فتوح الشام

نساء المسلمين في المعركة
قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن عبد الحميد وكان قد شهد وقعة اليرموك وقال أولها شرر نار وآخرها ضرام الحرب وأن كل يوم يأتي من القتال اصعب من اليوم الآخر قال عمرو بن جرير فشهدنا في اليوم الأول حربا يسيرا وذلك أن ماهان أمر عشرة من الصفوف أن تحمل على المسلمين بعد أن قتل عبد الرحمن من قتل وحمل المسلمون عليهم فالتقت الرجال بالرجال فنظر أبو عبيدة وكان واقفا إلى ماهان ولم يحمل على المسلمين فعلم أن الأمر يصعب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وجعل يتلون قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ أن النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] قال ولم يزل الحرب بين الفريقين من قيام الشمس في قبة السماء إلى أن همت بالغروب ولم ينفصل الجمعان حتى فرق الليل بينهم فحينئذ افترق الجمعان وهم ما يعرفون إلا بالشعار وخرج كل قوم من العرب يهتفون بشعارهم وينادون بأنسابهم ورجعت كل فئة إلى مكانها واستقبل المسلمين نساؤهم فصارت تجعل المرأة مرطها تمسح به عن وجه زوجها وتقول له أبشر بالجنة يا ولي الله وبات المسلمون في خير وسرور وأوقدوا النيران وذلك أن القتل في أول يوم لم.

(1/186)


يتبين في الفريقين بل قتل من الروم يسير ومن المسلمين عشرة رجلان من حضرموت أحدهما يقال له مازن: والثاني يقال له: صارم وثلاثة من عسفان رافع ومجلي وعلي وواحد من الأنصار وهو عبد الله بن الأخرم وثلاثة من بجيلة وواحد من مراد وهو سويد أبن أخي قيس بن هبيرة فحزن عليه قيس لما فقده فعلم إنه في القتلى فخرج قيس وخرج معه رجال من قومه حتى أتوا موضع المعركة وفتشوا عليه فلم يروه فلما هم بالرجوع نظر إلى نار قد أقبلت من جهة الروم يطلبون مكان الوقعة وهم يطلبون بطريقا كان معظما عندهم فقال قيس لجماعته أخمدوا ناركم فوالله لآخذن بثأر ابن أخي من هؤلاء القوم قال فأخمدوا نارهم ورقدوا بين القتلى وتأهبوا للقتال وإذا بالروم قد أتوا وهم نحو مائة وهم في زينة عظيمة وآلة وعدة وكان مع قيس سبعة من قومه فقالوا له: إن القوم مائة ونحن سبعة وقد تولانا التعب فقال قيس ارجعوا أنتم وإني والله أطلب الموت لا أريد غيره وأجاهد في الله حق جهاده فعجبوا من قوله ووقفوا معه وقفة الكرام وأقبلت الأعلاج يريدون المعركة ويدورون بين القتلى وقد وقفوا بالعلج وهو الذي برز أولا وقتله ابن أبي بكر الصديق فلما احتملوه وولوا يريدون عسكرهم صاح فيهم قيس من ورائهم وتابعه أصحابه بالصياح فذهلوا ورموا البطريق ووضع المسلمون السيف فيهم وجعلوا يقتلونهم قتلا ذريعا وكان قيس إذا ضرب فيهم يقول: هذا عن ابن اخي قال فقتل منهم ستة عشر رجلا وقتل أصحابه أكثر القوم وانفلت الباقون فلما فرغ قيس من القوم عاد يطلب ابن اخيه نحو عسكر الروم فسمع انينا فأقبل نحوه فإذا هو ابن اخيه سويد بن بهرام المرادي فلما عرفه بكى فقال: ما أبكاك يا ابن اخي فقال: يا عماه إني تبعت القوم فرجع الي واحد منهم وطعنني في صدري وإني لاعالج منها أمرا عظيما وهؤلاء الحور العين في حذائي ينتظرون خروج روحي قال فبكى قيس وقال: يا ابن اخي لكل أجل كتاب ولعل أن يكون في أجلك طول فقال هيهات والله يا عم أفتقدر أن تحملني إلى عسكر المسلمين فأموت هناك قال أجل قال ثم احتملته على ظهري وأقبلت به إلى عسكر المسلمين وقصدت به إلى رحله وسجيته وسمع أبو عبيدة بمجيء قيس فأتى إليه ورأى الغلام يجود بنفسه فجلس عند رأسه وبكى وبكت المسلمون فقال له أبو عبيدة: كيف تجدك يا ابن اخي فقال بخير والله وغفران وجزى الله محمدا عنا خيرا ولقد صدقنا في قوله وهذه الحور تنادي وتشخص فمات قال فما برحنا حتى واريناه بالتراب قال وخبره قيس بمن قتل في تلك الليلة من المشركين ففرح فرحا شديدا وعلم أن ذلك علامة النصر قال وبات الناس في ليلتهم يقرأون القرآن ويصلون ويسألون المعونة والنصر.
قال وأما ماهان فإنه لما رجع إلى عسكره اجتمع إليه البطارقة والرهبان والقسوس فقدموا له طعاما ومدوا له سماطا فلم يأكل منه شيئا مما وقع في نفسه من الرؤيا التي رآها.

(1/187)


البطريق وكان ماهان يود لو ترك الأمر وصالح على أداء الجزية ولكنه كان مغلوبا على أمره وأقبلت الملوك والقسوس والبطارقة والرهبان على ماهان وقالوا: ما بال الملك امتنع من الطعام فإن كان ذلك من غمه على من مات وعلى ما جرى عليه من الحرب فإن الحرب سجال فيوم لك ويوم عليك واعلم أيها الملك أن القوم بنا ظافرون وما نملكهم إلا أن نحمل عليهم فلا يبقى منهم أحد قال ماهان ما أظنكم غير منصورين إلا من تغير اديانكم والجور في سلطانكم فبهذا نصرت العرب عليكم فقام إليه رجل وقال: أيها الملك عشت الدهر وأنا رجل من أهل دينكم وكان لي مائة رأس من الغنم وكان فيها ولدي يرعاها فضرب عظيم من عظماء أصحابك الفسطاط إلى جانبها ثم إنه عدا عليها فأخذ منها حاجته وأخذ بقيتها أصحابه فجاءته زوجتي تشكو إليه انتهاب غنمي فلما رآها أمر بها فأدخلت إليه فطال مكثها عنده فلما رأى ولدها ذلك دنا من الفسطاط فإذا هو يجامع أمه فصاح الغلام فأمر البطريق بقتل الغلام فقتل فأتيت أريد خلاص ولدي وزوجتي فامر بي فضربت بالسيف فتلقيت الضربة بيدي فقطعها ثم إنه أخرج يده فإذا هي مقطوعة قال فغضب ماهان عند ذلك غضبا شديدا وقال للمعاهد أتعرف هذا البطريق الذي فعل بك ذلك قال: نعم هو هذا وأومأ بيده إلى بطريق من البطارقة فنظر إليه ماهان مغضبا قال فغضب البطريق وغضب البطارقة لغضبه ومالوا على المعاهد فضربوه بأسيافهم حتى قطعوه وماهان ينظر إليهم فزاد غضبه وقال خذلتم وهلكتم وحق المسيح يا ويلكم ترجون النصر وأنتم تفعلون هذا الفعال أما تخافون القصاص غدا وأن الله ينتقم منكم وينزع منكم صالح ما أعطاكم ويعطيه غيركم ممن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فوالله انتم الآن عندي كالكلاب وسوف ترون عاقبة هذا كله والي أي مصير مصيركم يكون قال ثم إنه قام وتركهم فلما انصرف القوم ولم يبق عنده إلا بطريق واحد قال له: أيها الملك والله أن القوم لكما تقول وما أظن إلا أننا مغلوبون وأعلم إني رأيت في منامي كان رجالا نزلوا من السماء على خيل شهب فاحدقوا بهؤلاء العرب وعليهم كامل السلاح ونحن وقوف بازائهم فنظرت إليهم ولا يخرج منا أحد إلا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وذكر له كما قال ذاك الأول فأقبل ماهان يفكر طول ليلته فيما يصنع في أمر المسلمين فلما اصبح الصباح عبى المسلمون صفوفهم ونظروا إلى عسكر الروم وإذا فيه ارتعاد وانزعاج فعلموا أن لهم أمرا.
قال أبو عبيدة: دعوهم ولا تبقوا عليهم فإن الباغي مخذول قال واجتمعت البطارقة والملوك الأربعة إلا ماهان وهم قناطر وجرجير والديرجان وقورين وهم أصحاب الجيش يستأذنونه في الحرب فقال ماهان وكيف لي أن أقاتل بقوم يظلمون أن كنتم احرارا فقاتلوا عن سلطانكم وامنعوا عن حريمكم فقالوا: الآن أحببنا الحرب فوحق المسيح لا نفارقهم حتى ننفيهم من الشام إلى بلادهم أو يقتلونا أو نقتلهم فثق بقولنا.

(1/188)


وانهض بنا إليهم فإذا عزمت على القتال فدع كل واحد منا يقاتل يوما حتى تعرف منا من هو أفرس وأشد ويضجر المسلمون من المطاولة ونجمع عيالنا وأطفالنا وأموالنا فإن كانت على العرب رددنا كل شيء إلى مكانه وأن كانت للعرب علينا الحقوا ببلادهم وقومهم ويكون الأمر بيننا وبينهم في يوم واحد أو يومين فقال له: ماهان لعنه الله هذا هو الرأي أمهلوا إلى أن أكتب إلى الملك بمثل ذلك ثم إنه كتب إلى هرقل أما بعد فأسأل الله لك أيها الملك ولجيشك النصر ولاهل سلطانك العز والنصر وإنك بعثتني فيما لا يحصى من العدد وإني قدمت على هؤلاء العرب فنزلت بساحتهم وأطمعتهم فلم يطمعوا وسألتهم الصلح فلم يقبلوا وجعلت لهم جعلا على أن ينصرفوا فلم يفعلوا وقد فزع جند الملك منهم فزعا شديدا وإني خشيت أن يكون الفشل قد عمهم والرعب قد دخل في قلوبهم وذلك لكثرة الظلم فيهم وقد جمعت ذوي الرأي من أصحابي وذوي النصيحة للملك وقد أجمع رأينا على النهوض إليهم جميعا في يوم واحد ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا فإن اظهر الله عدونا علينا فارض بقضاء الله واعلم أن الدنيا زائلة عنك فلا تأسف على ما فات منها ولا تغتبط منها بشيء في يدك والحق بمعاقلك وبدار ملكك بالقسطنطينية وأحسن إلى رعيتك يحسن الله إليك وارحم ترحم وتواضع لله يرفعك الله فإنه لا يحب المتكبرين ولقد عملت حيلة في احضار أميرهم خالد ومنيته ورغبته فما أجاب ورأيته على الحق مقيما فأردت أن أفتك به وأمكر فخفت عاقبة المكر والغدر وما نصر هؤلاء إلا بالعدل واتباع الحق بينهم والسلام ثم طوى الكتاب وبعث به مع أصحابه من العلوج.
قال الواقدي: وبقي ماهان سبعة أيام اخر بعد الوقعة الأولى لم يقاتل المسلمين ولم يقاتلوه وبعث أبو عبيدة برجل من عيونه ينظر ما الذي أخر الروم عن القتال فغاب الرجل يوما وليلة ثم عاد وأخبر أبا عبيدة أن ماهان قد كاتب الملك وهو منتظر الجواب فقال خالد ابن الوليد: ما تأخر ماهان عن قتالنا إلا وقد وقع الفزع في قلبه فازحف بنا إليهم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لا تعجل فإن العجلة من الشيطان.
قال الواقدي: وكان أبو عبيدة رجلا لين العريكة يحب الرفق فلما كان في اليوم الثامن نظر ماهان إلى تلهف أصحابه على الحرب والقتال فعزم أن يلقى بهم المسلمون وقد فرح بنشاطهم فدعا برجل من المتنصرة من لخم وقال له: اذهب فادخل هؤلاء العرب وتجسس لي أخبارهم وانظر ما عندهم قال فمضى اللخمي حتى دخل عسكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقام فيهم يوما وليلة يطوف في عسكرهم وليس أحد من المسلمين ينكره وهم آمنون وليس لهم همة إلا اصلاح شأنهم والصلاة والقرآن والتسبيح وليس فيهم عدوان ولا ظلم ولا أحد يتعدى على أحد وقصد الموضع الذي فيه أبو عبيدة رضي الله.

(1/189)


عنه فنظر إليه كأنه أضعف ضعيف في العرب ساعة يجلس على الأرض وساعة ينام عليها فإذا كان وقت الصلاة قام واسبغ الوضوء وأذن المؤذنون وصلى بالناس ونظر المتنصر إلى المسلمين وهم يصنعون كصنعه فقال المتنصر أن هذه طاعة حسنة ويوشك إنهم ينصرون قال فرجع إلى ماهان وحدثه بما رأى من القوم وما عاينه وقال: أيها الملك إني جئتك من قوم يصومون النهار ويقومون الليل ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رهبان في الليل ليوث بالنهار ولو سرق واحد منهم ولو كان كبيرهم قطعوه ولو زنا رجموه لا يغلب هواهم على الحق بل الحق عندهم غالب وأميرهم كاضعف من فيهم إلا إنه مطاع عندهم أن قام قاموا وأن قعد قعدوا مناهم القتال وشهوتهم النزال ومرادهم أن يموتوا شهداء في قتالكم وما تأخروا عن قتالكم إلا ليكون البغي منكم إذا بدأتموهم فقال ماهان هؤلاء القوم منصورون غير إني قد وجدت حيلة أعملها عليهم فقال المتنصر ما الحيلة أيها الملك.
فقال ماهان ألست زعمت إنهم لا يبدأون بالقتال حتى نقاتلهم فنكون نحن الباغين قال: نعم قال فانا لا نطلب الحرب بل نطول بيننا وبينهم وندهمهم على حين غفلة دون عدة منهم ولا أخذ حذرهم فعسى أن نظفر بهم قال ثم أن ماهان جمع الملوك وجعل يعقد لهم الرايات والصلبان حتى عقد ستين ومائة صليب تحت كل صليب عشرة آلاف وكان أول صليب عقد لقناطر وكان نظيره في الرتبة وأمره أن يكون في الميمنة ثم عقد صليبا للديرجان وضم إليه الأرمن والنجد والنوبة والروسية والصقالبة ثم عقد لابن أخت الملك صليبا على الافرنج والهرقلية والقياصرة والير والدوقس وعقد لجبلة بن الأيهم عقدا وضم إليه المتنصرة من لخم وجذام وغسان وضبة وأمره أن يكون على المقدمة وقال أنتم عرب وأعداؤنا عرب والحديد لا يقطعه إلا الحديد ثم فرق الأعلام في أجناد عسكره فما انفجر الفجر وبان الصباح وأضاء بنوره ولاح حتى فرغ من تعبية جيوشه وترتيب طلائعه وأمر بمضرب له فضرب على كثيب عال على جانب اليرموك يشرف منه على العسكرين وأوقف عن يمينه ألف فارس عتاة حماة الروم شاكين السلاح وعن يساره كذلك وهم الملكية وأصحاب السرير وأمرهم باليقظة وقال: أي كرب يكون على العرب أعظم من هذه فانكم على تعبية وهم على غير أهبة فإذا طلعت الشمس ورأيتم المسلمين على غير تعبية فاحملوا عليهم من كل جانب ومكان فما هم في عسكرنا إلا كالشامة البيضاء في جلد الثور الأسود هكذا سمعت اياد بن غالب الحميري يذكر وكان من المعمرين قال حدثني جواد ابن أسيد السكاسكي عن ابيه أسد بن علقمة فلما انشق الفجر أذن المؤذن وتقدم أبو عبيدة وصلى بالناس وهو لا يعلم بمكيدة ماهان فقرأ في أول ركعة: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1, 2] حتى قرأ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] إذ هتف بهم هاتف وهم في الصلاة وهو يقول:

(1/190)


ظفرتم بالقوم ورب العزة وما يغني عنهم كيدهم شيئا وما أجرى الله هذه الآية على لسان أميركم إلا بشارة لكم فلما سمع المسلمون كلام الهاتف عجبوا مما سمعوا ثم قرأ في الركعة الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] إلى قوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا*وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 14] وإذا بالهاتف يقول: تم الفال وصح الزجر وهذه علامة النصر فلما فرغ أبو عبيدة من صلاته قال: يا معاشر المسلمين هل سمعتم الهاتف قالوا: نعم سمعنا قائلا يقول: كذا وكذا فقال أبو عبيدة: والله هذا هاتف النصر وبلوغ الأمل فابشروا بنصر الله ومعونته فوالله لينصرنكم الله وليرسلن عليهم سوط عذاب كما أنزل على القرون الأول ثم قال أبو عبيدة: معاشر القوم إني رأيت الليلة في منامي رؤيا تدل على النصر على الأعداء والمعونة من الملأ الأعلى فقالوا: أصلح الله شأن الأمير فما الذي رأيت.
قال رأيت كأني واقف بازاء اعدائنا من الروم إذ حف بنا رجال وعليهم ثياب بيض لم أر كهيئتها حسنا لبياضها اشراق ونور يغشى الأبصار وعلى رؤوسهم عمائم خضر وبأيديهم رايات صفر وهم على خيول شهب فلما اجتمعوا حولي قالوا: تقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فانكم غالبون فإن الله ناصركم ثم دعوا برجال منكم وسقوهم بكاس كان معهم فيه شراب وكأني أنظر عسكرنا وقد دخل في عسكر الروم فلما رأونا ولوا بين أيدينا منهزمين فقال رجل من المسلمين أصلحك الله أيها الأمير وأنا رايت الليلة رؤيا فقال أبو عبيدة: خيرا تكون أن شاء الله تعالى ما الذي رايت يرحمك الله فقال رأيت كأنا خرجنا نحو عدونا فصاففناهم الحرب وقد انقضت عليهم من السماء طيور بيض لها أجنحة خضر ومخاليب كمخاليب النسور فجعلت تنقض عليهم كانقضاض العقبان فإذا جاءت للرجل ضربته ضربة فيقع قطعا قال ففرح المسلمون بتلك الرؤيا وقال بعضهم لبعض ابشروا فقد امنكم الله وأيدكم بالنصر وأمدكم بملائكته تقاتل معكم كما فعل بكم يوم بدر قال فسر أبو عبيدة بذلك وقال هذه رؤيا حسنة وهي حق تأويلها النصر وإني أرجو من الله تعالى النصر وعاقبة المتقين فقال رجل من المسلمين أيها الأمير ما وقوفنا عن هؤلاء الكلاب الأعلاج وما انتظارك للحرب وعدو الله يريد كيدنا بمطاولته وما تأخر عنا إلا لبلية يريد أن يوقعنا بها قال أبو عبيدة: أن الأمر أقرب مما تظنون قال سعيد بن رفاعة الحميري فبينما نحن كذلك إذ سمعنا الأصوات قد علت والزعقات قد ارتفعت من كل جانب يهتفون بالقتال وأن الروم قد زحفت إلينا فظن أبو عبيدة أن المسلمين قد كبسوا في وجه السحر فقام ليرى وكان على حرس المسلمين تلك الليلة سعيد بن زيد وعمرو بن نفيل العدوي رضي الله عنهما إذ أقبل سعيد وهو ينادي النفير النفير حتى وقف أمام أبي عبيدة ومعه رجل من المتنصرة فقال: أيها الأمير ماهان كاد المسلمين بتخلفه عن الحرب وها هو قد عبى عساكره وصف جيوشه وزحف علينا زحف من يريد الكبسة بنا ونحن على غير أهبة ولا عدة وهذا الرجل قد

(1/191)


