العواصم من القواصم - ط الأوقاف السعودية [قاصمة]
[المظالم
والمناكير]
قاصمة
قالوا متعدين، متعلقين برواية كذابين: جاء
عثمان في ولايته بمظالم ومناكير، منها:
1 - ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه.
2 - ولابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه.
3 - وابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق
المصاحف.
4 - وحمى الحمى.
5 - وأجلى أبا ذر إلى الربذة.
(1/61)
6 - وأخرج من الشام أبا الدرداء.
7 - ورد الحكم بعد أن نفاه رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
8 - وأبطل سنة القصر في الصلوات في السفر.
9 - 12 - وولى معاوية، [وعبد الله بن عامر بن
كريز] (1) ومروان. وولى الوليد بن عقبة وهو
فاسق ليس من أهل الولاية.
13 - وأعطى مروان خمس أفريقية.
14 - وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا (2)
.
15 - وعلا على درجة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقد انحط عنها أبو بكر وعمر.
16 - ولم يحضر بدرا، وانهزم يوم أحد، وغاب عن
بيعة الرضوان.
17 - ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان
(الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة، وحرضه على
عمر حتى قتله) .
18 - وكتب مع عبده على جمله كتابا إلى ابن أبي
سرح في قتل من ذكر فيه.
_________
(1) سقط اسم ابن كريز من الأصل سهوا من الناسخ
أو من الطابع في مطبوعة الجزائر، مع أنه ذكر
في الدفاع الآتي بعد. ومطبوعة الجزائر طبعت
على أصل سقيم بخط ناسخ غير متمكن. وقد وقع
تقديم وتأخير في ترتيب التهم وأجوبتها، ويلوح
لنا أن مجلد الأصل المخطوط الذي طبعت عليهم
مطبوعة الجزائر وضع بعض الورق في غير مواضعه
عند التجليد، فأعدنا ترتيب التهم وأجوبتها على
نسق، ولم نزد عن الأصل كلمة ولم ننقص منه
كلمة، وبذلك تلافينا الاضطراب الذي كان باديا
للقارئ في المطبوعة الجزائرية.
(2) الدرة: عصا صغيرة يحملها السلطان يزع بها.
(1/62)
[عاصمة]
[موقف عثمان من
عبد الله بن مسعود وعمار]
عاصمة هذا
كله باطل سندا ومتنا، أما قولهم " جاء عثمان
بمظالم ومناكير " فباطل (1) . 1 - 2 - وأما
ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور (2) وضربه
_________
(1) كما ترى من الأدلة التي سيوردها المؤلف في
نقض هذه التهم واحدة بعد واحدة حتى يأتي على
آخرها.
(2) تقدم في هامش ص 54 قول عبد الله بن مسعود
لما بويع عثمان: (بايعنا خيرنا ولم نأل) ويروى
(ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل) وعند ولاية
عثمان كان ابن مسعود واليا لعمر على أموال
الكوفة، وسعد بن أبي وقاص واليا على صلاتها
وحربها، فاختلف سعد وابن مسعود على قرض
استقرضه سعد - كما سيأتي - فعزل عثمان سعدا
وأبقى ابن مسعود. وإلى هنا لا يوجد بين ابن
مسعود وخليفته إلا الصفو. فلما عزم عثمان على
تعميم مصحف واحد في العالم الإسلامي يجمع
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه
هو المصحف الكامل الموافق لآخر عرضة عرض بها
كتاب الله - عز وجل - على رسوله صلى الله عليه
وسلم قبل وفاته، كان ابن مسعود يود لو أن
كتابة المصحف نيطت به، وكان يود أيضا لو يبقى
مصحفه الذي كان يكتبه لنفسه فيما مضى. فجاء
عمل عثمان على خلاف ما كان يوده ابن مسعود في
الحالتين: أما في اختيار عثمان زيد بن ثابت
لكتابة المصحف الموحد فلأن أبا بكر وعمر
اختاراه قبل ذلك لهذا العمل في خلافة أبي بكر،
بل إن أبا بكر وعمر اختارا زيد بن ثابت في
البداية لأنه هو الذي حفظ العرضة الأخيرة
لكتاب الله على الرسول صلوات الله عليه قبيل
وفاته، فكان عثمان على حق في هذا، وهو يعلم -
كما يعلم سائر الصحابة - مكانة ابن مسعود
وعلمه وصدق إيمانه. ثم إن عثمان كان على حق
أيضا في غسل المصاحف الأخرى كلها ومنها مصحف
ابن مسعود، لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل
ما كان في استطاعة البشر هو من أعظم أعمال
عثمان بإجماع الصحابة، وكان جمهور الصحابة في
كل ذلك مع عثمان على ابن مسعود (انظر منهاج
السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 3: 191 - 192) .
وعلى كل حال فإن عثمان لم يضرب ابن مسعود ولم
يمنعه عطاءه، وبقي يعرف له قدره كما بقي ابن
مسعود على طاعته لإمامه الذي بايع له وهو
يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة.
(1/63)
لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش
أبدا (1) .
_________
(1) روى الطبري (5: 99) عن سعيد بن المسيب أنه
كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف
حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب. قلت:
وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال
قبل عثمان وبعده، وكم فعل عمر مثل ذلك بأمثال
عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية
على المسلمين. ولما نظم السبئيون حركة
الإشاعات، وصاروا يرسلون الكتب من كل مصر إلى
الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة فأشار
الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالا ممن يثق بهم
إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال،
تناسى عثمان ما كان من عمار، وأرسله إلى مصر
ليكون موضع ثقته في كشف حالها. فأبطأ عمار في
مصر، والتف به السبئيون ليستميلوه إليهم،
فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر، وجيء
بعمار إلى المدينة مكرما. وعاتبه لما قدم عليه
فقال له - على ما رواه الحافظ ابن عساكر في
تاريخ دمشق (7: 429) -: " يا أبا اليقظان قذفت
ابن أبي لهب أن قذفك. . . وغضبت علي أن أخذت
لك بحقك وله بحقه. اللهم قد وهبت ما بيني وبين
أمتي من مظلمة، اللهم إني متقرب إليك بإقامة
حدودك في كل أحد ولا أبالي. اخرج عني يا عمار
" فخرج، فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه
وانتفى من ذلك، وإذا لقي من يأمنه بذلك أظهر
الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 192 -
193) : وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه، هو
أفضل من ابن مسعود، وعمار، وأبي ذر، ومن غيرهم
من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل، فليس جعل
كلام المفضول قادحا في الفاضل بأولى من العكس.
وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان، وقول
الحسن فيه (أي في عمار) . نقل أن عمارا قال:
لقد كفر عثمان كفرة صلعاء. فأنكر الحسن بن علي
ذلك عليه، وكذلك علي وقال له: يا عمار، أتكفر
برب آمن به عثمان؟ قال ابن تيمية: وقد تبين من
ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد
كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي لله، ويكون
مخطئا في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان
واحد منهما وولايته. كما ثبت في الصحيح أن
أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي
صلى الله عليه وسلم: إنك منافق تجادل عن
المنافقين. وكما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن
أبي بلتعة: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا
المنافق. فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه قد
شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل
بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
فعمر أفضل من عمار، وعثمان أفضل من حاطب بن
أبي بلتعة بدرجات كثيرة، وحجة عمر فيما قال
لحاطب أظهر من حجة عمار، ومع هذا فكلاهما من
أهل الجنة، فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل
الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال؟ مع أن
طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال
ذلك. . . ثم قال شيخ الإسلام: وفي الجملة،
فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمارا
فهذا لا يقدح في أحد منهم. فإنا نشهد أن
الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله
المتقين. وإن ولي الله قد يصدر عنه ما يستحق
عليه العقوبة الشرعية، فكيف بالتعزير. وقد ضرب
عمر بن الخطاب أبيّ بن كعب بالدرة لما رأى
الناس يمشون خلفه وقال: " هذا ذلة للتابع
وفتنة للمتبوع " فإن كان عثمان أدب هؤلاء.
فإما أن يكون عثمان مصيبا في تعزيرهم
لاستحقاقهم ذلك، ويكون ذلك الذي عزروا عليه
تابوا منه وكفر عنهم بالتعزير وغيره من
المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك.
وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقا. فالقول في
عثمان كالقول فيهم وزيادة، فإنه أفضل منهم،
وأحق بالمغفرة والرحمة. . . . إلخ.
(1/64)
وقد اعتذر عن ذلك العلماءُ بوجوه لا ينبغي
أن يُشتَغل بها لأنها مبنية
(1/65)
على باطل (1) ولا يُبنى حق على باطل، ولا
نُذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا
آخر له.
[جمعه للقرآن]
3 - وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى،
وخصْلتُه الكبرى، وإن كان وَجدها كاملة، لكنه
أظهرها وردَّ الناس إليها، وحسم مادة الخلاف
فيها. وكان نفوذُ وعد الله بحفظ القرآن على
يديه حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها (2) .
روى الأئمة بأجمعهم (3) أن زيد بن ثابت قال:
أرسل إليّ أبو بكر
_________
(1) أي على ادعاء الكاذبين أعداء أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن أمير المؤمنين
عثمان ضرب عمارا حتى فتق أمعاءه، وضرب ابن
مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه! .
(2) أي في مؤلفات ابن العربي المتعلقة بعلوم
القرآن، وقد ذكرنا في ترجمته (ص27 - 28) أن
منها (أنوار الفجر) في ثمانين أو تسعين مجلدا،
و (قانون التأويل) من مؤلفاته الكبرى، و
(أحكام القرآن) المطبوع في مصر، و (كتاب
المشكلين) و (الناسخ والمنسوخ) .
(3) وفي مقدمتهم الإمام أحمد في مسنده (1: 13
الطبعة الأولى - رقم 76 الطبعة الثانية. و 5:
188 - 189 الطبعة الأولى) . والإمام البخاري
في صحيحه (كتاب التفسير ك 65 السورة 9 ب 20 ج
5 ص 210 - 211. وكتاب فضائل القرآن ك 66 ب3 و
4 ج 6 ص 88 - 99، وكتاب الأحكام ك 93 ب 37 ج8
ص118 - 119. وكتاب التوحيد ك 97 ب22 ج8 ص176 -
177) .
(1/66)
مقتل أهل اليمامة (1) فإذا عمر بن الخطاب
عنده، فقال أبو بكر: " إن عمر أتانا فقال: إن
القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن،
وإني أخشى أن يستحرّ القتلُ بالقرّاء بالمواطن
فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تجمع
القرآن. قلتُ لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله
_________
(1) وذلك لما ارتدت بنو حنيفة برئاسة مسيلمة
الكذاب وبتحريض عدو الله الرَّجال بن عنفوة بن
نهشل الحنفي. وكانت قيادة المسلمين لسيف الله
خالد بن الوليد، واستشهد في هذه الملحمة زيد
بن الخطاب أخو عمر. وكان حفظة القرآن من
الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة
البقرة بطل السحر اليوم. وتحنط خطيب الأنصار
وحامل لوائهم ثابت بن قيس ولبس كفنه وحفر
لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه ولم يزل
يقاتل وهو ثابت بالراية في موضعه حتى استشهد.
وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى
أن نؤتى من قبلك؟ فأجاب: بئس حامل القرآن أنا
إذن. وقاتل حتى استشهد. وقال أبو حذيفة: زينوا
القرآن بالفعال، وما زال يقاتل حتى أصيب، وممن
استشهد يومئذ حزن بن أبي وهب المخزومي جد سعيد
بن المسيب، وكان شعار الصحابة يومئذ:
وامحمداه! وصبروا يومئذ صبرا لم يعهد مثله حتى
ألجأوا المرتدين إلى حديقة الموت فاعتصم فيها
مسيلمة ورجاله. فقال البراء بن مالك: يا معشر
المسلمين ألقوني عليهم في داخل الحديقة أفتح
لكم بابها. فاحتملوه فوق الجحف ورفعوه بالرماح
وألقوه في الحديقة من فوق سورها، فما زال
يقاتل المرتدين دون بابها حتى فتحه ودخل
المسلمون وكان النصر، وممن اقتحم الحديقة أبو
دجانة من مجاهدي بدر حتى وصل إلى مسيلمة وعلاه
بالسيف فقتله، وكسرت رجله - رضي الله عنه - في
تلك الوقعة ثم نال الشهادة. وفي البداية
والنهاية (6: 334 - 340) أسماء كثيرين من
شهداء هذا اليوم العظيم في الإسلام، ومنهم
حفظة كتاب الله. والشيعة يذمون موقف الصحابة
من مسيلمة وقومه ويدافعون عن المرتدين. انظر
(المنتقى من منهاج الاعتدال) ص270 - 272.
(1/67)
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر:
هذا والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله
صدري لذلك، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر ".
قال زيد: قال أبو بكر: " إنك رجل شاب عاقل لا
نتّهِمُك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى
الله عليه وسلم. فتتبَّع القرآن فاجمعه ".
فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان
أثقل عليّ مما أمروني به من جمع القرآن. قلتُ:
كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ قال عمر: " هذا والله خير ". فلم
يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له
صدر أبي بكر وعمر، فتتبعتُ القرآنَ أجمعهُ من
العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال (1) حتى وجدتُ
آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها
مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة.
فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم
عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر. حتى قدم
حُذيفة بن اليمان على عثمان (2) وكان يُغازي
أهل الشام في فتح أرمينية وأذْرِبَيجان مع أهل
العراق، فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة،
فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك
هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف
اليهود والنصارى: فأرسل عثمان إلى حفصة أن
أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم
نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر
زيد بن
_________
(1) العسب (جمع عسيب) أي جريدة النخل، وهي
السعفة التي لا ينبت عليها الخوص. واللخاف
(جمع لخفة) وهي حجارة بيض رقاق. كانوا يكتبون
عليها إذا تعذر الورق.
(2) وحديثه عن ذلك في صحيح البخاري (ك 66 ب 3
- ج6 ص99) عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك.
(1/68)
ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن
العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها
في المصاحف (1) .
_________
(1) العناية التي بذلها عظيما الإسلام أبو بكر
وعمر، وأتمها أخوهما وصنوهما ذو النورين عثمان
في جمع القرآن وتثبيته وتوحيد رسمه، كان لهم
بها أعظم المنة على المسلمين، وبها حقق الله
وعده في قوله سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. وقد
تولى الخلافة بعد هؤلاء الشيوخ الثلاثة أمير
المؤمنين علي فأمضى عملهم وأقر مصحف عثمان
برسومه وتلاوته، في جميع أمصار ولايته، وبذلك
انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن
ما قام به أبو بكر وعمر وعثمان هو أعظم
حسناتهم، بل نقل بعض علماء الشيعة هذا الإجماع
على لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. جاء
في كتاب تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني
(ص46) من شيعة عصرنا أن علي بن موسى المعروف
بابن طاوس (589 - 664) وهو من علمائهم نقل في
كتابه (سعد السعود) عن الشهرستاني في مقدمة
تفسيره عن سويد بن غفلة [هو أبو أمية الجعفي
الكوفي. قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفنه
صلى الله عليه وسلم وشهد اليرموك. يروي عن أبي
بكر وعمر وعلي وعثمان. ويروي عنه النخعي
والشعبي وعبدة بن أبي لبابة. ثقة. مات سنة 80
وقيل 81 عن مائة وثلاثين سنة.] قال: سمعت علي
بن أبي طالب عليه السلام يقول: " أيها الناس،
الله، الله، إياكم والغلو في أمر عثمان وقولكم
حرّاق المصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملأ من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمعنا
وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف
الناس فيها. يلقى الرجل فيقول: قراءتي خير من
قراءتك. وهذا يجر إلى الكفر؟ فقلنا: ما الرأي؟
قال: أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم
إن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا.
فقلنا: نِعم ما رأيت ". ومما لا ريب فيه أن
البغاة أنفسهم كانوا في خلافة علي - رضي الله
عنه - يقرءون في مصاحف عثمان التي أجمع عليها
الصحابة وعلي فيهم. ولكن نجم لهم أذناب في
العصور التالية فضحوا أنفسهم بسخفهم وكفرهم،
كشيطان الطاق محمد بن جعفر الرافضي فيما رواه
الإمام ابن حزم في (الفِصَل) 4: 181 عن الجاحظ
قال: أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن
خالد أنهما قالا لمحمد بن جعفر الرافضي
المعروف بشيطان الطاق: ويحك، أما استحييت من
الله أن تقول في كتابك في الإمامة: إن الله
تعالى لم يقل قط في القرآن (ثَانِيَ اثْنَيْنِ
إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ
مَعَنَا) ؟ قالا: فضحك والله شيطان الطاق ضحكا
طويلا حتى كأنا نحن الذين أذنبنا. وشيطان
الطاق هذا أكبر دعاة الشيعة في زمن الإمامين
زيد وابن أخيه جعفر الصادق، وهو الذي ابتدع
أكذوبة أن الإمامة معهود بها إلى أشخاص
بأعيانهم، ولم يكن أحد يقول بذلك قبل شيطان
الطاق هذا. وأنكرها عليه الإمام زيد في مجلس
جعفر.
ودعوى الرافضة بتبديل القرآن، مع تصريح علي
بإجماع الصحابة على ما قام به عثمان، صارت
مادة دسمة لدعاة النصارى يحتجون بها، فقال لهم
الإمام ابن حزم في الفصل (2: 78) : " إن
الروافض ليسوا من المسلمين. . . وهي طائفة
تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر ".
قلت: وآخر من افتضح منهم بهذا الأمر وفضح به
الشيعة جميعا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي
بكتابه الذي اقترفه في المشهد المنسوب لأمير
المؤمنين علي في النجف سنة 1292 وطبع في إيران
سنة 1298 وعندي نسخة منه. وإن من طبيعة التحزب
والتعصب والتشيع أن يذهب بعقول أصحابه
وأخلاقهم ثم يذهب بحيائهم ودينهم، كما برهن
على ذلك علماء علم النفس الاجتماعي وفي
مقدمتهم الدكتور غوستاف لبون.
(1/69)
وقال عثمان للرهط القُرشيين الثلاثة: " إذا
اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن
فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم "
ففعلوا.
حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمانُ
الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفق بمصحف مما
نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة
ومصحف أن يُحرق.
(1/70)
قال ابن شهاب (1) " وأخبرني خارجةُ بن زيد
بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: " فقدتُ آية
من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنتُ أسمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها،
فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة الأنصاري {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]
فألحقناها في سورتها من المصحف ".
وأما ما روي أنه حرّقها أو خرّقها - بالحاء
المهملة أو الخاء المعجمة، وكلاهما جائز - إذا
كان في بقائها فساد، أو كان فيها ما ليس من
القرآن، أو ما نسخ منه، أو على غير نظمه، فقد
سلّم في ذلك الصحابة كلهم: إلا أنه روي عن ابن
مسعود أنه خطب بالكوفة فقال: " أما بعد، فإن
الله قال {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] وإني
غالٌّ مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه
فليفعل ". وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه،
وأن يثبت ما يعلم فيه. فلما لم يُفعل ذلك له
قال ما قال، فأكرهه عثمان على رفع مصحفه، ومحا
رسومه فلم تثبت له قراءة أبدا، ونصر الله
عثمان والحق بمحوها من الأرض (2) .
_________
(1) فيما رواه عن الإمام البخاري في صحيحه (ك
56 ب12 ج3 ص205 - 206، وك 64 ب 17 ج 5 ص 31،
وك 65 السورة 9 ب 20 والسورة 33 ب3، وك 66 ب3
و4، وك 93 ب27، وك 97 ب22) .
(2) عبد الله بن مسعود من كبار علماء الصحابة
ومن أجودهم قراءة لكتاب الله، وقد أثنى رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرة على حسن تلاوة
ابن مسعود للقرآن، فتسارع أبو بكر وعمر ليوصلا
إليه البشرى بهذا الثناء النبوي: (انظر مسند
أحمد 1: 25 - 26 الطبعة الأولى - رقم 175
الطبعة الثانية) . إلا أن ابن مسعود كان يكتب
ما يوحى من القرآن في مصحفه كلما بلغه نزول
آيات منه، فهو يختلف في ترتيب هذه الآيات عما
امتازت به مصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض
الأخير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر
ما أدى إليه اجتهاد الصحابة المؤيد بإجماعهم.
