فتوح الشام

ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها
قال الواقدي: كان مع ابي عبيدة عشرون ألفا ومع يزيد وعمرو بن العاص عشرة آلاف.
قال الواقدي: فلما وصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة أنفذ إلى يزيد ثلاثة آلاف فارس مع حرب بن عدي وبقي أبو عبيدة في سبعة عشر ألفا وأكثرهم من اليمن وكان أبو عبيدة قد صالح أهل قنسرين والعواصم على خمسة عشر ألف مثقال من الذهب ومثلها من فضة والف ثوب من اصناف الديباج وخمسمائة وسق من التين والزيت فلما تم الصلح وجاءوا بما ضمنوه من مدينتهم كتب لهم كتاب وشرط فيه الشروط ودخل أبو عبيدة وخالد في رجال من المؤمنين وسادات المسلمين فحطوا بها مسجدا فبلغ ذلك أهل حلب من الصلح لقنسرين ومسير العرب فاضطربوا اضطرابا شديدا وكان عليهم رئيسان أخوان لاب وأم وكانا يسكنان في القلعة ولم تكن القلعة محيطة بالمدينة بل كانت المدينة منفردة بذاتها وكان البطريقان يقال لأحدهما: يوقنا والآخر يوحنا وكان أبوهما ملك البلد وأعماله وضياعه ورساتيقه إلى حدود الضروب والى حدود الفرات وقد ملك حلب سنين لا ينازعه فيها منازع وكان هرقل طاغية الروم يهابه ويوقره ولا يحاربه كل ذلك لبقاء ملكهم واجتماع كلمتهم لانه كان قد انتزع من رومية إلى أقصى البلاد لئلا يجيش عليه أحد جيشا ولا ينازعه في ملكه لكثرة شره وتدبيره وشدة بني عمه فلما نزل بالعواصم استخلص لنفسه قلعة حلب وبناها وحصنها ومكن في البلاد فلما هلك آل الأمر بعده لولده يوقنا وكان الكبير وكان شجاعا بطلا جامعا للأموال مقداما للحروب لا يصطلي له بنار ولا يدفع شره وكان أخوه يوحنا دينا قد نزع يده من الرياسة وترهب وكان أعلم الناس في أهل زمانه وانه لما بلغهم الخبر أن أبا عبيدة قد قصد إليهم قال لأخيه: يوقنا على ماذا عولت قال على قتال العرب ولا أدعهم يقربون من أرضنا وبلادنا حتى يرى العرب إني لست كمن لقوا من بطارقة الشام ولا من غيرها وكان يوحنا قد درس الإنجيل وقرأ المزامير وليس له همة إلا عمارة الكنائس والأديرة وتشييد المواضع وكثرة الشمامسة والقسوس والرهبان والقيام بأمورهم فلما بلغ هذين الأخوين فتح العواصم عنوة وقنسرين صلحا وأن العرب نازلون عليها وأن خيلهم تضرب إلى الفرات والعواصم والبقاع فأقبل يوحنا على أخيه الأكبر يوقنا وقال: يا أخي أريد أن أختلي بك الليلة واشاورك وأطلعك

(1/237)


على سري ورأيي وأشرف على سرك ورأيك قال: نعم فلما اجتمعا في الليل في دار كانت لأبيهما في القلعة وجلسا للمشورة أقبل يوقنا على أخيه يوحنا وقال: يا أخي إلا ترى ما نزل بنا من العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد وما حل بأهل الشام منهم من القتل والنهب وأخذ الأموال وإنهم لا ينزلون مدينة من مدن الشام إلا فتحوها وملكوا أهلها فما ترى أن تصنع في أمر هؤلاء فكأني بهم وقد اشرفوا علينا.
قال الواقدي: فقال يوحنا يا اخي إذ قد استشرتني في أمرك فاني أنصحك ولا أغشك إذا قبلت النصيحة وأن كنت أصغر منك سنا فاني أعلم منك بصيرة فوحق المسيح والقربان لئن قبلت مشورتي ليعلون أمرك ويسلم لك مالك ونفسك فقال يوقنا يا أخي ما علمتك إلا ناصحا فما عندك من الرأي فقال الرأي عندي أن ترسل رسولا إلى العرب وتبذل لهم ما شاءوا وتسألهم الصلح وتتفق معهم على معلوم يدفع لهم في كل عام ما دامت الغلبة لهم فلما سمع يوقنا ذلك من كلام أخيه يوحنا اقبل عليه وقد استوثق منه الغضب وقال قبحك المسيح ما أعجز رايك ما ولدتك أمك إلا راهبا أو قسيسا ولم أقلدك لا ملكا ولا محاربا ولا مقاتلا والرهبان ليس لهم قلوب لاكلهم العدس والزيت والبقل ولا يأكلون اللحم ولا يعرفون النعيم وليس لهم بالقتال بصيرة ولا بملاقاة الرجال خبرة وأما أنا فملك ابن ملك وليس بيني وبينهم إلا الحرب و لا ترى الملوك العجز ويلك كيف نسلم ملكنا العرب ونعطيهم القياد من أنفسنا من غير حرب ولا قتال قال فلما سمع يوحنا ذلك من أخيه تبسم من كلامه وتعجب كل العجب وقال: يا أخي وحق المسيح أن أجلك قد اقترب لانك صاحب بغي تحب سفك الدماء وقتل النفس وما أظن جموعك أكثر من جموع الملك هرقل التي جمعها باليرموك مع ماهان ويوم أجنادين وهؤلاء القوم قد ايدهم الله علينا فاتق الله ولا تسع في قتل نفسك فلما سمع يوقنا كلام أخيه داخله الغضب وقال له: قد أكثرت وأطلت في مدحك العرب وإني لست كمن لا قوه من هذه الجموع التي ذكرتها ولا أقاس بهم ومع ذلك اعلم أن كل من ذكرت من أهل المدن وغيرها أسلم بلده عنوة أو صلحا قبل أن يقاتل بلا عذر في القتال ويبذل المجهود عن نفسه وإنما جمعت الأموال من قبل إلى الآن لادفع بها الأذى عن نفسي وإني مجمع على قتال العرب ومحاربتهم فإن أظفرني الصليب بهم وأعانني المسيح عليهم طلبت العرب إلى أن أدخل خلفهم الحجاز وأسود على سائر الملوك وأرجع إلى الشام ملكا فلا يقدر هرقل أن ينازعني وأن هزمتني العرب طلعت إلى قلعتي هذه ولزمتها فاني قد عبيت فيها من الزاد والأطعمة ما يكفيني طول دهري وأكون فيها عزيزا إلى أن أموت ولا ألقي يدي إلى العرب ولا ابذل أموالي من غير طلب فلا تعارضني في شيء من أمر العرب ولا تدعني إلى الصلح وإلا بطشت بك قبلهم.

(1/238)


قال الواقدي: واحتوى الشيطان على قلب يوقنا وقد سولت له نفسه العمل فلما سمع يوحنا من أخيه يوقنا هذا المقال قال له: كلامك علي حرام أبدا حتى ترجع إلى رأيي ونعود إلى قولي ثم قام عنه مغضبا فلما كان من الغد جمع يوقنا إليه جميع من التجأ إليه من العسكر من الأرمن والمتنصرة وغيرهم وعرضهم على نفسه فمن أراد سلاحا أعطاه وفرق فيهم الأموال وجعل يهون العرب عليهم ويقول: انما هم قليل ونحن أكثر منهم لأن جموعهم قد تفرقت منها جماعة على قيسارية ومنهم من توجه إلى مصر.
قال الواقدي: وعزم على قتال ابي عبيدة قبل أن يصل إليه والى بلده ثم عمد إلى بطريق من بطارقته يقال له كراكس وضم إليه ألف فارس ووكله بحفظ بلده وسار يوقنا بمن معه يريد أن يلقي جيش ابي عبيدة والمسلمين هو وقومه في اثني عشر ألف مدرع غير من كان معه بغير درع ونشرت أمامه الأعلام والصلبان وكان فيها صليب من الذهب والجوهر ومن حوله ألف غلام عليهم ثياب الديباج المنسوج بالذهب قال ابن ثعلبة الكندي فأقام أبو عبيدة على مدينة قنسرين بعد أن فتحها بالصلح وبعد أن أتاه يزيد بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره أن يبعث إلى يزيد بن أبي سفيان طائفة من جيشه فبعث له بثلاثة آلاف فارس لابسين السلاح الكامل وعول أبو عبيدة على المسير إلى حلب فدعا برجل من بني ضمرة وكان بطلا مجربا بشدة البأس وكان إذا ثبت على وجه الأرض للقتال لا يهاب الجحافل قلت: او كثرت فضم إليه ألف فارس وسيره على مقدمته وقال: يا كعب لا تقاتل جيشا لا تطيقه واختبر أمر هذا العلج واعرف خبره وأنا راحل من ورائك فسار كعب بن ضمرة يريد حلب وكان يوقنا قدم أمامه عيونا يأتون بالأخبار فأتته جواسيسه يخبرونه أن خيول العرب قد أتت تريد بلده وقتاله فقال لهم: في كم أتت العرب قالوا: في ألف فارس وهم على ستة أميال من بلدك نزول قال فكمن يوقنا كمينا ثم سار إليهم بجيوشه وبطارقته فلما أشرف عليهم وهم نزول على نهر يسقون خيلهم ويتوضئون فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم يوقنا بجيوشه وبطارقته والصليب أمامه فنادى المسلمون بعضهم بعضا واستووا على متون خيولهم وورد كعب بن ضمرة على فرسه وسبق في أول الخيل وأشرف على جيش يوقنا فحزره إنه في خمسة آلاف فارس وكان يوقنا قد قسم عسكره شطرين النصف معه والنصف مع الكمين فلما نظر كعب إلى يوقنا وجيشه انقلب إلى أصحابه وقال: يا أنصار دين الله إني نظرت عسكر عدوكم وحزرته فهو في خمسة آلاف وهم لكم مغنم ويقاتل الواحد منكم خمسة قالوا: بلى والله واقبل أصحابه يشجع بعضهم بعضا فقربت الفئة من الفئة وصاح يوقنا بأصحابه ورجاله وغلمانه وعبيده وبطارقته وأمرهم بالحملة على المسلمين فحملوا بأجمعهم حملة صعبة وحمل عليهم المسلمون والتقى الجمعان واشتبك الحرب وقاتل

(1/239)


الجمعان قتال الموت وقد أيقن المسلمون بالظفر والغنيمة فطلع عليهم الكمين من ورائهم واكبوا عليهم جميعا.
قال مسعود بن عون العجي شهدت الخيل التي بعثها أبو عبيدة طلائع مع كعب بن ضمرة وكنت فيها يوم التقى الجمعان وقد خرج علينا الكمين ونحن في القتال ونحن لا نظن أن لهم كمينا يطلع من ورائنا وإذا بأصوات حوافر الخيل أكبت علينا وأيقنا بالهلكة بعدما كنا موقنين بالغلبة وصرنا في وسط عسكر الكفار فلم يكن لنا بد من القتال فافترقت المسلمون ثلاث فرق فرقة منهم منهزمة وفرقة قصدت قتال الكمين وفرقة مع كعب بن ضمرة قصدت قتال يوقنا ومن معه قال مسعود بن عون فلله در كندة يؤمئذ لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ووهبوا أنفسهم لله تعالى حتى قتل منهم ذلك اليوم مائة رجل في مقام واحد وعمل أهل الكمين عملا عظيما وكعب بن ضمرة قلق على المسلمين فجاهد عنهم وهو يجول بالراية وينادي يا محمد يا محمد يا نصر الله انزل معاشر المسلمين اثبتوا انما هي ساعة ويأتي النصر وأنتم الأعلون فاجتمع المسلمون عليه والجراح فيهم فاشية وقتل من المسلمين مائة وسبعون رجلا من الأعيان منهم عباد بن عاصم النخعي وزفر بن أم راضي وحازم ابن شهاب المقري وسهل بن اشيم ورفاعة بن محصن وغانم بن برد وسهيل بن مفلج وكان ممن شهد يوم السلاسل وتبوك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد قال مسعود بن عون والله لقد تأسفنا على قتله ووجدنا فيه أربعين ضربة كلها في مقدمه رضي الله عنه ولم نجد واحدة في ظهره وكان الأعيان أربعين رجلا لأن الرجل منا ما قتل حتى قتل عددا من المشركين فلما نظروا إلى ثبات المسلمين مع قلتهم وما هالهم ممن قتل منهم هم المشركون أن ينهزموا فثبتهم يوقنا وقال: ويلكم ما العرب إلا مثل الذئاب أن صدمت ولت وأن تركت طمعت ولما نظر كعب بن ضمرة إلى من قتل تحت رايته أغتم لذلك غما شديدا فنزل عن فرسه ولبس درعا من فوق درعه وشد وسطه بمنطقة ومسح وجه فرسه ومنخره وقبله بين عينيه وكان قد شهد معه المواطن وجاهد معه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد سماه الهطال فقال: يا هطال هذا يومك المحمود عاقتبه فاثبت للقتال في طاعة الله ولما استوى على متنه وقف أمام المسلمين وجعل ينظر إلى القتلى وهو متفكر في امره والراية بيده وهو ينتظر من ابي عبيدة جيشا يقبل عليه أو طليعة تنجده فلم ير لذلك أثرا.
وذلك أن أبا عبيدة ما قطعه من المسير إليه إلا قدوم أهل حلب عليه وذلك إنه لما سار يوقنا إلى حرب المسلمين اجتمع مشايخ أهل حلب والروسية بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم تعلمون أن هؤلاء العرب قد أطاعهم أهل دين النصرانية والصليب ودخلوا

(1/240)


في دينهم ومنهم من رجع إلى دينهم ومنهم من قاتلهم فأما الذي فاتلهم فخسر فهل لكم أن تسيروا إلى أمير المؤمنين ونسأله الصلح ونصالح عن مدينتنا وندفع إليه ما أحب من أموالنا فإن ظفر المسلمون بالبطريق يوقنا نكن نحن آمنين غير وجلين منهم ونقر عينا من بأسهم وأن صالح يوقنا القوم نكن نحن قد سبقناه إلى الصلح وأن غلب ورجع سالما لم نبلغه ولم نعلمه واستوى رايهم على ذلك فخرج منهم ثلاثون رجلا من رؤسائهم وسلكوا طريقا غير طريق يوقنا حتى اشرفوا على عسكر المسلمين فنادوا الغوث الغوث وكان العرب قد علمت أن الغوث بالرومية هو الأمان وقال لهم الأمير: فمن سمعتموه يقولها فلا تعجلوا عليه بالقتل لئلا يطالبكم الله يوم القيامة وعمر بريء منه فكان العرب يعرفونها فلما سمع المسلمون منهم ذلك أسرعوا إليهم واوقفوهم بين يدي أبي عبيدة فقال خالد: يوشك أن هؤلاء يطلبون الصلح والأمان لأنفسهم وهم أهل حلب قال أبو عبيدة: أرجو ذلك أن شاء الله تعالى وأن صالحوني صالحتهم وهو لا يعلم ما أصابه من الحرب الشديد والقتل العتيد وكان قدومهم عليه ليلا والنيران تضرم بين يديه وكان في العسكر رجال قيام في صلاتهم يتلون القرآن فجعل بعضهم يقول لبعض: بهذه الفعال ينصرون علينا فلما سمع الترجمان مقالهم أخبر أبا عبيدة بما قد تناجوا بينهم فقال أبو عبيدة: أنا قوم قد سبقت لنا العناية من ربنا وأنا رجال لا نريد من الله ورسوله بدلا ولن نجزع من قتال الأعداء فأخبرهم الترجمان بذلك ثم قال لهم: من أنتم قالوا: نحن سكان حلب من تجارها وسوقتها ورؤسائها وقد جئنا نطلب منكم الصلح فقال أبو عبيدة: فكيف نصالحكم وقد بلغنا أن بطريقكم قد صمم على قتالنا وقد حصن قلعته وجعل فيها ما يقوته سنين واتخذ الجند وأكثر من ذلك وما لكم عندنا صلح فقالوا: أيها الأمير أن صاحبنا قد خرج من عندنا يريد حربكم وقتالكم قال أبو عبيدة: ومتى خرج قالوا: خرج سحر ونحن من بعده وسلكنا طريقا غير طريقه وأنا نرجوا إنه هالك لا محالة لانه ركب البغي ولم يرض بالصلح وقد أطاع هواه فقد وقع في شرك الردى فلما سمع أبو عبيدة بخروج البطريق خاف على طليعته منه فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هلك والله كعب ومن معه أنا لله وأنا إليه راجعون ثم اطرق إلى الأرض فقالوا: لبعض مشايخ أهل حلب كلم لنا الأمير في الصلح قال فكلمه فقال أبو عبيدة: بضجر لا صلح لكم عندنا قال فخاف الشيوخ على أنفسهم وقالوا: أنا قد اجتمع عندنا من القرى والرساتيق خلق كثير فإن صالحتمونا عمرنا لكم الأرض وكنا لكم عونا على عمارتها وعشنا في ظلكم ايام عدلكم وأن أنتم أبيتم ذلك فر الناس عنكم وطلبوا أقصى البلاد وشاع الخبر عنكم إنكم لا تصالحون فلا يبقى حولكم أحد قال فأعلمه الترجمان بما قالوا: فجعل ينظر إليهم وإذا قد برز من القوم وصاح رجل احمر الوجه وكان من حكماء الروم فصيحا بلسان عربي فقال: أيها الأمير اسمع ما ألقيه إليك من العلم الذي

(1/241)


أنزل الله في الصحف على الأنبياء قال أبو عبيدة: قل: لنسمع فإن كان حقا علمناه وأن كان غير حق لا نسمعه ولا نعمل به وكان اسمه دحداح فقال: أيها الأمير أن الله سبحانه وتعالى أنزل على انبيائه يقول: أنا الرب الرحيم خلقت الرحمة وأسكنتها في قلوب المؤمنين وإني لا أرحم من لا يرحم من أحسن أحسنت إليه ومن تجاوز تجاوزت عنه ومن عفا عفوت عنه ومن طلبني وجدني ومن أغاث ملهوفا أمنته يوم القيامه وبسطت له في رزقه وباركت له في عمره وأكترث له أهله ونصرته على عدوه ومن شكر المحسن على احسانه فقد شكرني وأنا قد أتيناك ملهوفين خائفين فأقل عثراتنا وآمن روعاتنا وأحسن إلينا.
قال فبكى أبو عبيدة من قوله وقرأ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ثم قال اللهم صل على محمد وعلى جميع الأنبياء فبهذا والله أرسل نبينا أرسله الله إلى جميع الخلق والحمد لله على هدايته لنا ثم أقبل على المسلمين وهم حوله وفيهم الرؤساء من المهاجرين والأنصار وقال لهم: الحمد لله على هدايته ثم قال أن هؤلاء أهل متجر وسوقة وضياع وهم مستضعفون وقد رأينا أن نحسن إليهم ونصالحهم ونطيب قلوبهم ومتى كانت المدينة في أيدينا والسوقة معنا فانهم يميروننا بالعلوفة ويعلموننا بما يعزم عليه عدونا ويكونون عونا لنا عليه فقال رجل من المسلمين أصلح الله الأمير أن مدنية القوم بالقرب من القلعة ولا نأمن أن القوم يدلون على عوراتنا ويخبرون بأحوالنا وما أنى القوم ليخدعونا إلا ترى إلى بطريقهم وقد خرج يبغي قتالنا وحربنا فكيف يطلب هؤلاء الصلح منا ولا شك إنهم مكروا بكعب بن ضمرة ومن معه من المسلمين فقال أبو عبيدة: أحسن ظنك بالله وثق بالله فإن الله ينصرنا ولا يسلط علينا عدونا فرحم الله من قال خيرا أو صمت وإذا أشرط عليهم النصيحة في صلحهم للمسلمين ثم اقبل على القوم وقال إني أريد أن تبذلوا في صلحكم ما بذله أهل قنسرين 2 فقالوا: أيها الأمير أن قنسرين اقدم من مدينتنا وأكثر جمعا ومدينتنا خالية من السكان لجور صاحبنا لانه قد أخذ أموالنا وغلاتنا وأصعد الكل إلى قلعته وما بقي عندنا إلا الضعفاء ومن لا ماله له وأنا نسألك الترفق بنا والعدل فينا والأحسان إلينا فقال أبو عبيدة: فما الذي تريدون أن تبذلوا في صلحكم قالوا: نعطي نصف ما أعطى أهل قنسرين فقال أبو عبيدة: قد قبلت منكم ذلك على أننا إذا نزلنا بصاحبكم اعنتمونا بالميرة والعلوفة وتبيعون وتشترون في عسكرنا ولا تكتموا عنا خبرا تكونون تعلمونه من أعدائنا ولا تتركوا جاسوسا يتجسس علينا وأن رجع إليكم بطريقكم منهزما تمنعوه أن يصل إلى القلعة فقالوا: أيها الأمير أما قولك هذا أن نمنع البطريق أن لا يصعد إلى القلعة فما نجد إلى ذلك من سبيل ولا نقول لك ما لا نفعله ما لنا به طاقة ولا بمن معه من أعوانه وجندوه قال أبو عبيدة: فلا تمنعوه من الصعود إلى القلعة وعليكم عهد الله وميثاقه والإيمان المؤكدة الغليظة أن لا تقولوا: هذا

(1/242)


القول وأن توفوا لنا كل شرط تم عليكم ثم حلفهم بالإيمان التي يعرفونها فحلف القوم عن آخرهم وصالحوا عن رجالهم ودوابهم وابنائهم ونسائهم وعبيدهم وسائر أهاليهم وانتهوا على ذلك فقال أبو عبيدة: إنكم قد حلفتم وقد قبلنا قولكم وايمانكم فإن أصبنا أحدا قد اخلف أو علم من البطريق علما ولم يعلمنا به فقد وجب عليه القتل واخذ ماله وولده حلال لنا لا يطلبنا الله بذمته ومتى نقضتم ما شرطنا عليكم فلا عهد لكم عندنا ولا ذمة لكم علينا ولنا عليكم الجزية في العام المقبل قال سعيد بن عامر التنوفي: فرضي أهل حلب بما شرطه عليهم أبو عبيدة وأخذوا عهدهم وكتب أسماءهم وعزم القوم على الانصراف إلى ديارهم وقال لهم أبو عبيدة: على رسلكم حتى أبعث معكم من يسير معكم إلى مأمنكم فقد وجب علينا حفظكم إلى أن تعودوا سالمين إلى بلدكم فقال له الدحداح: أيها الأمير اننا نرجع من الطريق الذي جئنا منه وما نريد أحدا يسير معنا فتركهم أبو عبيدة وبات بقية ليلته قلقا على كعب بن ضمرة ومن معه.
قال الواقدي: ورجع القوم من ليلتهم إلى حلب وانفجر الصبح ولم يصلوا فلما أشرفوا على حلب نظر إليهم بعض أعلاج البطريق وهم راجعون فأقبل إليهم وسألهم من أين أقبلتم وما صنعتم فظنوا إنه من أهل حلب فأخبروه بصلحهم مع أبي عبيدة فتركهم ومضى وأن القوم استقبلهم أهل حلب فسالوهم فأخبروهم بالصلح ففرحوا بذلك واقبل العلج حتى اشرف على عسكر يوقنا وهو نازل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحاط بهم وهو يظن إنه قد ملكهم وهو يتوقع الصباح إذ أتى عليه العلج فقال له: أيها البطريق إنك غافل عما نزل بك ودهمك قال له: وما ذاك يا ويلك قال له: إن أهل بلدك قد صالحوا العرب وكأنك بهم وقد ملكوا القلعة وأخذوا الأموال والنسوان فلما سمع يوقنا ما أخبر به العلج خشي على قلعته أن يملكوها في غيبته فانعكس عليه ما كان يؤمل أن يفوز به من الظفر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد قتل من المسلمين نيف وعن المائتين وكعب قد اجهد نفسه في الحرب وايقنوا إنهم هالكون لا محالة قال كعب بن ضمرة وكنت ذلك اليوم صاحب القوم وأنا أثبتهم في الحرب والى الحرب أنهضهم بهمتي وأدفع عنهم بمهجتي فإذا أجحفني القتال وركبني الحرب التجأت إلى أصحابي وأنا مع ذلك أتوقع فرجا من الله تعالى واترقب راية أبي عبيدة أن تطلع فبعد علينا ذلك ولم تزل الحرب بيننا يوما وليلة إلى الصباح من اليوم الثاني فأقسم بالله أن كان أحدنا ليصلي ولا حصل له زاد يأكله ولا ماء يشربه وأنا بين اليأس والرجاء أترقب طريق قنسرين أن تطلع منه علينا راية الإسلام فما أرى لها أثرا فرايت عند الصباح جيش العدو وقد اضطرب من جوانبه وقد علت لهم ضجة عظيمة من جميع جوانبه فقلت: ما هذا إلا مدد لحقهم من البلد أو من الملك فالتجأت إلى كلمة الشدائد وهي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال كعب بن ضمرة فوعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت: الكلمة حتى رأيت

(1/243)


جيش العدو وقد إنكشف عنا على عقبة فقلت: الحمد لله حمد الشاكرين وإني أظن أن صائحا صاح بهم من السماء فبددهم أو ملائكة نزلت عليهم كيوم بدر فلم ار لهم أثرا قال كعب فهممت أن اتبعهم فصاح المسلمون إلى اين يا كعب أما كفاك ما نحن فيه انزل بنا إلى الأرض وارض بما نحن فيه من التعب والنصب ونؤدي فرضنا ونريح خيولنا فما رد الله هؤلاء القوم إلا بمشيئته وقدرته قال فنزل كعب وشربوا الماء واسبغوا الوضوء وصلوا ما فاتهم وأكلوا زادهم واستقبلوا الراحة.
قال الواقدي: وابطأ خبر كعب على أبي عبيدة فلما صلى الصبح انفتل من صلاته وأقبل على المسلمين وخاطب من بينهم خالدا وقال: يا أبا سليمان أن أخاك أبا عبيدة ما رقد الليلة غما وانه كان يجب علينا الشكر بما فتح الله علينا وأن نفسي تحدثني بأن الذين مع كعب ابن ضمرة قد قتلوا لما أخبرني هؤلاء الذين يسالون الصلح أن صاحبهم يوقنا قد سار إليهم ولم أر أثرا وأظن إنه صادف أصحابنا وقتلهم وأفناهم عن آخرهم فقال خالد: والله إني ما نمت مثلك من الغم عليهم فما الذي عزمت أن تصنع قال الرحيل ثم أمر الناس بالرحيل وارتحلوا وساروا يريدون حلب وعلى المقدمة خالد بن الوليد وعلى الساقة أبو عبيدة فما كان غير بعيد حتى أشرف على المسلمين خالد بن الوليد وهم نيام وقد اقاموا لهم من الديدبان من يحرسهم فلما أشرف عليهم خالد والراية في يده رفعها فوق راسه فلما رآها الديدبان صاح النفير يا أنصار الدين فثاروا عن مضاجعهم كأنهم أسد ثائرة واستووا في متون خيولهم واستقبلوا صاحب الراية فعرفوه فصاح بعضهم ببعض هذه والله راية الإسلام والمسلمين فنزل خالد وسلم عليهم واتصلت بهم الساقة واقبل أبو عبيدة فلما نظر كعب بن ضمرة حمدالله وأثنى عليه ونظر إلى موضع القتلى مطروحين وما كان من المسلمين ورأوهم فلما نظروا إلى ذلك عاد فرحهم ترحا واسترجعوا وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أنا لله وأنا إليه راجعون وسأل كعبا كيف قتل أصحابك هؤلاء ومن قتلهم فأخبره كعب بقتال يوقنا وانه أشرف هو وقومه ومن كان معه على الهلاك حتى لم يبق فيهم حركة ونمنا ليلتنا هذه فلما أصبحنا وإذا هم قد صاحوا وانقلبوا راجعين عنا من غير قتال فقال أبو عبيدة: فسبحان مسبب الاسباب ليت أبا عبيدة قتل أمامهم ولم يقتلوا تحت رايته ثم أمر بدفن المسلمين بعدما جمعهم زمرا زمرا وصلى عليهم ودفنوهم باسلابهم ودمائهم ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الله الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة ودماؤهم على أجسادهم اللون لون الدم والريح ريح المسك والنور يتلألا عليهم ويدخلون الجنة" فلما واروهم في حفرهم قال لخالد أن كان عدو الله يوقنا رجع إلى القوم وعلم بصلحهم لنا فيلقون منه تعبا عظيما فألحق بهم فقد وجب علينا أن نذب عنهم لانهم تحت ذمتنا وارتحل أبو عبيدة يريد حلب فلما وصل إليها رأى البطريق

(1/244)


وجنوده قد أحدقوا بأهل البلد وهم يريدون قتلهم ويقال لهم: يا ويلكم صالحتم العرب عن أنفسكم وصرتم عونا لهم علينا قالوا: قد فعلنا ذلك وإنهم قوم منصورون فقال: يا ويلكم أن المسيح لا يرضى بفعلكم فوحق المسيح لاقتلنكم عن آخركم أو تخرجون معي إلى قتالهم وتنقضون ما بينكم وبينهم من العهد والميثاق فأخبروني بمن بدأ بهذا الأمر حتى أبدا به قال فلم يطيعوه على ذلك فقال لعبيده ادخلوا عليهم وأئتوني بهم لاقتلنهم فقد اخبرني فلان إنه لقيهم وعرفني بهم فهجم العبيد عليهم وجعلوا يقتلونهم على فرشهم وأبواب منازلهم فسمع أخوه يوحنا الضجة في البلد وهم في القلعة فنظر إلى أخيه وهو يقتل في الناس وقد قتل من أهل البلد ثلثمائة فصاح بهم وبأخيه على رسلك لا تفعل فإن المسيح يغضب عليك وقد نهانا أن نقتل عدونا فكيف بمن هو على ديننا فقال يوقنا لاخيه إنهم صالحوا العرب عن البلد وصاروا لهم عونا علينا فقال يوحنا وحق المسيح لا ابقت عليك العرب أبدا وأن لهم من يقتص منك.
قال: ومن يقتص مني قال المسيح يقتلك كما قتلتهم بغير ذنب فقال يوقنا أنت حملتهم على ذلك وأنت أول من أبطش به ثم عمد إلى أخيه وقبض عليه وجرد سيفه ليعلوه به فلما نظر يوحنا إلى أخيه وقد جرد سيفه وعلم إنه هالك رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم أشهد على إني مسلم وإني مخالف لدين هؤلاء القوم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال لأخيه: اصنع ما أنت صانع فإن كنت قاتلي فاني صائر إلى جنات النعيم فورد على يوقنا من اسلام اخيه مورد عظيم ومن أهل بلده ومن فزعه من المسلمين فحمله الغيظ على أن يرمي براس أخيه عن جسده والتفت إلى أهل البلد فوجدهم يستغيثون فلا يغاثون ويسألونه فلا يجيبهم ولا يكف عنهم فكثر منهم الضجيج وعلت الجلبة وقد أخذوا عليهم البلد من سائر جوانبها وقد أيس أهل حلب من نفوسهم وإذا بالفرج وقد أتى والمعونة وقد ادركتهم واشرفت عليهم رايات المسلمين وأبطال الموحدين وهم ينادون بكلمة التوحيد ويقدمهم خالد بن الوليد فلما نظر خالد إلى أهل حلب ولهم ضجيج بالصياح والبكاء قال لابي عبيدة: أيها الأمير هلك والله أهل صلحك وذمامك كما ذكرت فصاح بجواده وحملة الراية وزعق في القوم وقال افرجوا معاشر الأعلاج عن أهل صلحنا ثم أجاد فيهم الطعن وحمل المسلمون معه وبذلوا السيف في الأعلاج فلما نظر يوقنا إلى ذلك انهزم إلى القلعة ومعه بطارقته قال محصن بن عترة فرج الله عن أهل البلد بقتل الأعلاج يوم حلب في البلد فمن لجأ إلى القلعة سلم ومن طلب الهرب قتلناه قال محصن فكان جملة من قتل يوقنا من أهل صلحنا ثلثمائة وقتلنا نحن من أصحابه ثلاثة آلاف او يزيدون فكانت وقعة عجيبة ففرح المسلمون بها فلما قتل من قتل وفرج الله عن أهل حلب ما يجدون اخبروا أبا عبيدة كيف قتل يوقنا أخاه يوحنا وبالقصة جميعها.

