العواصم من القواصم - ط الأوقاف السعودية

[قاصمة بيعة الحسن وصلحه مع معاوية]
قاصمة ثم قتل علي. قالت الرافضة: فعهد إلى الحسن، فسلمها الحسن إلى معاوية، فقيل له " مُسَوِّدُ وجوه المؤمنين (1) " وفسقته جماعة من الرافضة،
_________
(1) من عناصر إيمان الرافضة - بل العنصر الأول في إيمانهم - اعتقادهم بعصمة الحسن وأبيه وأخيه، وتسعة من ذرية أخيه. ومن مقتضى عصمتهم - وفي طليعتهم الحسن بعد أبيه - أنهم لا يخطئون، وأن كل ما صدر عنهم فهو حق، والحق لا يتناقض. وأهم ما صدر عن الحسن بن علي بيعته لأمير المؤمنين معاوية، وكان ينبغي لهم أن يدخلوا في هذه البيعة، وأن يؤمنوا بأنها الحق لأنها من عمل المعصوم عندهم. لكن المشاهد من حالهم أنهم كافرون بها. ومخالفون فيها لإمامهم المعصوم. ولا يخلو هذا من أحد وجهين: فإما أنهم كاذبون في دعوى العصمة لأئمتهم الاثني عشر فينهار دينهم من أساسه، لأن عقيدة العصمة لهم هي أساسه، ولا أساس له غيرها. وإما أن يكونوا معتقدين عصمة الحسن، وأن بيعته لمعاوية هي من عمل المعصوم، لكنهم خارجون على الدين، ومخالفون للمعصوم فيما جنح إليه وأراد أن يلقى الله به. ويتواصون بهذا الخروج على الدين جيلا بعد جيل، وطبقة بعد طبقة، ليكون ثباتهم على مخالفة الإمام المعصوم عن إصرار وعناد ومكابرة وكفر. ولا ندري أي الوجهين يطوح بهم في مهاوي الهلكة أكثر مما يطوح بهم الوجه الآخر، ولا ثالث لهما. فالذين قالوا منهم إن الحسن " مسود وجوه المؤمنين " لا يحمل كلامهم إلا على أنه " مسود وجوه المؤمنين بالطاغوت " أما المؤمنون بنبوة جد الحسن صلى الله عليه وسلم فيرون صلحه مع معاوية وبيعته له من أعلام النبوة، لأنها حققت ما تنبأ به صلى الله عليه وسلم في سبطه سيد شباب أهل الجنة من أنه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين كما سيأتي بيانه. وكل الذين استبشروا بهذه النبوة وبهذا الصلح يعدون الحسن " مبيض وجوه المؤمنين ".

(1/197)


وكفرته طائفة لأجل ذلك.

[عاصمة]
[علي لم يعهد إلى الحسن لكن البيعة للحسن منعقدة]
عاصمة قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : أما قول الرافضة أنه عهد إلى الحسن فباطل. ما عهد إلى أحد (1) . ولكن البيعة للحسن منعقدة،
_________
(1) روى الأمام أحمد في مسنده (1: 1078) عن وكيع عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن سبع قال: سمعت عليا يقول (وذكر أنه سيقتل) قالوا: فاستخلف علينا. قال: " لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟ " قال: " أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم ". روى أحمد مثله (1: 156 برقم 1339) عن أسود بن عامر عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الله بن سبع. والخبران إسناد كل منهما صحيح. ونقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5: 250 - 251) عن الإمام البيهقي من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الإمام الشعبي عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي أحد سادة التابعين أنه قيل لعلي: ألا تستخلف علينا؟ قال: " ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم " وهذا الحديث جيد الإسناد. ونقل ابن كثير أيضا (7: 323) عن الإمام البيهقي حديث حبيب بن أبي الكاهلي الكوفي عن ثعلبة بن يزيد الحماني (وهو من شيعة الكوفة وثقه النسائي) أنه قيل لعلي: ألا تستخلف؟ فقال " لا، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وانظر السنن الكبرى للبيهقي 8: 149.

(1/198)


وهو أحق من معاوية ومن كثير من غيره، وكان خروجه لمثل ما خرج إليه أبوه من دعاء الفئة الباغية إلى الانقياد للحق والدخول في الطاعة، فآلت الوساطة إلى أن تخلى عن الأمر صيانة لحقن دماء الأمة (1) وتصديقًا لقول
_________
(1) حكاية الوساطة بين الحسن ومعاوية وصلحهما رواها الإمام البخاري في كتاب الصلح من صحيحه (ك 53 ب 9 ج 3 ص 169) عن الإمام الحسن البصري قال: استقبل - والله - الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال. فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها. فقال له معاوية - وكان والله خير الرجلين -: أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس - عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز - فقال: اذهبا إلى هذا الرجل (أي الحسن بن علي) فاعرضا عليه (أي ما يشاء) ، وقولا له (أي ما يرضيه) ، واطلبا إليه (أي ما تريان فيه المصلحة، فأنتما مفوضان) . فأتياه، فدخلا عليه، فتكلما، وقالا له، وطلبا إليه. فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها (أي فيحتاج إرضاؤها في دمائها إلى مال كثير) قال: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك، ويسألك. قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فما سألهما شيئا إلا قال: نحن لك به. فصالحه.

(1/199)


نبي الملحمة حيث قال على المنبر: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (1) فنفذ الميعاد، وصحت البيعة لمعاوية، وذلك لتحقيق رجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فمعاوية خليفة، وليس بملك (2) .

[حديث الخلافة ثلاثون سنة ينقضه حديث اثنا عشر خليفة]
فإن قيل: فقد روي عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخلافة ثلاثون سنة، ثم تعود ملكًا» فإذا عددنا من ولاية أبي بكر إلى تسليم الحسن كانت ثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص يومًا، قلنا:
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ ... فِي طَلْعَةِ الْبَدْرِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ
_________
(1) رواه البخاري مع الحديث السابق عن الحسن البصري أنه سمعه من أبي بكرة وأن أبا بكرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه فقال ذلك، ورواه البخاري أيضا في مناقب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة من صحيحه (ك 62 ب 22 - ج 4 ص 216) ، وانظر البداية والنهاية (8: 17 - 19) وابن عساكر (4: 211 212) .
(2) سيأتي الكلام على هذا الموضوع في ص 207 - 210.

(1/200)


هذا الحديث (1) في ذكر الحسن بالبشارة له والثناء عليه، لجريان الصلح بين يديه، وتسليم الأمر لمعاوية، عقد منه له (2) .
وهذا (3) حديث لا يصح (4) . ولو صح فهو معارض لهذا الصلح
_________
(1) أي حديث " إن ابني هذا سيد " الذي رواه البخاري عن الحسن البصري عن أبي بكرة.
(2) أي عقد بيعة من الحسن لمعاوية. وكان ذلك في موضع يقال له " مسكن " على نهر دجيل في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، فسمي ذلك العام " عام الجماعة " لاجتماع المسلمين بعد الفرقة، وتفرغهم للحروب الخارجية والفتوح ونشر دعوة الإسلام بعد أن عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات كان يستطيع المسلمون أن يسجلوا فيها أمجادا لا يستطيع غيرهم مثلها في خمسة قرون. ولله في كل شيء حكمة.
(3) أي حديث سفينة.
(4) لأن راويه عن سفينة سعيد بن جهمان، وقد اختلفوا فيه: قال بعضهم: لا بأس به، ووثقه بعضهم، وقال فيه الإمام أبو حاتم " شيخ لا يحتج به ". وفي مسنده حشرج بن نباتة الواسطي وثقه بعضهم، وقال فيه النسائي: " ليس بالقوي ". وعبد الله بن أحمد بن حنبل يروي هذا الخبر عن سويد الطحان قال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: " لين الحديث ". وهذا الحديث المهلهل يعارضه ذلك الحديث الصحيح الصريح الفصيح في كتاب الإمارة من صحيح مسلم (ك 33 ح 5، 6، 7، 8، 9، 10 - ج 6 ص 3 - 4) عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: " إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة " قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: " كلهم من قريش ". وانظره في كتاب الأحكام من صحيح البخاري (ك 93 ب 51 - ج 8 ص 125 - 127) وفي فتح الباري (13: 162 وما بعدها) وفي سنن أبي داود (ك 35 ح 1) وفي جامع الترمذي (ك 31 ب 46) وفي مسند الإمام أحمد (1: 398 و406 برقم 3781 و3859) من حديث الشعبي عن مسروق بن الأجدع الهمداني الإمام القدوة قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك. ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل ". والحديث في مجمع الزوائد (5: 90) . وفي مسند أحمد (5: 86، 87 بثلاث روايات و88، 89، 90 بثلاث روايات و92 بثلاث روايات و93 بروايتين و94 و95 و96 بروايتين و97 بروايتين و98 بثلاث روايات و99 بثلاث روايات و100، 101 بروايتين و106 بروايتين و107 بروايتين و108) وفي مسند أبي داود الطيالسي (ح 967 و1278) .