ويحتمل أن يكون ابن مسعود فاته في مصحفه بعض
ما استقصاه زيد بن ثابت وزملاؤه من الآيات
التي كانت عند آخرين من قراء الصحابة. زد على
ذلك أن ابن مسعود كانت تغلب عليه لهجة قومه من
هذيل، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص لمثل ابن
مسعود أن يقرءوا بلهجاتهم، ولكن ليس لابن
مسعود أن يحمل الأمة في زمنه والأزمان بعده
على لهجته الخاصة، فكان من الخير توحيد الأمة
على قراءة كتاب ربها باللهجة المضرية التي كان
عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/71)
[ما أوخذ به
عثمان من حماية الحمى لإبل الصدقة]
4 - وأما الحِمى، فكان قديما (1) فيقال إن
عثمان زاد فيه لما
_________
(1) كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضا في
حيه استعوى كلبا. فحمى لخيله وإبله وسوائمه
مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره. فلما جاء
الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
واختص الحمى بإبل الزكاة المرصدة للجهاد
والمصالح العامة، فقال صلى الله عليه وسلم: "
لا حمى إلا لله ورسوله " رواه البخاري من حديث
الصعب بن جثامة في كتاب المساقاة (ك 42 ب 11)
وكتاب الجهاد (ك56 ب146) من صحيحه. ورواه
الإمام أحمد في مسنده (4: 71 و73 الطبعة
الأولى) من حديث الصعب بن جثامة أيضا. وقد حمى
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا يسمى
(النقيع) وهو " نقيع الخضمات " كما في مسند
الإمام أحمد (2: 91 و155 و157 الطبعة الأولى -
رقم 5655 و6438 و6464 الطبعة الثانية) من حديث
أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر العمري عن
نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
حمى النقيع للخيل قال حماد بن خالد راوي هذا
الحديث عن عبد الله بن عمر العمري: يا أبا عبد
الرحمن خيله؟ قال: خيل المسلمين (أي المرصودة
للجهاد، أو ما يملكه بيت المال) . والنقيع هذا
في المدينة على عشرين فرسخا منها ومساحته ميل
في ثمانية أميال كما في موطأ مالك برواية ابن
وهب. ومعلوم أن الحال استمر في خلافة أبي بكر
على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم، لأن أبا بكر لم يخرج عن شيء كان عليه
الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا
سيما وأن حالة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت
عن قبل. وفي زمن عمر اتسع الحمى فشمل (سرف) و
(الربذة) ، وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى
له يدعى هنيا، وفي كتاب الجهاد من صحيح
البخاري (ك56 ب180) من حديث زيد بن أسلم عن
أبيه نص وصية أمير المؤمنين عمر لعامله هذا
على الحمى بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن
بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب
الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما. وكما
اتسع عمر في الحمى عما كان عليه في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت
المال في زمنه، اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع
الدولة وازدياد الفتوح. فالذي أجازه النبي صلى
الله عليه وسلم لسوائم بيت المال، ومضى على
مثله أبو بكر وعمر، يجوز مثله لبيت المال في
زمن عثمان، ويكون الاعتراض عليه اعتراضا على
أمر داخل في التشريع الإسلامي. ولما أجاب
عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه على
ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى
اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا
يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما
منعوا ولا نحوا منها أحدا. . . وذكر عن نفسه
أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيرا
وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه. وسأل
من يعرف ذلك من الصحابة: أكذلك؟ قالوا: اللهم
نعم.
(1/72)
زادت الرعية. وإذا جاز أصله للحاجة إليه
جازت الزيادة لزيادة الحاجة.
[أبو ذر ومسيره
إلى الربذة]
5 - وأما نفيُه أبا ذرّ إلى الرَّبذة فلم يفعل
(1) كان أبو ذر زاهدا، وكان يقرّع عمال عثمان،
ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ} [التوبة: 34]
_________
(1) وإنما اختار أبو ذر أن يعتزل في الربذة،
فوافقه عثمان على ذلك كما صح في حديث عبد الله
بن الصامت عند ابن حبان (1549: موارد الظمآن)
، وصح في ص76، فأكرمه عثمان وجهزه بما فيه
راحته.
(1/73)
، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين
وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك
من بين أيديهم، وهو غير لازم. قال ابن عمر
وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز
(1) فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام (2)
فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل
يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: " لو اعتزلتَ
". معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة
الناس، فإن للخلطة شروطا وللعزلة مثلها (3)
ومن كان على طريقة أبي ذرّ فحاله يقتضي أن
ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلِّم لكل أحد حاله
مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة
زاهدا فاضلا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير
وبركة وفضل، وحال
_________
(1) انظر البيان الفقهي والتفصيل الشرعي لهذه
المسألة في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن
تيمية (3: 198 - 199) ومقالتنا في مجلة الأزهر
(شوال 1374) .
(2) نقل الطبري (5: 66) وأكثر المصادر
الإسلامية أنه لما ورد ابن السوداء (عبد الله
بن سبأ) الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا
تعجب إلى معاوية يقول: " المال مال الله، ألا
إن كل شيء لله " كأنه يريد أن يحتجنه دون
المسلمين، ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر
فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين "
مال الله "؟ قال معاوية: يرحمك الله يا أبا
ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق
والأمر أمره؟ قال أبو ذر: فلا تقله. قال
معاوية: فإني لا أقول أنه ليس لله، ولكن سأقول
" مال المسلمين ": وأتى ابن السوداء (عبد الله
بن سبأ) أبا الدرداء، فقال له (أبو الدرداء) :
من أنت أظنك والله يهوديا. فأتى (ابن سبأ)
عبادة بن الصامت، فتعلق به (ابن الصامت) فأتى
به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا
ذر.
(3) وقد أحسن الكلام على ذلك أبو سليمان
الخطابي في كتاب (العزلة) .
(1/74)
أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو
كانوا عليها لهلكوا (1) فسبحان مرتب المنازل.
ومن العجب أن يُؤخد عليه في أمر فعله عمر، فقد
رُوي أن عمر
_________
(1) الذي تحصل عندي من تتبع نصوص الشريعة في
أمر المال، ومراقبتي لتطبيق هذه النصوص في
سيرة السلف وعملهم بها، أن المسلم له في نفسه
وذويه من المال الذي يملكه ما يكفيه ويكفيهم
بالمعروف كأمثاله وأمثالهم من أهل العفة
والقناعة والدين، وما زاد عن ذلك فعليه أولا
أن يؤدي زكاته الشرعية مباشرة بحسب اجتهاده إن
لم يكن أداها للحكومة الإسلامية العاملة
بأحكام الشرع وبعد أداء زكاته يكون صاحب المال
في امتحان من الله كيف يحسن التصرف فيه بما
يرضي الله ويزيد المسلمين قوة وسعادة وعزا،
فإن كان تاجرا فمن طريق التجارة أو مزارعا فمن
طريق الزراعة، أو صاحب مصنع فمن طريق الصناعة.
والإسلام في دور قيامه استفاد من ثروة أغنياء
الصحابة عونا ويسرا وقوة. وتجارة التاجر
المسلم إذا أغنت المسلمين عن متاجر أعدائهم
تعتبر قوة لهم بقدر ما يصدق صاحبها في هذه
النية، وكذلك مصنع الصانع المسلم، وزراعة
الزارع المسلم. والنية في هذه الأمور أمرها
عظيم، وميزانها العمل عندما تمس الحاجة إليه.
وبالجملة فإن للمسلم أن يكون غنيا بلا تحديد.
بشرط أن يكون ذلك من حله، وأن يكتفي منه بما
يكفيه بالمعروف، محاولا دائما أن يحرر نفسه من
العبودية والانقياد للكماليات فضلا عن توافه
الحضارة وسفاسفها. وبعد أن يؤدي زكاة ما يملك
يعتبر ما زاد عن حاجته كالأمانة لله تحت يده.
فيتصرف فيها بما يزيد المسلمين ثروة وقوة
ويسرا وعزا وسعادة، أما طريقة أبي ذر في أن لا
يبيت المسلم وعنده مال فليست الآن من مصلحة
المسلمين، وطريقة أغنياء المسلمين الآن - في
أن يعيشوا لأنفسهم ومتعهم غير مبالين بعزة
الإسلام وقوة دولته وحاجة أهله - فليست من
الإسلام، والإسلام لا يعرف الذين لا يعرفونه.
انظر مقالتنا (المال في نظام الإسلام) في أول
جزء شوال 1374 من مجلة الأزهر.
(1/75)
بن الخطاب - رضي الله عنه - سجن ابن مسعود
في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استُشهد،
فأطلقهم عثمان، وكان سجنهم لأن القوم أكثروا
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام، وكان أبو ذر
يطلق من الكلام ما لم يكن يقوله في زمان عمر،
فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي من العامة أن
تثور منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على
التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم، وإنما هي
مخصوصة ببعضهم، فكتب إليه عثمان - كما قدمنا -
أن يَقدم المدينة، فلما قدم اجتمع إليه الناس،
فقال لعثمان: أريد الربذة. فقال له: افعل.
فاعتزل. ولم يكن يصلح له إلا ذلك لطريقته (2)
.
_________
(1) في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم
(2: 139) خبر مرسل رواه شعبة عن سعد بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه
(إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف) قال: قال عمر
لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر " ما هذا
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قال: وأحسبه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة
حتى مات. وقد نبه ابن حزم على أن هذا الخبر
مرسل ولا يجوز الاحتجاج به، وعلق عليه الشيخ
أحمد شاكر بأن البيهقي وافق ابن حزم على أن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (المتوفى سة 66
أو 65 عن 75 سنة) لم يسمع من عمر. ولست أدري
هل اعتمد ابن العربي في هذه الفقرة على هذا
الخبر المرسل أم على خبر آخر لم نطلع عليه.
وليس في الخبر - على ضعفه - ذكر السجن.
(2) وقد صح من حديث عبد الله بن الصامت عند
ابن حبان (برقم: 1549 موارد الظمآن) أن أبا ذر
هو الذي استأذن عند عثمان أن يقيم في الربذة.
وذكر القاضي ولي الدين بن خلدون في العبر
(بقية 2: 139) أن أبا ذر استأذن عثمان في
الخروج من المدينة وقال: " إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ
البناء سلعا " فأذن له، ونزل الربذة وبنى بها
مسجدا، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل، وأعطاه
مملوكين، وأجرى عليه رزقا. وكان يتعاهد
المدينة. وبين المدينة والربذة ثلاثة أميال،
قال ياقوت: وكانت من أحسن منزل في طريق مكة.
(1/76)
[عثمان وأبو
الدرداء]
6 - ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان
أبو الدرداء زاهدا فاضلا قاضيا لهم (1) فلما
اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم
يحتملوها عزلوه (2) فخرج إلى المدينة.
وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر
في منزلة أحد من المسلمين بحال وأبو الدرداء
وأبو ذر بريئان من عاب، وعثمان بريء أعظم
براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سببا
فهو كله باطل.
[رد الحكم]
7 - وأما ردّ الحكم فلم يصحّ (3) .
وقال علماؤنا في جوابه: قد كان أذن له فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال [أي
عثمان] لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك
شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده، وما
كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولو كان أباه، ولا لينقض حكمه (4) .
_________
(1) أي في دمشق.
(2) بل إن معاوية نفسه حاول السير على طريقة
عمر، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير في البداية
والنهاية (8: 131) عن محمد بن سعد قال: حدثنا
عارم، حدثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري
" أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم
إنه بعُد عن ذلك ". وقد يظن من لا نظر له في
حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن
يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ.
فللبيئة من التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم
أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على
البيئة. وهذا من معاني قول الله عز وجل:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد
11.
(3) أي لم يصح زعم البغاة على عثمان أن عثمان
خالف بذلك ما يقتضيه الشرع.
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة
(3: 196) : " وقد طعن كثير من أهل العلم في
نفيه (أي في نفي النبي صلى الله عليه وسلم
الحكم) وقالوا: " ذهب باختياره. وقصة نفي
الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به
أمرها " ثم قال: " لم تكن الطلقاء تسكن
بالمدينة، فإن كان طرده فإنما طرده من مكة لا
من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله
إلى مكة. وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه
كما تقدم وقالوا: هو ذهب باختياره. . . وإذا
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلا
بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان، فإن
هذا لا يعرف في شيء من الذنوب، ولم تأت
الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيا دائما. . . وقد
كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح
فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه،
فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم، وقد رووا أن
عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك. ونحن نعلم
أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد، وأما
قصة الحكم فإنما ذكرت مرسلة، وقد ذكرها
المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه، فلم
يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون
عثمان. والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي
صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه
بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة
ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة
وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما
يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله
المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه. فلا
يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف
وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته. .
. إلخ " وانظر أيضا 3: 235 - 236 من منهاج
السنة. ونقل الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب
(الإمامة والمفاضلة) المدرج في الجزء الرابع
من كتابه " الفِصَل " ص 154 قول من احتج
لعثمان على من أنكروا ذلك عليه: " ونفي رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حدا واجبا،
ولا شريعة على التأبيد، وإنما كان عقوبة على
ذنب استحق به النفي، والتوبة مبسوطة، فإذا تاب
سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل
الإسلام، وصارت الأرض كلها مباحة ". ونقل
مجتهد الزيدية السيد محمد بن إبراهيم الوزير
اليمني (المتوفى سنة 840) في كتابه الروض
الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (1: 141 -
142) قول الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي
المتشيع في كتابه سرح العيون أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أذن في ذلك لعثمان. قال ابن
الوزير: إن المعتزلة والشيعة من الزيدية
يلزمهم قبول هذا الحديث وترك الاعتراض على
عثمان بذلك، لأن راوي الحديث عندهم من
المشاهير بالثقة والعلم وصحة العقيدة. ثم بسط
ابن الوزير الكلام على هذا الموضوع بحجج
واستدلالات - استغرقت ثلاث صفحات - دفاعا عن
أمير المؤمنين عثمان في رده الحكم. وهذه الحجج
من أئمة الزيدية ومجتهديهم - بعد روايته ذلك
الحديث عن الإمام المعتزلي المتشيع - لها
دلالتها الخاصة، مع الذي سمعته من إمامي أهل
السنة شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي ابن
العربي، ومن إمام أهل الظاهر أبي محمد بن حزم.
(1/77)
[ترك القصر]
8 - وأما ترك
القصر فاجتهاد، إذ سمع أن الناس
افتتنوا بالقصر،
(1/78)
وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السُّنة
ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها خوف
الذريعة (1) . مع أن جماعة من العلماء قالوا:
إن المسافر
_________
(1) كان ذلك في منى في موسم الحج سنة 29. وقد
عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه
الصلاة وهم في منى، فاعتذر له عثمان بأن بعض
من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا في
العام الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، وهذا
إمامكم عثمان يصلي ركعتين: ثم قال عثمان لعبد
الرحمن بن عوف: وقد اتخذت بمكة أهلا (أي أنه
صار في حكم المقيم، لا المسافر) ، فرأيت أن
أصلي أربعا لخوف ما أخاف على الناس. ثم خرج
عبد الرحمن بن عوف من عند عثمان فلقي عبد الله
بن مسعود وخاطبه في ذلك فقال ابن مسعود: "
الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت
بأصحابي أربعا ". فقال عبد الرحمن بن عوف: "
قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي ركعتين.
وأما الآن فسوف يكون الذي تقول " يعني: نصلي
معه أربعا (الطبري 5: 56 - 57) .
(1/79)
مخيّر بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك
الصحابة (1) .
[معاوية ومكانته
في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان]
9 - وأما معاوية فعمر ولاه، وجمع له الشامات
كلها، وأقرّه عثمان بل
_________
(1) نقل محمد بن يحيى الأشعري المالكي المعروف
بابن بكر (674 - 741) في كتابه (التمهيد
والبيان في مقتل الشهيد عثمان) وهو من مخطوطات
دار الكتب المصرية (برقم 23 تاريخ) أنه روى عن
جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر، منهم
عائشة وسلمان وأربعة عشر من الصحابة. وفي
أبواب التقصير من صحيح البخاري (ك18 ب5 - ج2
ص36) حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة
أنها قالت: " الصلاة أول ما فرضت ركعتان -
فأقرّت صلاة السفر - وأتمت صلاة الحضر " قال
الزهري فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال:
تأولت ما تأول عثمان. وفي مسند أحمد (4: 94)
عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم
علينا معاوية حاجا قدمنا معه مكة؛ فصلى بنا
الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة. وكان
عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها
الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا،
فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ
من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من
مكة. فلما صلى بنا (أي معاوية) الظهر ركعتين
نهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له: ما
عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته، قال لهما:
وما ذاك؟ فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة
بمكة (فذكر لهما أنه صلاهما مع النبي صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر وعمر) قالا: فإن ابن عمك
كان أتمها (والظاهر أن معاوية رأى أن القصر
رخصة، وأن المسافر على التخيير، فصلى العصر
أربعا) .
(1/80)
إنما ولاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه
-، لأنه ولى أخاه يزيد، واستخلفه يزيد، فأقره
عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه
له، فتعلق عثمان بعمر وأقرّه. فانظروا إلى هذه
السلسلة ما أوثق عراها (1) . . . ولن يأتي أحد
مثلها أبدا بعدها (2) .
_________
(1) هنا في الأصل كلمة " وأقدر " وبياض لكلمة
أخرى، ولا يختل المعنى بسقوطهما.
(2) إنما بلغت دولة الإسلام في خلافة أبي بكر
وعمر الذروة في العزة، وكانت مضرب الأمثال في
الفلاح الإنساني وسعادة المجتمع، لأن أبا بكر
وعمر كانا يكتشفان بنور الله عز وجل كوامن
السجايا في أهلها وعناصر الرجولة في الرجال،
فيوليانهم القيادة، ويبوّئانهم مقاعد السيادة،
ويأتمنانهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم
وهما يعلمان أنهما مسئولان عن ذلك بين يدي
الله عز وجل. وقد رأيت في هامش ص47 أن يزيد بن
أبي سفيان وأخاه معاوية كانا من رجال دولة أبي
بكر الصديق الذين اختارهم لحمل أعباء الأمة في
حربها وسلمها فأحسن بذلك كل الإحسان. ولما ولي
يزيد قيادة أحد جيوشه خرج معه أبو بكر يشيعه
ماشيا (الطبري 4: 30) . ومعاوية مذكور في
التاريخ بعد أخيه يزيد لأنه أصغر منه سنا، لا
لأنه أقل منه في استكمال صفات القيادة
والسيادة. وقبل أن يكون معاوية من رجال
الدولتين البكرية والعمرية كان أحد الذين
استعملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
واستعان بهم، وكان يدعوه لذلك في بعض الأحيان
- ومعاوية يأكل - ويلح في دعوته ويرسل إليه
المرة بعد المرة يستعجله المجيء إليه. فالنبي
صلى الله عليه وسلم ولى معاوية شيئا من عمله
قبل أن يوليه أبو بكر وعمر، وولى يزيد بن أبي
سفيان أيضا كما في فتوح البلدان للبلاذري (ص
48 طبع مصر سنة 1350) . والذين يضطغنون
البغضاء والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم - ولا سيما بني أمية منهم - لم
يستطيعوا أن ينكروا أن النبي صلى الله عليه
وسلم استعمل معاوية في الكتابة له فقالوا إنه
كان يكتب له ولكنه لم يكن يكتب الوحي. وهم
يقولون هذا بوحي أوحي إليهم من الشيطان، وليس
في يدهم نص تاريخي أو دليل شرعي يرجعون إليه،
فميزوا بين أمور لا حجة لهم في التمييز بينها.
والنبي صلى الله عليه وسلم لو كان يميز بين
كتبته في أمور دون أمور لتواتر ذلك عنه ولنقله
الناقلون كما وقع فيما هو أقل من هذا شأنا.
سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن
برأيي في الرجال: ما تقول في معاوية؟ فقلت له:
ومن أنا حتى أسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة
وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟
إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح
سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها
فغلبت أنوارها على نوره. نقل الحافظ ابن كثير
في البداية والنهاية (8: 133) عن الليث بن سعد
(وهو إمام مصر وعالمها ورئيسها المتوفى سنة
175) قال: حدثنا بكير (وهو ابن عبد الله الأشج
المدني ثم المصري المتوفى سنة 127 قال عنه
الإمام النسائي: ثقة ثبت) عن بُسر بن سعيد
المدني (المتوفى سنة 100 قال عنه ابن معين:
ثقة، وقال عنه الليث بن سعد: كان من العباد
المنقطعين أهل الزهد في الدنيا والورع) أن سعد
بن أبي وقاص (أحد العشرة المبشرين بالجنة)
قال: " ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من
صاحب هذا الباب " يعني معاوية. وروى ابن كثير
أيضا (8: 135) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني
أحد الأئمة الأعلام الحفاظ (وكان ينسب إلى
التشيع) ، عن معمر بن راشد أبي عروة البصري ثم
اليمني وكان أحد الأعلام، عن همام بن منبه
الصنعاني وكان ثقة قال: سمعت ابن عباس يقول: "
ما رأيت رجلا أخلق بالملك من معاوية ". وهل
يكون الرجل أخلق الناس بالملك إلا أن يكون
عادلا حكيما، يحسن الدفاع عن ملكه، ويستعين
الله في نشر دعوة الله في الممالك الأخرى،
ويقوم بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله
عليها؟ والذي يكون أخلق الناس بالملك هل يلام
عثمان على توليته؟ ويا عجبا كيف يلام عثمان
على توليته وقد ولاه من قبله عمر، وتولى لأبي
بكر من قبل عمر، وتولى بعض عمل رسول الله صلى
الله عليه وسلم قبل أن تصير الخلافة إلى أبي
بكر وعمر وعثمان. إن المخ الذي يعبث به
الشيطان فيسوّل له مثل هذه الوساوس لا شك أنه
مخ فاسد، يفسد على الناس عقولهم ومنطقهم قبل
أن يفسد عليهم دينهم وتاريخهم، فمن الواجب على
محبي الحق والخير أن يتحاموا كل من يحمل في
رأسه مثل هذا المخ كما يتحامون المجذوم. روى
الإمام الترمذي عن أبي إدريس الخولاني من كبار
علماء التابعين - وأعلم أهل الشام بعد أبي
الدرداء - أن عمر بن الخطاب لما عزل عمير بن
سعد الأنصاري الأوسي عن حمص وولى معاوية. قال
الناس: عزل عميرا وولى معاوية قال البغوي في
معجم الصحابة: وكان عمير يقال له (نسيج وحده)
. قال ابن سيرين (إن عمر كان يسميه بذلك
لإعجابه به. وكان عمير من الزهاد) فقال عمير:
لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم اهد به
". ويروى أن الذي شهد هذه الشهادة لمعاوية
أمير المؤمنين عمر، فإن كان هو الذي شهدها له
وروى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
لمعاوية بأن يهدي الله به فذلك أمر عظيم لعظم
مكانة عمر. وإن كان الذي شهد بذلك عمير بن سعد
الأنصاري - مع أنه هو المعزول بمعاوية عن
ولاية حمص - فإن ذلك لا يقل عظمة عما لو كانت
الشهادة لمعاوية من عمر، وقد علمت أن عميرا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه من
زهاد الأنصار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في
منهاج السنة (3: 189) : وكانت سيرة معاوية مع
رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه،
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم
ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار
أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم
ويلعنونكم ". ولم يتسع المقام هنا لأكثر من
هذا، وسنكمل الصورة الحقيقية لمعاوية عند ذكر
خلافته، لتعلم إلى أي حد كنا مخدوعين بأكاذيب
أعداء الصدر الأول للإسلام.