(1/245)


قال الواقدي: فلما سمع يوقنا سيوف المسلمين صعد القلعة هو ومن معه من جنده واستعد للحصار ونصب المجانيق ونشر السلاح على الاسوار وكثر آلة الحصار وأما أهل حلب فانهم أخرجوا لعساكر المسلمين أربعين أسيرا من البطارقة فقال لهم أبو عبيدة: لأي سبب أسرتم هؤلاء قالوا: لانهم من أصحاب يوقنا هربوا إلينا فلم نر أن نخفيهم منك لانهم ليسوا منا ولا معنا في الصلح قال فعرض عليهم الإسلام فأسلم منهم سبعة وأما الباقون فابوا فضرب رقابهم وقال لهم: لقد نصحتم في صلحكم وسترون منا ما يسركم وصار لكم ما لنا وعليكم ما علينا وهذا بطريقكم قد تحصن في هذه القلعة فهل تعرفون لها عورة تدلونا عليها حتى نقاتلهم منها فإن فتحها الله 8 علينا جعلناها لكم غنيمة مع ما غنمتم من قومكم حتى نكافئكم بفعلكم الجميل فقالوا: أيها الأمير والله ما نعرف لها عورة وأن يوقنا قد شحن طرقاتها وقطع مسالكها ووعر فجاجها وهذا ما نعلمه ولولا إنه قتل يوحنا لكان أخذها سهلا لكم فقال أبو عبيدة: وما جرى له فأخبروه بخبره وحديثه مع أخيه وانه أسلم بعدما رفع يديه إلى السماء وما ندري ما قال غير اننا سمعنا طرف كلامه وهو يقول: اللهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت وأن عيسى عبدك ورسولك ومحمدا عبد ورسولك ختمت به الأنبياء وجعلته سيد المرسلين ولا دين أعلى من دينه فاصنع ما أنت صانع فلما اسلم قتله قال فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال في أي موضع قتله ثم وثب وأخذ خالدا معه وجماعة من المسلمين وأتوا إلى موضع قتله وهو راس سوق الساعة فوجده ملقى على ظهره وكأنه البدر ليلة تمامه مشيرا بأصبعه إلى السماء وقد مات وأصبعه قائمة فأخذه أبو عبيدة وكفنه وصلى عليه ودفنه في مقام ابراهيم فلما واروه أتى إلى ابي عبيدة رجل من المسلمين فقال أصلح الله الأمير انظر إلى هؤلاء القوم فإن كانوا من حزبنا نصحوا ودلونا على عورات قومهم فقال: لا والله ما يفعلون ذلك أبدا فعندها اقبل أبو عبيدة على المسلمين وقال: أشيروا علي رحمكم الله فقال له: ذلك الرجل وكان اسمه يونس بن عمرو الغساني وكان رجلا بصيرا بالشام وجباله ومدنه وجميع أرضه وعارفا بطريق الشام أصلح الله الأمير انظر إلى ما أعرف من البلد وما عندي من الرأي.
قال أبو عبيدة: تكلم يا ابن عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين فقال أن الله قد فتح على يدك الشام وسهله وجبله وحزنه ووعره وقتل طاغية الكفر وحاميته وأما بقايا عساكرهم فهي من وراء الدروب وهي جبال وعرة ومضايق والقوم قد رعبت قلوبهم مما أباد الله منهم وليس لهم قلوب يقاتلون بها المسلمين فحاصر هذه القلعة وبث الخيل وشن الغارات وفي بقايا البلاد وشاطى الفرات فما لهم زاد يقوم بهم فتبسم خالد من كلام الغساني وقال هذا والله هو الراي وأنا اشير عليكم بمشورة أخرى أن نزحف نحو القلعة فلعل الله أن يفتحها في وقتنا هذا فاني أخشى أن طال بنا المقام أن تعطف علينا

(1/246)


جيوش الروم من جهة أخرى فيحولوا بينها وبيننا قال أبو عبيدة: يا أبا سليمان لقد أشرت فأحسنت وقلت: فصدقت ثم أمر أبو عبيدة بالزحف إلى القلعة فترجلت الفرسان عن خيولهم وتجردت من ثيابهم واختلط العبيد والسادات وافتخرت القبائل وانبثت العشائر وتجابوا بالاشعار وتداعوا بالأنساب قال مسروق بن مالك فوالله ما رايت في قتال حصون الشام يوما كان أعظم من ذلك اليوم لاننا كنا نشبه دوران الحرب كدوران الرحى تهشم ما دارت عليه وقد برزنا إليهم في أول حربهم وتبادرت ابطال اليمن وسادات ربيعة ومضر يتلو بعضهم بعضا وجعلوا يطلبون القلعة من حيث لا طريق عليها فإذا دنوا منها أخذتهم الحجارة من كل جانب ورموهم بالمجانيق والغرازات وكنت أنا وأصحابي أقرب الناس إلى الأرض ففزعنا راجعين على أعقابنا يدفع بعضنا بعضا لا نظن أن ينجو منا أحد فوقعت الخذلة في المسلمين وقد شدخت منا الحجارة خلقا كثيرا فقتلت بعضنا وبعضنا رمته فكان من جملة من قتل يوم حصار قلعة حلب بالحجارة عامر بن الأصلع الربعي ومالك بن خزعل الربعي وحسان بن حنظلة ومروان بن عبد الله وسليمان بن فارغ العامري وعطاف بن سالم الكلابي وسراقة بن مسلم بن عوف العدوي ورجال من أهل اليمن من آل عامر ومن بني كلاب وغيرهم وسبعة من بني عبد الله قال مرزوق بن مالك فلقد كنا نرى بعد ذلك بسنين خلقا كثيرة عرجا من يوم حصار قلعة حلب فعندها نصب أبو عبيدة رايته خارج المدينة وجعل ينادي بالمسلمين فاجتمعوا إليه فقال: أيها الناس إنكم قاتلتم اليوم على غرة فادفنوا الشهداء وشدوا كل من أصابه جرح فانتدب المسلمون إلى ذلك وفرح الروم بهزيمة المسلمين وما قد نزل بهم فقال لهم يوقنا: أن العرب لا تدنوا من القلعة بعد هذا اليوم ابدا وأن حاصرونا فلاكيدنهم ولاهبطن إلى عسكرهم.
قال الواقدي: ولقد حدثني عبد الله بن سليمان الدينوري وكان ممن نقل أخبار الشام وفتوحه عن ثقات المسلمين قال حدثني عمرو أن يوقنا انتخب ألفين من خيار بطارقته وابطاله وقال لهم: انزلوا مسرعين وليحذر بعضكم بعضا وميلوا على طرف عسكر المسلمين إذا خمدت نيرانهم واغتنموا غرتهم وأمر عليهم وزيره فنزلوا ليلا من القلعة وجعلوا يدورون حول العسكر إلى أن أتوا إلى مكان وقد خمدت نيرانهم وكان القوم بادية من أهل اليمن مثل مراد وبني كلاب وعبيدهم قال عبد الله بن صفوان البكي كنا تلك الليلة غادين من عدونا آمنين لكثرتنا وقد غفل حرسنا فلم نشعر إلا وجماعة الروم قد هجموا علينا وهم ينادون بلغتهم وقد أعلنوا التبهرج بزينتهم فلا نعلم ما يقولون ووضعوا السيف فينا فكان النجيب منا من استوى على جواده وطلب النجاة وهو لا يعلم من أين هي ولا كيف يتخلص وقد وقعت الجندلة في أبطال المسلمين وعساكرهم والقوم ينادون النفير النفير دهينا ورب الكعبة وهم يسرعون إلى خيمة أبي

(1/247)


عبيدة وينادون أيها الأمير كبسنا يوقنا فعندها ركب الأمير في بعض الرجال وجعل يدور حول العسكر فنظر صاحب الروم إلى العرب وقد لحقته فصاح بأصحابه من كان أخذ شيئا فليتركه ويطلب نجاة نفسه قال عبد الله بن صفوان أخذوا من رجالنا نحو خمسين رجلا من أخلاط الناس واكثرهم من ربيعة ومضر ومضوا يجمع بعضهم بعضا ويطلبون القلعة فلما نظر خالد إلى ذلك حمل في أصحابه واقتطع من الروم زهاء من مائة رجل ووضع فيهم السيف فقتلهم عن آخرهم فلما وصل أصحاب يوقنا إلى القلعة فتح لهم وأدخلهم فلما أضاء الفجر وطلعت الشمس دعا يوقنا بالمسلمين الخمسين رجلا وهم موثقون بالحبال فقربهم إلى موضع ينظرهم المسلمون ويسمعون اصواتهم وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى قتلوا عن آخرهم فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك أمر مناديا ينادي في عسكره عزيمة من الله ورسوله ومن الأمير أبي عبيدة على كل رجل لا يكل حرسه إلى غيره ولكن كل رجل منكم حارس نفسه ولا يتكلم بعضكم مع بعض قال فأخذ القوم حذرهم وأعدوا حرسهم وأقبل يوقنا يدبر أمره في مكيدة أخرى ليكيد بها المسلمين إذ علم إنهم محاصرون ومع ذلك جواسيسه تأتيه بالأخبار في الليل والنهار وكان أعظم جواسيسه من متنصرة العرب لأنهم كانوا يحسنون لسان الرومية.
قال فبينما يؤقنا ذات يوم جالس في قلعته والبطارقة من حوله وقد أضر بهم الحصار وأشد ما كان عليهم من أهل المدينة لأنهم لا ينظرون إلى رجل من أصحابه يعرفونه إلا أخذوه وسلموه للمسلمين وإذا بجاسوس قد اقبل وهو من عيونه فقال له: أيها السيد أن أردت أن تكيد العرب فهذا وقتك فقال له: يوقنا وكيف ذلك وما الذي عندك من الخبر قال: أن العلافة منهم قد خرجوا إلى وادي بطنان وقد صالحوا أهله وعلوفة العرب ميرتهم منه وقد رأيت منهم جمالا وبغالا ومعهم طائفة منهم وعليهم القمصان الخلقة وبأيديهم الرماح المشبعة وهم يقصدون القرى في طلب الميرة وهم قليلون وليس هم في كثرة فلما سمع يوقنا ذلك من جاسوسه اختار ألفا من أصحابه وقال لهم: أصلحوا شأنكم فوحق المسيح لأضيقن على العرب مسالكهم ولاقطعن عليهم طرقاتهم فلما أقبل الليل فتح لهم الباب وسار الجاسوس أمامهم حتى استقاموا على الجادة وجعلوا يسيرون تحت جنح الليل فبينما هم كذلك إذ هم براع ومعه سرح من البقر يريد بها بلده وقد خرج بها من بلد آخر وهو يسير بها سيرا عنيفا فلما نظروا إليه أسرعوا نحوه وقالوا: احسست بأحد من العرب قد عبر عليك قال: نعم والشمس عند الغروب قد اصفرت وهم نحو مائة رجل على خيول وهم مسرعون ومعهم جمال وبغال وهم يريدون الميرة من هذا الوادي من الذين هم في صلحهم ولسنا نخاف منهم فقال له: المقدم عليهم الآن قد القيت علينامن صلح أهل هذا الوادي ما لم يكن عندنا منه خبر فبحق المسيح أخبرنا بأي طريق ذهبت العرب فقال من ههنا وأومأ بيده إلى الشرق

(1/248)


فصار البطريق بمن معه ولم يعرفوا أن صاحب البقر منهم حتى إذا قرب الصبح أشرفوا على خيل المسلمين وكان الأمير عليها يقال له مناوش فلما نظر مناوش إلى خيل الروم قد اقبلت أقبل على أصحابه وقال: يا بني العرب هذا بطريق من بطارقة الروم قد أقبل إلينا فدونكم إياه والجهاد والصبر على الشدة تنالوا الجنة ثم حمل وحمل معه أصحابه فحملت عليهم الروم فثبت لهم المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وقتل مناوش بن الضحاك والغطريف بن ثابت ومنيع بن ثابت ومنيع بن عاصم وكهلان بن مرة فقتل من المسلمين ثلاثون رجلا كلهم من طيء وانهزم الباقون وملكت الروم ما كان مع المسلمين من الإبل والبغال وعاد المسلمون منهزمين فعند ذلك أقبل البطريق على أصحابه وقال ارموا الأحمال عن هذه الدواب واعقروها وسوقوا بقية الدواب بما عليها فإنها لنا ميرة واطلبوا الجبل واختفوا عن أعين العرب وإلا ففي هذه الساعة تطلع علينا خيول العرب كالرياح تهزمكم فأكمنوا حتى إذا جاء الليل طلبنا القلعة واعتصمنا بها ففعلوا ذلك وقتلوا الجمال وساقوا الدواب والتجؤا في الجبل إلى قرية فأقاموا بقية يومهم يرقبون الليل ليرجعوا إلى القلعة وأقاموا لهم ديدبانا قال عوف صباح الطائي كنت في الخيل لما قتل عمي مناوش ونحن في قلة وقد دهمتنا الخيل فلما نظرنا إلى كثرة الروم وشدة بأسهم مع قلتنا أخذنا على أنفسنا وأتينا المسلمين فبادر إلينا أبو عبيدة وقال لنا ما وراءكم قلنا الحرب والطعان قتل منا مناوش وقتل معه خلق كثير من فرساننا وأخذ ما كان معنا من الزاد والدواب.
فقال أبو عبيدة: وما الذي دهاكم وقد حاصر الله الروم ما يجسر أحد أن يخرج منهم قالوا: لا علم لنا غير أنا رأينا بطريقا عظيما قد أشرف علينا وهو في عدة حصنة وخيول كثيرة مستعدين للقتال لا نعلم عددهم ولا من اين أتى مددهم فهجموا علينا ونحن سائرون فاصيب أميرنا وقتل رجالنا وأخذوا ما كان معنا من الدواب والزاد فلما سمع أبو عبيدة ذلك دعا بخالد بن الوليد إليه وقال: يا أبا سليمان أنت لها والمعد لمثلها وأنا واثق بالله ثم بك مع إني أستخير الله في أموري سر على بركة الله تعالى وخذ معك من المسلمين من أردت لعلك أن تقفوا القوم وتعاني موضع أثر الوقعة وتتبع آثارهم عسى الله أن يوقعنا بهم واطلبهم أينما كانوا وحيث ساروا لعلك تأخذ بثأر المسلمين وأعلم اننا صالحنا أهل الوادي واننا لا ننقض عهدنا ولا نحول عن قولنا إلا أن يكون القوم قد مكروا بنا فنجد إلى قتالهم سبيلا فاتق الله فيهم سر يرحمك الله قال فأسرع خالد إلى خيمته ولبس سلاحه واستوى على متن جواده وهم بالمسير وحده فقال له أبو عبيدة: إلى أين يا أبا سليمان قال له: اسارع إلى ما أمرتني به فقال له: خذ من أردت معك من المسلمين فقال خالد: أنا أمضي وحدي وما أريد أحدا فقال له أبو عبيدة: كيف تمضي وحدك وعدوك في عدد كثير قال خالد: لو كانوا في ألف أو ألفين القاهم بمعونة

(1/249)


الله تعالى فقال له أبو عبيدة: إنك كذلك ولكن خذ معك رجالا قال فاخذ ضرارا وأمثاله وسار حتى أتى إلى موضع الوقعة فراى القتلى مطروحين ورأى حولهم أهل الوادي وهم يبكون خوفا من المسلمين على أنفسهم وذراريهم وأن العرب تطالبهم بهم فلما طلع عليهم خالد ومن معه كأنهم شعلة نار تصارخ القوم في وجهه والقوا أنفسهم بين يديه فقال لهم خالد: من هؤلاء القوم الذين قتلوا أصحابنا قالوا: أنا نحن بريئون من دماء أصحابكم ونحن في صلحكم فاستحلفهم خالد إنهم لا يعلمون من قتلهم فحلفوا له فقال لهم: من الذي أوقع بأصحابي فقالوا: بطريق بعثه يوقنا من القلعة ومعه ألف فارس من أشد قومه وأن لهم في عسكركم عيونا يخبرونه بما أنتم فيه كل ساعة فقال لهم: وفي أي طريق قصدوا قالوا: في هذا الطريق فقال خالد: أو ما حلفتم أن ما عندكم علم بهم قالوا: هذا الذي يخبرك من أهل حلب قد أتى يشتري طعاما ولولا إنك أقبلت في هذه الساعة ما كنا عرفنا من قتلهم فقال له خالد: أعلى هذا الطريق أخذوا فقال له الرجل: نعم ورأيتهم يطلبون الجبل فقال خالد لأصحابه: أن القوم علموا إنهم لا بد لهم من خيل تطلبهم وتتبعهم وقد عدلوا عن طريقنا حتى إذا هجم عليهم الليل رجعوا إلى قلعتهم فعولوا على المسير في طلبهم ثم إنهم ارخوا الأعنة وخالد يقدمهم وقد أخذ معه رجالا من المعاهدين يقفون بهم أثر الطريق والقوم فلما حصلوا على الطريق قال خالد لواحد من المعاهدين: ألهم طريق إلى قلعتهم غير هذا؟.
قال: نعم ولكن كن ههنا فانك تفوز بهم أن شاء الله تعالى فنزل خالد ومن معه في الوادي وهم يرقبون الطريق فما مضى من الليل إلا قليل إذ سمع وقع حوافر الخيل والبطريق أمامهم والخيل من ورائه وهو يزجرهم ويحثهم على المسير فلما توسطوهم صاح خالد صيحة شديدة ووثب خالد كأنه الاسد وخرج عليهم هو وأصحابه فما كان قصد خالد غير البطريق وظن إنه يوقنا فضربه ضربة رماه نصفين وقد وضعوا السيف فيهم وجعلوا يطلبونهم وهم في الهرب فلم ينج منهم إلا من أطال الله أجله وحازوا جميع ما معهم وأتوا برأس البطريق إلى أبي عبيدة على رأس رمح فوجدوه متلهفا على قدومهم فلما أشرف خالد بمن معه من الاسارى والإسلاب والدواب هللوا وكبروا فأجابهم العسكر بالتهليل والتكبير قال: وأتى خالد ومن معه بالرأس والإسلاب والاسارى فكانوا أزيد من ثلثمائة اسير ورؤوس القتلى سبعمائة فعرضوا عليهم الإسلام فابوا وقالوا: نحن نعطيك الفداء فقال خالد: نضرب رقابهم قبال القلعة لنوهن بذلك عدو الله قال فضربت رقابهم قبال القلعة فقال خالد: أنا كنا نظن أنا محاصرون القوم وإذا نحن بخلاف ذلك وهم يرقبون غفلتنا وينتظرون غرتنا وقد قتلوا جمالنا والدواب والصواب أن نجعل عليهم حرسا في كل طريق يمكننا ولا نمكنهم أن يخرجوا من قلعتهم ونضيق عليهم ما استطعنا قال أبو عبيدة: جزاك الله خيرا يا أبا سليمان ما ابصرك بالأمور فلما كان من الغد وصلى

(1/250)


أبو عبيدة بالناس صلاة الفجر دعا بعبد الرحمن بن أبي بكر وبضرار بن الأزور وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق ففرقهم حول القلعة ومعهم من اختاروا وأمرهم أن يمسكوا الطريق والمسالك على يوقنا حتى لو طار طائر منها أو إليها اقتنصوه وأقام القوم على ذلك مدة فلما طال عليهم ذلك ضجر أبو عبيدة لطول مقامه فأمر الناس بالرحيل عنهم وعزم أن يتباعد عنهم أي عن القلعة لعل أن يجد منهم غفلة فينتهزها قال فبعد عن المدينة فنزل بقرية بقرب منها يقال لها النيرب وهو يريد حيلة يصل بها إلى يوقنا قال: ويوقنا لا ينزل من القلعة ولا يفتح بابها ففكر أبو عبيدة غاية الفكرة وقال لخالد يا أبا سليمان أن جواسيس عدو الله تكشف أخبارنا وتوصلها إليه وتخوفه فاني أقسم عليك يا أبا سليمان إلا ما جلت في عسكرنا جولة واختبرت أمر الناس فلعلك تقع بأحد من جواسيسه قال فركب خالد وأمر الناس أن يدوروا في عسكرهم وأن يقبضوا على كل من إنكروه قال فبينما خالد في طوافه إذ نظر إلى رجل من العرب المتنصرة وبين يديه عباءة يقلبها فجعل خالد يرقبه فاستراب الرجل منه فناداه وقال من أي الناس أنت يا أخا العرب قال أنا رجل من اليمن قال من أيها قال فأراد أن يقول: وينتمي إلى غير قبيلته فجرى الحق على لسانه فقال أنا من غسان فلما سمع خالد كلامه قبض عليه وقال له: يا عدو الله أنت عين علينا لعدونا قال: ما أنا متنصر وأنا مسلم فأتى به إلى أبي عبيدة وقال: أيها الأمير قد رابني أمر هذا لأنني ما رأيته قط إلا يومي هذا وقد ذكر إنه من غسان ولا شك إنه من عباد الصليب فقال أبو عبيدة: اختبره يا أبا سليمان قال: وكيف أختبره قال اختبره بالقرآن والصلاة فإن أجابك وإلا فهو كافر فقال له خالد: فصل ركعتين واجهر بالقراءة فيهما فلم يدر ما يقول: فقال له خالد: أنت يا عدو الله عين علينا ثم استخبره عن شأنه فأخبره وأقر إنه عين عليهم فقال له خالد: أنت وحدك قال: لا ولكنا ثلاثة أنا أحدهم والاثنان قد ذهبا إلى القلعة ليخبرا يوقنا بخبركم وأنا قد تخلفت لأنظر ما يكون من أمركم.
فقال أبو عبيدة: أخبرني أيما أحب إليك القتل أو الإسلام فليس بعدهما شيء فقال الغساني أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم رجع أبو عبيدة إلى حلب وما زالت القلعة محاصرة أربعة أشهر وقيل خمسة اشهر وابطأ خبر أبي عبيدة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى ابي عبيدة يقول: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله أبي عبيدة سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واعلم يا أبا عبيدة أن بانقطاع كتابك وابطاء خبرك يكثر قلقي ويضني جسدي على إخواني المسلمين وما لي ليل ولا نهار إلا وقلبي عندكم ومعكم فإذا لم يأت منك خبر ولا رسول فإن عقلي طائر وفكري حائر وكأنك لا تكتب الي إلا بالفتح أو الغنيمة واعلم يا أبا عبيدة أنني وأن غائبا عنكم فإن

(1/251)


همتي عندكم وإني داعي لكم وقلقي عليكم كقلق الوالدة الشفوقة على ولدها فإذا قرأت كتابي هذا فكن للاسلام والمسلمين عضدا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعث الكتاب إلى أبي عبيدة فلما ورد عليه وقرأه عليهم قال معاشر المسلمين إذا كان أمير المؤمنين داعيا لكم وراضيا عنكم في فعالكم فإن الله ينصركم على عدوكم ثم كتب جواب الكتاب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إلى ابي عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله بالشام أبي عبيدة سلام عليك وإني أحمد الله تعالى وأصلي على نبيه وبعد يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى له الحمد قد فتح على أيدينا قنسرين وقد شننا الغارة على العواصم وقد فتح الله علينا مدينة حلب صلحا وقد عصت علينا قلعتها وبها خلق كثير مع بطريقها يوقنا وقد كادنا مرارا وذكر له ما جرى له مع أخيه يوحنا وأنه قتل منا رجالا ورزقهم الله الشهادة على يديه ثم إنه ذكر له من قتل والله تعالى من ورائه بالمرصاد وقد أردنا الحيلة عليه فلم نقدر وأردت الرحيل عنه وعن محاصرته إلى البلاد التي بين حلب وانطاكية وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وبعث الكتاب مع عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فسار إلى أن أخذا في طريق هيشت العتيقة وجدا في السير حتى قطعا أرض الجفار إلى صكاصكة وهي حصن العرب قريبة من تيما فلما وصلا إليها عارضهما فارس وعليه درع سابغ وعلى رأسه بيضة تلمع وهو معتقل برمح كأنه قد برز إلى عدوه أو قاصد إلى قتال فلما نظر إليهما قصدهما فقال عبد الله بن قرط لجعدة ابن جبير يا ويلك أما ترى هذا الفارس وقد عارضنا في مثل هذا المكان على مثل هذه الحالة فقال له جعدة: وما عسى أن نتخوف من فرسان العرب ورجالها وليس في هذا الموضع من رفع عمودا أو ضرب وتدا إلا واصبح معنا ودخل تحت طاعتنا وفي شريعتنا فلما قرب الفارس منا سلم علينا وقال من أين أقبلتما والى اين قاصدان فقالا له نحن رسولان من الأمير أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن أنت أيها الرجل قال أنا هلال بن بدر الطائي فقالا له ما لنا نرى عليك آلة الحرب قال إني خرجت في طوائف من قومي وجماعة من أصحابي نريد الشام للجهاد لكتاب ورد علينا من عمر بن الخطاب فلما رأيتكما في بطن الوادي قصدتكما لأنظر ما قصتكما ولي أصحاب من ورائي مقبلون.
ثم سلم عليهما وولى فركضا مطيهما وسارا وإذا بالخيل قد أشرفت والإبل قد اقبلت تتبع هلال بن بدر ارسالا يتبع بعضها بعضا إلى أن لحقوه فأخبرهم بقصة صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك وساروا يريدون الشام وأما عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فانهما وصلا المدينة ودخلا المسجد وسلما على عمر بن الخطاب وعلى المسلمين ودفعا له الكتاب فلما قرأه استبشر ورفع كفيه إلى السماء وقال اللهم اكف الناس شر

(1/252)


كل ذي شر ثم أمر مناديا في الناس الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس قرا عليهم كتاب أبي عبيدة فلما قرأه قدم عليه من حضرموت واقاصي اليمن من همدان ومدان وسبا ومارب يسألونه أن ينفذهم إلى الشام فقال لهم عمر: في كم أنتم بارك الله فيكم قالوا: نحن زهاء من أربعمائة فارس وثلثمائة مطية مردفين ومعنا أناس يمشون على أقدامهم لا ركاب لهم فإن كان عند أمير المؤمنين ما يحملهم عليه حتى نصل إلى عدونا فقال لهم عمر: وكم يبلغ الرجال الذين معكم قالوا: أربعين ومائة رجل فقال لهم: عرب أو موال قالوا: عرب وموال أذن لهم ساداتهم في الجهاد والمسير إلى الأعداء فعندها دعا عمر بعبد الله ابنه رضي الله عنه وقال أمض إلى مال الصدقات فأت القوم بسبعين راحلة ليعتقبوا عليها ويحملوا زادهم وميرتهم على ظهورها فأسرع عبد الله بن عمر وأتى بسبعين بعيرا وسلمها إليهم وقال لهم: جدوا رحمكم الله إلى اخوانكم المسلمين واسرعوا إلى حرب عدوكم ثم كتب إلى ابي عبيدة أما بعد فقد ورد علي كتابك مع رسلك فسرني ما سمعت من الفتح والنصر على اعدائكم ومن قتل من الشهداء وأما ما ذكرته من انصرافك إلى البلاد التي بين حلب وانطاكية وتترك القلعة ومن فيها فهذا رأي غير صواب تترك رجلا قد دنوت من دياره وملكت مدينته ثم ترحل فيبلغ إلى جميع النواحي إنك لم تقدر عليه ولم تصل إليه فيضعف ذكرك ويعلو ذكره ويطمع من يطمع ويجترىء عليك أجناد الروم خاصتهم وعامتهم وترجع إليه الجواسيس وتكاتب ملوكها في أمرك فإياك أن تبرح عن مجاهدته حتى يقتله الله او يسلم إليك أن شاء الله تعالى أو يحكم الله وهو خير الحاكمين وبث الخيل في السهل والوعر والضيق والسعة وأكناف الجبال والأودية وشن الغارات في حدود المفازات ومن صالحكم منهم فاقبل صلحه ومن سالمك فسالمه والله خليفتي عليك وعلى المسلمين وقد انقذت كتابي إليك ومعه عصبة من حضرموت وغيرهم وأهل مشايخ اليمن ممن وهب نفسه لله تعالى ورغب في الجهاد في سبيل الله وهم عرب وموال فرسان ورجال والمدد يأتيك متواترا أن شاء الله تعالى والسلام وختم الكتاب وسلمه لعبد الله بن قرط وجعدة وجعل القوم يجدون في سيرهم ومع ذلك يسألون عبد الله بن قرط وصاحبه عن بلاد الشام وفتح البلاد وقتل الروم إلى أن سألوهما عن مستقر العسكر فقال لهم عبد الله: أن جميع المسلمين وأميرهم محاصرون بقلعة حلب وفيها عظيم من عظماء الروم ومعه أعلاج من أصحابه وقد تحصنوا في رأس قلعته فقالوا له: يا ابن قرط ما لهؤلاء لا يدخلون في جملة من صالح من أصحابهم فقال لهم: يا معاشر العرب أنا لم نر بعد وقعة اليرموك رجالا أشجع من هذا فلقد قتل رجالا وجندل أبطالا وأنه ليغير على أطراف العسكر في وقت صلاتهم فيقتل رجالهم وينهب أموالهم ويرجع إلى قلعته وربما إنه يستتر في سواد الليل في طلب العلافة فيقع بهم فيأمر بهم ويأخذ دوابهم وجميع.

