العواصم من القواصم - ط الأوقاف السعودية

[قاصمة التحكيم]
قاصمة التحكيم وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله. وإذا لحظتموه بعين المروءة - دون الديانة - رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين.
والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط (1) والدارقطني (2) أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين
_________
(1) هو الإمام الحافظ أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري، أحد أوعية العلم، ومن شيوخ الإمام البخاري. قال عنه ابن عدي: هو صدق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة. توفي سنة 240.
(2) هو الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني (306 - 385) كان مع جلالته في الحديث من أئمة فقهاء الشافعية، وله تقدم في الأدب ورواية الشعر. وجاء من بغداد إلى مصر ليساعد ابن خنزابة وزير كافور على تأليف مسنده فبالغ الوزير في إجلاله. قال الحافظ عبد الغني بن سعيد ((أحسن الناس كلامًا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون القيسي في وقته. والدارقطني في وقته)) .

(1/172)


أو تسعين ألفا ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم - وهو الثلاثاء - على الماء فغلب أهل العراق عليه (1) .
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [سبع وثلاثين] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت (2) ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا إلى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي أبو موسى (3) ومن جهة معاوية عمرو بن العاص.
_________
(1) لم يكن القتال على الماء جديا، وقد قال عمرو بن العاص يومئذ: "ليس من النصف أن نكون ريانين وهم عطاش". والذين تظاهروا في الجيش الشامي بمنع العراقيين عن الماء أرادوا أن يذكروهم بمنع الماء عن أمير المؤمنين عثمان في عاصمة خلافته وهو الذي اشترى بئر رومة من ماله ليستقي منه إخوانه المسلمون وبعد اشتراكهم في الماء تناوشوا شهر ذي الحجة من سنة 36 ثم تهادنوا شهر المحرم من سنه 37، ووقعت وقائع شهر صفر التي سيشير إليها المؤلف.
(2) وكانت تسمى ((ليلة الهرير)) اقتتل الناس فيها حتى الصباح.
(3) وكان آخر العهد بأبي موسى عندما كان واليًا على الكوفة، وجاء دعاة علي يحرضون الكوفيين على لبس السلاح والالتحاق بجيش علي استعدادًا لما يريدونه من قتال مع أصحاب الجمل في البصرة، ثم مع أنصار معاوية في الشام. فكان أبو موسى يشفق على دماء المسلمين أن تسفك بتحريض الغلاة، ويذكر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقول نبيهم في الفتنة ((القاعد فيها خير من القائم)) فتركه الأشتر يحدث الناس في المسجد بالحديث النبوي، وأسرع إلى دار الإمارة فاحتلها. فلما عاد إليها أبو موسى منعه الأشتر من الدخول وقال له: اعتزل إمارتنا. فاعتزلهم أبو موسى واختار الإقامة في قرية يقال لها عُرْض بعيدًا عن الفتن وسفك الدماء. فلما شبع الناس من سفك الدماء واقتنعوا بأن أبا موسى كان ناصحًا في نهيهم عن القتال طلبوا من علي أن يكون أبو موسى هو ممثل العراق في أمر التحكيم، لأن الحالة التي كان يدعو إليها هي التي فيها الصلاح فأرسلوا إلى أبي موسى وجاءوا به من عزلته.

(1/173)