(1/201)


المتفق عليه، فوجب الرجوع إليه (1) .
فإن قيل: ألم يكن في الصحابة أقعد بالأمر من معاوية؟
قلنا: كثير (2) .

[مزايا معاوية وسيرته الممتازة التي أهلته لحمل أعباء الإسلام]
ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال: وهي أن عمر جمع
_________
(1) أي إلى العقد من الحسن لمعاوية، فهو متفق عليه، وتناولته البشرى النبوية بالثناء والرضا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 242) : وهذا الحديث يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان ممدوحا يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم بترك واجب أو مستحب. . . إلخ.
(2) كسعد بن أبي وقاص المجاهد الفاتح أحد العشرة المبشرين بالجنة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب عالم الصحابة الثابت على قدم المصطفى صلى الله عليه وسلم في جليل الأمور ودقيقها، وغيرهما من هذه الطبقة وقريب منها، وهؤلاء هم الذين ترك لهم الحكمان - أبو موسى وعمرو - أمر الإمامة بعد حرب صفين ليروا فيها رأيهم، فلما رأوا اجتماع الأمة كلها على معاوية دخلوا كلهم في إمامته وبايعوه. بعد أن كانوا معتزلين الفتنة من بعد عثمان (انظر فتح الباري 13: 50) . ومعاوية نفسه يعرف للناس أقدارهم. فقد جاء في البداية والنهاية (8: 134) عن ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي أن معاوية خطب فقال: " يا أيها الناس، ما أنا بخيركم، وإن منكم لمن هو خير مني: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو وغيرهما من الأفاضل. ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدرَّكم حلبا ". ورواه ابن سعد عن محمد بن مصعب عن أبي بكر بن أبي مريم عن ثابت مولى معاوية أنه سمع معاوية يقول ذلك.

(1/202)


له الشامات كلها وأفرده بها (1) لما رأى من حسن سيرته (2) وقيامه
_________
(1) فأصبحت تحت قيادته وبحسن سياسته أقوى قوة في الإسلام، وهي في طليعة جيوش الجهاد والفتوح الظافرة الداعية إلى الله بأخلاقها وسيرتها وحكمة قادتها وصدق إسلامهم.
(2) تقدم في ص 82 حديث الليث بن سعد إمام أهل مصر بسنده الوثيق إلى سعد بن أبي وقاص فاتح العراق وإيران ومبيد دولة كسرى أنه ما رأى بعد عثمان أقضى بالحق من معاوية. وحديث عبد الرزاق الصنعاني بسنده إلى حبر الأمة ابن عباس أنه ما رأى رجلا أخلق بالملك من معاوية. وفي ص 83 قول شيخ الإسلام ابن تيمية، كانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه، وقد ثبت في صحيح مسلم (ك 33 ح 65 و66) قول النبي صلى الله عليه وسلم " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم ". وفي الطبري (6: 188) رواية مجالد عن الشعبي أن قبيصة بن جابر الأسدي قال: ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلا أفقه فقها ولا أحسن مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلا أعطى للجزيل من غير مسألة منه، ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلا أحب رفيقا ولا أشبه سريرة بعلانية منه.

(1/203)


بحماية البيضة وسد الثغور (1) وإصلاح الجند والظهور على العدو (2)
_________
(1) وقد بلغ من همته وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدد ملك الروم - وهو في معمعة القتال مع علي في صفين - وقد بلغه أن ملك الروم اقترب من الحدود في جنود عظيمة فكتب إليه يقول " والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت " فخاف ملك الروم وانكف (البداية والنهاية 8: 119) .
(2) في البر والبحر، فكانت رايات الإسلام تخترق الآفاق بأيدي جنده ممثلة العزة التي أرادها الله لدينه ورسالة رسوله وللمؤمنين بها. وكما أن فتح مصر ودخولها في الإسلام والعروبة من عمل عمرو بن العاص وحده. فإن تأسيس الأسطول الإسلامي والفتوح البحرية الأولى من عمل معاوية وحده. مما ينبغي للمشتغل بتاريخ العروبة والإسلام أن يعلمه أن معاوية مفطور على سجية السيادة والقيادة وصناعة الحكم، أخرج ابن كثير في التاريخ (8: 135) عن هشيم عن العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " ما رأيت أحدا أسود من معاوية ". قال جبلة بن سحيم. قلت ولا عمر؟ قال " كان عمر خيرا منه، وكان معاوية أسود منه " ورووا مثل هذه الكلمة في معاوية عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وتقدم قول عبد الله بن العباس " ما رأيت رجلا كان أخلق بالملك من معاوية ".

(1/204)


وسياسة الخلق (1) .
وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه (2) وشهد بخلافته
_________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة 3: 185) : لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى من بعده. وإذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل. وقد روى أبو بكر الأثرم -ورواه ابن بطة من طريقه- حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا محمد بن مروان، عن يونس، عن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي. وروى ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي. وروى الأثرم: حدثنا أحمد بن جوّاس، حدثنا أبو هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: أخبرنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة الثقفي، عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم: كان المهدي. وهذه الشهادة من هؤلاء الأئمة الأعلام لأمير المؤمنين معاوية صدى استجابة الله عز وجل دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم لهذا الخليفة الصالح يوم قال صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعله هاديا، مهديا واهد به " وهو من أعلام النبوة.
(2) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 28 ج 4 ص 219) حديث أبي مليكة أن ابن عباس قيل له: " هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة. فقال: إنه فقيه ". وفي كتاب المناقب من جامع الترمذي (ك 46 ب 47) حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: " اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به " ورواه الطبراني من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي - وكان لأهل الشام كالإمام مالك لأهل المدينة - عن ربيعة بن يزيد الإيادي أحد الأئمة الأعلام عن عبد الرحمن بن أبي عميرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: " اللهم علمه الكتاب والحساب وَقِهِ العذاب ". وأخرجه الإمام البخاري في التاريخ قال: قال لي أبو مسهر (وذكره بالعنعنة) . وتقدم في ص 83 حديث عزل عمير بن سعد الأنصاري عن ولاية حمص في خلافة عمر وتوليته معاوية والشهادة له بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بأن يهدي الله به. ورواه الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي. ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي، ورواه أسد بن موسى وبشر بن السري وعبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح بإسناده. وزاد في رواية بشر بن السري " وأدخله الجنة ". ورواه ابن عدي وغيره عن ابن عباس. ورواه محمد بن سعد بسنده إلى مسلمة بن مخلد أحد فاتحي مصر وولاتها. ورواة هذا الدعاء النبوي لمعاوية من الصحابة أكثر من أن يحصوا. (وانظر البداية والنهاية 8: 120 - 121. وانظر ترجمة معاوية في حرف الميم من تاريخ دمشق لابن عساكر) . ومن لم يصدق هذا الحديث فهو منكر لكل ما ثبت في السنة من شريعة الإسلام. وفي الشيعة المبغضين لمعاوية اللاعنين له من يزعمون أنهم منتسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهل تراهم يحقدون على جدهم صلى الله عليه وسلم لرضاه على معاوية واستعانته به ودعائه له؟ " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". وروى الحافظ ابن عساكر عن الإمام أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية. فقال له: ولم: قال: لأنه قاتل عليا. فقال له أبو زرعة: " ويحك، إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما، رضي الله عنهما؟ ".