(1/81)
[تولية عثمان
عبد الله بن عامر بن كريز]
10 - وأما عبد الله بن [عامر بن] كُريز فولاه
- كما قال -
(1/83)
لأنه كريم العمّات والخالات (1) .
_________
(1) هو عبشمي الآباء، هاشمي الخئولة. فإن. . .
أروى بنت كريز أمها البيضاء بنت عبد المطلب بن
هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما ولد
أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
لبني عبد شمس: " هذا أشبه بنا منه بكم " ثم
تفل في فيه فازدرده، فقال صلى الله عليه وسلم:
" أرجو أن يكون مسقيا " فكان لا يعالج أرضا
إلا ظهر منها الماء ونشأ سخيا كريما شجاعا
ميمون النقيبة كثير المناقب. افتتح خراسان
كلها، وأطراف فارس، وسجستان، وكرمان حتى بلغ
أعمال غزنة، وقضى على يزدجرد بن شهريار آخر
ملوك الفرس. ويعتقد الإيرانيون أن سلسلة
ملوكهم بدأت بآدمهم الذي يسمونه (جيومرث) فلم
يزل ملك أولاده منتظما على سياق إلى أن كان
القضاء الأخير عليه بسلطان الإسلام في خلافة
أمير المؤمنين عثمان بجهاد هذا العبشمي الآباء
الهاشمي الخئولة عبد الله بن عامر بن كريز.
وهي حرقة في قلوب أهل النزعة المجوسية على
الإسلام، وعلى عثمان، وابن كريز، فهم يحقدون
على هؤلاء ويحاربونهم إلى اليوم بسلاح الكذب،
والبغض والدسائس، وسيستمر ذلك إلى يوم
القيامة. أما صادقو الإسلام ممن أنجبت إيران
أيام كانت شافعية المذهب، ولما كان ينبغ منها
علماء السنة المحمدية قبل ذلك، وفيهم كبار
الأئمة والمحدثون والفقهاء، فقد نزهوا قلوبهم
عن أن يكون فيها غل للذين آمنوا وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم حتى فتح الله الأقطار على
أيديهم، وهدى الأمم بسببهم، فهم يحبونهم
ويجلونهم على أقدارهم. ونحن لا ندعي العصمة
لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ونتوقع الخطأ من كل إنسان، صحابيا كان أو من
التابعين أو الذين يتبعونهم بإحسان. ولكن
الذين ملأوا الدنيا بالحسنات كأنها كالجبال،
فإن الذي يعمى عنها، ويدس أنفه في مرمى
القاذورات ليستخرج منها ما يذم العظماء به،
وإن لم يجد يختلق ويكذب، فإن من كرامة المسلم
على نفسه أن يترفع عن الإصغاء لأمثال هؤلاء
والانخداع لهم. ودع عنك فتوح عبد الله بن عامر
بن كريز التي وصلت إلى أقصى المشارق، وتقويضه
آخر أمل للإمبراطورية المجوسية، فإن حسناته
الإنسانية أيضا جديرة بالتسجيل، قال ابن كثير
في البداية والنهاية (8: 88) : إنه " أول من
اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام
وأجرى إليها الماء المعين ". وقال عنه شيخ
الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 189 -
190) : " إن له من الحسنات والمحبة في قلوب
الناس ما لا ينكر ". ومثل هؤلاء الرجال لو
كانوا من سلف الإنكليز أو الفرنيسين لخلدوا
عظمتهم في كتب الدراسة والثقافة والتهذيب،
فتهافتت وزارات معارفنا على نقل ذلك من كتبهم
إلى كتبنا المدرسية، ليؤمن جيلنا بعظمة أسلاف
المستعمرين. أما عظمة أسلافنا نحن فقد سلط
الشيطان عليها قلوبا فاسدة تفيض بالسوء،
وصدَّق أكاذيبها الأكثرون منا، فأمسينا كالأمة
التي لا مجد لها، بينما هي نائمة على تراث من
المجد لا تحلم الإنسانية بمثله.
(1/84)
[تولية عثمان
الوليد بن عقبة]
11 - وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس -
على فساد النيات - أسرعوا إلى السيئات قبل
الحسنات. فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه
للمعنى الذي تكلم به. قال عثمان: ما وليت
الوليد لأنه أخي (1) وإنما وليته لأنه ابن أم
حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتوأمة أبيه. وسيأتي بيانه إن شاء الله
(2) .
_________
(1) هو أخوه لأمه أروى بنت كريز، وأمها
البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم.
(2) قد يظن من لا يعرف صدر هذه الأمة أن أمير
المؤمنين عثمان جاء بالوليد بن عقبة من عرض
الطريق فولاه الكوفة. أما الذين أنعم الله
عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله
فيعلمون أن دولة الإسلام الأولى في خلافة أبي
بكر تلقفت هذا الشاب الماضي العزيمة الرضيّ
الخلق الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل
الله إلى أن توفي أبو بكر، وأول عمل له في
خلافة أبي بكر أنه كان موضع السر في الرسائل
الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن
الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12
(الطبري 4: 7) ، ثم وجهه مددا إلى قائده عياض
بن غنم الفهري (الطبري 4: 22) . وفي سنة 13
كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما
عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده
بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة
والكرامة، فكتب إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد
بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد، فسار
ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار
الوليد بن عقبة قائدا إلى شرق الأردن (الطبري
4: 29 - 30) ، ثم رأينا الوليد في سنة 15
أميرا على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة (الطبري
4: 155) يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام
لئلا يؤتوا من خلفهم، فكانت تحت قيادته ربيعة
وتنوخ مسلمهم وكافرهم. وانتهز الوليد بن عقبة
فرصة ولايته وقيادته على هذه الجهة التي كانت
لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية فكان -
مع جهاده الحربي وعمله الإداري - داعيا إلى
الله يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة
الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على أن يكونوا
مسلمين كسائر العرب. وهربت منه إياد إلى
الأنضول وهو تحت حكم البيزنطيين، فحمل الوليدُ
خليفته عمرَ على كتابة كتاب تهديد إلى قيصر
القسطنطينية بأن يردهم إلى حدود الدولة
الإسلامية، حاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في
نشره الدعوة الإسلامية بين شبانها وأطفالها،
فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان
الإسلامي، وقال فيهم كلمته المشهورة:
إذا ما عصبتُ الرأسَ مني بمشوذ ... فغيّكِ مني
تغلب ابنة وائل
وبلغت هذه الكلمة عمر، فخاف أن يبطش قائده
الشاب بنصارى تغلب فيفلت من يده زمامهم في
الوقت الذي يحاربون فيه مع المسلمين حمية
للعروبة، فكف عنهم يد الوليد ونحاه عن
منطقتهم. وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في
خلافة عثمان فتولى الكوفة له، وكان من خير
ولاتها عدلا ورفقا وإحسانا، وكانت جيوشه مدة
ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة
ظافرة موفقة على ما سنذكره فيما بعد.
(1/85)
والولايةُ اجتهاد (1) وقد عزل عمر سعد بن
أبي وقاص وقدم أقل
_________
(1) للمؤلف في أواخر هذا الكتاب ص 243 فصل
عنوانه (نكتة) أشار فيه إلى المعاني والحقائق
التي يلاحظها ولي الأمر عند " اجتهاده " في
تولية الولاة وعزلهم، وذلك لفقه عظيم ومعارف
بديعة بينها أئمة الإسلام وعلماؤه في الفصول
التي عقدوها للإمامة وسياسة الدولة وفي كتبهم
المصنفة في أصول الدين. وقد زعم طاغية الشيعة
ومدلسهم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه منهاج
الكرامة أن عثمان ولى أمور المسلمين من لا
يصلح للولاية، فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية
في (منهاج السنة 3: 173 - 176 والمنتقى منه
للذهبي 382 - 383) أن عليا - رضي الله عنه -
ولى زياد بن أبي سفيان وولى الأشتر النخعي
وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء، ولا يشك
عاقل أن معاوية بن أبي سفيان كان خيرا من
هؤلاء كلهم. قال: ومن العجب أن الشيعة ينكرون
على عثمان أنه ولى أقاربه من بني أمية، ومعلوم
أن عليا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه، فولى
عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى على مكة
والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل إنه
ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس،
وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس،
وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه
في حجره (لأنه تزوج أمه بعد وفاة أبي بكر وكان
محمد صغيرا) . ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص
على أولاده في الخلافة - أو على ولده، وولده
على ولده الآخر وهلم جرا - ومن المعلوم إن كان
تولية الأقربين منكرا، فتولية الخلافة العظمى
أولى من إمارة بعض الأعمال. . . وإذا قال
القائل: لعليّ حجة فيما فعله، قيل له: وحجة
عثمان فيما فعله أعظم. وإذا ادعى لعلي العصمة
ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين، كان ما
يدعى لعثمان من " الاجتهاد " الذي يقطع ألسنة
الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول. . . ثم
قال: إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا
يتهم بقرابة فيهم: أبو بكر وعمر، ولا تعرف
قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم
كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل
النبي صلى الله عليه وسلم في عزة الإسلام على
أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن
أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن
أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على
صدقات بني مذحج وعلى صنعاء واليمن حتى مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل عثمان
بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة،
واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض
السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها
بعد العلاء الحضرمي (حليف بني أمية) حتى توفي
النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول عثمان: أنا
لم أستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه
وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر
وعمر بعده. . . فكان الاحتجاج على جواز
الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى
كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص،
لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل، وذلك
صدق باتفاق أهل العلم بالنقل (وانظر أيضا
منهاج السنة 3: 236 - 237) . والذي يستعرض
حياة عمال عثمان وجهادهم وفضائلهم يراهم في
الذروة العليا من رجال الدولة، ولا يتردد في
أنهم من بناة الأساس الأقوم من مجد الإسلام
الإداري والعسكري، ولهم ثواب نتائجه في الفتوح
وانتشار دعوة الإسلام بما يعده التاريخ من
معجزاته الخارقة للعادات.
(1/87)
منه درجة (1) .
[عدالة مروان]
12 - وأما قول القائلين في مروان والوليد
فشديد عليهم، وحكمهم
_________
(1) كان ذلك سنة 21، والذين تولوا بعد سعد:
عبد الله بن عبد الله بن عتبان (وفي زمانه
كانت وقعة نهاوند) ثم زياد بن حنظلة (وألح في
الاستعفاء فأعفي) وولي بعدهما عمار بن ياسر
(الطبري 4: 246 وما قبلها) .
(1/88)
عليهما بالفسق فسقٌ منهم.
مروان رجل عدل، من كبار الأمة عند الصحابة
والتابعين وفقهاء المسلمين. أما الصحابة فإن
سهل بن سعد الساعدي روى عنه (1) . وأما
التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم
الصحبة في أحد القولين (2) . وأما فقهاء
الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته،
_________
(1) وروايته عنه في صحيح البخاري وغيره.
(2) وفي طليعة من روى عنه من كبار التابعين
زين العابدين بن علي بن الحسين السبط، نص على
ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2:
123) ، والحافظ ابن حجر في الإصابة، وترى
تفصيله في طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي
في ترجمة اللغوي الشهير أبي منصور محمد بن
أحمد بن الأزهر صاحب تهذيب اللغة (282 - 370)
. وممن نص الحافظ ابن حجر على روايتهم عن
مروان: سعيد بن المسيب رأس علماء التابعين،
وإخوانه من الفقهاء السبعة أبو بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وعبيد
الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن
الزبير، وأضرابهم كعراك بن مالك الغفاري
المدني فقيه أهل دهلك وكان يصوم الدهر، وكعبد
الله بن شداد بن الهاد أحد الرواة عن عمر وعلي
ومعاذ. وإن رواية عروة بن الزبير عن مروان في
كتاب الوكالة من صحيح البخاري (ك 40 ب7 - ج3 ص
62) وفي مسند الإمام أحمد (الطبعة الأولى 4:
321 و323 و326 و328 و5: 189) . ورواية عراك عن
مروان نقلها إمام أهل مصر الليث بن سعد عن
يزيد بن أبي حبيب في مسند أحمد (4: 328)
ورواية عبد الله بن شداد بن الهاد عن مروان في
مسند أحمد (7: 317 و323) . والذي يتأمل
الأحاديث المروية عن مروان يجد جملتها من
الأئمة الثقات تتسلسل روايتهم عنه مدة جيلين
وأكثر وكلهم أعلى مرتبة في الإسلام من الذين
يبردون الغل الذي في قلوبهم بالطعن في مروان
ومن هو خير من مروان، بل في رواة أحاديث مروان
عبد الرزاق إمام أهل اليمن وكانت فيه نزعة
تشيع. وفي مسند أحمد (6: 212) حديث عبد الرحمن
بن الحارث بن هشام أنه كان رسول مروان إلى أم
المؤمنين أم سلمة في تحقيق بعض الأحكام
الشرعية وفي 6: 299 من مسند أحمد نموذج لعظيم
عناية مروان بسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم بأقصى ما يمكن أن يصدر عن أئمة المسلمين
وأمرائهم.
(1/89)
والتلفت إلى فتواه، والانقياد إلى روايته
وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون
على أقدارهم.
وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين أن الله
سماه فاسقا في قوله {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] فإنها - في
قولهم - نزلت فيه، أرسله النبي صلى الله عليه
وسلم إلى بني المُصطلق، فأخبر عنهم أنهم
ارتدوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
إليهم خالد بن الوليد فتثبت في أمرهم فبين
بطلان قوله. وقد اختُلف فيه، فقيل: نزلت في
ذلك (1) وقيل: في علي والوليد في قصة أخرى،
وقيل: إن الوليد سبق يوم الفتح في جملة
الصبيان
_________
(1) كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية
نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقا، ثم
تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له
التاريخ وأوردنا الأمثلة عليها في هامش ص86
عند استعراضنا ماضيه في بضعة عشر عاما قبل أن
يوليه عثمان الكوفة، إن هذا التناقض - بين ثقة
أبي بكر وعمر بالوليد بن عقبة، وبين ما كان
ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه فاسقا -
حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه، لا
استبعادا لوقوع أمر من الوليد يعد به فاسقا،
ولكن استبعادا لأن يكون الموصوم بالفسق في
صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في
أولياء الله عز وجل بعد رسوله صلى الله عليه
وسلم من هو أقرب إلى الله منهما. وبعد أن
ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي
وردت عن سبب نزول الآية " إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ. . . "، فلما عكفت على
دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة أو
ابن أبي ليلى، أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد
منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة
أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه
المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب
مختلفة، وإن الذين لهم هوى في تسويء سمعة مثل
الوليد ومن هم أعظم مقاما من الوليد قد ملأوا
الدنيا أخبارا مريبة ليس لها قيمة علمية. وما
دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية
مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال
الموقوفة هذه الأخبار عليهم، وعلماء الجرح
والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ولا أسمائهم،
فمن غير الجائز شرعا وتاريخا الحكم بصحة هذه
الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب
الأحكام عليها. وهنالك خبران موصولان أحدهما
عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من
ثابت مولى أم سلمة. وموسى بن عبيدة ضعفه
النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة. وثابت
المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما
رجعت إليه من كتب العلم، فلم يذكر في تهذيب
التهذيب ولا في تقريب التهذيب ولا في خلاصة
تذهيب الكمال، بل لم أجده ولا في قفصي الاتهام
أعني (ميزان الاعتدال) و (لسان الميزان) .
وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند
الإمام أحمد فقرأتها واحدا واحدا فلم أجد فيها
هذا الخبر، بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه
اسم مولى لها يدعى ثابتا، زد على كل هذا أن أم
سلمة لم تقل في هذا الخبر - إن صح عنها، ولا
سبيل إلى أن يصح عنها -: إن الآية نزلت في
الوليد، بل قالت - أي قيل على لسانها -: " بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم (رجلا) في صدقات
بني المصطلق ". والخبر الثاني الموصول رواه
الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه
عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس: والطبري لم يلق
ابن سعد ولم يأخذ عنه، لأن ابن سعد لما توفي
ببغداد سنة 230 كان الطبري طفلا في نحو
السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من
بلد آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها.
وابن سعد وإن كان في نفسه من أهل العدالة في
الدين والجلالة في العلم، إلا أن هذه السلسلة
من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء
أكثرهم فضلا عن أن يعرفوا شيئا من أحوالهم
(وبعد كتابة ما تقدم للطبعة الأولى من كتابنا
تبين لي أن ابن سعد الذي روى عنه الطبري هو
محمد بن سعد العوفي. وقد وصف الشيخ أحمد شاكر
سنده بأنه " سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة
". انظر تفسير الطبري طبعة دار المعارف 1: 263
- 264) . فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها
لا يجوز أن يؤاخذ بها مُجاهِدٌ كان موضع ثقة
أبي بكر وعمر، وقام بخدمات للإسلام يرجى له
بها أعظم المثوبة إن شاء الله. أضف إلى كل ما
تقدم أنه في الوقت الذي حدثت فيه لبني المصطلق
الحادثة التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير
السن كما سيأتي في الفقرة التالية.
(1/90)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح
رؤوسهم وبرك عليهم، إلا هو فقال: إنه كان على
رأسي خَلُوق، فامتنع صلى الله عليه وسلم من
مسه.
(1/91)
فمن يكون في مثل هذه السن يُرسل مصدقا؟ !
(1) .
وبهذا الاختلاف يسقط
_________
(1) هذا الخبر عن سن الوليد بن عقبة يوم فتح
مكة رواه الإمام أحمد في مسنده (4: 32 الطبعة
الأولى) عن شيخ له هو فياض بن محمد الرقي عن
جعفر بن برقان الرقي عن ثابت بن الحجاج
الكلابي الرقي عن عبد الله الهمداني وهو (عبد
الله بن مالك بن الحارث) عن الوليد بن عقبة،
والظاهر أن الوليد بن عقبة تحدث بهذا الحديث
عندما اعتزل الناس في السنين الأخيرة من حياته
واختار الإقامة في قرية له من أعمال الرقة،
فتسلسلت رواية الخبر في الرواة الرقيين وأخذه
الإمام أحمد عن شيخ له منهم. وعبد الله
الهمداني ثقة، لكن التبس اسمه في غير هذه
الرواية بهمداني آخر يكنى أبا موسى واسمه مالك
بن الحارث (أي على اسم والد عبد الله
الهمداني) وهو مجهول عند أهل الجرح والتعديل،
أما عبد الله الهمداني الذي ينتهي إليه الخبر
في رواية الإمام أحمد فمعروف وموثوق به، وعلى
روايته وأمثالها اعتمد القاضي ابن العربي في
الحكم على سن الوليد بن عقبة بأنه كان صبيا
عند فتح مكة وأن الذي نزلت فيه آية " إََِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ " هو شخص آخر. ومن
عجيب أمر الذين كان لهم هوى في تشويه هذا
الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن
السيرة في الناس أنهم حاولوا إدحاض حجة صغر
سنه في ذلك الوقت بخبر آخر روي عن قدومه مع
أخيه عمارة إلى المدينة في السنة السابعة
للهجرة ليطلبا من النبي صلى الله عليه وسلم رد
أختهما أم كلثوم إلى مكة. وأصل هذا الخبر - إن
صح - مقدّم فيه اسم عمارة على اسم الوليد،
وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو الأصل في
هذه الرحلة وأن الوليد جاء في صحبته، وأي مانع
يمنع قدوم الوليد صبيا بصحبة أخيه الكبير كما
يقع مثل ذلك في كل زمان ومكان؟ فقول الوليد
إنه كان في سنة الفتح صبيا ليس في خبر قدومه
مع أخيه الكبير إلى المدينة في السنة السابعة
ما يمنعه أو يناقضه. فإذا تقرر عندك أن جميع
الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب
نزول آية " إََِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
" لا يجوز علميا أن يبنى عليها حكم شرعي أو
تاريخي، وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام
أحمد عن سن الوليد في سنة الفتح، يتبين لك بعد
ذلك حكمة استعمال أبي بكر وعمر للوليد وثقتهما
به واعتمادهما عليه مع أنه كان لا يزال في صدر
شبابه.
(1/92)
العلماء الأحاديث القوية. وكيف يفسق رجل
بمثل هذا الكلام؟ فكيف برجل من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم؟ ! .
وأما حده في الخمر، فقد حد عمر قدامة بن مظعون
على الخمر وهو أمير وعزله، وقيل إنه صالحه (1)
.
_________
(1) قدامة بن مظعون الجمحي أحد السابقين
الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرا، وكان صهر
أمير المؤمنين عمر على أخته، وقيل بل هو خال
أم المؤمنين حفصة بنت عمر وأخيها عبيد الله.
وفي إمارة قدامة على البحرين في خلافة عمر قدم
الجارود سيد بني عبد القيس على عمر من البحرين
وادعى أن قدامة شرب فسكر. فقال له عمر: من
يشهد معك؟ قال: أبو هريرة. فاستشهد أبا هريرة
فقال: لم أره شرب، ولكني رأيته سكران يقيء
فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة. واستقدم
قدامة من البحرين، فقال الجارود لعمر: أقم على
هذا كتاب الله، فقال له عمر: أخصم أنت أم
شهيد؟ فقال: شهيد. فقال عمر: قد أديت شهادتك.
فصمت الجارود. ثم غدا على عمر فقال: أقم على
هذا حد الله. فقال عمر: لتمسكن لسانك أو
لأسوأنك. فقال: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب
ابن عمك الخمر وتسوءني. ثم جيء بزوجة لقدامة
فأقامت الشهادة على زوجها. وأراد عمر أن يقيم
عليه الحد. فقال له الصحابة: لا نرى أن تحده
ما دام مريضا، ثم عاوده فقالوا له كما قالوا
من قبل فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السياط
أحب إلي من أن ألقاه وهو في عنقي، وجلده.