وكان أبو موسى رجلًا تقيًّا فقيهًا عالمًا حسبما بيناه في كتاب (سراج المريدين) ، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدمه عمرو وأثنى عليه بالفهم (1) . وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وأن ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدًا لما أرادت من الفساد، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضًا وصنفوا فيه حكايات. وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى، وإنما بنوا على أن عمرًا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر.
وقالوا: إنما لما اجتمع بأذرح من دومة الجندل (2) وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين (3) . فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول. فتقدم
_________
(1) واختصه بكتابه الشهير في القضاء وآدابه وقواعده.
(2) أذرح: قرية من أعمال الشراة تقع في منطقة بين أراضي شرقي الأردن والمملكة السعودية في الأطراف الجنوبية من بادية الشام.
(3) من الحقائق ما إذا أسيء التعبير عنه وشابته شوائب المغالطة يوهم غير الحقيقة فينشأ عن ذلك الاختلاف في الحكم عليه. ومن ذلك حادثة التحكيم وقول المغالطين إن أبا موسى وعمرًا اتفقا على خلع الرجلين، فخلعهما أبو موسى، واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية. وأصل المغالطة من تجاهل المغالطين أن معاوية لم يكن خليفة، ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه. بل إن أبا موسى وعمرًا اتفقا على أن يعهدا بأمر الخلافة على المسلمين إلى الموجودين على قيد الحياة من أعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم. واتفاق الحكمين على ذلك لا يتناول معاوية لأنه لم يكن خليفة ولم يقاتل على الخلافة وإنما كان يطالب بإقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان. فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم تناول التحكيم شيئًا واحدًا هو الإمامة. أما التصرف العملي في إرادة البلاد التي كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين فبقي كما كان: علي متصرف في البلاد التي تحت حكمه، ومعاوية متصرف في البلاد التي تحت حكمه، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة. وكان يكون محلا للمكر أو الغفلة لو أن عمرًا أعلن في نتيجة التحكيم أنه ولى معاوية إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين، وهذا ما لم يعلنه عمرو، ولا ادعاه معاوية، ولم يقل به أحد في الثلاثة عشر قرنًا الماضية. وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية، ومن ذلك اليوم فقط سمي معاوية أمير المؤمنين. فعمرو لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه، لأنه لم يعط معاوية شيئًا جديدًا، ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى. ولم يخرج عما اتفقا عليه معًا، فبقيت العراق والحجاز وما يتبعهما تحت يد من كانت تحت يده من قبل، وبقيت الشام وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل، وتعلقت الإمامة بما سيكون من اتفاق أعيان الصحابة عليها، وأي ذنب لعمرو في أي شيء مما وقع؟ إن البلاهة لم تكن من أبي موسى، ولكن ممن يريد أن يفهم الوقائع على غير ما وقعت عليه. فليفهمها كل من شاء كما يشاء. أما هي فظاهرة واضحة لكل من يراها كما هي.

(1/174)


فقال: إني نظرت فخلعت عليًّا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا من عنقي - أو من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه

(1/175)


في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر (1) كما أثبت سيفي هذا في عاتقي. وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف.
_________
(1) أي أمر؟ إن كان الاستمرار في إدارة البلاد التي تحت يده، فإن هذا الأمر ماض على معاوية وعلي معًا، فكل منهما باق في الحكم على ما تحت يده. وإن كان المراد بالأمر أمر الإمامة العامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إمامًا - أي خليفة - حتى يثبته عمرو كما كان. وقد أوضحنا هذه الحقيقة في الفقرة السابقة. وهذه هي نقطة المغالطة التي هزأ بها مؤرخو الإفك المفترى فسخروا بجميع قرائهم وأوهموهم بأن هناك خليفتين أو أميرين للمؤمنين، وأن الاتفاق بين الحكمين كان على خلعهما معًا، وأن أبا موسى خلع الخليفتين تنفيذًا للاتفاق، وأن عمرًا خلع أحدهما وأبقى الآخر خليفة خلافًا للاتفاق، وهذا كله كذب وإفك وبهتان. والذي فعله عمرو وهو نفس الذي فعله أبو موسى لا يفترق عنه قط في نقير ولا قطمير وبقي أمر الإمامة والخلافة أو غمارة المؤمنين معلقًا على نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا. وإذا كانت هذه الخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من أبي موسى ولا من عمرو، فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معًا بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها، ولا أبديا رأيًا فيها. ولو كان موقف أبي موسى في هذا الحادث التاريخي العظيم موقف بلاهة وفشل لكان ذلك سبة عليه في التاريخ. وإن الأجيال التي بعده فهمت موقفه على أنه من مفاخره التي كتب الله له بها النجاح والسداد، حتى قال ذو الرمة الشاعر يخاطب حفيده بلال بن أبي بردة بن أبي موسى:
أبوك تلافى الدين والناس بعدما ... تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح ... ورد حروبا قد لقحن إلى عقر.

(1/176)


[عاصمة]
عاصمة قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط. وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع (1) .
_________
(1) إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بني أمية وقيام دول لا يسر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله. فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف: طائفة كانت تنشد العيش والجدة من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه. وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم، ولا يكون التقرب إلى الله، إلا بتشويه سمعة أبي كبر وعمر وعثمان وبني عبد شمس جميعا. وطائفة ثالثة من الإنصاف والدين- كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير- رأت أن من الإنصاف أن تجمع أخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب- كلوط بن يحيى الشيعي المحترق، وسيف بن عمر العراقي المعتدل- ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها. وقد أثبت أكثر هؤلاء أسماء رواة الأخبار التي أوردها ليكون الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث عن حال راويه. وقد وصلنا إلى هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا، وهذا ممكن وميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع، مكتفيا بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها. وإن الرجوع إلى كتب السنة، وملاحظات أئمة الأمة. مما يسهل هذه المهمة. وقد آن لنا أن نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء، وأول من استيقظ في عصرنا للدسائس المدسوسة على تاريخ بني أمية العلامة الهندي الكبير الشيخ شبلي النعماني في انتقاده لكتاب جرجي زيدان، ثم أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق، فبدأت تظهر لهم وللناس منيرة مشرقة، ولا يبعد- إذا استمر هذا الجهاد في سبيل الحق- أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ويدركوا أسرار ما وقع في ماضيهم من معجزات.