(1/205)


في حديث أم حرام أن ناسًا من أمته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة، وكان ذلك في

(1/206)


ولايته (1) .
ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية: خلافة، ثم ملك. فتكون ولاية الخلافة للأربعة، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية (2) . وقد قال الله في
_________
(1) أم حرام بنت ملحان صحابية من الأنصار من أهل قباء، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء استراح عندها، وهي خالة خادمه أنس بن مالك. روى البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه (ك 56 ب 3 - ج 3 ص 201) ومسلم في كتاب الإمارة (ك 33 ح 160) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها القيلولة ثم استيقظ وهو يضحك لأنه رأى ناسا من أمته غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر - أي وسطه ومعظمه - ملوكا على الأسرة. ثم وضع رأسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى. فقالت له أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال لها " أنت من الأولين ". قال الحافظ ابن كثير (8: 229) : يعني جيش معاوية حين غزا قبرس ففتحها سنة 27 أيام عثمان بن عفان (بقيادة معاوية عقب إنشائه الأسطول الإسلامي الأول في التاريخ) . وكانت معهم أم حرام في صحبة زوجها عبادة بن الصامت. ومعهم من الصحابة أبو الدرداء وأبو ذر وغيرهما. وماتت أم حرام في سبيل الله وقبرها بقبرس إلى اليوم. قال ابن كثير: ثم كان أمير الجيش الثاني يزيد بن معاوية في غزوة القسطنطينية. قال: وهذا من أعظم دلائل النبوة.
(2) الخلافة والملك والإمارة عناوين اصطلاحية تتكيف في التاريخ باعتبار مدلولها العملي، والعبرة دائما بسيرة المرء وعمله. ومعاوية قد ولي الشام للخلافة الراشدة مدة عشرين سنة، ثم اضطلع بمهمة الإسلام كلها عشرين سنة أخرى في الوطن الإسلامي الأكبر بعد بيعة الحسن بن علي له، فكان في الحالتين قَوَّاما بالعدل، محسنا إلى الناس من كل الطبقات، يكرم أهل المواهب ويساعدهم على تنمية مواهبهم، ويسع بحلمه جهل الجاهلين فيعالج بذلك نقائصهم، ويلتزم في الجميع أحكام الشريعة المحمدية بحزم ورفق ومثابرة وإيمان. يؤمهم في صلواتهم ويوجههم في مجتمعهم ومرافقهم ويقودهم في حروبهم. وفي منهاج السنة 3: 185 والمنتقى منه ص 389 قول الصحابي الجليل أبي الدرداء لأهل الشام " ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا " يعني معاوية. وقد رأيت في ص 205 قول الأعمش للذين ذكروا عنده عمر بن عبد العزيز وعدله. " كيف لو أدركتم معاوية؟ " قالوا في حلمه؟ قال: " لا والله، بل في عدله ". وقد بلغ من استقامته على جادة الإسلام أن قال فيه أمثال قتادة ومجاهد وأبي إسحاق السبيعي - وكلهم من الأئمة الأعلام -: كان معاوية هو المهدي (انظر ص 205) . والذي يتتبع سيرة معاوية في حكمه يرى أن حكومته في الشام كانت حكومة مثالية في العدل والتراحم والتآسي، لم يخير بين الطيب والأطيب إلا اختار الأطيب على الطيب. فإذا كان هذا المسلك في أربعين سنة يؤهل الأمير المسلم للخلافة على المسلمين وقد ارتضوه لذلك واغتبطوا به فهو خليفة، ومن سماه ملكا لا يستطيع أن يكابر في أنه من أرحم ملوك الإسلام وأصلحهم، كنا أيام طلب العلم في القسطنطينية في مجلس للطلبة يتناقشون فيه موضوع سيرة معاوية وخلافته. وكان ذلك في أيام السلطان عبد الحميد. فوقف صديقي الشهيد السعيد عبد الكريم قاسم الخليل - وكان شيعيا - فقال: " أنتم تسمون سلطاننا خليفة، وأنا أخوكم الشيعي أعلن أن يزيد بن معاوية كان بسيرته الطيبة أحق بالخلافة وأصدق عملا بالشرع المحمدي من خليفتنا، فكيف بأبيه معاوية ". على أن معاوية كان يقول عن نفسه - فيما رواه خيثمة عن هارون بن معروف عن ضمرة عن ابن شوذب -: " أنا أول الملوك وآخر خليفة ". وتقدم في ص 77 حديث معمر عن الزهري " أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ". وقد أشرنا هناك إلى اختلاف البيئة وتأثيره في أنظمة الحكم، بل إن معاوية نفسه ذكر ذلك لعمر لما قدم عمر الشام وتلقاه معاوية في موكب عظيم، فاستنكر عمر ذلك، واعتذر له معاوية بقوله: إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ونرهبهم به ". فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: " ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين "، فقال عمر: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه " (البداية والنهاية 8: 124 - 125) ، وسيرة عمر التي حاول معاوية أن يسير عليها سنتين كانت المثل الأعلى في بيته، وكان يزيد يحدث نفسه بالتزامها. روى ابن أبي الدنيا عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني الحافظ عن رشدين المصري عن عمرو بن الحارث الأنصاري المصري عن بكير بن الأشج المخزومي المدني ثم المصري أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلا إن وليت؟ قال: كنت والله يا أبة عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله يا بني، والله لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها، فكيف بك وسيرة عمر (ابن كثير 8: 229) . والذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون إذا قلت لهم: إنه كان من الزاهدين والصفوة الصالحين. روى الإمام أحمد في كتاب الزهد (ص 172 طبع مكة) عن أبي شبل محمد بن هارون عن حسن بن واقع عن ضمرة بن ربيعة القرشي عن علي بن أبي حملة عن أبيه قال: رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوب مرقوع. وأخرج ابن كثير (8: 134) عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد (وهو من شيوخ الإمام الأوزاعي) قال: رأيت معاوية في سوق دمشق، وهو مردف وراءه وصيفا وعليه قميص مرقوع الجيب، يسير في أسواق دمشق، وكان قواد معاوية وكبار أصحابه يستهدونه ملابسه للتبرك بها، فكان إذا حضر أحدهم إلى المدينة وعليه هذه الملابس يعرفونها ويتغالون في اقتنائها. روى الدارقطني عن محمد بن يحيي بن غسان أن القائد الشهير الضحاك بن قيس الفهري قدم المدينة، فأتى المسجد فصلى بين القبر والمنبر، وعليه برد مرقع قد ارتدى به من كسوة معاوية، فرآه أبو الحسن البراد فعرف أنه برد معاوية فساومه عليه وهو يظنه أعرابيا من عامة الناس، حتى رضي أبو الحسن البراد أن يدفع له ثلاثمائة دينار. فانطلق به الضحاك بن قيس إلي بيت حويطب بن عبد العزى فلبس رداء آخر وأعطى أبا الحسن البراد ذلك البرد بلا ثمن وقال له " قبيح بالرجل أن يبيع عطافه، فخذه فالبسه " فأخذه أبو الحسن فباعه فكان أول ما أصابه (ابن عساكر 7: ص 6) وقد أوردنا هذه الأمثلة ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية تخالف الصورة الكاذبة التي كان أعداؤه وأعداء الإسلام يصورونه بها، فمن شاء بعد هذا أن يسمي معاوية خليفة وأميرا للمؤمنين، فإن سليمان بن مهران الأعمش - وهو من الأئمة الأعلام الحفاظ، وكان يسمى " المصحف " لصدقه - كاد يفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله. ومن لم يملأ معاوية عينه وأراد أن يضن عليه بهذا اللقب، فإن معاوية مضى إلى الله عز وجل بعدله وحلمه وجهاده وصالح عمله، وكان وهو في دنيانا لا يبالي أن يلقب بالخليفة أو الملك، وإنه في آخرته لأكثر زهدا بما كان يزهد به في دنياه.