فغاضبه قدامة. وعند قفولهما من الحج جيء به
إلى عمر فكلمه عمر واستغفر له. ومن حسن حظ
قدامة بن مظعون أنه قرشي من بني جمح. ولو أنه
كان قرشيا من بني عبد شمس لانطلقت ألسنة السوء
بالبذاءة عليه واختراع الأكاذيب فيه ما دام في
الدنيا كذب.
(1/93)
وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها
التوبة (1) .
_________
(1) هذا حق، ولكن في مثل ما تقدم عن قدامة بن
مظعون، وفي مثل ما هو مشهور عند الناس عن أبي
محجن الثقفي الشاعر الفارس الذي كان له يوم
أغر في حرب القادسية. أما الوليد بن عقبة
المجاهد الفاتح العادل المظلوم (الذي كان منه
لأمته كل ما استطاعه من عمل طيب، ثم رأى بعينه
كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم
فيهم، فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له
منقطعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر
ميلا عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان
يجاهد فيها ويدعو نصاراها إلى الإسلام في
خلافة عمر) فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن
ينكشف عنها عوارها. ولا يضير هذا الرجل أن
يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرنا، فإن
الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه. أراد
الوليد بن عقبة - منذ ولي الكوفة لأمير
المؤمنين عثمان - أن يكون الحاكم المثالي في
العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس، كما
كان المحارب المثالي في جهاده وقيامه للإسلام
بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين
لرايته، الناشرين لرسالته. وقد لبث في إمارته
على الكوفة خمس سنوات وداره - إلى اليوم الذي
زايل فيه الكوفة - ليس لها باب يحول بينه وبين
الناس ممن يعرف أو لا يعرف، فكان يغشاها كل من
شاء، متى شاء، من ليل أو نهار، ولم يكن
بالوليد حاجة لأن يستتر عن الناس:
فالستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير
من ستر
وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم
الطيب لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة، وأدخل
على الناس خيرا حتى جعل يقسم المال للولائد
والعبيد، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في
كل شهر ما يتسعون به من غير أن ينقص مواليهم
من أرزاقهم. وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقة
بحب هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه. إلا أن
فريقا من الأشرار وأهل الفساد أصاب بنيهم سوط
الشريعة بالعقاب على يد الوليد، فوقفوا حياتهم
على ترصد الأذى له. ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم
أبا زينب بن عوف الأزدي، وآخر يسمى أبا مورع،
وثالث اسمه جندب أبو زهير، قبضت السلطات على
أبنائهم في ليلة نقبوا بها على ابن الحيسمان
داره وقتلوه، وكان نازلا بجواره رجل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل السابقة
في الإسلام وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش خزاعة
يوم فتح مكة فجاء هو وابنه من المدينة على
الكوفة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة
التي كان يواصل توجيهها نحو الشرق للفتوح ونشر
دعوة الإسلام، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك
الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن
الحيسمان، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء
القتلة السفاحين، فأنفذ الوليد فيهم حكم
الشريعة على باب القصر في الرحبة، فكتب آباؤهم
العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا
الأمير الطيب الرحيم. وبثوا عليه العيون
والجواسيس ليترقبوا حركاته، وكان بيته مفتوحا
دائما. وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من
شعراء الشمال كان نصرانيا في أخواله من تغلب
بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد، فظن جواسيس
الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانيا لا
بد أن يكون ممن يشرب الخمر ولعل الوليد أن
يكرمه بذلك فنادوا أبا زينب وأبا المورع
وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من
ناحية المسجد، ولم يكن لداره باب، فلما فوجئ
بهم نحى شيئا أدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم
يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار، فلما أخرج
ذلك الشيء من تحت السرير إذا هو طبق عليه
تفاريق عنب، وإنما نحاه الوليد استحياء أن
يروا طبقه ليس عليه إلا تفاريق عنب، فأقبل
بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل، وسمع الناس
بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم. وقد ستر
الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك
وصبر. ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي
المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون
تأويله ويفترون الكذب. وذهب بعض الذين كانوا
عمالا في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم
لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون
الوليد لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله
عن الكوفة. وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل
أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع
من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن
تنحى الوليد ليستريح، فخرج بقية القوم، وثبت
أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة
خاتم الوليد من داره وخرجا. فلما استيقظ
الوليد لم يجد خاتمه، فسأل عنه زوجتيه -
وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء
ستر - فقالتا: إن آخر من بقى في الدار رجلان،
وذكرتا صفتهما وحليتهما للوليد، فعرف أنهما
أبو زينب وأبو المورع، وأدرك أنهما لم يسرقا
الخاتم إلا لمكيدة بيّتاها، فأرسل في طلبهما
فلم يوجدا في الكوفة، وكانا قد سافرا توا إلى
المدينة، وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر
(وأكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من
تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مظعون
في خلافة عمر) فقالا كنا من غاشيته، فدخلنا
عليه وهو يقيء الخمر. فقال عثمان: ما يقيء
الخمر إلا شاربها. فجيء بالوليد من الكوفة
فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: " نقيم
الحدود. ويبوء شاهد الزور بالنار ".
هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة
30 من تاريخ الطبري، وليس فيها - على تعدد
مصادرها القديمة - شيء غير ذلك. وعناصر الخبر
عند الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من
الموتورين الذين تعددت شواهد غلهم عليه، ولم
يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها فضلا عن
أن تكون اثنتين أو أربعا. وزيادة ذكر الصلاة
هي الأخرى أمرها عجيب، فقد نقل خبرها عن
الحضين بن المنذر (أحد أتباع علي) أنه كان مع
علي عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد،
وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في
صحيحه (كتاب الحدود ب8 ح38 - ج5 ص126) بلفظ "
شهدتُ عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى
الصبح (ركعتين) ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه
رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر
أنه رآه يتقيأ ". فالشاهدان لم يشهدا بأن
الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم، بل شهد
أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ.
أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من
كلام حضين، ولم يكن حضين من الشهود، ولا كان
في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، ثم إنه لم
يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان
معروف. ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح
مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مرويا
عن حضين، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو
الذي سمعه منه في مسند أحمد بمواضعه الثلاثة،
فالموضعان الأول والثاني (ج1 ص82 و140 الطبعة
الأولى - ج2 رقم 642 و1184 الطبعة الثانية)
ليس فيهما ذكر للصلاة عن لسان حضين فضلا عن
غيره، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام
عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر
الحد. وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد (ج1
ص144 - 145 الطبعة الأولى - ج2 رقم 1229) فقد
جاء على لسان حضين " أن الوليد صلى بالناس
الصبح أربعا " وهو يعارض ما جاء على لسان حضين
نفسه في صحيح مسلم، ففي إحدى الروايتين تحريف،
الله أعلم بسببه. وفي الحالتين لا يخرج ذكر
الصلاة عن أنه من كلام حضين وحضين ليس بشاهد،
ولم يرو عن شاهد، فلا عبرة بهذا الجزء من
كلامه، وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله
الطبري عن شيوخه، أزيدك علما بأمر حمران، وهو
عبد من عبيد عثمان كان قد عصى الله قبل شهادته
على الوليد فتزوج في مدينة الرسول امرأة مطلقة
ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب
عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من
رحابه وأخرجه من المدينة. فجاء الكوفة يعيث
فيها فسادا، ودخل على العابد الصالح عامر بن
عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة
وكان سبب تسييره إلى الشام. وأنا أترك أمر هذا
الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير
القارئ يحكم به عليهم بما يشاء، وفي اجتهادي
أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على
ظنين من السوقة والرعاع، فكيف بصحابي مجاهد
وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش
فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق
الرعاية لأمانات الله، وكان موضع الثقة عند
ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام أبي بكر وعمر
وعثمان. وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم
الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت
سبب التسامح من عثمان في عزلهم والقسوة عليهم
لئلا يقول السفهاء إن له هوى في ذوي قرابته.
وقد رأينا الذين يتسلون بأعراض الناس يتفكهون
بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس وردت
في ص85 من ديوانه، ولا تحملهم سليقة النقد على
الشعور بما في هذه الأبيات من التضارب
والتعارض، فأين مدحه فيها للوليد بقوله:
ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور
والعسر
فنزعتَ مكذوبا عليك ولم ... تردد إلى عوز ولا
فقر
من بقية الأبيات التي فيها:
نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم ثملا وما
يدري
فالذي يقول البيت الأخير لا يعقل أن يقول معه
البيتين الأولين فيكون مادحا وذاما في قطعة
واحدة لا تزيد على ستة أبيات. وقد كانت لي
مقالة مطولة عن (التخليط في الشعر) ضربت فيها
الأمثلة على دس أبيات غريبة في قصائد من وزنها
ورويها لغير ناظمها. وعلى كل حال فالشهود
الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدّعوا حكاية
الصلاة، مع أنهم لم يكونوا ممن يخاف الله
واليوم الآخر. والآن أقولها لوجه الله صريحة
مدوية: إن الوليد لو كان من رجال التاريخ
الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن
لقمان بالمنصورة لعدّوه قديسا، لأن لويس
التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن
عقبة إلى أمته، ولم يفتح للنصرانية كفتح
الوليد للإسلام، والعجب لأمة تسيء إلى
أبطالها، وتشوه جمال تاريخها، وتهدم أمجادها
كما يفعل الأشرار منا، ثم ينتشر كيد هؤلاء
الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق.
(1/94)
وقد قيل لعثمان: إنك وليت الوليد لأنه أخوك
لأمك أروى بنت كُريز
(1/97)
بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فقال: بل
لأنه ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم
حكيم البيضاء، وجدة عثمان وجدة الوليد لأمهما
أروى المذكورة أم حكيم توأمة عبد الله أبي
رسول الله صلى الله عليه
(1/98)
وسلم. وأي حرج على المرء أن يولّي أخاه أو
قريبه؟ (1) .
_________
(1) وقد تقدم في هامش ص87 أن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب جعل الأمراء في مدة خلافته
على أكثر أمصار حكمه من ذوي قرابته. وأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولى رجال بني أمية
وشبابهم. وكذلك فعل أبو بكر وعمر، فلم يفعل
عثمان إلا الذي سبقه إليه النبي صلى الله عليه
وسلم وصاحباه بل إن عثمان لما أقام الحد على
أخيه لأمه فعل ما لا نظن أحدا يفعله بشهادة
الشهود المغرضين الذين لم يريدوا الله
بشهاداتهم. وإذا كان الشهود على الوليد من هذه
الطبقة المغرضة، فقد شهد له بظهر الغيب قاض من
أعظم قضاة الإسلام في التاريخ علما وفضلا
وإنصافا وهو الإمام عامر بن شراحيل الشعبي،
روى الطبري (5: 60) أن الشعبي سمع في أوائل
بطولة مسلمة بن عبد الملك حفيدا للوليد بن
عقبة يتحدث عن جهاد مسلمة، فقال الشعبي: " كيف
لو أدركتم الوليد غزوه وإمارته؟ إن كان ليغزو
فينتهي إلى كذا وكذا. . . ما قصر، ولا انتقض
عليه أحد. حتى عزل عن عمله وعلى الباب (أي
الدربند، وراء بحر الخزر في روسيا، وكان من
أمنع معاقل الدنيا) عبد الرحمن الباهلي (وهو
من أعظم قواد الوليد) وإن كان مما زاد عثمان
الناس على يده (أي على يد الوليد) أن رد على
كل مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة في كل
شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من
أرزاقهم ". فهذه الشهادة من الإمام الشعبي
للوليد في جهاده الحربي الظافر، وفي إحسانه
لرعيته في معايشهم، تفقأ عيون المبطلين، وتقر
أعين الصالحين، وصدق أمير المؤمنين عثمان يوم
طيب قلب أخيه المظلوم بقوله: " نقيم الحدود،
ويبوء شاهد الزور بالنار ". " رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ".
(1/99)
[إعطاؤه خمس
إفريقية لواحد]
13 - وأما إعطاؤه خُمس إفريقية لواحد فلم يصح
(1) على أنه
_________
(1) والذي صح هو إعطاؤه خمس الخمس لعبد الله
بن أبي سرح جزاء جهاده المشكور، ثم عاد
فاسترده منه. جاء في حوادث سنة 27 من تاريخ
الطبري (5: 49 مصر، 1: 2814 - 2815 طبع أوربا)
أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح
بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: " إن
فتحَ الله عليك غدا إفريقية فلك مما أفاء الله
على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا ".
فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض
إفريقية وفتحوها سهلها وجبلها، وقسم عبد الله
على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ خمس الخمس
وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة
النصري. فشكا وفد ممن معه إلى عثمان ما أخذه
عبد الله بن سعد، فقال لهم عثمان: أنا أمرت له
بذلك، فإن سخطتم فهو رد. قالوا: إنا نسخطه.
فأمر عثمان عبد الله بن سعد بأن يرده فرده.
ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح
إفريقية. وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء
والبأس في الجهاد، كما فعل النبي صلى الله
عليه وسلم في مكافأة سلمة بن الأكوع في إغارة
عبد الرحمن الفزاري على سرح النبي صلى الله
عليه وسلم (انظر المنتقى للمجد ابن تيمية 4314
وفي غزوات أخرى 4319، 4320، 4321) .
(1/100)
قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى رأيه
في الخمس، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده،
وأن إعطاءه لواحد جائز، وقد بينا ذلك في
مواضعه (1) .
_________
(1) أي في مؤلفاته الأخرى عند بسطه هذه
المسألة من أحكام الفقه الإسلامي قال الإمام
عامر بن شراحيل الشعبي: " إنما القطائع على
وجه النفل من خمس ما أفاء الله " قال: " وأقطع
عمر طلحة وجرير بن عبد الله والربيِّل بن
عمرو. وأقطع (أي عمر) أبا مفزِّر دار الفيل ".
وممن أقطعهم عمر بن الخطاب نافع أخو زياد وأبي
بكرة لأمهما، أقطعه أرضا في البصرة لخيله
وإبله مساحتها عشرة أجربة (انظر ترجمة نافع في
الإصابة) قال القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج
(ص61) وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتألف على الإسلام أقواما، وأقطع الخلفاء من
بعده من رأوا أن في إقطاعه صلاحا (وضرب أبو
يوسف الأمثلة على ذلك) . وانظر باب القطائع في
ص77 - 78 من كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي
طبع السلفية. وذكر الإمام الشعبي بعض الذين
أقطعهم عثمان فقال: " وأقطع الزبير، وخباب،
وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن
هبّار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين
قبلوا منه الخطأ أخطأوا، وهم الذين أخذنا عنهم
ديننا " (الطبري 4: 148) . وأقطع علي بن أبي
طالب كردوس بن هانئ الكردوسية، وأقطع سويد بن
غفلة أرضا لداذويه. فكيف ينكرون على عثمان
ويسكتون عن عمر وعلي. وللقاضي أبي يوسف كلام
سديد في هذا الموضوع في كتاب الخراج (ص60 - 62
السلفية سنة 1352) ، وما زعمه الزاعمون من أن
عثمان كان يود ذوي قرابته ويعطيهم، فمودته ذوي
قرابته من فضائله، وعلي أثنى على عثمان بأنه
أوصل الصحابة للرحم، وعثمان أجاب عن موقفه هذا
بقوله: " وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم.
فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم على جور، بل
أحمل الحقوق عليهم. وأما إعطاؤهم فإني إنما
أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين
لنفسي، ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي
العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر،
وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتت علي أسنان
أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال
الملحدون ما قالوا! ؟ " قال الطبري (5: 103) :
وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية،
وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص
فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف
فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك،
وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب. بل
تمادى شيخ الإسلام ابن تيمية مع أوسع
الاحتمالات فذكر في منهاج السنة (3: 187 -
188) أن سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى
أنه لقرابة الإمام كما قاله الحسن أبو ثور،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه
بحكم الولاية. . . وقيل هو لمن ولي الأمر
بعده. . . قال: وبالجملة فعامة من تولى الأمر
بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية أو
بمال. ثم قال (في 3: 237) : " إن ما فعله
عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدها أنه عامل
عليه، والعامل يستحق مع الغنى. الثاني أن ذوي
القربى هم ذوو قربى الإمام. الثالث أنهم (أي
ذوو قربى عثمان) كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل
قبيلة أبي بكر وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم
وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية
أقاربهما وإعطائهم. وهذا مما نقل عن عثمان
الاحتجاج به ".
(1/101)
[عثمان لم يضرب
أحدا بالعصا]
14 - وأما قولهم إنه ضرب بالعصا، فما سمعته
ممن أطاع أو عصى، وإنما
(1/102)
هو باطل يُحكى، وزُور يُنثى (1) فيا لله
وللنهى.
[علوه على منبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم]
15 - وأما علوه على درجة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فما سمعته ممن فيه تقية. وإنما هي
إشاعة منكر، ليُروى ويُذكر، فيتغيّر قلب من
يتغير، قال علماؤنا: ولو صح ذلك فما في هذا ما
يُحل دمه. ولا يخلو أن يكون ذلك حقا فلم تنكره
الصحابة عليه، إذ رأت جوازه ابتداء أو لسبب
اقتضى ذلك. وإن كان لم يكن فقد انقطع الكلام
(2) .
[انهزامه يوم حنين
وفراره يوم أحد]
16 - وأما انهزامه يوم حنين، وفراره يوم أحد،
ومغيبه عن بدر وبيعة الرضوان، فقد بين عبد
الله بن عمر وجه الحكم في شأن البيعة وبدر
وأحد. وأما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن لم يجر في
الأمر تفسير من بقي ممن مضى في الصحيح، وإنما
هي أقوال: منها أنه ما بقي معه إلا العباس
وابناه عبد الله وقُثَم، فناهيك بهذا
الاختلاف، وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة، وقد
عفا الله
_________
(1) نثى الخبر والحديث: أذاعه وأظهره، والنثا
مثل الثناء، إلا أنه في الخير والشر، والثناء
في الخير خاصة.
(2) كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضيق المساحة في عصر النبوة وخلافة أبي بكر،
وكان من مناقب عثمان في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم عندما زاد عدد الصحابة أن اشترى من
ماله مساحة من الأرض وسع بها المسجد النبوي،
ثم وسعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار
العباس بن عبد المطلب. ثم ازداد عدد المصلين
بازدياد عدد سكان المدينة وقاصديها فوسعه أمير
المؤمنين عثمان مرة أخرى وجعل طوله ستين ومائة
ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع وجدد بناءه.
فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبعد أمكنة
بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون من ضرورات
ارتفاع الخطيب ليراهم ويروه ويسمعوه.
(1/103)
عنه ورسوله، فلا يحل ذكرُ ما أسقطه الله
ورسوله والمؤمنون، أخرج البخاري (1) جاء رجل
إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن
عمله وقال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: نعم. قال:
فأرغم الله بأنفك! ثم سأله عن علي، فذكر محاسن
عمله وقال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى
الله عليه وسلم. ثم قال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال:
أجل. قال: فأرغم الله بأنفك! انطلق فاجهد عليّ
جهدَك. وقد تقدم في حديث: «بُني الإسلام على
خمس» زيادة فيه للبخاري في علي وعثمان (2) .
وقد أخرج البخاري أيضا (3) من حديث عثمان بن
عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر
يريد حج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من
هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن
الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا
ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني عنه. هل
تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال:
تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد: قال؟ نعم.
قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم
يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر! قال ابن
عمر، تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد
أن الله عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه عن بدر
فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة (ك62 ب9 - ج4 ص208)
من حديث سعد بن عبيدة.
(2) لعل المؤلف يشير إلى حديث ابن عمر في كتاب
التفسير من صحيح البخاري (ك65 ب2 تفسير البقرة
الحديث30 ج5 ص157) .
(3) في كتاب فضائل الصحابة (ك 62 ب7 - ج4 ص203
- 204) .
(1/104)
عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا
وسهمه (1) . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو
كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه،
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان (2)
وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة
(3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده
_________
(1) وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ببشرى
النصر في بدر مع زيد بن حارثة إلى عثمان في
المدينة. قال أسامة بن زيد - فيما رواه
الطبري2: 286 -: " فأتانا الخبر حين سوينا
التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان
" ثم في ربيع الأول من السنة التالية لغزوة
بدر تزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة.
(2) وقبل أن يبعث عثمان دعا عمر بن الخطاب
ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء
له، فقال عمر: يا رسول الله إني أخاف قريشا
على نفسي وليس في مكة من بني عدي بن كعب أحد
يمنعني. ولكني أدلك على رجل هو أعز مني فيها:
عثمان بن عفان. فدعاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش. ويوم
تدوّن الدول الإسلامية تاريخ السفارات في
الإسلام، سيكون اسم عثمان أول سفراء الإسلام
في التاريخ.
(3) لأن عثمان لما أدى رسالته في السفارة التي
بعث بها احتبس أياما. فلم يعد إلى النبي صلى
الله عليه وسلم في الموعد الذي كان يقدر له أن
يعود فيه، فوصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه
وسلم بأن سفيره قتل، فدعا النبي صلى الله عليه
وسلم الصحابة إلى بيعة الرضوان، انتصارا
لعثمان، على نية أن يذهب بالصحابة إلى مكة
فيناجز المشركين لما بلغه عن قتلهم عثمان.
فبيعة الرضوان كانت رمزا من رموز الشرف
لعثمان، وأي شرف أعظم من اجتماع قوى الإسلام
بقيادة الرسول الأعظم للأخذ بثأر هذا الرجل
الحبيب إلى المسلمين، والرفيع المنزلة عند سيد
الأولين والآخرين؟ ثم لما علم النبي صلى الله
عليه وسلم - في اللحظة الأخيرة التي اجتمع
فيها الصحابة لعقد البيعة - أن عثمان حي، مضى
في إتمام البيعة على سنته صلى الله عليه وسلم
في أنه إذا بدأ بخير يمضي في إكماله ولو زال
سببه. وحينئذ كان لعثمان الشرف المضاعف بأن يد
رسول الله صلى الله عليه وسلم نابت عن يده في
عقد البيعة عنه. فبيعة الرضوان كانت انتصارا
لعثمان، وجميع الصحابة بايعوا بأيدي أنفسهم
إلا عثمان فإن أشرف يد بالوجود نابت عن يده في
إعطاء بيعته. ولو لم يكن لعثمان من الشرف في
حياته كلها إلا هذا لكفاه.