أقبل إلينا راغبا في الإسلام محذرا لنا من بأسه ويزعم أن ماهان قد قدم إلينا حماة البطارقة وقد أتفق رأيهم على أن يقاتلنا كل ملك من ملوكهم بمن معه وهذا أصعب القتال ونظر المسلمون إلى رايات الروم تقرب منهم والصلبان تدنو فقال أبو عبيدة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال: أين أبو سليمان خالد بن الوليد فأجابه بالتلبية فقال له: أنت لي يا أبا سليمان فابرز في أبطال المسلمين وصد عن الحريم إلى أن تأخذ الرجال صفوفها وتستعد بآلات حربها فقال حبا وكرامة.
فنادى خالد اين الزبير بن العوام أين عبد الرحمن بن أبي بكر أين الفضل بن العباس أين يزيد بن ابي سفيان أين ربيعة بن عامر أين ميسرة بن مسروق العبسي اين ميسرة بن قيس أين عبد الله بن أنيس الجهني أين صخر بن حرب الأموي أين عمارة الدوسي أين عبد الله بن سلام أين غانم الغنوي أين المقداد بن الأسود الكندي اين أبو ذر الغفاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي أين عمار بن ياسر العبسي أين ضرار بن الأزور أين عامر بن الطفيل أين أبان بن عثمان بن عفان وجعل خالد يدعوهم رجلا بعد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رجل منهم يلقى جيشا فاجتمعوا إلى خالد بأجمعهم واشتغلوا بالحرب واشتغل أبو عبيدة بترتيب الصفوف وتعبية العساكر فأقبل أبو سفيان إلى ابي عبيدة وقال له: أيها الأمير مر نساءنا أن يعلون على هذا التل قال: نعم الرأي ما رأيت فأمرهن بذلك ففعلن وعلون على التل وحصن أنفسهم وأولادهن ومعهن الأطفال والأولاد فقال لهن أبو عبيدة خذن بأيديكن أعمدة البيوت والخيام وأجعلن الحجارة بين ايديكن وحرضن المؤمنين على القتال فإن كان الأمر لنا والظفر فكن على ما أنتن عليه وأن رأيتن أحدا من المسلمين منهزما فاضربن وجهه بأعمدتكن واحصبنه بحجارتكن وارفعن إليه أولادكن وقلن له قاتل عن أهلك وعن دين الإسلام فقال النساء أيها الأمير أبشر بما يسرك.
قال الواقدي: فلما حصن أبو عبيدة النساء على التل أقبل يعبي جيشه وقد والعدة وقسم الخيالة ثلاثة فرق فجعلها في الثلاثة صفوف واستعمل عليهم ثلاثة من وابتدر الناس القتال بعدما عباهم ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين وقدم أصحاب الرايات وكانت راية المهاجرين صفراء وفيها ابيض وأخضر واسود وسائر القبائل ايضا راياتهم مختلفة وجعل المهاجرين والأنصار في القلب واظهر المسلمون العدة والسلاح وجعل عسكره ثلاثة صفوف فصف فيه النبلة من أهل اليمن وصف فيه أصحاب الخيل المسلمين أحدهم غياث بن حرملة العامري والثاني مسلمة بن سيف اليربوعي والثالث القعقاع بن عمرو التميمي ووقف المسلمون تحت راياتهم ووقف أبوعبيدة تحت رايته التي عقدها له أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مسيره إلى الشام وهي راية رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء التي سار بها يوم خيبر قال ومع خالد راية العقاب وكانت سوداء وجعل على الرجالة شرحبيل بن

(1/192)


حسنة وعلى الجناح الإيمن يزيد بن ابي سفيان وعلى الايسر قيس بن هبيرة فلما ترتبت الصفوف سار أبو عبيدة بين الصفوف وجعل يحرض المؤمنين على القتال ويقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] والزموا الصبر فإن الصبر منجاة من الكرب ومرضاة للرب ومقمعة للعدو فلا تزايلوا صفوفكم ولا تنقضوا نيتكم ولا تخطوا خطوة إلا وأنتم تذكرون الله ولا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم وشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله ولا تحدثوا حدثا حتى آمركم ثم رجع إلى مقامه من القلب فوقف فيه ثم خرج من بعده معاذ بن جبل فطاف على الناس محرضا لهم يقول: يا أهل الدين ويا أنصار الهدي والحق اعلموا رحمكم الله تعالى أن رحمة الله لا تنال إلا بالعمل والنية ولا تدرك بالمعصية والتمني بغير عمل مرضي ولا تدخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة مع رحمة الله ولا يؤتي الله الرحمة والمغفرة الواسعة إلا الصابرين والصادقين ألم تسمعوا قوله جل من قائل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] واستحيوا من الله أن يراكم في فرار من عدوكم وأنتم في قبضته ليس لكم ملجا من دونه ولم يزل معاذ يقول: ذلك إلى أن رجع إلى مقامه ثم خرج سهل بن عمرو فمشى بين الصفوف وهو شاكي السلاح وراكب فرسه متقلد سيفه وهو يقول: مثله ثم رجع وخرج من بعده أبو سفيان فطاف بين الصفوف وهو شاكي السلاح راكب فرسه متقلد سيفه معتقل رمحه وهو يقول: معاشر العرب الكرام السادة العظام قد أصبحتم في ديار الأعلاج منقطعين عن الأهل والأوطان ووالله لا ينجيكم منهم إلا الطعن الصائب في أعينهم والضرب المتدارك في هاماتهم وبذلك تبلغون أربكم وتنالون الفوز من ربكم واعلموا أن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم فاصدقوا القتال فإن النصر ينزل مع الصبر فإن صبرتم ملكتم بلادهم وأمصارهم واستعبدتم ابناءهم ونساءهم وأن وليتم فليس بين ايديكم إلا مفاوز لا تنقطع إلا بالزاد الكثير والماء الغزير ولا ترجعوا إلى دور ولا إلى قصور فامنعوا بسيوفكم وجاهدوا في الله حق جهاده ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون قال ثم خرج من بين الصفوف واقبل على النساء وهن على التل وفيهن المهاجرات وبنات الأنصار وغيرهن من نساء المسلمين ومعهن أولادهن فقال لهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجنة أمامكم والشيطان والنار وراءكم واقبل حتى وقف.

(1/193)


مكانه ولم تغن مكيدة ماهان شيئا ورجعت الروم إلى ورائها حين نظروا خالدا زحف إليهم في خمسمائة فارس فخافوا لذلك ورجعوا حتى اصطفت الصفوف وعبى المسلمون كتائبهم فقال ماهان: ما يوقفكم عن قتالهم فازحفوا إليهم فزحف الروم إلى المسلمين فنظر خالد إلى جيش عرمرم قال: وكان ماهان قد انفذ ثلاثين ألفا من عظمائهم فحفروا لهم في الميمنة حفائر ونزلوا فيها وشدوا ارجلهم بالسلاسل واقترن كل عشرة في سلسلة التماسا لحفظ عسكرهم وحلفوا بعيسى بن مريم والصليب والقسيسين والرهبان والكنائس الأربع أن لا يفروا حتى يقتلوا عن آخرهم فلما نظر خالد إلى ما صنعوا قال لمن حوله من جيش الزحف هذا يوشك أن يكون يوما عظيما ثم قال اللهم أيد المسلمين بالنصر ثم أقبل على أبي عبيدة وقال: أيها الأمير أن القوم قد اقترنوا في السلاسل وزحفوا إلينا بالقواضب ويوشك أن يكون على الناس يوما عظيما فقال لهم: أن العدو عدده كثير وما ينجيكم إلا الصبر ثم قال لخالد فما الذي ترى من الرأي يا أبا سليمان.
قال الواقدي: وكان ماهان قدم من الروم من عرفت شجاعته وعلمت براعته واشتهر بالثبات في بلادهم وهم مائة ألف فلما نظر خالد إليهم شهد لهم بالفروسية وإنهم من أهل الشدة وقال لابي عبيدة: أن الرأي عندي أن توقف في مكاننا الذي أنت فيه سعيد بن زيد وتقف أنت من وراء الناس في مائتين وفي ثلثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا علم الناس إنك من ورائهم استحيوا من الله ثم منك أن يفروا قال فقبل أبو عبيدة مشورته ودعا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة فأوقفه أبو عبيدة مكانه ثم انتخب أبو عبيدة مائتي فارس من اليمن وفيهم رجال من المهاجرين والأنصار ووقف بهم من وراء الجيش بحذاء سعيد بن زيد.
قال حدثني ورقة بن مهلهل التنوخي وكان صاحب راية أبي عبيدة يوم اليرموك قال وكان أول من فتح باب الحرب يوم اليرموك في جيش السلاسل غلام من الأزدحدثا كيسا فقال لابي عبيدة: أيها الأمير إني أردت أن أشفي قلبي واجاهد عدوي وعدو الإسلام وابذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق الشهادة فهل تأذن لي في ذلك وأن كان لك حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرني بها قال فبكى أبو عبيدة وقال اقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا قال ثم دفع الغلام الأزدي جواده وحمل يريد الحرب فخرج إليه علج من الروم قام من الرجال على فرس اشهب فلما رآه الغلام قصد نحوه وقد احتسب نفسه في سبيل الله تعالى فلما قرب منه قال:
لا بد من طعن وضرب صائب
...
بكل لدن وحسام قاضب
عسى أنال الفوز بالمواهب
...
في جنة الفردوس والمراتب
قال وبعد شعره حمل كل منهما على صاحبه وابتدأ الغلام الأزدي الرومي بطعنة فجندله صريعا وأخذ عدته وجواده وسلم ذلك لرجل من قومه وعاد إلى البراز فخرج إليه.

(1/194)


آخر فقتله وثالث ورابع فقتلهم فخرج إليه خامس فقتل الأزدي فغضبت الأزد عند ذلك ودنت من صفوف المشركين فعندها أقبلت الروم وزحفت كالجراد المنتشر حتى دنا طرفهم من ميمنة المسلمين فقال أبو عبيدة: أن أعداء الله قد زحفوا عليكم فنكلوهم واعلموا أن الله معكم وثبتوا نفوسكم بالصبر والصدق واللقاء والنصر من الله ثم رمق إلى السماء بطرفه وقال اللهم إياك نعبد وإياك نستعين ولك نوحد ولا نشرك بك شيئا وأن هؤلاء أعداؤك يكفرون بك وبآياتك ويتخذون لك ولدا اللهم زلزل أقدامهم وأرجف قلوبهم وأنزل علينا السكينة والزمنا كلمة التقوى وآمنا عذابك يا من لا تخلف الميعاد اللهم انصرنا عليهم يا من قال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] قال فبينما هو يدعو بهذه الدعوات إذ حملت الروم على ميمنة المسلمين وكان فيها الأزد ومذحج وحضرموت وخولان فحملت عليهم الروم حملة منكرة فصبروا لهم صبر الكرام وقاتلوا قتالا شديدا وثبتوا ثباتا حسنا وحملت عليهم كتيبة ثانية فصبروا صبرا جميلا وحملت عليهم كتيبة ثالثة فأزالوا المسلمين عن الميمنة فابتدر منهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وهو المقدم على زبيد والأمير عليهم وهم يعظمونه لما سبق من شجاعته في الجاهلية وكان يوم اليرموك قد مر له من العمر مائة وعشرون سنة إلا أن همته الشجاعة فلما نظر إلى قومه وقد إنكشفوا صاح في قومه يا آل زبيد يا آل زبيد تفرون من الأعداء وتفزعون من شرب كاس الردى أترضون لأنفسكم بالعار والمذلة فما هذا الأنزعاج من كلاب الأعلاج أما علمتم أن الله مطلع عليكم وعلى المجاهدين والصابرين فإذا نظر إليهم وقد لزموا الصبر في مرضاته وثبتوا لقضائه أمدهم بنصره وأيدهم بصبره فأين تهربون من الجنة أرضيتم بالعار ودخول النار وغضب الجبار قال فلما سمعت زبيد كلام سيدهم عمرو بن معد يكرب رجعوا إليه وعطفوا عليه عطفة الإبل على أولادها فاجتمعوا حوله زهاء من خمسمائة فارس وراجل وشدوا على القوم شدة واحدة وحملت معهم حمير وحضرموت وخولان وحملوا حملة صعبة فازالوا الروم عن أماكنهم وحملت دوس مع أبي هريرة وهز رايته وهو يحرض قومه على القتال ويقول: أيها الناس سارعوا إلى معانقة الحور العين في جوار رب العالمين وما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن إلا وأن الصابرين قد فضلهم الله على غيرهم الذين لم يشهدوا مشهدهم فلما سمعت دوس كلامه طافوا به وحملوا على الروم حملة منكرة ودارت بينهم الحرب كما تدور الرحى وتكاثرت جموع الروم على ميمنة المسلمين فعادت الخيل تنكص باذنابها راجعة على أعقابها منكشفة كانكشاف الغنم بين أيدي الاسد ونظرت النساء خيل المسلمين راجعة على أعقابها فنادت النساء يا بنات العرب دونكن والرجال ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب قالت سعيدة بنت عاصم الخولاني: كنت في جملة النساء يؤمئذ على التل فلما إنكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا عفيرة

(1/195)


بن غفار وكانت من المترجلات البازلات ونادت يا نساء العرب دونكن والرجال واحملن اولادكن على ايديكن واستقبلنهم بالتحريض فأقبلت النسوة يرجمن وجوه الخيل بالحجارة وجعلت ابنة العاص بن منبه تنادى قبح الله وجه رجل يفر عن حليلته وجعل النساء يقلن لازواجهن لستم لنا ببعولة أن لم تمنعوا عنا هؤلاء الأعلاج قال العباس بن سهل الساعدي كانت خولة بنت الأزور وخولة بن ثعلبة الأنصارية وكعوب ابنة مالك بن عاصم وسلمى ابنة هاشم ونعم ابنة فياض وهند ابنة عتبة بن ربيعة ولبنى ابنة جرير الحميرية متحزمات وهن أمام النساء والمزاهر معهن وخولة تقول هذه الأبيات:
يا هاربا عن نسوة ثقات
...
لها جمال ولها ثبات
تسلموهن إلى الهنات
...
تملك نواصينا مع البنات
أعلاج سوق فسق عتاة
...
ينلن منا أعظم الشتات
قال ورجعت الفرسان تحرض الفرسان على القتال فرجع المنهزمون رجعة عظيمة عندما سمعوا تحريض النساء وخرجت هند ابنة عتبة وبيدها مزهر ومن خلفها نساء من المهاجرين وهي تقول الشعر الذي قالته يوم أحد وهو هذا:
نحن بنات طارق
...
نمشي على النمارق
مشي القطا الموافق
...
قيدي مع المرافق
ومن أبى نفارق
...
أن تغلبوا نمالق
أو تدبروا نفارق
...
فراق غير واثق
هل من كريم عاشق
...
يحمي عن العواتق
قال ثم استقبلت خيل ميمنة المسلمين فراتهم منهزمين فصاحت بهم إلى أين تنهزمون اين تفرون من الله ومن جنته وهو مطلع عليكم ونظرت إلى زوجها ابي سفيان منهزما فضربت وجه حصانه بعمودها وقالت له: إلى أين يا أبن صخر ارجع إلى القتال وابذل مهجتك حتى تمحص ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله ليه وسلم قال الزبير بن العوام فلما سمعت كلام هند لابي سفيان ذكرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول الله عليه وسلم قال فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند وعطف المسلمون معه ونظرت إلى النساء وقد حملن معهم وقد رأيتهن يسابقن الرجال وبأيديهن العمد بين ارجل الخيل ولقد رأيت منهن امراة وقد اقبلت إلى علج عظيم وهو على فرسه فتعلقت به وما زالت به حتى نكسته عن جواده وقتلته وهي تقول هذا بيان نصر الله المسلمين قال الزبير بن العوام وحمل المسلمون حملة منكرة لا يريدون غير رضا الله

(1/196)


ورسوله وقاتلت الأزد مع أبي هريرة وفشا فيهم القتل واصيب منهم خلق كثير لانهم تلقوأ الصدمة الأولى بأنفسهم واستشهد منهم ما لم يستشهد من غيرهم قال سعيد بن زيد كان القتال في الميمنة شديدا وكان المسلمون ينهزمون تارة ويعودون مرة وساعة نصبر وساعة نتأخر قال ونظر خالد بن الوليد إلى الميمنة وقد وصلت إلى القلب فصاح بمن معه من الخيل ومال عليهم فمالوا وكانوا زهاء ستة آلاف فكبر وحمل على الروم فنكى بهم نكاية عظيمة حتى كشف أعداء الله عن الميمنة والقلب إلى أن ردت إلى مواضعها ووقف خالد أمامهم يطارد من كان قريبا للمسلمين قال فانكسر الروم أمام خالد ونظر خالد إلى فرسانه فرآهم متبددين فنادى يا أهل الإسلام والإيمان ويا حملة القرآن ويا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد تبينت في الروم الكسرة العظيمة ولم يبق عند القوم من الجلد والقتال إلا ما رأيتم وقد كسر الله حدثتهم فردوا عليهم الكسرة وشدوا عليهم الكرة رحمكم الله فوالذي نفس خالد بيده إني لارجو أن يمنحكم الله اكتافهم فنادى المسلمون من كل جانب احمل حتى نحمل معك قال فانتضى خالد سيفه وحمل وحملت أصحابه معه قال عبد الرحمن بن الحميدي الجمحي كنت ممن حمل مع خالد فوالله لقدانكشفت الروم بين أيدينا وولت كما تولي الغنم بين يدي الاسد وتبعهم المسلمون وكانت الحملة على ميمنة الروم فانكشفوا إنكشافا قبيحا وأما المسلسلة فما برحوا من مواضعهم وكانوا يرمون بالسهام وهم حماة القوم.

(1/197)


الشعار
قال عبد الرحمن وكان خالد أمامنا في حملته ونحن من ورائه وكان شعارنا يا محمد يا منصور أمتك أمتك فلم يزل خالد في حملته ونحن من ورائه حتى وصل إلى الديرجان وكان قائما في موضعه الذي أقامه فيه ماهان معه صليب من الجوهر ومعه أصحابه ينتظرون حملته فيحملون معه فلما وصلت خيل خالد إلى موضعه قال له البطارقة: أيها الملك أما أن لك أن تحمل نحمل معك أو تولي فقد خالطتنا خيل العرب فقال لأصحابه: اعلموا أن يوم السوء لا أحبه ولا أحب أن أراه ولا أحضره وقد أحضرني الملك إلى هذا الموقف وأنا كارهه ولكن لفوا وجهي ورأسي في هذا الثوب حتى لا ارى الحرب قال فلفوا وجهه ورأسه في ثوب ديباج والناس يقتتلون حتى انهزمت الروم بين أيدي المسلمين ووصلوا إلى الديرجان وهو ملفوف الرأس فحمل عليه ضرار بن الأزور فقتله.
قال الواقدي: وكان أحسن صنع الله تعالى بالمسلمين أن جرجير و قناطر اختلفا وتنازعا وكان جرجير في الميمنة مع الأرمن وقناطر في الميسرة تحته فقال جرجير لقناطر احمل على العرب فما هذا وقت الوقوف فقال قناطر تأمرني أن أحمل وكيف

(1/197)


لا تحمل أنت فقال جرجير لقناطر وكيف لا آمرك وأنا أمير عليك فقال قناطر كذب أنت أمير وأنا أمير عليك وفوقك وأنت مأمور لي بالطاعة فاختلفا وغضب جرجير من قول قناطر فحمل على المسلمين حملة شديدة وكانت حملته على كنانة وقيس وخثعم وجذام وقضاعة وعاملة وغسان وهم يؤمئذ فيما بين الميسرة والقلب فكشف الروم المسلمين حتى زالت عن مصافهم ولم يبق منهم إلا أصحاب الرايات فقاتلوا من يليهم قتالا شديدا وركب الروم اكتاف المسلمين المنهزمين إلى أن دخلوا معهم إلى معسكرهم فاستقبلهم النساء بالعمد يضربن وجوه الخيل ويرمين وجوهها بالحجارة وينادين بهم إلى أين تنهزمون يا أهل الإسلام عن الأمهات والأخوات والبنين والبنات أتريدون أن تسلمونا للاعلاج قال منهال الدوسي فلقد كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم فرجع المسلمون عن الهزيمة ونادى بعضهم بعضا: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] وعطفوا على الروم عطفة عظيمة قال وكان قتامة بن أيشم الكناني أمام المسلمين يضرب في عراض المشركين تارة بالسيف وتارة بالرمح حتى كسر ثلاثة رماح وهو يقول:
ساحمل في الروم الكلاب النوابح
...
وأضربهم ضربا بحد الصفائح
وأرضي رسول الله خير مؤمل
...
نبي الهدى للدين أشرف ناصح
قال الواقدي: ثم حمل حتى كسر سيفين وجعل كلما كسر رمحا أو سيفا يقول: من يعيرني سيفا أو رمحا في سبيل الله وأجره على الله ثم نادى يا معاشر قيس خذوا نصيبكم من الأجر والصبر فإن الصبر في الدنيا عز ومكرمة وفي الآخرة رحمة وفضيلة ف {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] قال فاجابه قومه ونشطوا للقتال قال قتامة بن أيشم الكناني فما رأيت مثل حملة قناطر وقومه ولقد اختلطوا بنا واختلطنا بهم قال ورجع خالد من دهمته ومعه ألفان من أصحابه وقد وضعوا السيوف في الروم وقتلوهم قتلا ذريعا والقتل لا يبين فيهم لكثرتهم واقبل خالد على الناس من كرته فرأى الناس يقولون جزى الله قتامة بن الايشم خيرا عن الإسلام فشكره وجزاه خيرا قال وأقبلت ذرعه ابنة الحرث منحدرة عن التل وهي تقول ما فعل خالد حتى وقفت بين يديه وقالت: يا ابن الوليد أنت من العرب الكرام وإنما الرجال بامرائها فإن ثبتوا ثبتت الرجال معهم وأن انهزموا انهزمت الرجال معهم فقال لها خالد: ما كنت من المنهزمين وما كنا إلا نقاتل في الأعلاج فقالت: قبح الله وجه عبد نظر إلى أميره ثابتا وهو منهزم عنه.
قال الواقدي: ونظر ماهان لعنه الله إلى الميمنة من عسكره وقد عركت عراك الأديم فبعث إليهم يحرضهم على القتال فعندها خرج علج من الروم وعليه درع سابغ السلاح