(1/253)


زادهم وميرتهم ثم يعود إلى قلعته ونحن لا نعلم به وأن المسلمين له محاصرون ومنه خائفون حذرون.
قال: وكان فيمن سمع كلامه وفهمه مولى من موالي بني طريف من ملوك كندة ويقال له دامس: ويكنى بأبي الأهوال مشهور باسمه وكنيته وكان اسود كثير السواد بصاصا كأنه النخلة السحوق إذا ركب الفرس العالي من الخيل تخط رجلاه بالأرض وأن ركب البعير العالي تقارب ركبتاه رجلي البعير وكان فارسا شجاعا قويا قد شاع ذكره ونما أمره وعلا قدره في بلاد كندة وأودية حضرموت وجبال مهرة وارض الشحر وقد أخاف البادية ونهب أموال الحاضرة وكان مع ذلك لا تدركه الخيل العتاة وكان إذا ادركته العرب في باديتها تعجبت من صولته وشجاعته وبراعته فلما سمع دامس أبو الهول بذكر يوقنا وما فعل بالمسلمين كاد أن يتمزق غيظا وحنقا وقال لعبد الله ابن قرط أبشر يا أخا العرب فوالله لأجتهدن في أن يخذله الله على يدي فلما سمع عبد الله كلامه جعل ينظر إليه شزرا وقال: يا ابن السوداء لقد حدثتك نفسك آمالا لا تبلغها وأشياء لا تدركها يا ويلك ألم تعلم أن فرسان المسلمين وأبطال الموحدين بأجمعهم له محاصرون ولأصحابه محاربون ومع ذلك لا يقدر أحد له على شر وقد كاد ملوكا وقهرها فلما سمع دامس كلام عبد الله بن قرط غضب وقال: والله يا عبد الله لولا ما يلزمني لك من أخوة الإسلام لبدأت بك قبله فاحذر أن تزدري بالرجال وأن أحببت أن تعرفني فسل عني من حضر من أهلي وما قد تقدم من فعلي الذي من ذكره تطيش العقول وتضيق الصدور كم من عساكر قتلتها وجموع فرقتها ومحافل بددتها وغارات شننتها ولا يضام لي جار ولا يلحقني عار وبحمدالله أنا فارس كرار غير فرار ثم تركه مغضبا وسار أمام الناس وأن قوما من العرب قالوا: لعبد الله بن قرط يا أخا العرب ارفق بنفسك فانك وايم الله تخاطب رجلا يقرب إليه البعيد ويهون عليه الصعب الشديد وانه لجليد فريد لا تهوله الرجال ولا تفزعه الأبطال أن كان في حرب كان في أولها لا يدركه من طلب ولا يفوته من هرب فقال عبد الله لقد كثر وصفكم وأطنبتكم في ذكركم وأرجو أن يجعل الله فيه خيرا وفرجا للمسلمين قال ثم أخذ القوم في جد السير حتى قدموا حلب إلى أبي عبيدة وهو منازل أهل قلعة حلب ومحاصرها وقد أحاط المسلمون بالقلعة من كل جانب فلما أشرف القوم عليهم أخذوا في زينتهم وجردوا سيوفهم وأشهروا سلاحهم ونشروا راياتهم وكبروا بأجمعهم وصلو على نبيهم فاجابهم أهل العسكر بالتكبير من كل جانب واستقبلهم أبو عبيدة وسلم عليهم وسلموا عليه ونزل كل قوم عند بني عمهم وعشيرتهم ويوقنا ما زال في كل ليلة ينشط إليهم برجاله ويناوشهم وذلك إنه كان لا يقاتلهم إلا قليلا ولا يظهر من القلعة نهارا ابدا وكان أكثر خروجه في وقت خروج الناس فلما بات المسلمون القادمون في تلك الليلة ونظرت طيء وسنيس ونبهان وكندة

(1/254)


وحضرموت إلى شدة الحرس وعظم حرسهم وحذرهم اقبل دامس أبو الهول على اهله الذين نزل عليهم من طريف وكندة فقال لهم دامس: والله ما أنتم محاصرون لا محالة فقالوا له: وكيف لك قال: لان العدو في راس قلعة وانتم قدام العدو من الأرض لقربكم ولا عسكر بازائكم تخافونه فما هذا الخوف قالوا: يا أبا الهول أن صاحب هذه القلعة علج ميشوم يرتقب غفلتنا ويغير على أطرافنا ويأتينا من امننا فبينما دامس يخاطب القوم وإذا بالضجة قد وقعت في طرف عسكر المسلمين ولها جلبة عظيمة فوقف دامس منتضيا حسامه متنكبا حجفته وطلب الناحية التي سمع منها الصوت حتى بلغ إليها وإذا بيوقنا في خمسمائة رجل أبطال أنجاد وليوث شداد وقد وجد غرة من القوم فلما نظر دامس إلى الروم وقع في وسطهم وجعل يقول:
أنا أبو الهول واسمي دامس
...
أكر في جمعهم مداعس
ليث هزبر بطل ممارس
...
مدمر كل عدو ناكس
قال: وجعل يضرب في أعراضهم بسيفه ومعه طائفة من بني طريف من شجعانهم وفرسانهم فلما نظر يوقنا ما نزل به تقهقر إلى ورائه وقد قتل من رجاله مائتان ودامس يكر عليهم ويتبعهم إلى رأس درب القلعة وكندة من ورائه فناداهم أبو عبيدة عزيمة مني عليكم أن لا يتبعهم منكم أحد في ظلمة هذا الليل فقال الناس يا أبا الهول أن الأمير يعزم علينا وعليك بالرجوع فارجع رحمك الله فرجع دامس إلى رحله وتراجع القوم إلى رحالهم وقد أبليت كندة بلاء حسنا والناس قد خرجوا فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة مع أبي عبيدة فلما قضيت الصلاة تفرقوا ولم يبق إلا نفر يسير من أمراء المسلمين فجعلوا يذكرون ليلتهم فقال خالد: أصلح الله الأمير لقد رأيت كندة وقد ابليت بلاء حسنا وقد تقدمت رجالها وثبتت ابطالها وما زالت تضرب حتى أزالت عنا حامية الكفر والعدو فقال أبو عبيدة: صدقت والله يا أبا سليمان والله لقد أسعدت الناس كندة بثباتها والله لقد سمعتم يقولون أحسن دامس وأجاد أبو الهول فقام إلى ابي عبيدة رجل من رؤساء كندة يقال له سراقة بن مرداس بن يكرب فقال: أصلح الله الأمير دامس هو أبو الهول وهو مولى طريف قدم مع هذا الوفد الذي ورد بالأمس وهو رجل يفجر ويهول على الأبطال ويفضح الشجعان وبذل الأقران لا يهوله جمع ولا يصعب عليه غارة فقال أبو عبيدة: لخالد أما تسمع كلام سراقة في عبدهم دامس فقال خالد: يوشك أن يكون صادقا في قوله ولقد سمعت بذكره وحديثه وشجاعته وبراعته ولقد أخبرني رجل يقال له النعمان بن عشيرة المهري: إن دامسا هذا أغار وحده وهم على ساحل البحر في سبعين رجلا من أهل مهرة وكان دامس هذا يطلبهم لأجل ثأر كان له عند القوم وكانوا يخافون منه ومن شره وبأسه فكانوا مع ذلك يفتدون بأموالهم ودوابهم ويهربون إلى

(1/255)


أطراف الجبال وسواحل البحر حذرا منه وكان مع ذلك يسال عن أخبارهم ويطلع على آثارهم فلما اصبح عند نزولهم على ساحل البحر استصرخ قومه للغزو فتشاغلوا ولم ينفر منهم أحد معه وكان خبيرا بالبلاد سهلها ووعرها برها وبحرها فلما ايس من قومه دخل إلى خبايته واحتمل رزمة على عاتقه فأتاه اناس من قومه وقالوا له: إلى اين تريد وما هذا الذي معك فقال: يا قوم أنا أريد الغارة على بني الشعر وآخذ بالثار واكشف العار فقال له مشايخ الحي: ما رأينا أعجب من أمرك وأنت تعلم أن بني الشعر سبعون فمن يريد أن يغير عليهم وحده ويأخذ منهم بالثأر وما سمعنا بهذا ابدا وأنا نرى أن تقصد جواد وكانت جواد هذه امة لبني حياس من الحضارمة وكانت بقرية من قرى حضرموت يقال لها: أسفل وكان دامس هذا يهواها وكل ما يأخذه من الأموال والخيل والإبل يدفعه إليها ولا يعظم عليه كثرته وكان لا يرضى لها بالقليل ولا يشبع لها بالكثير فظن القوم إنه مضى إليها وقصد نحوها بحملته التي معه من رزمته فقال لهم: وايم الله إني بطل فما تظنون وسوف تعلمون أن ما أفعله الحق واليقين قال فرجع قومه وتركوه وسار إلى أن أتى إلى مرعى قومه فأخذ راحلته من ابلهم ورحلها واخذ سيفه وحجفته وجعل الرزمة تحته وسار بقية يومه وليلته حتى إذ كان آخر الليل عطف بالراحلة إلى بعض الأودية فأبركها وحل رحلها وعقلها ودورها ترعى معقولة ثم كمن بين حجرين وكان قريبا من القوم ويخاف أن يدوروا به فلما مضى عليه نهاره واقبل ليله أتى إلى راحلته وأبركها ورحلها واستوى في كورها وسار حتى اشرف على نار القوم فعدل بناقته حتى اشرف على الحي وكان في ذلك الشرف شجر من الطلح فأبرك ناقته وزم شدقها لئلا ترغو فيسمع القوم رغاءها ثم عمد إلى رزمته فحلها واستخرج منها الثياب واتى إلى تلك الشجرة فجعل على كل عود منها مثل عمامة الرجل ويأتي بالعود ينصبه ويسنده بالحجارة ويطرح عليه الأزار ولم يزل حتى أقام أربعين عودا على هذه الصفة وجعل عليه حلة حمراء أرجوانية وهبط من ذلك الشرف الذي عليه الثياب وقصد الحي ودار حول بيوتهم وتفكر في أمره وكيف يحتال وقد مضى أكثر الليل ثم صبر إلى أن طلع الفجر وسار نحو الساحل فلما قرب منهم صاح فيهم وقال دنا أجلكم أنا أبو الهول ولقد أصبحتم بالويل وأخذتم من البر والبحر وجعل ينادي يا لثار طريف يا آل طريف يا آل كندة فلما وقع صوته في أسماعهم ذهلت رجالهم وتصارخت نساؤهم وفزع القوم بين يديه من البيوت هاربين والى الساحل نحو الجبل طالبين وهو من خلفهم فلما رأوه وحده شجع بعضهم بعضا ورجعوا إليه يقاتلونه وطمعوا فيه لما رأوه وحده ولم يروا أحدا من ورائه وأخذوا في طلبه فجعل يكر عليهم ويرجع عنهم ويقتل رجلا بعد رجل فلما نظروا إلى شدة بأسه وعظم مراسه وهول صولته وشدة حملته أرادوا أن يسبقوه إلى الشرف ليأتوا إليه من ورائه فلما علم إنهم قد قاربوا الأعواد التي عملها وعليها الثياب

(1/256)


خاف أن ينظروا إليها ويعلموا ما فعله من المكر فسبقهم إلى الشرف وسار أمامهم وأقبل على الأعواد مخاطبا لها كأنه يخاطب الرجال وهو يقول: يا أهل كندة يا أهل طريف إياكم والقوم قد أتتكم الرجال فلا تحملوا عليهم وأنا أفديكم بنفسي فإن رأيتم علي الحيف فاحملوا على القوم فمد القوم ابصارهم إليه فوجدوا عنده الثياب على الأعواد في انشقاق الفجر فلم يشكو إنهم رجال فانقلبوا راجعين نحو البحر وجعل دامس ينادي إلا يا قوم أقسمت عليكم أن لا تبرحوا من أماكنكم وأنا أكفيكم مؤنة القوم وحدي فرجعت بنو مهرة ناكصين على أعقابهم هذا قد أردف زوجته وهذا أولاده وهذا أمته وهذا أخذ ما قدر عليه من أثاثه ورجع أبو الهول إلى الحي فلم يصادف فيه إلا العبيد والصبيان والمشايخ والعجائز فأمر العبيد أن يوقروا الجمال فحملوها وكتفهم وساق الجميع قدامه وعاد وأخذ الثياب من على الأعواد ولحقهم وأتى بهم ديار قومه فعجبوا منه ومن فعاله فلما سمع أبو عبيدة ذلك من خالد أقبل على سراقة وقال له: ادع لي عبدكم حتى أنظر إليه واسمع كلامه فأتى به سراقة فقال له أبو عبيدة: أنت دامس قال: نعم أصلح الله الأمير فقال له: بلغني عنك عجائب وأنت وايم الله أهلها لأنك جزل من الرجال وأعلم إنك وقومك تقاتلون في بلاد سهلة لا تأتون الجبال ولا القلاع ولقد اقتحمت البارحة أثر القوم اقتحاما منكرا فارفق بنفسك واحذر من هذا البطريق يوقنا فقال له دامس: أصلح الله الأمير لقد غزوت مهرة وأخذت أموالها وأن جبالها منيعة شامخة رفيعة ذات وعر وحجر وما هذه بامنع من تلك الجبال فقال أبو عبيدة: أنا أراك نجيبا فهل حدثتك نفسك من أمر هذه القلعة بشيء فقال دامس أصلح الله الأمير إني لما قدمت عليك في هذا الوقت كنت رأيت في نومي رؤيا فقال أبو عبيدة: وما الذي رأيت أراك الله الخير قال رأيت كأني سائر في وطاة من الأرض وإني مجد أطلب قومي فبينما أنا في مسيري إذ أشرفت عليهم وهم حائرون لا يتقدمون ولا يتأخرون فناديتهم يا قوم ما شأنكم وأي شيء عرض لكم في طريقكم فقال لي القوم ما ترى هذا الجبل كيف قد عرض لنا في آخر هذا الطريق وليس لنا فيه مسلك ولا مطلع فقلت: على رسلكم إلا ترون هذه الفجوة في هذا الجبل فقالوا: هيهات ليس لنا فيه منقذ ولا مطلع فقلت: ولم ذلك قالوا: لأن فيه ثعبانا عظيما لا يمر به أحد إلا وأهلكه وقد قتل رجالا وجندل أبطالا فقلت: يا قوم إلا تهجمون عليه بأجمعكم قالوا: لا نقدر على ذلك لأن النار تخرج من أنفاسه وليس لنا عليه من سبيل فقلت لهم: فالتمسوا لكم طريقا من وراء ظهره فقالوا: لا نقدر على ذلك من عظم جثته فتركتهم والتمست لي طريقا فلم أجد إلا طريقا صعبا حرجا فاقتحمته فما سلكته إلا بعد المشقة وأتيت إلى الثعبان من ورائه فقتلته ثم أشرفت على قومي فاتبعوني فما وصلوا إلا بعد جهد جهيد وهم آمنون من عدوهم ثم استيقظت فرحا مسرورا.

(1/257)


فقال أبو عبيدة: خير رأيت وخيرا يكون يا دامس أما رؤياك هذه فإنها للمسلمين بشارة ولعدونا خسارة ثم قال له: اجلس مكانك وأمر أبو عبيدة أن ينادي المسلمين فحضر رؤساء المسلمين وأعيانهم فلما حضروا قال أبو عبيدة: الله أكبر فتح الله ونصر وحبانا بالظفر وخذل من كفر ثم قال: يا معاشر المسلمين اسمعوا رؤيا أخيكم دامس فإنها عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن افتكر قال فأقبلوا يسمعون له فعندها قام أبو عبيدة على قدميه وقال الحمد لله وصلى الله على رسوله وسلم ثم قال: يا معاشر الناس أن الله سبحانه وتعالى له الحمد قد وعدنا في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الغلبة على أعدائنا والظفر بمرادنا وما كان الله ليخلف وعده وإني نذرت أن فتح الله هذه القلعة على يدي أصنع من البر ما استطعت والآن قد هجس في نفسي ووقع في قلبي أنا ظافرون بهذه القلعة ومن فيها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لأنه قد دلني على ذلك رؤيا هذا الغلام ثم قبض بكفه على زند أبي الهول وقال له: رحمك الله حدث اخوانك بما رأيت في منامك فقام دامس قائما وقال اعلموا إني رأيت في منامي كذا وكذا وجعل يقص على الناس رؤياه من أولها إلى آخرها فلما فرغ منها أقبل المسلمون على أبي عبيدة وقالوا له: أيها الأمير قد سمعنا قوله وحفظنا شرحه فما تأويل رؤياه قال أبو عبيدة: أعلموا رحمكم الله أما الجبل الذي رآه عاليا شامخا شديد الأمتناع بين الشعاب والقلاع فذلك دين الإسلام بلا شك وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثعبان الذي رآه وقد منع الناس وقد هجم عليه بسيفه فأمر حسن هو أن يفرج الله على يديه على المسلمين ففرح الناس بتأويل أبي عبيدة وقالوا: أيها الأمير فما الذي تأمرنا به فقال آمركم بتقوى الله سرا وجهرا ثم المكيدة على الأعداء طوعا وصبرا فارجعوا إلى رحالكم حفظكم الله واصلحوا شأنكم وآلة حربكم وما تحتاجون إليه فاني أقدمكم غداة غد إلى أعاديكم إلى أن يحدث لي رأي غير هذا فاني لست أدع الاجتهاد في الرأي والمشاورة لمن أثق به وبرأيه من المسلمين فقالوا: بأجمعهم وفق الله رأيك أيها الأمير وظفرك بأعدائك إنه سميع عليم فعال لما يريد ومضوا إلى رحالهم فجعل هذا يحد سيفه وهذا يصلح آلة حربه وفرسه وهذا يتفقد درعه وهذا قوسه ونشابه وما زالوا كذلك بقية يومهم فلما اصبحوا دعا أبو عبيدة بدامس فقال له: أيها الولد المبارك ماذا ترى في أمر هذه القلعة وما عندك من الحيلة فقال دامس اعلم أيها الأمير إنها قلعة منيعة شامخة حصينة تعجز اتوافد وتمنع القاصد في أهلها محاصرة ولا تضيق صدورهم من قتال غير إني أفكر في حيلة احتالها أو بلية اعملها وأرجو من الله أن يتم ذلك عليهم فيكون تبديدهم ونملك بمشيئة الله ديارهم ونقلع آثارهم فقال أبو عبيدة: يا دامس وما هي فقال أصلح الله الأمير أنت تعلم ما في اذاعة عة الأسرار من الشر والأضرار

(1/258)


ومن كتم سره كانت الخيرة فيما لديه ويقال أن دامسا هذا أول من تكلم بهذه الكلمة فصارت مثلا فقال أبو عبيدة: فما الذي تشير إليه وما الذي تعتمد عليه.
قال تزحف بعسكرك وجملة من معك من أصحابك حتى تنزلوا بازاء القلعة ليظهر لهم منك الحرص والهيبة واعلم أن في ذلك من الحيل ما أرجو من الله أن يتمها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأمر أبو عبيدة عسكره بالرحيل فارتحلوا ونزلوا تحت القلعة وهللوا وكبروا وأظهروا سلاحهم وارهبوا أعداء الله تعالى قال فأشرف عليهم الروم ونظروا إلى جمعهم فهابوهم وألقى الله الرعب في قلوبهم حتى إنهم اضطربوا في قلعتهم وماجوا وجعل كبراؤهم يستشيرون فيما بينهم فقال قوم نقاتلهم وقال قوم بل نقعد في قلعتنا فانهم لا يقدرون علينا ثم اجتمع رأيهم على القتال من فوق القلعة وقعدوا على الأبراج والبنيان وجعلوا يرمون المسلمين بالحجارة والسهام وقد أقاموا على ذلك ليلا ونهارا ودامس مع ذلك يعمل حيله يصل بهم إليهم بسوء قال فلما كان بعد السبعة والأربعين يوما أقبل دامس على أبي عبيدة وقال له: أيها الأمير قد عجزت وأنا أعمل حيلا فما صدر من يدي في حقهم شيء وقد افتكرت في شيء وأرجو من الله أن يكون به الظفر والظهور على أعداء الله فقال أبو عبيدة: وما الذي دبرت قال تضيف الي من صناديد الرجال ثلاثين رجلا وتامرهم بالطاعة وترك المخالفة والأعتراض علي فيما آمرهم به وأفعله وأراه فقال أبو عبيدة: سأفعل ذلك ثم ضم إليه ثلاثين رجلا من الشجعان حتى إذا اجتمعوا قال لهم أبو عبيدة: معاشر المسلمين إني قد أمرت دامسا عليكم وأمرتكم بالطاعة والقبول لأمره واعلموا رحمكم الله إني ما أمرته عليكم لكونه أجل منكم حسبا ونسبا ولا أعظم موكبا ولا أشد بأسا ولا أكثر مراسا فلا يقل أحدكم إني قد أمرت عليكم عبدا احتقارا بكم وبالله أحلف مجتهدا لولا ما يلزمني من تدبير هذا العسكر لكنت أول من ينطلق معه في جمعكم وأنا أرجو من الله أن يفتح على يديكم فأقبلوا عليه بجمعهم وقالوا: أصلح الله الأمير ما نشك في أعظامك لنا ومعرفتك بسابقتنا ولقد كان كلامك الأول أثر في نفوسنا وها نحن لك وبين يديك ولو أمرت علينا علجا اغلف لم نخرج لك من أمر ولا رأي إذ علمنا إنك لا تريد إلا نصحا للدين وحياطة فالسمع والطاعة لله ثم لك ثم لمن وليته علينا من قبلك كائنا من الناس أجمعين قال ففرح أبو عبيدة بما قالوه ووثق بكلامهم وجزاهم خيرا وقال لهم: اعلموا رحمكم الله تعالى أن نفسي تحدثني أن الله تعالى يفتح هذه القلعة على يد هذا العبد المقبل لأنه دقيق الحيلة حسن البصيرة فسيروا معه وثقوا بالله وتوكلوا عليه وقد تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى قوادا على سادات العرب من المسلمين والأشراف من عشيرته ثم اقبل على دامس فقال له: يا دامس ما الذي تحب بعد هذا قال ترحل أنت بجيشك من وقتك هذا فتكون منا على مسيرة فرسخ فتنزل بالعسكر وتأمرهم بقلة الحركة وأن

(1/259)


يختفوا ما استطاعوا او يكون لك رجال تثق بشدتهم ونصحهم للمسلمين يتجسسون عن أخبارنا وآثارنا من غير أن يعلم بهم وبنا أحد ويكونون بغير سلاح سوى الخناجر فإذا عاينوا منا الظهور على أعدائنا والظفر بهم لحقوك وبشروك بذلك فتلحق بنا أن شاء الله تعالى وليكونوا متفرقين في موضع واحد فإن ذلك اسلم لهم وأبلغ لما يريدون من أمورهم والله المستعان في جميع الأمور والأحوال.
فعلم أبو عبيدة إنه نصيح من الرجال صاحب رأي وبصيرة ثم أن دامسا اقبل على رفاقه الذين ولى عليهم وقال لهم: يا فتيان العرب انهضوا بنا بارك الله فيكم حتى نكمن في بعض هذا الوادي ما دام الناس عازمين على الرحيل لئلا تشرف الروم فينظروا إلى رحيلنا فلا يتفق لنا أن نطلب لنا مكمنا إذا أشرفوا من أعلى حصنهم وليكن مع كل رجل منكم سيفه وحجفته وخنجره لا غير ففعلوا ذلك فلما تكاملوا لبس دامس لامة حربه وجعل خنجره تحت أثوابه واخذ جماعته وخرج بهم حتى إذا فارق العسكر جعلوا يخفون آثارهم واشخاصهم وهو سائر بهم حتى أتى بهم كهفا في الجبل فأمرهم بالدخول إليه وجلس على بابه قال: واما أبو عبيدة فإنه أمر الناس بالرحيل بعد ما رتب الرجال كما وصاه أبو الهول فارتحل العسكر واشرف عليهم أهل القلعة فرأوهم يرحلون ففرحوا بذلك وسروا سرورا عظيما وصاروا يصيحون على المسلمين من أعلى القلعة وقالوا: لبطريقهم أيها السيد افتح لنا الباب حتى نخرج وراء العرب فلعل أن نقتل أحدا أو ناسره فنهاهم عن ذلك قال: وداموا بقية يومهم إلى العشاء فقال دامس لأصحابه من فيكم ينهض إلى تحت القلعة ويأتينا بخبر منها إذ يقدر على رجل يأسره فيأتينا به فنأخذ منه خبرا فلم يجبه أحد فقال أنا أعلم أن ما في هذه الجماعة إلا من هو ضنين نفسه كاره للموت وأنا لكم الفداء فانظروا كيف تكمنون ثم تركهم دامس ومضى فغاب عنهم ساعة وإذا به قد أتى ومعه علج وقال لهم: يا فتيان العرب دونكم هذا فاسألوه فسألوه فلم يفقهوا قوله فقال على رسلكم فغاب غير بعيد وأتى بثلاثة أخر فلم يكن فيهم من يفهم بلغة العرب فقال دامس لعن الله هؤلاء ما أفظع لغتهم واكثر طمطمتهم ثم أوثقهم كتافا وغاب إلى أن مضى من الليل نصفه ولم يأت فقلق عليه أصحابه قلقا شديدا واغتموا عليه وقال بعضهم لبعض أنا أقول أن دامسا قد فطن به فقتل أو أسر وماجوا في ذكره وهموا أن يرجعوا إلى العسكر فبينما هم في ذلك إذ دخل إليهم دامس وهو يقود رجلا من الروم فتواثبوا إليه وقبلوه بين عينيه وسألوه عن ابطائه وقالوا له: يا دامس لقد حدثتنا نفوسنا بالعظائم وصعب علينا ابطاؤك عنا فقال اعلموا رحمكم الله تعالى إني لما فارقتكم سرت إلى قريب من سور القلعة وكمنت لهم وهم يمرون علي وهم يرطنون بلغتهم وأنا لا أتعرض للقوم كل ذلك وأنا أطلب من يتعرض للعربية ويتكلم بها فلم أر أحدا حتى أيست وهممت بالرجوع خائبا إذ سمعت هدة شديدة قد وقعت من أعلى السور فأسرعت