(1/177)


وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر - في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه - عزل عمرو معاوية (1) .
ذكر الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر (2) لما عزل عمرو معاوية جاء [أي حضين بن المنذر] فضرب فسطاطه قريبًا من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا [أي عن عمرو] كذا وكذا (3) فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه، فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا (4) ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما
_________
(1) أي بتقريره مع أبي موسى أن إمامة المسلمين يترك النظر فيها إلى أعيان الصحابة.
(2) قال الدارقطني: حدثنا إبراهيم بن همام، حدثنا أبو يوسف الفلوسي وهو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير، حدثنا الأسود بن شيبان، عن عبد الله بن مضارب عن حضين بن المنذر (وحضين من خواص علي الذين حاربوا معه) .
(3) أي عزله عليا ومعاوية، وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة.
(4) أي أنهما لم يعزلا، لم يوليا، ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة.

(1/178)


فطالما استغنى أمر الله عنكما قال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه: فأتيته فأخبرته [أي فأتى حضين معاوية فأخبره] أن الذي بلغه عنه كما بلغه. فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني (1) فبعثه في خيله، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدو الله أين هذا الفاسق؟ .
قال أبو يوسف (2) أظنه قال ((إنما يريد حوباء نفسه)) فخرج [عمرو] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عريانًا، فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول ((إن الضجور قد تحتلب العلبة، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة (3)) ) فقال معاوية ((أجل، وتربذ الحالب فتدق أنفه، وتكفأ إناءه (4)) ) .
_________
(1) هو أبو الأعور السلمي (وذكوان قبيلة من سليم) واسمه عمرو بن سفيان، كان من كبار قواد معاوية. وفي حرب صفين طلب الأشتر أن يبارزه فترفع أبو الأعور السلمي عن ذلك لأنه لم ير الأشتر من أنداده. انظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص264.
(2) أي الفلوسي راوي هذا الخبر عن الأسود بن شيبان عن عبد الله بن مضارب عن حضين.
(3) الضجور: الناقة التي ترغو وتعربد عند الحلب. و"قد تحلب الضجور العلبة" مثل، ومعناه: إن الناقة التي ترغو قد تحلب ما يملأ العلبة، وهي قدح ضخم يحلب فيه اللبن. يضربونه للسيئ الخلق قد يصاب منه الرفق واللين، وللبخيل قد يستخرج منه المال.
(4) ربذت يده بالقداح أي خفت: والربذ خفة القوائم في المشي، وخفة الأصابع في العمل. وفلان ذو ربذات: أي ذو فلتات وكثير السقط في كلامه.

(1/179)


قال الدارقطني - وذكر سند عدلًا (1) ربعي عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال: ((والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غبنا ونقص رأيهما. وايم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي. ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا. وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا (2)) ) .
فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه. فأعرضوا عن الغاوين، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين، إلى سنن المهتدين. وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين.
وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد هلك من كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه. ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى. وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقادًا وعملًا. ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملًا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. ورحم الله الربيع بن خثيم (3) فإنه لما قيل له: قتل الحسين! قال: أقتلوه؟ قالوا: نعم. فقال: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] (الزمر: 46) .
_________
(1) قال حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ودعلج بن أحمد قالا: حدثنا محمد بن أحمد بن النضر، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عبد الله بن عمر، عن ربعي. . . إلخ وربعي هو ابن حراش العبسي أبو مريم الكوفي.
(2) أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه وتذكيرها بسيرة السلف.
(3) هو من تلاميذ عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون، وأخذ عنه الإمام الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو بردة. قال له ابن مسعود: لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك. توفي سنة 64.

(1/180)


ولم يزد على هذا أبدًا. فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين.

[قاصمة]
قاصمة فإن قيل: إنما يكون ذلك في المعاني التي تشكل، وأما هذه الأمور كلها فلا إشكال فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بعده فقال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (1) [وقال] : «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» (2) فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند.
_________
(1) في كتاب المغازي من صحيح البخاري (ك 64 ب 78 - ج 5 ص 129) وفي فضائل الصحابة من صحيح مسلم (ك 44 ح 31 - ج 7 ص 120 من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا فقال علي: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي)) . وانظر المناقشة في هذا الحديث بين السيد عبد الله بن الحسين السويدي سنة 1156 وبين الملاباشي علي أكبر شيخ علماء الشيعة ومجتهديهم في زمن نادر شاه في كتاب (مؤتمر النجف) ص 25 - 27 طبع السلفية.
(2) في مسند أحمد (1: 84، 88، 118، 119، 152 الطبعة الأولى رقم 641، 670، 950، 961، 1310. وفي 4: 281، 368، 370، 372 الطبعة الأولى و 5: 347، 366، 370، 419 الطبعة الأولى) . وانظر تفسير الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب لهذا الحديث في ص 185 - 186، وسيأتي كلام المؤلف على الحدثين في ص 192.