(1/198)


كأنه قطعة جبل وهو على شهباء عظيمة الخلقة فبرز بين الصفين وجال على شهبائه وسال القتال فخرج إليه غلام من الأزد فما جال معه جولة حتى قتله العلج ثم دعا بالبراز فهم أن يخرج إليه معاذ بن جبل فقال أبو عبيدة: يا معاذ سألتك بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما ثبت مكانك ولزمت رايتك ولزومك الراية أحب الي من برازك إلى هذا العلج فوقف معاذ بالراية ونادى يا معاشر المسلمين من أراد فرسا يقاتل عليه في سبيل الله فهذا فرسي وسلاحي فجاءه ولده عبد الرحمن فقال أنا يا ابت وكان غلاما لم يحتلم قال فلبس السلاح وركب الجواد وقال: يا أبت أنا خارج إلى هذا العلج فإن صبرت فالمنة لله علي وأن قتلت فالسلام عليك وأن كان لك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فاوصني بها فقال له معاذ: يا بني أقرئه مني السلام وقل له جزاك الله عن أمتك خيرا ثم قال: يا بني أخرج وفقك الله لما يحب ويرضي فخرج عبد الرحمن بن معاذ إلى العلج كأنه شعلة نار وحمل على العلج وضربه بالسيف فمال عنه العلج ومال إليه وضربه على رأسه فقطع العمامة وشجه شجة فاضحة أسالت دمه فلما رأى العلج ذلك الدم ظن إنه قتل فتأخر إلى ورائه لينظر كيف يسقط عن جواده فلما نظر عبد الرحمن إلى العلج وقد تأخر عنه انثنى راجعا إلى المسلمين فقال له معاذ: ما بك يا بني قال قتلني العلج قال له: ما الذي تريد من الدنيا يا بني ثم إنه شد جرحه قال فعندها صال العلج وحمل فردته الأزد قال أبو عبيدة: فمن له منكم فخرج إليه عامر بن الطفيل الدوسي وكان من أصحاب الرايات ممن شهد اليمامة مع خالد بن الوليد وكان قد رأى يوم اليمامة في منامه في قتال مسيلمة الكذاب كأن امرأة لقيته ففتحت له فرجها فدخل فيه ونظر إليه ابنه فأسرع ليدخل مكانه ثم استيقظ وقص ذلك على المسلمين فلم يدر أحد ما تأويله فقال ابن الطفيل أما أنا فأعرف تأويلها قالوا: وما تأويلها يا أبن الطفيل قال تأويله إني أقتل لأن المرأة التي أدخلتني فرجها هي الأرض وابني سيصيبه جراح ويوشك أن يلتقي بي قال فقاتل يوم اليمامة وابلى بلاء حسنا وسلم ولم يلحقه أذىلا فلما كان يوم اليرموك شهد فيه الحرب وخرج إلى قتال العلج وهو كأنه شعلة حريق أو صاعقة وطعن البطريق وكانت قناته قد شهدت معه المشاهد فاندقت بين يديه وانتضى سيفه وهزه وضرب به العلج على عاتقه فخالط أمعاءه فتنكس العلج صريعا عن جواده وأسرع عامر بن الطفيل فرمى به إلى المسلمين وسلمه إلى ولده وانثنى راجعا نحو الروم وحمل على الميمنة وعلى الميسرة وعلى القلب.
ثم قصد المتنصرة فقتل منهم فارسا ودعا للبراز وخرج إليه جبلة بن الأيهم وعليه درع من الديباج المثقل بالذهب وتحتها درع من دروع التبابعة وعليه بيضة تلمع كشعاع الشمس وتحته فرس من نسل خيول عاد فلما خرج جبلة إلى عامر بن الطفيل قال له: من أي الناس أنت قال أنا من دوس قال جبلة إنك من القرابة فابق على نفسك

(1/199)


وارجع إلى قومك ودع عنك الطمع فقال له عامر: قد أخبرتك من أنا ومن قبيلتي فأنت من أي العرب قال أنا من غسان وأنا سيدها جميعها أنا جبلة بن الأيهم الغساني وإنما خرجت إليك حين نظرت إليك وقد قتلت هذا البطريق الشديد وهو نظير ماهان وجرجير في الشجاعة فعلمت إنك كفؤ فخرجت لاقتلك وأحظى عند ماهان وهرقل بقتلك فقال عامر بن الطفيل أما ما ذكرت من شدة القوم وعظم خلقهم فالله أشد منعة وهو مهلك الجبابرة وأما قولك إنك تحظى بقتلي عند مخلوق مثلك فاني أريد أن أحظى بجهادي عند رب العالمين بقتلك وحمل عامر على جبلة بن الأيهم والتقيا بضربتين فخرجت ضربة عامر بن الطفيل غير ممكنة وخرجت ضربة جبلة ممكنة فقطعت من قرنه إلى كتفه فسقط عامر قتيلا فجال جبلة على مصرعه ووقف يعجب بنفسه وبما صنع وطلب البراز فخرج إليه ولد المقتول وهو جندب بن عامر بن الطفيل وكانت معه راية أبيه فاقبل إلى ابي عبيدة وقال: أيها الأمير أن أبي قد قتل وأريد أن أخذ بثأره أو أقتل فادفع رايتك لمن شئت من دوس فأخذ أبو عبيدة الراية ودفعها لرجل من دوس فحملها وخرج جندب إلى قتال جبلة بن الأيهم وهو ينشد ويقول:
سأبذل مهجتي أبدا لاني
...
أريد العفو من رب كريم
وأضرب في العدا جهدي بسيفي
...
وأقتل كل جبار لئيم
فإن الخلد في الجنات حق
...
تباح لكل مقدام سليم
قال ودنا من جبلة وقال له: اثبت يا قاتل أبي لاقتلك به فقال جبلة ومن أنت من المقتول قال ولده قال جبلة ما الذي حملكم على قتل نفوسكم وأولادكم وقتل النفوس محرم قال جندب أن قتل النفس في سبيل الله محمود عند الله وننال به الدرحة العالية فقال له جبلة: إني لا أريد قتلك فقال جندب وكيف أرجع وأنا المفجوع بأبي والله لا رجعت أو أخذ بثأر أبي أو الحق به ثم حمل على جبلة وجعلا يقتتلان وقد شخصت نحوهما الأبصار ونظر جبلة إلى الغلام وما أبدى من شجاعته فعلم إنه شديد الباس صعب المراس فأخذ منه حذره وغسان ترمق صاحبها فرأت الغلام جندبا وقد ظهر على صاحبهم وقارنه في الحرب فصاح بعضهم على بعض وقالوا: إن هذا الغلام الذي برز إلى سيدكم غلام نجيب وأن تركتموه ظهر عليه فانجدوه ولا تدعوه فتأهب غسان للحملة ليستنفذوه ونظر المسلمون إلى جندب وما قد ظهر منه ومن شجاعته وشدته ففرحوا بذلك ونظر الأمير أبو عبيدة إلى ذلك وما فعل فبكى وقال هكذا يكون من يبذل مهجته في سبيل الله اللهم تقبل له فعله.
قال جابر بن عبد الله شهدت قتال اليرموك فيما رأيت غلاما كان أنجب من جندب بن عامر بن الطفيل حين قاتله جبلة وبعد ذلك حمل على جبلة وضربه ضربة.

(1/200)


أوهته بها وضربه جبلة فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة وتحقق منام ابيه عامر بن الطفيل وجال جبلة على مصرعه وطلب البراز فصاح به قومه ارجع إلينا فقد قضيت ما يجب عليك فرجع وهو معجب بنفسه حتى وقف تحت صليبه قال وبعث إليه ماهان يشكره وأصيب المسلمون بعامر بن الطفيل وولده جندب قال فعندها صاحت دوس الجنة الجنة خذوا بثأر سيدكم عامر وساعدتها الأزد وكانوا احلافهم وحملوا على غسان ولخم وجذام وتناشدوا الاشعار فصاح أبو عبيدة بالمسلمين وقال: أيها الناس: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] الآية ومعانقة الحور العين في جنات النعيم فما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن إلا وأن الصابرين فضلهم الله على غيرهم ممن لم يشهد مشهدهم هذا ولما سمعت الأزد ذلك حملت مع دوس وكان شعارهم يؤمئذ الجنة الجنة.
قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد عن عطاء بن مراد قال سألت رجالا عدة ما كان شعار المسلمين يوم اليرموك فأخبرت أن شعار ابي عبيدة أمت أمت وشعار عبس يا لعبس وشعار اليمن من أخلاط الناس يا أنصار الله وشعار خالد ومن معه يا حزب الله وشعار حمير الفتح وشعار دارم والسكاسك الصبر الصبر وشعار بني مراد يا نصر الله أنزل فهذه كانت شعار المسلمين يوم اليرموك قال فلما حملت دوس تبعها الأزد وقصدت العرب المتنصرة وطلبت صليبهم وفرقتهم تفريقا صعبا حتى وصلوا إلى الصليب فطلب رجل منهم حامل العلم الذي لفسان فأرداه عن فرسه ووقع الصليب من يده منكوسا وقتل من الأزد ودوس رجال إلا إنهم كانوا مثل الشامة البيضاء في جلد البعير الأسود ثم كرت غسان تريد أخذ صليبهم فاقتتلوا عنده قتالا شديدا حتى قتلوا خلقا كثيرا.
قال الواقدي: حدثني هسام بن عمارة عن ابي الجريري عن نافع عن جبير بن الحويرث عن عبد الله بن عدي قال شهدت اليرموك فكان المسلمون خمسة وعشرين ألفا فغضب الحويرث وقال كذب من حدثك بهذا الحديث فإن المسلمين كانوا يوم اليرموك أحدا وأربعين ألفا وقد أديت إليك ما سمعته ممن أثق به من الرواة.
قال الواقدي: وهذا اثبت الأقاويل لأن المسلمين كانوا يوم أجنادين اثنين وثلاثين ألفا وجاءت الأمداد بعد ذلك.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي نمرة عن عبد الحميد بن سهل عن جده قال لما حملت الأزد يوم اليرموك ودوس ودوخت المشركين دوخة عظيمة وحمل المشركون حملة هائلة إنكشف المسلمون وكان صاحب لوائهم عياض بن غنم الاشعري فولى منهزما واللواء بيده فصاح به الناس إنما ثبات القوم وأهل الحرب بألويتهم فابتدر لأخذه.

(1/201)


عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كلاهما يتسابق إليه فأخذه عمرو ولم يزل يقاتل به حتى انهزمت الروم وفتح الله على أيدي المسلمين وكان اليوم الثالث من اليرموك يوما شديدا انهزمت فيه فرسان المسلمين ثلاث مرات كل مرة تردهم النساء بالحجارة والعمد ويلوحون بالأطفال إليهم فيرجعون إلى القتال ولم يزل القتال قائما إلى أن اقبل الليل بسواده ورجعت الروم إلى مواضعها والقتل فيهم كثير وفي المسلمين قليل إلا أن الجراح فيهم فاشية من النشاب فلما دخل الليل بسواده رجعت كل فرقة إلى أماكنها وباتوا تحت السلاح قال وأما المسلمون فما كانت همتهم إلا الصلاة وبعد ذلك شدوا الجراح وصلى أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: أيها الناس إذا عظم البلاء فانتظروا الفرج فإنه يأتي من عند الله فاضرموا نيرانكم وتحارسوا وأظهروا التهليل والتكبير وقام أبو عبيدة يمشي في الناس هو وخالد بن الوليد يتفقدان الجرحى ويقولان أيها الناس أن عدوكم يألم كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وباتا طول ليلهم كله وهما طائفان على المسلمين إلى أن أصبح الصباح قال وانحازت الروم إلى جانب اليرموك مع ماهان الأرمني فجمع بطارقته ووبخهم وزجرهم وقال لهم: قد علمت أن هذا يكون منكم وقد رأيت فشلكم وخوفكم وجزعكم من هؤلاء العرب الضعاف قال فاعتذروا إليه وقالوا: غدا نبارزهم فإن فينا فرسانا وشجعانا لم يقاتلوا أصلا وغدا نصدقهم الحرب فتكون لنا العاقبة قال فسكت عن توبيخهم وأمرهم أن يتأهبوا لذلك وبات الفريقان يتحارسون وقد رعبت الروم من كثرة القتل فيهم واما المسلمون فانهم أقوى قلوبا لشدة دينهم ويقينهم.
قال فلما أصبح الصباح صلى بهم أبو عبيدة صلاة الخوف وإذا بالصلبان قد بدت وبرايات القوم قد طلعت في عدد الشوك والشجر كأنهم لم يلاقوا قتالا قط فوقفوا في مصافهم ونصب ماهان سريره على الكثيب الذي كان عليه بالأمس وهو يشرف منه على العساكر فامرهم أن يعبوا مصافهم فلما نظر أمير المؤمنين إلى سرعة الروم صاح كل أمير برجاله وحرضهم على القتال فانقلبوا من الصلاة إلى خيولهم ولبسوا السلاح وركبوا خيولهم ورجع كل أمير إلى مكانه وهو يعظ أصحابه ويوصيهم ويعدهم من الله بالنصر وسار أبو عبيدة بين الصفوف وهو يصف لهم فضل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين الصابرين وخلف على الذرارى والنساء والأموال والأولاد عمرو بن سعيد ابن عبد الله الأنصاري وجعل من الرماة خمسمائة في الميسرة وخمسمائة في القلب وطاف أبو عبيدة عليهم وقال لهم: معاشر الرماة الزموا مراكزكم فإن رأيتم القوم زحفوا إلينا فارشقوهم بالنبل واذكروهم عند رميكم ولا تتركوها مفرقة ولتخرج سهامكم كأنها من كبد قوس واحدة فإن هم زحفوا إليكم فاثبتوا مكانكم حتى يأتيكم امري ففعلوا ما امرهم به الأمير وتقدم أبو سفيان إلى ولده يزيد والراية في يده وحوله أصحابه وقد عزم على

(1/202)


الحملة والجهاد فقال: يا بني أن احسنت أحسن الله إليك عليك بتقوى الله والصبر فاتق الله حق تقاته وانصر دين الله وشرع نبيه صلى الله عليه وسلم وإياك والجزع فما قضاه ربنا قد أمضاه فاصبر مع أصحابك صبر أولى العزم وإياك ثم إياك أن يراك الله منهزما فتبوء بغضب من الله قال يزيد سأصبر جهدي وطاقتي والله أسأله أن يكون معينا لي وناصرا.
ثم صاح يزيد برجاله وهز الراية وندبهم إلى القتال وحمل على من يليه من الروم فقاتلوا قتالا عظيما ولم يزالوا حتى إنكوا العدو نكاية عظيمة وأبلوا بلاء حسنا وكان قتالهم من جانب القلب ولم يزالوا كذلك حتى برز إليهم بطريق من البطارق وبيده رمح عظيم وعليه صليب من الذهب وحوله زهاء من عشرة آلاف فارس من الروم فحملوا على الميمنة وكان فيهم عمرو بن العاس ومن معه فرجعوا على أعقابهم منهزمين حتى دخلت الروم في أوائل عسكر المسلمين مما يلي عمرا ومن معه وهم يتراجعون على الرجال فيكرون تارة ويرجعون تارة حتى تكاثرت عليهم الروم فكشفوهم حتى الصقوهم بالتل الذي عليه النساء وأحاطوا بالتل فصاحت امرأة اين أنصار الدين اين حماة المسلمين وكان الزبير ابن العوام جالسا عند زوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق يداوى عينه وكان ارمد فلما سمع صوت المرأة وهي تنادي أين انصار الدين قال: يا أسماء ما لهذه المرأة تصيح اين انصار الدين فقالت له عفرة ابنة عثمان: يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزمت ميمنة المسلمين حتى الجاهم الروم إلينا وأحاط بنا الأعلاج وهذه نساء الأنصار مستصرخة بانصار الدين فقال الزبير والله إني أنا من انصار الدين ولا يراني الله جالسا في مثل هذا الوقت قال ثم طرح الخرقة عن عينه واستوى جالسا على متن جواده فأخذ قناته وتسمى باسمه وقال في حملته أنا الزيبر بن العوام أنا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يطعن فيهم طعنا متداركا حتى ردهم على أعقابهم وخيلهم تنكص بأذنابها قال ليث بن جابر فلله در الزبير بن العوام لقد رد الروم بنفسه وحده إذ حمل عليهم وما كان معه من العرب أحد حتى ردهم إلى عسكرهم وتراجعت خيل عمرو ورجاله وهو ينادي الرجعة الرجعة الحزم الحزم يا أهل الإسلام الصبر الصبر فتراجعوا بعد أدبارهم.
قال الواقدي: وحمل جرجير الأرمني في ثلاثين ألفا من الأرمن على شرحبيل ابن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكشف أصحاب شرحبيل بن حسنة ولم يثبت غيره لقتال الروم في عصبة من قومه دون الخمسمائة فجعل شرحبيل يحمل على الأرمن وهو يقول: يا أهل الإسلام لا فرار من الموت الصبر الصبر قال فتراجع أصحابه إليه وحملوا على الأرمن فردوهم على أعقابهم وجعلوا يضربون فيهم حتى أصابوا من الأرمن ما لم يصبه الأرمن منهم فرجع شرحبيل إلى مكانه ودار به أصحابه فجعل يعنفهم بالقتال

(1/203)


ويقول لهم: ما الذي أصابكم حتى انهزمتم أمام هؤلاء الكفرة وأنتم الحماة البررة وأهل القرآن وعباد الرحمن أما سمعتم قوله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] وقال وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وأنتم تهربون فقالوا: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم زلة من الشيطان مثل يوم أحد وحنين وها نحن معك فاحمل حتى نحمل معك فجزاهم خيرا ووقف مكانه وكان موقفه مما يلي سعيد بن زيد وقد لزموا مواقفهم لم يتحركوا التماسا للحفيظة ونظر قيس بن هبيرة إلى خيل شرحبيل وقد تراجعت فحمل بمن معه ونادى هو وأصحابه بشعارهم وكان شعارهم يا نصر الله انزل يا منصور أمت أمت وكان هذا شعارهم يوم بدر وأحد وحمل خالد بن الوليد بمن معه ذات اليمين وحمل قيس من ذات الشمال فقاتلوهم قتالا شديدا ولله در الزبير بن العوام وهاشم بن المرقال وخالد بن الوليد لقد حملوا حملة عظيمة حتى قربوا من سرادقات ماهان وتواقعت الروم على سرادقات ماهان وخيامه فلما نظر ماهان إلى ذلك نزل عن سريره هاربا وصاح بالروم وعنفهم فتراجعوا يطلبون القتال وصاح أبو عبيدة بسعيد بن زيد فحمل بمن معه وهو ينادي لا إله إلا الله يا منصور أمت أمت فأقبلوا يقتلون في الروم قتلا ذريعا فبينما المسلمون في حملتهم إذ سمعوا قائلا يقول: يا نصر الله انزل يا نصر الله اقرب أيها الناس الثبات الثبات قال عامر بن أسلم فتأملنا الصارخ فإذا هو أبو سفيان وتحت رايته ابنه يزيد قال وشدت الأمراء بأجمعهم على من يليهم وقاتلوا قتالا شديدا ولم يكن في الروم اثبت من أصحاب السلاسل فانهم ثبتوا في أماكنهم يمنعون من أتاهم وأما الرماة وهم مائة ألف رام فكانوا إذا رشقوا سهامهم نحو العرب يسترون الشمس فلولا النصر والمعونة من الله لكان المسلمون هلكوا وانفصل المسلمون فرحين مستبشرين والمشركون قد هلك أكثرهم وبرز علج من أعلاج الروم كأنه نخلة باسقة وعليه درع مذهب وعلى رأسه بيضة مذهبة وعليها صليب من ذهب مرصع بالجوهر وهو راكب على شهباء وعليه زرد من حديد وبيده رمح فجال وأشهر نفسه وسأل البراز فنظر المسلمون إلى عظم خلقته وهول جثته فجعلوا ينظرون إليه فقال أبو عبيدة: لا يهولنكم ما ترون من خلقته فكم رأيتم من هو عظيم خلقة ولا قلب له فمن له منكم يخرج إليه واستعينوا بالله عليه.
قال فخرج إليه عبد من عبيد العرب وبيده سيفه وحجفته وهو زاجل فلما أراد أن يدنو من العلج صاح به مولاه ذو الكلاع الحميري فلما رجع خرج إليه ذو الكلاع وجال عليه وكان ذو الكلاع من أهل الشدة والبأس فتواقعا وكل منهما رامح فتطاعنا طعنا شديدا أشد من الجمر ثم انهما تجاذبا سيوفهما والتقيا فضرب ذو الكلاع العلج ضربة وضرب العلج ضربة وكان سيف العلج قاطعا وساعده قويا فقطع سيفه درقة ذي الكلاع وسيفه.