(1/260)


إليها لأنظر إليها ما هي فإذا أنا بهذا الرجل وقد ألقى نفسه من القلعة إلى أسفل السور فبادرت إليه وأخذته وأتيت به إليكم فانظروا ما هو فدنوا إليه وخاطبوه فلم يكلمهم إلا بلغته وإذا به قد انفتحت جبهته فقال لهم دامس: اعلموا أن له شأنا وأي شأن وإني أظنه هاربا من القوم وليس فيكم من يفهم ما يقول: ولكن على رسلكم فأنا آتيكم بمن يتكلم بلسانه وبالعربية ثم اسرع دامس من عندهم فلم يكن إلا قليل وإذا به قد عاد ومعه رجل قد نزلت عمامته في رقبته وهو يقوده حتى مثله عندنا فقالوا له: من المدينة أنت أم من القلعة فقال له دامس: ممن أنت تكون أمن الروم أم من العرب المتنصرة قال: ولكني مع العرب المتنصرة فقالوا: يا هذا هل لك أن تطلعنا على عورات القلعة أو عورة من عوراتها ونحن نطلق سبيلك ولا يتعرض إليك أحد بسوء فقال: يا هؤلاء لست أعرف لهذه القلعة عورة ولا طريقا ولو عرفت لما وسعني في ديني ولا رأيت أن أدلكم عليها وحق المسيح قال فانغاظ منه دامس وقال له: اسأل هؤلاء الاسارى هل فيهم أحد من أهل الربض فإن بيننا وبينهم صلحا قال فسألهم فلم يجد فيهم أحدا من أهل الربض بل كلهم من أهل القلعة وأنا أعرفهم.
فقال له دامس: فاسأل هذا الرجل لم طرح نفسه من السور وما دعاه إلى ذلك فسأله فقال له: إنه يقول: أن الملك يوقنا غضب على أهل الربض لأجل صلحهم لكم وبعث يتهددهم فلما انصرفت العرب نزل يوقنا فجمع رؤوسهم واصعدهم إلى القلعة وأنا في جملتهم وطلب منا من الأموال ما لا طاقة لنا به ولا نقدر عليه فلما رأيت ما قد نزل بنا هربت والقيت نفسي من القلعة اطلب الفرج وأنجو من العقوبة فلم أشعر إلا وأنت قد قبضت علي وأنا من أهل الربض فإن كنتم من العرب فأنا في ذمتكم وأمانكم فلا تنكثوا ولا تغدروا وأن كنتم من غيرهم فاطلبوا مني ما أردتم من الفداء فاني قد هربت من العقوبة فقال له دامس: قل له: نحن من العرب ولا بأس عليك ولا خوف ولا ينالك منا سوء وأراد دامس أن يرى الربض ما يفعل بأعدائه فأخرج الروم والمتنصرة وضرب رقابهم ولم يدع غير الربض ثم أطلقه واستمروا إلى الليل وعمد دامس إلى مزوده فاستخرج منه جلد ماعز والقاه على ظهره وأخرج كعكا يابسا وقال لأصحابه: بسم الله استعينوا بالله وتوكلوا عليه واخفوا نفوسكم وقدموا الحزم في اموركم فاني معول على فتح هذه القلعة أن شاء الله تعالى فقالوا: سر على بركة الله تعالى فقاموا مسرعين وتقدم دامس وبعث رجلين من أصحابه يعلمان أبا عبيدى بشأنهم ويقولان له ابعث الخيل عند طلوع الفجر قال فانطلق الرجلان وصعد دامس ومن معه تحت الظلام ودامس على المقدمة يمشي على أربعة والجلد على ظهره وكلما أحس بشيء قرض في الكعك كأنه كلب يقرض عظما وهم من ورائه يقفون أثره وهم يستترون بين الأحجار فلا زالوا كذلك حتى لاصقوا السور وسمعوا اصوات الحرس وزعقات الرجال من أعلى القلعة والحرس

(1/261)


شديد فلم يزل دامس دائرا بهم حول السور إلى أن أتى إلى مكان لم يجد به حسا وإذا بحرسه قد ناموا وراء المكان ولم يروا في السور أقرب منه فقال دامس لأصحابه أنتم ترون هذه القلعة وعلوها وتحصينها وليس فيها حيلة لشدة الحرس ويقظة القوم فما الذي ترون من الرأي أن نصنع بها وكيف الحيلة في الصعود إليها إلى أن نحصل في وسطها فقالوا: يا دامس أن الأمير أمرك علينا وأنت أدرى منا وأجرا جنانا ونحن لك بين يديك فمهما رأيت فيه الصلاح للمسلمين فلا نتأخر عنه ووالله أن قتل نفوسنا وذهاب أرواحنا اسهل علينا من الرجوع بغير فائدة فمنك الأمر ومنا السمع والطاعة فليس منا من يتأخر عنك ولا نموت إلا تحت ظلال السيوف وفي طاعة الله ونصرة دين الإسلام فقال دامس شكر الله فضلكم ورزقكم النصر على اعدائكم فإن كانت هذه نيتكم فالتصقوا بنا إلى هذا المكان قال: وكانوا ثمانية وعشرين رجلا وأثنان كانوا ارسلوهم إلى الأمير يعلمانه بأن يأتي إليهم في الصبح.
فقال لهم دامس: أفيكم من يقدر على الصعود على هذه القلعة فقلنا له يا أبا الهول وكيف لنا أن نرقى إليها وعلى أي شيء نصل إلى أعلاها بغير سلم فقال على رسلكم ثم إنه اختار منا سبعة رجال كالاسد الضواري لو كلفوا حمل ذلك البرج على مناكبهم لما عظم ذلك عليهم ثم جلس على قرافيصه وقال لأحد السبعة: اجلس على منكبي وارم بحيلك إلى الجدار واجلس كما أنا جالس ففعل الرجل ما أمر به وأمر آخر أن يفعل ويصعد على منكبي الآخر وأن يرمي بقوته على الجدار قال ففعل ثم إنه لم يزل يصعد واحد بعد واحد إلى أن صعد الثامن بقوته على الجدار وهم متمسكون به فعند ذلك أمر الأعلى أن يقوم قائما وأن يطرح حيله على الجدار فقام الأول وقام الثاني ثم قام الثالث ثم قام الرابع والخامس والسادس وكل واحد منهم قد طرح نفسه على الجدار ثم قام دامس آخرهم فإذا الأعلى قد وصل إلى شرافة السور وتعلق بها فاستوى على السور ونظر إلى حارس ذلك المكان فوجده نائما وهو ثمل من الخمر فأخذ بيده ورجله ورماه فلما وصل إلى الأرض قطعوه وأخفوا جسده ووجد من أصحابه اثنين سكارى وهم رقود فذبحهم بخنجره ورمى بهم ثم أرخى عمامته لصاحبه ونشله إليه فإذا هو معه على السور وكان دامس قد أعطاه حبلا فبقوا ينشلون به بعضهم إلى أن تكاملوا على السور واصعدوا من بقي معهم على الأرض وكان آخر من صعد أبو الهول فقال لهم: مكانكم حتى أقفوا الخبر واكشف لكم الأثر ثم إنه أتى إلى دار البطريق وهو في وسط القلعة وإذا عنده سادات البطارقة وأكابرهم وهم جلوس وبين ايديهم بواطى الخمر ويوقنا جالس في وسطهم على بساط من الديباج منسوج من الذهب وعليه بدلة من اللؤلؤ ومعصب بعصابة من الجوهر والقوم يشربون والمسك والبخور يفوح عندهم فعاد دامس إلى أصحابه وقال أعلموا أن القوم خلق كثير وأن هجمنا عليهم فلا نأمن الغلبة من

(1/262)


كثرتهم ولكن ندعهم فيما هم فيه فإذا كان وقت السحر هجمنا على يوقنا ومن معه من الملوك نقتلهم بسيوفنا فإذا ظفرنا بهم وذلهم الله لنا وعلى ايدينا فهو الذي نريد وأن كان غير ذلك فيكون الصباح قد قرب ولا شك أن الرجلين من أصحابنا قد أعلما خالد بن الوليد فيأتينا فقالوا: ما نخالف لك امرا ونحن قد صرنا في قلعة هؤلاء الأعداء وليس ينجينا إلا صدق جهادنا والعزم والشدة من قوتنا فقال لهم: مكانكم فلعل أن يفتح الباب قال: وكان للقلعة بابان وبينهما دهليز والبوابون داخلهما والرجال تنام عندهم بالنوبة فلما وصل دامس إلى الباب وجده مغلقا وإذا بالقوم رقود من السكر فعاجلهم بالذبح ثم فتح البابين وتركهما مردودين ورجع إلى أصحابه وقد قرب الفجر فقال لهم: ابشروا فاني قد فتحت البابين وقتلت من كان وراءهما فدونكم والباب فاسبقوهم إليه وخذوه عليهم فقد بقي القوم حصيدا بأسياف المسلمين أن شاء الله تعالى قال: وأرسل من يستعجل خالدا ويبشره بذلك ثم أرسل خمسة من أصحابه يمسكون الباب وأخذ الباقين ومشى نحو دار يوقنا فصاحوا عليه ووقع الصياح في القلعة فرجعوا بأجمعهم إلى الباب وأخذ كل واحد منهم مكانا يحميه فعندها جاءت الأبطال وصاحت الروم ويلاه كيف تمت علينا هذه الحيلة وصرخ يوقنا بأصحابه فأتوا من كل جانب فعندها كبر المسلمون ونادوا بلسان واحد الله أكبر فخيل للروم أن القلعة ملآنة منهم قال ابن أوس وقاتلت الروم قتالا شديدا وأما المسلمون فكانوا كالاسد الضارية فما رأيت أقوى بأسا ولا أشد مراسا من دامس أبي الهول في ذلك اليوم فلقد عددنا في بدنه بعد ما انفصلنا ثلاثة وسبعين جرحا كلها في مقدم بدنه قال فبينما نحن في أشد القتال ونحن يحمي بعضنا بعضا وقد بقي منا ثلاثة وعشرون وقتل منا أربعة وهم أوس بن عامر الحزمي من بني حزم وأبو حامد بن سراقة الحميري والفارع بن مسيب التميمي وفزارة بن مراد العوفي.
قال الواقدي: لقد حدثني نوفل بن سالم عن جده غويلم بن حازم وكان ممن صحب دامسا في قلعة حلب قال لما قتل من قتل منا وقد قتل أيضا ملاعب بن مقدام بن عروة الحضرمي وكان ممن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية وتبوك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية وهو ابن أخي كعب الذي تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك وأنزل الله فيه ما أنزل قال: وبقينا عشرين رجلا وتكاثرت الروم علينا في أزيد من خمسة آلاف وهم سد من حديد قال: ونحن قد أيسنا من الحياة إذ دخل علينا خالد بن الوليد ومعه جيش الزحف فوجدنا ونحن في أشد ما يكون من القتال فلما دخلوا علينا صاح فيهم خالد فجفلت الروم عنا قال أوس فلما رأيناهم كذلك وانفرج عنا ما كنا فيه اشتدت قلوبنا فعندها كبرت المسلمون ودخل ضرار وأمثاله يضربون رقابهم فلما رأى الروم ذلك وعلموا إنهم لا طاقة لهم بما وقع بهم ألقوا

(1/263)


السلاح ونادوا الغوث الغوث وكفوا أنفسهم عن القتال فكفت المسلمون أيديهم عنهم فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو عبيدة ومعه عساكر الإسلام فأخبروه أن الروم يطلبون الأمان وأن المسلمين قد رفعوا عنهم القتل إلى أن تأتي وترى فيهم رأيك فقال أبو عبيدة: قد وفقوا وسددوا فأمر باحضار رجالهم ونسائهم وعرض عليهم الإسلام فكان أول من أسلم بطريقهم يوقنا وجماعة من ساداتهم قال فردج عليهم أموالهم وأهاليهم واستبقى منهم الفلاحين وعفا عنهم من القتل والأسر وأخذ عليهم العهود أن لا يكونوا إلا مثل أهل الصلح والجزية وأخرجهم من القلعة قال ثم أخرج المسلمون من الذهب والأواني ما لا يقع عليه عدد فأخرج منه الخمس وقسم الباقي على المسلمين وأخذ الناس في حديث دامس وحيله وعجائبه وعالجوا جراحته حتى برأت قال: وأعطاه أبو عبيدة سهمين ثم أن أبا عبيدة طلب أمراء المسلمين واكابرهم وشاورهم في أمره وقال أن الله وله الحمد قد فتح هذه القلعة على أيدي المسلمين وما بقي لنا موضع نخافه فهل نقصد انطاكية وهي دار الملك وكرسي عزهم وفيها بقية ملوكهم مع هرقل فما ترون من الرأي قال فعندها قام البطريق يوقنا وتكلم بلسان عربي فصيح وقال: أيها الأمير أن الله تبارك وتعالى قد ايدكم واظفركم بعوكم ونصركم وما ذاك إلا أن دينكم هو الدين القويم والصراط المستقيم ونبيكم هو المشهور في الإنجيل وهو لا محالة الذي بشر به المسيح ولا شك فيه ولا مراء وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل وهو النبي الكريم اليتيم الذي يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه فهل كان ذلك أم لا أيها الأمير فقال أبو عبيدة: نعم هو نبينا صلى الله عليه وسلم وإني يا يوقنا قد حرت في أمرك وانت بالأمس تقاتلنا ومرادك أن تكسر عسكرنا وتقطع الطريق على علوفتنا واليوم تقول مثل هذا القول وقد بلغني إنك لا تفهم بالعربية شيئا فمن اين لك حفظها فقال: لا إله إلا الله ومحمد رسول الله وإنك تعجب أيها الأمير من هذا الأمر قال: نعم قال له: اعلم أيها الأمير إني كنت البارحة مفكرا في أمركم وقد وصلتم إلى قلعتنا ونصرتم علينا وانه لم يكن عندنا أمة أضعف منكم وتوسوست في ذلك فلما نمت رأيت شخصا ابهى من القمر وأطيب رائحة من المسك الأذفر ومعه جماعة فسألت عنه فقيل لي هذا محمد رسول الله فكأني اقول أن كان نبيا حقا فليسأل ربه أن يعلمني العربية وكان يشير الي وهو يقول: يا يوقنا أنا محمد الذي بشر بي المسيح وأنا لا نبي بعدي وأن أردت فقل لا إله إلا الله وأبي محمد رسول الله فأخذت يده فقبلتها وأسلمت على يديه واستيقظت وفمي من تلك الليلة كالمسك الأذفر وأنا أتكلم بالعربية ثم إني قمت إلى منزل أخي يوحنا وفتحت خزانة كتب فوجدت في بعض الكتب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما يكون من أمره ووجدت كل الصفات صحيحة وأن أبغض الخلق إليه إليهود أكان ذلك أيها الأمير أم لا؟

(1/264)


فقال أبو عبيدة: نعم كانت إليهود تطلبنا اشد الطلب حتى نصرنا الله عليهم وأخذنا حصونهم وقتلنا أبطالهم قال يوقنا وجدت هذا في سيرته وجملة أخباره وأن الله تعالى كان يوصيه بأصحابه وبالمسلمين وبالايتام والمساكين أكان ذلك أم لا قال أبو عبيدة: نعم أما وصيته من الله على أصحابه فقد قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وقال في حق اليتيم والمسكين: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ*وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] فقال يوقنا كيف قال: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:7] فما معنى وصفه بالضلال وهو عند الله كريم فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: وجدناك ضالا في تيه صحبتنا فهديناك إلى مشاهدتنا وايضا سهل لك الوصول إلى سبل المكاشفة ووفقك للوقوف في مقام المشاهدة ووجدك ضالا في بحار الطلب على مركب العطب فهداك إلى سواحل الحق وقربك إلى ظل حقائق الصدق لتكون بقلبك مائلا عن الأغيار أو تهيم في قيعان الإختيار متمنيا ساعات الوصول والتلاق وليس لك منا خبر ولا معك منا أثر ألحنا لك لوائح الرضا وكشفنا لك عن واضح القضا أما علمت يا يوقنا إنه لا شيء عند المؤمن أوفى من العلم ولا أربح من الحلم ولا حسب اوضح من الدين ولا قرين أزين من العقل ولا رفيق اشر من الجهل ولا شيء أعز من التقوى ولا شيء أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة أخرى من الكبر ولا دواء الين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة أحسن من الصحة ولا معيشة أهنا من العفة ولا عبادة افضل من الخشوع ولا زهد خير من القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت فلما سمع يوقنا هذا الكلام من معاذ تهلل وجهه وقال هكذا قرأته في كتب أخي يوحنا وهو مذكور في الإنجيل والتوراة ثم خر ساجدا وقبل الأرض شكرا وقال الحمد لله الذي هداني إلى هذا الدين ووالله لقد رسخ هذا الدين في قلبي وعلمت إنه الحق وسأقاتل في الله كما كنت اقاتل في طاعة الشيطان ووالله لأنصرن هذا الدين حتى الحق بأخي يوحنا ثم إنه بكى بكاء شديدا على ما فرط في أمر أخيه فقال له أبو عبيدة: قال الله في حق اخوة يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] وقال له: إن اخاك في عليين مع الحور العين وأما أنت فساعة اسلمت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فبكى لذلك وقال: أشهد علي المسلمين إني كلما جاهدت وقتلت من المشركين فثوابه في صحيفة أخي يوحنا ولا بد أن أقاتل في سبيل الله وأمحو ما سلف من الفعال فقال أبو عبيدة: يا عبد الله دلنا أين نسير فقال يوقنا أعلم أيها الأمير أن حصن عزاز حصن منيع وهو قوي بالرجال والعدد والزاد وفيه ابن عم لي اسمه دراس بن جوفناس وهو ذو شدة وبأس وقوة ومراس جلد في الحرب قوي عند الطعن والضرب وأن أنتم تركتموه

(1/265)


ومضيتم إلى نحو انطاكية أغار على حلب وقنسرين وأذاقهم شرا فقال أبو عبيدة: يا عبد الله قد أنطق الله لسانك بالحق والصواب فما عندك من الحيلة.
فقال يوقنا عندي من الرأي أن أركب جوادي وتضم الي مائة فارس من المسلمين ولنكن على زي الروم ولباسهم وأتقدم بهم ثم يتقدم أمير من العرب ومعه ألف فارس على خفاف الخيل وأنا في المقدمة بالمائة فارس على مقدار فرسخ كأننا هاربون منكم وأوائل الخيل الألف في طلبنا فإذا أشرفنا على عزاز نلقي الصوت فإذا نظر إلينا صاحبها دراس لا بد أن ينزل إلينا ويلقانا فإذا سألني أخبرته إني أسلمت زورا ثم هربت فخرجت العرب في طلبي فإذا سمع مني ذلك يصعد بنا إلى حصنه وليكن مقدم الألف بالقرب منا في قرية هناك فإذا كان نصف الليل سرنا في وسط الحصن ونضع السيف في أعدائنا فإذا كان عند صلاة الفجر يأتينا أمير العرب بالألف الذي معه فلما سمع أبو عبيدة ذلك استنار وجهه واستشار خالدا ومعاذا في ذلك فقالا يا أمين الأمة رأي سديد أن لم يغدر هذا الرجل ويرجع إلى دينه فقال أبو عبيدة: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فقال يوقنا أنا والله رجعت عن ديني إلى دينكم بعدما كنت أعظم من تلك الصور والصلبان وما بقي في قلبي سوى محبة الرحمن ومحمد سيد ولد عدنان والجهاد عن افضل الأديان والله على ما أقول وكيل وحق الذي لا إله إلا هو وحق محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي رأيته وعاينته في المنام أن كنتم تظنون في غير ذلك فلا تتركوني أفعل شيئا مما ذكرته لكم فقال أبو عبيدة: يا عبد الله أن أنت نصحت للمسلمين ولم تغدر بهم كان الله لك معينا في كل ما تحاوله فأتبع الصدق تنج به فإن ديننا مبني على الصدق وأتبع سنن أخوانك المؤمنين وأعلم أن المؤمن الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه ما وجد فلا يحزنك ما تركت من ملكك وحكمك وامارتك فإن الذي تركته فإن والذي تطلبه باق لأن نعمة الدنيا فانية والآخرة خير وابقى واعلم إنك في يومك هذا عار من الشرك واعلم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمؤمن يتيقن أن القبر مضجعه والخلوة مجلسه والأعتبار فكره والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع ادامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة داره وأعلم يا يوقنا أن المسيح قال عجبت لمن ليله غافل وليس بمغفول عنه ومؤمل دنيا والموت يطلبه وبان قصرا والقبر مسكنه وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم من أعطى أربعا أعطي أربعا وتفسير ذلك في كتاب الله تعالى من أعطى الذكر ذكره الله عز وجل لأن الله تعالى يقول.
: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ومن أعطى الدعاء أعطى الإجابة لأن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ومن اعطى الشكر أعطى الزيادة لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}

(1/266)


[ابراهيم: 7] ومن اعطى الاستغفار أعطى المغفرة لأن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10].
قال الواقدي: حدثني عامر بن قبيصة اليشكري قال حدثني يونس ابن عبد الأعلى قراءة عليه قال شهر بن حوشب عن جده عامر بن زيد قال كنت ممن شهد فتوح الشام وكنت في فتوح قنسرين وحلب مع ابي عبيدة وكنت كثيرا ما أصحب الروم الذين دخلوا في ديننا فلم أر منهم أشد أجتهادا ولا أخلص أعتقادا ولا أعظم نية ولا أحسن في الجهاد حمية ولا أبلغ في قتال الروم من يوقنا ولقد نصح والله للمسلمين وجاهد في الكافرين وأرضى رب العالمين ولقد فعل في الروم ما لم يقدر أحد عليه من أبناء جنسه من بعد ما قاسى المسلمون منه على قلعة حلب وما تركهم ينامون ولا يقرون ليلا ولا نهارا وما قتل من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.

(1/267)


ذكر فتح عزاز
قال الواقدي: لما وعظ أبو عبيدة يوقنا وفرغ من وعظه ضم إليه مائة فارس وألبسهم زي الروم قال: وكان كل عشرة من قبيلة قال: وهم من طيء وفهر وخزاعة وسنيس ونمير والحضارمة وحمير وباهلة وتميم ومراد وجعل على كل عشرة نقيبا فأما نقيب طيء فخزعل بن عاصم وعلى فهر فهر بن مزاحم وعلى خزاعة سالم بن عدي وعلى سنيس مسروق ابن سنان وعلى نمير أسد بن حازم وعلى الحضارمة ماجد بن عميرة وعلى حمير ملكهم ذو الكلاع الحميري وعلى باهلة سيف بن قادح وعلى تميم سعد بن حسن وعلى مراد مالك بن فياض فلما كملوا قال لهم أبو عبيدة: أعلموا رحمكم الله إني مرسلكم مع هذا الرجل الذي وهب نفسه لله ورسوله وكل طائفة منكم عليها نقيب وقد وليته عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ما دام مرضاة الله عز وجل قال فلبسوا وركبوا وساروا معه فلما بعدوا بفرسخ أرسل وراءهم ألف فارس وأمر عليهم مالكا الاشتر النخعي وقال له: سر في أثر القوم وانظر ما يكون من أمر هذا العبد الصالح فإذا قربت من هذا الحصن فأكمن إلى وقت السحر ثم تظاهر لاخوانك سر وفقك الله وأرشدك فسار مالك يقدم قومه فساروا بقية يومهم فلما جن عليهم الليل كمنوا في قرية بالقرب من الحصن وهي خالية من السكان وأما ما كان من يوقنا فإنه أخذ على غير طريق وسار طالبا عزاز.
قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري حدثني الشديد بن مازن عن جده خزعل بن عاصم قال كنت في خيل يوقنا لما وجهنا أبو عبيدة معه قال لما شارفنا عزاز قال لنا يوقنا أعلموا يا فتيان العرب أنا قد شارفنا هذا العدو فإياكم أن يتكلم

(1/267)


أحد منكم فإن لغتكم لا تخفى على الروم وأنا المترجم عنكم وكونوا على يقظة من أمركم فإذا رأيتموني وقد بطشت بصاحب الحصن فثوروا على اسم الله تعالى ثم ساروا وليس عنده خبر من تواتر القدر.
قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري قال حدثني عبد الرحمن المازني وكان ممن يكتب فتوح الشام قال حدثني الأكوع بن عباد المازني قال كنت مع مالك الاشتر من جملة الألف حين سرنا في أثر يوقنا صاحب حلب حتى إذا كنا في تلك القرية ونحن ننتظر الصباح وإذا نحن بجيش من ورائنا من غربي القرية فسار مالك الاشتر وقصد الحصن فغاب عنا غير بعيد وعاد ومعه رجل من العرب المتنصرة وقد أقبل به فلما صار بيننا قال: يا فتيان اسمعوا ما يقول: هذا الرجل فقلنا وما الذي يقوله قال أسألوه فإنه يخبركم فسألناه وقلنا من أي الناس أنت قال من غسان من بني عم جبلة بن الأيهم فقال له مالك: ما اسمك قال أسمي طارق بن شيبان فقال له: يا طارق بحق ذمة العرب لا تكتمنا أمرا تعرفه من أعدائنا قال: والله لا أكتم أمرا أعرفه ولكن خذوا على أنفسكم قبل قدوم عدوكم قال مالك وكيف ذلك قال: لانا البارحة ورد علينا جاسوس من عندكم وهو منا أسمه عصمة بن عرفجة وكان يسمع ما تناجيتم به من الحيلة التي أرادها يوقنا على صاحب عزاز فلما سمع الجاسوس منكم ذلك كتب رقعة وربطها تحت جناح طير كان معه وأطلقه إلى صاحب عزاز فلما قرأها أرسلني إلى صاحب الراوندات لوقا بن شاس يستنجده عليكم فمضيت إليه بالرسالة وهو قادم في خمسمائة فارس وكانكم بهم وقد هجموا فخذوا حذركم.
قال الواقدي: وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه سار حتى وصل إلى الحصن فوجد صاحبه قد تجهز بنفسه ومعه أصحابه وهو خارج الحصن وكان اللعين يركب في ثلاثة آلاف فارس من الروم والف من العرب المتنصرة غير من التجأ إليه من السواد فلما قدم عليه يوقنا لم يوهمه في شيء من أمره بل استقبله وترجل إليه وأقبل كأنه يقبل ركابه وكان في يده سكين أمضى من القضاء فقطع به حزام فرس يوقنا وجذبه إليه وإذا به قد وقع على أم رأسه فأطبق الأربعة آلاف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمهلوهم حتى أخذوهم قبضا بالكف وشدوهم كتافا وبصق دراس في وجه يوقنا وقال لقد غضب عليك المسيح والصليب إذ فارقت دينك ودخلت في دين أعدائك وحق المسيح لا بد لي أن أبعثك إلى الملك الرحيم هرقل يصلبك على باب انطاكية بعدما أضرب رقاب هؤلاء العرب ثم إنه أصعدهم إلى الحصن.
قال الواقدي: ومن خيرة الله للمسلمين أن الجاسوس لم يكتب لصاحب عزاز في مكاتبته بسير مالك الاشتر قال: وأن مالكا الاشتر لما سمع كلام المتنصر أيقظ أصحابه

(1/268)


