العواصم من القواصم - ط الأوقاف السعودية

[عاصمة]
[تحذير المسلمين من أهواء المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب]
عاصمة إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين،
_________
(1) من شيوخ المؤلف، انظر ترجمة ابن العربي في أول الكتاب.
(2) وكان أكثر ذلك في زمن دولتهم.
(3) يتخذونهم ذريعة، ويطعنون في كثير من أفاضلهم، ويعرضون بمثل الإمام زيد، بل يجحدون أخوات فاطمة. ثم إنهم يخالفون صريح شريعة جد أهل البيت بدعوى العصمة والتأليه الفعلي لبعض أفرادهم.
(4) حتى الأنبياء، ويغطون على جريمتهم باستثناء نبينا صلي الله عليه وسلم.

(1/247)


والمؤرخين، وأهل الآداب، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاماً إلا للطبري (1) وغير ذلك هو الموت الأحمر، والداء الأكبر. فإنهم ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى. فإذا قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل. ولم تطووا كشحا على هذه الغوائل ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع محتال. فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسما في كتاب (الإمامة والسياسة) إن صح عنه جميع ما فيه (2)
_________
(1) ومع ذلك فالطبري ذكر مصادر أخباره وسمى رواتها لنكون من أمرهم على بينة، وقال في آخر مقدمة كتابه: فما يكن في كتابي هذا من خبر يستنكره قارئه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا (انظر مجلة الأزهر: صفر 1372ص 210- 215) .
(2) لم يصح عنه شيء مما فيه. ولو صحت نسبة هذا الكتاب للإمام الحجة الثبت أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276) لكان كما قال عنه ابن العربي، لأن كتاب الإمامة والسياسة مشحون بالجهل والغباوة والركة والكذب والتزوير. ولما نشرت لابن قتيبة كتاب (الميسر والقداح) قبل أكثر من ربع قرن، وصدرته بترجمة حافلة له، وسميت مؤلفاته، ذكرت (في ص26 - 27) مآخذ العلماء على كتاب الإمامة والسياسة، وبراهينهم على أنه ليس لابن قتيبة، وأزيد الآن على ما ذكرته في (الميسر والقداح) أن مؤلف الإمامة والسياسة يروي كثيرا عن اثنين من كبار علماء مصر، وابن قتيبة لم يدخل مصر ولا أخذ عن هذين العالمين، فدل ذلك كله على أن الكتاب مدسوس عليه.

(1/248)


وكالمبرد في كتابه الأدبى (1) . وأين عقله من عقل ثعلب الإمام المتقدم في أماليه، فإنه ساقها بطريقة أدبية سالمة من الطعن على أفاضل الأمة. وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه (2) . فإذا صنتم أسماعكم وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة مما ينسب إليه ما لا يليق ويذكر [عنه] ما لا يجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل الباطل ناكبين.
فهذا مالك رضي الله عنه قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان في موطئه وأبرزه في جملة قواعد الشريعة (3) .
_________
(1) المبرد ينزع إلى شيء من رأي الخوارج، وله فيهم هوى. وإن إمامته في اللغة والأدب لا تغطي على ضعفه في علم الرواية والإسناد. وإذا كان أبو حامد الغزالي على جلالته في العلوم الشرعية والعقلية لم يتجاوز له العلماء عن ضعفه في علوم الإسناد فأحرى ألا يتجاوزوا عن مثل ذلك للمبرد. وعلى كل حال فكل خبر مما مضى أو سيأتي - في أمتنا أو في أي أمة غيرها - يحتمل الصدق والكذب حتى يثبت صدقه أو كذبه على محك الاختبار وبالبحث العلمي.
(2) علي بن الحسين المسعودي يعده الشيعة من شيوخهم وكبارهم، ويذكر له المامقاني في تنقيح المقال (2: 282 -283) مؤلفات في الوصاية وعصمة الإمام وغير ذلك مما يكشف عن عصبيته والتزامه غير سبيل أهل السنه المحمدية. ومن طبيعة التشيع والتحزب والتعصب البعد بصاحبه عن الاعتدال والإنصاف.
(3) من ذلك ما جاء في (باب المستكرهة من النساء) بكتاب الأقضية من الموطأ (ص734) : حدثني مالك عن ابن شهاب أن عبد الملك بن مروان قضى في امرأة أصيبت مستكرهة بصداقها على من فعل ذلك بها. وفي كتاب المكاتب من الموطأ (ص788) قضاء آخر لعبد الملك، وفي كتاب العقول من الموطأ (ص 872) قضاء له أيضا. أما أبوه مروان بن الحكم فأقضيته وفتاواه كثيرة في الموطأ وغيره من كتب السنة المتداولة في أيدي أئمة المسلمين يعملون بها من أيام الخير إلى الآن. وانظر لورع مروان وابنه عبد الملك حديث مالك عن ابن أبي عبلة في كتاب النكاح من الموطأ (ص 540) .