(1/204)


ودرعه وما تحته من الثياب ووصلت الضربة إلى عضده الايسر فجرحته جرحا بليغا وثقلت: يده فلما نظر ذو الكلاع إلى ما لحقه من العلج عطف بجواده يريد المسلمين ونظر العلج إلى ذي الكلاع سابقا فلم يلحقه حتى لحق بالمسلمين فاتى قومه والدم يفور من جرحه فاجتمع فرسان قومه فقال لهم: يا فرسان حمير إياكم أن تتكلوا في قتالكم على السلاح ومنعته ولكن اتكلوا في قتالكم على الله عز وجل قالوا: وكيف ذلك أيها السيد قال: لاني رددت عبدي عن القتال شفقة عليه إذ ليس معه لامة حرب وقلت: إني أفرس منه وأجود عدة ولامة فصنع بي هذا الأغلف ما ترون والله ما لحقني قبلها في حرب مثلها قط فشدوا جرحه ووقف مكانه ثم إنه صاح بقومه يا رجال حمير أن كان سيدكم قد رجع كلالا فما منكم من يأخذ بثأره فانتدب فارس من فرسان حمير وعليه صبائغ اليمن من الأبراد والحبر كأنه جمرة نار وحمل نحو العلج مصمصما وجال جولة عظيمة وطعنة طعنة أثبتها في صدره فأرداه قتيلا وعجل الله روجه إلى النار فهم الحميري أن ينزل عن جواده ويأخذ سلبه فحمل عليه كردوس من الروم ليكشفوه عنه فردهم الحميري صاغرين ثم رجع إليه وأخذ سلسة وأقبل به على أبي عبيدة فأعطاه إياه فدفع السلب إلى قومه ورجع إلى مقامه في القتال فخرج إليه آخر فقتله وآخر فقتله فخرج إليه علج رابع فقتل الحميري ونزل ليأخذ سلب الحميري فرماه رجل من رماة الأنصار بنبلة فوضعها في لبته فجندله صريعا وعجل الله بروحه إلى النار قال فأنقلبت الروم على وجوهها وهابوا جميع المسلمين وكان ذلك البطريق الذي قتل بالنبلة من عظمائهم ويقال إنه كان صاحب نابلس فصاح بهم ماهان وسكنهم عن اضطرابهم وخرج إلى القتال ملك اللان واسمه مريوس وعليه لامة الملوك وعليه ديباجة وفي وسطه منطقة مرصعة بالجوهر فجال بين الصفين وشهر نفسه وقال أنا ملك اللان فلا يبرز لي إلا أميركم فخرج إليه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده لواؤه وعليه درع من حديد وهو ممنطق بمنطقة من الأديم وهو على جواده فقال أبو عبيدة: من هذا الذي خرج قالوا له: شرحبيل بن حسنة فبعث إليه أبو عبيدة يقول له: ادفع الراية لمن شئت واخرج من غير راية فلما سمع ذلك سلم الراية لرجل من قومه وقال له: قف بها موضعي فإن قدر علي فسلم الراية إلى الأمير أبي عبيدة يدفعها لمن يريد وأن رجعت أخذتها فأخذها الرجل وخرج شرحبيل كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ملك اللان وهو يقول:
سأحمل في اللئام بني الأعادي
...
بكل مثقف لدن حداد
فيا بؤسا لقيصر يوم نأتي
...
وجمع الروم شرد في البلاد
قال فسمع البطريق شعر شرحبيل فلم يفهمه وكان يفهم قليلا بالعربية.

(1/205)


فقال له: يا عربي ما الذي تقول قال أقول كلاما تقوله العرب عند الحرب تشجع به نفوسها وتثق بوعد الله الذي وعد به نبينا فقال ملك اللان وما الذي وعدكم به نبيكم فقال شرحبيل وعدنا الله أن يفتح لنا الأرض في الطول والعرض ونملك الشام ونكون من الظافرين بنصر الله لنا قال ملك اللان أن الله لا ينصر من يبغي وأنتم تبغون علينا وتطلبون ما ليس لكم بحق فقال شرحبيل نحن قوم أمرنا الله أن نفعل ذلك والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وإني أراك تعرف كلام العرب فلو تركت ما أنت عليه من عبادة الصليب ودخلت في دين الإسلام كنت من أهل الجنة وسعدت فقال ملك املان ما أترك دين المسميح أبدا فإن دينه حق فقال شرحبيل لا تقل إنه إله معبود ولا تقل صلب وقتل فإن الله سبحانه وتعالى احياه في الأرض ما شاء ثم رفعه إلى السماء ثم قال ملك اللان لن أرجع عن قولي ثم استخرج صليبا من عنقه فرفعه ووضعه على عينه وأقبل يستنصر به فغضب شرحبيل من فعاله فقال له: يا ويلك تبا لك ولمن معك ولمن يقول بقولك ثم حمل عليه وأخذا في القتال وجالا جولانا عظيما فرمقتهما الأبصار وجعل المسلمون يدعون لشرحبيل بالنصر والمعونة ونظر شرحبيل إلى شدة الكافر ففر بين يديه كأنه منهزم فتبعه عدو الله فلما علم شرحبيل إنه قد قاربه ثنى عنان جواده فطعنه بقناته يريد أن يجعلها في نحره فزاغ المشرك عن الطعنة ونجا منها سالما ثم قال معاشر العرب أنتم لا تدعون الخديعة والمكر فقال شرحبيل ويلك أما علمت أن الحرب خدعة والمكر رأسها فقال العلج فما الذي نفعك من حيلتك قال فتضاربا حتى انقطع السيفان في أيديهما فاعتنقا معانقة شديدة وكان المشرك أعظم جثة وأشد منعة وكان شرحبيل نحيف الجسم من كثرة الصيام والقيام فضغط عليه المشرك ضغطة أوجعه بها وهم أن يقتله في سرجه والفريقان ينظران إليهما قال ضرار بن الأزور فداخلني والله الغيظ فقلت في نفسي: ويحك يا ضرار يقتل هذا العلج كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تنظر إليه فما يمنعك من نصرته.
قال الواقدي: فخرج ضرار نحوهما يسعى على قدميه كالظبية الخمصاء حتى قرب منهما ولا يعلمان به جميعا وكان في يده خنجر فضرب به العلج من ورائه فأطلع الخنجر من قلبه فسقط العلج قتيلا وخلص شرحبيل من الضغطة قال فلما سقط العلج عن ظهر جواده نزل إليه شرحبيل وسلب ما كان عليه من لامة حربه وركب ضرار جواده وانثنى راجعا هو وشرحبيل نحو المسلمن فهنأ المسلمون شرحبيل وشكروا ضرارا على فعله قال ثم أن شرحبيل أخذ سلب العلج فنازعه ضرار فيه فقال السلب لي وأنا قتلته وقال شرحبيل أنا أخذ السلب فأتيا أبا عبيدة فخاف أبو عبيدة أن يحكم بينهما فلا يرضون بحكمه فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أمير المؤمنين أن رجلا خرج إلى البراز وقاتل علجا من الأعلاج وبلغ معه الجهد جهيد فخرج آخر من

(1/206)


المسلمين فأعان الرجل وقتل العلج قال ولم يسم أبو عبيدة الرجلين فلمن السلب منهما فجاء الجواب من عمر بن الخطاب أن السلب للقاتل فأخذ السلب أبو عبيدة من شرحبيل وأعطاه ضرارا فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54].
قال الواقدي: ولما قتل ضرار ملك اللان غضبت الروم فخرج فارس شجاع وطلب البراز فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه فقتله وأخذ سلبه وخرج إليه ثان وثالث ورابع فقتلهم وأخذ أسلابهم فقال خالد لأبي عبيدة: أن الزبير قد تجرد للروم وبذل نفسه لله ولرسوله وأخاف عليه من التعب فصاح عليه أبو عبيدة وأقسم عليه فرجع الزبير إلى مقامه قال وخرج من الروم بطريق فخرج إليه خالد بن الوليد وكان ملك الروسية فقتله خالد وكان زوج بنت ملك اللان فقوم سلبه وتاجه ومنطقته وصليبه ودرعه بخمسة عشر ألفا قال فأخبر ماهان بذلك فغضب وقال سيدان منا قتلا في يوم واحد وإني أظن أن المسيح لا ينصرنا ثم أمر الرماة أن يرموا عن يد واحدة فرموا سهامهم وأطلقوا نحو المسلمين دفعة واحدة مائة ألف سهم فكان النشاب يقع في عساكر المسلمين كسقوط البرد من السماء فكثرت الجراح في الناس وأعور من المسلمين سبعمائة عين فسمى ذلك اليوم يوم التعوير وكان ممن أصيب بعينه المغيرة ابن شعبة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل التميمي وأبو سفيان صخر بن حرب وراشد بن سعيد وكان الرجل بعد ذلك يلقي الرجل فيقول له: ما الذي أصاب عينك فيقول الآخر: لا تقل مصيبة بل هي محنة من الله قال وعظم وقع السهام في عسكر المسلمين حتى ما كنت تسمع إلا من يصيح واعينا وابصراه واحدقتاه وعظم اضطراب المسلمين من ذلك قال فجذبت العرب أعنة خيولها راجعة قال ونظر ماهان اللعين إلى اضطراب جيش المسلمين فحرض الرماة والروم وصاح برجاله وزحفت المسلسلة نحو المسلمين فهالهم ذلك وحمل جرجير وقناطر وقورين وقال ماهان اثبتوا على الحملة وارموا العرب بالنشاب فزادت الرماة في رميها وزحفت على ساق وأخذ المسلمون على أنفسهم اشفاقا مما نزل بهم ووصل إليهم من قلع الأحداق قال عبادة بن عامر فنظرت إلى جيش الشرك وهو نحونا سائر وفرسان المسلمين متأخرة وخيولهم ناكصة فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اللهم انزل علينا نصرك الذي نصرتنا به في المواطن كلها ثم صحت في رجال حمير تهربون من الجنة إلى النار ما هذا الفرار أما تخافون العار أما أنتم بين يدي الجبار أما هو عالم الأسرار فررتم من الكفار قال فما أجابني والله أحد كأنهم صم لا يسمعون قال فقلت: كان قبيلتك خرست عن الجواب فجعلت أهتف بقبائل العرب فكل قد شغل بنفسه عن اجابتي فجعلت أكثر من قولا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فما كان غير بعيد حتى نزل النصر من الله وذلك أن المسلمين قد انقلبوا

(1/207)


راجعين نحو تل النساء ولم يثبت غير أصحاب الرايات قال عبد الله بن قرط الاسدي شهدت القتال كله فلم أر قتالا أشد من يوم التعوير ورجعت الخيل على أذنابها وقاتلت الأمراء بأنفسها والرايات بأيديهم حتى كان أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمسبب بن نجيبة الفزاري وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والفضل بن العباس يقاتلون قتالا شديدا قال عبد الله بن قرط فقلت في نفسي: وكم مقدار ما يقاتلون هؤلاء وهم نفر يسير حتى ساعدتنا النساء اللاتي شهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد يداوين الجرحى ويسقين الماء ويبرزن إلى القتال ولم أر امرأة من نساء قريش قاتلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في اليمامة مع خالد مثل ما قاتلت نساء قريش يوم اليرموك حين دهمهن القتال وخالط الروم المسلمين فضربن بالسيوف ضربا وجيعا وذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد انضم النساء المهاجرات لغيرهن وقامت الحرب على ساق وتنادى النساء بأنسابهن وأمهاتهن والقابهن وجعلن يقاتلن قتال الموت ويضربن وجوه الخيل بالعمد ويلوحن بالأطفال وجعل النساء بعضهن يقاتل المشركين وبعضهن يقاتل المسلمين حتى رجعوا إلى قتال المشركين وبعضهم يسقي الماء وبعضهن يشد الجراح قال فبينما هن يقاتلن وقد هجمت الرجال إذ انهزمت نساء لخم وجذام وخولان فخرجت خولة بنت الأزور وأم حكيم ابنه حكيم بنت الحرث وسلمى بنت لؤي وجعلهن يضربن في وجوههن ورؤوسهن بالعمد ويقلن اخرجن من بيننا فانتن توهن جمعنا قال فرجعت نساء لخم وجذام يقاتلن قتال الموت وقاتلت أم حكيم بنت الحرث أمام الخيل بالسيف وما نسمع يومئذ صوت واحدة من النساء غير صوت واعظة تعظ وأما أم حكيم فإنها جعلت تنادي يا معاشر العرب احصدوا الغلف بالسيوف وأما أسماء بنت ابي بكر فإنها قرنت عنانها بعنان زوجها الزبير ابن العوام فما كان يضرب إلا ضربت مثله قال فتراجع المسلمون إلى القتال حين رأوا النساء يقاتلن قتال الموت ويقول الرجل لمن يليه: أن لم نقاتل نحن هولاء وإلا فنحن أحق بالخدور من النساء فلله در نساء قريش يوم اليرموك.
قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن الفضل عن يزيد بن أبي سفيان عن مكحول قال كانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة من الهجرة قال أبو عامر وحملت خولة بن الأزور على علج من الأعلاج كان قد حمل علينا فاستقبلته وجعلت تشالشه بالسيف فضربها العلج بسيفه على قصتها فأسال دمها وسقطت إلى الأرض فصاحت عفيرة بن عفان حين نظرتها صريعة ونادت فجع والله ضرار في أخته فأخذت راسها على ركبتها والدم قد صبغ شعرها كالشقائق فقالت لها: كيف تجدك قالت: أنا بخير أن شاء الله تعالى ولكني هالكة لا محالة فهل لك على بأخي ضرار فقالت عفيرة: يا ابنة الأزور ما رأيته فقالت خولة: اللهم اجعلني فداء لاخي ولا تفجع به الإسلام قالت عفيرة:

(1/208)


فجهدت أن تقوم معي فلم تقم فحملناها إلى أن أتينا بها موضعها فلما كان الليل رايتها وهي تدور تسقي الرجال وكان ليس بها ألم قط ونظر إليها أخوها والضربة في رأسها فقال لها: ما بك فقالت: ضربني علج قتلته عفيرة فقال لها: يا أختاه ابشري بالجنة فقد أخذت لك بثأر الضربة مرارا وقتلت منهم أعدادا قال ولم يزل الحرب من أول النهار وكلما قرب الليل يزيد ويشتعل ضرامها وأبو عبيدة يقاتل برايته والأمراء يفعلون كفعله إلى أن فصل بينهما الظلام وقد قتل من الروم يوم التعوير أربعون ألفا أو يزيدون ونقل عن خالد إنه انقطع في يده ذلك اليوم تسعة أسياف ولقد أخبرنا عن خالد بن الوليد ممن حضر قتال اليرموك وشاهده قال كان يعد قتال خالد بمائة رجل من شجعان الرجال قال حازم بن معن وبرز من المشركين في قلب الوقعة أصحاب الديباج والحرير والتجافيف على الخيول الشهب والبلق كأنها من الجبال الراسيات فلما برزوا غاصوا في القلب وكروا كرة واحدة ورفعوا في وسطهم صليبا من الجوهر وحملت ميمنتهم على ميسرتنا وميسرتهم على ميمنتنا وقد شردوا إلى النساء والنساء يضربن وجوههم فجعلن يصحن بهم الله الله لا تغموا الإسلام بهزيمتكم واتقوا ربكم قال كان بين يدي ابي عبيدة رجل من محرز أسمه نجم بن مفرح وكان من خطباء العصر وأفصح العرب لسانا واجرئها جنانا وكان رفيع الصوت حسنه جدا فقصده العرب والفصحاء يسمعون ما ينطق به من نظمه ونثره.
قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن محمد عن ابيه عن حسان بن كعب عن عبد الواحد عن عوف عن موسى بن عمران اليشكري قال رأيت نصر بن مازن وهو بجامع النيل يحدث عن وقعة اليرموك قال مارد الناس عن الهزيمة بعد قضاء الله إلى نصرة الإسلام إلا غلام رجل من بني محارب يقال له: نجم بن مفرح وكان لا يتكلم إلا بالسجع يؤلفه بحسن نظمه ولقد حفظنا منه يوم اليرموك ما نحن نذكره عنه ولقد بلغني أن البلغاء الفصحاء المتأخرين مثل الأصمعي وأبي عبيدة اللغوي ينسجان على منواله في حسن كلامه فكان من جملة ما وعظ به المسلمين يوم اليرموك وقت هزيمتهم أيها الناس هذا يوم له ما بعده وقد عاينتم قربه من بعده ولن تنال الجنة إلا بالصبر على المكاره وتالله لا ينالها من هو للجهاد كاره وينشد:
ولله في عرض السموات جنة
...
ولكنها محفوفة بالمكاره
واعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا عالم الغيب والشهادة وهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أستواقه وأخفى نفاقه في نفاقه وأنتم أصحاب نبي العصر فأيستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقوموا العزم بصفاء نياتكم وإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا عذاب النار وغضب الجبار فوالذي قدر الأقدار وأدار الفلك

(1/209)


الدوار وكل شيء عنده بمقدار لقد تزينت لكم الحور العين بأيديهن أباريق وكأس من معين فمن طلب دار البقاء هان عليه ما يلقى فحققوا حملتكم تنالوا بغيتكم واطعنوا الصدور تنالوا الحور وشرعوا الاسنة تنالوا الجنة واغتنموا الصبر يكتب لكم الأجر بشروا المؤمنين بحسن عملكم وإياكم أن تضلوا عن سبيلكم لا توافقوا الكفار في جهنم واعدلوا عن طريق قولهم ووافقوا من سلف من أسلافكم في فعلهم واسمعوا ما نزل في القرآن من أجلهم.
: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] سيروا فقد سبق المفردون واجتهدوا فقد فاز المجتهدون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] قال وحمل خالد بن الوليد بعصابة حمراء وهو يفزع الروم باسمه ويقول: أنا خالد ابن الوليد فبرز إليه بطريق يقال له النسطور وعليه الديباج فأقبل يدعو خالد ويهمهم وخالد في القتال لا يشعر به ولا يدري ما يقول: فعندما سمعه يرطن عطف عليه فاقتتلا قتالا شديدا فبينما هما في أشد القتال إذ كبا بخالد الجواد فوقع الفرس على يديه وهوى خالد على أم رأسه فقال الناس لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الواقدي: وخالد يقول: حي حي فعلا البطريق على ظهر خالد في عثرته وقد سقطت قلنسوته من رأسه فصاح قلنسوتي رحمكم الله فأخذها رجل من قومه من بني مخزوم وناوله إياها فأخذها خالد ولبسها فقيل له فيما بعد يا أبا سليمان أنت في مثل هذا الحال من القتال وأنت تقول قلنسوتي فقال خالد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق راسه في حجة الوداع أخذت من شعره شعرات فقال لي ما تصنع بهؤلاء يا خالد فقلت: أتبرك بها يا رسول الله واستعين بها على القتال قتال أعدائي فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال منصورا ما دامت معك فجعلتها في مقدمة قلنسوتي فلم ألق جمعا قط إلا انهزموا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم شدها بعصابة حمراء وحمل على النسطور وضربه على عاتقه أخرج السيف من علائقه وانسر من بقي من ملوكهم وكرهوا البراز بعد ذلك فكان يدعوهم إلى البراز فلا يخرج إليه أحد ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى كل فاشفق عليه الحرث بن هشام المخزومي فقال لأبي عبيدة: أيها الأمير لقد قضى خالد ما يجب عليه وأدى السيف حقه فلم لا أمرته أن يريح نفسه قال فمشى أبو عبيدة إليه وجعل يعزم عليه أن لا يتقدم ويسأله أن يريح نفسه فقال خالد: أيها الأمير أما والله لأطلبن الشهادة بكل وجه فإن أخطاتني فالله يعلم نيتي وحمل فلم يرجع عن حملته حتى جلاها وذلك أن كل المسلمين استعفوه في حملته وأقبلوا على القتال من بعد هزيمتهم والنساء أمام الرجال ولم يزل الحرب بين الفريقين حتى انقلب الروم على

(1/210)