وربط المتنصر عنده واقاموا ينتظرون صاحب الراواندات فلما راق الليل سمعوا وقع حوافر الخيل فلم يكلمهم مالك حتى توسطوا الكمين وأطبقوا عليهم فكل اثنين ربطوا واحدا من الروم واخذوهم بالكف ولم ينفلت منهم أحد ولبسوا ثيابهم ورفعوا رأيتهم وصليبهم كما كانت ثم أن مالكا قال للمتنصر هل لك أن ترجع إلى دين الله عز وجل ودين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيمحو عنك ما سلف من الكفر بالإيمان وتبقى لنا من جملة الأخوان فقال أن قلبي ولبي عندكم فلا جزي الله من ألجانا إلى الدخول في هذا الدين خيرا وأنا والله من الطائفة التي هي أول من اسلم على يد عمر بن الخطاب وقد سمعنا عن محمد صلى الله عليه وسلم إنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه" فقال له مالك: لقد صدقت في قولك ولكن انسخ هذا الحديث بقول لا إله إلا الله فقد قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] الآية وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبة وحشي قاتل عمه حمزة فأنزل الله فيه الآيات فلما سمع الغساني ذلك فرح وقال أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والآن والله يا مالك قد طاب قلبي وانجبر كسري أخذ الله بيدك وأنقذك الله يوم القيامة قال ففرح مالك باسلامه وقال له: وفقك الله وثبت ايمانك ثم قال له: يا عبد الله إني أريد أن تمحو ما سلف منك بما تفعله فقال: وما تريد أيها الأمير قال تمضي إلى صاحب عزاز وتبشره بقدوم صاحب الراوندات إلى نصرته فقال أفعل ذلك أن شاء الله تعالى وأن كنت في شك من أمري فأرسل معي من تثق به حتى يسمع ما أقول فإن الليل قد تنصف والحرس شديد وباب الحصن مقفول وأنا أخاطبهم من شفير الخندق قال فأرسل معه مالك ابن عم له يقال له راشد بن مقبس: ووصاه أن يكون مستيقظا فسارا جميعا إلى أن وصلا إلى الحصن فوجدا الحرس شديدا والروم تضرب بوقاتها والصوت عال في وسط الحصن فقال طارق لابن عم مالك ما هذا وحق ابي الأقتال وضرب وحرب فانصتا فإذا هو كما قال طارق.
قال الواقدي: وكان السبب في ذلك أن ابن صاحب عزاز شاب شجاع يقال له: لاوان كان أبوه دراس في وقت يرسله إلى يوقنا بالهدايا والتحف لما بينهم من القرابة وكان يقيم عنده أشهرا في أعز مكان وانه حضر عنده في بعض المرات في عيد الصليب في البيعة التي هي اليوم الجامع وكان يدخل في كل وقت فرأى يوما ابنة يوقنا وهي بين جواريها وخدمها وحشمها فوقع بقلبه حبها فكتم أمرها وعاد إلى عزاز وشكا حاله إلى أمه وما كان لأبيه ولد غيره وهي تجد له محبة عظيمة فقالت له: أنا أخاطب أباك في ذلك والزمه أن يرسل ليخطبها من ابيها ويزوجك بها ونبذل له من المال ما أراده وطلبه واشتغل قلب الشاب بحب الجارية وفي اثناء ذلك جاءت العرب إلى بلادهم واشتغلت خواطرهم فلما وقع يوقنا في يد أبيه كان وكان من أمره ما كان وقبض عليه وعلى المائة من

(1/269)


المسلمين وحبسهم جميعا في دار ولده لاوان ووصاه بحفظهم فقال لاوان في نفسه: وحق ديني أن ابن عمنا يوقنا أعلم من ابي بالأديان ولولا إنه رأى الحق مع هؤلاء العرب ما تبعهم بعدما قاتلهم أشد القتال وايضا أن جيوش الملك ما ساوتهم وأن الله قد نصرهم على ضعفهم وأنا قلبي متعلق بابنته وإني أرى من الرأي السديد أن أحل هؤلاء القوم من الوثاق وارجع إلى دينهم بعد أن أثق من ابن عمي أن يزوجني ابنته فإنه على الحق وأنال ما أطلب بعدها وأتزوج ابنته فلما حدثته نفسه بذلك اقبل يوقنا وجلس بين يديه وقال له: يا عم إني عولت على أن أحل وثاقك أنت وأصحابك وقد اخترتك على أهلي وأبي وملكي وأنت تعلم أن فراق الأهل صعب واخترت الإيمان على الكفر وقد علمت أن دين هؤلاء صحيح ولكن لي عليك شرط أن تزوجني ابنتك ومهرها عتقك أنت وهؤلاء الناس الذين معك فقال يوقنا يا بني ما لك إلى زواجها من سبيل إذا كنت تدخل فيه لأجل غرض الدنيا وليكن دخولك فيه خالصا من قلبك حتى أن الله يأجرك على ما تفعله وأنا أن شاء الله تعالى أبلغك ما ترومه وتنال عز الدنيا والآخرة فقال: لا وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ثم حل وثاق يوقنا وأعطاه سلاحه وحل المائة وأعطاهم سلاحهم وقال لهم: كونوا على أهبة وأنا أمضي إلى أبي وهو ممل بالخمر فأقتله وثورا على بركة الله تعالى في رضا الله فعندها قال يوقنا للمائة أشهدوا علي إني زوجته أبنتي وجعلت صداقها عتنقا فقبل منه ومضى إلى دار أبيه فوجد أباه مقطوع الرأس واخوته عنده فقال لهم: من فعل هذا بأبي قالوا: نحن قال: ولم ذلك قالوا: أردنا بذلك وجه الله وقد سمعناك وما تحدثت به مع يوقنا وأصحابه فخفنا عليك أن لا يتم لك هذا الأمر ويتكاثر الجمع على القوم ويبلغ ابانا خبرك فيقتلك فبطشنا به قبلك قال ففرح لاوان بذلك ورجع إلى يوقنا وأصحابه وأعلمهم بما جرى فخرجوا من دار لاوان وتوسطوا الحصن ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير والسراج المنير ووضعوا السيف في الروم قال: ووقع الصائح في الحصن كما وصفنا وتبادرت الروم لقتال المسلمين وفي تلك الساعة قدم طارق ورفيقه قال فسمعنا الأصوات قال فرجعنا إلى مالك وأعلمناه بما سمعناه فقال مالك لأصحابه اركضوا لأصحابكم فركضوا خيولهم وخلف منهم مائة يحفظون الأسرى فلما قربوا من الحصن وكان يوقنا قد قال للاوان أن نجدة من المسلمين تأتينا فأتى لاوان فراى المسلمين قد أتوا ففتح لهم باب الحصن من باب السر وأدخلهم فلما حصل مالك الاشتر في حصن عزاز نادى هو ومن معه الله أكبر فتح الله ونصر وخذل من كفر فلما رأى أهل الحصن ذلك رموا سلاحهم ونادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السلاح وأخذوهم أسارى وشكروا ليوقنا ومن معه قال فحدث يوقنا مالكا الاشتر بحديث الغلام لاوان فقال مالك إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه.

(1/270)


قال الواقدي: حدثني قيس عن عقبة عن صفوان عن عمرو بن عبد الرحمن عن جبير عن أبيه قال سألت أبا لبابة بن المنذر وكان ممن حضر فتوح الشام كيف كانت فتوح عزاز وقتل دراس فإن نفسي تنكر هذا وأريد صحته فقال لما وضعت الحرب أوزارها وجمع مالك الاشتر الاسارى والمال والثياب والذهب والفضة والآنية وأمر باخراج ذلك من الحصن ووكل به قيس بن سعد وكان ممن حضر وأصابه سهم فعوره وكذلك أبو لبابة بن المنذر وكلاهما حضر بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد في عزاز ثم قام مالك فمشى في الحصن وتقعد دراسا فوجده مقتولا فقال من قتل هذا اللعين فقال لاوان: قتله أخي لوقا وهو أكبر مني سنا فأمر مالك باحضاره وقال لم قتلته وهو أبوك وما سمعنا ولدا قتل أباه من الروم سواك فقال حملني على ذلك محبة دينكم لأن في بيعة هذا الحصن قسا من المعمرين وكنأ نقرأ عليه الإنجيل ويعلمنا بعلم الروم وإني كنت في بعض الايام في البيعة أنا وهو وليس عندنا أحد وكان اسمه أبا المنذر فقلت له: يا أبا المنذر إلا ترى إلى بلاد الشام كيف استولت عليها العرب وملكوا أكثرها وهزموا جيوش الملك وما كنا نظن أن العرب تقدر على ذلك لانه ليس في الأمم أضعف منهم وأن الله تعالى نصرهم على ضعفهم فهل قرأت ذلك في كتب الروم أو ملاحمهم أو ملاحم اليونانيين فقال: يا بني نعم إني قرأت ذلك ولقد أخبرنا الملك هرقل بذلك قبل وقوع هذا الأمر وجمع إليه الملوك والاساقفه والبطارقة وغيرهم وأخبرهم أن العرب لا بد أن يملكوا ما تحت سريري هذا ولقد بلغنا عن نبي القوم إنه قال زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها فقلت له: يا أبانا فما تقول في نبي القوم قال له: يا بني أن في كتبنا أن الله تعالى يبعث نبيا بالحجاز وقد بشر به عيسى المسيح بن مريم ولا ندري أهو هذا أم لا فعلمت إنه كتم عني امره مخافة أن اذيع سره فكتمت ما قال لي البارحة فلما رأيت يوقنا وأصحابه اسرى قلت: هذا يوقنا قد قتل أخاه يوحنا وعاند العرب وقاتلهم ثم إنه رجع إلى دينهم وما ذاك إلا إنه قد علم الحق معهم فقلت: أنا لنفسي قم أنت واقتل أباك وخلص يوقنا وأصحابه وارجع إلى دين هؤلاء فهو الدين الحق لا شك فيه فلما نام ابي بعدما شرب الخمر وسكر قتلته وسرت إلى خلاص يوقنا ومن معه فوجدت أخي لاوان قد سبقني إلى ذلك فقال له مالك: يا غلام لم فعلت ذلك قال: محبة في دينكم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال له مالك: قبلك الله ووفقك ثم خرج مالك من الحصن وولاه سعيد بن عمرو الغنوي وترك معه المائة الذين كانوا مع يوقنا وقدموا إليه صاحب الراوندات ومن معه فعرض عليهم الإسلام فابوا فضرب رقابهم.

(1/271)


قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن محمد عن ابيه حسان بن كعب عن عبد الواحد عن عبد الله بن قرط الأزدي أن فتح عزاز كان هكذا والذي ذكر أن بنات دراس وزوجته قتلنه لم يصح والله اعلم ثم أن مالكا الاشتر أراد أن يرحل فعرض عليه سبي عزاز فكان ألف رجل من الشباب والبنات ومائتين وخمسة وأربعين رجلا من الشيوخ والرهبان والفي امرأة من النساء والبنات ومائة وثمانين عجوزا ونظر إلى شيخ من الرهبان مليح الشبيبة واضح الهيبة فقال أن صدقت الفراسة فهذا القس الذي اخبرني به لوقا واخوه لاوان فدعا بهما وقال هذا هو القس الذي اخبرني به لوقا فقال: نعم فقال له: يا شيخ إذا كنت من علماء أهل الكتاب فكيف تكتم الحق عن مستحقيه فقال: والله ما كتمت الحق عن مستحقيه ولكن خفت من الروم أن يقتلوني لأن الحق ثقيل وقد قتلوا الأبناء والأخوة وذلك لأجل الحق فكيف أنا فقال له مالك: افتدخل في ديننا.
فقال لست أدخل فيه إلا إذا سألتكم عن مسائل وجدتها في الإنجيل فقال له مالك: هات ما عندك فلما أراد القس أن يتكلم وقع الصياح في الحصن فارتاع الناس ووثب مالك لينظر ما خبر الناس وظن أن الروم قد غدرت بهم وإذا بأناس من المسلمين الذين بالحصن يقولون أيها الأمير خذوا حذركم فانا نرى غبرة على طريق منبج وبزاعة ولا ندري ما هي فركب مالك ومن معه ووقفوا ينتظرون ما ذاك وإذا قد لاح من تحتها خيول الإسلام وهم يسوقون السبايا والأموال والرجال وهم مشددون في الحبال ووراءهم ألف فارس من المسلمين وأميرهم الفضل بن العباس رضي الله عنه وكان قد أرسله أبو عبيدة حتى غازى منبج والباب وبزاعة فوقع الكثير في الفريقين وسلم بعضهم على بعض وسأل الفضل مالكا عن قصته فحدثه أن الله قد فتح عزاز وأذل من فيها وحدثه بما كان من حديث يوقنا وانني ما منعني من الرحيل إلا هذا القس وسؤاله فقال له الفضل: أيها القس قل: ما أنت قائل فقال القس أخبرني عن أي شيء خلقه الله تعالى قبل خلق السموات والأرض فقال الفضل أول ما خلق اللوح والقلم ويقال العرش والكرسي ويقال الوقت والزمان ويقال العدد والحساب ويقال أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها فصارت ماء ثم خلق العرش ياقوته وكان عرشه على الماء وانه نظر إلى الماء فاضطرب وارتعد وصعد منه دخان فخلق الله منه السماء ثم خلق الأرض وقيل خلق أولا العقل لأنه أراد أن ينتفع به الخلق وقيل أول ما خلق الله نورا وظلمة ثم دعاهما إلى الإقرار فانكرت الظلمة وأقر النور فخلق منه الجنة لرضاه عنه وخلق النار من الظلمة لسخطه عليها وخلق أرواح السعداء من النور وأرواح الاشقياء من الظلمة فلاجل ذلك كل منهم يرجع إلى مستقره ويقال أول ما خلق الله نقطة فنظر إليها بالهيبة فتضعضعت وسالت ألفا فجعلها مبدأ كتابه العزيز فسبحان من ألف كتابه من نقطة وخلق خلقه من نقطة ثم

(1/272)


يميتهم بقبضة ويحييهم بنفخة فلما سمع القس ذلك من كلام الفضل ابن العباس قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله هذا هو العلم الذي استأثر به انبياء الله تعالى فلما نظر أهل عزاز إلى قسهم وقد أسلم اسلموا عن آخرهم إلا قليلا منهم والله أعلم.
قال الواقدي: حدثني عامر بن يحيى عن أسد بن مسلم عن دارم بن عياش عن جده قال لما أسلم أهل عزاز باسلام قسهم الذي كان معتقدهم عول الفضل ومالك على المسير إلى حلب فقال يوقنا أنا والله ما لي وجه أقابل به المسلمين لأني كنت قلت: قولا ودبرت أمرا فلم يتم لي وإني سائر إلى انطاكية فلعل الله أن يظفرني بالأعداء وينصرني عليهم فقال له الفضل: إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس لك من الأمر شيء فلا تحمل قلبك هما فقال: ودين الإسلام لا أرجع إلا بأمر يبيض الله به وجهي عند اخواني المسلمين فنظر وقد صحبه مائتان من بني عمه ممن قد رسخ في قلوبهم الإيمان ولهم عيال وأولاد في حلب فاخذهم يوقنا وسار يريد انطاكية فلما قرب من ارضها أخذ منهم أربعة وأمر الباقي أن يتعوقوا خلفه أربعة ايام ثم يأتوا كأنهم هاربون من العرب ليتم ما دبره في خاطره وسار هو والأربعة على طريق حارم والباقي على طريق أرناح وقال لهم: الميعاد بيننا أنطاكية ففعلوا ذلك وساروا وسار هو إلى أن اشرف على دير سمعان المشرف على البحر فوجد هناك خيلا ورجالا يحفظن الطرقات فلما رأوا يوقنا والأربعة معه بادروا إليهم واستخبروهم عن حالهم فقال لهم يوقنا: أنا صاحب حلب وقد هربت من العرب فوكل بهم صاحب الدرك جماعة وأمرهم أن يسيروا بهم إلى الملك فأخذتهم الخيل وأتوا بهم إليه فوجدوه في كنيسة الفتيان يصلي فوقفوا حتى فرغ من صلاته فاوقفوا يوقنا بين يديه وقالوا: أيها الملك أن بطرس صاحب الحرس الذي عند دير سمعان قد وجه بهذا ومن معه إليك ويزعم إنه صاحب حلب فلما سمع هرقل ذلك قال له: يا يوقنا ما الذي أتى بك وقد بلغني إنك دخلت في دين العرب فقال: أيها الملك لقد بلغك الحق وذلك إني ما اسلمت إلا لمكيدة القوم حتى أتخلص من شرهم ومن كراهة منظرهم ونتن رائحتهم وإني قلت لهم: اسلم إليكم حصن عزاز واقتل صاحبها واخذت منهم مائة سيد من ساداتهم وسرت بهم وأمرت أن ينفذ ورائي ألف حتى إذا صاروا داخل الحصن اقبض عليهم وارسلهم إليك فعجل دراس علي ولم يفهم ما أضمرته ووثق بكلام جاسوسه ولم يثق بكلامي فقبض علينا فأتت العرب ووضعت السيف في أهلها وذلك أن لوقا قتل أباه رجل من العرب وأنا من جملتهم فلما اشتغلوا بالقتال والنهب هربت أنا وهؤلاء الأربعة وجئنا إليك ولولا محبتي في ديني ما كنت قتلت أخي يوحنا وصبرت على قتال العرب وحصارهم سنة كاملة.

(1/273)


قال الواقدي: فاعانته البطارقة والملوك الذين كانوا حاضرين وقالوا: صدق يوقنا أيها الملك وسيظهر لك فعله وعمله وجهاده فانبش وجه الملك لذلك وخلع عليه من لباسه الذي هو عليه وسوره ومنطقه وتوجه وقال له: إن كانت حلب أخذت منك فاني وليتك على انطاكية وأعطاه وظيفة دمستقها وسكندرها يعني واليها.
قال الواقدي: فسمع يوقنا له ودعا له فبينما هو كذلك إذ أتى إليه الموكل بجسر الحديد واخبر الملك إنه قد قدم عليهم مائتا بطريق من فرسان حلب وهم يزعمون إنهم من بيت واحد من الرومية من بني عم يوقنا وإنهم قد هربوا من العرب فلما سمع ذلك قال ليوقنا أيها الدمستق والكندر قم واركب واشرف على هؤلاء القوم فإن كانوا من بني عمك فأهل بهم وضمهم إليك ليكونا عسكرك وأن كانوا غير ذلك فات بهم لأرى فيهم ما أرى وإياك أن يكونوا من قبل العرب ممن رجع إلى دينهم من أهل سيجر وحماة والرستن وجوسية وبعلبك ودمشق وحوران فقال: نعم أيها الملك فركب وركبت معه الفرسان من الملكية والسريرية وأتوا إلى جسر الحديد وأمر أصحاب الدرك أن يأتوا بالمائتين فلما رآهم يوقنا رحب بهم ونظروا إليه وهو في ذلك الزي والحشمة وخلعة الملك عليه فترجلوا وقبلوا ركابه فقال لهم: كيف خلصتم من أيدي العرب فقالوا: أيها السيد أننا خرجنا منع أمير من امرائهم وأغرنا على منبج وبزاعة فلما رجعنا نريد حلب أخذنا على عزاز فوجدناهم قد ملكوها فلما كان الليل تركناهم وأتينا.
قال الواقدي: وهذا كله وحجاب الملك يسمعون فلما حضروا أخبروا الملك بذلك ودخل يوقنا بهم على الملك فخلع عليهم وأنزلهم وأمرهم أن يكونوا في خدمة يوقنا وأعطاه دارا بازاء قصره فقال يوقنا أيها الملك أنت تعلم أن هذه الدار لا يدوم نعيمها وأن السيد المسيح شبهها بالجيفة وطلابها بالكلاب يتجاذبونها كما روى عن المسيح إنه رأى طائرا حسنا مزينا بكل زينة فنزع جلده فرآه أقبح ما يكون منظرا فقال له: من أنت قال اناالدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح وإنما ضربت لك هذا المثل أيها الملك لتعلم إنه ما خلا جسد من حسد وإذا أقبلت الدنيا على أحد كثرت حساده وأنا أخاف من الحساد أن يتكلموا في عند الملك ويرموني بالبهتان وبما لا أفعله فإن كان الملك ينفر مني فليول هذه الوظائف غيري وأنا ما ابرح على ركابك ثم إنه بكى فقال له الملك: أيها الدمستق ما وليتك هذا الأمر إلا وقلبي وخاطري وأثق بك من تكلم فيك بشيء سلمته إليك تفعل به ما تريد فشكره يوقنا وأراد الخروج إلى وظيفته التي ولاه إياها وإذا بخيل البريد قد أقبلت من مرعش وهم رسل ابنته زيتونة وإنها خائفة من العرب وهي تريد القدوم عليك حتى ترى ما يئول من الأمر وإنها تسألك أن ترسل لها جيشا يوصلها إليك فلما سمع الملك ذلك قال ليس لهذا الأمر إلا الدمستق يوقنا.

(1/274)


فقبل الأرض وقال السمع والطاعة لأمرك فضم إليه ألف فارس ومائتين من أصحابه من المدبجة والقياصرة.
قال الواقدي: فسار بالألفين والمائتي فارس وقد رفع الصليب فوق رأسه وجنبت الجنائب وعليها الرخوة المذهبة وسار يجد السير إلى أن وسل إلى مرعش وأخذ زيتونة بنت هرقل وهي الصغرى وكان الملك قد ولاها على تلك البلاد وزوجها بنوسطير بن حارس وكانوا يسمونه سيف النصرانية لشجاعته وكان قد قتل على اليرموك من جراحات أصابته.
قال الواقدي: فلما أخذ يوقنا ابنة الملك وعاد يطلب بها انطاكية أخذ على الجادة العظمى لعله يلقي أحدا من جواسيس المسلمين أو يرى معاهدا فيرسله ليعلم أبا عبيدة إنه قد تمكن من الملك ومن البلد فلما وصل مرج الديباج وكان ليلا وإذا بخيله التي على مقدمته قد أتته وهم مذعورون فقال لهم: ما بالكم فقالوا له: أيها السيد الدمستق أن هناك عسكرا نازلا فقربنا منهم فإذا هم عرب وهم نيام ولا شك إنهم مسلمون فقال لهم: خذوا أهبتكم وأيقظوا خواطركم وانصحوا لدينكم وجاهدوا عدوكم وقاتلوا عن أبنة الملك ولا تسلموها إلى اعدائها وكونوا خير جند قاتل عن نعمة صاحبه وإذا تمكن الحرب بيننا وبينهم فاعتمدوا على الأسر وإياكم والقتل واعلموا أن العرب وأميرهم لا بد لهم أن يقصدوا الملك ومن معه فإن اسروا منا أحدا يكن عندنا الفداء فقد وجدت في كتاب حرفناس الحكيم أن من نظر في عواقب زمانه توشح بوشاح أمانه ومن أهمل أمره خاف حذره ومن أكثر الغدر حل به الأمر سيروا على بركة الله.
قال الواقدي: فشرعوا الأعنة وقوموا الاسنة وقصدوا ذلك العسكر فلما احسوا بهم بادروا إليهم واستقبلوهم وهم ينادون بعيسى بن مريم والصليب المفخم من أنتم فقال لهم يوقنا: ومن انتم فقالوا: نحن أصحاب جبلة بن الأيهم فلما سمع يوقنا ذلك ترجل عن دابته وسلم عليه وسلمت العرب المتنصرة على الروم فقال جبلة من أين جئتم فقال له مرعش: ومعي ابنة الملك وانتم من أين جئتم فقال جبلة من العمق وقد أتينا بميرة أهلها فلما رجعت ووصلت إلى مرج دابق لقيت كتيبة من فرسان المسلمين وهم زيادة عن مائتي وهم لابسون زينا فلما وصلنا إليهم ابتدرونا بعزم شديد وحرب عتيد وإذا مقدمهم لا يصطلي له بنار فلقد أباد منا رجالا وجندل منا ابطالا ونحن في ألفي فارس وهم مائتان وكان فينا كالنار المحرقة فما زلنا نقاتلهم حتى أسرناهم بعدما قتل الفارس منهم الفارس والاثنين والثلاثة منا وبقي أميرهم إلى آخر الناس فقصدنا جواده بالسهام حتى قتلناه ووقع فهجمنا عليه وأخذناه أسيرا فاذ هو من أصحاب محمد وهو ضرار بن الأزور ونحن قاصدون بهم إلى الملك هرقل ليرى فيهم رأيه فاظهر لهم يوقنا

(1/275)


الفرح وقال: وحق ديني لقد فزت بالفخر بأسرك لهؤلاء وهذا الغلام فلقد بلغني عنه ما فعل بأبطال الشام وفرسان الروم ثم سار القوم جميعا يطلبون أنطاكية.
قال الواقدي: حدثني الشريد بن عاصم عن شروان بن مجزل عن قادم ابن بشر عن زائدة بن معمر قال حدثنا بشار عن عوف عن صالح عن عبد الله عن جده مسروق قال المؤلف وحدثني هذا الحديث عباد بن عاصم عن عمران بن حصين قال لما فتح المسلمون حصن عزاز وترك مالك الاشتر عليها سعيد بن عمرو الغنوي والتقى بالفضل بن العباس ورجعا بالغنائم إلى حلب استبشر أبو عبيدة بسلامة الناس وبفتوح عزاز فسأل مالكا عن يوقنا فحدثه فيما بينه وبينه سرا وأنه قصد أنطاكية ليدخل على كلب الروم بحيلة ولم يكن له وجه يعود إليك به فقال أبو عبيدة: الله ينصره ويظفره ويغفر له فلقد ظهر لنا منه ما لم يكن لنا في حساب ثم إنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من ابي عبيدة عامر بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن الله سبحانه له المنة علينا التي يستوجب بها الحمد من جميع المسلمين إذ فتح علينا مستصعب قلاع الكفر وحصونه وأذل لنا ملوكهم وأورثنا ارضهم وديارهم وأن سبحانه قد فتح علينا قلعة حلب وأردفها بحصن عزاز وأن البطريق يوقنا صاحب حلب قد أسلم وحسن اسلامه وقد صار عونا للمسلمين على الكافرين من بعد ما قاسينا منه ما الله عالم به فالله يجازيه فلقد نصر الله به الدين ونصح للمسلمين وأباد المشركين وقد دخل انطاكية يدبر حيلة على كلب الروم وقد ألقى بنفسه إلى الهلاك في طاعة الله ورسوله ولقد كتبت هذا الكتاب ونحن معولون على المسير إلى أنطاكية نقصد طاغية الروم فما بقي حصن سواه لأعدائنا قريبا منا ونحن طامعون في أخذه وأخذ سريره وكنوزه كما وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزودنا بالدعاء منك فإنه سلاح المؤمنين ودمار الكافرين والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته ثم إنه أخرج الخمس وسلمه إلى رباح بن غانم اليشكري وضم إليه مائتي فارس من المسلمين فيهم قتادة وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن بشار وجابر بن عبد الله ومثل هؤلاء رضي الله عنهم فأخذوا الخمس وساروا ثم أن أبا عبيدة دعا بضرار بن الأزور وضم إليه مائتي فارس وأمره أن يشن الغارة فركب ضرار وكان معهم سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل ضرار سائرا هو ومن معه ومعهم رجال من المعاهدين يدلونهم على الطرق حتى وصلوا إلى مرج دابق وكان وقت السحر فقال لهم المعاهد: ارفقوا على خيولكم فنزلوا وأراحوها بقية يومهم وليلتهم حتى إذا كان وقت السحر فما شعروا إلا وجبلة كبسهم فلما وقع الصياح ركب ضرار وركب معه نحو مائة فارس وأما المائة الأخرى فقد دهمتهم خيول المتنصرة فلم يتمكنوا من الركوب فقاتلوا رجالا فنفرت خيولهم ووصل إليهم عدوهم حتى إنه

(1/276)


قتل كل واحد خصمه وتكاثرت عليهم الخيل فأسروا المائة وأما ضرار فإنه صاح بالمائة الثانية وقال: يا فتيان العرب أن أعداءكم قد هاجموكم على حين غفلة منكم وهم عرب مثلكم وهذه أفضل الساعات عند الله فقووا عزمكم ولا تفشلوا فانتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة تحت ظلال السيوف" وقد قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] قال ميسرة بن عامر وكان من جملة من حضر معنا في مرج دابق ربيعة بن معمر بن أبي عوف وهو ابن عمر بن ربيعة الشاعر وكان ربيعة من فصحاء العرب لا يتكلم إلا بالسجع كلامه ينظم بحسن مقاله وكنا نصغي إليه إذا سجع ونحفظ منه فلما سمع ضرارا وهو يحرضنا قال: يا فتيان العرب لن تنالوا الجنة إلا بالصبر على المكاره والله لن يدخلها من هو للجهاد كاره:
ولله في عرض السموات جنة
...
ولكنها محفوفة بالمكاره
وأعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا علم الغيب والشهادة فهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أسواقه واختفى بنفاقه في انفاقه أما انتم أصحاب نبي العصر ولم يئستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقووا العزم بصفاء نياتكم وإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا غضب الجبار واعلموا أن النصر والثبات جندان منصوران فمن طلب دار البقا هان عليه الملتقى فصححوا طلبتكم تنالوا رحمة ربكم وحققوا حملتكم تنالوا بغيتكم واطعنوا النحور تنالوا الحور وتسكنوا القصور وقوموا الاسنة تنالوا الجنة واعتمدوا على الصبر تنالوا النصر وإياكم أن توافقوا الكفار في حالهم واعدلوا عن طريق قولهم قال العالم بحالهم وفعلهم.
: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] قال سمرة ابن غانم والله لقد دهشت أنفسنا بقوله وحملنا على المتنصرة وضرار ينشد.
إلا فاحملوا نحو اللئام الكواذب
...
لترووا سيوفا من دماء الكتائب
وردوا عن الدين المعظم في الورى
...
وأرضوا إله العرش رب المواهب
فمن كان منكم يبتغي عتق ربه
...
من النار في يوم الجزا والمآرب
فيحمل هذا اليوم حملة ضيغم
...
ويرضي رسولا في الورى غير كاذب
قال الواقدي: ثم حمل ضرار ونحن من ورائه وبذلنا نفوسنا وروينا سيوفنا ورماحنا من المتنصرة وجرى الحرب بما لا يوصف وضرار فيهم كانه النار في الحطب اليابس وجبلة بن الأيهم يتعجب من حملاته وضرباته فأمر قومه أن يقصدوا جواده بسهامهم ففعلوا ذلك فانصرع الجواد ووقع ضرار فتكاثروا عليه وأخذوه أسيرا وأخذوا بقية أصحابه وساروا يريدون أنطاكية فالتقوا بيوقنا وأبنة الملك كما ذكرنا.