(1/207)


داود - وهو خير من كل معاوية (1) -: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251] (البقرة: من الآية 251) فجعل النبوة ملكًا. فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومتنها (2) .
ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان - والله أعلم - رأي آخر للجمهور، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التي شاءها الله، على
_________
(1) إن داود في نبوته - كما يعرفها المسلمون في دينهم - تجعله خيرا من كل معاوية. وأما داود اليهود - كما يعرفه الناس من توراتهم الموجودة الآن في الأيدي - فإن معاوية خير منه. ومن شقاء اليهود ألا يعرفوا للقرآن والإسلام فضلهما عليهم في تنزيه أنبياء بني إسرائيل عما وصموا به في كتبهم.
(2) يشير إلى حديث سفينة، وقد مضى الكلام عليه في ص 201.

(1/210)


الوجه الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحًا له، راضيًا عنه راجيًا هدنة الحال فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (1) .

[إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه]
وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، فليست المسألة في الحد الذي يجعلها فيه العامة، وقد بيناها في موضعها (2) .
فإن قيل: قتل حجر بن عدي - وهو من الصحابة مشهور بالخير - صبرًا أسيرًا، يقول زياد: وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله، قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلمًا، وقائل
_________
(1) تقدم الكلام على هذا الحديث في ص 200.
(2) أي من مؤلفاته الأخرى. وهذه المسألة من مسائل الفقه الإسلامي الممحصة، المبنية أحكامها على النصوص والسنن والأسس الشرعية التي قام الدين على مثلها في باب جلب المصالح ودرء المفاسد وتقدير الضرورات بأقدارها. والقاضي أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية (ص 5) لم يذكر مخالفا في جواز إمامة المفضول إلا الجاحظ، وماذا يضر أئمة الدين إذا خالفهم، وهل العباسيون الذين عرف الجاحظ بالتقرب إليهم في حياتهم كانوا أفضل معاصريهم؟ أما جمهور الفقهاء والمتكلمين فقالوا تجوز إمامة المفضول وصحت بيعته، ولا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرا عن شروط الإمامة، كما يجوز - في ولاية القضاء - تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط الاستحقاق، ونحيل القارئ على كتاب " الإمامة والمفاضلة " لأبي محمد بن حزم المدرج في الجزء الرابع من كتاب " الفِصَل " ولا سيما الفصل المعقود لإمامة المفضول (ص 163 - 167 من طبعة مصر سنة 1320) .

(1/211)


يقول قتله حقًا (1) .
فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله: قلنا:
_________
(1) حجر بن عدي الكندي عده البخاري وآخرون من التابعين. وعده البعض الآخر من الصحابة. وكان من شيعة علي في الجمل وصفين. وروى ابن سيرين أن زيادا - وهو أمير الكوفة - خطب خطبة أطال فيها، فنادى حجر بن عدي " الصلاة! " فمضى زياد في خطبته، فحصبه حجر وحصبه آخرون معه. فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله، وعد ذلك من الفساد في الأرض. فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إلي. . . فلما جيء به إلى معاوية أمر بقتله. فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه. ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كانت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب. وكما كانت عائشة تود لو أن معاوية شمل حجرا بسعة صدره، فإن عبد الله بن عمر كان يتمنى مثل ذلك. والواقع أن معاوية كان فيه من حلم عثمان وسجاياه، إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان وما جر إليه تمادي الذين اجترأوا عليه.

(1/212)


الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل. ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لعن فيه معاوية. وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس - وبينهم وبين بني أمية ما لا يخفى على الناس - مكتوب على أبواب مساجدها: " خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم (1) .
ولكن حجرًا - فيما يقال - رأى من زياد أمورا منكرة (2) فحصبه، وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادًا.
وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين، وما أنتم ودخولكم حيث لا تشعرون، فما لكم لا تسمعون؟

[فساد ما تقوله الشيعة في وفاة الحسن أهلية يزيد للولاية]
فإن قيل: قد دس على الحسن من سمه.
_________
(1) المؤلف أقام في بغداد زمن الدولة العباسية كما ذكرنا في ترجمته، فهو يعرف مساجدها معرفة مشاهدة وعيان. ومعاوية خال المؤمنين لأنه أخو أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان المشتهرة بكنيتها (أم حبيبة) .
(2) كان زياد في خلافة علي واليا من ولاته، وكان حجر بن عدي من أولياء زياد وأنصاره يومئذ. ولم يكن ينكر عليه شيئا. فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعا بعاطفة التحزب والتشيع. وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد، فلمعاوية عذر إذا رأى أن حجرا ممن سعى في الأرض فسادا.

(1/213)


قلنا: هذا محال من وجهين: أحدهما أنه ما كان ليتقي من الحسن بأسًا وقد سلم الأمر. الثاني أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تحملونه - بغير بينة - على أحد من خلقه في زمان متباعد لم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل المصمم (1) .

[نقد ثلاثة أخبار ملفقة على وهب بن جرير في تمهيد معاوية لولاية يزيد]
فإن قيل: فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل (2) . وجرى بينه وبين عبد الله
_________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 225) فيما تزعمه الشيعة من أن معاوية سم الحسن: (لم يثبت ذلك ببينة شرعية، ولا إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به. وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم) . قال: " وقد رأينا في زماننا من يقال عنه سم ومات مسموما من الأتراك وغيرهم. ويختلف الناس في ذلك حتى في نفس الموضع الذي مات فيه والقلعة التي مات فيها، فتجد كلا منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر ". وبعد أن ذكر ابن تيمية أن الحسن مات بالمدينة وأن معاوية كان بالشام، ذكر للخبر احتمالات - على فرض صحته - منها أن الحسن كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة. . . إلخ (وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص 266) .
(2) إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما، فهذا ما لا يبلغه خليفة في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز. وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر. وإن كان مقياس الأهلية الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها، والعدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم، والرفق بأفرادهم وجماعاتهم، فإن يزيد يوم تمحص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم، وأجزل الثناء عليهم.

(1/214)


بن عمر وابن الزبير والحسن ما قصه [المؤرخون] عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه وعن غيره: لما أجمع معاوية أن يبايع لابنه يزيد حج، فقدم مكة في نحو ألف رجل. فلما دنا من المدينة خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فلما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد فقال: من أحق بهذا الأمر منه (1) . ثم
_________
(1) شباب قريش المعاصرون ليزيد - ممن يحدثون أنفسهم بولاية الأمر لبعض الاعتبارات التي يعرفونها لأنفسهم - كثيرون جدا حتى سعيد بن عثمان بن عفان ومن هم دون سعيد كانوا يطمعون بولاية الأمر بعد معاوية. ومبدأ الشورى في انتخاب الخليفة أفضل بكثير من مبدأ ولاية العهد. لكن معاوية كان يتعلم بينه وبين نفسه أن فتح باب الشورى في انتخاب من يخلفه سيحدث في الأمة الإسلامية مجزرة لا ترقأ فيها الدماء إلا بفناء كل ذي أهلية في قريش لولاية شيء من أمور هذه الأمة. ومعاوية أحصف من أن يخفى عليه أن المزايا موزعة بين هؤلاء الشباب القرشيين، فإذا امتاز أحدهم بشيء منها على أضرابه ولداته، فإن فيهم من يمتاز عليه بشيء آخر منها. غير أن يزيد - مع مشاركته لبعضهم في بعض ما يمتازون به - يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أعني القوة العسكرية التي تؤيده إذا تولى الخلافة، فتكون قوة للإسلام. كما تؤيده إذا أوقع الشيطان الفتنة على هذا الكرسي بين المتزاحمين عليه، فيكون ما لا يحب كل مسلم أن يكون. ولو لم يكن ليزيد إلا أخواله من قضاعة وأحلافهم من قبائل اليمن، لكان منهم ما لا يجوز لبعيد النظر أن يسقطه من قائمة الحساب عندما يفكر في هذه الأمور. أضف هذا إلى ما قرره ابن خلدون عند كلامه على مسير الحسن إلى العراق للخروج على يزيد حيث إن في فصل " ولاية العهد " من مقدمة تاريخه: " وأما الشوكة، فغلط يرحمه الله فيها، لأن عصبية مضر كانت في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف. وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه، وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي. . . حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد. فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم ".

