العواصم من القواصم - ط الأوقاف السعودية [قاصمة]
[حرب صفين ودعوى
الفريقين وما اخترع في ذلك من أكاذيب]
قاصمة
ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق (1)
هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة
على الإمام، وهؤلاء يدعون إلى التمكين من قتلة
عثمان ويقولون: لا نبايع من يؤوي القتلة (2) .
_________
(1) في موضع يسمى (صفين) بقرب الرقة على شاطئ
الفرات آخر تخوم العراق وأول أرض الشام. سار
إليها علي بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36.
(2) لمّا انتهى علي من حرب الجمل وسار من
البصرة إلى الكوفة فدخلها يوم الاثنين 12 من
رجب، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية
في دمشق يدعوه إلى طاعته. فجمع معاوية رءوس
الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام
واستشارهم فيما يطلب علي، فقالوا: لا نبايعه
حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلمهم إلينا. فرجع
جرير إلى علي بذلك، فاستخلف علي على الكوفة
أبا مسعود عقبة بن عامر وخرج منها فعسكر
بالنخيلة أول طريق الشام من العراق، وقد أشار
عليه ناس بأن يبقى في الكوفة ويبعث غيره إلى
الشام فأبى. وبلغ معاوية أن عليا تجهز وخرج
بنفسه لقتاله فأشار عليه رجاله أن يخرج هو
أيضا بنفسه، فخرج الشاميون نحو الفرات من
ناحية صفين، وتقدم علي بجيوشه إلى تلك الجهة.
وكان جيش علي في مائة وعشرين ألفا وجيش معاوية
في تسعين ألفا، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة
36 بمناوشات ومبارزات، ثم تهادنوا في المحرم
سنة 37 واستؤنف القتال بعده، وقتل في هذه
الحرب سبعون ألفا، وكانت الوقائع 90 وقعة في
110 أيام، وامتازت هذه الحرب بنبل الشجاعة في
القتال، ونبل التعامل والاتصال عند التهادن
والراحة. ثم كتب التحكيم يوم 13 صفر سنة 37
على أن يعلن الحكمان حكمهما في رمضان بدومة
الجندل بمكان منها يسمى أذرح.
(1/162)
وعلي يقول لا أمكن طالبًا من مطلوب ينفذ
فيه مراده بغير حكم ولا حاكم. ومعاوية يقول:
لا نبايع متهمًا أو قاتلًا له، وهو أحد من
يطلب فكيف نحكمه أو نبايعه، وهو خليفة عدا
وتسور.
وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى استفعال
رسائل (1) واستخراج أقوال، وإنشاء أشعار، وضرب
أمثال تخرج عن سيرة السلف، يقرها الخَلْف
وينبذها الخَلَف (2) .
_________
(1) أي انتحالها زورا ولا أصل لها. وأكثر ما
تجد ذلك فيما يرويه أخباريو الشيعة عن رواة
مجهولين أو كذابين. وأخفهم وطأة أبو مخنف لوط
بن يحيى، قال عنه الحافظ الذهبي: " أبو مخنف
أخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم
وغيره". وقال فيه ابن عدي: "شيعي محترق صاحب
أخبارهم" ثم جاء بعده آخرون منهم كانوا شرا
على تاريخ الإسلام من لوط هذا. فأفسدوا على
الأمة معرفتها بماضيها.
(2) الخَلْف (بفتح الخاء وسكون اللام) :
الطالح. وفي التنزيل (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) .
والخَلَف (بفتح الخاء واللام) : الصالح. ومنه
الحديث "يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله،
ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين،
وتأويل الجاهلين ".
(1/163)
[عاصمة عود إلى
موقف علي من قتلة عثمان]
عاصمة أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعًا،
وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعًا، وأما
الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح
أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن
يخرج عليه، بل يطلب [الحق] عنده، فإن ظهر له
قضاء وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه.
وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له
عذر في الدنيا (1) .