(1/249)


وقال في روايته: " عن زياد بن أبي سفيان ". فنسبه إليه وقد علم قصته، ولو كان عنده ما يقول العوام حقا لما رضي أن ينسبه ولا ذكره في كتابه الذي أسسه للإسلام (1) وقد جمع ذلك كله في أيام بني العباس والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه ولا أنكروا ذلك منه لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد مسألة قد اختلف الناس فيها فمنهم من جوزها ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم إليها سبيل.
وكذلك أعجبهم - حين قرأ الخليفة على مالك الموطأ - ذكر عبد الملك بن مروان فيه وإذكاره بقضائه، لأنه إذا احتج العلماء بقضائه فسيحتج بقضائه أيضا مثله، وإذا طعن فيه طعن فيه بمثله (2) .
_________
(1) وعامر بن شراحيل الشعبي كان من أئمة المسلمين كذلك، بل إن مالكا كان يراه إماما له. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة زياد من تاريخ دمشق (5: 406) أن الشعبي قال: أتت زيادا قضية في رجل مات وترك عمة وخالة فقال " لأقضين بينكم بقضاء سمعته من عمر بن الخطاب " وذلك أنه جعل العمة بمنزلة الأخ والخالة بمنزلة الأخت.
(2) وممن روى عن عبد الملك بن مروان البخاري في كتابه (الأدب المفرد) وروى عن عبد الملك الإمام الزهري، وعروة بن الزبير، وخالد بن معدان من فقهاء التابعين وعبادهم، ورجاء بن حيوة أحد الأعلام. قال نافع مولى ابن عمر: لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان. وروى الأعمش عن أبي الزناد أن فقهاء المدينة كانوا أربعة: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل الإمارة. وقال الشعبي: ما جالست أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه، إلا عبد الملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني منه، ولا شعرا إلا زادني فيه (البداية والنهاية 9: 62-63) .

(1/250)


وأخرج البخاري (1) عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: " إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله، ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك ".

[ما نسب إلى الأمويين أهون من قول المأمون بخلق القرآن وسماح العباسيين] بقراءة
وهذا المأمون كان يقول بخلق القرآن، وكذلك الواثق، وأظهروا بدعتهم، وصارت مسألة معلومة إذا ابتدع القاضي أو الإمام هل تصح ولايته وتنفذ أحكامه أم هي مردودة؟ وهي مسألة معروفة. وهذا أشد من برودات أصحاب التواريخ من أن فلاناً الخليفة شرب الخمر أو غنى أو فسق أو زنى، فإن هذا القول في القرآن بدعة أو كفر - على اختلاف العلماء فيه - قد اشتهروا به، وهذه المعاصي لم يتظاهروا بها إن كانوا فعلوها، فكيف يثبت ذلك عليهم بأقوال المغنين والبراد من المؤرخين [الذين] قصدوا بذكر ذلك عنهم تسهيل المعاصي على الناس وليقولوا إذا كان خلفاؤنا يفعلون هذا فما يستبعد ذلك منا. وساعدهم الرؤساء على إشاعة هذه الكتب وقراءتها لرغبتهم في مثل أفعالهم حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وحتى سمحوا للجاحظ أن
_________
(1) في كتاب الأحكام من صحيحه (ك93 ب43 - ج8 ص122) . وانظر السنن الكبرى للبيهقي 8: 147.

(1/251)


تقرأ كتبه في المساجد وفيها من الباطل والكذب والمناكير ونسبة الأنبياء إلى أنهم ولدوا لغير رشدة كما قال في إسحاق صلى الله عليه وسلم في كتاب الضلال والتضلال، وكما مكنوا من قراءة كتب الفلاسفة في إنكار الصانع وإبطال الشرائع لما لوزرائهم وخواصهم في ذلك من الأغراض الفاسدة والمقاصد الباطلة، فإن زل فقيه أو أساء العبارة عالم: يكن
ما أساء النار في رأس كبكبا (1)
وبالوقوف على هذه الفضول تحسن نياتكم، وتسلم عن التغير قلوبكم على من سبق.
وقد بينت لكم أنكم لا تقبلون على أنفسكم في دينار، بل في درهم، إلا عدلا بريئا من التهم، سليما من الشهوة. فكيف تقبلون في أحوال السلف وما جرى بين الأوائل ممن ليس له مرتبة في الدين، فكيف في العدالة!
ورحم الله عمر بن عبد العزيز حيث قال وقد تكلموا في الذي جرى بين الصحابة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
_________
(1) كبكب: جبل خلف عرفات مشرف عليها، كان لبني سامة بن لؤي قبل أن يجلوا إلى عمان. والشعر للأعشى، وتمامه:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرا ومسحبا
وتدفن منه الصالحات، وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا

(1/252)