(1/277)


قال الواقدي: ولقد حدثني معمر بن رواحة عن القاسم عن خزامة بن عمرو وعن أبي المنذر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب ضرار بن الأزور اسيرا فلما كان الليل انطلق هاربا يلتمس الوصول إلى ابي عبيدة فإذا هو بأسد عارضه فقال سفينة يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أمري كيت وكيت فقرب منه وهو يبصبص بذنبه حتى وقف إلى جانبه واشار إليه برأسه 8 أن سر فسرت وهو إلى جانبي حتى أتى بي إلى بلد من صلحنا فتركني ومضى.
قال الواقدي: فلما وصل سفينة الجيش حدث الناس باسر ضرار ومن معه فصعب ذلك على المسلمين وبكى أبو عبيدة وخالد بن الوليد على أسرهم وقالا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبلغ ذلك أخته خولة فقالت: أنا لله وأنا إليه راجعون يا بن أمي ليت شعري في السلاسل أوثقوك أم بالحديد قيدوك أم في البيداء طرحوك أم بدمائك خضبوك وأنشدت تقول:
إلا مخبر بعد الفراق يخبرنا
...
فمن ذا الذي يا قوم اشغلكم عنا
فلو كنت ادري إنه آخر اللقا
...
لكنا وقفنا للوداع وودعنا
إلا يا غراب البين هل أنت مخبري
...
فهل بقدوم الغائبين تبشرنا
لقد كانت الايام تزهو لقربهم
...
وكنا بهم نزهو وكانوا كما كنا
إلا قاتل النوى ما أمره
...
واقبحه ماذا يريد النوى منا
ذكرت ليالي الجمع كنا سوية
...
فقرقنا ريب الزمان وشتتنا
لئن رجعوا يوما إلى دار عزهم
...
لئمنا خفافا للمطايا وقبلنا
ولم انس إذ قالوا: ضرار مقيد
...
تركناه في دار العدو ويممنا
فما هذه الايام إلا معارة
...
وما نحن إلا مثل لفظ بلا معنى
أرى القلب لا يختار في الناس غيرهم
...
إذ ما ذكرهم ذاكر قلبي المضنى
سلام على الأحباب في كل ساعة
...
وأن بعدوا عنا وأن منعوا منا
قال الواقدي: ولقد بلغني عن وأصل بن عوف إنه قال اجتمعت النساء من العربيات ممن كان لهم أسير مع ضرار عند خولة ومن جملتهم مزروعة بنت عملوق الحيرية وكانت من فصحاء زمانها وكان ولدها صابر بن أوس فيمن أسر مع ضرار فجعلت تندب ولدها وتقول:
أيا ولدي قد زاد قلبي تلهبا
...
وقد أحرقت مني الخدود المدامع
وقد أضرمت نار المصيبة شعلة
...
وقد حميت مني الحشا والأضالع

(1/278)


وأسأل عنك الركب كي يخبرونني
...
بحالك كيما تستكن المدامع
فلم يكن فيهم مخبر عنك صادقا
...
ولا منهم من قال إنك راجع
فيا ولدي مذ غبت كدرت عيشتي
...
فقلبي مصدوع وطرفي دامع
وفكري مقسوم وعقلي موله
...
ودمعي مسفوح وداري بلاقع
فإن تك حيا صمت لله حجة
...
وأن تكن الأخرى فما العبد صانع
فقالت لهم سليمى بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وكانت من الزاهدات العابدات أبهذا أمركن الله انما امركن بالصبر ووعدكن على ذلك الأجر أما سمعتن ما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] فاصبرن تؤجرن فسكتن عن البكاء قال الواقدي: ولما ورد الخمس على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتاب أبي عبيدة مع رباح بن غانم اليشكري وقع الصائح في المدينة بقدومه فاجتمع الناس إلى المسجد ليسمعوا ما تجدد من أمر المسلمين فلما دخل رباح المسجد بدأ بالسلام على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر وصلى ركعتين وأتى عمر وقبل يده وعرض عليه الكتاب فقرأه على المسلمين فضجوا بالتهليل والتكبير وصلوا على البشير النذير واخذ الخمس وكتب إلى ابي عبيدة يأمره بالمسير إلى انطاكية ولا يصده عن ذلك شيء ورد الجواب مع رباح اليشكري.
قال الواقدي: اخبرني مازن بن عبد ربه عن مالك بن أسيد عن جده مروان بن الجرير أن الجواب لما ورد على أبي عبيدة سار من يومه يطلب انطاكية قال: وأما ما كان من أمر يوقنا رحمه الله تعالى وجبلة بن الأيهم لعنه الله فانهم ساروا إلى انطاكية وسبق البشير إلى الملك هرقل بقدوم ابنته مع يوقنا وقدوم يوقنا ومعه المائتا أسير من المسلمين فأمر بتزيين البلد والبيع فاظهرت الروم زينتها ودفعت الصدقات إلى الفقراء وأخرج موكب الروم إلى لقائهم مع ابن اخيه في زينة عظيمة ودخل القوم وهم في زيهم وحشمهم وكان يوما مشهودا وقد ترجلت الملكية والسريرية بين يدي ابنة الملك وخرج كل من بانطاكية وقدموا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامها وهم مشدودون والروم تشتمهم وتبصق عليهم وقد دارت بهم الرجال والبطارقة ودخلت ابنة الملك إلى قصر أبيها.
قال الواقدي: ودخل جبلة بن الأيهم يوقنا على الملك فخلع عليهما وعلى كبار أصحابهما ثم إنهم احضروا الصحابة وأوقفوهم بين يديه وهم في الحبال فلما وقفوا صاحت بهم الحجاب اسجدوا إلى الأرض تعظيما للملك فلم يلتفتوا إلى قولهم ولا اعتنوا

(1/279)


به فقال لهم الحاجب الكبير: ما منعكم أن تعظموا الملك بالسجود بين يديه فقال لهم ضرار: لا يحل لنا أن نسجد لمخلوق وقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال الواقدي: حدثني سهل بن برقان رضي الله عنه عن السائب بن جازم عن الحكم بن مازن قال لما وقف ضرار والصحابة بين يدي هرقل خاطبهم من غير ترجمان وأراد الملك أن يسمع بطارقته وحجابه بما كان يحدثهم به حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وذلك إنه جمعهم إليه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر وقال هذا هو النبي المبعوث الذي بشر به عيسى بن مريم وهو صاحب الوقت ولا بد لدينه أن يظهر حتى يملأ المشرق والمغرب ثم أن هرقل دعاهم لأداء الجزية فأرادوا قتله فأراد ذلك اليوم أن يبين لهم حقيقة قوله وانه أراد بذلك الإصلاح لهم ولجالهم فقال لضرار ومن معه من يخاطبني منكم عما أسأله من العلم فأشاروا إلى قيس بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه وكان شيخا معمرا وكان شاهد جميع أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وغزواته فلما أشاروا إليه قال للملك قل: ما أنت قائل أيها الملك قال هرقل: كيف نزل علي نبيكم الوحي أول مبتدأ أمره فقال قيس ابن عاصم سأل هذا السؤال لنبينا صلى الله عليه وسلم رجل من مكة يقال له الحرث بن هشام: فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فينفصم عني وقد وعيت عنه وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قال قيس: ولقد كان ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وأن جبينه ليرفض عرقا فأول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه أي يتعبد الليالي ذوات العدد فلم يزل كذلك حتى جاءه الملك وقال له: اقرأ فقال لست بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني وقال لي أرسلي اقرأ فقلت: ما أنا بقاريء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ , خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ , اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ , الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ , عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف بهافؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فأخبر خديجة وقال لها: لقد خشيت على نفسي فقالت له خديجة: كالا لا يخزيك الله أبدا إنك تصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقوي الضعيف الضعيف وتعين على نوائب الدهر والحق وذكر الحديث بطوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا أنا بالملك الذي جاءني بحراء وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض فخشيت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1, 2] الاية ثم حمى الوحي وتتابع ولقد كنت معه يوما

(1/280)


في المسجد إذ دخل رجل ومعه بعير له فأناخه بالباب وعقله ودخل وقال السلام عليكم فرددنا عليه السلام فقال: أيكم محمد فقلنا هذا الأبيض الوجه فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب قد أتيت أسألك مشددا عليك فلا تجد علي في نفسك فقال له: سل عما بدا لك فقال بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم كافة قال: اللهم نعم قال انشدك بالله الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم قال: أنشدك بالله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة فقال اللهم نعم فقال أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال اللهم نعم فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر فقال هرقل: بحق دينك ما الذي رأيت من معجزاته قال كنت معه في سفر فأقبل إليه أعرابي فدنا منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله وإني محمد رسول الله" قال الأعرابي: ومن يشهد بما تقول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه الشجرة" ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشجرة وهي بشاطىء الوادي فأقبلت إليه وهي تخط الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاث مرات فقالت: أنت محمد رسول الله ثم أمرها فرجعت إلى منبتها فقال هرقل: أنا نجد في كتابنا أن الرجل من أمته إذا عمل السيئة كتبت عليه واحدة وأن عمل الحسنة كتبت له عشرا قال قيس بن عاصم هذا في كتابنا قال الله تعالى.
: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] فقال هرقل: أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى المسيح هو الشاهد على الناس يوم القيامة فقال قيس هوة نبينا قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً} الآية أما شهادته في العقبي فهو قول ربنا في كلامه القديم: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41] فقال هرقل: إن الذي وصفته لك هو الذي يأمر العباد أن يمضوا إليه في حياته ويصلوا عليه في حياته وبعد وفاته فقال قيس هو نبينا صلىالله عليه وسلم قال الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] قال هرقل: إن الذي وصفه المسيح يعرج به إلى السماء ويخاطبه العلي الأعلى فقال قيس هو والله نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء: 1].
قال الواقدي: وكان في ذلك الوقت بترك الروم وهو رأس دينهم جالسا يستمع هذا الكلام فالتفت هذا البترك إلى الملك وقال له: أيها الملك أن الذي ذكره عيسى لم يبعث بعده ولا قبله بل هي تآويل كاذبة فقال ضرار بن الأزور كذبت في وجهك وكذبت هذه اللحية الملعونة المخزية يا كلب الروم أنت من أمثالك من يكذب عيسى عليه السلام وينكر بعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أما تعلم أن عيسى قرأه في الإنجيل وموسى

(1/281)


قرأه في التوراة وقرأه داود في الزبور وأن نبينا المبعوث بخير الأديان المشهود له بالنبوة والرسالة في كتاب الله العزيز وجميع الكتب المنزلة على الأنبياء من قبله وهو نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المكي ولكن حجاب الكفر منعكم عن معرفته فلما أن سمع هرقل من ضرار هذا الكلام قال له: لقد أسأت الأدب في المجلس إذ خرقت بعمدة دين النصرانية فمن أنت فقال له قيس بن عامر: هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ضرار بن الأزور لا تتكلم في حقه بكلام قبيح فقال الملك: هذا الذي بلغني عنه أنه يقاتل مرة راجلا ومرة فارسا ومرة عاريا مرة لابسا؟ قال: نعم فعندها سكت ولم يتكلم.
قال الواقدي رحمه الله تعالى ورضي عنه: ولقد بلغني أن البترك لما سمع خرق ضرار به أبدى الغضب بعد الابتسام ولحقه غيظ شديد ما عليه من مزيد وقام من حضرة الملك قال: وغضب البطارقة والحجاب لغضب البترك فلما رأى الملك غضبهم خاف على نفسه منهم فقال: قطعوه بسيوفكم وامحوا أثره قال فنزلوا عليه بالسيوف وضربوه ضربات شديدة وكانت عدة تلك الضربات مائة وأربع عشرة ضربة إلا أنها غير قاتلة لما يريده الله من لطفه الخفي في حياته ونجاته فلما رأى البترك هذه الفعال سكن غضبه وقال: اقطعوا لسانه فلما أن رأى يوقنا ذلك الأمر وتحقق هذا الكلام منهم قال في نفسه والله لا أترك هذا اللعين يتمكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم إلى الملك وقبل الأرض ودعا بدوام الملك والنعم وقال: أيها الملك: إن هذا ليس بصواب وإن من الرأي السديد عندي أن تترك هذا الغلام حتى يصح فإذا عاد إلى صحته أخرجناه إلى باب المدينة وصليناه لبشفى صدور الروم لأنه قد أثر فيهم كلامه وقد قتل من آبائهم وإخوانهم وأيضا يبلغ الخبر إلى المسلمين بإهانته وضربه بذلك.
قال الواقدي رحمه الله تعالى ورضي عنه: إنما أراد يوقنا بذلك أن يخلص ضرارا منه وقال في نفسه إذا بات تلك الليلة انكسرت حدة الغيظ من الملك فيطلقه فقال الملك ليوقنا: خذه واحفظه إلى غد فأخذه يوقنا إلى داره وافتقد جراحاته فإذا بها كلها سليمة ما قطع له عصب ولا عرق وذلك من لطف الله الخفي ولما أن رأى يوقنا جراحاته خاطها وداواها وأطعمه وأسقاه ففتح عينيه فرأى يوقنا وولده ولم يكن عنده علم بأن يوقنا قد أتى إلى هذا المحل ليحتال على الملك فلما أن رآهما قال لهما: إن كنتما كافرين فقد سخركما الله لي حتى داويتماني وإن كنتما مؤمنين فمرحبا بكما وهنيئا لكما ولعل الله ببركتكما يجمع شملي بعجوز في الحجاز قد أعلها البكاء والعويل ليلا ونهارا من أجلي وأجل أختي خولة وهي في العسكر ولقد كانت تحسب هذا الحساب لأنني بقية من مضى لها من الأحباب ولقد خفي عليها خبري وأمري فإن قدرتما أن تبلغاها سلامي وتعلماها مقامي وكيف كان للكافرين كلامي فهي ترسل وتعلم أمي وتكاتبها بأمري فلما استراح في الليل قال بالله عليكما اكتبا عني ما أقول لكما فكتب عنه ابن يوقنا وهو يملي له ويكتب حرفا بحرف شعرا:

(1/282)


ألا أيها الشخصان بالله بلغا
...
سلامي إلى أهلي بمكة والحجر
بلقيتما ما عشتما ألف نعمة
...
بعز وإقبال يدوم مع النصر
ولا ضاع عند الله ما تصنعانه
...
فقد خف عني ما وجدت من الضر
بصنعكما لي نلت خيرا وراحة
...
كذلك فعل الخير بين الورى يجري
وما بي وأيم الله موتي وإنما
...
تركت عجوزا في المهامة والقفر
ضعيفة حال ما لها من جلادة
...
على نائبات الحادثات التي تجري
تعودها حب القفار مقيمة
...
على الشيح والقيصوم والنبت والزهر
وكنت لها ركنا تعد رحاله
...
وأكرمها جهدي وأن مسني فقري
وأطعمها من صيد كفى أرانبا
...
من الوحش واليربوع والظبي والصقر
من الضب والغزلان والبهت بعد
...
مع البقر والوحش المقيمات في البر
وأحمي حماها أن تضام ولم أزل
...
لها ناصرا في موقف الخير والشر
وإني أردت الله لا شيء غيره
...
وجاهدت في جيش الملاعين بالسمر
وأرضيت خير الخلق أعني محمدا
...
لعلي أنال الفوز في موقف الحشر
فمن خاف يوم الحشر أرضى الهه
...
وقاتل عباد الصليب بني الكفر
كذا جلت يوم الحرب في كل كافر
...
وجندلته بالطعن في الكر والفر
تقول وقد حان الفرات لحينه
...
ألا يا أخي ما لي على البين من صبر
ألا يا أخي هذا الفراق فمن لنا
...
بحسن رجوع قادم منك بالبشر
إذا سافر الانسان عن أرض أهله
...
فاما رجوع أو هلاك مدى الدهر
إلا بلغاها عن أخيها تحية
...
وقولا غريب مات في قبضة الكفر
جريح طريح بالسيوف مشرح
...
على نصرة الإسلام والطاهر الطهر
إلا يا حمامات الأراك تحملي
...
رسالة صب لا يفيق من السكر
حمائم نجد بلغي قول شائق
...
إلى عسكر الإسلام والسادة الغر
وقولي ضرار في القيود مكبل
...
بعيد عن الأوطان في بلد وعر
حمائم نجد اسمعي قول مفرد
...
غريب كئيب وهو في ذلة الأسر
وأن سألت عني الأحبة خبري
...
بأن دموعي كالسحاب وكالقطر
حمائم نجد خبري الأخت انني
...
قتلت بحد المرهفات من البتر
حمائم نجد عددي عند موطني
...
وقولي ضرار قد يحن إلى الوكر

(1/283)


وقولي لهم إني أسير مقيد
...
له علة بين الجوانح والصدر
له من عداد العمر عشر وسبعة
...
وواحدة عند الحساب بلا نكر
وفي خده خال محته مدامع
...
على فقد أوطان وكسر بلا جبر
مضى سائرا يبغي الجهاد تطوعا
...
فوافاه أبناء اللئام على غدر
إلا فادفناني بارك الله فيكما
...
إلا واكتبا هذا الغريب على قبري
إلا يا حمامات الحطيم وزمزم
...
إلا خبرا أمي ودلا على أمري
عسى تسمح الايام منا بزورة
...
لقلب غريب لا يرام من الفكر
قال الواقدي: لما كتب ابن يوقنا هذه الأبيات كتب أبوه يوقنا إلى أبي عبيدة يعلمه بما يريد أن يدبره وسلمه إلى رجل يثق به وبعثه إلى المسلمين.
قال المؤلف حدثني جابر بن عمران الدوسي ونحن في أرض يقال لها البلاط: إذ جاء معن بن أوس من آل مخزوم ولقد تركه أبو عبيدة في المقدمة فجاء برجل من الروم فقال لأبي عبيدة: خذ هذا إليك فهو يزعم إنه رسول فاستخبره أبو عبيدة في السر فقال أنا رسول إليك بكتاب فقال ممن قال من يوقنا ومن أسير لكم بانطاكية يقال له: ضرار بن الأزور فأخذ أبو عبيدة الكتاب وقرأه على من يعز عليه فبكوا من أبيات ضرار وبلغ الخبر أخته فأتت أبو عبيدة وقالت: يا أمين الأمة اسمعني أبيات أخي فقرأ البعض عليها ولم يتمها فاسترجعت وقالت: أنا لله وأنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فوالله لآخذن بثأره أن شاء الله تعالى وحفظ الناس أبيات ضرار وتداولوها بينهم فكان أشد الناس عليه حزنا خالد بن الوليد.
قال الواقدي: حدثنا عبد الملك بن محمد عن أبيه حسان ابن كعب عن عبد الواحد بن عون عن موسى بن عمران اليشكري عن عامر بن يحيى عن أسد بن مسلم عن دارم بن عياش أن أهل حازم فتحوا قلاعا كثيرة وحصونا منها الراوندات وما سواها من قورص وباسوطا ولم يزل أبو عبيدة سائرا بالمسلمين إلى أن نزل على جسر الحديد وبلغ الخبر هرقل فتمكن الخوف من قلبه وأمر بطارقته بالتأهب للقتال ونصب سرادقاته مما يلي جسر الحديد وضربت الملوك خيامها وفتح الملك هرقل خزائن السلاح وفرقها على رجاله وأبطاله وخلع على يوقنا وقال له: أيها الدمستق قد وليتك على جيشي هذا كله فكن أنت مدبره وسلم إليه صليبا كان في بيعة القيسان لا يخرجونه إلا في الايام العظام عندهم وقال له: أيها الدمستق قدم هذا الصليب بين يديك واعتمد على نصرته فهو ينصرك فأخذه وسلمه إلى ولده وأمره أن يحمله بين يديه فعندها ركب الملك هرقل إلى كنيسة القيسان ومعه الملوك والحجاب حتى يصلي صلاة النصر فلما وصلوا

(1/284)


وصلى الملك جلس وأمر باحضار المائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقربهم قربانا فقبل يوقنا يده وقال له: يا عظيم الروم ما ولاك الله على البلاد والعباد إلا وقد علم أن عقلك يسع ذلك وقد قال ديسقور الحكيم أن العقل مرقى جليل وصاحبه نبيل لأنه عز الانسان ومصباح الانام وأعلم أيها الملك أن العرب قد قصدتنا بعددها وعديدها وقد نزلوا على جسر الحديد ولا بد لنا من القتال والمصاف معهم ولا ندري على من تكون الدائرة فإن قتلت هؤلاء الأسرى ووقع أحد منا بأيديهم فانهم لا يبقون عليه والصواب تركهم إلى أن نرى ما يئول من أمرنا فإن أسروا من أصحابنا أحدا أو من أعياننا نفاديه فقال أرباب الدولة صدق الدمستق في قوله قال البترك أيها الملك أحضرهم إلى هذه الكنيسة فإنها أحسن كنائس بلدنا وأمر النساء والبنات يتزين ويحضرن هنا فإذا هم نظروا إلى نسائنا وحسنهن وجمالهن وطيب رائحتهن مالت أنفسهم إليهن فيرجعون إلى ديننا فيكون ذلك وهنا على المسلمين.
قال فأمر بذلك فلما حضروا رفعت القسوس أصواتهم بقراءة الإنجيل فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا: كذب الجاحدون وضلوا ضلالا بعيدا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله وكان في الأسرى رجل من اليمن من فضلائهم وعلمائهم ممن علم علم الحميرين وقرأ الكتب السالفة وكان اسمه رفاعة بن زهير يقول: الشعر وينظم الكلام وانه لما نظر الكنيسة ملآنة بأهل الكفر ورآهم يعظمون الصلبان ويسجدون للصور قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله كذب العادلون عن الله أصحاب الشيطان وإلا إله إلا الله الواحد الرحمن الذي ليس له أب محسوب وانه فرد صمد لا إلى شيء منسوب ليس له ضد ولا ند ولا حد أوجد الموجودات وصور المخلوقات وخلق الكائنات ودبر الأرض والسموات أول لا افتتاح لوجوده وآخر لا عدم لشهوده لا يموت ولا يفنى ولا يزول ولا يبلى لا شريك له ولا وزير له ولا صاحب له ولا مشير له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال فاضطربت الكنيسة لقوله ومالت القسوس بعكاكيزها إليه فأشارت الحجاب إليهم أن لا يكموه ويتركوه فتفرقوا عنه فقال له الملك هرقل: ما اسمك يا أخا العرب قال: أيها الملك وما تريد من اسمي ولست من جنسكم فتستخبروني فقال البترك صدق أيها الملك ليس هو من جنسنا ولا له علم ولا خبرة فعلام تسأله انما هو بدوي يعلم بسكنى القفار وصحبة الاشرار والحكمة من بلادنا ظهرت وفي حكمائنا اشتهرت لأنها نبعت من اليونانيين ووعاها جدودنا السريانيون من أين للعرب حكمة يتوارثونها وعلوم يتدارسونها والفضائل كلها من علمائنا والعدل في ملوكنا الاسكندر وبطليموس وموريق ويوسطنيوس وأرمويل وانطاميس وأرجاس وجرجس واسطوس واسطانيس وسارغورس النوصيدي وهو الذي بنى انطاكية وسفليوس واريسا وكان نبيا ملكا ويلينوس وهو الذي بنى الرها ومنبج واسطبس وكان

(1/285)


كاهنا وهو الذي اخبر ملك زمانه إنه قد ولد مولود يخاطب الرب ويكون له شأن ونبأ عظيم يهلك على يديه أفلاطون وهو فرعون ومنافسطين الحكيم ومنا فجر العلوم ومنا منتهو وهو الذي بنى رومية الكبرى وباسمه ومناسطاليوس وهو الذي وضع الكتاب الأول الذي فيه حوزة الأرض بجبالها وبحارها وبنائها وصوانها ووصف أمة كل اقليم بألوانها وخواصها ووصف ما في كل اقليم من معدن ذهب أو فضة أو جوهر وأحصى عيون الأرض جميعها بأسمائها وجبالها وأوديتها وشعابها وغدرانها وعجائبها ومنا ايردروس القلنسب الرومي وهو الذي يقول: حشرني الله مع الذين يقال لهم: في الميعاد أدبروا مع ابليس وجنوده إلى النار الم تطهر نفسك أيها المسكين الناظر في كتابي القاري الآبي من ادناس الدنيا وشهواتها المظلمة للنفوس المعوقة للحس الروحاني النوراني أن ترقى إلى عالم عليين فانظر في الحكمة فإنها سلم العالم الروحاني فمن عدمها فقد عدم القرب إلى بارئه ومصوره ومنشئه.
قال الواقدي: انما تكلم البترك بهذا الكلام بين يدي الملك هرقل وهو يظن إنه يطعن في العرب ليسمع جبلة بن الأيهم حكمته وكان جبلة وولده حاضرين وكان بين البترك وبينه عداوة سببها أن البترك كان بنى له ديرا عظيما وجعل له عيدا في السنة تقصده الروم من كل مكان بالنذور والأموال والستور والشموع وكان ذلك كله برسم البترك قال فاعطى الملك لجبلة تلك الأرض التي فيها الدير فتغلب جبلة على الدير وبنى حوله مدينة وسماها باسمه وهي جبلة هذه.
حدثنا سليمان بن عامر عن منصور الجوني قال حجاج بن جريج أخبرني يحيى بن عمارة ابن ابي الحسن قال لما سمع رفاعة بن زهير كلام البترك تبسم من قوله وقال: أيها البترك لقد مدحت أقواما ليس لهم إلى الفضل سبيل ولا فيهم فاضل ولا نبيل ولا من وحد الملك الجليل الذي ليس له مثيل ولا عديل وما الفضل إلا لولد اسمعيل بن ابراهيم الخليل الذي لهم البيت الحرام وزمزم والمقام والمشعر الحرام ومنهم التبابعة والأقيال والحماة والاشبال الذين ملكوا الأرض في الطول والعرض ومنهم الملك الصعب الاسكندر الذي ملك قرني الأرض ودخل الظلمات ودخل في طاعته أهل الأرض وبلغ مطلع الشمس ومغربها وأذل ملوكها وجعل له منهم جندا وأعوانا وسماه الله ذا القرنين ومنهم سبأ بن يعرب بن قحطان وشداد بن عاد وشديد بن عاد وعمرو ذو الأذقان وهو ابن سكسك والهدهد بن عاد ولقمان بن عاد وشعبان بن اكسير بن تنوخ وعباد بن رقيم وهاديل بن عتبان وكان يتكلم بالحكمة ومناجاة موسى بن جلهمة بن سياسة بن عجلان بن ياقد بن رخ وثمود بن كنعان ومنا سبأ بن يشجب وهو أول متوج منا ثم ولى بعده حمير ثم منا تبع وهو متوج ومنا وائل بن حمير متوج ومنا عاد بن حمير متوج ومنا بني الله حنظلة ابن صفوان من أهل

(1/286)