(1/105)
اليمنى: " هذه يد عثمان " فضرب بها على يده
فقال: " هذه لعثمان ". ثم قال له ابن عمر:
اذهب بها الآن معك (1) .
[مؤاخذتهم عثمان
بأنه لم يقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب
بالهرمزان]
17 - وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن
الخطاب بالهرمزان، فإن ذلك باطل (2) . فإن كان
لم يفعل فالصحابة متوافرون، والأمر في
_________
(1) لو أن أمير المؤمنين عثمان كان من حواري
المسيح عليه السلام، وكانت له من سيدنا عيسى
ابن مريم مثل هذه المنقبة التي كرمه الله بها
من نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم،
لعبدته النصارى لأجلها. فالعجب لأمة يكون فيها
جهلة يعيبون على عثمان - في زمانه - غيبته عن
بيعة الرضوان، ويكون فيهم من يستشعر الشجاعة
في نفسه عند الإقدام على سفك دم هذا الخليفة
الرحيم لأمور هذا منها، ثم يحمل مثل هذا الجهل
في دماغه رجل جاء يعبد الله بأداء فريضة الحج
فيواجه به جماعة الصحابة من قريش ورئيسهم عبد
الله بن عمر. ثم تمس الحاجة إلى التعرض لبيان
هذه الحقائق في عصر القاضي أبي بكر بن العربي،
ثم يشعر أمثالنا في عصرنا بأن عثمان لا يزال
من بعض أمته في موقف يحتاج فيه إلى إنصافه
ودفع قالة السوء عنه. حقا إننا أمة مسكينة. .
. ولأمر ما بلغ بنا الحال بين الأمم إلى ما
كنا فيه، وإلى ما لا نزال غارقين فيه " إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".
(2) بشهادة ابنه القماذبان. روى الطبري (5: 43
- 44 مصر و1: 2801 طبعة أوروبا) عن سيف بن عمر
بسنده إلى أبي منصور قال: سمعت القماذبان يحدث
عن قتل أبيه. . . قال: " فلما ولي عثمان دعاني
فأمكنني منه " (أي من عبيد الله بن عمر بن
الخطاب) ثم قال: " يا بني هذا قاتل أبيك، وأنت
أولى به منا، فاذهب، فاقتله ". فخرجت به وما
في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي
فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا
عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا.
وسبوه. فتركته لله ولهم. فاحتملوني. فوالله ما
بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم ".
هذا كلام ابن الهرمزان وإن كل منصف يعتقد
(ولعل ابن الهرمزان أيضا كان يعتقد) أن دم
أمير المؤمنين عمر في عنق الهرمزان، وأن أبا
لؤلؤة لم يكن إلا آلة في يد هذا السياسي
الفارسي. وإن موقف عثمان وإخوانه أصحاب رسول
صلى الله عليه وسلم من هذا الحادث لا نظير له
في تاريخ العدالة الإنسانية.
(1/106)
أوله (1) وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل
عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه (2) وكان قتل
عبيد الله له وعثمان لم يل بعد، ولعل عثمان
_________
(1) وقد تصرف عثمان في هذا الأمر بعد أن ذاكر
الصحابة فيه. قال الطبري (5: 41) جلس عثمان في
جانب المسجد ودعا عبيد الله وكان محبوسا في
دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من
يده. . . فقال عثمان لجماعة من المهاجرين
والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في
الإسلام ما فتق. فقال علي: أرى أن تقتله. فقال
بعض المهاجرين: قتل عمر أمس، ويقتل ابنه
اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين،
إن الله أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على
المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان
لك. قال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية،
واحتملتها في مالي.
(2) وفي تاريخ الطبري: (5: 42) حديث سعيد بن
المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال
غداة طعن عمر: " مررت على أبي لؤلؤة عشي أمس،
ومعه جفينة (وكان نصرانيا من أهل الحيرة ظئرا
لسعد بن أبي وقاص) والهرمزان، وهم نجي، فلما
رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه
في وسطه. فانظروا بأي شيء قتل " وخرج في طلبه
رجل من بني تميم، فرجع إليهم التميمي وقد كان
ألظ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى أخذه. وجاء
بالخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر. فسمع
بذلك عبيد الله بن عمر، فأمسك حتى مات عمر، ثم
اشتمل على السيف فأتى الهرمزان فقتله.
(1/107)
كان لا يرى على عبيد الله حقا، لما ثبت
عنده من حال الهرمزان وفعله (1) وأيضا فإن
أحدا لم يقم بطلبه. وكيف يصح مع هذه
الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح؟ .
_________
(1) وكذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رأى
جواز قتل علوج الفرس الذين في المدينة بلا
استثناء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج
السنة (3: 200) : وقد قال عبد الله بن عباس
لما طعن عمر - وقال له عمر: كنت أنت وأبوك
تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة - فقال (أي ابن
عباس) : " إن شئت أن نقتلهم " فقال عمر: "
كذبت، أفبعد أن تكلموا بلسانكم، وصلوا إلى
قبلتكم؟ ". قال ابن تيمية: فهذا ابن عباس -
وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل
بكثير - يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا
الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد،
اعتقد جواز مثل هذا. . . وإذا كان الهرمزان
ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في
الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك. ولو قدر أن
المقتول معصوم الدم يحرم قتله، لكن كان القاتل
متأولا ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة، صار ذلك
شبهة تدرأ عن القاتل (يعني عن عبيد الله بن
عمر) قلت: وإلى هذا ذهب عثمان في اكتفائه
بالدية واحتملها من ماله الخاص. ولو أن حادث
مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - بجميع
ظروفه - وقع مثله في أي بلد آخر مهما بلغ في
ذروة الحضارة لما كان منهم مثل الذي كان من
الصحابة في تسامحهم إلى حد المطالبة حتى بقتل
ابن أمير المؤمنين المقتول بيد الغدر والنذالة
والبغي الذميم.
(1/108)
[تحقيق علمي عن
الكتاب المنسوب لعثمان]
18 - وأما تعلقهم بأن الكتاب وجد مع راكب، أو
مع غلامه - ولم يقل أحد قط إنه كان غلامه (1)
- إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل
_________
(1) وإنما قالوا إنه غلام الصدقة، أي أحد رعاة
إبل الصدقة. وإبل الصدقة ألوف كثيرة لها مئات
من الرعاة. وإن صح أنه من رعاة إبل الصدقة
فهؤلاء لكثرتهم وتبدلهم دائما بغيرهم لا يكاد
يعرفهم رؤساؤهم فضلا عن أن يعرفهم أمير
المؤمنين وكبار عماله وأعوانه. ومع افتراض أنه
من رعاة إبل الصدقة فما أيسر أن يستأجره هؤلاء
البغاة لغرض من أغراضهم، وقد ثبت أن الأشتر
وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل
الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه. وفي
مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير
الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة
ورد الثوار، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابه
مصلحة في تجديد الفتنة. وكم لهم من حيل أكثر
التواء من استئجار راع يرعى إبل الصدقة. بل
لقد ذكروا عن محمد بن أبي حذيفة ربيب عثمان
الآبق من نعمته أنه كان في نفس ذلك الوقت
موجودا في مصر يؤلب الناس على أمير المؤمنين
ويزور الكتب على لسان أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل رجالا
على ظهور البيوت في الفسطاط ووجوههم إلى وجه
الشمس لتلوح وجوههم تلويح المسافر ثم يأمرهم
أن يخرجوا إلى طريق الحجاز بمصر ثم يرسلوا
رسلا يخبرون عنهم الناس ليستقبلوهم. . . فإذا
لقوهم قالوا إنهم يحملون كتبا من أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم في الشكوى من حكم عثمان،
وتتلى هذه الكتب في جامع عمرو بالفسطاط على
ملأ الناس وهي مكذوبة مزورة وحملتها كانوا في
مصر ولم يذهبوا إلى الحجاز (انظر كتاب الأستاذ
المحقق الشيخ صادق عرجون عن " عثمان بن عفان "
ص122 - 133) فتزوير الكتب في مأساة البغي على
أمير المؤمنين عثمان كان من أسلحة البغاة
استعملوه من كل وجه وفي كل الأحوال وقد تقدم
المثال على ذلك في صفحة 59، وسيأتي طرف منه
فيما بعد.
(1/109)
حامليه (1) فقد قال لهم عثمان: إما أن
تقيموا شاهدين على ذلك، وإلا فيميني أني ما
كتبت ولا أمرت (2) . وقد يكتب على لسان الرجل،
ويضرب على خطه، وينقش على خاتمه (3) . فقالوا
لتسلم لنا مروان. فقال: لا أفعل. ولو سلمه
لكان ظالما (4)
_________
(1) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح
وقد أذن له بالمجيء إلى المدينة ويعلم أنه خرج
من مصر (الطبري5: 122) وكان المتسلط على الحكم
في الفسطاط محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة
وعميدهم في هذه الجهة. ومضمون الكتاب المزور
قد اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه. وسيأتي
الكلام على ذلك كله فيما بعد.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة
(3: 188) : كل ذي علم بحال عثمان يعلم أنه لم
يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا
أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا
الضرب. وقد سعوا في قتله (أي في قتل أمير
المؤمنين عثمان) ودخل عليه محمد فيمن دخل، وهو
لا يأمر بقتالهم دفعا عن نفسه، فكيف يبتدئ
بقتل معصوم الدم.
(3) وقد حدث مثل ذلك في زمن عمر، كما رواه
البلاذري في فتوح البلدان (ص448 طبع سنة 1350)
والحافظ ابن حجر في الإصابة (3: 528 طبع سنة
1328) .
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة
(3: 189) بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن
أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان.
لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه
سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله.
وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون
في الأرض ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد. وليس
مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر،
ولا هو (أي ابن أبي بكر) أشهر بالعلم والدين
منه (أي من مروان) . بل أخرج أهل الصحاح عدة
أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل الفتيا،
واختلف في صحبته. ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه
المنزلة عند الناس. . . ومروان من أقران ابن
الزبير. . . الخ.
(1/110)
وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان
وسواه، فما ثبت كان هو منفذه وآخذه والممكن
لمن يأخذه بالحق. ومع سابقته وفضيلته ومكانته
لم يثبت عليه ما يوجب خلعه فضلا عن قتله.
[قول علي إن
الخارجين على عثمان حساد طلاب دنيا]
وأمثل ما روي في قصته أنه - بالقضاء السابق -
تألب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها: ممن طلب أمرا
فلم يصل إليه، وحسد حسادة أظهر داءها، وحمله
على ذلك قلة دين وضعف يقين، وإيثار العاجلة
على الآجلة (1) . وإذا نظرت إليهم دلك صريح
ذكرهم على دناءة قلوبهم وبطلان أمرهم (2) .
_________
(1) بمثل هذه الأوصاف وصفهم أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب في الخطبة التي خطبها على الغرائر
في معسكره بالكوفة عندما كان الصحابي الفارس
المجاهد القعقاع بن عمرو التميمي يسعى بإتمام
المهمة التي جاءت عائشة وطلحة والزبير
لإتمامها، فروى الطبري (5: 194) أن عليا ذكر
إنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه،
ثم الذي يليه. وقال على مسمع من قتلة عثمان: "
ثم حدث هذا الحادث الذي جره على الأمة أقوام
طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاء الله عليه
على الفضيلة، وأرادوا رد الأشياء على أدبارها
" ثم ذكر أنه راحل غدا إلى البصرة ليجتمع بأم
المؤمنين وأخويه طلحة والزبير وقال: " ألا ولا
يرتحلن غدا أحد أعان على عثمان - رضي الله عنه
- بشيء في شيء من أمور الناس، وليغن السفهاء
عني أنفسهم ".
(2) أجملنا في هامش ص 58 أوصاف البارزين ممن
خرج على عثمان. أول من اكتشف سريرتهم، ونظر
إلى وجوههم بنور الله فتشاءم منهم، رجل
الإسلام المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
صاحب الفراسة التي لا تخطئ. روى الطبري (4:
86) أن عمر لما استعرض الجيوش للجهاد سنة 14
مرت أمامه قبائل السكون اليمنية مع أول كندة
يتقدمهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج
أحد الصحابة الذين فتحوا مصر ثم كان أحد
ولاتها، فاعترضهم عمر، فإذا فيهم فتية دلم
سباط، فأعرض عنهم ثم أعرض ثم أعرض، حتى قيل
له: ما لك ولهؤلاء؟ فقال: إني عنهم لمتردد،
وما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم. فكان
منهم سودان بن حمران وخالد بن ملجم وكلاهما من
البغاة على عثمان.
(1/111)
[التعريف
بالغافقي المصري وكنانة بن بشر وسودان بن
حمران]
كان الغافقي المصري أمير القوم (1) وكنانة بن
بشر التجيبي (2)
_________
(1) هو الغافقي بن حرب العكي من أبناء وجوه
القبائل اليمنية التي نزلت مصر عند الفتح.
فلما تظاهر ابن سبأ بالتشيع لعلي. ولم يجد
مرتفعا لفساده في الحجاز ولا في الشام، اكتفى
باصطناع بعض الأعوان في البصرة والكوفة،
واختار الإقامة في الفسطاط، فكان الغافقي هذا
من قنائصه، وقد استمالوه من ناحية تهافته على
الرئاسة والجاه. وكان محمد بن أبي حذيفة بن
عتبة الأموي ربيب الآبق من نعمته هو اليد
اليمنى لتنفيذ خطط السبئيين في مصر، والغافقي
للتصدر والظهور. وفي شوال سنة 35 أعدوا عدتهم
للزحف من مصر على المدينة بأربع فرق مجموع
رجالها نحو ستمائة، وعلى كل فرقة رئيس ورئيسهم
العام الغافقي هذا. وتظاهروا بأنهم يقصدون
الحج، وفي المدينة تطورت حركاتهم إلى أن
استفحل الأمر ومنعوا عثمان من الصلاة بالناس
في المسجد النبوي فصار الغافقي هو الذي يصلي
بالناس (الطبري5: 107) . ثم لما أقنعهم
الشيطان بالجرأة على الجناية الكبرى كان
الغافقي أحد المجترئين عليه وضربه بحديدة معه
وضرب المصحف برجله فاستدار (الطبري5: 130)
وبعد قتل عثمان بقيت المدينة خمسة أيام
وأميرها الغافقي بن حرب. (الطبري 5: 155) .
(2) وهذا أيضا من قنائص ابن سبأ في مصر. ولما
أرسل عثمان عمارا إلى مصر ليكتشف له أمر
الإشاعات وحقيقة الحال، استماله السبئيون،
وكان كنانة بن بشر هذا واحدا منهم (الطبري 5:
99) . وعندما جمعوا أوشاب القبائل للزحف على
المدينة بحيلة الحج في شوال سنة 35 انقسموا في
مصر إلى أربع فرق على كل فرقة أمير، وكان
كنانة بن بشر أميرا على إحدى هذه الفرق
(الطبري 5: 103) ثم كان في طليعة من اقتحم
الدار على عثمان وبيده شعلة من نار تنضح
بالنفط، فدخل من دار عمرو بن حزم ودخلت الشعل
على أثره (الطبري 5: 123) . ووصل كنانة
التجيبي إلى عثمان فأشعره مشقصا (أي نصلا
طويلا عريضا) فانتضح الدم على آية
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، (الطبري 5: 126)
وقطع يد نائلة زوجة عثمان، واتكأ بالسيف على
صدر عثمان وقتله (الطبري 5: 131) ، قال محمد
بن عمر الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي
الزناد المدني، عن عبد الرحمن بن الحارث بن
هاشم المخزومي المدني المتوفى سنة 43 قال:
الذي قتل أمير المؤمنين عثمان هو كنانة بن بشر
بن عتاب التجيبي (الطبري 5: 123) . وفيه يقول
الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
ألا إن خير الخلق بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي
الذي جاء من مصر
وكانت عاقبة كنانة هذا وقوعه قتيلا في الحرب
التي نشبت سنة 38 في مصر بين محمد بن أبي بكر
الصديق نائب علي وبين عمرو بن العاص ومن معه
من جيش معاوية بن حديج السكوني (الطبري 6: 58
- 59 و 60) .
(1/112)
وسودان بن حمران (1)
_________
(1) السكوني، من قبائل مراد اليمنية النازلة
في مصر، وقد تقدم في هامش ص112 أنه كان - في
سنة 14 - أحد الذين قدموا في خلافة عمر للجهاد
مع جيوش اليمن بقيادة حصين بن نمير ومعاوية بن
حديج، فلما استعرضهم أمير المؤمنين عمر وقع
نظره على سودان بن حمران هذا وعلى زميله خالد
بن ملجم فتشاءم منهما وكرههما. ولما أرسل أمير
المؤمنين عثمان عمارا إلى مصر ليكتشف له مصدر
الإشاعات الكاذبة وحقيقة الحال التف السبئيون
بعمار وكان سودان بن حمران منهم (الطبري 5:
99) . ولما سير السبئيون متطوعة الفتنة من
أوشاب القبائل اليمنية التي في مصر في شوال
سنة 35 نحو المدينة وجعلوهم أربع فرق كان
سودان قائد إحدى هذه الفرق (الطبري 5: 103) ،
ولما وصل متطوعة الفتنة إلى المدينة وخرج لهم
محمد بن مسلمة ليعظم لهم حق عثمان وما في
رقابهم من البيعة له رآهم ينقادون لأربعة هذا
واحد منهم (الطبري 5: 118) . وفي 5: 131 من
تاريخ الطبري في وصف تسوّر سودان ومعه آخرون
من دار عمرو بن حزم إلى دار عثمان. وفي 5: 130
بعض تفاصيل ما وقع من سودان عند ارتكابهم
الجناية العظمى. ولما انتهوا من قتل أمير
المؤمنين خرج سودان من الدار وهو ينادي: قد
قتلنا عثمان بن عفان (الطبري 5: 123) .
(1/113)
[التعريف بعبد
الله بن بديل وحكيم بن جبلة والأشتر]
وعبد الله بن بُديل بن وَرقاء الخُزاعي (1)
_________
(1) كان أبوه رجلا مسنا من مسلمة الفتح. وورد
ذكر عبد الله بن بديل في الفتنة العظمى على
أمير المؤمنين عثمان، فذكر الطبري (5: 124 -
125) أن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي
حليف بني زهرة خرج هو وعبد الله بن الزبير
ومروان وغيرهم يدافعون عن أمير المؤمنين على
باب الدار، فحمل عبد الله بن بديل على الأخنس
بن شريق وقتله. ونقل الحافظ ابن حجر في ترجمته
في الإصابة (2: 280) عن ابن الكلبي أن عبد
الله بن بديل وأخاه عبد الرحمن شهدا صفين مع
علي وقتلا بها. والظاهر أن أخاه قتل قبله، فقد
نقل ابن حجر (في الإصابة 2: 281) عن ابن إسحاق
في كتاب الفردوس أن عبيد الله بن عمر بن
الخطاب لما قدم الكوفة - أي مع جيش أهل الشام
- لقي عبد الله بن بديل، فنصح له ابن بديل بأن
لا يهرق دمه في هذه الفتنة، فاعتذر عبيد الله
بن عمر بأنه يطلب بدم أمير المؤمنين عثمان
الذي قتل ظلما. واعتذر ابن بديل بأنه يطلب بدم
أخيه الذي قتل ظلما. وكيف يكون أخوه قتل ظلما
وقد قتل في فتنة تطوع للمساهمة فيها مختارا،
بينما عثمان وهو أمير المؤمنين الذي له حق
الولاية عليهم كان مبغيا عليه من ابن بديل
وأمثاله ومن هم أقل منه شأنا، ومع ذلك لم
يقاتل أحدا، ولم يدافع عن نفسه، ونهى الناس أن
يدافعوا عنه أوباشا قدموا إلى مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم من مختلف البلاد ليرتكبوا
الشر والإثم. وأين عثمان الذي ملأت حسناته
الأرض وتعطرت بأريجها السماء من عبد الرحمن بن
بديل الذي لا يكاد يعرف له التاريخ عملا.
(1/114)
وحُكيْم بن جبلة من أهل البصرة (1)
_________
(1) حُكيم بن جبلة العبدي من قبائل عبد القيس،
أصلهم من عُمان وسواحل الخليج الفارسي، وتوطن
بالبصرة بعد تمصيرها. وكان حكيم هذا شابا
جريئا، وكانت الجيوش الإسلامية التي تزحف نحو
الشرق لنشر الدعوة والفتوح تصدر عن البصرة
والكوفة، فكان حكيم بن جبلة يرافق هذه الجيوش،
ويجازف في بعض حملات الخطر، كما تفعل كتائب
(الكوماندوس) في هذا العصر. وقد استعملته جيوش
أمير المؤمنين عثمان في إحدى هذه المهمات عند
محاولتها استكشاف الهند كما نوهتُ بذلك في
مقالة (طلائع الإسلام في الهند) . ويؤكد شيوخ
سيف بن عمر التميمي (وهو أعرف المؤرخين بتاريخ
العراق) على ما نقله عنه الطبري (5: 90) أن
حكيم بن جبلة كان إذا قفلت الجيوش خنس عنهم
فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر
لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع.
فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب
عثمان إلى عبد الله بن عامر أن احبسه ومن كان
مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه
رشدا، فحبسه (أي منعه من مبارحة البصرة) .
فلما قدم عبد الله بن سبأ البصرة نزل على حكيم
بن جبلة، واجتمع إليه نفر، فنفث فيهم سمومه.
