاكم في المستدرك (3: 102) نحوه من حديث مرة
بن كعب وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(1/56)
ما نصب حربا (1) ولا جيش عسكرا (2) ولا سعى
إلى فتنة (3) ولا دعا إلى بيعة (4) ولا حاربه
ولا نازعه من هو من أضرابه ولا أشكاله (5) ولا
كان يرجوها لنفسه، ولا خلاف أنه ليس لأحد أن
يفعل ذلك في غير
_________
(1) أي لقتال أهل القبلة. أما حروبه لإعلاء
كلمة الله ونشر دعوة الحق فكانت من أنشط ما
عرفه التاريخ الإسلامي.
(2) أي للدفاع عن نفسه، وكبح جماح البغاة
عليه.
(3) بل كان أشد خلق الله كرها لها وحرصا على
تضييق دائرتها، حقنا لدماء المسلمين، ولو أدى
ذلك به إلى أن يكون هو ضحية لغيره.
(4) وإنما أتته منقادة على غير تشوف منه
إليها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج
السنة (3: 164) : إن الصحابة اجتمعوا على
عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم
مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره. ثم قال في
الصفحة التالية: ولا ريب أن الستة الذين توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ـ
أي الذين عينهم عمر ـ لا يوجد أفضل منهم، وإن
كان في كل منهم ما كرهه فإن غيرهم يكون فيه من
المكروه أعظم، ولهذا لم يتول بعد عثمان خير
منه ولا أحسن سيرة.
(5) أضراب أمير المؤمنين عثمان وأشكاله هم
إخوانه الذين أشركهم أمير المؤمنين عمر في
الشورى، أما الذين استطاع عبد الله بن سبأ
وتلاميذه أن يوقعوهم في حبائل الفتنة فبينهم
وبين مستوى أهل الشورى أبعد مما بين الحضيض
والقمة، بل أبعد مما بين الشر والخير. وإن
الشر الذي أقحموه على تاريخ الإسلام بحماقاتهم
وقصر أنظارهم لو لم يكن من نتائجه إلا وقوف
حركة الجهاد الإسلامي فيما وراء حدود الإسلام
سنين طويلة لكفى به إثما وجناية. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 186) :
إن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم
عثمان. لا قتل، ولا أمر بقتله، وإنما قتله
طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل
وأهل الفتن. وكان علي رضي الله عنه يقول "
اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل
والجبل ".
(1/57)
عثمان، فكيف بعثمان رضي الله عنه! .
[وصف إجمالي لدعاة
الفتنة]
وقد سموا من قام عليه، فوجدناهم أهل أغراض سوء
حيل بينهم وبينها (1) فوعظوا وزجروا (2)
وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد
_________
(1) الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم
الدار طوائف على مراتب: فيهم الذين غلب عليهم
الغلو في الدين، فأكبروا الهنات، وارتكبوا في
إنكارها الموبقات. وفيهم الذين ينزعون إلى
عصبية يمنية على شيوخ الصحابة من قريش، ولم
تكن لهم في الإسلام سابقة. فحسدوا أهل السابقة
من قريش على ما أصابوا من مغانم شرعية جزاء
جهادهم وفتوحهم، فأرادوا أن يكون لهم مثلها
بلا سابقة ولا جهاد. وفيهم الموتورون من حدود
شرعية أقيمت على بعض ذويهم، فاضطغنوا في
قلوبهم الإحنة والغل لأجلها. وفيهم الحمقى
الذين استغل السبئيون ضعف قلوبهم فدفعوهم إلى
الفتنة والفساد والعقائد الضالة. وفيهم من
أثقل كاهله خير عثمان ومعروفه نحوه، فكفر
معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من
الرئاسة والتقدم بسبب نشأته في أحضانه. وفيهم
من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر
بدرت منهم تخالف أدب الإسلام، فأغضبهم التعزير
الشرعي من عثمان، ولو أنهم قد نالهم من عمر
أشد منه لرضوا به طائعين. وفيهم المتعجلون
بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغترارا بما لهم
من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة،
فثاروا متعجلين بالأمر قبل إبانه.
وبالإجمال، فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان
وامتلأ بها قلبه أطمعت الكثير فيه، وأرادوا أن
يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم. ولعلي إذا
اتسع لي الوقت أتفرغ لدراسة نفسيات هؤلاء
الخوارج على عثمان، وتنظيم المعلومات الصحيحة
التي بقيت لنا عنهم، ليكون من ذلك درس عبرة
لطلاب التاريخ الإسلامي.
(2) وقد وعظهم وزجرهم أهل العافية والحكمة
والرضا من أعيان أمصارهم وعلمائها في الكوفة
والبصرة والفسطاط، ثم وعظهم وزجرهم معاوية في
مجالس له معهم عندما سيرهم عثمان إلى الشام
كما سيجيء عند كلام المؤلف على سطوهم على
المدينة - بحجة الحج - فحولوا حجهم الكاذب إلى
البغي على خليفتهم وسفك دمه الحرام في الشهر
الحرام بجوار قبر المصطفى عليه الصلاة
والسلام.