الرس ومنا نفيل بن عبد المدان بن خشدم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود عليه السلام عاش خمسمائة سنة وهو الذي بني المصانع واستخرج الكنوز وقاد الجيوش وورثه الله علم نبيه حنظله بن صفوان وقد ختم الله شرفنا ورفع قدرنا إذ جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منا فنحن السادة وأنتم العبيد.
حدثنا سفيان عن عبد ربه قال أخبرنا رحيم قال حدثنا الوليد بن زيادة عن حزام ابن حكيم قال بلغني أن هذا الرجل يعني رفاعة بن زهير بن زياد بن عبيد بن سرية الجرهمي كان عالما بأنساب العرب وأخبارهم وملوكهم وكان طالع كتب هود وصالح وحنظله عليهم السلام فلما تكلم بحضرة الملك هرقل بهذا الكلام أراد البترك أن يعجزه بسؤال يلقيه عليه فقال: يا ذا الهمم العلية والقرائح الذكية بم تصل القلوب إلى نسيم العقل الروحاني وترقى إلى ملكوت اللاهوت والطيور الخفية الغائبة عن الأبصار بالأقطار وترقى في رياضات الألباب المصفاة من الأدناس والافكار النورانية بصفو اكدار الأخلاف المحيطة بالافكار من الهياكل الجسمانية فعند الصفو من مفارقة الكدر تعيش الأرواح عيشة الأبد الذي لا يصل إليه انحلال ولا اضمحلال فحينئذ يختلط العنصر بالعنصر ويطفو الصفو بالصفو ويرسب الكدر إلى الكدر فقال رفاعة بن زهير ما اصبت أيها البترك في مقالتك فقال: ولم قال رفاعة كيف تدل القلوب إلى علام الغيوب وقد حجب عنها صواب المصيب أم كيف يتخلص الصفو من الكدر بغير تهذيب من الكفر وكيف تحلى الافكار من غوامض الأسرار وهي في حجب الإغترار إذا تناهت الأهوال إلى مفازلتها وقربت الهمم من مواضعها وعادت الفكر إلى عناصرها وعادت متحركات الفكر إلى مساكنها وغاليات الأذهان إلى اماكنها فانحازت الاشكال عن الاشكال بلطف تاثير الهوى فيها وانكبت مشرفة عن هياكلها من اقطار عناصرها قال: أيها البترك هذا كلام العرب الذي زعمت أن الحكمة ليست من أخلاقهم ولا تباع في اسواقهم ولقد كان ملك من ملوك اليمن اسمه سيف بن ذي يزن الذي بشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم بغوامض العلوم الحكمية ووشح بوشاح شكر النعمة ومن جملة ما قال فصيح من فصحائنا اسمه قيس بن ساعدة هذه الأبيات:
إلا اننا من معشر سبقت لهم
...
اياد من الحسنى فعوفوا من الجهل
ولم ينظروا يوما إلى ذات محرم
...
ولا عرفوا إلا التقية في الفعل
وفينا من التوحيد والفعل شاهد
...
عرفناه والتوحيد يعرف بالعقل
نعاين ما فوق السماء جميعها
...
معاينة الاشخاص بالجوهر المجلى
ونعلم ما كنا ومن أين بدؤنا
...
وما نحن بالتصوير في عالم الشكل

(1/287)


وأنا وأن كنا على مركز الثرى
...
فارواحنا في عالم النور تستجلي
وما صعدت كي تستريح وإنما
...
حقيقة ممثول وجلت عن المثل
قال الواقدي: قال أبو سعيد حدثنا شيبة بن أبي عبد الله بن عيسى عن لقية بن هند عن عبد الله بن ربيعة قال قلت لرفاعة بن زهير: لما خلص من قبضة الروم يا عم كيف كان البترك يفهم ما تقول وتفهم ما يقول فقال: يا بني ما رأيت أفصح من اللعين بلسان العربية ولقد سألت عن ذلك من عبد الله يوقنا فقال: أما علمت أن ملوك الروم والبطارقة لا يستقيم ملكهم إلا أن يتعلموا لسان العربية قال: ولما حدث رفاعة المسلمين بمناظرة البترك كتبها كثير من الناس.
قال الواقدي: وكان لرفاعة بن زهير الجرهمي ولد جاهل قال: وكان أسر معه قال: وكان قلبه يميل إلى الكفر وكان رفاعة يدعو عليه فلما حضر الاسارى في كنيسة القيسان واشتغل رفاعة مع البترك بالمناظرة أقبل ولد عامر يحدق بنظره إلى البيعة وزينتها وصورها وصلبانها ويتأمل نسار الروم وزينتهن فبادر إلى تقبيل الصلبان والاشراك بالرحمن فلما رآه أبوه رفاعة بكى وقال: يا ويلك أكفرت بعد الإيمان يا ويلك طردت عن باب الرحمن يا ويلك كفرت بالملك الديان يا طريد القدرة يا من بعد عن الحضرة فيا ولدي ما بكائي على فراقك وإنما إذا سلكت أنا في طريق وأنت في طريق إذا مضيت أنت إلى دار الأبالسة وحشرت مع الرهبان والشمامسة وتكون في طبقة النار السادسة وأنا أمضي مع محمد إلى دار فيها الأرواح مستأنسة يا بني لا تطلب حياة الدنيا يا بني لا تختر شهوتها على الآخرة واخجلني من فعالك إذا وقفت بين يد العزيز الجبار يا بني لقد فضحت شيبة ابيك إذ كفرت بعالم السر والنجوى يا بني لقد خاب أملي فيك والرجاء يا بني كيف طاب قلبك أن تتبرأ من محمد المصطفى يا بني ممن تطلب الشفاعة غدا يا بني غرتك الحياة فصرت تكفر بالعليم يا بني صرت إلى الشقاء من بعد كونك في النعيم يا بني أما تخشى العذاب في الجحيم أما تستحي من أحمد يوم القيامة أما تعلم أن اباك قد غدا من أجل كفرك في هموم اين المفر إذا دعاك الله في اليوم العظيم ويقول: يا عبدي كفرت بواحد فرد يا بني أنت في عيش ذميم أما ابوك فإنه يبقى بعز مقيم أسألك يا ولدي بما قد كان في الزمن القديم من حنوي وتعطفي حال الرضاعة والفطام إلا رجعت إلى الذي غطاك بالستر العميم قال فقيل له أن ولدك قد أغلق الباب عليه وأرخى الحجاب فأمر به البترك فحل من الوثاق وأمر به إلى جرن ماء المعمودية فغمسوه فيه ودارت به القسوس والشمامسة وبخروه ووقعت عليه الخلع منن البطارقة والملوك ووهب له البترك مركبا وجارية ومنزلا وضمه إلى عسكر جبلة بن الأيهم ثم قال البترك يا هؤلاء ما منعكم أن تدخلوا في ديننا كما فعل

(1/288)


صاحبكم قالوا: منعنا من ذلك صحة ديننا وثبات يقيننا وما نحن من الذين يبدلون أيمانهم بالكفر ولو قتلنا فقال لهم البترك: طردكم المسيح عن بابه وابعدكم عن جنابه.
فقال له رفاعة: الله يعلم أينا المطرود ومن هو عن رحمة ربه مبعود فقال هرقل: يا معاشر العرب قد وصل إلينا أن خليفتكم وأميركم يلبس مرقعة وقد وصل إليه من أموالنا وذخائرنا ما يكل عنه الوصف فما منعه أن يتزيا بزي الملوك فقال رفاعة يمنعه من ذلك طلب الآخرة والفزع من جبار الجبابرة فقال هرقل: ما صفة دار أمارته فقال رفاعة مبنية بالطين خالية من الحجاب آنسة بالفقراء والمساكين قال فما بساطه قال العدل والتمكين قال فما سريره قال العقل واليقين قال فما بدلة ملكه قال الزهد والدين قال فما خزائنه قال الثقة برب العالمين قال فمن جنده قال أبطال الموحدين أما علمت أيها الملك أن جماعته قالوا له: يا عمر قد ملكت كنوز القياصرة وذللت البطارقة والأكاسرة فهلا لبست ثيابا فاخرة قال أنتم تريدون زينة الحياة الظاهرة وأنا أريد رب الدنيا والآخرة فلما ابدى هذا القول وأضمر أشار إليه منادي القدرة وبشر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] قال ثم أن الملك هرقل أمر بهم إلى السجن الذي هو في كنيسة القيسان وخرج إلى عسكره ليشرف على الخيام فرأى السرادقات قد ضربت لأن البطارقة ضربت سرادقاتها عند خيامه ونونيا الملوك قد نصبت بازاء كل نونية كنيسة من الخشب المدهون بسائر الأصانيع والنواقيس على ابوابها وكان زي الروم ذلك وهذه البيع والخشب كانوا يتنافسون فيها وفي صنعتها وتكون معهم في أسفارهم وعساكرهم وطاف هرقل على عسكره جميعه وأراد الدخول إلى انطاكية وإذا بفوارس تركض إليه فقالت لهم: الحجاب وأصحاب السرير ما وراءكم قالوا: ملك جسر الحديد منا وقد حصلت العرب منا على داخل الجسر قال فأيقن الملك بزوال ملكه وقال: وكيف ملكت العرب الجسر والبرجين وفيها ثلثمائة من البطارقة الشداد قالوا: أيها الملك أن المقدم الذي على الأبراج هو الذي سلمهم.
قال الواقدي: ومن حسن لطف الله بالمسلمين أن صاحب الملك كان في كل يوم يمضي إلى الجسر ويوصي من في البرجين باليقظة والحرس الشديد وانه مضى في بعض الايام على عادته فوجدهم يشربون الخمر وليس عندهم حفظ ولا حرس فأخذهم وضرب كبراءهم وهم بقتل مقدمهم ثم إنه أمسك عنه خوف الملك فعمل الحقد في قلوبهم فجاءهم يوقنا في بعض الايام يتجسس ليدبر فيه حيلة فرآهم حنقين من صاحب الملك فسألهم فانكروا منه فقال لهم: اطلعوني على خبركم فقالوا له: أتعطينا منك أمانا

(1/289)


فأعطاهم فقالوا: نحن نسلم هذا الجسر للعرب فلما صح عنده ذلك قال لهم: ما مرادكم قالوا: نأخذ أمانا من المسلمين فقال يوقنا أنا أكتب لكم كتابا إلى أميرهم بأن يعطيكم أمانا وأن دخلتم في دينهم فهو خير لكم فقالوا له: وكيف أنت دخلت في دينهم ثم رجعت فقال حاش الله وإنما أتيت أدبرهم على تسليم انطاكية لهم فلما صح عندهم ذلك قالوا: ونحن نسلم إليهم الجسر فلما وافقهم على ذلك كتموا أمرهم فلما قدم المسلمون مضى إليهم صاحب الجسر من غير أن يعلم به أحد وأخذ له ولمن معه أمانا وناوله كتاب يوقنا ففرح المسلمون بذلك بأن يأخذوا جسر الحديد من غير قتال فأعطوا للمقدم أمانا فلما وصل عسكر المسلمين إلى الباب الذي على الجسر فتح لهم فدخلوا فلما سمع هرقل بذلك أمر الناس أن يتأهبوا للحرب قال ففعلوا ذلك.
قال الواقدي: حدثنا ياسر بن عبد الرحمن عن منازل بن نزاف الصيدلاني وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال بلغني إنه لما صار المسلمون بأرض انطاكية قال أبو عبيدة لخالد: يا أبا سليمان قد صرنا بأرض انطاكية بلد كلب الروم والساعة يأتينا عسكره فما ترى من الرأي قال خالد: أن الله قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] الآية فأمر أصحابك أن يتأهبوا ويظهروا زينة الإسلام وقوة الإيمان وسير كل أمير بجيشه ولتكن الكتائب والمواكب يتلو بعضها بعضا قال ففعل أبو عبيدة ذلك وأول من سير سعيد بن زيد أحد العشرة ومعه ثلاثة آلاف فارس فيهم المهاجرون والأنصار وجعله على مقدمة الجيش وسير وراءه رافع بن عميرة الطائي ومعه ألف فارس وسير وراءه ميسرة بن مسروق العبسي في ثلاثة آلاف فارس وسار وراءه خالد في جيش الزحف وسار وراءهم أبو عبيدة في بقية العسكر وكان معه عمرو بن معد يكرب الزبيدي وذو الكلاع الحميري وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وابان بن عثمان ابن عفان والفضل بن العباس وأبو سفيان صخر بن حرب وراشد بن ضمرة وسعيد بن رافع وزيد ابن عمرو ومثل هؤلاء السادات وراءهم النساء اللاتي لهن الأسرى وفيهم خولة بنت الأزور وعفيرة ابنة عفان ومروعة ابنة عملوق وأم ابان بنت عتبة وليس فيهم أشد حزنا من خولة بنت الأزور.
قال الواقدي: ومما بلغني إنها قالت: في أسر أخيها من المراثي المبكيات:
ابعد أخي يلذ الغمض عيني
...
فكيف ينام مقروح الجفون
سأبكي ما حييت على شقيق
...
أعز علي من عيني اليمين
فلو إني لحقت به قتيلا
...
لهان علي إذ هو غير هون
وكنت إلى السلو أرى طريقا
...
وأعلق منه بالحبل المتين

(1/290)


وأنا معشر من مات منا
...
فليس يموت موت المستكين
وإني أن يقال مضى ضرار
...
لباكية بمنسجم هتون
وقالوا: كم بكاؤك قلت مهلا
...
أما أبكى وقد قطعوا وتيني
قال فسار أبو عبيدة في مواكبه كما ذكرنا فبينما الروم في خيامها وعسكرها إذ وقع فيهم الصائح بقدوم العرب فركزوا خيولهم وصفوا صفوفهم فأول من أشرف عليهم برايته سعيد بن زيد وبعده المسيب بن نجيبة الفزازي وبعده ميسرة بن مسروق العبسي وبعده أتى خالد بن الوليد وبعدهم أبو عبيدة في مواكبه فنزل كل أمير بقومه فلما نظر هرقل إليهم وإنهم قد نزلوا بفنائه وبنائه ترك على حفظ جيشه صاحبه الأكبر نسطاروس بن روميل وكان من شجعان الروم ودخل إلى كنيسة القيسان وجمع الملوك والبطارقة والسريرية والحجاب وقام هرقل فيهم خطيبا وقال: يا أهل يدين النصرانية ويا بني المعمودية قد قرب ما حذرتكم منه من زوال ملككم وذهاب عزكم من أرض سورية وقد كنت حذرتكم من زوال ملككم ومن هذا المقام فلم تقبلوا مني وأردتم قتلي وهؤلاء القوم قد دخلوا بدار ملككم ورياح عزكم فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم وأنفسكم وإياكم والفشل لا يلحقكم في الجهاد فقد جاهدت عنكم جهدي وأتلفت أموالي وخزائني ورجالي عن دينكم وملككم فلم تصادفني مساعدة ولا أدركت من القوم فائدة فإن أنتم فشلتم وتقاعستم ولم تجردوا لهؤلاء العرب سيوف العزم وإلا كان العار عليكم والذلة تصل إليكم أين أبناؤكم ومن سلف من آبائكم ماتوا كراما غير لئام وسكنت ديارهم العرب اللئام وكنائسهم صيروها جوامع وأخربوا البيع والصوامع وأذلوا ملوككم واستعبدوا ابناءكم ونساءكم وملكوا قلاعكم واستولوا على حصونكم ومدائنكم وقد مضى ما مضى فاستأنفوا الأمر وقاتلوا فكم هلك من الأمم قبلكم على ممالكهم وعلى الغيرة على حريمهم ولقد كانت حكمتي أنتجت لكم أن تنسجوا على منوال المصحالة بينكم وبين هؤلاء العرب فأبيتم ذلك لأن ظلمة جهلكم قد أطفأت نور الحكمة أما علمتم إنه قد وجد لوح من الحجر على قبر طفيماون تلميذ اقيانوس وفيه مكتوب الحكمة سلم العالم الأعلى من عدمها فقد عدم القرب إلى بارئة الحكمة حياة القلوب وبغية الأذهان نزهة النفوس ونور العقول من لم يكن حكيما لم يزل سقيما من تدبر نظر ومن نظر عرف ومن عرف عمل ومن عمل انفتح ذهنه وعقله ومن انفتح عقله صفت نفسه فقام إليه جبلة بن الأيهم وقال: يا عظيم الروم انما قتال هؤلاء العرب بقتل خليفتهم عمر بالمدينة فلو أنت أرسلت إليه رجلا من آل غسان يقتله فيكون سبب فشلهم وانتزاع الشام من أيديهم فقال هرقل: هذا شيء لا يصح امله ولا ينقضي أجله لأن الآجال مقدرة والأنفاس مقررة ولكن هو شيء تطيب النفس عند

(1/291)


سماعه فافعل ما أردت قال فأرسل جبلة من قومه رجلا يقال له واثق بن مسافر الغساني وكان جريئا مقداما في الحروب فقال له: انطلق إلى يثرب فلعلك تقتل عمر فإن أنت فعلت ذلك فانا اعطيك ما أردته من الأموال قال فانطلق واثق بن مسافر حتى دخل المدينة ليلا فلما كان الغد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس صلاة الصبح ودعا وخرج إلى ظاهر المدينة يتنسم اخبار المجاهدين بالشام قال فسبقه المتنصر وجلس له بأعلى شجرة من حديقة بن الدحداح الأنصاري واستتر بأغصانها ثم أن عمر قام عن ظاهر المدينة حين حميت الرمضاء وعاد وهو وحده فقرب من الحدية ودخلها ونام في ظلها فلما نام هم المتنصر بالنزول من الشجرة وجرد خنجره وإذا هو بأسد أقبل وهو بقدر البقرة الكبيرة وطاف حول عمر وجلس عند قدميه يلحسهما واقام حتى استيقظ فعندها نزل المتنصر وقبل يد عمر قال له: يا عمر قد عدلت فأمنت بأبي والله من الكائنات تحفظه والسباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه ثم حدثه بأمره وأسلم على يديه.
قال الواقدي: وكانت هذه الفعلة قبل نزول المسلمين على انطاكية.
حدثنا أبو محمد قال أخبرني ابي عن حسان عن السدي عن يحيى الواقدي عن شهر بن عباس البيروتي أن عمر حدثه عن نزول أبي عبيدة بالمسلمين على انطاكية قال: وعظ هرقل قومه بكنيسة القيسان واستحلفهم إنهم لا ينهزمون أو يموتوا عن دم واحد فحلفوا وخرجوا مع الملك إلى عسكره وقد رفعت الصلبان وقرأت القسوس والرهبان وارتفع الضجيج من أهل الكفر والطغيان واصطفوا للقتال وكان المسلمون قد رتبوا صفوفهم وأوقفوا كل أمير في مكانه ونشرت الرايات والأعلام وأشار أبو عبيدة إلى ربيعة بن معمر الشاعر وكان لسنا فصيحا لا يتكلم إلا بالكلام المنظوم فقال له: يا ربيعة فوق سهام لفظك ووعظك إلى المجاهدين وحرض المسلمين على قتال المشركين قال فتقدم ربيعة أمام الصفوف وكان جهوري الصوت يسمعه القريب والبعيد فقال: أيها الناس إلى متى هذه المهلة فتاهبوا للحملة فهذه طيور الأرواح قد عولت على فراق أقفاص الاشباح وقد ارتاحت إلى باريها وأجابت صوت مناديها وها هي تخاطبنا بلسان اشارتها عن نطق عبارتها ما هذا الوقوف على بذل أنفسكم وقد اشتراها مؤيدكم افركنتم إلى حب الحياة الفانية والأنفس الدانية وهذه أوقاتكم بالنصر مؤيدة وهمتكم عن طلب زينة الدنيا متحيدة والمواعظ الصادقة بكلام الحق مقيدة اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وهذه طوالع سعودنا بالأقبال طالعة وشجرة آمالنا بالتأييد يانعة فلله درهم فلقد ظهرت زهرة نجوم المحبة في أفلاك راياتهم وتبلج فجر العشق في سماء سماتهم واشرقت شموس المعرفة في مشارق عشقهم فلما هموا بالحملة بأجمعهم

(1/292)


واصطفوا وقدموا همم النفوس في رضا الملك القدوس واستبقوا وزاحموا بعضهم بعضا ولم يرفقوا نودوا من صفاء اسرارهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} [الأحزاب: 23].
قال الواقدي: رحمه الله حدثني زيد بن اسماعيل الصائغ عن جعفر بن عون عن عياش ابن ابان عن جابر بن أوس قال كنت حاضرا في مصاف أبي عبيدة على انطاكية حين وعظنا بسجعه ربيعة بن معمر فكان أول من خرج من الروم للبراز شجاع الروم نسطاروس بن روبيل وهو كأنه برج من حديد فلما توسط الميدان طلب البراز فخرج إليه دامس أبو الهول مولى بني طريف فاتح قلعة حلب وهو يومئذ فارس غطريف فحملا على بعضهما فلما اشتعلت نار الحرب بينهما عثر جواد دامس فسقط على ظهره فانقض عليه نسطاروس وأخذه أسيرا وقاده ذليلا ورجع إلى الميدان فخرج عليه الضحاك بن حسان الطائي وكان يشبه خالدا في حملاته وخفته فلما برز قال قائل من الروم ممن شاهد قتال خالد في المواطن وعرفه هذا فارس الشام والمسلمين الذي فتح بلادنا فصار كل من في انطاكية ينظر إليه وهم يظنون إنه خالد فازدحمت خيل المشركين من كثرة النظر إليه فقطعت حبال السرادقات التي لنسطاروس وغيروا سريره فخاف الغلمان على أنفسهم وسرادقاته على ذلك وإذا رآها على تلك الحالة قتلهم ولم يجدوا أحدا يعينهم على رفع السرادق لأن كل من في العسكر مشغول بالفرجة على نسطاروس مع خصمه فاتفق اثنان من الفراشين وكانوا ثلاثة على حل دامس أبي الهول وقالوا له: نحن نحلك من وثاقك وتعيننا على شيل عمود هذا السرادق ونعيدك إلى الوثاق فإذا جاء البطريق نشفع فيك فإنه يخلي سبيلك فقال: نعم فحلوه من وثاقه فعندها قبض على الاثنين كل واحد بيد وضرب واحد بواحد فصرعهما فماتا فهجم على الثالث فقتله وفتح صندوقا من الصناديق فوجد فيه ثياب نسطاروس فلبسها وركب من الطوالة جوادا من خيارها وأخذ بيده قنطارية وسيفا ولثم وجهه وقصد عسكر المتنصرة ووقف إلى جانب حازم بن عبد يغوث وهو ابن عم جبلة وكان قدمه على عسكر المنتصرة وجبلة وولده وبنو عمه في موكب الملك.
قال الواقدي: ولم يزل القتال بين نسطاروس والضحاك بن حسان إلى أن كل الجوادان ولم يقدر أحد منهما على صاحبه فافترقا وعاد نسطاروس إلى سرادقاته ليستريح فوجد السرادق على الأرض والفراشين قتلى ولم ير دامسا فعلم أن المصيبة من قبله فمضى إلى الملك وأعلمه بذلك فقال: وحق المسيح ما هؤلاء العرب إلا شياطين قال: وهرج العسكر بصنع أبي الهول فقال الملك هو الآن في عسكرنا وما رأيناه خرج وما هو إلا مختف في عسكر المتنصرة لأنه من جنسهم فلما رأى دامس هرج عسكر الروم وأن ذلك بسببه انتضى سيفه على حين غفلة وضرب به حازم بن عبد يغوث فرمى

(1/293)


رأسه عن بدنه فبهتت المتنصرة من فعله وأمسك الله عنه ايديهم ودهشوا لذلك وأطلق جواده وطلب عسكر المسلمين فلما راوه صاحوا بالتهليل والتكبير فأتى إلى ابي عبيدة وأخبره بما وقع له مع القوم فقال: لا شلت يداك قال: وبلغ الخبر جبلة من قتل ابن عمه حازم فغضب وأتى إلى هرقل وصقع له وقال: يا عظيم الروم أنا لا أقدر على الصبر ولا بد لنا من الحملة على هؤلاء الذين قد تعدوا طورهم وجهلوا قدرهم فاراد الملك أن يأمرهم بالحملة وإذا قد اقبلت عليه خيل تركض فقال لهم: ما وراءكم قالوا: أيها الملك إنه قد قدم إلى نصرتك فلنطانوس بن سطانيوس بن أرمونيا صاحب المدائن ورومية الكبرى وباسم جده سميت وكان قدج وضع فيها هيكلا عظيما يسمى أبا سرفيا وكان به صورة من نحاس مطلية بالذهب الأحمد ولذلك الهيكل سبعة أبواب من الذهب على كل باب هيكل مدور على رأسه شخص آدمي وبيده عدة الواح من الذهب وفي كل عام يعلق منها لوح على الهيكل تلقاء الشمس ثم ينظر كاهن ذلك الهيكل في ذلك اللوح فيعلم ما يجري في الإقليم المختص بذلك اللوح وكان كل لوح مختصا بأقليم من الأقاليم السبعة وكذلك لكل هيكل من تلك السبعة هياكل فيعلم أهل رومية الكبرى ما يجري في العالم بما وضعه حكماؤهم الأقدمون وفي وسط تلك السبعة هياكل قبة مثمنة على ثمانية عمد من نحاس اصفر مطلية بالذهب محوط به سور مرقط ببياض وفيه بابها الأعظم وعلى رأسها صورة من حجر لا يعلم ما هو بل الحجر أسود فإذا كان استواء الزيتون في مشارق الأرض ومغاربها يسمعون من تلك الصور صوتا هائلا تكاد القلوب تتفطر منه فإذا كان الغد تأتي من آفاق الأرض زارزيرها وكل زرزور حامل ثلاث زيتونات واحدة في منقاره واثنتان في رجليه فيلقونها على رأس تلك الصورة فلا تزال كذلك حتى يمتلىء ذلك المكان العظيم قال فيعصرون منه زيتهم وما يأكلون من العام إلى العام وكان في داخل الهيكل الأعظم بيت مقفل لم يفتح منذ بنيت رومية ولما أراد فلنطانوس الملك النهوض إلى نصرة هرقل احتاج إلى مال يصرفه على عسكره فأتى إلى ذلك البيت المقفل وهم بفتحه فقال له عظماؤه وعطماوس وهو القيم على أمر الهياكل كلها أيها الملك أن هذا البيت منذ أقفل تاريخه سبعمائة سنة وذلك من قبل ظهور المسيح بمائة سنة وسبعين وما أحد من أجدادك تعرض إليه ولا أحد ممن ولى أمر هذه الكنيسة إلا ويوصي على هذا البيت أن لا يفتح فلا تزل حكمة اسسها من كان قبلك من الحكماء والملوك وقد بنى هذه المدينة وأسس هذا الهيكل وهذا البيت وهو بيت جدك رسيوي بن قطاوس وبقي في ملكه على ما بلغنا ثلثمائة وسبعين سنة ووصي كوصية أبيه وتولى عليه أحد أجدادك حتى وصل إليك هذا الملك ولك فيه مائة سنة فلا تزل حكمة أجدادك اجدادك الذين اسسوها وطلاسم وضعوها قال فأخذه اللجاج في فتحه فلما فتحه لم يجد فيه شيئا إلا إنه رأى في البيت صورة القدس مدن الشام وصفة ملوكهم وعددهم

(1/294)


وفي آخرهم صورة ليطن وهو هرقل كأنه ينظر في اللوح مكتوب باليونانية يا طالب العلم عليك بكثرة القراءة فإنه كلما تكرر مرور النكت على مسامع من يتعلمها كان ذلك أشد لثبوته وأحكم لتصريفه إذ العلوم كلها انما تستخرج بالعقل والقياس وإنما يكون بكثرة الرياضة والعلم مطية التدبير والتدبير موضع العلم والعلم موضع العقل هذا هو المتمم لاشكال العلوم وقد رأينا في الحكم والأسرار الخفية أن صاحب الغمامة إذا خيمت على صفحة الأرض وحلت الضلالة خرج مصباح الهداية من أرض تهامة فيذهب بظلام الجهل المظلم للحس ويدعو الناس بدينه إلى توحيد الصانع وهو صاحب الجمل الأورق فيذهب بالأديان والملك يضيق لدعوته السهل والجبل فإذا غلب نوره على كل كثيف انتقل إلى العلم الروحاني وولى بعده رجل نحيف الصورة قلبه منور بنور الصدق يشيد ملته ويصدق شريعته وويل للشام مما يحل بها من الرجل الأحور الذاهب بملك قيصر وهو الرجل الكثيف صولته الربعة صورته العدل صفته والحق منقبته جبته مرقعة وسيفه درته في أيامه تذهب الدول وتتحول وتضمحل وتزول وأوانه إذا فتح هذا البيت المصور بالحكمة المحفوظ بحفظ النعمة فطوبى لمن رسخت الحكمة في قلبه وأشرقت مصابيحها في لبه وأتبع الحق وعرفه وجانب الباطل وخالفه قال فلما قرأ فلنطانوس ما في اللوح أخذه العجب وقال لعطماوس قيم الهياكل أيها الأب الشفيق ما تقول في هذه الحكمة قال: أيها الملك وما عسى أن أقول في حكمة وضعتها العظماء وعلمت بها الحكماء وإنما العلوم غامضة يصل إليها الخبر الجوهري بنور العقل وإنما أرى أن دولة هرقل وهي عز دولتها وانهدت أركان ملكه من أرض سوريا وانتقل ملك الروم إلى ارض اسطور يعني قسطنطينية وبذلك أخبر مهراييس الحكيم في كتابه العزيز الذي وضعه وسماه اسلاوس يعني جواهر الحكمة ومن جملته إذا ظهر نور اليتيمة المصفاة من الأدناس من جبال ثاران تصفت الأذهان بنور حكمته وانصرفت الظلمة المتكاثفة في سماء الجهل بقوة عزيمته ودعا الناس إلى لطيف دعوته وقادهم بأزمة لطافته فيعلو على الافلاك فويل لأرض ايليا من صولة صاحبه المتوشح بوشاح الهيبة المتوج بتاج العقل صاحب فتوح الأرض ومذل ملوكها العدل فسطاطه والمرقعة لباسه في زمانه ينكسر الصليب وتخرج الهياكل وتندرج المذابح ويذوب ماء المعمودية فلا نجاة من صولته إلا باتباع شريعته وصاحبه قال فلما سمع ذلك فلنطانوس من القيم على الهياكل كتم الأمر في نفسه وقال: لا بد لي من النظر إلى العرب والمسير إليهم والى نصرة الملك هرقل وقد وصل إلى كتاب البترك وندبني إلى نصرة دين المسيح فإن تأخرت حرمني ثم إنه اختار من جيشه في رومية ثلاثين ألفا وهم الكرجية وولى في موضعه ولده استفليوس وهو مثلث النعمة واستخرج من بيت الحكمة رايات الاسكندر اليوناني وكانت منسوجة بالذهب واللؤلؤ التي نشرها يوم فتحت الواحات من أرض باليوس وكانت لا تنشر إلا في يوم واحد في