(1/181)


فتعدى عليه أبو بكر واقتعد في غير موضعه.
ثم خلفه في التعدي عمر.
ثم رجي أن يوفق عمر للرجوع إلى الحق، فأبهم الحال، وجعلها شورى قصرًا للخلاف، للذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تحيل ابن عوف حتى ردها عنه إلى عثمان.
ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة، وصار الأمر إلى علي بالحق الإلهي النبوي، فنازعه من عاقده، وخالف عليه من بايعه، ونقض عهده من شده.
وانتدب أهل الشام إلى الفسوق في الدين، بل الكفر (1) .
_________
(1) كل هذه الفقرات من هذيان مرتكبي ((القاصمة)) وشيعتهم. وقد أجاب المؤلف في ((العاصمة)) التالية مدحضًا سخافاتهم، ولكن اتسع عليه ميدان القول ففاقه الكلام عن موقف أهل الشام من هذه الفتن التي وقعت في الإسلام. وقد رأيت في ص 121 قول ابن الكواء أحد زعماء الفتنة وهو يصف أشباهه في الأمصار الكبرى: ((وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم، وأعصاهم لمغويهم)) . وإذا كان أهل الأحداث في الشام هكذا على ما شهد به زعيم من زعماء الفتنة، فإن أهل العافية والإيمان منهم قد شهد لهم أمير المؤمنين علي فيما نقله ابن كثير في البداية والنهاية (8: 20) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ، عن شيخه معمر بن راشد البصري وهو أيضًا من الأعلام، عن الزهري مدون السنة وشيخ الأئمة، أن عبد الله بن صفوان الجمحي قال: قال رجل من صفين ((اللهم العن أهل الشام)) فقال له علي: ((لا تسب أهل الشام)) فإن بها الأبدال، فإنها بها الأبدال، فإن بها الأبدال)) وروي هذا الحديث من وجه آخر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أبو إدريس الخولاني وهو من أعلام حملة السنة والشريعة ومن شيوخ الحسن البصري وابن سيرين ومكحول وأضرابهم أن أبا الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بينا أنا نائم رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعه بصري فعمد به إلى الشام. وإن الإيمان - حين تقع الفتنة - بالشام)) . وروى هذا الحديث من الصحابة - غير أبي الدرداء - أبو أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص. وللمقارنة بين أهل الشام والذين كانوا يحاربون ننقل عن ابن كثير (7: 325) خبر الأعمش بن عمرو بن مرة بن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال: خطبنا علي يوم جمعة فقال، نبئت أن بسرًا قد طلع اليمن، وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وبخيانتكم وأمانتهم وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم. وقد بعثت فلانًا فخان وغدر وبعثت فلانًا فخان وغدر وبعث المال إلى معاوية. لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته. اللهم سئمتهم وسئموني، وكرهتهم وكرهوني. اللهم فأرحهم مني وأرحني منهم. بهذا وصف علي جيشه وشيعته وبعكسه في الفضائل وصف أهل الشام الذين اضطروا إلى أن يقفوا من طائفته موقف المحارب. وليس بعد وصف علي لأهل الشام بالطاعة والأمانة والإصلاح، إلا الضرب بهذه القنبلة في وجوه واصفيهم بالكفر والفسوق في الدين.

(1/182)


وهذه حقيقة مذهبهم (1) أن الكل عندهم كفرة (2) لأن من مذهبهم
_________
(1) أي حقيقة مذهب الشيعة وأعداء الصحابة.
(2) يستثنون منهم - بعد علي وبعض آله - سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبا الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبا أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبا سعيد الخدري. وبعض الشيعة يرى أن الطيبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عددًا من هؤلاء.

(1/183)


التكفير بالذنوب (1) . وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية: إن كل عاص بكبيرة كافر (2) على رسم القدرية (3) ولا أعصى من الخلفاء المذكورين (4) ومن ساعدهم على أمرهم، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على دنيا، وأقلهم حمية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة (5) .