أعقابها وقد قتل منهم ألوف عديدة وأما أصحاب السلاسل فانحطم أكثرهم ووطئتهم الخيل بحوافرها ولم يزل القتال بينهم حتى مالت الشمس بغروبها وانفصل الجمعان وقد جرت الدماء بينهم وفرشت الأرض بالقتلى والجراح فاشية في الجمعين لكن في الروم أكثر ورجع كل قوم إلى اصلاح شأنهم ومداواة جرحاهم واما النساء فأصلحن الطعام وشددن الجروح وداوين السقام ولم يقل أبو عبيدة لاحد من المسلمين من يكون الليلة على حرس المسلمين لما عندهم من التعب بل إنه تولى الحرس بنفسه ومعه جماعة من المسلمين قال فبينما هو يدور إذ راى فارسين قد لقياه وهما يدوران بدورانه فكلما قال: لا إله إلا الله قالا محمد رسول الله فقرب أبو عبيدة منهما فإذا هما الزبير بن العوام وزوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق فسلم عليهما وقال: يا أبن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي أخرجكما قال الزبير نحرس المسلمين وذلك أن أسماء قالت لي: يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين مشتغلون بأنفسهم في هذه الليلة عن الحرس بما لحقهم من التعب في الجهاد طول يومهم فهل لك أن تساعدني على حرس المسلمين فأجبتها إلى ذلك فشكرهما أبو عبيدة وعزم عليهما أن يرجعا فلم يفعلا ولم يزالا كذلك إلى الصباح.
قال الواقدي: حدثني أبو عبيدة عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن ابن حبيران أبا الجعيد كان رئيسا من رؤساء أهل حمص فلما اجتمعت الروم على المسلمين في اليرموك دخلوا على حمص ونزلوا في بلدة تسمى الزراعة وكان أبو الجعيد هذا قد جعلها مسكنه لطيب هوائها ومائها وانتقل من حمص إليها فنزل عسكر الروم على الزراعة عنده وكان فيها عرس لابي الجعيد وزوجته تزف عليه في تلك الليلة قال فتكلف أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر فلما فرغوا من أمورهم قال هات امراتك إلينا فأبى ذلك وسبهم فأبوا إلا أخذ العروس فلما شنع عليهم بذلك عمدوا إلى العروس واخذوها كرها منه وعبثوا بها بقية ليلتهم فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا عليهم فقتلوا أولاده وكان له ولد من زوجة غيرها قال فأقبلت أم الفتى فأخذت رأس ولدها في خمارها وأقبلت به إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس إليه وشكت حالها وقالت له: انظر ما صنع أصحابك بولدي فخذ بحقي فلم يعبأ بكلامها فقالت له أم الفتى: والله لتنصرن العرب عليكم ورجعت وهي تدعو عليه فما كان إلا يسير حتى هلكوا في أيدي المسلمين قال فلما كان يوم اليرموك بعدها قتل النسطور أتى أبو الجعيد إلى عساكر المسلمين وقال لخالد أعلم أن هذا الجيش النازل بازائكم جيش عظيم ولو سلموا أنفسهم إليكم للقتل لما فرغتم من قتلهم إلا في المدة الطويلة فإن كدتهم لكم في هذه الليلة مكيدة تظفرون بها عليهم ماذا تعطوني قالوا: نعطيك كذا وكذا تؤدي جزية أنت وولدك وأهل بيتك ونكتب لك بذلك عهدا إلى آخر عقبك.

(1/211)


قال الواقدي: فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى الروم وهم لا يعلمون وأتى إلى واد عظيم مملوء ماء فأنزل الروم إلى جانبه وقال لهم: أن هذا المنزل به العرب وأنا سأكيد لكم العرب بمكيدة يهلكون بها قال وجعل الناقوصة فيما بين الروم والعرب ولم يعلم أحد من الروم ما عمقها قال فلما كان يوم التعوير وعلم أبو الجعيد أن النصر للعرب وأن العرب هم المنصورون جاء أبو الجعيد إلى أبو عبيدة فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماعة من المسلمين المهاجرين فقال لهم: ما قعودكم قالوا: وما نصنع قال إذا كان ليلة غد فأكثروا من النيران ثم رجع إلى الروم لينصب عليهم حيلة فلما كانت الليلة الثانية أوقد المسلمون أكثر من عشرة آلاف نار فلما اشتعلت النيران أقبل إليهم أبو الجعيد فقالوا: قد أشعلنا النيران كما أردت فما بعد ذلك قال أريد منكم خمسمائة رجل من أبطالكم حتى أشير عليهم بما يصنعون.
قال الواقدي: فاختار من المسلمين خمسمائة رجل من جملتهم ضرار بن الأزور وعياض ورافع وعبد الله بن ياسر وعبد الله بن أوس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وغانم بن عبد الله ومثل هؤلاء السادات فلما اجتمعوا سار بهم أبو الجعيد على غير المخاضة وقصدبهم عسكر الروم فلما كادوا يخالطونهم أخذ أبو الجعيد منهم رجالا ودلهم على المخاضة ولم يكن يعلم بها أحد سواه ممن سكن اليرموك وقال لهم: ناوشوهم الحرب ثم انهزموا ودعوني وإياهم ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا ثم انهزموا قدامهم نحو المخاضة فعند ذلك صاح أبو الجعيد برفيع صوته يا معاشر الروم دونكم ومن انهزم فهؤلاء المسلمون قد اوقدوا نيرانهم وعولوا على الحرب قال فأقبلت الروم على حال عجلة يظنون أن ذلك حق فبعضهم ركب جواجه عريانا وبعضهم راجل وساروا في طلب المنهزمين وأبو الجعيد يعدو بين أيديهم إلى أن اوقفهم على الناقوصة وقال لهم: هذه المخاضة دونكم وإياهم فاقبلوا يتساقطون في الماء كتساقط الجراد حتى هلك في الماء ما لا يعد.
ولا يحصى عددا ولا يدركه جنان فسمتها العرب الناقوصة لنقص الروم قال الواقدي: هذا ما جرى للروم ولا يعلم الأول بما جرى للآخر حتى أصبحوا فنظروا المسلمين في أماكنهم فعلموا إنهم قد دهموا في الليل وقل عددهم وتبدد شملهم فقال بعضهم لبعض من كان الصائح في ليلتنا قال الرجل الذي عبثتم بزوجته وقتلتم ولده وقد أخذ بثاره منكم قال فلما أصبح ماهان وعلم الحقيقة وعلم ما نزل بأصحابه علم إنه هالك لا محالة وأن العرب ظافرون عليه فبعث إلى قورين فقال: ما ترى أن أصنع وقد ظهرت العرب علينا وأن حملوا علينا حملة لم ينفلت منا أحد فهل لك أن تسألهم أن يأخروا القتال حتى نفعل الحيلة في خلاص أنفسنا قال قورين أفعل ذلك.

(1/212)


قال: فدعا ماهان برجل من لخم وبعثه إلى المسلمين يقول لهم: اعلموا أن الحرب سجال والدنيا زوال وقد مكرتم بنا فلا تبغوا فالبغي له مصرع واخروا الحرب عنا يومنا هذا فإذا كان غد يكون الانفصال بيننا وبينكم قال فأقبل اللخمي إلى أبي عبيدة وبلغه الرسالة فهم أبو عبيدة أن يجيبهم إلى ذلك فمنعه خالد من ذلك وقال له: لا نفعل أيها الأمير فما عند القوم خير بعد ذلك فقال أبو عبيدة: ارجع إلى صاحبك وقل له لا نؤخر عنك القتال وأنا على عجل من أمرنا فرجع الرسول إلى ماهان فأعلمه بجواب أبي عبيدة فعظم عليه وكبر لديه وكفر وتجبر وقال لقد كنت أتربص بنفسي عن العرب أرجو بذلك الصلح فوحق الصليب لا يبرز لهم غيري ثم صرخ بالروم وأصحاب سرير الملك ومن كان يتكل عليه في الشدائد وأمرهم أن يأخذوا الأهبة فاستعدوا وخرج ماهان في مقدمة الجيش والصليب أماه وإذا بالمسلمين أخذوا مصافهم للقتال وذلك أن أبا عبيدة صلى بالمسلمين صلاة الفجر وأمرهم بالسرعة للقتال وأخذوا مواضعهم للحرب ففعلوا وقد ايقنوا إنهم منصورون على عدوهم وصف أبو عبيدة أصحاب الرايات ووقف هو وخالد في الخيل المعروفة بخيل الزحف وطلعت الشمس وخرج جرجير هو وبعض ملوك الروم ودعا بالبراز وقال: لا يبرز لي إلا أمير العرب فسمعه أبو عبيدة فسلم الراية إلى خالد وقال أنت للراية يا أبا سليمان فإن عدت من قتاله فالراية لي وأن هو قتلني فامسك رايتك حتى يرى عمر رأيه فقال خالد: أنا لقتاله دونك فقال أبو عبيدة: لا هو طلبني ولا بد لي من الخروج إليه وأنت شريكي في الأجر فخرج أبو عبيدة وما أحد من المسلمين إلا وهو كاره لذلك فأقبلوا يسألونه فلج في الخروج فتركوه ورأيه فلما قرب أبو عبيدة من جرجير وعاينه قال له: أنت أمير هذا الجيش فقال أبو عبيدة: أنا ذلك وقد أجبتك إلى ما طلبت من أمر البراز فدونك وعرض الميدان فأما هزمتكم أو قتلتك واقتل ماهان بعدك فقال جرجير امة الصليب تغلبكم وحمل جرجير على أبي عبيدة وحمل أبو عبيدة على جرجير وطال بينهما القتال وبقي خالد ينظر إلى أبي عبيدة ويدعو له بالسلامة والنصر وجميع المسلمين يدعون له قال وفر جرجير أمام أبي عبيدة وأخذ في عرض الجيش وطلب في فراره جيش المشركين في الميمنة وتبعه أبو عبيدة على أثره فعندها عطف عليه جرجير وخرج كأنه البرق والتقيا بضربتين فكان أبو عبيدة أسبق فوقعت الضربة على عاتق جرجير فخرجت من علائقه فكبر عند ذلك أبو عبيدة وكبر المسلمون ووقف أبو عبيدة على مصرع جرجير وجعل يتعجب من عظم جثته ولم يأخذ من سلبه شيئا فناداه به خالد لله درك أيها الأمير ارجع إلى رايتك فقد قضيت ما يجب عليك فلم يرجع أبو عبيدة فاقسم عليه المسلمون أن يرجع فرجع وأخذ الراية من يد خالد ونظر ماهان إلى جرجير فعظم ذلك عليه وكبر لديه لانه كان ركنا من أركانهم فهم بالهزيمة ثم قال في نفسه ماذا يكون عذري عند هرقل ولا بد أن أبرز إلى الحرب فإن قتلت فقد.

(1/213)


استرحت من العار وأن سلمت كان لي عند الملك عذر أحسن من أن أولي الأدبار ثم إنه أعلم رجاله إنه يريد المبارزة بنفسه وأخذ عدته ولبس زينته وخرج كأنه جبل ذهب يلمع ثم جمع إليه البطارقة والقسوس والرهبان وقال لهم: أن الملك هرقل كان أعلم منكم بهذا الأمر وانه أراد الصلح فخالفتموه فها أنا أبرز إليهم بنفسي فتقدم إليه بطريق من بطارقة السرير وكان فيه نسك ودين وكان يعظم الكنائس والرهبان ويتبع ما فرض عليه في الإنجيل وكان يقرب من جرجير في النسب فلما علم بقتله عظم عليه وقال وحق الصليب لابرزن إلى المسلمين وآخذ بالثأر فاما أن الحق به واما أن أقتل قاتله.
ثم قال ماهان قد تعين علي الجهاد وأنا أؤدي فرض المسيح ولا بد لي من المبارزة قال فتركه ماهان فخرج وكان أسمه جرجيس وكان عليه درع وعلى الدرع ثوب حديد متقلد بسيفه ومعه فنطارية وعوذته القسوس وبخروه ببخور الكنائس واقبل إليه راهب عمورية وأعطاه صليبا كان في عنقه وقال هذا الصليب من أيام المسيح يتوارثه الرهبان ويتمسحون به فهو ينصرك فأخذه جرجيس ونادى البراز بكلام عربي فصيح حتى ظن الناس إنه عربي من المتنصرة فخرج إليه ضرار بن الأزور كأنه شعلة نار فلما قاربه ونظر إليه والى عظم جثته ندم على خروجه بالعدة التي أثقلته فقال في نفسه وما عسى يغني هذا اللباس إذا حضر الأجل ثم رجع موليا فظن الناس إنه ولى فزعا فقال قائل منهم أن ضرار قد انهزم من العلج وما ضبط عنه قط إنه انهزم وهو لا يكلم أحدا حتى صار إلى خيمته ونزع ثيابه وبقي بالسراويل واخذ قوسه وتقلد بسيفه وجحفته وعاد إلى الميدان كأنه الظبية الخمصاء فوجد مالكا النخعي قد سبقه إلى البطريق وكان مالك من الخطاط إذا ركب الجواد تسحب رجلاه على الأرض فنظر ضرار فإذا بمالك ينادي العلج تقدم يا عدو الله يا عابد الصليب إلى الرجل النجيب ناصر محمد الحبيب فلم يجبه العلج لما داخله من الخوف منه قال: فجال عليه وهم أن يطعنه فلم يجد للطعنة مكانا لما عليه من الحديد فقصد جواده وطعنه في خاصرته فأطلع السنان يلمع من الجانب الآخر فنفر الجواد من حرارة الطعنة وهم مالك أن يخرج الرمح فلم يقدر لانه قد اشتبك في ضلوع الجواد وهو على ظهره لم يقدر أن يتحرك لانه مزرر في ظهر الجواد بزنانير إلى سرجه فنظر المسلمون إلى ضرار وقد أسرع إليه مثل الظبية حتى وصل إليه وضربه بسيفه على هامته فشطرها نصفين واخذ سلبه فأتاه مالك وقال: ما هذا يا ضرار تشاركني في صيدي فقال: ما أنا بشريكك وإنما أنا صاحب السلب وهو لي فقال مالك: أنا قتلت جواده فقال ضرار رب ساع لقاعد آكل غير حامل فتبسم مالك وقال خذ صيدك هناك الله به قال ضرار انما أنا مازح في كلامي خذه إليك فوالله ما أخذ منه شيئا وهو لك وأنت أحق به مني ثم انتزع سلب العلج وحمله على عاتقه وما كاد أن يمشي به وهو يتصبب عرقا قال

(1/214)


زهير بن عابد: ولقد رايته وهو يسير به وهو راجل ومالك فارس حتى طرحه في رحل مالك فقال أبو عبيدة: بأبي وأمي والله قوم وهبوا أنفسهم لله وما يريدون الدنيا قال فلما قتل البطريق قص جناح ماهان فصاح بقومه وجمعهم إليه وقال لهم: اسمعوا يا أصحاب الملك وبلغوه عني إني ما تركت جهدي في نصرة هذا الدين وحاميت عن الملك وقاتلت عن نعمته وما أقدر أن أغالب رب السماء لانه قد نصر العرب علينا وملكهم بلدنا والآن مالي وجه ارجع به إلى الملك حتى أخرج إلى الحرب وأبرز إلى مقام الطعن والضرب وعزمت أن أسلم الصليب إلى أحدكم وأبرز إلى قتال المسلمين فإن قتلت فقد استرحت من العار ومن توبيخ الملك لي وأن رزقت النصر وأثرت في المسلمين أثرا ورجعت سالما علم الملك إني لم أقصر عن نصرته فقالوا: أيها الملك لا تخرج إلى الحرب حتى نخرج نحن إلى القتال قبلك فإذا قتلنا فافعل بعدنا ما شئت قال فحلف ماهان بالكنائس الأربع لا يبرز أحد قبله قال فلما حلف أمسكوا عنه وعن مراجعته ثم إنه دعا بابن له فدفع إليه الصليب وقال: قف مكاني وقدم لماهان عدة فأفرغت عليه.
قال الواقدي: وبلغنا أن عدته التي خرج بها إلى الحرب تقومت بستين ألف دينار لأن جميعها كان مرصعا بالجوهر فلما عزم على الخروج تقدم له راهب من الرهبان فقال: أيها الملك ما أرى لك إلى البراز سبيلا ولا أحبه لك قال ولم ذلك قال: لاني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز فقال ماهان لست أفعل والقتل أحب الي من العار قال فبخروه وودعوه وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوف باسمه فكان أول من عرفه خالد بن الوليد فقال هذا ماهان هذا صاحب القوم قد خرج ووالله ما عندهم شيء من الخير قال وماهان يرعب باسمه فخرج إليه غلام من الأوس وقال والله أنا مشتاق إلى الجنة وحمل ماهان وبيده عمود من ذهب كان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة قال أبو هريرة رضي الله عنه فنظرت إلى الغلام عندما سقط وهو يشير باصبعه نحو السماء ولم يهله ما لحقه فعلمت أن ذلك لفرحه بما عاين من الحور العين قال: فجال ماهان على مصرعه وقوي قلبه ودعا إلى البراز فسارع المسلمون إليه فكل يقول: اللهم اجعل قتله على يدي وكان أول من برز مالك النخعي الاشتر رضي الله عنه وساواه في الميدان فابتدر مالك ماهان بالكلام وقال له: أيها العلج الأغلف لا تغتر بمن قتلته وإنما أشتاق صاحبنا إلى لقاء ربه وما منا إلا من هو مشتاق إلى الجنة فإن أردت مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية وإلا فانت هالك لا محالة فقال له ماهان: أنت صاحبي خالد بن الوليد قال: لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماهان: لا بد لي من الحرب ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكا على البيضة التي على

(1/215)


رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه فمن ذلك اليوم سمي بالاشتر قال: فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ثم فكر فيما عزم عليه فدبر نفسه وعلم أن الله ناصره قال والدم فائر من جبهته وعدو الله يظن إنه قتل مالكا وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك استعن بالله يعينك على قرينك قال مالك فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعا غير موهن فعلمت أن الأجل حصين فلما احسن ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره.
قال الواقدي: ولما ولى ماهان بين يدي مالك الاشتر منهزما صاح خالد بالمسلمين يا أهل النصر والباس احملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ثم حمل خالد ومن معه من جيشه وحمل كل الأمراء بمن معهم وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر حتى إذا غابت الشمس وأظلم الافق إنكشف الروم منهزمين بين أيديهم وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا فقتلوا منهم زهاء من مائة ألف وأسروا مثلها وغرق في الناقوصة منهم مثلها وأمم لا تحصى وتفرق منهم في الجبال والأودية وخيول المسلمين من ورائهم يقتلون ويأسرون ويأتون من الجبال بالاسارى ولم يزل المسلمون يقتلون ويأسرون إلى أن راق الليل فقال أبو عبيدة: أتركهم إلى الصباح فتراجعت المسلمون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والسرادقات وآنية الذهب والفضة والزلازل والنمارق والطنافس.
قال الواقدي: ووكل أبو عبيدة رجالا من المسلمين بجمع الغنائم وبات المسلمون فرحين بنصر الله حتى اصبحوا فإذا ليس للروم خبر ووقع أكثرهم في الناقوصة في الليل.
قال عامر بن ياسر حدثني نوفل بن عدي عن جابر بن نصر عن حامد بن مجيد قال أراد أبو عبيدة أن يحصى عدد المشركين فلم بقدر أن يحصي ذلك فأمر بقطع القصب من الوادي وجعل على كل قتيل قصبة ثم عدوا القصب فإذا القتلى مائة ألف وخمسة آلاف والاسارى أربعون الفا غير من غرق في الناقوصة وقتل من المسلمين أربعة آلاف ووجد أبو عبيدة رؤوسا في اليرموك فلم يعلم أهم من العرب أم من الروم قال ثم إنه صلى على قتلى المسلمين وسار في طلبهم إلى الجبال والأودية وإذا هم براع قد استقبلهم فسألوه هل مر بك أحد من الروم قال: نعم مر بي بطريق ومعه زهاء من أربعين ألفا.
قال الواقدي: وكان ذلك ماهان لعنه الله فاتبعهم خالد بن الوليد وجعل يقفو أثرهم ومعه عسكر الزحف فأدركهم على دمشق ولما أشرف عليهم كبر وكبر المسلمون

(1/216)