(1/58)
ابن الوليد (1) وتوعدهم حتى تابوا (2)
فأرسل بهم إلى عثمان فتابوا (3) . وخيرهم
فاختاروا التفرق في البلاد، فأرسلهم: فلما سار
كل إلى ما اختار أنشأوا الفتنة، وألبوا
الجماعة، وجاءوا إليه (4) بجملتهم، فاطلع
عليهم من حائط داره ووعظهم، وذكرهم، وورعهم عن
دمه (5) وخرج طلحة يبكي ويورع الناس، وأرسل
علي ولديه (6) وقال الناس لهم (7) إنكم أرسلتم
إلينا " أقبلوا إلى من غير سنة الله (8) "،
فلما جئنا قعد هذا في بيته - يعنون عليا -
_________
(1) وكان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد واليا
لمعاوية على حمص وما يليها من شمال الشام إلى
أطراف جزيرة ابن عمر، وسيأتي الحديث عن
أحوالهم عندما قبض عليهم هذا الشبل المخزومي
بمثل مخالب أبيه.
(2) بل تظاهروا بأنهم تابوا، " وَإِذَا
خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ ".
(3) خيرهم عبد الرحمن بن خالد في أن يذهبوا
إلى عثمان، فذهب كبيرهم الأشتر النخعي، وله
قصة نذكرها في موضعها من هذا الكتاب.
(4) أي إلى أمير المؤمنين عثمان.
(5) ورعهم عن الشيء: كفهم ومنعهم بالحجة والحق
المنير.
(6) ليكونا في حراسة أمير المؤمنين عثمان،
ويدافعا عنه.
(7) أي قال البغاة يخاطبون عليا وطلحة
والزبير.
(8) زعم البغاة أنهم تلقوا من علي وطلحة
والزبير كتبا يدعونهم بها للثورة على عثمان
بدعوى أنه غير سنة الله. وسيأتي إنكار علي
وطلحة والزبير أنهم كتبوا بذلك، والظاهر أن
الفريقين صادقان، أن منظمي الفتنة من السبئيين
زوروا الرسائل التي ذكرها البغاة الثائرون.
(1/59)
وخرجت أنت (1) تفيض عينيك. والله لا برحنا
حتى نريق دمه. وهذا قهر عظيم، وافتئات على
الصحابة، وكذب في وجوههم وبهت لهم، ولو أراد
عثمان لكان مستنصرا بالصحابة، ولنصروه في لحظة
(2) وإنما جاء القوم مستجيرين متظلمين (3) .
فوعظهم، فاستشاطوا. فأراد الصحابة ألَّهُمْ
(4) فأوعز إليهم عثمان ألا يقاتل أحد بسببه
أبدا، فاستسلم، وأسلموه برضاه.
وهي مسألة من الفقه كبيرة: هل يجوز للرجل أن
يستسلم، أم يجب عليه أن يدافع عن نفسه؟
وإذا استسلم وحرَّم على أحد أن يدافع عنه
بالقتل، هل يجوز لغيره أن يدافع عنه ولا يلتفت
إلى رضاه؟ اختلف العلماء فيها.
فلم يأت عثمان منكرا لا في أول الأمر، ولا في
آخره، ولا جاء الصحابة بمنكر. وكل ما سمعت من
خبر باطل إياكَ أن تلتفت إليه (5) .
_________
(1) الخطاب لطلحة بن عبيد الله.
(2) ولقد راودوه في ذلك مرارا، وعرض عليه
معاوية أن ينقل دار الخلافة إلى الشام، أو
يمده بجند من الشام لا يعرف له التاريخ إلا
التقدم والظفر.
(3) أي أن البغاة ظهروا بمظهر المتظلم وهو
يدعي أمورا يشكوها، فكان عثمان يرى لهم حقا
عليه أن يبين لهم وللناس حجته فيما ادعوا،
ووجهة نظره في الأمور التي زعموا أنهم جاءوا
يتظلمون منها.
(4) ألَّهُ: طعنه بالألَّة، وهي الحربة
العريضة النصل.
(5) ومعيار الأخبار في تاريخ كل أمة الوثوق من
مصادرها، والنظر في ملاءمتها لسجايا الأشخاص
المنسوبة إليهم. وأخبار التاريخ الإسلامي نقلت
عن شهود عيان ذكروها لمن جاءوا بعدهم. وهؤلاء
رووها لمن بعدهم وقد اندس في هؤلاء الرواة
أناس من أصحاب الأغراض زوروا أخبارا على لسان
آخرين وروجوها في الكتب، إما تقربا لبعض أهل
الدنيا، أو تعصبا لنزعة يحسبونها من الدين.
ومن مزايا التاريخ الإسلامي - تبعا لما جرى
عليه علماء الحديث - أنه قد تخصص فريق من
العلماء في نقض الرواية والرواة، وتمييز
الصادقين منهم عن الكذبة، حتى صار ذلك علما
محترما له قواعد، وألفت فيه الكتب، ونظمت
للرواة معاجم حافلة بالتراجم، فيها التنبيه
على مبلغ كل راو من الصدق والتثبت والأمانة في
النقل، وإذا كان لبعضهم نزعات حزبية أو مذهبية
قد يجنح معها على الهوى ذكروا ذلك في ترجمته
ليكون دارس أخبارهم ملما بنواحي القوة والضعف
من هذه الأخبار. والذين يتهجمون على الكتابة
في تاريخ الإسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن
يستكملوا العدة لذلك - ولا سيما في نقد الرواة
ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم
- يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا
فيها لو أنهم استكملوا وسائل العلم بهذه
النواحي.
(1/60)
|