فأخرج ابن عامر عبد الله بن سبأ من البصرة،
فأتى الكوفة فأخرج منها، ومن هناك رحل ابن سبأ
إلى الفسطاط ولبث فيه وجعل يكاتبهم ويكاتبونه
ويختلف الرجال بينهم. وذكر الطبري (5: 104) أن
السبئية لما قرروا الزحف من الأمصار على مدينة
الرسول صلى الله عليه وسلم كان عدد من خرج
منهم من البصرة كعدد من خرج من مصر، وهم
مقسمون كذلك إلى أربع فرق، والأمير على إحدى
هذه الفرق حكيم بن جبلة، ونزلوا في المدينة في
مكان يسمى ذا خشب. ولما حصبوا أمير المؤمنين
عثمان وهو يخطب على المنبر النبوي كان حكيم بن
جبلة واحدا منهم (الطبري 5: 106) ولما رحل
الثوار عن المدينة في المرة الأولى بعد
مناقشتهم لعثمان وسماعهم دفاعه واقتناعهم،
تخلف في المدينة الأشتر وحكيم بن جبلة (الطبري
5: 120) وفي ذلك شبهة قوية بأن لهم دخلا في
افتعال الكتاب المزور على أمير المؤمنين. ولما
جاءت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة وأوشكوا
أن يتفاهموا مع أمير المؤمنين عليّ على رد
الأمور إلى نصابها كان حكيم بن جبلة هو الذي
أنشب القتال لئلا يتم التفاهم والاتفاق
(الطبري 5: 176 وما بعدها) . وارتكب دناءة قتل
امرأة من قومه سمعته يشتم أم المؤمنين عائشة
فقالت له: يا ابن الخبيثة أنت أولى بذلك.
فطعنها فقتلها (الطبري 5: 176) ، وحينئذ تخلى
قومه عن نصرته إلا الأغمار منهم، وما زال
يقاتل حتى قطعت رجله، ثم قتل وقتل معه كل من
كان في الوقعة من البغاة على عثمان، ونادى
منادي الزبير وطلحة بالبصرة: " ألا من كان
فيكم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا
بهم " فجيء بهم كما يجاء بالكلاب فقتلوا. فما
أفلت منهم إلا حرقوص بن زهير السعدي من بني
تميم (الطبري 5: 180) . روى عامر بن حفص عن
أشياخه قال: ضرب عنق حكيم رجل من الحدَّان
يقال له ضخيم فمال رأسه فتعلق بجلده فصار وجهه
في قفاه، الطبري (5: 182) .
(1/115)
ومالك بن الحارث الأشتر (1) في طائفة هؤلاء
رؤوسهم، فناهيك بغيرهم
. . . . . . . . . .
_________
(1) من النخَع، وهي قبيلة يمنية من قبائل
مَذْحج، بطل شجاع من أبطال العرب، كان أول
مشاهده الحربية في اليرموك، وفيها فقد إحدى
عينيه، ثم شاء الله أن يكون سيفه مسلولا على
إخوانه المسلمين في مواقف الفتنة. ولو أنه لم
يكن ممن ألب على أمير المؤمنين عثمان، وكتب
الله أن تكون وقائعه الحربية في نشر دعوة
الإسلام وتوسيع الفتوح، لكان له في التاريخ
شأن آخر. والذي دفعه في هذا الطريق غلوه في
الدين وحبه للرئاسة والجاه، ولست أدري كيف
اجتمعتا فيه. والأشتر أحد الذين اتخذوا الكوفة
دار إقامة لهم، فلما كانت إمارة الوليد بن
عقبة على الكوفة كان الأشتر يشعر في نفسه بأنه
أهل للولاية والرئاسة، فانزلق مع العائبين على
الدولة ورجالها، من الخليفة الأعلى في المدينة
إلى عامله على الكوفة الوليد بن عقبة. ولما
سرق أبو زينب وأبو مورع خاتم الوليد من منزله
وذهبا به إلى المدينة فشهدا على الوليد بشرب
الخمر كما تقدم في ص96 أسرع الأشتر وآخرون معه
بالذهاب إلى المدينة لتوسيع دائرة الفتنة، حتى
إذا عزل عثمان الوليد بسعيد بن العاص عاد
الأشتر مع سعيد إلى الكوفة، (الطبري 5: 63) .
وكان عثمان قد سن نظام مبادلة الأراضي، فمن
كانت له أرض من الفيء في مكان بعيد عنه يبادل
عليها بأرض قريبة منه بالتراضي بين
المتبادلين. وبهذه الطريقة تخلى طلحة بن عبيد
الله عن أسهمه في خيبر واشترى بها من فيء أهل
المدينة بالعراق أرضا يقال لها النشاستج
(الطبري 5: 64) . وبينما كان سعيد بن العاص في
دار الإمارة بالكوفة والناس عنده أثنى رجل على
طلحة بن عبيد الله بالجود، فقال سعيد بن
العاص: لو كان لي مثل أرض النشاستج لأعاشكم
الله عيشا رغدا. فقال له عبد الرحمن بن خنيس
الأسدي: وودت لو كان هذا الملطاط لك. والملطاط
أرض على جانب الفرات كانت لآل كسرى. فغضب
الأشتر وأصحابه وقالوا للأسدي: تتمنى له من
سوادنا؟ فقال والده: ويتمنى لكم أضعافه. فثار
الأشتر وصحبه على الأسدي وأبيه وضربوهما في
مجلس الإمارة حتى غشي عليهما. وسمعت بذلك بنو
أسد فجاءوا وأحاطوا بالقصر ليدافعوا عن
رجليهما، فتلافى سعيد بن العاص هذه الفتنة
بحكمته، ورد بني أسد عن الأشتر وجماعته. وكتب
أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان في إخراج
هؤلاء المشاغبين من بلدهم، فأرسلهم إلى معاوية
في الشام (الطبري 5: 85 - 86) ثم أخرجهم
معاوية فنزلوا جزيرة ابن عمر تحت حكم عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد، إلى أن تظاهروا
بالتوبة، فذهب الأشتر إلى المدينة ليرفع إلى
عثمان توبتهم، فرضي عنه عثمان وأباح له الذهاب
حيث شاء، فاختار العودة إلى زملائه الذين عند
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الجزيرة
(الطبري 5: 87 - 88) . وفي الوقت الذي كان فيه
الأشتر يعرض على عثمان توبته وتوبة زملائه
وذلك في سنة 34 كان السبئيون في مصر يكاتبون
أشياعهم في الكوفة والبصرة بأن يثوروا على
أمرائهم واتعدوا يوما، فلم يستقم ذلك إلا
لجماعة الكوفة، فثار بهم يزيد بن قيس الأرحبي
(الطبري 5: 101) . ولما وصل الأشتر من المدينة
إلى إخوانه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن
الوليد وجد بين أيديهم كتابا من يزيد بن قيس
الأرحبي يقول لهم فيه: لا تضعوا كتابي من
أيديكم حتى تجيئوا. فتشاءموا من هذه الدعوة
وآثروا البقاء، وخالفهم الأشتر فرجع عاصيا بعد
توبته، والتحق بثوار الكوفة وقد نزلوا في
الجرعة - مكان مشرف على القادسية - وهناك
تلقوا سعيد بن العاص أميرا على الكوفة وهو
عائد من المدينة فردوه، ولقي الأشتر مولى
لسعيد بن العاص فضرب الأشتر عنقه. وبلغ عثمان
أنهم يريدون إقالة سعيد بأبي موسى الأشعري
فأجابهم إلى ما طلبوا (الطبري 5: 93 - 94) .
ولما فشل موعد سنة 34 واقتصرت الفتنة على ما
كان في الجرعة، اتعد السبئيون للسنة التي
بعدها (سنة 35) ورتبوا أمرهم على التوجه إلى
المدينة مع الحجاج كالحجاج، وكان الأشتر مع
خوارج الكوفة رئيسا على فرقة من فرقهم الأربع
(الطبري 5: 104) . وبعد وصولهم إلى المدينة
ناقشهم أمير المؤمنين عثمان وبين لهم حجته في
كل ما كانوا يظنونه فيه، فاقتنع جمهورهم بذلك
وحملوا رؤساء الفتنة على الرضا بأجوبة عثمان
وارتحلوا من المدينة للمرة الأولى. إلا أن
الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة ولم
يرتحلا معهم (الطبري 5: 120) . ولما وصل
المصريون إلى مكان يسمى البويب اعترضهم راكب
مثل لهم دور حامل الكتاب المزعوم، وسيأتي
الحديث عن ذلك في ص 126. ونقل الطبري (5: 194)
أن الأشتر كان في مؤتمر السبئيين الذي عقدوه
قبيل ارتحال علي من الكوفة إلى البصرة للتفاهم
مع طلحة والزبير وعائشة. فقرر السبئيون في
مؤتمرهم هذا أن ينشبوا الحرب بين الفريقين قبل
أن يصطلحا عليهم. وفي وقعة الجمل اصطرع عبد
الله بن الزبير والأشتر واختلفا ضربتين وقال
عبد الله بن الزبير كلمته المشهورة: " اقتلوني
ومالكا " فأفلت منه مالك الأشتر، روى الطبري
(5: 217) عن الشعبي أن الناس كانوا لا يعرفون
الأشتر باسم مالك، ولو قال ابن الزبير "
اقتلوني والأشتر " وكان للأشتر ألف ألف نفس ما
نجا منها شيء، وما زال يضطرب في يدي ابن
الزبير حتى أفلت. وروى الطبري (5: 194) أن
عليا لما فرغ من البيعة بعد وقعة الجمل
واستعمل عبد الله بن عباس على البصرة بلغ
الأشتر الخبر باستعمال علي ابن عباس فغضب
وقال: " علام قتلنا الشيخ إذن؟ ! اليمن لعبيد
الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله،
والكوفة لعلي! " ثم دعا بدابته فركب راجعا.
وبلغ ذلك عليا فنادى: الرحيل! ثم أجد السير
فلحق به فلم يره أنه بلغه عنه وقال: " ما هذا
السير؟ سبقتنا! ". وخشي إن تُرك والخروج أن
يوقع في نفس الناس شرا. ثم اشترك الأشتر في
حرب صفين. وولاه علي إمارة مصر بعد صرف قيس بن
سعد بن عبادة عنها. فلما وصل القلزم (السويس)
شرب شربة عسل فمات، فقيل إنها كانت مسمومة،
وكان ذلك سنة 38 (الإصابة 3: 482) .
(1/116)
[تسيير عثمان
مثيري الفتنة إلى معاوية بالشام]
وقد كانوا أثاروا فتنة، فأخرجهم عثمان
بالاجتهاد، وصاروا في
(1/118)
جماعتهم عند معاوية (1) فذكرهم بالله
وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة
_________
(1) أثاروا الفتنة يوم ضربوا عبد الرحمن بن
خنيس الأسدي وأباه وهم في دار الإمارة
بالكوفة، فكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى
عثمان بإخراجهم إلى بلد آخر، فسيرهم إلى
معاوية في الشام. والذين سيروا إلى معاوية: هم
الأشتر النخعي، وابن الكواء اليشكري، وصعصعة
بن صوحان العبدي، وأخوه زيد، وكميل بن زياد
النخعي، وجندب بن زهير الغامدي. وجندب بن كعب
الأزدي، وثابت بت قيس بن منقع، وعروة بن الجعد
البارقي، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
(1/119)
الأمة (1) حتى قال له زيد صوحان - فيما
يُروى (2) " كما تكثر علينا بالإمرة وبقريش،
فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش
تجار " (3) . فقال له معاوية: " لا أم لك.
أذكرك بالإسلام وتذكرني بالجاهلية! قبح الله
من كثر على أمير المؤمنين بكم، فما أنتم ممن
ينفع أو يضر. اخرجوا عني (4) .
_________
(1) نص كلام معاوية كما رواه الطبري (5: 86) :
" إنكم قوم من العرب، لكم أسنان وألسنة، وقد
أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم، حويتم
مراتبهم ومواريثهم. وقد بلغني أنكم نقمتم
قريشا، وإن قريشا لو لم تكن عدتم أذلة كما
كنتم. إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة، فلا تسدوا
عن جنتكم. وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على
الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن
أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ثم لا يحمدكم
على الصبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على
الرعية في حياتكم وبعد موتكم ".
(2) بل القائل أخوه صعصعة.
(3) وقال أيضا لمعاوية: " وأما ما ذكرت من
الجنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا " أي
إذا قتلنا ولاتنا صارت الولاية إلينا. ولو أن
هذه الكلمة قالها ثائر وهو في قبضة حاكمه -
منذ بدأت الحكومات إلى أن تقوم الساعة - ما
وجد من حاكمه حلما وسعة صدر كالذي وجده صعصعة
من معاوية مع قدرته عليه.
(4) وجواب معاوية على كلام صعصعة في وصف قريش
ومكانتها طويل ونفيس، وقد أورده الطبري (5:
86) .
(1/120)
[انتقال مثيري
الفتنة إلى منطقة عبد الرحمن بن خالد ومعاملته
لهم بالحزم]
وأخبره ابن الكواء بأهل الفتنة في كل بلد
ومؤامرتهم (1) فكتب إلى عثمان يخبره بذلك،
فأرسل إليه بإشخاصهم إليه. فأخرجهم معاوية (2)
فمروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد (3)
فحبسهم، ووبخهم، وقال لهم: " اذكروا ما كنتم
تذكرون لمعاوية " (4) . وحصرهم، وأمشاهم بين
يديه
_________
(1) قال ابن الكواء فيما نقله الحافظ ابن
عساكر في ترجمته من تاريخ دمشق (7: 299) وأبو
جعفر الطبري في تاريخه (5: 92) يصف لمعاوية
أهل الأحداث من أهل الأمصار: " أما أهل
الأحداث من أهل المدينة فهم أحرص الأمة على
الشر، وأعجزهم عنه. وأما أهل الأحداث من أهل
الكوفة فإنهم أنظر الناس في صغير، وأركبه
لكبير. وأما أهل الأحداث من أهل البصرة فإنهم
يردون جميعا ويصدرون شتى. وأما أهل الأحداث من
أهل مصر فهم أوفى الناس بشر، وأسرعه ندامة.
وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس
لمرشدهم، وأعصاه لمغويهم ".
(2) وكتب فيهم إلى عثمان: " إنه قدم على أقوام
ليست لهم عقول ولا أديان. أثقلهم الإسلام،
وأضجرهم العدل. لا يريدون الله بشيء، ولا
يتكلمون بحجة. إنما همهم الفتنة، وأموال أهل
الذمة. والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم
ومخزيهم. وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع
غيرهم. فانه سعيدا ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا
لأكثر من شغب أو نكير " (الطبري 5: 87) .
(3) وكان يلي حمص لمعاوية. ويتبعه منطقة
الجزيرة - حران والرقة -.
(4) وذلك بعد قوله لهم: " يا ألة الشيطان، لا
مرحبا بكم ولا أهل. وقد رجع الشيطان محسورا
وأنتم بعد نشاط. خسر الله عبد الرحمن إن لم
يؤدبكم حتى يحسركم. يا معشر من لا أدري أعرب
أم عجم، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم
تقولون لمعاوية. أنا ابن خالد بن الوليد، أنا
ابن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة.
والله لئن بلغني يا صعصعة بن ذل أن أحدا ممن
معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة
المهوى " (الطبري 5: 87) .
(1/121)
أذلاء حتى تابوا بعد حول (1) .
وكتب إلى عثمان بخبرهم، فكتب إليه أن سرحهم
إلي. فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة،
وحلفوا على صدقهم، وتبرأوا مما نسب إليهم (2)
وخيرهم حيث يسيرون، فاختار كل واحد ما أراد من
البلاد: كوفة، وبصرة، ومصر، فأخرجهم. فما
استقروا في حيث ما ساروا حتى ثاروا وألبوا،
حتى انضاف إليهم جمع (3)
_________
(1) كان كلما ركب أمشاهم، فإذا مر به (صعصعة)
قال: يا ابن الحطيئة، أعلمت أن من لم يصلحه
الخير أصلحه الشر؟ ما لك لا تقول كما كان
بلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية؟ فيقول،
ويقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله
(الطبري 5: 87 - 88) .
(2) الذي قدم إلى أمير المؤمنين عثمان في
المدينة هو الأشتر النخعي وحده، وهو الذي ناب
عن ابني صوحان وابن الكواء والآخرين في تجديد
التوبة التي أعلنوها من قبل لعبد الرحمن بن
خالد بن الوليد: غير أن الفتنة لم تكن مقتصرة
على هؤلاء، بل كانت جرثومتها في يد ابن سبأ
الذي اختار الإقامة في الفسطاط، وكان لها جناح
في البصرة، وللأشتر وإخوانه بقية في الكوفة.
وبينما كان الأشتر يجدد توبته وتوبة إخوانه في
المدينة كان أعوان ابن سبأ يكاتبون البصرة
والكوفة في موعد يثبون فيه على ولاتهم، فما
رجع الأشتر بتوبته إلى إخوانه الذين كانوا عند
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى وجد عندهم
كتابا من إخوانهم في الكوفة يدعونهم للاشتراك
فيما اتعدوا له، فلم يبتهج بهذه الدعوة إلى
الفتنة والشر إلا الأشتر الذي لم يكن قد نسي
توبته بعد، فأسرع إلى الكوفة وانضم إلى الفتنة
التي تسمى في التاريخ (يوم الجرعة) وكان ذلك
سنة 34.
(3) لما أخفق السبئيون في الوثوب على ولاتهم
سنة 34 في الموعد الذي وقعت فيه.
(1/122)
[مسير فرق
الثوار إلى المدينة]
وساروا إليه (1) على أهل مصر عبد الرحمن بن
عديس البلوي (2)
_________
(1) أي إلى أمير المؤمنين عثمان في مدينة
الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) فارس شاعر، نزل مصر مع جيش الفتح، ولم
يعرف له في سيرته شيء انفراد بالامتياز به غير
اشتراكه في هذه الفتنة، مع دعواه أنه كان من
الذين بايعوا تحت الشجرة. وأظنه لم يكن من
الرءوس المدبرين للفتنة، ولكن مدبريها استغلوا
ميله إلى الرئاسة، فاستفادوا من سنه ووجاهته
بين فرسان القبائل العربية بمصر، وولوه
القيادة على إحدى الفرق الأربع التي خرجت من
مصر إلى المدينة (وقادة الفرق الثلاث الأخرى:
كنانة بن بشر التجيبي، وسودان بن حمران
السكوني، وقتيرة السكوني. ورئيسهم الأعلى
الغافقي بن حرب العكي) . وكان عبد الرحمن بن
عديس في مدة الحصار شديد الوطأة على أمير
المؤمنين عثمان وأهل بيته. ثم كانت عاقبته
القتل في جبل الجليل بالقرب من حمص، لقيه أحد
الأعراب، فلما اعترف له أنه من قتلة عثمان
بادر بقتله (معجم البلدان لياقوت: الجليل) .
وأخطأ من نسب ابن عديس إلى تجيب، فإنه بلوي من
قضاعة. أما تجيب بنت ثوبان المذحجية فلا ينسب
إليها إلا بنو ولديها سعد وعدي بن أشرس بن
شبيب بن السكون من كندة، وأين كندة من قضاعة!
.
(1/123)
وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة (1) وعلى أهل
الكوفة الأشتر مالك بن الحارث النخعي (2) .
فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس
وثلاثين (3) . فاستقبلهم عثمان. فقالوا: ادع
بالمصحف. فدعا به، فقالوا: افتح التاسعة (4) -
يعني يونس - فقالوا: اقرأ. فقرأ حتى انتهى إلى
قوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى
اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] قالوا له:
قف. قالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى، أذن
الله لك أم على الله افتريت؟ قال: امضِهْ،
إنما نزلت في كذا. وقد حمى عمر، وزادت الإبل
فزدت (5) .
_________
(1) تقدم التعريف به في ص115ـ 116. وهو أمير
إحدى الفرق الأربع البصرية (والثلاثة الآخرون:
ذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح "الحطم"،
وابن المحرش الحنفي. ورئيسهم الأعلى حرقوص بن
زهير السعدي) .
(2) تقدم التعريف به في ص116ـ 119. وهو أمير
إحدى الفرق الأربع الكوفية (والثلاثة الآخرون:
زيد بن صوحان العبدي، وزياد بن النضر الحارثي،
وعبد الله بن الأصم. ورئيسهم الأعلى عمرو بن
الأصم) .
(3) نزلوا خارج المدينة على ثلاث مراحل منها،
ثم تقدم ثوار البصرة فنزلوا في ذي خشب، ونزل
ثوار الكوفة الأعوص، ونزل عامتهم بذي المروة.
(4) كذا في المطبوعة الجزائرية (2: 117) ولعله
خطأ صوابه "السابعة" كما في تاريخ الطبري (5:
107) ، ويقال: إن ذلك ترتيب سورة يونس في مصحف
ابن مسعود على ما في الفهرست لابن النديم ص39
طبع مصر.
(5) تقدم الكلام على الحمى في ص72 ـ 73 بقدر
ما يحتمل هذا المختصر.
(1/124)
فجعلوا يتبعونه هكذا، وهو ظاهر عليهم. حتى
قال لهم: ماذا تريدون؟
فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه ستا أو خمسا (1)
أن المنفي يعاد والمحروم يعطى، ويوفر الفيء،
ويعدل في القسم، ويستعمل ذوو الأمانة والقوة.
فكتبوا ذلك في كتاب. وأخذ عليهم ألا يشقوا
عصًا ولا يفرقوا جماعة. ثم رجعوا راضين (2) .
وقيل أرسل إليهم عليًّا فاتفقوا على الخمس
المذكورة، ورجعوا راضين. فبينما هم كذلك (3)
إذا راكب
_________
(1) أي اشترطوا عليه ستة شروط أو خمسة في
المعاني الآتية.
(2) كان الزاحفون من أمصارهم على مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم فريقين: رؤساء خادعين على
درجات متفاوتة، ومرءوسين مخدوعين، وهم الكثرة
التي بثت فيها دعايات مغرضة حتى ظنت أن هنالك
منفيين مظلومين ومحرومين سلبوا حقهم. . . الخ.