_________
(1) وجود قتلة عثمان في معسكر علي حقيقة لا
يماري أحد فيها، بل إن الأشتر وهو من رءوس
البغاة على عثمان كان أكبر مسعر للحرب بين
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين في
معسكر علي والذين في معسكر معاوية. ولما طالب
علي معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن
يبايعوه احتكموا إليه في قتلة عثمان وطلبوا
منه أن يقيم حد الله عليهم أو أن يسلمهم إليهم
فيقيموا عليهم حد الله. وقد اعتذرنا عن أمير
المؤمنين علي في هامش ص146 بأن قتلة عثمان لما
صاروا مع علي في العراق صاروا في معقل قوتهم
وعنجهية قبائلهم، فكان علي يرى- بينه وبين
نفسه- أن قتلهم يفتح عليه بابا لا يستطيع سده
بعد ذلك. وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي
الجليل القعقاع بن عمرو التميمي وتحدث بها مع
أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله صلى الله
عليه وسلم طلحة والزبير فأذعنوا له وعذروا
عليا ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم
إلى الخروج من هذه الفتنة، فما لبث قتلة عثمان
أن أنشبوا الحرب بين الفريقين. فالمطالبون
بإقامة حد الله على قتلة عثمان معذورون لأنهم
يطالبون بحق، سواء كانوا من أصحاب الجمل، أو
من أهل الشام. وتقصير علي في إقامة حد الله
كان عن ضرورة قائمة ومعلومة. ولكن إذا كانت
حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب
بين الفريقين الأولين، فقد كان من مصلحة
الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين
الآخرين. وكان سبط رسول الله صلى الله عليه
وسلم الحسن بن علي كارها خروج أبيه من المدينة
إلى العراق لما يخشاه من نشوب الحرب مع أهل
الشام، وهم جبهة الإسلام العسكرية في الجهاد
والفتوح. ولو أن عليا لم يتحرك من الكوفة
استعدادا لهذا القتال لما حرك معاوية ساكنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2:
219) : "لم يكن معاوية ممن يختار الحرب
ابتداء" وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال 249
و251 و262. ومع ذلك فإن هذه الحرب المثالية هي
الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى
فيها المتحاربان معا على مبادئ الفضائل التي
يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو
في القرن الحادي والعشرين. وإن كثيرا من قواعد
فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا
وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة.
(1/164)
ولئن اتهم علي بقتل عثمان فليس في المدينة
أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا
وهو متهم به، أو قل معلوم قطعًا أنه قتله لأن
ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين
ألفًا (1) .
_________
(1) ليس في أهل السنة رجل واحد يتهم عليا بقتل
عثمان، لا في زماننا ولا في زمانه. وقد مضى
الكلام على ذلك في هذا الكتاب. وكل ما في
الأمر وجود قتلة عثمان مع علي، وموقف علي
منهم، وعذره بينه وبين الله في موقفه هذا.
فنحن جميعا على رأي القعقاع بن عمرو بأن موقف
علي موقف ضرورة. غير أن الحمقى من إخباري
الشيعة دسوا على علي أخبارا تشعر بغير ما كان
في قلبه من المحبة والرضا والموالاة والتأييد
لعثمان أثناء محنته، فأساءوا بذلك إلى علي من
حيث يريدون الإساءة إلى عثمان. أما معاوية
وفريقه فلم يذكروا عليا في أمر البغي على
عثمان إلا لمناسبة انضواء قتلة عثمان إليه
واستعانته بهم. فقتلة عثمان هم الذين أساءوا
إلى الإسلام وإلى عثمان وإلى علي أيضا. فالله
حسيبهم. ولو أن كل المسلمين كانوا كعبد الرحمن
بن خالد بن الوليد في حزمه- قبل أن تستفحل
الفتنة ويفلت الزمام من أيدي العقلاء- لما
وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
(1/165)
وهبك أن عليًّا وطلحة والزبير تضافروا على
قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين
والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا
بالقعود عن نصرته؟
ولا يخلو أن يكون لأنهم رأوا أولئك طلبوا حقًا
وفعلوا حقًا، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا
كلام لأهل الشام. وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء
بالدين، وأنهم لم يكن لهم رأي في الحال، ولا
مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجري فيه من
اختلال، فهي ردة ليست معصية. لأن التهاون
بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع
كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أو يتعدوا
حد عثمان وإشارته فأي ذنب لهم فيه؟ وأي حجة
لمروان - وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين
وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره يدخلون
إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح -
والطالبون ينظرون؟ ولو كان لهم بهم قوة أو
أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحدًا أن يراه
منهم ولا يداخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام
في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر
وعبد الله بن الزبير ما جسروا، ولو قتلوهم ما
بقي على الأرض منهم حي.
ولكن عثمان سلم نفسه، فترك ورأيه. وهي مسألة
اجتهاد كما قدمنا (1) .
_________
(1) في ص 137، وانظر هامش ص 132.
(1/166)
وأي كلام كان يكون لعلي - لما تمت له
البيعة - لو حضر عنده ولي عثمان وقال له: إن
الخليفة قد تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه،
وهم معلومون. ماذا كان يقول إلا: اثبت، وخذ،
وفي يوم كان يثبت إلا أن يثبتوا هم أن عثمان
كان مستحقًا للقتل (1) .
وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان
يثبت على عثمان ظلم أبدًا، وكان يكون الوقت
أمكن للطالب، وأرفق في الحال، أيسر وصولًا إلى
المطلوب (2) .