(1/215)


ارتحل، فقدم مكة فقضى طوافه، ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد وقال: " أما بعد يا ابن عمر، فقد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك أمير. وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى في فساد ذات بينهم ". فلما سكت تكلم ابن عمر فحمد الله واثنى عليه ثم قال: " أما بعد فإنه قد كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير منهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار. وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا واحد منهم ". فخرج ابن عمر (1) .
وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فتشهد ثم أخذ في الكلام فقطع عليه كلامه، فقال: " إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى
_________
(1) هذا الخبر معارض بما في كتاب المغازي من صحيح البخاري (ك 64 ب 29 - ج 5 ص 48) عن ابن عمر أن أخته أم المؤمنين حفصة نصحت له بأن يسرع بالذهاب للبيعة وقالت: " الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة "، وانظر ص 223.

(1/216)


الله، وإنا والله لا نفعل. والله لَتَرُدَّنَّ هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتفرنها عليك جذعة (1) " ثم وثب فقام. فقال معاوية: " اللهم اكففه بما شئت ". ثم قال: " على رسلك أيها الرجل، لا تشرفن لأهل الشام، فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك، حتى أخبر العشية أنك قد بايعت، ثم كن بعد ذلك على ما بدا لك من أمرك ".
ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: " يا ابن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من جحر دخل في آخر، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما. فقال ابن الزبير: إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها، وهلم ابنك فلنبايعه. أرأيت إذا بايعت ابنك معك لأيكما نسمع، لأيكما نطيع؟ لا تجتمع البيعة لكما أبدا " (2) . ثم قام.
فخرج معاوية فصعد المنبر فقال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار. وزعموا أن ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر لم يبايعوا ليزيد قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له.
فقال أهل الشام: لا والله: لا نرضى حتى يبايعوا على رءوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم.
_________
(1) أي لتنكشفن عليك الفتنة في أشد حالاتها. ويلاحظ أن الذين انتحلوا هذه الأقوال في الاستطالة على معاوية لم يطعنوا في كفاءة يزيد وأهليته لأنها آخر ما يرتابون فيه.
(2) ابن الزبير أذكى من أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معا في حياة معاوية. والذين اخترعوا هذه الأخبار وأضافوها إلى وهب بن جرير بن حازم يكذبون كذبا مفضوحا.

(1/217)


فقال: " مه، سبحان الله، وما أسرع الناس إلى قريش بالشر. لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم ". ثم نزل.
فقال الناس: بايعوا. ويقولون هم: لم نبايع. ويقول الناس: قد بايعتم.
وروى وهب من طريق آخر قال: خطب معاوية فذكر ابن عمر فقال: " والله ليبايعن أو لأقتلنه ". فخرج عبد الله بن عبد الله بن عمر إلى أبيه وسار إلى مكة ثلاثًا وأخبره (1) فبكى ابن عمر. فبلغ الخبر إلى عبد الله بن صفوان، فدخل على ابن عمر فقال: أخطب هذا بكذا؟ قال: نعم. قال فما تريد، أتريد قتاله؟ قال: يا ابن صفوان، الصبر خير من ذلك. فقال ابن صفوان: والله لو أراد ذلك لأُقَاتِلَنَّهُ (2) . فقدم معاوية مكة فنزل ذا طوى، وخرج إليه عبد الله بن صفوان فقال: أنت تزعم أنك تقتل
_________
(1) هذا الخبر عن وهب بن جرير بن حازم يشعر بأن معاوية خطب هذه الخطبة وهو في المدينة قادما إليها من دمشق قبل أن يصل إلى مكة، وأن ابن عمر كان يومئذ في مكة فركب إليه ابنه حتى لقيه بمكة وأخبره بهذه الخطبة. وفي الخبر الذي قبل هذا - وهو مروي عن وهب بن جرير بن حازم أيضا - التصريح بأن ابن عمر كان بالمدينة عند وصول معاوية إليها من دمشق، وأنه كان مع الأعيان الذين خرجوا لاستقباله. فالخبران متناقضان يكذب أحدهما الآخر مع أنهما عن راوٍ واحد. ولا أدري من أين جاء بهما المؤلف؟ ولم ينقلهما الطبري مع أنه يعتني بأخبار وهب بن جرير لأنه ثقة، ووهب مات سنة 206 وأبوه سنة 170 بعد أن اختلط، فبينهما وبين هذه الحوادث رواة آخرون، وبينهما وبين الطبري وغيره من المؤرخين رواة كثيرون. وأعتقد أن هذه الأخبار غير صحيحة لتناقضها، ولو عرفنا رواتها إلى وهب وبعد وهب لعرفنا من أين جاء الكذب.
(2) عبد الله بن صفوان حفيد أمية بن خلف الجمحي. قتل مع ابن الزبير سنة 73.

(1/218)


ابن عمر إن لم يبايع لابنك؟ قال: أنا أقتل ابن عمر؟ إني والله لا أقتله.
وروى وهب من طريق ثالث (1) قال: إن معاوية لما راح عن بطن مُرّ قاصدا إلى مكة قال لصاحب حرسه: لا تدع أحدًا يسير معي إلا من حملته. فخرج يسير وحده، حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي، فوقف وقال: مرحبًا وأهلًا بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد شباب المسلمين. دابة لأبي عبد الله يركبها. فأتي ببرْذوْن، فتحول عليه. ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر (2) فقال: مرحبا بابن شيخ قريش وسيدهم وابن صديق هذه الأمة. دابة لأبي محمد يركبها. فأتي ببرذون فركبه. ثم طلع ابن عمر فقال: مرحبًا وأهلًا بصاحب رسول الله وابن الفاروق وسيد المسلمين، ودعا له بدابة فركبها. ثم طلع ابن الزبير فقال: مرحبا وأهلًا بابن حواري رسول الله وابن الصديق وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بدابة فركبها، ثم أقبل يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة، ثم كانوا أول داخل وآخر خارج ليس في الأرض صباح إلا لهم فيه حباء وكرامة، لا يعرض لهم بذكر شيء مما هو فيه حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره إلى الشام
_________
(1) وهذا الخبر أيضا ليس عند الطبري. وأظنه مصنوعا في المصنع الذي خرج منه الخبران السابقان.
(2) نحن نعلم من الخبر الأول عن وهب أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان في المدينة، وكان مع الذين استقبلوا معاوية عند وصوله إليها من دمشق، فما الذي طار به إلى مكة حتى صار في مستقبلي معاوية عند وصوله إليها؟ حقا إن الذين يكذبون على معاوية أغبياء لا يجيدون صناعة الكذب.