وقد رأيت في ص54ـ 55 شهادة أصدق شاهدين في
العراق حينئذ وهما الحسن البصري وصنوه ابن
سيرين عن وفرة الأعطيات والأرزاق وأنواع
الخيرات. حتى كان منادي عثمان ينادي بدعوة
الناس لها فلا يمنع عنها أحد. ورأيت في ص100
شهادة الإمام الشعبي عن تعميم الرزق والخير
حتى إلى الإماء والعبيد. ولما أصغى عامة
الثائرين إلى أجوبة عثمان وعرفوا الحقيقة
اقتنعوا ورجعوا، وكان رجوعهم من طريقين
مختلفين باختلاف اتجاه أمصارهم فالمصريين
اتجهوا شمالا لغرب ليسايروا ساحل البحر الأحمر
إلى السويس ومصر، والعراقيون من بصريين
وكوفيين اتجهوا شمالا لشرق منجدين ليبلغوا
البصرة والكوفة من أرض العراق.
(3) أي فبينما العراقيون من بصريين وكوفيين في
طريقهم نحو الشرق إلى الشمال، والمصريون في
طريقهم نحو الغرب إلى الشمال، وبين الفريقين
مراحل بعيدة؛ لأنهما تقدما في السير والمسافة
تزداد بعدا بينهما.
(1/125)
يتعرض لهم (1) .
ثم يفارقهم، مرارًا (2) قالوا: ما لك؟ قال:
أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر (3) .
ففتشوه، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه
خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم
وأرجلهم (4) .
_________
(1) أي للمصرين وحدهم.
(2) ولا يتعرض لهم ثم يفارقهم ويكرر ذلك إلا
ليلفت أنظارهم إليه. ويثير شكوكهم فيه. وهذا
ما أرداه مستأجرو هذا الرجل لتمثيل هذا الدور،
ومدبرو هذه المكيدة لتجديد الفتنة بعد أن
صرفها الله وأراح المسلمين من شرورها. ولا
يعقل أن يكون تدبير هذا الدور التمثيلي صادرا
عن عثمان أو مروان أو أي إنسان يتصل بهما،
لأنه لا مصلحة لهما في تجديد الفتنة بعد أن
صرفها الله، وإنما المصلحة في ذلك للدعاة
الأولين إلى إحداث هذا الشغب، ومنهم الأشتر
وحكيم بن جبلة اللذان لم يسافرا مع جماعتهما
إلى بلديهما، بل تخلفا في المدينة (الطبري 5:
120) ولم يكن لهما أي عمل يتخلفان في المدينة
لأجله إلا مثل هذه الخطط والتدابير التي لا
يفكران يومئذ في غيرها.
(3) وقد صرحوا بأنه عبد الله بن سعد بن أبي
سرح (الطبري 5: 120) ولا يعقل أن يكتب إليه
عثمان أو مروان؛ لأنه كان عقب حركة الثوار من
مصر متوجهين إلى المدينة كتب إلى عثمان
يستأذنه بالقدوم عليه (الطبري 5: 122) ، وخرج
بالفعل من مصر نحو العريش وفلسطين وأيلة
(العقبة) وتغلب محمد بن أبي حذيفة على الحكم
في مصر، وهو عدو الله ورسوله، وخارج على خليفة
المسلمين. فكيف يكتب عثمان أو مروان إلى عبد
الله بن سعد وعندهما كتابه الذي يستأذن به في
القدوم إلى المدينة؟ .
(4) الأخبار التي جاء فيها أن الراكب غلام
عثمان، وأن الجمل جمل الصدقة، وأن عثمان اعترف
بذلك، كلها أخبار مرسلة لا يعرف قائلها. أو
مكذوبة أذاعها رواة مطعون في صدقهم وأمانتهم.
ومضمون الكتاب اضطربت الروايات فيه، ففي بعض
الروايات: "إذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس
فاجلده مائة واحلق رأسه ولحيته وأطل حبسه حتى
يأتيك أمري. وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك.
وسودان بن حمران مثل ذلك، وعروة بن التباع
الليثي مثل ذلك". وفي رواية: "إذا أتاك محمد
بن أبي بكر الصديق ـ وفلان وفلان ـ فاقتلهم
وأبطل كتابهم وقر على عملك حتى يأتيك رأيي".
وفي رواية ثالثة أن مضمون الكتاب أمر عامله
بالقتل والقطع والصلب على هؤلاء الثوار. وهذا
الاختلاف في مضمون كتاب واحد مما يزيد الريبة
في أمره.
(1/126)
فأقبلوا حتى قدموا المدينة (1) فأتوا
عليًّا فقالوا له: ألم تر إلى عدو الله.
_________
(1) وأعجب العجب أن قوافل الثوار العراقيين
التي كانت متباعدة في الشرق عن قوافل الثوار
المصريين في الغرب عادتا معًا إلى المدينة في
آن واحد، أي أن قوافل العراقيين التي كانت
بعيدة مراحل متعددة عن قوافل المصريين ولا علم
لها بالرواية المسرحية التي مثلت في البويب
رجعت إلى المدينة من الشرق وقت رجوع المصريين
من الغرب ووصلتا إلى المدينة معًا كأنما كانوا
على ميعاد! ومعنى هذا أن اللذين استأجروا
الراكب ليمثل دور حامل الكتاب أمام قوافل
المصريين استأجروا راكبًا آخر خرج من المدينة
معه قاصدًا قوافل العراقيين ليخبرهم بأن
المصريين اكتشفوا كتابًا بعث به عثمان إلى عبد
الله بن سعد في مصر بقتل محمد بن أبي بكر. قال
الطبري (5: 105) : فقال لهم علي: ((كيف علمتم
يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل
مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا؟ هذا
والله أمر أبرم بالمدينة!)) (يشير كرم الله
وجهه إلى تخلف الأشتر وحكيم في المدينة،
وأنهما هما اللذان دبرا هذه المسرحية. قال
الثوار العراقيون بلسان رؤسائهم: ((فضعوه على
ما شئتم. لا حاجة لنا إلى هذا الرجل.
ليعتزلنا)) وهذا تسليم منهم بأن قصة الكتاب
مفتعلة، وأن الغرض الأول والأخير هو خلع أمير
المؤمنين عثمان وسفك دمه الذي عصمه الله
بشريعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1/127)
كتب فينا بكذا؟ وقد أحل الله دمه، قالوا
له: فقم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم،
قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت
إليكم، فنظر بعضهم إلى بعض (1) وخرج علي من
المدينة.
_________
(1) الطبري (5: 108) . وهذا الحوار بين علي
والثوار مجمع عليه في كل الروايات وهو نص قاطع
على أن اليد التي زورت الكتاب على عثمان وبعثت
إلى العراقيين تخبرهم بذلك وتطلب منهم أن
يعودوا إلى المدينة، هي اليد التي زورت على
علي كتابًا إلى الثوار العراقيين بأن يعودوا.
وقد قلنا في ص 125 أن الثوار فريقان - خادع
ومخدوع - فالذين نظر بعضهم إلى بعض عندما حلف
علي بأنه لم يكتب إليهم هم من الفريق المخدوع
يتعجب كيف لم يكتب علي إليهم وقد جاءهم كتابه.
ومن ذا الذي يكون قد كتب الكتاب على لسانه إذا
لم يكن هو الذي كتبه؟ وسيأتي في ص 136 أن
مسروق بن الأجدع الهمداني - وهو من الأئمة
الأعلام المقتدى بهم - عاتب أم المؤمنين عائشة
بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على
عثمان، فأقسمت له بالذي آمن به المؤمنون وكفر
به الكافرون أنها ما كتبت إليهم سوادًا في
بياض. قال سليمان بن مهران الأعمش - أحد
الأئمة الأعلام الحفاظ -: ((فكانوا يرون أنه
كتب على لسانها)) . أيها المسلمون في هذا
العصر وفي كل عصر، إن الأيدي المجرمة التي
زورت الرسائل الكاذبة على لسان عائشة وعلي
وطلحة والزبير هي التي رتبت هذا الفساد كله،
وهي التي طبخت الفتنة من أولها إلى آخرها، وهي
التي زورت الرسالة المزعومة على لسان أمير
المؤمنين عثمان إلى عامله في مصر في الوقت
الذي كان يعلم فيه أنه لم يكن له عامل في مصر،
وقد زورت هذه الرسالة على لسان عثمان بالقلم
الذي زورت به رسالة أخرى على لسان علي، كل ذلك
ليرتد الثوار إلى المدينة بعد أن اقتنعوا
بسلامة موقف خليفتهم، وأن ما كان قد أشيع عنه
كذب كله، وأنه كان يتصرف في كل أمر بما كان
يراه حقًا وخيرًا.
ولم يكن صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم
المبشر منه بالشهادة والجنة هو المجني عليه
وحده بهذه المؤامرة السبئية الفاجرة، بل
الإسلام نفسه كان مجنيًا عليه قبل ذلك.
والأجيال الإسلامية التي تلقت تاريخ ماضيها
الطاهر الناصع مشوهًا ومحرفًا هي كذلك ممن جنى
عليهم ذلك اليهودي الخبيث، والمنقادون له
بخطام الأهواء والشهوات.
(1/128)
فانطلقوا إلى عثمان فقالوا له: كتبت فينا
كذا. قال لهم إما أن تقيموا اثنين من
المسلمين، أو يميني - كما تقدم ذكره - فلم
يقبلوا ذلك منه (1) . ونقضوا عهده (2) وحصروه.
[وقائع ومحاورات
بين عثمان والبغاة عليه]
وقد روي أن عثمان جيء إليه بالأشتر، فقال له:
يريد القوم منك إما أن تخلع نفسك، أو تقص
منها، أو يقتلوك! فقال: أما خلعي فلا أترك أمة
محمد بعضها على بعض. وأما القصاص، فصاحباي
قبلي لم يقصا من أنفسهما، ولا يحتمل ذلك بدني
(3) .
وروي أن رجلًا قال له: نذرت دمك. قال: خذ
جبتي. فشرط فيها شرطة بالسيف أراق منه دمه، ثم
خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين (4) .
_________
(1) لأنهم ما جاءوا ليقبلوا حقًا أو يرجعوا
إلى شرع، وإنما جاءوا ليخلعوه أو يسفكوه دمه.
(2) الذي تقدم في ص 125 أنهم قطعوه على أنفسهم
بأن لا يشقوا عصًا ولا يفرقوا جماعة.
(3) هذا الخبر في تاريخ الطبري (5: 117 - 118)
، وفي البداية والنهاية (7: 184) ، وفي أنساب
الأشراف للبلاذري (5: 92) .
(4) هذا الخبر في كتاب (التمهيد) للإمام أبي
بكر الباقلاني ص 216. وأعجب من ذلك ما رواه
الطبري (5: 137 - 138) أن عمير بن ضابئ
البرجمي وكميل بن زياد النخعي حضرا إلى
المدينة ليغتالا عثمان تنفيذا لقرار اتخذوه في
الكوفة مع بقية عصابتهم، فلما وصلا إلى
المدينة نكل عمير، وترصد كميل للخليفة حتى مر
به، فلما التقيا ارتاب منه عثمان، ووجأ وجهه
فوقع على استه، فقال لعثمان: أوجعتنى يا أمير
المؤمنين، قال عثمان: أولست بفاتك؟! قال: لا
والله الذي لا إله إلا هو. فاجتمع الناس
وقالوا: نفتشه يا أمير المؤمنين فقال: لا. قد
رزق الله العافية، ولا أشتهي أن أطلع منه على
غير ما قال. ثم قال لكميل: ((إن كان كما قلت
فاقتد مني (وجثَا) فوالله ما حسبتك إلا
تريدني)) وقال: ((إن كنت صادقًا فأجزل الله،
وإن كنت كاذبًا فأذل الله)) وقعد له على قدميه
وقال ((دونك!)) فقال كميل: ((تركت)) . أيها
القارئ الكريم، إن هذا الموقف ليس موقف خليفة
فضلًا عمن دونه، بل هو موقف المتخلقين بأخلاق
الأنبياء. على أن الله يمهل ولا يهمل. فقد جاء
الحجاج بعد أربعين سنة فقتل ضابئًا وقتل كميلا
بما أراداه في هذا الحادث من الفتك برجل خلق
قلبه من رحمة الله، و (إن الله ليملي للظالم،
حتى إذا أخذه لم يفلته) .
(1/129)
[فتوى ابن عمر
لعثمان بألا يخلع نفسه لئلا تتخذ عادة]
ولقد دخل عليه ابن عمر، فقال [له عثمان] :
انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو
نقتلك، قال له [ابن عمر] : أمخلد أنت في
الدنيا؟ قال: لا، قال: هل يزيدون على أن
يقتلوك؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو
نارًا؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عنك،
فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو
قتلوه (1) .
_________
(1) أورد البلاذري هذا الخبر في أنساب الأشراف
(5: 76) من حديث نافع عن ابن عمر. وقبل أن
يفتي ابن عمر لخليفته بذلك ويدعوه إلى هذه
التضحية النبيلة كان عثمان على بينة من ذلك
ونور من الله، فقد أخرج ابن ماجه في مقدمة
سننه (رقم 112 الباب 11 ج ص 41) من حديث
النعمان بن بشير عن أم المؤمنين عائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: ((يا
عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يومًا فأرادك
المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا
تخلعه)) يقول ذلك ثلاث مرات. وفي مسند الإمام
أحمد (ج 6 الطبعة الأولى: ص 75 و 86 و 114 و
149) حديث عائشة هذا بألفاظ مختلفة يرويه عنها
ابن أختها عروة بن الزبير والنعمان بن بشير
وغيرهما.
(1/130)
[إشراف عثمان
على الناس واستشهاده إياهم بسوابقه]
وقد أشرف عليهم عثمان، واحتج عليهم بالحديث
الصحيح في بنيان المسجد وحفر بئر رومة، وقول
النبي صلى الله عليه وسلم حين رجف بهم أحد.
وأقروا له به في أشياء ذكرها (1) .
وقد ثبت أن عثمان أشرف عليهم وقال: أفيكم ابنا
محدوج؟ أنشدكما الله ألستما تعلمان أن عمر
قال: إن ربيعة فاجر أو غادر وإني والله لا
أجعل فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر،
وإنما مهر أحدهم عند طبيبه. وإني زدتهم في
غزاة واحد خمسمائة، حتى ألحقتهم بهم؟ قالوا:
بلى.
قال: أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما
أتيتماني فقلتما، إن كندة أكلة رأس، وإن ربيعة
هي الرأس، وإن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعه
واستعملتكما؟ قالا: بلى.
قال، اللهم إنهم كفروا معروفي، وبدلوا نعمتي،
فلا ترضهم عن
_________
(1) انظر في مسند الإمام أحمد (1: 59 الطبعة
الأولى رقم 420 الطبعة الثانية) حديث أبي سلمة
بن عبد الرحمن. وسنن النسائي (2: 124 - 125)
وجامع الترمذي (4: 319 - 320) * وفي مسند أحمد
(1: 70 الطبعة الأولى رقم 511 الطبعة الثانية
من حديث الأحنف بن قيس التميمي. وسنن النسائي
مطولًا ومختصرًا (2: 65 - 66 و 123 - 124) *
وفي تاريخ الطبري (5: 225) من حديث أبي سعيد
مولى أبي سيد الأنصاري.
(1/131)
إمامهم ولا ترض إمامًا عنهم.
[موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام
للأقدار]
وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت
مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى
أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه (1) .
ثم قال: قم يا ابن عمر - وعلى ابن عمر سيفه
متقلدًا - فأخبر به الناس (2) .
_________
(1) الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن
موقف عثمان من أمر
الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار، هو
أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء
المسلمين. إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو
كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون
عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول
إلى هذه النتيجة. وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها
عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند
الشام تكون رهن إشارته، فأبى أن يضيق على أهل
دار الهجرة بجند يساكنهم (الطبري 5: 101) .
وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه
المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر
إلى الله في سبيل دينه. فلما تذاءب عليه
البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء
جزافًا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن
يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف.
والأخبار بذلك مستفيضة في مصدر أوليائه
وشانئيه. على أنه لو ظهرت في الميدان قوة
منظمة ذات هيبة تقف في وجوه البغاة، وتضع حدًا
لغطرستهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو
مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدًا.
(2) في البداية والنهاية (7: 182) عن (مغازي
ابن عقبة) أن ابن عمر لم يلبس سلاحه إلا يوم
الدار في خلافة عثمان، ويوم أراد نجدة الحروري
أن يدخل المدينة مع الخوارج أيام عبد الله بن
الزبير.
(1/132)
فخرج ابن عمر و [الحسن بن] علي. ودخلوا
فقتلوه (1) .
[اعتزام الأنصار
الدفاع عن عثمان]
وجاء زيد بن ثابت فقال له: إن هؤلاء الأنصار
بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله [مرتين]
. قال [عثمان] لا حاجة بي في ذلك، كفوا (2) .
_________
(1) في تاريخ الطبري (5: 129) : كان آخر من
خرج عبد الله بن الزبير أمره عثمان أن يصير
إلى أبيه بوصيته التي كتبها استعدادًا للموت،
أمره أن يأتي أهل الدار (أي المدافعين عنه في
ساحة القصر) فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم.
فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم، فما زال يدعى
بها ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه،
وإنما أوصى عثمان إلى الزبير لأن الزبير كان
محل الثقة من كبار الصحابة. روى الحافظ ابن
عساكر (5: 362) أن سبعة من الصحابة أوصوا به:
عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود،
والمقداد، ومطيع بن الأسود، وأبو العاص بن
الربيع، فكان ينفق على أيتامهم من ماله، ويحفظ
لهم أموالهم.
(2) أورده البلاذري في أنساب الأشراف (5: 73)
من حديث ابن سيرين، وأخرج الحافظ ابن عساكر عن
مؤرخ الصدر الأول موسى بن عقبة الأسدي (الذي
قال فيه الإمام مالك: عليكم بمغازي ابن عقبة،
فإنه ثقة، وهي أصح المغازي) أن أبا حبيبة
الطائي (وهو ممن يروي عنهم أبو داود والنسائي
والترمذي) قال: لما حصر عثمان جاء بنو عمرو بن
عوف إلى الزبير فقالوا يا أبا عبد الله نحن
نأتيك ثم نصير إلى ما تأمرنا به (أي من الدفاع
عن أمير المؤمنين) قال أبو حبيبة: فأرسلنى
الزبير إلى عثمان فقال: أقرئه السلام وقل
((يقول لك أخوك: إن بني عمرو بن عوف جاءوني
ووعدوني أن يأتوني ثم يصيروا إلى ما أمرتهم
به. فإن شئت أن آتيك فأكون رجلًا من أهل الدار
يصيبني ما يصيب أحدهم، فعلت. وإن شئت انتظرت
ميعاد بني عمرو فأدفع بهم عنك فعلت)) قال أبو
حبيبة: فدخلت عليه - أي على عثمان - فوجدته
على كرسي ذي ظهر ووجدت رياطًا مطروحة ومراكن
مغلوة، ووجدت في الدار الحسن بن علي، وابن عمر
وأبا هريرة، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم،
وعبد الله بن الزبير، فأبلغت عثمان رسالة
الزبير، فقال: ((الله أكبر، الحمد لله الذي
عصم أخي. قل له: إنك إن تأت الدار تكن رجلًا
من المهاجرين، حرمتك حرمة رجل، وغناؤك غناء
رجل. ولكن انتظر ميعاد بني عمرو بن عوف فعسى
الله أن يدفع بك)) . قال: فقام أبو هريرة
فقال: أيها الناس، لقد سمعت أذناي رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول ((تكون بعدي فتن
وأحداث)) فقلت: وأين النجاء منها يا رسول
الله؟ قال: ((الأمير وحزبه)) وأشار إلى عثمان.
فقال القوم: ائذن لنا فلنقاتل، فقد أمكنتنا
البصائر. فقال [عثمان] : ((عزمت على أحد كانت
لي عليه طاعة ألا يقاتل)) . قال: فبادر - أي
سبق - الذين قتلوا عثمان ميعاد بني عمرو بن
عوف فقتلوه (وانظر الخبر مختصرًا في كتاب
((نسب قريش)) للزبيري ص 103) .
وبنو عمرو بن عوف قبيلة كبيرة من الخزرج، أحد
فرعي الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
عند وصوله إلى المدينة مهاجرًا من مكة نزل
ضيفًا عليهم ثلاثة أيام ثم انتقل إلى بني
النجار.
(1/133)
وقال له أبو هريرة: اليوم طاب الضرب معك.
قال: عزمت عليك لتخرجن (1) .
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده، فإنه
جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير
ومروان، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم،
ولزوم بيوتهم.
فقال له ابن الزبير ومروان: نحن نعزم على
أنفسنا لا نبرح. ففتح
_________
(1) هذا الخبر في تاريخ الطبري (5: 129) .
(1/134)
عثمان الباب ودخلوا عليه في أصح الأقوال
(1) .
فقتله المرء الأسود (2) .
وقيل: أخذ ابن أبي بكر بلحيته، وذبحه كنانة
(3) وقيل: رجل من أهل مصر يقال له حمار (4)
فسقطت قطرة من دمه على المصحف
_________
(1) أصل هذا الخبر في تاريخ الطبري (5: 128)
عن سيف بن عمر التميمي عن أشياخه.
(2) كذا في مطبوعة الجزائر. والذي في تاريخ
الطبري (5: 125) ((الموت الأسود)) ، والأصول
التي طبع عليها تاريخ الطبري أصح من الأصول
التي طبع عليها كتابنا في الجزائر، ومن الثابت
أن ابن سبأ كان من ثوار مصر عند مجيئهم من
الفسطاط إلى المدينة (الطبري 5: 103 - 104)
وهو في كل الأدوار التي مثلها كان شديد الحرص
على أن يعمل من وراء ستار، فلعل ((الموت
الأسود)) اسم مستعار له أراد أن يرمز به
ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام.
(3) هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي قائد
إحدى الفرق المصرية الأربع وكان قبل ذلك أحد
الذين التفوا بعمار بن ياسر في الفسطاط
ليجعلوه سبئيًا، وهو أول داخل إلى دار عثمان
بالشعلة من النفط ليحرق باب الدار، وهو الذي
اخترط السيف ليضعه في بطن أمير المؤمنين،
فوقته زوجته نائلة فقطع يدها واتكأ بالسيف
عليه في صدره، وكانت عاقبة التجيبي القتل
مخذولًا في المعركة التي نشبت في مصر بين محمد
بن أبي بكر وعمرو بن العاص سنة 38.