_________
(1) المؤلف معترف بأن الإثبات كان في متناول
اليد، لأن الجريمة مشهودة والمجرمون أعلنوا
فيها فجورهم فلم يتكتموا. ولكن كيف يكون
التنفيذ، ومن الذي يقوم به ومدينة الرسول
مستكينة تحت وطأة الإرهاب؟ ومن ذا الذي يضمن
لعلي حياته إذا أصدر هذا الحكم؟ أليس هؤلاء هم
الذين تداولوا في قتله لما عقدوا مؤتمرهم في
ذي قار بعد خطبة علي التي ألقاها على الغرائر
قبيل مصيره إلى البصرة (الطبري 5: 165) ألم
يسخط الأشتر على أمير المؤمنين علي بعد وقعة
الجمل لأنه ولى ابن عمه عبد الله بن عباس على
البصرة ولم يولها الأشتر، ففارقه غاضبًا، ولحق
به علي فتلافى ما يكون منه من الشر (الطبري 5:
194) ، وانظر هامش 119 من هذا الكتاب) .
والخوارج على علي ألم ينبتوا من هذه النواة؟
ولما قتل علي ألم يقتل بمثل السلاح الذي قتل
به عثمان؟ .
(2) كان يكون الوقت أمكن للطالب لو وجدت في
المدينة القوة التي كان يتمناها عثمان. ويقال
إن قوة من جند الشام كانت خرجت من دمشق قاصدة
المدينة، فلما جاءها خبر شهادة أمير المؤمنين
عثمان رجعت من الطريق، فبقيت المدينة خاضعة
لقتلة عثمان حتى بعد البيعة لعلي، وهم إن
نزلوا على أحكام هذه البيعة فيما لا ضرر منه
عليهم لا ريب أنهم ينقلبون وحوشًا ضارية لو
صدرت عليهم أحكام الله بإقامة الحدود فيما
ارتكبوا من جرم شنيع.
(1/167)
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما
صار إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة
عثمان أحدًا إلا بحكم، إلا من قتل في حرب
بتأويل، أو دس عليه فيما يقال (1) . حتى انتهى
الأمر إلى زمن الحجاج، وهم يقتلون بالتهمة لا
بالحقيقة (2) . فتبين لكم أنهم ما كانوا في
ملكهم يفعلون ما أصبحوا له يطلبون.
والذي تثلج به صدوركم أن النبي صلى الله عليه
وسلم ذكر في الفتن وأشار وبين، وأنذر بالخوارج
وقال: «تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» (3)
فبين أن كل طائفة [منهما] تتعلق بالحق، ولكن
طائفة علي أدنى إليه (4) . وقال تعالى:
_________
(1) إن سطوة الله وعدله الأعلى نزلا بأكثر
قتلة عثمان فلم يبق منهم في ولاية معاوية إلا
المشرد الخائف الباحث عن حجر يختبئ فيه،
وبزوال سطوتهم وتقليص شرهم فلم يبق بمعاوية
حاجة إلى تتبعهم.
(2) يشير المؤلف إلى حادثة عمير بن ضابئ وكميل
النخعي، وقد تقدم خبرهما في (ص 129 - 130) .
(3) في صحيح مسلم (ك 12 ج 150 - ج 3 ص 113) من
حديث أبي سعيد الخدري: ((تمرق مارقة عند فرقة
من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)) .
(4) أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن
عليًّا ومعاوية، ومن معها من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانوا جميعًا من أهل الحق،
وكانوا مخلصين في ذلك. والذي اختلفوا فيه إنما
اختلفوا عن اجتهاد، كما يختلف المجتهدون في كل
ما يختلفون فيه. وهم - لإخلاصهم في اجتهادهم -
مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ، وثواب
المصيب أضعاف ثواب المخطئ، وليس بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم بشر معصوم عن أن يخطئ وقد
يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى، وكذلك
الآخرون. أما من مرق عن الحق في إثارة الفتنة
الأولى على عثمان فلا يعد من إحدى الطائفتين
اللتين على الحق وإن قاتل معها والتحق بها،
لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم
بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان -
كائنًا من كانوا - استحقوا إقامة الحد الشرعي
عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم
هذا الحد أو لم يستطع. وفي حالة عدم استطاعته
فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين
كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي -
كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها - يعد إصرارًا
منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على
ذلك، فإذا قلنا إن الطائفتين كانتا من أهل
الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم الذين كانوا في الطائفتين ومن سار
معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من
التابعين، ونرى أن عليًّا المبشر بالجنة أعلى
مقامًا عند الله من معاوية خال المؤمنين وصاحب
رسول رب العالمين، وكلاهما من أهل الخير. وإذا
اندس فيهم طوائف من أهل الشر فإن من يعمل
مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا
يره. نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية
(7: 277) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم
الشعباني قاضي إفريقية المتوفى سنة 56 كان
رجلًا صالحًا من الآمرين بالمعروف - وذكر أهل
صفين - فقال: ((كانوا عربًا يعرف بعضهم بعضًا
في الجاهلية، فالتقوا في الإسلام معهم على
الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا، واستحيوا من
الفرار، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر
هؤلاء وهؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم
فيدفنونهم)) ، قال الشعبي: ((هم أهل الجنة،
لقي بعضهم بعضًا، فلم يفر أحد من أحد)) .