[عاصمة]
[مقارنة موقفهم من الصحابة بموقف اليهود والنصارى من أصحاب موسى وعيسى]
عاصمة قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : يكفيك من شر سماعه، فكيف التململ به. خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا - لا ننقص منها يومًا ولا نزيد يومًا - وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟ .
_________
(1) ومن مذهبهم أن عليًّا وأحد عشر من آله معصومون عن الخطأ، وأنهم مصدر تشريع. ويقبلون التشريع الذي ينسبه إليهم رواة يشترط فيهم التشيع والموالاة، وإن عرفهم الناس بما ينافي الصدق أو يناقض ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
(2) ومدلول الكبيرة عندهم غير مدلولها عند المسلمين.
(3) أي الذين ينكرون القدر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 24) : ((كان قدماء الشيعة متفقين في دولة بني بويه)) . ثم فجروا وجعلوا (الغلو) من ضروريات مذهبهم من زمن الدولة الصفوية إلى الآن.
(4) وهم أبو بكر وعمر وعثمان.
(5) ومع ذلك يوجد فيمن ينتمي إلى الأزهر، وإلى السنة، من يوالي دار التقريب بين المذاهب التي تأسست في القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية، ويتسلى بصرف بقية عمره في الاختلاف إليها وتبادل التقية مع القائمين عليها.

(1/184)


ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل (1) . فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] (النور: 55) (2) وهذا قول صدق، ووعد حق. وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين، ولا أمن ولا سكون، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة.
وقد أجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نص على أحد يكون من بعده (3) . وقد قال العباس لعلي - فيما روى عنه عبد الله
_________
(1) أخرج الحافظ ابن عساكر (4: 165) أن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة. ((والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم، ثم لا نقبل منكم توبة)) . فقال له رجل: لم لا تقبل منهم توبة؟ قال: نحن أعلم بهؤلاء منكم. إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في (التقية) . ويلك! إن التقية هي باب رخصة للمسلم، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله، وليست باب فضل، إنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق. وايم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله)) . . .
(2) انظر ص 51 - 53.
(3) نقل الحافظ ابن عساكر (4: 166) عن الحافظ البيهقي حديث فضيل بن مرزوق أن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب سئل فقيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) ؟ فقال: ((بلى: ولكن والله لم يعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان. ولو أراد ذلك لفصح لهم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين. ولو كان الأمر كما قيل لقال: يا أيها الناس هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. والله لئن كان الله ورسوله اختار عليًّا لهذا الأمر وجعله القائم للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله، لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله)) . ورواه البيهقي من طرق متعددة في بعضها زيادة وفي بعضها نقصان والمعنى واحد.

(1/185)


ابنه - قال عبد الله بن عباس: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا. وإني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله: فيمن يكون هذا الأمر بعده، فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا. فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : رأي العباس عندي أصح،
_________
(1) رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه (ك 64 ب 83 - ج 5 ص 140 - 141) . ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (5: 227 و 251) من حديث الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس. ورواه الإمام أحمد في مسنده (1: 263 و 325 و 2374 و 2999) .

(1/186)


وأقرب إلى الآخرة، والتصريح بالتحقيق. وهذا يبطل قول مدعي الإشارة باستخلاف علي، فكيف أن يُدَّعَى فيه نص؟ ! .

[الأحاديث الصحيحة في أبي بكر وعمر ومكانتهما العليا]
فأما أبو بكر، فقد «جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه. قالت له: فإن لم أجدك - كأنها تعني الموت - قال: تجدين أبا بكر» (1) .
«وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر وقد وقع بينه [أي بين عمر] وبين أبي بكر كلام، فتعمر وجه النبي صلى الله عليه وسلم (2) حتى أشفق من ذلك أبو بكر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل أنتم تاركو لي صاحبي (مرتين) . إني بعثت إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. إلا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته» (3) ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذًا في الإسلام خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخي، وصاحبي» (4) ".
وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا. لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 191) من حديث جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت - قال صلى الله عليه وسلم: " إن لم تجديني فأتي أبا بكر ".
(2) تمعر وجهه: تغير، وذهب ما كان فيه من النضارة، وإشراق اللون.
(3) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 192) عن أبي الدرداء مطولا.
(4) في الباب المذكور من كتاب مناقب الصحابة في صحيح البخاري (ج 4 ص 191) من حديث عكرمة عن ابن عباس.

(1/187)


أبي بكر (1) .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيتني على قليب (2) عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين (3) وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غربًا (4) فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريًا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن» (5) .
وقد ثبت أن «النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدا وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف بهم: فقال: " اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» (6) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمُون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي
_________
(1) في هذه الجملة اضطراب ونقص. وانظر لهذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري في ذلك الموضع من صحيح البخاري (ج 4 ص 190 - 191) ، وحديث ابن عباس في مسند أحمد (1: 270 رقم 2432) ، والبداية والنهاية (5: 229 و230) .
(2) القليب: البئر غير المطوية.
(3) الذنوب: الدلو العظيمة إذا ملئت ماء. وابن أبي قحافة هو أبو بكر.
(4) أي ثم عظمت فصارت كالدلو الواسعة التي تتخذ من جلد الثور لكبرها.
(5) أي حتى اتخذ الناس حولها مبركا لإبلهم لغزارة مائها، والحديث في ذلك الموضوع من صحيح البخاري (ج 4 ص 193) من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
(6) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح مسلم (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 197) من حديث قتادة عن أنس بن مالك.