وقد تحرف ((كنانة)) في مطبوعة الجزائر برسم
((رومان)) ومطبوعة الجزائر كثيرة التحريف.
(4) لم أر هذا الاسم فيمن اجترءوا على ارتكاب
الجريمة العظمى، ولعل النساخ حرفوا اسم سودان
بن ((حمران)) ، أو اسم عمرو بن ((الحمق)) .
(1/135)
على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} [البقرة:
137] فإنها ما حكت إلى الآن.
[تزويرهم الكتب
على لسان عائشة]
وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((غضبت لكم
من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف!؟
استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقند المصفى،
ومصتموه موص الإناء، وتركتموه كالثوب المنقى
من الدنس ثم قتلتموه (1) .
قال مسروق (2) فقلت لها: ((عملك، كتبت إلى
الناس تأمرينهم بالخروج عليه)) . فقالت عائشة:
((والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما
كتبت إليهم سوادًا في بياض)) . قال الأعمش:
فكانوا يرون أنه كتب على لسانها (3) .
وقد روي أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل
مصر.
قال القاضي أبو بكر (رحمه الله) : فهذا أشبه
ما روي في الباب وبه يتبين - وأصل المسألة
سلوك سبيل الحق - أن أحدًا من الصحابة لم يسع
عليه، ولا قعد عنه. ولو استنصر ما غلب ألف أو
أربعة آلاف غرباء عشرين
_________
(1) قالت ذلك أول مرة عند وصولها إلى المدينة
عائدة من الحج، فاجتمع إليها الناس وخطبت فيهم
خطبة بليغة وردت هذه الجملة في آخرها (الطبري
5: 165 -166) . والموص: الغسل بالأصابع.
والقند: عسل قصب السكر إذا جمد.
(2) هو من أئمة التابعين المقتدى بهم، توفي
سنة 63. وهو الذي قال لعمار بالكوفة قبل يوم
الجمل: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال:
على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. فقال مسروق:
والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن
صبرتم لكان خيرًا للصابرين (الطبري 5: 187) .
(3) كما كتب على لسان علي ولسان عثمان.
(1/136)
ألفًا بلديين أو أكثر من ذلك، ولكنه ألقى
بيده إلى المصيبة (1) .
[الحكم الفقهي في
موقف عثمان من الدفاع عنه أو الاستسلام]
وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها: هل يلقي
بيده، أو يستنصر (2) ؟ وأجاز بعضهم أن يستسلم
ويلقي بيده اقتداء بفعل عثمان وبتوصية النبي
صلى الله عليه وسلم بذلك في الفتنة (3) .
قال القاضي أبو بكر (رحمه الله) : ولقد حكمت
بين الناس فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض
منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على
الفسقة الكرب،
_________
(1) لأنه اختار بذلك أهون الشرين فآثر التضحية
بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء
المسلمين، وعثمان افتدى دماء أمته بدمه
مختارًا فما أحسن الكثيرون منا جزاءه، وإن
أوربا وأمريكا تعبدان بشرًا بزعم الفداء ولم
يكن فيه مختارًا.
(2) من سياسة الإسلام أن يختار المرء في كل
حالة أقلها شرًا وأخفها ضررًا، فإذا كانت
للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته
فالإسلام يهدي إلى قمع الشر بقوة الخير بلا
تردد. وإن لم يكن للخير قوة غالبة تقمع الشر
وتضيق دائرته - كما كانت الحال في موقف أمير
المؤمنين عثمان من البغاة عليه - فمصلحة
الإسلام في مثل ما جنح إليه عثمان أعلى الله
مقامه في دار الخلود.
(3) وهو قوله صلى الله عليه وسلم على ما رواه
الإمام البخاري في كتاب المناقب (ك 61 ب 25 -
ج 4 ص 177) وفي كتاب الفتن (ك 92 ب 9 - ج 8 ص
92) من صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ((ستكون فتن القاعد فيها خير
من القائم، والقائم فيها خير من الماشي،
والماشي فيها خير من الساعي. ومن يشرف لها
تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به)) .
وأعلن أبو موسى الأشعري في الكوفة قبل وقعة
الجمل أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه
وسلم (الطبري 5: 188) .
(1/137)
فتألبوا وألبوا، وثاروا إلي، فاستسلمت لأمر
الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري،
وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا علي، وأمسيت
سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت
قتيل الدار (1) .
[اقتداء المؤلف
بعثمان في مثل موقفه]
وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها
وصاية النبي صلى الله عليه وسلم المتقدمة (2)
والثاني الاقتداء بعثمان، الثالث سوء الأحدوثة
التي فر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم
المؤيد بالوحي (3) . فإن من غاب عني، بل من
حضر من الحسدة معي، خفت أن يقول: إن الناس
مشوا إليه مستغيثين به فأراق دماءهم.
وأمر عثمان كله سنة ماضية، وسيرة راضية. فإنه
تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك، وأنه
بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد (4) .
وروي أنه قال له في المنام: إن شئت نصرتك، أو
تفطر عندنا الليلة (5) .
_________
(1) أشرنا إلى ظروف هذا الحادث في ترجمة
المؤلف أول هذا الكتاب (ص 26) .
(2) وقد نقلناها آنفًا من حديث أبي هريرة في
صحيح البخاري، ومن حديث أبي موسى في الكوفة
قبل وقعة الجمل.
(3) وذلك لما قال ابن سلول في غزوة بني
المصطلق ((إذا رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل)) ، فأراد عمر أن يقتله فمنعه
النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((لا يتحدث
الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) .
(4) تقدم بيان ذلك في ص 55 و 56.
(5) هذه الرواية لابن أبي الدنيا من حديث عبد
الله بن سلام في البداية والنهاية (7: 182 -
183) ، ومن طريق آخر عنه في أنساب الأشراف
للبلاذري (5: 82) وفي مسند أحمد (1: 72 الطبعة
الأولى، رقم 526 الثانية) من حديث مسلم أبي
سعيد مولى عثمان قال: إن عثمان أعتق عشرين
مملوكًا، ودعا بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها
في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام
ورأيت أبا بكر وعمر، إنهم قالوا لي: ((اصبر،
فإنك تفطر عندنا القابلة)) . ثم دعا بمصحف
فنشره بين يديه، فقتل وهو بين يديه. وروى
الإمام أحمد هذا الحديث عن نائلة زوجة عثمان
(1: 73 رقم 536) بقريب من هذا. وفي البداية
والنهاية (7: 182) من حديث أيوب السختياني عن
نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومن طرق
أخرى متعددة. وانظر تاريخ الطبري (5: 125) .
(1/138)
[تشويه أخبار
الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد
الأخبار]
وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن
كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبًا مؤلبًا،
وبما جرى عليه راضيًا. واخترعوا كتابًا فيه
فصاحة وأمثال كتب عثمان به مستصرخًا إلى علي.
وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على
السلف الماضين والخلفاء الراشدين (1) .
قال القاضي أبو بكر: فالذي ينخل من ذلك أن
عثمان مظلوم،
_________
(1) هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها
أو المكذوبة شحنت بها أسفار الأخبار وكتب
الأدب. ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان:
أحدهما طريق أهل الحديث في ألا يقبلوا إلا
الأخبار المسندة إلى أشخاص بأسمائهم ثم
يستعرضون أحوال هؤلاء الأشخاص فيقبلون من
صادقهم، ويضربون وجه الكذاب بكذبه. والطريق
الثاني طريق علماء التاريخ وهو أن يعرضوا كل
خبر على سجيا من يخبر عنه، ويقارنوه بسيرته،
وهل هو ممن ينتظر وقوعه ممن نسب إليه ويلائم
المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا. وتمحيص
تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقتين معا يقوم
بهما علماء راسخون فيهما.
(1/139)
محجوج بغير حجة (1) . وأن الصحابة برآء من
دمه بأجمعهم، لأنهم أتوا إرادته وسلموا له
رايه في إسلام نفسه.
[تشويه أخبار
الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد
الأخبار]
ولقد ثبت - زائدًا إلى ما تقدم عنهم - أن عبد
الله بن الزبير قال لعثمان: إنا معك في الدار
عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم. فأذن لنا.
فقال: أذكر الله رجلًا أراق لي دمه (أو قال
دمًا) (2) .
وقال سليط بن أبى سليط: نهانا عثمان عن
قتالهم، فلو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم عن
أقطارها (3) .
_________
(1) كما تبين في هذا الكتاب بأسانيده القاطعة
وانظر كتاب (التمهيد) للإمام أبي بكر
الباقلاني (ص 220 - 227) .
(2) ولما بدأ حجاج بيت الله يعودون إلى
المدينة كان أول المسرعين منهم المغيرة بن
الأخنس بن شريق الثقفي الصحابي، فأدرك عثمان
قبل أن يقتل، وشهد المناوشة على باب دار
عثمان، فجلس على الباب من داخل وقال: ما عذرنا
عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى
نموت. وكان أول من برز للبغاة المهاجمين وقاتل
حتى قتل. وخرج معه لقتالهم الحسن بن علي بن
أبي طالب وهو يقول في تسفيه عمل البغاة:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى
طمار شمام
أي: إلى جبل أشم لا ينجو من سقط منه. وخرج
معهما محمد بن طلحة بن عبيد الله - وكان يعرف
بالسجاد لكثرة عبادته - وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزابا على
رغم معد
انظر تاريخ الطبري (5: 128 - 129) .
(3) رواه الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب
(2: 118 - 119 هامش الإصابة) من حديث ابن
سيرين عن سليط. وأورده الحافظ ابن حجر مختصرًا
في الإصابة (2: 72) .
(1/140)
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنت مع
عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن
لي عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن
أفضلكم غناءً من كف يده وسلاحه (1) .
وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر
ومروان كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار،
فقال عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم
أسلحتكم ولزمتم بيوتكم (2) .
_________
(1) وفي تاريخ الطبري (5: 127) أن عثمان دعا
عبد الله بن عباس فقال له: اذهب فأنت على
الموسم (أي على إمارة الحج) فقال ابن عباس:
"والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحب إلي
من الحج". فأقسم عليه لينطلقن، فانطلق ابن
عباس على الموسم تلك السنة.
(2) وفي البداية والنهاية (7: 181) : كان
الحصار مستمرًا من أواخر ذي القعدة إلى يوم
الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة. فلما كان قبل
ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من
المهاجرين والأنصار - وكانوا قريبًا من
سبعمائة، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن
الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق
من مواليه ولو تركهم لمنعوه -: ((أقسم على من
لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله))
قال لرقيقه ((من أغمد سيفه فهو حر)) ، فبرد
القتال من داخل، وحمي من خارج. حتى كانت
الساعة التي تم فيها للشيطان ما سعى له وتمناه
فانتدب للخليفة رجل من البغاة فدخل عليه البيت
فقال: اخلعها وندعك، فقال: ((ويحك)) والله ما
كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت،
ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعًا
قميصًا كسانيه الله عز وجل. وأنا على مكاني
حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاء
(الطبري 5: 130) . ويكفي لبيان ما كان لهذه
الفاجعة الكبرى من الأثر في النفوس ما نقله
البلاذري في أنساب الأشراف (5: 103) عن
المدائني عن سلمة بن عثمان عن علي بن زيد عن
الحسن قال: دخل علي يومًا على بناته وهن يمسحن
عيونهن فقال: ما لكن تبكين؟ قلن: نبكي على
عثمان. فبكى وقال: ابكين. . . . .
(1/141)
[المدينة في
حكم الإرهابيين خمسة أيام بلا خليفة ثم بويع
عليّ]
فلما قضى الله من أمره ما قضى، ومضى في قدره
ما مضى، علم أن الحق لا يترك الناس سدى، وأن
الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم
النظر فيه. ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدرًا
وعلمًا وتقى ودينًا، فانعقدت له البيعة. ولولا
الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من
الأوباش ما لا يرقع خرقه. ولكن عزم عليه
المهاجرون والأنصار، ورأى ذلك فرضًا عليه،
فانقاد إليه (1) .
_________
(1) في تاريخ الطبري (5: 155) عن سيف بن عمر
التميمي عن أشياخه قالوا: بقيت المدينة بعد
قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب
يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا
يجدونه: يأتي المصريون عليًّا فيختبئ منهم
ويلوذ بحيطان المدينة (أي يختبئ في بساتينها)
فإذا لقوه باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد
مرة. ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه.
فأرسلوا إليه حيث هو رسلا فباعدهم وتبرأ من
مقالتهم. . . فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص
وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع.
فأقدم نبايعك. فبعث إليهم: وإني وابن عمر
خرجنا منها، فلا حاجة لي فيها. ثم إنهم أتوا
ابن عمر عبد الله فقالوا: أنت ابن عمر فقم
بهذا الأمر. فقال: إن لهذا الأمر انتقامًا،
والله لا أتعرض له فالتمسوا غيري. وأخرج
الطبري (5: 156) عن الشعبي قال: أتى الناس
عليًّا وهو في سوق المدينة وقالوا له: ابسط
يدك نبايعك. قال: لا تعجلوا، فإن عمر كان
رجلًا مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا
يجتمع الناس ويتشاورون. فارتد الناس عن علي.
ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل
عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن
اختلاف الناس وفساد الأمة. فعادوا إلى علي،
فأخذ الأشتر بيده، فقبضها علي. فقال: أبعد
ثلاثة؟ أما والله لئن تركتها لتعصرن عينيك
عليها حينًا. فبايعته العامة. وأهل الكوفة
يقولون: أول من بايعه الأشتر. وروى سيف عن أبي
حارثة محرز العبشمي وعن أبي عثمان يزيد بن
أسيد الغساني قالا: لما كان يوم الخميس -على
رأس خمسة أيام من مقتل عثمان- جمعوا أهل
المدينة، فوجدوا سعدا والزبير خارجين ووجدوا
طلحة في حائط له. . . فلما اجتمع لهم أهل
المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى
وأنتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر على الأمة،
فانظروا رجلًا تنصبونه ونحن لكم تبع. فقال
الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون. . .
فقال علي: دعوني والتمسوا غيري. . . فقالوا:
ننشدك الله، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف الله؟
فقال: إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن
تركتموني، فإنما أنا كأحدكم، إلا أني أسمعكم
وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، ثم افترقوا على
ذلك واتعدوا الغد (أي يوم الجمعة) : فلما
أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، جاء
علي حتى صعد المنبر فقال: ((يا أيها الناس عن
ملأ وأذن. إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا
أن أمرتم. وقد افترقنا بالأمس على أمر. فإن
شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد)) فقالوا
((نحن على ما فارقناك عليه بالأمس)) . وهذه
الوقائع على بساطتها تدل على أن بيعة علي كانت
كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدرها وفي
إبانها، وأنها مستمدة من رضا الأمة في حينها،
لا من وصية سابقة مزعومة، أو رموز خيالية
موهومة.
(1/142)
[قولهم في بيعة
طلحة يد شلاء وفي طلحة والزبير بايعا مكرهين]
وعقد له البيعة طلحة، فقال الناس: بايع عليًّا
يد شلاء، والله لا يتم هذا الأمر (1) .
فإن قيل: بايعا مكرهين (2) . قلنا: حاشا لله
أن يكرها، لهما ولمن
_________
(1) قائل هذه الكلمة حبيب بن ذؤيب. رواه
الطبري (5: 153) عن أبي المليح الهذلي.
(2) يعني طلحة والزبير.
(1/143)
بايعهما. ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن
واحدًا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن
بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك
شرعًا. ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا
في بيعة الإمام (1) .
وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم، فذلك ظن من
القائل أن طلحة أول من بايع، ولم يكن كذلك (2)
.
فإن قيل: فقد قال طلحة: ((بايعت واللج على
قفي)) (3) . قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد
أن يجعل في ((القفا)) لغة ((قفي)) كما يجعل في
((الهوى)) : ((هوي)) وتلك لغة هذيل لا قريش
(4) فكانت كذبة لم تدبر.
وأما قولهم ((يد شلاء)) لو صح فلا متعلق لهم
فيه، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل
_________
(1) القاضي ابن العربي يقرر هنا الحكم الشرعي
في عقد البيعة، لا على أنه رأي له. وللإمام
أبي بكر الباقلاني كلام سديد في (التمهيد) ص
231. وانظر ص 167 - 169 من كتاب (الإمامة
والمفاضلة) لابن حزم المدرج في الجزء الرابع
من كتابه (الفصل) .
(2) وقد علمت أن أهل الكوفة يقولون إن الأشتر
كان أول من بايع. ولو كانت يد طلحة هي الأولى
في البيعة لكانت أعظم بركة، لأنها يد دافعت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويد الأشتر لا
تزال رطبة من دم إمامه الشهيد المبشر بالجنة.
(3) أي: والسيف على قفاي، لحالة الإرهاب التي
كانت سائدة على المدينة بعد مقتل أمير
المؤمنين عثمان.
(4) بل هي أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل، فقد
قال ابن الأثير في النهاية (مادة لجج) أنها
لغة طائية، يشددون ياء المتكلم.
(1/144)
مكروه (1) . وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ
القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك
فاخترع ما هو حجة عليه.
فإن قيل: بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان.
قلنا: هذا لا يصح في
_________
(1) كان طلحة من العصابة الذين بايعوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم على الموت يوم أحد
حين انهزم المسلمون، فصبروا ولزموا. ورمى مالك
بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله
عليه وسلم - وكان لا يخطئ رميه - فاتقاه طلحة
بيده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان
ذلك سبب الشلل في يده من خنصره. وأقبل رجل من
بني عامر يجر رمحًا على فرس كميت أغر مدججًا
من الحديد يصيح: أنا أبو ذات الودع دلوني على
محمد. فضرب طلحة عرقوب فرسه، فاكتسعت. ثم
تناول رمحه فلم يخطئ به عن حدقته، فخار كما
يخور الثور، فما برح طلحة واضعًا رجله على خده
حتى مات. قالت بنتاه - عائشة وأم إسحاق -: جرح
أبونا يوم أحد أربعًا وعشرين جراحة في جميع
جسده، وقد غلبه الغشي، وهو مع ذلك محتمل رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين كسرت رباعيتاه
يرجع به القهقرى، كلما أدركه أحد من المشركين
قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب. فكان النبي
صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى طلحة: ((من
أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض
فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)) رواه أبو نعيم
الأصبهاني. وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال:
ذاك يوم كان يوم طلحة. وسمع علي بن أبي طالب
رجلًا يقول بعد يوم الجمل: ومن طلحة؟ فزبره
علي وقال: إنك لم تشهد يوم أحد، لقد رأيته
وإنه ليحترس بنفسه دون رسول الله صلى الله
عليه وسلم وإن السيوف لتغشاه وإن هو إلا جنة
بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرج
الحافظ ابن عساكر (7: 78) من طريق ابن مندة عن
طلحة قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم أحد (طلحة الخير) ، وفي غزوة العسرة (طلحة
الفياض) ويوم حنين (طلحة الجود) .
(1/145)
شرط البيعة، وإنما يبايعونه على الحكم
بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر
المطلوب، وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم
البينة، ويقع الحكم. فأما على الهجم عليه بما
كان من قول مطلق، أو فعل غير محقق، أو سماع
كلام، فليس ذلك في دين الإسلام (1) .
قالت العثمانية: تخلف عنه من الصحابة جماعة،
منهم سعد بن أبي
_________
(1) وانظر (التمهيد) للباقلاني ص 231 و 235 و
236: وحقيقة موقف علي من قتلة عثمان عند
البيعة له كانوا هم المسئولين على زمام الأمر
في المدينة وفي حالة الإرهاب التي كانت سائدة
يومئذ لم يكن في استطاعة علي ولا غيره أن يقف
منهم مثل موقف الصحابة من عبيد الله بن عمر
لما قتل الهرمزان. مع الفارق العظيم بين دم
أمير المؤمنين الخليفة الراشد، والأسير الحربي
المجوسي الذي قال إنه أسلم بعد وقوعه في
الأسر. ولما انتقل علي من المدينة إلى العراق
ليكون على مقربة من الشام انتقل معه قتلة
عثمان ولا سيما أهل البصرة والكوفة منهم، فلما
صاروا في بصرتهم وكوفتهم في معقل قوتهم
وعنجهية قبائلهم، ولا شك أن عليًّا أعلن
البراءة منهم وأراد أن يتفق مع أصحاب الجمل
على ما يمكن الاتفاق عليه في هذا الشأن، فأنشب
قتلة عثمان القتال بين معسكر علي ومعسكر أصحاب
الجمل، وتمكن أصحاب الجمل من قتل البصريين من
قتلة عثمان إلا واحدا من بني سعد بن زيد مناة
بن تميم حمته قبيلته، فلما اتسعت الأمور وسفكت
الدماء كان علي في موقف يحتاج فيه إلى بأس
هؤلاء المعروفين بأنهم من قتلة عثمان وفي
مقدمتهم الأشتر وأمثاله، وأن كثيرين منهم
انقلبوا على علي بعد ذلك وخرجوا عليه معتقدين
كفره. ويقول علماء السنة والمؤرخون: إن الله
كان بالمرصاد لقتلة عثمان، فانتقم منهم بالقتل
والنكال واحدًا بعد واحد، حتى الذين طال بهم
العمر إلى زمن الحجاج كانت عاقبتهم سفك دمائهم
جزاء بما قدمت أيديهم والله أعدل الحاكمين.
(1/146)
وقاص، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وأسامة بن
زيد وسواهم من نظرائهم.
قلنا: أما بيعته فلم يتخلف عنها. وأما نصرته
فتخلف عنها قوم منهم من ذكرتم، لأنها كانت
مسألة اجتهادية، فاجتهد كل واحد وأعمل نظره
وأصاب قدره (1) . |