(1/168)
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] فلم يخرجهم عن
((الإيمان)) بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم اسم
((الأخوة))
(1/169)
بقوله بعده {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}
[الحجرات: 10]
وقال صلى الله عليه وسلم في عمار: «تقتله
الفئة الباغية» (1) .
وقال في الحسن: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن
يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ،
فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه (2) .
_________
(1) قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما
كانوا يبنون المسجد، فكان الناس ينقلون لبنة
لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم فيه هذه الكلمة على ما
رواه أبو سعيد الخدري لعكرمة مولى ابن عباس
ولعلي بن عبد الله بن عباس. والخبر في كتاب
الجهاد والسير من صحيح البخاري (ك 56 ب 17 - ج
3 ص 207) . وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه
لم يكن منه البغي في حرب صفين، لأنه لم يردها،
ولم يبتدئها، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج علي
من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير إلى
الشام كما تقدم في ص 162 - 163، ولذلك لما قتل
عمار قال معاوية ((إنما قتله من أخرجه)) وفي
اعتقادي الشخصي أن كل من قتل من المسلمين
بأيدي المسلمين منذ قتل عثمان فإنما إثمه على
قتلة عثمان لأنهم فتحوا باب الفتنة. ولأنهم
واصلوا تسعير نارها، لأنهم الذين أوغروا صدور
المسلمين بعضهم على بعض، فكما كانوا قتلة
عثمان فإنهم كانوا القاتلين لكل من قتل بعده،
ومنهم عمار ومن هم أفضل من عمار كطلحة
والزبير، إلى أن انتهت فتتهم، بقتلهم عليًّا
نفسه وقد كانوا من جنده وفي الطائفة التي كان
قائمًا عليها. فالحديث من أعلام النبوة،
والطائفتان المتقاتلتان في صفين كانتا من
المؤمنين. وعلي أفضل من معاوية. وعلي ومعاوية
من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن
دعائم دولة الإسلام، وكل ما وقع من الفتن
فإثمه على مؤرثي نارها لأنهم السبب الأول
فيها، فهم الفئة الباغية التي قتل بسببها كل
مقتول في وقعتي الجمل وصفين وما تفرع عنهما.
(2) سيأتي الكلام على هذا عند الكلام على
الصلح بين الحسن ومعاوية.
(1/170)
وكذلك يروى أنه أذن - في الرؤيا - لعثمان
في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة (1) .
فهذه كلها أمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج
عن طريق من طرق الفقه، ولا عدت سبيل الاجتهاد
الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجرًا
واحدًا (2) .
_________
(1) مضى الكلام على ذلك في ص 138 - 139.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة
(2: 219 - 220) : ((ولم يكن معاوية ممن يختار
الحرب ابتداء، بل كان من أشد الناس حرصًا على
ألا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال
منه. وقتال صفين للناس فيه أقوال: فمنهم من
يقول كلاهما كان مجتهدًا مصيبًا، كما يقول ذلك
كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول:
كل مجتهد مصيب، ويقول: كانا مجتهدين. وهذا قول
كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم،
وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي
وأحمد وغيرهم، وتقول الكرامية: كلاهما إمام
مصيب، ويجوز نصب إمامين للحاجة. ومنهم من
يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه، وهذا قول
طائفة منهم. ومنهم من يقول: علي هو المصيب
وحده ومعاوية مجتهد مخطئ، كما يقول ذلك طوائف
من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة.
وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله
حامد من أصحاب الإمام أحمد وغيره. ومنهم من
يقول: كان الصواب ألا يكون قتال، وكان ترك
القتال خيرًا للطائفتين، فليس في الاقتتال
صواب، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية،
والقتال قتال فتنة، ليس بواجب ولا مستحب، وكان
ترك القتال خيرًا للطائفتين مع أن عليًّا كان
أولى بالحق، وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث
وأكثر أئمة الفقهاء، وهو قول أكابر الصحابة
والتابعين لهم بإحسان، وهو قول عمران بن حصين
رضي الله عنه وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك
القتال ويقول: هو بيع السلاح في الفتنة. وهو
قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمر
وسعد بن أبي وقاص وأكثر من بقي من السابقين
الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر
بين الصحابة فإنه قد ثبت فضائلهم ووجبت
موالاتهم ومحبتهم)) .
(1/171)
وما وقع من روايات في كتب التاريخ - عدا ما
ذكرنا - فلا تلتفتوا إلى حرف منها، فإنها كلها
باطلة. |