(1/188)


منهم أحد فعمر» (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في مرضه: «ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (2) .
وقال ابن عباس: «إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، وإني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل. وأرى سببًا واصلًا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت، [ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به] ، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل له فعلا» (وذكر الحديث) . ثم عبرها أبو بكر فقال: وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، فأخذته فيعليك الله. ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل فيعلو به (3) .
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 6 - ج 4 ص 200) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.
(2) في مسند أحمد (6: 144 الطبعة الأولى) من حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة، وانظر المسند أيضا (6: 47 و106) وطبقات ابن سعد 3 (1: 127) ومسند أبي داود الطيالسي: الحديث 1508.
(3) في كتاب التعبير من صحيح البخاري (ك 91 ب 47 - ج 8 ص 83 - 84) من حديث عبد الله بن عباس، وفي كتاب الرؤيا من صحيح مسلم (ك 47 ح 17 - ج 7 ص 55 - 56) من حديث ابن عباس، وفي مسند أحمد (1: 236 الطبعة الأولى رقم 2113) من حديث ابن عباس.

(1/189)


وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «من رأى منكم رؤيا فقال رجل: أنا رأيت، كأن ميزانًا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فَرَجَحْت. ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر. ووزن عمر وعثمان فرجح عمر. ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1) .
وهذه الأحاديث جبال في البيان، وجبال في السبب إلى الحق لمن وفقه الله. ولو لم يكن معكم - أيها السنية - إلا قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] (التوبة من الآية 40) فجعلها (2) في نصيف، وجعل أبا بكر في نصيف آخر وقام معه جميع الصحابة.
وإذا تبصرتم هذه الحقائق فليس يخفى منها حال الخلفاء في خلالهم وولايتهم وترتيبهم خصوصًا وعمومًا. وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] (سورة النور: من الآية 55) . وإذا لم ينفذ هذا الوعد في الخلفاء فلمن ينفذ؟ وإذا لم يكن فيهم
_________
(1) في كتاب السنة من سنن أبي داود (ك 39 ب 8 ح 4634) من حديث أبي بكرة. وفي كتاب الرؤيا من جامع الترمذي (الباب 10) من حديث أبي بكرة أيضا. وانظر في مسند أحمد (5: 259) الطبعة الأولى حديث أبي أمامة عن رجحان كفة أبي بكر بكفة فيها جميع الأمة. . . إلخ.
(2) أي الأمة.

(1/190)


فبمن يكون؟ والدليل عليه انعقاد الإجماع أنه لم يتقدمهم في الفضيلة أحد إلى يومنا هذا، ومن بعد مختلف فيه، وأولئك مقطوع بهم، متيقن إمامتهم، ثابت نفوذ وعد الله لهم، فإنهم ذبوا عن حوزة المسلمين، وقاموا بسياسة الدين. قال علماؤنا: ومن بعدهم تبع لهم من الأئمة الذين هم أركان الملة، ودعائم الشريعة، الناصحون لعباد الله، الهادون من استرشد إلى الله. فأما من كان من الولاة الظلمة فضرره مقصور على الدنيا وأحكامها.

[مراتب الصحابة ومن بعدهم وأصناف أئمة الدين ومنازلهم]
وأما حفاظ الدين فهم الأئمة العلماء الناصحون لدين الله، وهم أربعة أصناف:
الصنف الأول: حفظوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بمنزلة الخزان لأقوات المعاش.
الصنف الثاني: علماء الأصول: ذبوا عن دين الله أهل العناد وأصحاب البدع، فهم شجعان الإسلام، وأبطاله المداعسون عنه في مآزق الضلال (1) .
الصنف الثالث: قوم ضبطوا أصول العبادات، وقانون المعاملات وميزوا المحللات من المحرمات، وأحكموا الخراج والديات، وبينوا معاني الأيمان والنذور، وفصلوا الأحكام في الدعاوى، فهم - في الدين - بمنزلة الوكلاء المتصرفين في الأموال.
الصنف الرابع: تجردوا للخدمة، ودأبوا على العبادة، واعتزلوا الخلق. وهم - في الآخرة - كخواص الملك في الدنيا.
وقد أوضحنا في كتاب (سراج المريدين) في القسم الرابع من علوم القرآن أي المنازل أفضل من هؤلاء الأصناف، وترتيب درجاتهم.
_________
(1) المداعسة: المطاعنة، والمدافعة.