(1/219)


وأنيخت رواحله، فأقبل بعض القوم على بعض فقالوا: أيها القوم لا تخدعوا إنه والله ما صنع هذا لحبكم ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد، فأعدوا له جوابًا، أقبلوا على الحسين فقالوا: أنت يا أبا عبد الله. قال: وفيكم شيخ قريش وسيدها؟ هذا أحق بالكلام. فقالوا: أنت يا أبا محمد - لعبد الرحمن بن أبي بكر - فقال. لست هناك، وفيكم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن سيد المسلمين - يعني ابن عمر - فقالوا لابن عمر: أنت! فقال: لست بصاحبكم، ولكن أولوا الكلام ابن الزبير يكفكم. قالوا: أنت يا ابن الزبير. قال: نعم، إن أعطيتموني عهودكم ومواثيقكم أن لا تخالفوني كفيتكم الرجل. فقالوا: فلك ذلك. فخرج الإذن، فأذن لهم. فدخلوا.
فتكلم معاوية فحمد الله واثنى عليه ثم قال: لقد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم، وحلمي لما يكون منكم، ويزيد ابن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس لكم رأيًا. وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم الذين تنزعون وتؤمّرون وتجبون وتقسمون لا يدخل عليكم في شيء من ذلك.
فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني؟ فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني؟ فسكتوا: فأقبل على ابن الزبير فقال: هات يا ابن الزبير، فإنك لعمري صاحب خطبة القوم، فقال: نعم يا أمير المؤمنين أخيرك بين ثلاث خصال أيها أخذت فهي لك رغبة: قال: لله أبوك، اعرضهن: قال: إن شئت صنعت ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت صنعت ما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت صنعت ما صنع عمر

(1/220)


فهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر: قال: لله أبوك، ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستخلف أحدًا، فارتضى المسلمون أبا بكر، فإن شئت أن تدع أمر هذه الأمة حتى يقضي الله فيه قضاءه فيختار المسلمون لأنفسهم. فقال: إيه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر، وإني لا آمن عليكم الاختلاف. قال: فاصنع كما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه. قال: لله أبوك. الثالثة؟ قال: تصنع ما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر من قريش ليس أحد منهم من ولد أبيه. قال: عندك غير هذا؟ قال: لا. قال: فأنتم؟ قالوا: ونحن أيضًا. قال. أما لا، فإني أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، وإن كان يقوم القائم منكم إلي فيكذبني على رءوس الأشهاد فأحتمل له ذلك. وإني قائم بمقالة، فإن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعلي كذبي. وإني أقسم بالله لكم لئن رد علي إنسان منكم لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إلي رأسه. ثم دعا بصاحب حرسه فقال: أقم على كل رجل من هؤلاء رجلين من حرسك فإن ذهب رجل يرد علي كلمة بصدق أو كذب فليضرباه بسيفهما (1) ثم خرج وخرجوا معه، حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نستبد بأمر دونهم، ولا نقضي أمرًا إلا عن مشورتهم. وإنهم ارتضوا وبايعوا ليزيد ابن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا باسم الله. فضربوا على يده، ثم جلس على راحلته وانصرف.
_________
(1) أورد المؤلف هذه الأخبار المفضوح كذبها ليعارضها في ص 224 بحديث البخاري عن الموقف السليم لابن عمر في هذا الحادث، حتى يعلم الناس أن الحق في واد وهؤلاء الرواة الكاذبون في واد غيره.

(1/221)


فلقيهم الناس فقالوا: زعمتم وزعمتم، فلما أرضيتم وحبيتم فعلتم قالوا: إنا والله ما فعلنا. قالوا: فما منعكم أن تردوا على الرجل إذ كذب؟ ثم بايع أهل المدينة والناس، ثم خرج إلى الشام.
قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : لسنا ننكر، ولا بلغت بنا الجهالة، ولا لنا في الحق حمية جاهلية، ولا ننطوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل نقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] إلا أن نقول، إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحدًا من قرابته فكيف ولدًا، وأن يقتدي بما أشار به عبد الله بن الزبير في الترك أو الفعل (1) فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة وبايعه الناس، وتخلف عنها من تخلف (2) فانعقدت البيعة شرعًا، لأنها تنعقد بواحد وقيل باثنين (3) .
فإن قيل: لمن فيه شروط الإمامة، قلنا: ليس السن من شروطها ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها.
[فإن] قيل: كان منها العدالة والعلم، ولم يكن يزيد عدلًا ولا
_________
(1) كان معاوية أعرف بابن الزبير من ابن الزبير نفسه، روى البلاذري في أنساب الأشراف (4 " 2 ": 53 - 54) عن المدائني عن مسلمة بن علقمة عن خالد عن أبي قلابة أن معاوية قال لابن الزبير: " إن الشح والحرص لن يدعاك حتى يدخلاك مدخلا ضيقا، فوددت أني حينئذ عندك فأستنقذك ". فلما حصر ابن الزبير قال: " هذا ما قال لي معاوية، وددت أنه كان حيا ".
(2) عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس من الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه.
(3) انظر ص 144، والفصل لابن حزم 4: 167 - 169.

(1/222)


عالمًا. قلنا: وبأي شيء نعلم عدم علمه، أو عدم عدالته (1) ؟ ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين أشاروا عليه بأن لا يفعل، وإنما رموا إلى الأمر بعيب التحكيم، وأرادوا أن تكون شورى.
فإن قيل: كان هنالك من هو أحق منه عدالة وعلمًا، منهم مائة وربما ألف. قلنا: إمامة المفضول - كما قدمنا (2) - مسألة خلاف بين العلماء، كما ذكر العلماء في موضعه.
وقد حسم البخاري الباب، ونهج جادة الصواب، فروى في صحيحه ما يبطل جميع هذا المتقدم، وهو أن معاوية خطب وابن عمر حاضر في خطبته، فيما روى البخاري (3) عن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنطف (4) . قلت: قد كان في الأمر ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت: " الحق، فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ". فلم تدعه حتى ذهب.
_________
(1) أما عن العدالة فقد شهد له محمد بن علي بن أبي طالب في مناقشته لابن مطيع عند قيام الثورة على يزيد في المدينة فقال عن يزيد: " ما رأيت منه ما تذكرون. وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبا على الصلاة، متحريا للخير، يسأل عنه الفقه، ملازما للسنة " (ابن كثير 8: 233) . وأما عن العلم فالذي يلزم منه لمثله في مثل مركزه كان فيه موضع الرضا وفوق الرضا: روى المدائني أن ابن عباس وفد إلى معاوية بعد وفاة الحسن بن علي، فدخل يزيد على ابن عباس وجلس منه مجلس المعزي، فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس (ابن كثير 8: 228) .
(2) في ص 211.
(3) ك 64 ب 29 - ج 5 ص 48.
(4) أي وذوائبها تقطر ماء، سمى الذوائب " نوسات " لأنها تنوس، أي تتحرك.

(1/223)


فلما تفرق الناس خطب معاوية فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة (1) فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. فقال حبيب: حُفظت وعُصمت.

[ابن عمر يعلن في الثورة على يزيد أن في عنقه البيعة الشرعية له]
وروى البخاري (2) أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة» وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله (3) وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن نبايع رجلًا على
_________
(1) حبيب بن مسلمة الفهري مكي كان عند وفاة النبي صلي الله عليه وسلم صبيا، ثم التحق بالشام للجهاد فاشتهرت بطولته، ويعد فاتح أرمينية، ويقال إنه كان قائد النجدة التي خرجت من الشام لإنقاذ عثمان من أيدي البغاة عليه، فجاءه الخبر بشهادته وهي في الطريق فعادت.
(2) في كتاب الفتن من صحيحه (ك 92 ب 21 - ج 8 ص 99) .
(3) وهذا الخبر المنير الذي يرويه البخاري في صحيحه يفضح الذين زوروا على وهب بن جرير تلك الأخبار المتناقضة بأن ابن عمر وغيره لم يبايعوا ليزيد، وأن معاوية أقام على رءوسهم من يقطعها إذا كذبوه فيما افتراه عليهم من أنهم بايعوا لابنه. فتبين الآن أنه لم يفتر عليهم، وهذا ابن عمر يعلن في أحرج المواقف - أي في ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن مطيع - أن في عنقه ما في أعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله، وأن من أعظم الغدر أن تبايع الأمة إمامها ثم تنصب له القتال. ولم يكتف ابن عمر بذلك في تلك الثورة على يزيد بل روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه (ك 32 ح 58 - ج 6 ص 22) أن ابن عمر جاء إلى ابن مطيع داعية ابن الزبير ومثير هذه الثورة فقال ابن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال ابن عمر: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: " من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". وكان لمحمد بن علي بن أبي طالب (المعروف بابن الحنفية) مثل هذا الموقف من داعية الثورة ابن مطيع سيراه القارئ في ص 227 - 228 عند الكلام على سيرة يزيد.