وحملوا ووضعوا فيهم السيف فقتل مقتلة عظيمة وكان ماهان قد ترجل عن جواده وقيل إنه ترجل ينكر نفسه ويسلم من القتل فأتاه رجل من المسلمين فحامى عن نفسه فقتله الرجل وكان قاتله النعمان ابن جهلة الأزدري وعاصم بن خوال اليربوعي وقد اختلفوا في أيهما قتل ماهان.
قال الواقدي: وخرج أهل دمشق إلى لقاء خالد وقالوا له: نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم قال خالد: أنتم على عهدكم ومضى في طلب الروم يقتلهم حيث وجوهم حتى انتهى إلى ثنية العقاب وأقام تحتها يوما ثم مضى إلى حمص ونزل بها وبلغ ذلك أبا عبيدة فسار حتى لحق به فيمن معه قال والأمراء في طلب الروم من كل جهة من الشام ثم اجتمعوا وعادوا إلى دمشق وجمع أبو عبيدة الغنائم واخرج منها الخمس وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب البشارة والفتح بسم الله الرحمن الرحيم وصلوات الله على نبيه المصطفى ورسوله المجتبي صلى الله عليه وسلم من أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد فأنا أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأشكره على ما أولانا من النعم وخصنا به من كرمه ببركات بني الرحمة وشفيع الأمة صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين إني نزلت اليرموك ونزل ماهان مقدم جيوش الروم بالقرب منا ولم ير المسلمون أكثر جمعا منه فأقصى الله تلك الجموع ونصرنا عليهم بمنه وكرمه وفضله فقتلنا منهم زهاء من مائة ألف وخمسة آلاف وأسرنا منهم أربعين ألفا واستشهد من المسلمين أربعة آلاف ختم الله لهم بالشهادة ووجدت في المعركة رؤوسا مقطوعة لم أعرفها فصليت عليها ودفنتها وقتل ماهان على دمشق قتله عاصم بن خوال وقد كان قبل وقعة الانفصال نصب عليهم رجل منهم يقال له أبو الجعيد: من أهل حمص حيلة فالقاهم في موضع يقال له الناقوصة فغرق منهم ما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى وأما من قتل من المشركين في الأودية والجبال من المنهزمين وغيرهم وأخذت عدتهم فتسعون الفا وقد ملكنا أموالهم وخيولهم وحصونهم وبلادهم وكتبنا إليك هذا الكتاب بعد الفتح ونزلنا في دمشق والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب وختمه ودعا بحذيفة بن اليمان ودفع الكتاب إليه وضم إليه عشرة من المهاجرين والأنصار وقال لهم: سيروا بكتاب الفتح والبشرى إلى أمير المؤمنين وبشروه بذلك وأجركم على الله فأخذ حذيفة الكتاب وسار هو والعشرة من وقتهم وساعتهم يجدون السير ليلا ونهارا حتى قربوا من المدينة.
قال الواقدي: قال عبد الله بن عوف المالكي عن أبيه قال لما هزم الله الروم في اليرموك وكان من أمرهم ما كان رأى عمر بن الخطاب ليلة هزيمة الروم رسول الله صلى لله عليه وسلم جالسا في الروضة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان عمر يسلم عليهما ويقول:

(1/217)


يا رسول الله أن قلبي مشغول على المسلمين وما يصنع الله بهم وقد بلغني أن الروم في ألف ألف وستين ألف فقال: يا عمر أبشر فقد فتح الله على المسلمين وقد انهزم عدوهم وقتل كذا وكذا ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص: 83] الآية قال فلما كان من الغد صلى عمر بالناس صلاة الفجر وأعلم الناس بما رأى في منامه قال فاستبشر المسلمون وفرحوا وعلموا أن الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأرخوا تلك الليلة فكانت كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فسجد عمر لله شكرا ووصله الكتاب فقرأه عمر على الناس فارتفعت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم قال: يا حذيفة فهل قسم أبو عبيدة الغنائم فقال: يا أمير المؤمنين هو منتظر كتابك وأمرك فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام سلام عليك أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد فرحت بما فتح الله على المسلمين من نصرتهم وانهزام عدوهم فإذا وصل إليك كتابي هذا فاقسم الغنيمة بين المسلمين وفضل أهل السبق وأعط كل ذي حق حقه واحفظ المسلمين واكلأهم واشكرهم على صبرهم وفعالهم وأقم بموضعك حتى يأتيك أمري والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه لحذيفة ابن اليمان فأخذه حذيفة وسار حتى ورد على أبي عبيدة فوجده على دمشق فسلم عليه وعلى المسلمين وناوله الكتاب فلما قرأه على المسلمين قسم الغنائم فاصاب الفارس أربعة وعشرون ألف مثقال من الذهب الأحمر والراجل ثمانية آلاف وكذلك من الفضة وأعطى الفرس الهجين سهما والفرس العتيق سهمين وألحق القادمين على الخيل بالعراب فلما فعل أبو عبيدة ذلك قال أصحاب الحمر الحقنا بالعراب فقال أبو عبيدة: إني قسمت عليكم بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة بين أصحابه فلم يقبلوا قوله فكتب إلى عمر بذلك يعلمه باختلاف الناس في الخيل والهجين والعراب فكتب إليه عمر يقول: أما بعد فقد عملت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتعد حكمه فاعظ الفرس العربي سهمين والهجين سهما واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرب العربين وهجن الهجين يوم خيبر فجعل للهجين سهما وللعربي سهمين فلما ورد الكتاب على أبي عبيدة وقرأه على المسلمين قال: ما أراد أبو عبيدة أن يحقر رجلا منكم ولكن تبعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: فلما قسم أبو عبيدة الغنائم على المسلمين قال له خالد بن الوليد: إن رجلا من المسلمين تشفع بي إليك أن تلحق فرسه الهجين بفرسه العتيق العربي وتعطيه سهمين فابى أبو عبيدة وقال والله أن سف التراب أحب الي من ذلك وروى عثمان أن ابن الزبير قال شهدت جدي الزبير بن العوام يوم اليرموك ومعه فرسان يتعقب عليهما

(1/218)


للقتال يركب هذا يوما وهذا يوما فلما كان وقت قسم الغنائم أعطاه أبو عبيدة ثلاثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان فقال الزبير أما تصنع بي كما صنع بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان معي فرسان فأسهمني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر خمسة أسهم لفرسي أربعة وأعطاني سهما وقال المقداد ابن عمرو كنت أنا وأنت يوم بدر ومعنا فرسان لا غيرهما فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهمين للفرسين قال أبو عبيدة: إنك لصادق يا مقداد أنا أتبع فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطي الزبير وأقبل جابر بن عبد الله الأنصاري فشهد عند أبي عبيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير يوم خيبر خمسة أسهم فلما فعل ذلك أتى رجال من رجال العرب لكل واحد منهم أربعة أفراس وخمسة أفراس فقالوا: الحقنا بالزبير قال فاستأذن عمر في ذلك فقال صدق الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطاه يوم خيبر خمسة أسهم فلا تعط غيره مثله.
وروى عروة عن أبي الزبير قال لقي الزبير غلاما كان قد وقع بيده يوم غنيمة عمان فهرب منه فلما كان يوم اليرموك قبل قسم الغنائم عرفه فقبض عليه وأخذ بيده فقال له الموكل على حفظ الغنيمة: لست أدعك فبينما هما في المحاورة إذ أقبل أبو عبيد فقال: ما بالكما فقال الزبير أيها الأمير هذا غلامي وصل إلي من غنيمة عمان وهرب مني وقد رأيته الآن فلا بد لي منه فقال أبو عبيدة: صدق ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو له وأنا سلمته له من غنيمة عمان فسلمه إليه فاخذه الزبير قال زيد المرادي هربت منا جارية إلى العدو وظفرنا بها يوم اليرموك في قسم الغنائم فكلمنا أبا عبيدة فيها فكتب إلى عمر فرد إليه الجواب أن كانت جارية حربية ففيها السهام وإلا فلا سبيل إليها وأن كانت لم تجر فيها السهام فردوها فكان القوم لا يرضون بهذا من ابي عبيدة فقال أبو عبيدة: والله الذي لا إله إلا هو هذا كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحكم بما أمرتكم فقبل قوله ودفع الجارية إلى القسم.
قال الواقدي: حدثني لؤي بن عبد ربه عن سالم مولى حذيفة بن اليمان عن القاسط بن سلمة بن عدي بن عاصم عمن حدثه عن فتوح الشام قال لما هزم الله الروم باليرموك على يد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ الخبر إلى هرقل بهزيمة جيشه وقد قتل ماهان وجرجير وغيرهما قال علمت أن الأمر يصل إلى هنا ثم اقام ينتظر ما يجري من المسلمين.

(1/219)


ذكر فتح مدينة بيت المقدس
قال الواقدي: واما ما كان من المسلمين فانهم اقاموا على دمشق شهرا فجمع أبو عبيدة امراء المسلمين وقال لهم: أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه فاتفق رأي

(1/219)


المسلمين أما إلى قيسارية وأما إلى بيت المقدس فقال فما الذي ترون منهما فقالوا: أنت الرجل الأمين وما تسير إلى موضع إلا ونحن معك فقال معاذ بن جبل اكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فحيث أمرك فسر واستعن بالله فقال أصبت الرأي يا معاذ فكتب إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب يعلمه إنه قد عزم على قيسارية أو إلى بيت المقدس وانه منتظر ما يأمره به والسلام وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح النخعي وأمره بالمسير فسار حتى وصل المدينة فأرسل الكتاب لعمر رضي الله عنه فقرأه على المسلمين واستشارهم في الأمر فقال علي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين مر صاحبك أن يصير إلى بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا أهلها فهو خير الرأي وأكبره وإذا فتحت بيت المقدس فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعد أن شاء الله تعالى كذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صدقت يا أبا الحسن فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام ابي عبيدة أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها وقد اشار ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير إلى بيت المقدس فإن الله سبحانه وتعالى يفتحها على يديك والسلام عليك ثم طوى الكتاب ودفعه إلى عرفجة وأمره أن يعجل بالمسير فسار حتى قدم على على أبي عبيدة فوجده على الجابية فدفع الكتاب إليه فقرأ على المسلمين ففرحوا بمسيرهم إلى بيت المقدس فعندها دعا أبو عبيدة بخالد بن الوليد وعقد له راية وضم إليه خمسة آلاف فارس من خيل الزحف وسرحه إلى بيت المقدس ثم دعا بيزيد بن أبي سفيان وعقد له راية على خمسة آلاف وأمره أن يلحق بخالد إلى بيت المقدس وقال له: يا ابن أبي سفيان ما علمتك إلا ناصحا فإذا أشرفت على بلد ايلياء فارفعوا أصواتكم بالتهليل والتكبير واسألوا الله بجاه نبيه ومن سكنها من الأنبياء والصالحين أن يسهل فتحها على أيدي المسلمين فأخذ يزيد الراية وسار يريد بيت المقدس فسار ثم دعا شرحبيل بن حسنة كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له راية وضم إليه خمسة آلاف فارس من أهل اليمن وقال له: سر بمن معك حتى تقدم بيت المقدس وانزل بعسكرك عليها ولا تختلط بعسكر من تقدم قبلك ثم دعا بالمرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وضم إليه خمسة آلاف فارس مع جمع من المسلمين وسرحه على أثر شرحبيل ابن حسنة وقال له: انزل على حصنها وانت منعزل عن أصحابك ثم عقد راية خامسة فسلمها للمسيب ابن نجية الفزاري وأمره أن يلحق بأصحابه وضم إليه خمسة آلاف فارس من النخع وغيرهم من القبائل وعقد راية سادسة وسلمها إلى قيس بن هبيرة المرادي وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءه ثم عقد راية سابعة وسلمها إلى عروة بن مهلهل بن يزيد الخيل وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءهم فكان جملة من سرحه أبو عبيدة إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين الفا وسارت السبعة أمراء في سبعة

(1/220)


أيام في كل يوم أمير وذلك كله يرهب به اعداء الله فبقي كل يوم ينزل عليهم أمير بجيشه.
فكان أول من طلع عليهم بالراية خالد بن الوليد فلما أشرف عليهم كبر وكبر أصحابه فلما سمع أهل بيت المقدس ضجيج اصواتهم انزعجوا وتزعزعت قلوبهم وصعدوا على أسوار بلدهم فلما نظروا إلى قلة المسلمين استحقروهم وظنوا أن ذلك جميع المسلمين فنزل خالد ومن معه مما يلي باب أريحاء واقبل في اليوم الثاني يزيد بن أبي سفيان وفي اليوم الثالث شرحبيل بن حسنة وأقبل في اليوم الرابع المرقال وأقبل في اليوم الخامس المسيب بن نجيبة وأقبل في اليوم السادس قيس بن هبيرة فنزل وأقبل في اليوم السابع عروة بن مهلهل بن زيد الخيل فنزل مما يلي طريق الرملة قال عبد الله بن عامر بن ربيعة الغطفاني ما نزل أحد من المسلمين علىبيت المقدس إلا وكبر وصلى ما قدره الله عليه ودعا بالنصر والظفر على الأعداء ويقال أن خالدا كان هو وأبو عبيدة قال فلما مضى العسكر قام أبو عبيدة وخالد وبقية المسلمين والذراري والسواد والغنم وما أفاء الله على المسلمين من المواشي والأموال فلم يبرحوا من مكانهم قال واقام العسكر على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب ولا ينظرون رسولا يأتي إليهم ولا يكلمهم أحد من أهلها إلا إنهم قد حصنوا أسوارهم بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة قال المسيب بن نجية الفزاري ما نزلنا ببلد من بلاد الشام فرأينا أكثر زينة ولا أحسن عدة من بيت المقدس وما نزلنا بقوم إلا وتضعضعوا لنا وداخلهم الهلع وأخذتهم الهيبة إلا أهل بيت المقدس نزلنا بازائهم ثلاثة أيام فلم يكلمنا منهم أحد ولا ينطقون غير أن حارسهم شديد وعدتهم كاملة فلما كان في اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة أيها الأمير كأن هؤلاء القوم صم فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عمي فلا يبصرون ازحفوا بنا إليهم فلما كان في اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول من ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان فشهر سلاحه وجعل يدنو من سورهم وقد أخذ معه ترجمانا يبلغه عنهم ما يقولون فوقف بازاء سورهم بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون.
فقال لترجمانه قل: لهم أمير العرب يقول لكم: ماذا تقولون فيإجابة الدعوة إلى الإسلام والحق وكلمة الإخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم وأن أبيتم ولم تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما صالح غيركم ممن هو أعظم منكم عدة واشد منكم وأن أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار قال فتقدم الترجمان إليهم وقال لهم: من

(1/221)


المخاطب عنكم فكلمه قس من القساوسة عليه مدارع الشعر وقال أنا المخاطب عنهم ماذا تريد فقال الترجمان أن هذا الأمير يقول: كذا وكذا ويدعوكم إلى أحدى هذه الخصال الثلاث أما الدخول في الإسلام او اداء الجزية واما السيف قال فبلغ القس من وراءه ما قال الترجمان قال فضجوا بكلمة كفرهم وقالوا: لا نرجع عن دين العز والقبول وأن قتلنا اهون علينا من ذلك فبلغ الترجمان ذلك ليزيد قال فمشى إلى الأمراء وأخبرهم بجواب القوم قال لهم: ما انتظاركم بهم فقالوا: إن الأمير أبا عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم بل بالنزول عليهم ولكن نكتب إلى أمين الأمة فإن امرنا بالزحف زحفنا فكتب يزيد بن ابي سفيان إلى ابي عبيدة يعلمه بما كان من جواب القوم فما الذي تأمر فكتب إليهم أبو عبيدة يأمر بالزحف وانه وأصل في أثر الكتاب فلما وقف المسلمون على كتاب ابي عبيدة فرحوا واستبشروا وباتوا ينتظرون الصباح.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن المسلمين باتوا تلك الليلة كأنهم ينتظرون قادما يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه والنظر إلى آثار الأنبياء قال فلما أضاء الفجر أذن وصلت الناس صلاة الفجر قال فقرأ يزيد لأصحابه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا} [المائدة: 21] الآية فيقال أن الأمراء أجرى الله على ألسنتهم في تلك الصلاة أن قرأوا هذه الآية كأنهم على ميعاد واحد فلما فرغوا من الصلاة نادوا النفير النفير يا خيل الله اركبي قال فأول من برز للقتال حمير ورجال اليمن وبرز المسلمون للحرب كأنهم أسود ضارية ونظر إليهم أهل بيت المقدس وقد انشرحوا لقتالهم فنشطهم ورشقوا المسلمين بالنشاب فكانت كالجراد فجعل المسلمون يتلقونها بدرقهم فلم تزل الحرب بينهم من الغد إلى الغروب يقاتلون قتالا شديدا ولم يظهروا فزعا ولا رعبا ولم يطمعوهم في بلدهم فلما غربت الشمس رجع الناس وصلى المسلمون ما فرض الله عليهم وأخذوا في اصلاح شأنهم وعشائهم فلما فرغوا من ذلك أوقدوا النيران واستكثروا منها لأن الحطب عندهم كثير فبقي قوم يصلون وقوم يقرأون وقوم يتضرعون وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل فلما كان الغد بادر المسلمون إليهم وذكروا الله كثيرا وأثنو عليه وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدمت رماة النبل وأقبلوا يرمون ويذكرون الله وهم يضجون إلى الله بالدعاء.
قال الواقدي: ولم يزل المسلمون على القتال عدة أيام وأهل بيت المقدس يظهرون الفرح وانه ليس على قلوبهم من هم ولا جزع فلما كان اليوم الحادي عشر أشرفت عليهم راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن ورائها فرسان المسلمين وابطال الموحدين

(1/222)


وقد أحدقوا بأبي عبيدة وخالد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي بكر عن يساره وجاءت النسوان والأموال وضج الناس ضجة واحدة بالتهليل والتكبير فاجابتهم القبائل ووقع الرعب في قلوب أهل بيت المقدس فانقلب كبارهم وعظماؤهم وبطارقتهم إلى البيعة العظمى عندهم وهي الغمامة فلما وقفوا بين يدي جئليقهم وكانوا يعظمونه ويبجلونه فلما سمعوا تلك الضجة دخلوا عليه ووقفوا بين يديه وخضعوا له وقالوا: يا ابانا قد قدم أمير القوم إلينا ومعه بقية المسلمين وهذه الضجة بسببه فلما سمع بتركهم وجائليقهم تغير لونه وتغير وجهه وقال هي هي قالوا: ما ذلك أيها البترك والاب الكبير قال وحق الإنجيل أن كان قدم اميرهم فقد دنا هلاككم والسلام قالوا: وكيف ذلك قال: لانا نجد في العلم الذي ورثناه عن المتقدمين أن الذي يفتح الأرض في الطول والعرض هو الرجل الاسمر الأحور المسمى بعمر صاحب نبيهم محمد فإن كان قد قدم فلا سبيل لقتاله ولا طاقة لكم بنزاله ولا بد لي أن اشرف عليه وانظر إليه والى صورته فإن كان إياه عمدت إلى مصالحته واجبته إلى ما يريد وأن كان غيره فلا نسلم إليه قط لأن مدينتنا لا تفتح إلا على يد من ذكرته لكم والسلام ثم إنه وثب قائما والقسوس والرهبان والشمامسة من حوله وقد رفعوا الصلبان على رأسه وفتحوا الإنجيل بين يديه ودارت البطارقة من حوله وصعد على الصور من الجهة التي فيها أبو عبيدة فنظر إلى المسلمين وهم يسلمون عليه ويعظمونه ثم يرجعون إلى القتال كأنهم الاسد الضارية فناداهم رجل ممن كان يمشي بين يدي البترك فقال: يا معاشر المسلمين كفوا عن القتال حتى نستخبركم ونسألكم قال فأمسك الناس عن القتال فناداهم رجل من الروم بلسان عربي فصيح اعلموا أن صفة الرجل الذي يفتح بلدنا هذا وجميع الأرض عندنا فإن كان هو أميركم فلا نقاتلكم بل نسلم إليكم وأن لم يكن إياه فلا نسلم إليكم أبدا.
قال الواقدي: فلما سمع المسلمون ذلك أقبل نفر منهم إلى ابي عبيدة وحدثه بما سمعوه قال فخرج أبو عبيدة إليهم إلى أن حاذاهم فنظر البترك إليه وقال ليس هو هذا الرجل فابشروا وقاتلوا عن بلدكم ودينكم وحريمكم فلما سمعوا قوله رفعوا أصواتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وأقبلوا يقاتلون القتال الشديد وعاد البترك إلى القمامة ولم يخاطب أبا عبيدة بكلمة واحدة بل أمر قومه بالحرب والقتال وعاد أبو عبيدة إلى أصحابه فقال خالد: ما كان منك أيها الأمير فقال: لا علم لي غير إني خرجت إليهم كما رايت وأشرفت علي شيطان من شياطينهم الذي يضلهم فما هو غير أن نظر لي وتاملني حتى ضجوا ضجة واحدة وولى عني ولم يكلمني فقال خالد: يوشك أن يكون لهم في ذلك تأويل ورأي فنقف عليه ونعلم نبأه ثم قال شدوا عليهم الحرب والقتال فشد عليهم المسلمون.