(1/191)


قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : وهذه كلها إشارات أو تصريحات أو دلالات أو تنبيهات. ومجموع ذلك يدل على صحة ما جرى، وتحقيق ما كان من العقلاء.
ونقول - بعد هذا البيان - على مقام آخر: لو كان هنالك نص على أبي بكر أو على علي، لم يكن بد من احتجاج علي به، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار. فأما حديث غدير خم (1) فلا حجة فيه، لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته - عند سفره للمناجاة - على بني إسرائيل. وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون فأين الخلافة؟ .
وأما قوله «اللهم وال من والاه» فكلام صحيح، ودعوة مجابة وما يعلم أحد عاداه إلا الرافضة، فإنهم أنزلوه في غير منزلته، ونسبوا إليه ما لا يليق بدرجته. والزيادة في الحد نقصان من المحدود. ولو تعدى عليها أبو بكر ما كان المتعدِّي وحده، بل جميع الصحابة - كما قلنا - لأنهم ساعدوه على الباطل.
ولا تستغربوا هذا من قولهم، فإنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مداريًا لهم، معنيا بهم على نفاق وتقية. وأين أنت من قول النبي صلى الله عليه وسلم «حين سمع قول عائشة رضي الله عنها: مروا عمر فليصل بالناس " إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» (2) ".
_________
(1) الذي مضى في القاصمة ص 181، وانظر في ص 185 - 186 تفسير الحسن المثنى لهذا الحديث.
(2) صحيح البخاري (ك 10 ب 39 و46 و67 و70 - ج 1 ص 161 - 162 و165، و174 - 176) من حديث عائشة وأبي موسى الأشعري.

(1/192)


وما قدمنا من تلك الأحاديث (1) .

[إصابة عمر في جعل الإمامة شورى ودقة ابن عوف في تخير عثمان]
لقد اقتحموا عظيمًا، ولقد افتروا كبيرًا. وما جعلها عمر شورى إلا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر، إذ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف (2) " فما رد هذه الكلمات أحد. وقال: " أجعلها شورى في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض (3) . وقد رضي الله عن أكثر منهم، ولكنهم كانوا خيار الرضا، وشهد لهم بالأهلية للخلافة.
وأما قولهم تحيل ابن عوف حتى ردها لعثمان، فلئن كانت حيلة ولم يكن سواها فلأن الحول ليس إليه (4) . وإذا كان عمل العباد حيلة أو كان القضاء بالحول، فالحول والقوة لله. وقد علم كل أحد أنه
_________
(1) في ص 187 - 190.
(2) في كتاب الإمارة من صحيح مسلم (ك 33 ح 11 و12 - ج 6 ص 4 - 5) من حديث عروة بن الزبير عن ابن عمر، ومن حديث سالم عن ابن عمر. وفي مسند أحمد (1: 43 رقم 299) عن عروة عن ابن عمر، و (1: 46 رقم 322) عن حميد بن عبد الرحمن عن ابن عباس، و (1: 47 رقم 332) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.
(3) من حديث عمرو بن ميمون المطول في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 8 ج 4 ص 204 - 207) ، وانظر كتابنا هذا ص 52 - 53.
(4) بل إلى الله. وإن الله هو الموفق لابن عوف وسائر إخوانه الصحابة حتى كانوا في ذلك الموقف على ما أراده الله لهم من صفاء النية وإخلاص القصد والعمل لله وحده. فكان من اختيار خليفة عمر في حادث الشورى مثلا أعلى للنفس الإنسانية عندما تكون في أعلى مراتب النبل، والتجرد عن جميع خواطر الهوى.

(1/193)


لا يليها إلا واحد، فاستبد عبد الرحمن بن عوف بالأمر - بعد أن أخرج نفسه - على أن يجتهد للمسلمين في الأسد والأشد، فكان كما فعل، وولاها من استحقها، ولم يكن غيره أولى منه بها، حسبما بينا في مراتب الخلافة من (أنوار الفجر) (1) وفي غيره من [كتب] الحديث.