(1/224)


بيع الله ورسوله ثم ننصب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه (1) .
فانظروا معشر المسلمين إلى ما روى البخاري في الصحيح، وإلى ما سبق ذكرنا له في رواية بعضهم أن عبد الله بن عمر لم يبايع، وأن معاوية كذب وقال قد بايع. وتقدم إلى حرسه بأمره بضرب عنقه إن كذبه. وهو قد قال في رواية البخاري: " وقد بايعناه على بيع الله ورسوله " وما بينهما من التعارض، وخذوا لأنفسكم بالأرجح في طلب السلامة، والخلاص بين الصحابة والتابعين. فلا تكونوا - ولم تشاهدوهم، وقد عصمكم الله من فتنتهم - ممن دخل بلسانه في دمائهم، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها، لم يلحق الكلب منها إلا بقية دم سقط على الأرض.
وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد " إن كان
_________
(1) انظر لوقعة الحرة ص 292 - 294 من (المنتقى من منهاج الاعتدال) .

(1/225)


خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا ".
وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، لا أفقهها فقهًا ولا أعظمها فيها شرفًا. وأنا أقول ذلك. ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتيك من الحياء إلا خير» .
فهذه الأخبار الصحاح كلها تعطيك أن ابن عمر كان مسلمًا في أمر يزيد، وأنه بايع وعقد له والتزم ما التزم الناس، ودخل فيما دخل فيه المسلمون، وحرم على نفسه ومن إليه بعد ذلك أن يخرج على هذا أو ينقضه.
وظهر لك أن من قال: إن معاوية كذب في قوله بايع ابن عمر ولم يبايع، وأن ابن عمر وأصحابه سئلوا فقالوا " لم نبايع " فقد كذب. وقد صدق البخاري في روايته قول معاوية في المنبر " إن ابن عمر قد بايع " بإقرار ابن عمر بذلك (1) وتسليمه له وتماديه عليه.
فأي الفريقين أحق بالصدق إن كنتم تعلمون؟ الفريق الذي فيه البخاري، أم الذي فيه غيره؟
_________
(1) في ثورة المدينة على يزيد، وفي المناسبات الأخرى. انظر ص 224.

(1/226)


فخذوا لأنفسكم بالأحزم، والأصح، أو اسكتوا عن الكل، والله يتولى توفيقكم وحفظكم.
و" الصاحب " الذي كنى عنه حميد بن عبد الرحمن هو ابن عمر، والله أعلم. وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة، وهي تعضد ما أصَّلناه لكم من أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. ولما في حلها - أو طلب الفضل - من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة.

[الشهادة ليزيد له بالاستقامة والصلاح]
فإن قيل. كان يزيد خمارًا. قلنا: لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه (1) بل شهد العدل بعدالته. فروى يحيى بن بكير، عن
_________
(1) أن معاوية - مع شديد حبه ليزيد، لألمعيته واكتمال مواهبه - آثر أن ينشأ ابنه بعيدا عنه في أحضان الفطرة، وخشونة البداوة وشهامتها، ليستكمل الصفات اللائقة بالمهمة التي تنتظر أمثاله، فبعث به إلى أخبية البادية عند أخواله من قضاعة، ليكون على مذهب أمه ميسون بنت بحدل يوم قالت:
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلى من قصر منيف
وفي ذلك الوسط أمضى يزيد زمن صباه وصدر شبابه، وما لبث أن انتقل أبوه إلى رحمة الله حتى تولى المركز الذي أراده الله له. فلما خلا الجو لابن الزبير - بموت معاوية - صار دعاته يذيعون في الحجاز الأكاذيب على يزيد، وينسبون إليه ما لا يحل لهم، نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (8: 233) أن عبد الله بن مطيع (داعية ابن الزبير) مشى في المدينة هو وأصحابه إلى محمد بن علي بن أبي طالب (المعروف بابن الحنفية) فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته، وأقمت عنده، فرأيته مواظبا على الصلاة، متحريا للخير، يسأل عن الفقه، ملازما للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعا لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إلى الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه. فقال لهم أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (الزخرف: 86) ، ولست من أمركم في شيء. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعا ولا متبوعا. قالوا؟ فقد قاتلت مع أبيك؟ قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك؟ أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاما يحض الناس فيه على القتال. قال: سبحان الله. آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه؟ إذن ما نصحت لله في عباده. قالوا: إذن نكرهك. قال: إذن آمر الناس بتقوى الله، وألا يرضوا المخلوق بسخط الخالق (وخرج إلى مكة) .

(1/227)


الليث بن سعد، قال الليث: " توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا " فسماه الليث " أمير المؤمنين " بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا " توفي يزيد ".

[الحسين بين الذين نهوه عن الخروج والذين حرضوه عليه]
فإن قيل: ولو لم يكن ليزيد إلا قتله للحسين بن علي. قلنا: يا أسفا على المصائب مرة، ويا أسفا على مصيبة الحسين ألف مرة. وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ودمه يراق على البوغاء ولا يحقن (1) يا لله ويا للمسلمين.
وإن أمثل ما روي فيه أن يزيد كتب إلى الوليد بن عتبة ينعي له
_________
(1) البوغاء: التراب الناعم.

(1/228)