(1/223)


قال الواقدي: وكان نزول المسلمين على بيت المقدس في أيام الشتاء والبرد وظنت الروم أن المسلمين لا يقدرون عليهم في ذلك الوقت قال: وزحف المسلمون إليهم وبرزت النبالة من أهل اليمن وصمم أصحاب القسي ورشقوهم بالنبل وكانوا غير محترزين من النبل لقلة أكتراثهم به حتى رأوا النبل ينكسهم على رؤوسهم من وراء ظهورهم وهم لا يشعرون قال مهلهل لله در عرب اليمن فلقد رأيتهم يرمون بالنبل الروم فيتهافتون من سورهم كالغنم فلما رأوا ما صنع بهم النبل احترزوا منه وستروا السور بالحجف والجلود وبما يرد النبل قال ونظرت الروم إلى ضرار بن الأزور وقد اقبل نحو الباب الأعظم وعليه بطريق كبير وعلى رأسه صليب من الجوهر وحوله غلمان وعليهم الطوارق وبأيديهم القسي الموترة والعمد وهو يحرص القوم على القتال قال عوف بن مهلهل إلى ضرار وقد قصد نحوه وهو يختفي ويستتر إلى أن قرب من البرج الذي عليه البطريق ثم أطلق إليه نبلة قال عوف فنظرت الىالنبلة مع علو هذا الجدار وقد خرجت من قوس ضرار والبرج عال رفيع فقلت: وما تكون هذه النبلة مع علو هذا الجدار وما الذي تصنع في هذا العلج وعليه هذه اللامة اللامعة فاقسم بالله لقد وقعت هذه النبلة في فيه فتردى إلى أسفل برجة فسمعت للقوم ضجة عظيمة ورجولة هائلة فعلمت إنه قتل قال ولم يزل أبو عبيدة ينازل بيت المقدس أربعة أشهر كاملة وما من يوم إلا ويقاتلهم قتالا شديدا والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر فلما نظر أهل بيت المقدس إلى شدة الحصار وما نزل بهم من المسلمين قصدوا القمامة ووقفوا بين يدي بتركهم وسجدوا بين يديه وعظموه وقالوا له: يا ابانا قد دار علينا حصار هؤلاء العرب ورجونا أن يأتينا مدد من قبل الملك ولا شك إنه اشتغل عنا بنفسه من أجل هزيمة جيشه وإنهم أشهى منا للقتال وإنهم من يوم نزلوا علينا لم نخاطبهم بكلمة واحدة ولم نجبهم احتقارا منا لهم والآن قد عظم علينا الأمر وأنا نريد منك أن تشرف على هؤلاء العرب وتنظر ما الذي يريدون منا فإن كان أمرهم قريبا أجبنا إلى ما يريدون ويطلبون وأن كان صعبا فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم فاما أن نقتل عن آخرنا واما أن نهزمهم عنا فأجابهم البترك إلى ذلك واشتمل بلباسه وصعد معهم على السور وحمل الصليب بين يديه واجتمع القسوس والرهبان حوله وبايديهم الأناجيل مفتحة والمباخر حتى اشرف على المكان الذي فيه أبو عبيدة فنادى منهم رجل بلسان فصيح العربية يا معاشر العرب أن عمدة دين النصرانية وصاحب شريعتها قد أقبل يخاطبكم فليدن منا أميركم فأخبروا أبا عبيدة بمقالهم فقال والله إني لاجيبه حيث دعاني ثم قام أبو عبيدة وجماعة من الأمراء والصحابة ومعه ترجمان فلما وقف بازائه قال لهم الترجمان: ما الذي تريدون منا في هذه البلدة المقدسة ومن قصدها يوشك أن الله يغضب عليه ويهلكه فأخبره الترجمان بذلك فقال قل لهم: نعم إنها شريفة ومنها

(1/224)


أسرى بنبينا إلى السماء ودنا من ربه كقاب قوسين أو أدنى وإنها معدن الأنبياء وقبورهم فيها ونحن أحق منكم بها ولا نزال عليها أو يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها قال البترك فما الذي تريدون منا قال أبو عبيدة: خصلة من ثلاث أولها أن تقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فإن أجبتم إلى هذه الكلمة كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا قال البترك إنها كلمة عظيمة ونحن قائلوها إلا أن نبيكم محمدا ما نقول إنه رسول قال أبو عبيدة: كذبت يا عدو الله إنك لم توحد قط وقد أخبرنا الله في كتابه إنكم تقولون: المسيح ابن الله لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قال: البترك هذه خصلة لا نجيبكم إليها فما الخصلة الثانية فقال أبو عبيدة: تصالحوننا عن بلدكم أو تؤدون الجزية إلينا عن يد وأنتم صاغرون كما أداها غيركم من أهل الشام.
قال البترك: هذه الخصلة أعظم علينا من الأولى وما كنا بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدا فقال أبو عبيدة: ما نزال نقاتلكم حتى يظفرنا الله بكم ونستعبد أولادكم ونساءكم ونقتل منكم من خالف كلمة التوحيد وعكف على كلمة الكفر فقال البترك: فأنا لا نسلم مدينتنا أو نهلك عن آخرنا وكيف نسلمها وقد استعددنا بآلة الحرب والحصار وفيها العدة الحسنة والرجال الشداد ولسنا كمن لاقيتم من أهل المدن الذين أذعنوا لكم بالجزية فإنهم قوم غضب عليهم المسيح فأدخلهم تحت طاعتكم ونحن في بلد من إذا سأل المسيح ودعاه أجاب دعوته فقال أبو عبيدة: كذبت والله يا عدو الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] فقال: أنا أقسم بالمسيح إنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتموها أبدا وإنما تفتح لرجل صفته ونعته في كتبنا ولسنا نجد صفته ونعته معك أبدا فقال أبو عبيدة: وما صفة من يفتح مدينتكم قال البترك: لا نخبركم بصفته لكن نجد في كتبنا وما قرأناه من علمنا إنه يفتح هذه البلدة صاحب محمد اسمه عمر يعرف بالفاروق وهو رجل شديد لا تأخذه في الله لومة لائم ولسنا نرى صفته فيكم قال: فلما سمع أبو عبيدة ذلك من كلام البترك تبسم ضاحكا وقال فتحنا البلد ورب الكعبة ثم أقبل عليه وقال له: إذا رأيت الرجل تعرفه قال: نعم وكيف لا أعرفه وصفته عندي وعدد سنينه وأيامه قال أبو عبيدة: هو والله خليفتنا وصاحب نبينا فقال البترك أن كان الأمر كما ذكرت فقد علمت صدق قولنا فاحقن الدماء وابعث إلى صاحبك يأت فإذا رأيناه وتبيناه وعرفنا صفته ونعته فتحنا له البلد من غير هم ولا نكد وأعطينا الجزية فقال أبو عبيدة: فاني أبعث إليه بأن يقوم علينا أفتحبونا القتال أم نكف عنكم فقال البترك معاشر العرب إلا تدعون بغيكم أنخبركم باننا قد صدقناكم في الكلام طلبا لحقن الدماء وانتم تأبون إلا القتال قال أبو عبيدة: نعم لأن ذلك اشهى إلينا من

(1/225)


الحياة نرجو به العفو والغفران من ربنا قال فأمر أبو عبيدة بالكف عنهم وانصرف البترك.
قال الواقدي: فجمع أبو عبيدة الأمراء والمسلمين إليه وأخبرهم بما قال البترك فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا: افعل أيها الأمير واكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فلعله يسير إلينا ويفتح هذا البلد علينا فقال شرحبيل بن حسنة اصبر حتى نقول لهم أن الخليفة معنا ويتقدم خالد إليهم فإذا نظروا إليه فتحوا الباب وكفينا التعب وكان خالد اشبه الناس بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما أصبح الصباح قال له الترجمان: قد جاء الخليفة وكان قد قال أبو عبيدة لخالد: فركبوا جميعا وقالوا: قد جاء الرجل الذي تطلبونه فعرفوا البترك فأقبل إلى أن وقف على السور وقال له: قل له: يتقدم بحيث نراه عيانا فتقدم خالد فتبينه وقال وحق المسيح كأنه هو ولكن باقي العلامات ما هي فيه فبحق دينك من أنت فقال أنا من بعض أصحابه فقال البترك يا فتيان العرب كم يكون هذا الخداع فيكم وحق المسيح لئن لم نر الرجل الموصوف ما نفتح لكم ولا يرجع أحد منا يكلمكم ولو أقمتم علينا عشرين سنة ثم ولى ولم يتكلم فقال المسلمون عند ذلك اكتبوا إلى أمير المؤمنين وعرفوه بذلك فعسى أن يأتي ويتشرف بهذه البقعة فكتب أبو عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد السلام عليك فأني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لاهل مدينة ايلياء نقاتلهم أربعة أشهر كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار إلا إنهم صابرون على ذلك ويرجون الله ربهم فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه اشرف علينا بتركهم الذي يعظمونه وقال إنهم يجدون في كتبهم إنه لا يفتح بلدهم إلا صاحب نبينا واسمه عمر وانه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم وقد سألنا حقن الدماء فسر إلينا بنفسك وانجدنا لعل الله أن يفتح هذه البلدة علينا على يديك ثم إنه طوى الكتاب وختمه وقال: يا معاشر المسلمين من ينطلق بكتابي هذا وأجره على الله فأسرع بالإجابة ميسرة بن مسروق العبسي وقال أنا أكون الرسول وأرجع مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شاء الله تعالى.
قال أبو عبيدة: فخذ الكتاب بارك الله فيك فأخذه ميسرة واستوى على ناقة له كوماء ولم يزل سائرا إلى أن دخل المدينة فدخلها ليلا وقال والله لا نزلت عند أحد من الناس فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها ودخل المسجد وسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أتى مكانا في المسجد فنام وكان له ليال عدة لم ينم فأخذته عيناه فما استيقظ إلا على أذان عمر وكان يغلس في

(1/226)


الأذان فلما أذن دخل المسجد وهو يقول: الصلاة رحمكم الله قال ميسرة فقمت وتوضأت وصليت خلف عمر صلاة الفجر فلما انحرف عن محرابه قمت إليه وسلمت عليه فلما نظر الي صافحني واستبشر وقال ميسرة ورب الكعبة ثم قال: ما وراءك يا ابن مسروق قلت: الخير والسلامة يا أمير المؤمنين ثم ناولته الكتاب فقراه على المسلمين فاستبشروا به فقال: ما ترون رحمكم الله فيما كتب به أبو عبيدة فكان أول من تكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أن الله قد أذل الروم وأخرجهم من الشام ونصر المسلمين عليهم وقد حاصر أصحابنا مدينا ايلياء وضيقوا عليهم وهم في كل يوم يزدادون ذلا وضعفا ورعبا فإن أنت اقمت ولم تسر إليهم رأوا إنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستحقر فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطون الجزية فلما سمع عمر ذلك من مقال عثمان جزاه خيرا وقال هل عند أحد منكم رأي غير هذا فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه نعم عندي غير هذا الرأي وأنا ابديه لك رحمك الله فقال عمر وما هو يا أبا الحسن قال أن القوم قد سألوك وفي سوالهم ذلك فتح للمسلمين وقد اصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام وإني ارى إنك أن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك وكان في مسيرك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة وفي قطع كل واد وصعود جبل حتى تقدم إليهم فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح ولست آمن أن يياسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم فيدخل فلا يتخلفون عنه والصواب أن تسير إليهم أن شاء الله تعالى قال ففرح عمر بن الخطاب بمشورة علي رضي الله عنه وقال: لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرا ولست أخذ إلا بمشورة علي فما عرفناه إلا محمود المشورة ميمون الغرة ثم أن عمر رضي الله عنه أمر الناس بأخذ الأهبة للمسير معه والاستعداد فأسرع المسلمون إلى ذلك واستعدوا وتأهبوا وأمر عمر أن يكونوا خارج المدينة ففعلوا ذلك وأتى عمر المسجد فصلى فيه أربع ركعات ثم قام إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم وعلى ابي بكر رضي الله عنه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب وخرج من المدينة وأهلها يشيعونه ويودعونه.
قال الواقدي: وخرج عمر من المدينة وهو على بعير له أحمر وعليه غرارتان في أحداهما سويق وفي الأخرى تمر وبين يديه قربة مملوءة ماء وخلفه جفنة للزاد وخرج ومعه جماعة من الصحابة قد شهدوا اليرموك وعادوا إلى المدينة منهم الزبير وعبادة بن الصامت وسار عمر نحو بيت المقدس فكان إذ نزل منزلا لا يبرح منه حتى يصلي الصبح فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وقال الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام واكرمنا بالإيمان وخصنا بنبيه عليه الصلاة والسلام وهدانا من الضلالة وجمعنا بعد الشتات على

(1/227)


كلمة التقوى وألف بين قلوبنا ونصرنا على عدونا ومكن لنا في بلاده وجعلنا اخوانا متحابين فاحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة السابغة والمنن الظاهرة فإن الله يزيد المستزيدين الراغبين فيما لديه ويتم نعمته على الشاكرين ثم يأخذ الجفنة فيملؤها سويقا ويصف التمر حولها ويقرب للمسلمين ويقول: كلوا هنيئا مريئا فياكل ويأكل المسلمون معه ثم يرحل فلم يزل كذلك في مسيره قال عمرو بن مالك العبسي كنت مع عمر بن الخطاب حين سار إلى الشام فمر على ماء لجذام وعليه طائفة منهم نزول والماء يدعى ذات المنار فنزل بالمسلمين عليه فبينما هو كذلك وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله إذ أقبل إليه قوم من جذام فقالوا: يا أمير المؤمنين أن عندنا رجلا له أمرأتان وهما أختان لاب وأم قال فغضب عمر وقال علي به فاتى بالرجل إليه فقال له عمر: ما هاتان المرأتان قال الرجل زوجتاي قال فهل بينهما قرابة قال: نعم هما اختان قال عمر فما دينك ألست مسلما قال بلى قال عمر وما علمت أن هذا حرام عليك والله يقول في كتابه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] فقال الرجل ما علمت وما هما علي حرام فغضب عمر وقال كذبت والله إنه لحرام عليك ولتخلين سبيل أحداهما وإلا ضربت عنقك قال الرجل افتحكم علي قال: أي والله الذي لا إله إلا هو فقال الرجل أن هذادين ما اصبنا فيه خيرا ولقد كنت غنيا عن أن أدخل فيه قال عمر ادن مني فدنا منه فخفق راسه بالدرة خفقتين وقال له: أتتشاءم بالإسلام يا عدو الله وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه الله لملائكته ورسله وخيرته من خلقه خل يا ويلك سبيل أحداهما وإلا جلدتك جلدة المفثري فقال الرجل كيف اصنع بهما وإني أحبهما ولكن اقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي وأن كنت لهما جميعا محبا فأمر عمر فاقترع فوقعت القرعة على أحداهما فأمسكها وأطلق سبيل الثانية ثم أقبل عليه عمر وقال له: اسمع يا ذا الرجل وع ما أقول لك إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه فإياك أن تفارق الإسلام وإياك يبلغني أن قد اصبت أخت أمرأتك التي فارقتها فانك أن فعلت ذلك رجمتك.
قال الواقدي: وسار عمر حتى مر على حي من بني مرة فإذا بقوم منهم قد أقاموا في الشمس يعذبون فقال لهم عمر: ما بال هؤلاء يعذبون فقيل عليهم خراج فهم يعذبون قال فما يقولون قال يقولون ما نجد نؤدي فقال عمر دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعذبوا الناس في الدنيا يعذبكم الله يوم القيامة" فخلى سبيلهم ثم سار حتى إذا كان بواد القرى أخبروه أن شيخا على الماء وله صديق يوده فقال له صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيبا وأكفيك رعي أبلك والقيام عليها ولي فيها يوم وليلة ولك فيها يوم وليلة قال له الشيخ: قد فعلت ذلك ورضي فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال ويلكما ما

(1/228)


دينكما قالا الإسلام قال عمر فما الذي بلغني عنكما قالا وما هو فأخبرهما عمر بما سمعه من العرب فقال الشيخ قد كان ذلك يا أمير المؤمنين فقال عمر أما علمتما أن ذلك حرام في دين الإسلام قالا لا والله ما علمنا ذلك فقال عمر للشيخ وما دعاك أن صنعت هذا القبيح قال أنا شيخ كبير ولم يكن لي أحد أثق به ولاأتكل عليه فقلت: يا هذا أتكفيني الرعي والسقي وتعينني على دوابي وأنا أجعل لك نصيبا في امرأتي والآن علمت إنه حرام فلا أفعله فقال لي عمر خذ بيد امرأتك فلا سبيل لي عليها ثم قال للشاب إياك أن تقرب منها فإنه أن بلغني ذلك ضربت عنقك ثم ارتحل عمر يريد بيت المقدس حتى دنا من أول الشام وأشرف عليه قال أسلم ابن برقان مولى عمر فلما أشرفنا على الشام واشرف عليه المسلمون نظرنا إلى طائفة من خيل المسلمين فقال عمر للزبير اسرع وانتظر ما هذه الخيل فأسرع الزبير إليها فلما قرب منها وإذا هي خيل من اليمن قد بعث بها أبو عبيدة يأخذون له خبر عمر رضي الله عنه قال الزبير فسلموا علي وقالوا: يا فتى من أين أقبلت فقلت: من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كيف خلفت أهلها قلت بخير قالوا: فما فعل عمر هل قدم علينا أم قال الزبير من أنتم قالوا: نحن من عرب اليمن قد وجهنا أبو عبيدة لنأخذ له خبر عمر قال فرجع الزبير إلى عمر وحدثه قال أصبت يا أبا عبد الله فاقبل علينا جمع آخر فسلموا علينا وسألونا عن عمر فقال لهم: ها أنا عمر فما تريدون قالوا: يا أمير المؤمنين قد ذرفت العيون وطالت الأعناق بطول قدومك فلعل الله أن يفتح بيت المقدس على يدك.
قال الواقدي: ثم رجعوا على اعقابهم حتى أشرفوا على عسكر المسلمين وابي عبيدة ونادوا بأصواتهم أبشروا يا مسلمون بقدوم عمر قال فأرتج الناس وهموا أن يركبوا لاستقباله بأجمعهم فقال لهم أبو عبيدة: عزيمة على كل رجل أن لا يخرج من مركزه ثم سار أبو عبيدة في أناس من المهاجرين والأنصار حتى أشرف بمن معه على عمر قال ونظر عمر إلى أبي عبيدة وهو لابس سلاحه متنكب قوسه وهو راكب على قلوصه مغطى بعباءة قطوانية وخطام قلوصة من شعر فلما نظر أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه أناخ قلوصه وأناخ عمر بعيره وترجل كلاهما ومد أبو عبيدة يده فصافح عمر وتعانقا جميعا وسلم بعضهما على بعض واقبل المسلمون يسلمون على عمر ثم ركبا جميعا وجعلا يسيران أمام الناس وهما يتحادثان ولم يزالا كذلك حتى نزلا ببيت المقدس فلما نزل صلى عمر رضي الله عنه بالمسلمين صلاة الفجر ثم خطبهم خطبة حسنة فقال في خطبته الحمد لله الحميد المجيد القوي الشديد الفعال لما يريد ثم قال أن الله تعالى قد أكرمنا بالإسلام وهدانا بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام وازاح عنا الضلالة وجمعنا بها الفرقة والف بين قلوبنا من بعد البغضاء فاحمدوه على هذه النعمة تستوجبوا

(1/229)