[لم يكن بعد عثمان أولى بها من علي فجاءته على قدر]
وقتل عثمان، فلم يبق على الأرض أحق بها من علي، فجاءته على قدر، في وقتها ومحلها. وبين الله على يديه من الأحكام والعلوم ما شاء الله أن يبين. وقد قال عمر: " لولا علي لهلك عمر " (2) وظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة - من استدعائهم ومناظرتهم، وترك مبادرتهم، والتقدم إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه: لا نبدأ بالحرب. ولا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا تهاج امرأة، ولا نغنم لهم مالا - وأمره بقبول شهادتهم، والصلاة خلفهم، حتى قال أهل العلم: لولا ما جرى ما عرفنا قتال أهل البغي.
وأما خروج طلحة والزبير فقد تقدم بيانه (3) .
وأما تكفيرهم للخلق، فهم الكفار، وقد بينا أحوال أهل الذنوب التي ليس منها سب في غير ما كتاب، وشرحناها في كل باب.
_________
(1) هو التفسير الكبير لابن العربي في ثمانين مجلدا. تكلمنا عليه في ص 27.
(2) هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه " أول من يصافحه الحق عمر "، وقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به " وقوله صلى الله عليه وسلم " لو كان من بعدي نبي لكان عمر ".
(3) وأنه كان خروجا للتفاهم والتعاون على إقامة الحدود الشرعية في مقتل أمير المؤمنين عثمان، انظر ص 150 - 152.

(1/194)


فإن قيل: فقد قال العباس في علي ما رواه الأئمة أن العباس وعليًّا اختصما عند عمر في شأن أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس لعمر: يا أمير المؤمنين، أقض بيني وبين هذا الظالم الكاذب الآثم الجائر (1) . فقال الرهط لعمر: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. فقال عمر: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك. فأقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما الله، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: نعم. قال عمر: إن الله خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدًا غيره، فعمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته، ثم توفي، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها سنتين في إمارته فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) تقدم في ص 49 - 50 ذكر هذه التقاضي بين العباس وعلي عند أمير المؤمنين عمر من حديث مالك بن أوس بن الحدثان النصري في صحيح البخاري. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ك 57 ب 1 - ج 6 ص 125) : زاد شعيب ويونس: " فاستب علي وعباس " وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض: " اقض بيني وبين هذا الظالم. استبا " وفي رواية جويرية " وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن " وقال الحافظ: ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء، بخلاف ما يفهم من قوله في رواية عقيل " استبا ". واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال: لعل الرواة وهم فيها وإن كانت محفوظة، فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها دلالا على علي، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه.

(1/195)


وأنتما تزعمان أن أبا بكر كاذب غادر خائن (1) والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. . . وذكر الحديث.
قلنا: أما قول العباس لعلي فقول الأب للابن، وذلك على الرأي محمول، وفي سبيل المغفرة مبذول، وبين الكبار والصغار - فكيف الآباء والأبناء - مغفور موصول، وأما قول عمر أنهما اعتقدا أن أبا بكر ظالم خائن غادر، فإنما ذلك خبر عن الاختلاف في نازلة وقعت من الأحكام، رأى فيها هذا رأيا ورأى فيها أولئك رأيا، فحكم أبو بكر وعمر بما رأيا، ولم ير العباس وعلي ذلك. ولكن لما حكما سلما لحكمهما كما يسلم لحكم القاضي في المختلف فيه. وأما المحكوم عليه فرأى أنه قد وهم، ولكن سكت وسلم.
فإن قيل: إنما يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر - إذ كان الحكم باجتهاد، وأما [بعد أن] أدى هذا الحكم إلى منع فاطمة والعباس الميراث بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركناه صدقة» وعلمه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشرة وشهدوا به، فبطل ما قلتموه (2) .
قلنا: يحتمل أن يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر بعد - فرأيا أن خبر الواحد في معارضة القرآن والأصول والحكم المشهور في الزمن لا يعمل به حتى يتقرر الأمر، فلما تقرر سلما وانقادا، بدليل ما قدمنا من
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر (6: 125) : وكان الزهري يحدث به تارة فيصرح، وتارة فيكني، وكذلك مالك، وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عند الإسماعيلي وغيره، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي. . . إلخ.
(2) انظر ص 48 - 51.

(1/196)


الحديث الصحيح إلى آخره، فلينظر فيه. وهذا أيضًا ليس بنص في المسالة، لأن قوله: «لا نورث، ما تركناه صدقة» يحتمل أن يكون: لا يصح ميراثنا، ولا أنا أهل له، لأنه ليس لي ملك، ولا تلبست بشيء من الدنيا فينتقل إلى غيري عني. ويحتمل " لا نورث " حكم، وقوله " ما تركناه صدقة " حكم آخر معين أخبر به أنه قد أنفذ ذلك مخصوصًا بما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكان له سهمه مع المسلمين فيما غنموا بما أخذوه عنوة. ويحتمل أن يكون " صدقة " منصوبًا على أن يكون حالًا من المتروك. إلى هذا أشار أصحاب أبي حنيفة، وهو ضعيف، وقد بيناه في موضعه. بيد أنه يأتيك في هذا أن المسألة مجرى الخلاف، ومحل الاجتهاد، أنها ليست بنص من النبي صلى الله عليه وسلم فتحتمل التصويب والتخطئة من المجتهدين والله أعلم.