معاوية ويأمره أن يأخذ له البيعة على أهل المدينة - وقد كانت تقدمت - فدعا مروان فأخبره فقال له: أرسل إلى الحسين بن علي وابن الزبير، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم. قال: سبحان الله، نقتل الحسين بن علي وابن الزبير؟ قال: هو ما أقوله لك. فأرسل إليهما، فأتاه ابن الزبير، فنعى إليه معاوية وسأله البيعة، فقال: ومثلي يبايع هنا؟ ارق المنبر، وأنا [أبايع] مع الناس علانية. فوثب مروان وقال: اضرب عنقه، فإنه صاحب فتنة وشر. فقال [ابن الزبير] : فإنك لهنالك يا ابن الزرقاء؟ (واستبّا) . فقال الوليد: اخرجا عني، وأرسل إلى الحسين ولم يكلمه بكلمة في شيء، وخرجا من عنده. وجعل الوليد عليهما الرصد. فلما دنا الصبح خرجا مسرعين إلى مكة فالتقيا بها فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوالله لو أن لي مثلهم لذهبت إليهم. فهذا ما صح.
وذكر المؤرخون أن كتب أهل الكوفة وردت على الحسين (1)
_________
(1) أول من كتب إليه من شيوخ شيعته - على ما رواه مؤرخهم لوط بن يحيى - سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر، وأرسلوا كتابهم مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، فبلغا حسينا بمكة في عاشر رمضان سنة 60، وبعد يومين سرحوا إليه قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة السلولي بثلاث وخمسين صحيفة، وبعد يومين آخرين سرحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي (وفي الطبري 6: 197 نصوص بعض رسائلهم وأسماء بعض أصحابها) وهي تدور على أنهم لا يجتمعون مع أميرهم النعمان بن بشير في جمعة، ويدعون الحسين إليهم حتى إذا أقبل طردوا أميرهم وألحقوه بالشام، ويقولون في بعضها: " أينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند " فأرسل الحسين إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليرى إن كانوا مستوثقين مجتمعين ليقدم هو عليهم بعد ذلك. وضل مسلم بن عقيل في الطريق ومات من معه من العطش، فكتب إلى الحسين يستعفيه من هذه المهمة، فأجابه: خشيت ألا يكون حملك على الاستعفاء إلا الجبن. فمضى مسلم حتى بلغ الكوفة، وأعطاه البيعة للحسين اثنا عشر ألفا منهم، وشعر أمير الكوفة النعمان بن بشير بحركاتهم فخطب فيهم ينهاهم عن الفتنة والفرقة، وقال لهم: إني لا أقاتل إلا من قاتلني، ولا آخذ بالظنة والتهمة، فإن أبديتم لي صفحتكم ونكثتم بيعتكم لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي. وعلم يزيد أن النعمان بن بشير حليم ناسك لا يصلح في مقاومة مثل هذه الحركة، فكتب إلى عبيد الله بن زياد عامله على البصرة أنه قد ضم إليه الكوفة أيضا، وأمره أن يأتي الكوفة وأن يطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى يثقفه فيوثقه فيقتله أو ينفيه. فاستخلف عبيد الله أخاه على البصرة، وأقبل إلى الكوفة فاتصل برؤسائها وقبض على أزمة الحال، فما لبث مسلم بن عقيل أن رأى مبايعيه الاثني عشر ألفا كالهباء، ورأى نفسه وحيدا طريدا، ثم قبض عليه وقتل. وكان الحسين قد جاءته قبل ذلك رسائل مسلم بن عقيل بأن اثني عشر ألفا بايعوه على الموت، فخرج عقب موسم الحج يريد الكوفة، ولم يشجعه على الخروج إلا ابن الزبير لأنه عرف أن أهل الحجاز لا يتابعونه ما دام الحسين معهم، فصار الحسين أثقل خلق الله على ابن الزبير (الطبري 6: 196 - 197 وانظر 6: 216 و217) . أما المشفقون على الحسين من هذا الخروج المشئوم فهم جميع أحبائه وذوي قرابته والناصحين له والمتحرين سنة الإسلام في مثل هذا الموقف، كل هؤلاء نهوه عن مسيره، وحذروه من عواقبه، وفي طليعتهم أخوه محمد بن الحنفية (الطبري 6: 190 - 191) ، (وابن عم أبيه حبر الأمة عبد الله بن العباس الطبري 6: 216 - 217) وابن عمه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (2: 219) ، وقد بلغ الأمر بعبد الله بن جعفر أن حمل والي يزيد على مكة - وهو عمر بن سعيد بن العاص - على أن يكتب للحسين كتاب الأمان ويمنيه فيه البر والصلة ويسأله الرجوع، فأجابه والي مكة إلى كل ما طلب وقال له: اكتب ما تشاء وأنا أختم على الكتاب، فكتبه وختمه الوالي، وبعث به إلى الحسين مع أخيه يحيى بن سعيد بن العاص، وذهب عبد الله بن جعفر مع يحيى، وجهدا بالحسين أن يثنياه عن السفر فأبى (وصورة كتاب الوالي في تاريخ الطبري 6: 219 - 220) ، وليس فوق هؤلاء الناصحين أحد في عقلهم وعلمهم ومكانتهم وإخلاصهم، بل إن عبد الله بن مطيع داعية ابن الزبير كان من ناصحيه بعقل وإخلاص (الطبري 6: 196) وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي كان على هذا الرأي (الطبري 6: 215 - 216) والحارث بن خالد بن العاص بن هشام لم يأله نصحا (6: 216) وحتى الفرزدق الشاعر قال له: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية. (الطبري 6: 218) فلم يفد شيء من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الذي كان مشئوما عليه، وعلى الإسلام وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة، وكل هذا بجناية شيعته الذين حرضوه بجهل وغرور، رغبةً في الفتنة والفرقة والشر، ثم خذلوه بجبن ونذالة وخيانة وغدر. ولم يكتف ورثتهم بما فعل أسلافهم فعكفوا على تشويه التاريخ وتحريف الحقائق ورد الأمور على أدبارها.

(1/229)


وأنه أرسل مسلم بن عقيل - ابن عمه - إليهم ليأخذ عليهم البيعة وينظر

(1/230)


هو في اتِّباعه، فنهاه ابن عباس وأعلمه أنهم خذلوا أباه وأخاه، وأشار عليه ابن الزبير بالخروج فخرج، فلم يبلغ الكوفة إلا ومسلم بن عقيل قد قتل وأسلمه من كان استدعاه! ويكفيك بهذا عظة لمن اتعظ. فتمادى واستمر غضبًا للدين وقيامًا بالحق. ولكنه - رضي الله عنه - لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر (1) وطلب
_________
(1) في إيثاره العافية، وحرصه على وحدة المسلمين وتفرغهم لنشر الدعوة والفتوح.

(1/231)


الابتداء في الانتهاء، والاستقامة في الاعوجاج، ونضارة الشبيبة في هشيم المشيخة. ليس حوله مثله ولا له من الأنصار من يرعى حقه، ولا من يبذل نفسه دونه، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد (1) فأرقنا دم الحسين، فجاءتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدهر.
وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها قوله صلى الله عليه وسلم (2) «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان» . فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله. ولو أن عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين وسعه بيته أو ضيعته أو إبله - ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق، وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر - لم يلتفت إليهم، وحضره ما أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم وما قال في أخيه (3) ورأى أنها خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه، فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه؟ ما أدرى في هذا إلا التسليم لقضاء الله، والحزن على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية الدهر. ولولا معرفة أشياخ وأعيان الأمة بأنه أمر صرفه الله عن أهل البيت، وحال من الفتنة لا ينبغي لأحد أن يدخلها، ما أسلموه أبدا.
وهذا أحمد بن حنبل - على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه -
_________
(1) أي يزعم مثيرو الفتنة الذين يشهدون بغير ما علموا.
(2) من حديث عرفجة في كتاب الإمارة من صحيح مسلم: باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع (ك 33 ح 59 - ج 6 ص 22) .
(3) " ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".

(1/232)


قد أدخل عن يزيد بن معاوية في (كتاب الزهد) أنه كان يقول في خطبته: " إذا مرض أحدكم مرضًا فأُشفي ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه " وهذا يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يُقْتَدَى بقولهم ويُرْعَوَى من وعظهم، ونعم. وما أدخله إلا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين. فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا تستحيون؟ ! وإذ سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون، وتقتدون بالأحبار والرهبان من فضلاء الأمة، وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملة: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] والحمد لله رب العالمين.
وانظر إلى ابن الزبير بعد ذلك وما دخل فيه من البيعة له بمكة، والأرض كلها عليه. وانظروا إلى ابن عباس وعقله وإقباله على نفسه. وانظروا إلى ابن عمر وسنه وتسليمه للدنيا ونبذه لها. ولو كان للقيام وجه لكان أولى بذلك ابن عباس، فإن ولدي أخيه عبيد الله قد ذكر أنهما قتلا ظلمًا (1) . ولكن رأى بعقله أن دم عثمان لم يخلص إليه، فكيف بدم ولدي عبيد الله! وإن الأمر راهق (2) قد خرجا عنه حفظًا للأصل، وهو اجتماع أمر الأمة وحقن دمائها وائتلاف كلمتها. ودع الأمر يتولاه أسود مجدع
_________
(1) كان ذلك سنة 40 في اليمن آخر ولاية عبيد الله بن عباس عليهما لعلي، فأرسل معاوية إلى الحجاز واليمن بسر بن أبي أرطاة فأخذ له البيعة على أهل الحجاز، ثم توجه بسر إلى اليمن، فلما علم عبيد الله بمجيئه هرب إلى الكوفة وترك ابنيه في اليمن فقتلهما بسر فيما يقال.
(2) أي تداخل حقه في باطله.

(1/233)


حسبما أمر به صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه (1) . وكل منهم عظيم القدر مجتهد، وفيما دخل فيه مصيب مأجور، ولله فيه حكم قد أنفذه، وحكم في الآخرة قد أحكمه وفرغ منه. فاقدروا هذه الأمور مقاديرها، وانظروا بما قابلها ابن عباس وابن عمر فقابلوها، ولا تكونوا من السفهاء الذين يرسلون ألسنتهم وأقلامهم بما لا فائدة لهم فيه، ولا يغني من الله ولا من دنياهم شيئًا عنهم.
وانظروا إلى الأئمة الأخيار وفقهاء الأمصار، هل أقبلوا على هذه الخرافات وتكلموا في مثل هذه الحماقات؟ بل علموا أنها عصبيات جاهلية وحمية باطلة، ولا تفيد إلا قطع الحبل بين الخلق، وتشتيت الشمل واختلاف الأهواء - وقد كان ما كان، وقال الإخباريون ما قالوا فإما سكوت، وإما اقتداء بأهل العلم وطرح لسخافات المؤرخين والأدباء. والله يكمل علينا وعليكم النعماء برحمته.