منه المزيد فقد قال الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم: 7] ثم قرأ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} قال فلما تلا عمر ذلك قام قس من النصارى كان حاضرا بين يديه فقال أن الله لا يضل أحدا فلما كررها قال عمر انظروا أن عاد إلى قوله فاضربوا عنقه فعرف القس ما قال عمر فأمسك ومضي عمر في خطبته فقال:
أما بعد فاني أوصيكم بتقوى الله عز وجل الذي يبقي ويغني كل شيء سواه الذي بطاعته ينفع أولياءه وبمعصيته يفني أعداءه أيها الناس أدوا زكاة أموالكم طيبة بها قلوبكم وأنفسكم لا تريدون بها جزاء من مخلوق ولا شكورا أفهموا ما توعظون به فإن الكيس من احرز دينه وأن السعيد من اتعظ بغيره إلا أن شر الأمور مبتدعاتها وعليكم بالسنة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فالزموها فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة والزموا القرآن فإن فيه الشفاء والثواب أيها الناس إنه قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم وقال الزموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى يشهد من لم يستشهد ويحلف من لم يحلف فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة وتعوذوا من الشيطان ولا يخلون أحد منكم بامرأة فانهن من حبائل الشيطان ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن والصلاة الصلاة فلما فرغ من خطبته جلس فجعل أبو عبيدة يحدثه بما لقي من الروم وعمر باهت فتارة يبكي وتارة يهدأ فلم يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر فقال الناس يا أمير المؤمنين اسأل بلالا أن يؤذن لنا وكان بلال مقيما ببلد فلما بلغه أن عمر قد وصل سار مع أبي عبيدة حتى سلم على عمر فعظم قدره فلما حضرت صلاة الظهر وسأل المسلمون عمر أن يسأل بلالا فقال له: يا بلال أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسالون أن تؤذن لهم وتذكرهم اوقات نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال بلال نعم فلما قال الله أكبر خشعت جلودهم واقشعرت أبدانهم قال فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم أن تتصدع عند ذكر الله ورسوله فلما فرغ بلال من أذانه وجلس قال بلال: يا أمير المؤمنين أن أمراء المسلمين وأجناد الشام يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي وما لا يلحق ضعفاء الناس وما لاتناله أيديهم وأن الكل يفني وما له إلى التراب ومصيرنا إليه فقال له يزيد بن أبي سفيان: إن سعر بلادنا هذه رخيص وأنا لنصيب ما قاله بلال ههنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز فقال عمران الأمر كما ذكرت فكلوا هنيئا مريئا ولست أبرح من مكاني حتى تجمعوا الي من في المنازل وأن تكتبوا إلى فقراء المسلمين ممن في المدن والقرى فأفرض لكل أهل بيت ما يجزيهم من البر والشعير والعسل والزيت وما يحتاجون إليه ولا بد لهم منه ثم قال عمر هذا لكم من أمرائكم غير ما يأتيكم مني من بيت مال المسلمين فإن قطعت عنكم أمراؤكم فأمروني حتى أعزلهم

(1/230)


عنكم ثم أمرهم بالرحيل فلما هم بالركوب على بعيره وعليه مرقعة من صوف وفيها أربع عشرة رقعة بعضها من أدم.
قال الواقدي: بلغني ممن أثق به إنها كانت مرقعة من صوف فقال له المسلمون: يا أمير المؤمنين لو ركبت بدل بعيرك جوادا ولبست ثيابا بيضا قال ففعل قال الزبير احسب إنها كانت من ثياب مصر تساوي خمسة عشر درهما وطرح على عاتقه منديلا من كتان ليس جديدا ولا بالخلق دفعه إليه أبو عبيدة وقدم إليه برذون أشهب من براذين الروم فلما صار عمر على ظهره جعل البرذون يهملج به فلما نظر عمر إلى البرذون وفعاله نزل عنه مسرعا وقال: أقيلوا عثرتي اقال الله عثرتكم يوم القيامة فقد كاد اميركم أن يهلك بما دخل من العجب والكبر وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر" ولقد كاد أن يهلكني ثوبكم الأبيض وبرذونكم المهملج ثم أن عمر رضي الله عنه نزع ما كان عليه ثم عاد إلى لبس مرقعته.
قال الواقدي: كنا يوم نقرأ فتوح الشام وفتوح بيت المقدس عند قبر أبي حنيفة وكان الفتوح يقرأ على عبادة بن عوف الدينوري وكان من أهل الفضل وكان يسجع كلامه فلما وصل إلى ما ذكرناه من لبس عمر لمرقعته قال قد سمح خاطري بما أنا قائله.
قال الواقدي: قلت: قل: ولا تخف الصدق فتهوى في النار وأن الصدق أمانة والكذب خيانة قال لما لبس عمر مرقعته وجعل يتميز في شمائل فقره والكائنات تتعجب من زهده وصبره عندما تزينت له الدنيا بملابسها وتراءت له في حلل أمنيتها بواسطة حدثان مشيئتها وقد جعلت أشباح شهواتها على قمة رأس مرآتها وأقبلت رافلة في حلة مراودته مطلقة عند الطمع في طلب زوال مجاهدته معرضة بملابس جمالها على سوق معارضته في سناء قبلة مرآة تبهرجها في عين مشاهدته واقفة على قدم الاستدراج إلى ترك خدمته جاعلة ودادها ذريعة إلى وصلته وعمر قد أمسك عرا طاعته بيد عصمته فلما نصبت له حبائل بلاها ولم تره وقع في أشراك هواها اسمعت في معناها قد شغفها حبا أنا لنراها وقالت: يا عمر قد وليت أرضي فلا بد من القيام بفرضي فالولاية لا تقوم إلا بالملابس الهنية والمآكل الشهية والظلم في الرعية فقال عمر اذهبي فلست من رجالك ولا ممن يقع في حبالك ولا في أوحالك أما علمت إني قد تجردت لمعاندتك ولا حاجة لي في مشاهدتك وها أنا على قدم تجردت لاقامة دعوة سيد الأمم حتى افتح بلاد الروم والعجم ثم اظهر في وجهها صارم اجتهاده من معنى قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78].

(1/231)


قال الواقدي: فاستحسنت هذا الكلام والحقت ما قاله في هذا الموضع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" قال وأن عمر سار يريد العقبة ليصعد منها إلى بيت المقدس فلقيه قوم من المسلمين وعليهم ثياب الديباج مما أخذوه من اليرموك فأمر عمر أن يحثوا التراب في وجوههم وأن تمزق عليهم ولم يزل على ذلك حتى أشرف على بيت المقدس فلما نظر إليها قال الله أكبر اللهم افتح لنا فتحا يسيرا واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا ثم سار واستقبلته العشائر والقبائل وأصحاب العقود وسار عمر حتى نزل بالموضع الذي كان فيه أبو عبيدة وضربت له خيمة من شعر وجلس فيها هناك على التراب ثم قام يصلي أربع ركعات.
قال الواقدي: وعلت للمسلمين ضجة عظيمة وصياح مزعج بالتهليل والتكبير فسمع أهل بيت المقدس الضجة والجلبة فقال لهم البترك: يا ويلكم ما شأن العرب قد ارتفعت لهم جلبة من غير شيء فاشرفوا عليهم وانظروا ما شأنهم.
قال الواقدي: فأشرف عليهم رجل ممن يعرف العربية فقال: يا معاشر العرب أخبرونا ما قصتكم قالوا: إن أمير المؤمنين عمر قد قدم علينا من مدينة نبينا وهذه الضجة من فرح المسلمين به قال فرجع وأعلم البترك فأطرق إلى الأرض ولم يتكلم فلما كان الغد وصلى عمر بالناس صلاة الفجر قال لابي عبيدة: يا عامر تقدم إلى القوم وأعلمهم إني قد أتيت قال فخرج أبو عبيدة وصاح بهم وقال: يا أهل هذه البلدة أن صاحبنا أمير المؤمنين قد ورد فما تصنعون فيما قلتم قال فاعلموا البترك فخرج من كنيسته وعليه المسوح وترجل الرهبان والقسوس والاساقفه معه وقد حمل بين يديه صليب لا يخرجونه إلا في عيدهم وسار معه البطاليق الوالي عليهم وهو يقول للبترك: يا ابانا أن كنت تعرفه معرفة حقيقية وإلا فلا تفتح له ودعنا وهؤلاء العرب فاما أن بنيدهم واما أن يبيدونا قال البترك أنا أفعل ذلك ثم صعدا على الصور ووقف البطاليق إلى جانبه والصليب أمامهم واشرف على أبي عبيدة وقال: ما تشاء أيها الشيخ الباهي قال أبو عبيدة: هذا أمير المؤمنين عمر وليس عليه أمير قد أتى فاخرجوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة واداء الجزية فقال البترك يا ذا الرجل أن كان صاحبك الذي ليس عليه أمير قد أتى فدعه يدن منا فانا نعرفه بنعته وصفته وأفردوه من بينكم وليقف بازائنا حتى نراه فإن كان صاحبنا الذي نعته في الإنجيل نزلنا إليه وعقدنا معه الأمان وأقررنا له بالجزية وأن كان غير الذي نجد نعته في الإنجيل وصفته فما لكم عندنا غير القتال قال فرجع أبو عبيدة إلى عمر واخبره بما قاله البترك فهم عمر بالقيام فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين تخرج إليهم منفردا وليس عليك آلة حرب غير هذه المرقعة وأنا نخشى عليك منهم غدرا أو مكرا فينالون منك فقال عمر: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ

(1/232)


فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51] ثم أمر ببعيره فقدم إليه فاستوى في ركوبه عليه وعليه مرقعة ليس عليه غيرها وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه وليس معه غير أبي عبيدة رضي الله عنه وهو سائر بين يديه حتى قرب من السور ووقف بازاء السور والبترك والبطاليق عليه فتكلم أبو عبيدة وقال: يا هؤلاء هذا أمير المؤمنين قد أتى فمسح البترك عينه ونطر إليه وزعق بأعلى صوته هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة ثم إنه قال لأهل بيت المقدس: يا ويحكم انزلوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة هذا والله صاحب محمد بن عبد الله.
قال الواقدي: فلما سمعت الروم كلام البترك نزلوا مسرعين وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسالونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية فلما نظر إليهم عمر على تلك الحالة تواضع لله وخر ساجدا على قتب بعيره ثم نزل إليهم وقال ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة والعهد إذ سألتمونا واقررتم بالجزية قال فرجع القوم إلى بلدهم ولم يغلقوا الأبواب ورجع عمر إلى عسكره فبات فيه ليلة فلما كان الغد قام فدخل إليها وكان دخوله يوم الاثنين واقام بها إلى يوم الجمعة وخط بها محرابا من جهة الشرق وهو موضع مسجده فتقدم وصلى هو وأصحابه صلاة الجمعة فهمت الروم بغدرهم وكان أبو الجعيد الذي احتال على الروم باليرموك ببيت المقدس هو وأهله وماله فقالوا: ما ترى في غدر هؤلاء العرب إذا هم اشتغلوا بصلاتهم وليس معهم آلة حرب ولا ما يحترزون به من الضرب والقتل فقال لهم أبو الجعيد: يا قوم لا تفعلوا ولا تغدروا بهم فإن فعلتم ذلك أخبرتهم بما تريدون أن تفعلوا بهم فقالوا: وما الذي نصنع فقال أبو الجعيد اظهروا للعرب ما لكم من الزينة ومتاع الدنيا فإن متاع الدنيا وما فيها لا يصبر صاحبهما عنهما فإن طلبوهما بغدر فشأنكم وما تريدون قال فأقبل القوم على ما كانوا يقدرون عليه من المال والمتاع الحسن فاظهروه وصفوه في طريق المسلمين وشوارعهم فجعل المسلمون ينظرون إلى ذلك في دخولهم وخروجهم وهم يعجبون منهم ولم يمل أحد منهم إليه ولم يلمسه وهم يقولون الحمد لله الذي أورثنا ديار قوم مثل هذا ولو ساوت الدنيا عند الله جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء قال عوف بن سالم فوالله ما من المسلمين من جعل يده على شيء من متاعهم ولا لمسه فقال لهم أبو الجعيد: هؤلاء القوم الذين وصفهم الله في التوراة والإنجيل وإنهم لا يزالون على الحق ولا يقر بهم أحد ما داموا على ما هم عليه.
قال الواقدي: واقام عمر في بيت المقدس عشرة ايام قال شهر بن حوشب سمعت كعب الأحبار يقول: أن عمر بن الخطاب لما صالح أهل بيت المقدس ودخلها أقام فيها عشرة أيام فاقبلت إليه وكنت في قرية من فلسطين وتقدمت إليه لأسلم عليه

(1/233)


وأسلم على يديه وذلك أن ابي كان أعلم الناس بما أنزل الله على موسى بن عمران وانه كان لي محبا وعلي مشفقا ولم يكتم علي شيئا إلا أعلمني إياه مما كان يعلم الناس فلما حضرته الوفاة دعاني إليه وقال لي يا بني إنك تعلم إني ما ادخرت عنك شيئا مما كنت أعلمه لاني خشيت أن يخرج بعض هؤلاء الكاذبين وتتبعهم وقد جعلت هاتين المورقتين في هذه الكرة التي ترى فلا تتعرض لهما ولا تنظر فيهما إلى أن تسمع بخبر نبي يبعث في آخر الزمان اسمه محمد فإن يرد الله بك خيرا فأنت تتبعه ثم مات بعد وصيته اياي قال كعب فدفنته فما كان شيء أحب الي بعد انقضاء العزاء من النظر في الورقتين وقراءة ما فيهما ففتحهما فإذا فيهما لا إله إلا الله محمد رسول الله خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ودار هجرته طيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب أمته الحامدون الذين يحمدون الله على كل حال ألسنتهم رطبة بالتهليل والتكبير وهم منصورون على كل من عاداهم من أعدائهم أجمعين يغسلون وجوههم ويسترون اوساطهم أناجيلهم في صدورهم تراحمهم بينهم تراحم الأنبياء بين الأمم وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم قال كعب الأحبار فلما قرأت ذلك.
قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئا أعظم من هذا ثم مكثت بعد وفاة والدي ما شاء الله إلى أن بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم الموصوف قد ظهر بمكة وهو يظهر مرة بعد اخرى فقلت هو والله لا محالة ولم أزل أبحث عن أمره حتى قيل إنه خرج ونزل بيثرب فجعلت أترقب أمره حتى غزا غزوات ونصر على أعدائه فتجهزت أريد المسير إليه فبلغني إنه قد قبض صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي فقلت في نفسي لعله ليس الذي كنت أنتظره حتى رايت في منامي كان أبواب السماء قد فتحت والملائكة تنزل زمرة بعد زمرة وقائل يقول: قد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي عن أهل الأرض فرجعت إلى دار قومي وجاءنا الخبر إنه تقدم امته خليفة اسمه أبو بكر فقلت أقدم عليه فلم البث حتى جاءتنا جنوده إلى الشام ثم جاءتنا وفاته ثم قيل إنه استخلف عليهم رجل اسمه عمر فقلت لا أدخل هذا الدين حتى أحققه ولم أزل متوقفا حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببيت المقدس وصالح أهلها ونظرت إلى وفائهم بعهدهم وما صنع الله بأعدائهم وقلت إنهم أمة النبي الأمي فحدثت نفسي بالدخول في هذا الدين فوالله إني كنت ذات ليلة على سطحي وإذا أنا برجل من المسلمين يقول.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء:47].
قال كعب فلما سمعت هذه الآية خفت والله أن لا أصبح حتى يحول وجهي فما كان شيء أحب الي من الصباح أن يرد فلما أصبحت غدوت من منزلي وسألت عن عمر فقيل لي إنه ببيت المقدس فقصدت إليه وإذا به قد صلى بأصحابه صلاة

(1/234)


الفجر عند الصخرة فاقبلت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام وقال لي من أنت فقلت له: أنا كعب الأحبار وانني جئت أريد الإسلام والدخول فيه فاني وجدت صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في الكتب المنزلة وأن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام إني ما خلقت خلقا أكرم علي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولولاه ما خلقت جنة ولا نارا ولا سماء ولا ارضا وأمته خير الأمم ودينه خير الأديان بعثته آخر الزمان أمته مرحومة وهو نبي الرحمة وهو النبي الأمي التهامي القرشي الرحيم بالمؤمنين الشديد على الكافرين سريرته مثل علانيته وقوله لا يخالف فعله القريب والبعيد عنده سواء أصحابه متراحمون متواصلون فقال عمر أحقا ما تقول يا كعب قال: أي والله والله يسمع ما أقول ويعلم ما تخفي الصدور فقال عمر الحمد لله الذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمنا برحمته التي وسعت كل شيء وهدانا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهل لك يا كعب في الدخول في ديننا فقال كعب يا أمير المؤمنين في كتابكم الذي انزل إليكم في أمر دينكم ذكر أبراهيم فقال عمر نعم وقرأ: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ*أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] ثم قرأ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] ثم قرأ أفغير دين الله يبغون وله أسلم الآية ثم قرا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية ثم قرأ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} [الأنعام: 161] الآية ثم قرأ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] الآية قال كعب فلما سمعت هذه الآيات قلت: يا أمير المؤمنين أن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ففرح عمر باسلام كعب الأحبار ثم قال هل لك أن تسير معي إلى المدينة فنزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته فقلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك قال: وارتحل عمر بعد أن كتب لاهل بيت المقدس كتابا أي عهدا وأقرهم في بلدهم على الجزية وسار بمن معه من العساكر إلى الجابية فأقام بها ودون الدواوين وأخذ الخمس الذي لله مما أفاء الله على المسلمين ثم قسم الشام قسمين فأعطى أبا عبيدة من حوران إلى حلب وما يليها وأمره بالمسير إلى حلب وأن يقاتلوا أهلها إلى أن يفتحها الله على يديه وأعطى أرض فلسطين وارض القدس والساحل ليزيد بن ابي سفيان وجعل أبا عبيدة واليا عليه وأمر يزيد أن يحارب أهل قيسارية إلى أن يفتحها الله على يديه وكان قد اعطى أكثر الاجناد لابي عبيدة مع خالد وسير عمرو بن العاص إلى مصر واستعمل على قضاء حمص عمرو بن سعيد الأنصاري ثم سار عمر رضي الله عنه يريد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ كعب

(1/235)


الأحبار معه وكان أهل المدينة يظنون أن عمر يقيم بالشام لما يرون من كثرة خيرها وطيب فواكهها ورخص أسعارها ولما يخبرون عنها إنها بلاد الأنبياء وهي الأرض المقدسة وفيها المحشر فبقى الناس يتطاولون نحوه ويخرجون في كل يوم ينظرونه حتى قدم عمر رضي الله عنه فارتجت المدينة يوم قدومه واستبشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه برؤيته وسلموا ورحبوا به وهنئوه بما فتح الله على يديه فأول ما بدأ بالمسجد سلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ابي بكر الصديق رضي الله عنه ثم صلى ركعتين وعاد بكعب الأحبار وقال حدث المسلمين بما رايت في الوقتين فازداد الناس إيمانا.
قال أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي حدثنا أحمد بن الحسين بن العباس المعروف بأبي سفيان النحوي قال حدثنا أبو جعفر بن أحمد بن عبيد الناسخ قال حدثني عبد الله بن أسلم الزهري وعبد الله بن يحيى الزرقي عمن حدثه ممن تقدم ذكرهم واسماؤهم أول الكتاب وحديث القوم قريب بعضه من بعض والله يعيذنا من الزيادة والنقصان لأن الصدق أمانة والكذب خيانة والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في خبر هذه الفتوح إلا على الصدق وما حدثت حديثه إلا على قاعدة الحق لاثبت فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين على أهل السنة إذ لولاهم بمشيئتة الله تعالى لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق جهاده لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23].
قال الواقدي: وذلك إنه لما بعث عمر بن الخطاب أبا عبيدة رجعله أمير الشام وأمره بالمسير إلى حلب وانطاكية والمفرق وما يليهم من الحصون بعث عمرو بن العاص إلى مصر ويزيد بن أبي سفيان إلى ساحل الشام فنزلوا قيسارية وهي آهلة بالخلق كثيرة الجند وكان عليها قسطنطين إلى أن نزل يزيد وقسطنطين هذا ابن الملك هرقل وكان معه ثمانون ألف من الروم والعرب المتنصرة والروسية فلما نظر قسطنطين إلى نزول يزيد بن أبي سفيان عليه بعث إلى ابيه يستنجده فبعث إليه هرقل بصاحب مرعش وعشرين ألفا من أبطال الروسية وأنفذ له المراكب بالزاد والعلوفة فلما نظر يزيد إلى ذلك وأن لا قدرة له على ذلك كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد بن أبي سفيان العامل على بعض الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني نازلت أهل قيسارية وهي مدينة آهلة بالخلق كثيرة الجند وليس إليها سبيل وأن قسطنطين قد استنجد بأبيه وقد انجده بصاحب مرعش وعشرين ألفا والمراكب ترد عليه كل يوم بالعلوفة والزاد واريد النجدة والسلام وبعث الكتاب مع عمرو بن سالم بن حميد النخعي فلما ورد المدينة وسلم الكتاب إلى عمر بن الخطاب قال عمر من أين هذا الكتاب.

(1/236)


قال من عاملك يزيد بن أبي سفيان فقرأه فلما أتى على آخره تفكر في أمر يزيد وما وقع له حتى دخل عليه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فأراه كتاب يزيد من قيسارية الشام يطلب من نجدة فقال علي لا تغتم على المسلمين فإن الله يفتحها على يديك رغما فأنجد يزيد وانفذ إليه الكتاب.

(1/237)