(1/295)


السنة ببيعة أيا صوفيا وهو يوم عيد الصليب والشعانين قال فلما رفعت على رأس فلنطانوس سار حتى ورد انطاكية ونزل على باب هاوس ومعناه باب فارس قال: وركب الملك هرقل في موكبه إلى لقائه وضربت سرادقاته بازاء سرادقات هرقل وفرحت الروم وتفاءلت بالنصر وضربت النواقيس ووقعت ضجة عظيمة في جيوشهم وارتفعت أصواتهم وجاءت عيون المسلمين فاخبروهم بقدوم صاحب رومية فرفع أبو عبيدة كفه إلى السماء وقال اللهم أن أعداءك يستنصرون علينا بكثرة عددهم وتزايد مددهم فشتت كلمتهم ودمر جيوشهم وزلزل أقدامهم وعسر ايامهم واجعل كلمتنا العليا وكلمتهم السفلى وانصرنا كنصر نبيك في يوم الأحزاب اللهم رد كيدهم في نحرهم وانصرنا عليهم قال: وأمنت المسلمون على دعائه.
قال الواقدي: حدثنا ابراهيم بن العلاء عن أبي يوسف الكندي عن ابي جعفر الدارمي عن الربيع بن أنس عن جعفر بن ميسرة قال قال لي عمي لما قدم صاحب رومية بجنوده خاف المسلمون ولكن ثبتهم الله وبعث أبو عبيدة معاذ بن جبل ومعه ثلاثة آلاف وقال له: يا صاحب رسول الله أن الروم قد تجمعت من سواحل البحر لنصرة دينها فانهض وشن الغارات على بلاد السواحل واحتفظ أن تؤتي المسلمون من قبلك قال ففعل ذلك معاذ وسار إلى جبلة واللاذقية فاحتوش أموالها وأخذ غنائمها ووجد على باب جبلة عنان بن جرهم الغساني ابن عم جبلة بن الأيهم ومعه ألف دابة محملة برا وشعيرا لعسكر الكفر وقد جمعها من طرابلس وعكا وصور وصيدا وقيسارية وقد بعث بها قسطنطين بن هرقل إلى ابيه فلما وصلت مدينة جبلة سلمها العرب المتنصرة لابن عم جبلة وعادوا فوقع بها معاذ رضي الله عنه فأخذها ورجع قافلا إلى عسكر المسلمين فلما رأوها رفعوا اصواتهم بالتهليل والتكبير فسأل هرقل عن ذلك فاخبروه بما وقع فغضب على أخذ الميرة التي تتقوت بها عسكر أعدائه فقال لبطارقته ما بقي بيننا وبين هؤلاء إلا المصاف ويعطي الله النصر لمن يشاء ثم إنه أمر عساكره بالأهبة للقتال ثم إنه ركب والى جانبه فلنطانوس صاحب رومية وصاحب مرعش وصاحب قلعة اسكبادنيس وهي قلعة الروم وصاحب طرطوس وصاحب مصيصه وصاحب قونية وصاحب ماصر وصاحب اقصرا وصاحب قيسارية الروم الأقصى وصاحب قوماط وصاحب انطرانه وصاحب طبرزند وجبلة ابن الأيهم.
قال الواقدي: واقبل يوقنا يرتب الصفوف في الحرب فلما وقف كل ملك بجيشه وكل بطريق بأصحابه أراد فلنطانوس ملك رومية أن يتقرب إلى هرقل بمبارزة العرب فصقع له على قربوس سرجه وقال: أيها الملك ما تركت ملكي واتيت إلى خدمتك من مائتي فرسخ إلا حتى ارضي المسيح وأخدمه بين يديك وأن كل عسكرك قد قاتلوا

(1/296)


وجاهدوا وأريد أن ابرز في هذا اليوم إلى هؤلاء المحمديين واشفي فؤادك وفؤادي منهم فاراد الملك أن يطيب قلبه فقال له: الزم مكانك ولا تخرق بحرمتك وحشمتك حشمة الملوك فأنت أقدم مني في المملكة فدع غيرك يكون لهذا الأمر فما بلغ من شأن العرب أن تخرج أنت إليهم بنفسك فقال فلنطانوس أيها الملك وأي حشمة بقيت لنا مع هؤلاء وقد أهملوا عزنا وأذلوا أعز ديننا والجهاد مفروض على كبيرنا وصغيرنا أما علمت أيها الملك إنه من نظر إلى الدنيا بعين المحبة جذبته الشهوات إلى الغلو في محبتها والتعلق بزخارفها فإذا فعل ذلك ركب غيم كثافه الجهل على صفحة صدره فمنعه ذلك عن طلب معاده ومن سارع إلى طاعة خالقه بترك شهواته ارتقى إلى دار دائرة القدس في محل الانس ولما علم القديم الأزلي بركون أنفسكم المحجوبة بحجاب الغفلة إلى طلب ما يفني سلط عليكم أضعف أمة قد أخرجتكم من دياركم وأبعدتكم عن أوطانكم وما ذاك إلا لخلودكم إلى الأهواء الجاذبة إلى مهاويكم والى ادراك المهالك لأنكم حكمتم بغير الحق واجترأتم على الرعية بطلبكم منهم ما ليس لكم بحق والجور في أخذ أموالهم وفساد أحوالهم وكثرة الزنا وأتباع الخنا فلاجل ذلك لم تنصروا ودارت دائرة السوء عليكم قال ثم تكلم صاحب الملك هرقل الكبير واسمه سروند وصاح عليه وقال له: أيها السيد لا تحمل على قلب الملك من كلامك ما لا يطيق في مثل هذه الساعة فقد وعظه من هو أكبر منك فلم يسمع قوله قال فغضب فلنطانوس من صياح الحاجب عليه وكتم أمره إلى الليل فلما مضى من الليل ربعه طلب حجابه وخواصه وقال لهم: ارضيتم أن يزعق علي حاجب هرقل ويوبخني بين الملوك وأنتم تعلمون أن بيتي أعظم من بيته ونسبه أدنى من نسبي وملكي أقدم من ملكه ولقد قال قسيس حكيم بلاد الذكر المشهور بحكمته وهو الذي وضع المنار الأعظم في يوم كبير كان بين بلاد الجرامقة وبلاد الانجار وهي مسيرة أثني عشر يوما ولا يصل إلى أرضها إلا بعد عناء كبير فاحتفر لها بئرا ووضع في وسطها عمودا على راس حجر يدور من صنعة حكمتها يسمع له من حده النداء من حوله ويرشح له بقدر ما يملأ ذلك الجرن العظيم فإنه قال: لا تسع بقدمك إلى من يراك دونه فتصغر عنده واجعل عز نفسك في مقابلة كبرياء عجبه فإن عزه النفوس تقابل جاه الملوك ولا تصنع صنيعك لغير مستحقه لانها تجلب عليك السوء من قبل ذلك فإن ذلك الأحسان لا يزكو إلا عند ذوي الأصول فإنه يندسج عند السفهاء والأرذال لا تصنع إليهم النصيحة فانك أنت تطلب منفعته وهو يريد هوى نفسه بأذيتك وقد جئنا من مائة فرسخ واكثر إلى خدمة رجل يرى أننا قد قصدنا داره وتاج عزه واننا نحن من جملة خدمه وأن نور العقل المجوهر للحس يمنعني من اتباع الجهل المظلم للحواس وأن نفسي تابى ذلك والعز محل جليل ومقام نبيل والذل وبيل وصاحبه قليل وقد عولت أن أسير إلى هؤلاء العرب وأختبر ملتهم فإنها هي المله الواضحة بالحق المؤيدة بالصدق ومن كان

(1/297)


عليها أمن في معاده من الهول الأكبر فما أنتم قائلون قالوا: أيها الملك وكيف تطيب نفسك بترك دينك وملكك وعزك وتتبع هؤلاء وهم لا فضل لهم ولا عندهم حكمة فقال فلنطانوس أما الحكمة البالغة فعندهم مقرها وفي نفوسهم موطنها لأن نور توحيدهم صفى أذهانهم ونور ايمانهم ببركة صاحبهم المسمى في علوم الغيوب لأن مغناطيس حكمته الربانية جذب جوهر عقولهم إلى متابعته والإقتداء بشريعته ومن أراد أن يلقى عالم عليين فلا يقعد على صفحة أرض الجهل أما علمتم أن النور أنور من الظلمة والموت نهار الحياة قال فلما سمعوا قوله قالوا: أيها الملك نحن ما نمنعك من عز دائم يخرجنا من الذل ومهابة الغلبة فإذا كنت تطلب بنا طريقا يؤدي إلى البقاء ويذهب بالشقاء فالحق اتباع الحق ونفي الباطل فنحن لك وبين يديك قال فخذوا على أنفسكم فإذا كانت ليلة غد ركبنا كأنا نطوف حول البيت نحرسه ونطلب جيش العرب قال ففعلوا ذلك وأخذ فلنطانوس في أمره قال ابن وهب وابن صالح عن أبي موسى الاشعري قال لما عزم أن يسير إلى جيش المسلمين أتى إليه يوقنا برسالة الملك هرقل فلما ادى الرسالة وهم بالقيام قال له فلنطانوس: من أنت من الحجاب قال أنا يوقنا صاحب حلب قال: وكيف تركت بلدك قال استولت عليها العرب وحدثه بحديثه فقال فلنطانوس وما الذي ظهر لك من هؤلاء العرب قال: أيها الملك إني دخلت في دينهم واطلعت على أمرهم وكشف سرهم فرأيت القوم لا يستمعون إلى الباطل ولا يحيدون عن الحق ولا ينامون الليل من كثرة اجتهادهم ولا يتكلمون بغير ذكر ربهم ينصفون المظلوم من الظالم ويواسي غنيهم فقيرهم الأمراء منهم في زي المساكين والعزيز والذليل عندهم سواء فقال له فلنطانوس: فإذا وقفت على سرهم ورأيت فضلهم فما منعك أن تقيم عندهم وبينهم فقال يوقنا منعني من ذلك صحة ديني وصحبة قومي لاني لم أر فراقهم.
قال فلنطانوس أن النفوس الزكية الباقية إذا رأت الحق جذبها جاذب اليقين إلى حضرة طلب الإخلاص من المعيشة الذميمة إلى أن ترقى إلى أعلى عليين قال فخرج يوقنا وقد رسخ كلام فلنطانوس في قلبه فقال: والله ما تكلم بشيء إلا وهو منقوش على صفحة صدري وكلامه يشهد بقبول عقله لصحة دين الإسلام وأقام يوقنا على قلق من ذلك حتى اقبل الليل فأتى إلى فلنطانوس فرآه وهو على نية الركوب إلى ما ذكرناه فلما وقف بين يديه صقع له فقال له فلنطانوس: باي حجاب حجب الله الظالمين عن اتباع سبيل المتقين فالحق واضح لمن طلبه والباطل خفي عمن اتبعه فقال يوقنا أيها الملك ما معنى هذا الكلام الذي اشرت إليه فقال لو إنك رأيت بعين البصيرة لما رجعت عن ملتهم ولا أردت بدلا غيرهم وإنما أنت طلبت نعيما يئول إلى الزوال إلى النكال قال فسكت يوقنا وخرج من عنده وجعل يتجسس عليه ومضى ووقف على الطريق الذي

(1/298)


يمضي إلى المسلمين فركب فلنطانوس وخرج من سرادقة فوجد بني عمه قد أخذوا أهبتهم وهم أربعة آلاف فارس وقدموا عزمهم وساروا يدا واحدة يطلبون جيش الموحدين وقد تركوا عزهم وفارقوا دينهم فلما قربوا من جيش المسلمين ظهر لهم يوقنا وبنو عمه المائتان فقال يوقنا لفلنطانوس أيها الملك عولت على أن تكبس المسلمين فقال: لا والقديم الأزلي وإنما أنا قاصد إليهم وداخل في دينهم وملتهم وأكون من جملتهم فمن نظر إلى الدنيا بعين الفناء عمل للآخرة فما الذي يمنعك يا يوقنا مما نحن عولنا عليه فقال يوقنا أيها الملك لقد جذبك جاذب الحق عن طريق الضلال ثم إنه حدثه بحديثه وانه عازم على أن يغدر بالروم فقبله فلنطانوس وفرح بمقالته وقال له: كيف تقدر على ذلك وما أرى معك إلا نفرا يسيرا فقال: أيها الملك أن في داخل بيتي مائتين من المسلمين من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام عشرين ألفا من الروم ولقد رأيت أن تعود أنت وقومك ولا تستعجل ونبعث رجلا إلى أمير المسلمين يخبره بما نحن معولون عليه فإذا كان غدا تقف أنت وجيشك حول الملك هرقل وأدخل أنا البلد واطلق المائتي اسير واعطيهم سلاحا ويحمل جيش العرب وتحمل أنت وعسكرك على مركب هرقل وتقصده بنفسك فتقبض عليه وتكون قد جاهدت وأسير أنا ومن معي في داخل البلد فنملكها أن شاء الله تعالى وأن أردت أن ترجع إلى دار ملكك ويكون أمرك مكتوما علينا فحول أمر جيشك لمن تثق به من بني عمك قال فلنطانوس ما فعلت هذا ولي نية في ملكي ولا في ملك الدنيا بل إذا قضى هذا الأمر ونصر الإسلام قصدت مكة فأحج وأزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم أرجع إلى بيت المقدس فأقيم فيه إلى أن أموت فمن يذهب إلى أمير العرب برسالتي ويخبرهم بما قد عولنا عليه فقال له: يوقنا اعلم أن لهم عندنا عيونا وجواسيس ممن هو تحت ذمتهم وأنا أعلمهم بما قد وقع قال فبينما هم في الكلام تحت ستر الليل وإذا بشيخ قصد إليهما فتأمله يوقنا فاذ هو عمرو بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على يوقنا وعلى من معه وقال ليوقنا أن الأمير أبا عبيدة يقول لك: جزاك الله خيرا عن الإسلام وانه راى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من أمر صاحب رومية وما تحدثتما به وما وقع له مع قومه وما عزمتم عليه وبشره بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تاخر وقد تفتح انطاكية ويزول عز الروم عنها وينتزع ملك صاحبها.
قال الواقدي: فتهلل وجه فلنطانوس فرحا وازداد ايمانا وقال الحمد لله الذي هدانا للاسلام والإيمان.
قال الواقدي: وذلك أن أبا عبيدة رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: يا أبا عبيدة ابشر برضوان الله ورحمته وغدا تفتح أنطاكية صلحا وأن صاحب رومية

(1/299)


المدائن الكبرى قد جرى من أمره كيت وكيت هو يوقنا صاحب حلب وهما بالقرب منك فأنفذ إليهما بنجاز الأمر قال فاستيقظ أبو عبيدة وقص رؤياه على خالد وأنفذ عمرو بن أمية كما ذكرنا قال فلما سمع فلنطانوس ذلك اقشعر جلده وارتعدت فرائصه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن هذا الدين هو الحق اليقين ثم إنهم عادوا وطافوا بجيش الملك كأنما يحرسون فبينما يوقنا قد ذهب بأصحابه من عند صاحب رومية وقد قوي عزمهم على ما ذكرنا من أمر كبسهم الملك وإذا بالحاجب قد لقيه والمشاعل بين يديه وقد خرج من انطاكية ومعه ضرار بن الأزور ورفاعة بن زهير والمائتا اسير وقد عول على قتلهم وأن يرمي غدا برؤوسهم إلى المسلمين فلما سمع يوقنا ذلك ضاقت الدنيا عليه وقال له: أيها الحاجب الكبير أنت تعلم أن المصاف غدا واقع بيننا وبينهم فإن أنتم قتلتم هؤلاء ورميت برؤوسهم إلى المسلمين فانهم لا يقعون بأحد منا فيبقون عليه فاتق الله ولا تعجل بذلك ودعهم عندي وراجع الملك في امرهم إلى أن نرى ما يئول أمرهم إليه قال فتركهم الحاجب عند يوقنا ومضى إلى الملك وأخبره بما قال يوقنا فقال له: دعهم عند الدمستق فرجع إليه وقال له الملك: يقول لك: احتفظ عليهم فأمرهم لك فاخذهم يوقنا وسار بهم إلى خيمته وصعب عليه اخراجهم من انطاكية لأنه كان قد عول على أن يملك بهم البلد فلما حلوا في خيمته حلهم من الوثاق وسلم إليهم العدد وأخبرهم بما قد عزم عليه هو وصاحب رومية من القبض على الملك هرقل فقال ضرار والله لأرضين الرب غدا بجهادنا وكانت قد ختمت جراحاته لأنه كان في الأسر ثمانية أشهر وفرقتم مع بني عمه.
قال الواقدي: حدثنا أبو محمد عن سعيد بن ابي مريم عن يحيى بن ايوب عن عبد الله بن مسعود أن الذي أمر باخراج الأسرى لم يكن هرقل وإنما كان مملوكه الخاص واسمه تاليس بن رينوس وكان قد البسه تاجه ومنطقته وكان اشبه الخلق به وقال له: كن غدا مكاني فاني أريد أن أكيد العرب وأكمن خلفهم وما ذاك إلا إنه رأى في نومه كأن شخصا قد نزل من السماء وقلبه عن سريره وكأن تاجه قد طار من على رأسه وكأن شخصا يقول له: قد قرب ما بعد وقد زال ملكك من سورية وقد ذهبت دولة الشقاق والنفاق وجاءت دولة الوفاق وكأن ذلك الشخص قد نفخ في عسكره فأوقد نارا فاستيقظ مرعوبا وفسر منامه على نفسه بزوال ملكه وكان قبل نزول العرب قد عبى خزائنه وجمع ما يخاف عليه من التحف ووضعها في المراكب من حيث لا يعلم بذلك أحد من دولته وعبى الزاد والماء ثم إنه ارسل أهل بيته في تلك الليلة بعدما رأى في المنام ولم يدع من حريمه وأولاده وعياله أحدا وبعده أمر مملوكه تاليس بن رينوس بما أمره أن يفعله قال فلما ركب تاليس فما كان من أمره إلا أن قال للحاجب اخرج الاسارى واضرب رقابهم فأخرجهم وأخذهم يوقنا كما وصفنا قال حدثنا ياسر عن سليمان بن

(1/300)


عبد الواحد عن صفوان بن بشر عن عروة بن مذعور عن محمد بن علي عن عدي عن شعبة عن قتادة عن ابي الصديق الناجي عن ابن سعد قال: ما خرج هرقل من انطاكية إلا وهو مسلم وذلك إنه كتب إلى عمر بن الخطاب في السر عن قومه أن بي صداعا لا يسكن فانفذ الي بدواء أتداوى به فأرسل إليه قلنسوة فكان إذا وضعها على راسه سكن صداعه وإذا رفعها عاد إليه فتعجب من ذلك وأمر بفتحها فإذا فيها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم فقال هرقل: ما أكرم هذا الاسم وأعزه حيث شفاني الله به وكانوا قد توارثوا هذه القلنسوة إلى أن وصلت إلى صاحب عمورية فلما كان يوم المعتصم ونزل عليها عرض للمعتصم صداع فارسل إليه صاحب عمورية بالقلنسوة فلما وضعها على رأسه سكن ما به فأمر المعتصم بفتحها فإذا فيها الرقعة ومكتوب فيها بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الواقدي: وأما ما كان من أمر تاليس فلما أصبح ركب ورتب عساكر الروم عن آخرها ودارت المواكب حول تاليس بن رينوس وكان كل من رآه يظن إنه هرقل ولا يشك فيه ودار بمواكبه عسكر فلنطانوس صاحب رومية وركب يوقنا ومن معه وهم متنكرون تحت السلاح فكان أول من حمل خالد بن الوليد بجيش الزحف قال: وتبعه سعيد بن زيد وتبعه قيس بن هبيرة وتبعه ميسرة وبعده عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق وذو الكلاع الحميري وأمثالهم وأطبق الناس بعضهم على بعض فلما اشتبكت الحرب هجم يوقنا ومن معه وحمل ضرار فلله دره لقد أعطى السيف حقه وأخذ بثاره من الروم وكلما قتل واحدا صاح واثارات أسر ضرار بن الأزور وكان قد قصد عسكر المتنصرة هو وأصحابه ورفاعة بن زهير يشجعهم ويوبخهم ويقول: خذوا بثاركم ممن اسركم واحملوا وإياكم أن تفشلوا واعلموا أن الجنة قد فتحت أبوابها وزينت حورها وقصورها وأشرق بنيانها ومرح ولدانها وتجلى ديانها ثم صاح يافتيان العرب أيكم يرغب في زواج الحور فإن يذل النفوس هي المهور ومن يريد عرسا في الجنان ويقوم في خدمته الولدان من يرغب فيما قال الملك الديان: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] أين من شهد بدرا وحنين مع سيد الكونين أين من يزيل عن قلبه حجاب الغفلة والرين وافقوا قوما صارت هممهم إلى دار الأزل فأناخوا بباب من لم يزل محبوبهم فأراد الحق أن يوقفهم على منازلهم ليزيدوا في حسن أفعالهم فكشف عن سرائرهم فرأوا دارا بناؤها النور قواعدها من الرحمة حيطانها من الذهب ملاطها المسك ماؤها من الحيوان حصباؤها الدر والجوهر ترابها الكافور والعنبر سورها المجيد اللطيف ستورها الكرم أشجارها لا إله إلا الله أغصانها محمد رسول الله ثمارها سبحان الله والحمد لله عرضها السموات والأرض سقفها عرش الرحمن فلما كشف لهم عن هذه الأسرار اشتاقوا إلى سكنى الدار قيل لهم لن تصلوا إليها إلا ببذل النفوس في رضا الملك

(1/301)


القدوس ثم خلع عليهم خلع الأحسان وتوجهم بتيجان الرضوان ونشر على رؤوسهم رايات الغفران مرسوم على طرازها بقلم السر المكنون: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] لقد بذلوا النفوس في رضا القدوس.
قال الواقدي: فبينما ضرار يحمل في الأعداء ويذيقهم شراب الردى وإذا هو بفارس يطحطح الكتائب ويفرق المواكب ويصيح واثارات ضرار بن الأزور فتأمله فإذا هو أخته خولة فناداها دارك يا بنت الأزور أنا والله أخوك فاقبلت لتسلم عليه فقال لها: إليك عني ما هذا وقت سلام وأن قتال الكفر أفضل من كلامك يا بنت الأزور فاجعلي عنانك مع عناني وسنانك مع سناني وجاهدي في سبيل الله فإن قتل أحدنا فالملتقى في الحشر عند حوض سيد البشر فبينما هم في ذلك إذ نظر إلى جيوش الروم وقد تقهقرت وفرسانهم قد انهزمت وكان السبب في ذلك أن صاحب رومية رحمه الله لما رأى الحرب قد اضرمت نيرانها وعلا دخانها حمل بأصحابه وقصد تاليس بن رينوس فقبض عليه وهو يظن إنه هرقل فصاح الصائح أن الملك هرقل قد قبض عليه فلنطانوس ملك رومية وغدر به فولت الروم الأدبار وقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة لم يقتل مثلها إلا بأجنادين واليرموك وقتل من العرب المتنصرة زهاء من أثني عشر ألفا وطلب جبلة ولده فلم ير لهم خبرا فقيل إنهم وأكابر قومهم ركبوا مع الملك هرقل في المراكب وكان جملة من هرب من سادات المتنصرة مع جبلة وابنه خمسمائة من جملتهم ابن عمه قرظة وعروة بن واثق ومرهف بن واثق وهحام بن سالم وشيبان بن مرة قال فسكنوا جزائر البحر فمن نسلهم هذه الافرنج قال: وأخذ المسلمون ما كان من السرادقات والخيام والديباج والمتاع والخزائن واسروا ثلاثين ألفا وقتلوا من الروم سبعين ألفا وولت العرب المتنصرة منهزمين فمنهم من أخذ نحو الدروب ومنهم من طلب قيسارية إلى قسطنطين بن هرقل فلما وضعت الحرب أوزارها وخمدت نارها جمعوا الأموال والأثقال: والأسرى بين يدي ابي عبيدة فلما نظر إلى ذلك سجد لله شكرا وسلم المسلمون بعضهم على بعض وجاء ضرار وأصحابه ويوقنا وفلنطانوس وأصحابه وسلموا على المسلمين وفرحوا بهم فلما وصل فلنطانوس قام إليه المسلمون وقال كبار الصحابة سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أتاكم كريم قوم فاكرموه" قال فنظر فلنطانوس إلى تواضعهم وحسن سيرتهم وكثرة عبادتهم فقال هؤلاء والله القوم الذين بشر بهم عيسى عليه السلام قال فأسلم بنو عمه عن آخرهم وجاهدوا في الكفار إلى أن فتحوا جميع الأمصار وبعدها مضى فلنطانوس إلى مكة فحج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم المختار وسلم على عمر رضي الله عنه فلما رآه وثب إليه قائما وصافحه هو وجميع المسلمين وعاد إلى بيت المقدس فجلس يعبد الله فيه حتى أتاه اليقين.

(1/302)


قال الواقدي: ونظر أبو عبيدة إلى جيش أنطاكية وقد تحصنوا فيها وهم لا يحصون فقال اللهم اجعل لنا إلى فتحها من سبيل وافتح لنا فتحا مبينا قال: وكان على انطاكية بطريق اسمه صليب بن مرقس وكان جاهلا في رايه فعزم على القتال من داخل السور فاجتمع أكابر البلد إلى البترك في الليل وقالوا له: اخرج إلى هؤلاء العرب وصالح بيننا وبينهم على ما تقدر عليه قال فخرج البترك إلى أبي عبيدة وحدثه في الصلح فأجابه إلى ذلك فكان جملة ما صالح عليه أهل انطاكية ثلثمائة ألف مثقال من الذهب فلما تقرر الصلح قال له أبو عبيدة: احلف لنا إنكم لا تغدرون بنا فإن مدينتكم مانعة كثيرة الجبال والوعر فقال خالد: ومن يحلفه فقال أبو عبيدة: يوقنا قال فوضع يوقنا يده على راس البترك فوق يده وقال قل: والله والله والله أربعين مرة وإلا قطعت زناري وكسرت صليبي ولعنتني الشمامسة والديرانيون وخلعت دين النصرانية وذبحت الجمل في جرن ماء المعمودية ونجستها ببول مولود من أولاد إليهود وقتلت كل الشهود وإلا خرقت شدائد مريم وعصبت رأسي وإلا ذبحت القسوس وصبغت بدمائهم ثوب عروس وإلا جعلت مريم زانية به وإلا جعلت في المذبح حيضة يهودية وإلا أطفأت قنايل بيعه جرجيس وجعلت عزيرا في مقام كالوس وإلا تزوجت يهودية طامثة لا تلقي ابدا وإلا غسلت أثوابي صبيحة يوم الجمعة وهدمت الكنائس والبيع وأحللت الأعياد والجمع وإلا عبدت اللاهوت وجحدت الناسوت وإلا أكلت لحم الجمل يوم الشعانين وإلا صمت رمضان عاطشا وكنت للحم الرهبان ناهشا وإلا صليت في ثياب إليهود وقلت: إن عيسى دباغ الجلود اننا لا نغدر بكم ولا كنا إلا معكم.
قال الواقدي: فعندها قام أبو عبيدة ودخل انطاكية وكان دخوله لخمسة أيام مضين من شعبان سنة سبع عشرة من الهجرة فدخله وبين يديه اللواء الذي عقده له أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن يمينه خالد بن الوليد وعن يساره ميسرة بن مسروق ودخلها والقراء بين يديه يقرأون سورة الفتح فلن يزل سائرا حتى وصل إلى باب الجنان فنزل هناك وخط هناك مسجدا وأمر ببنائه وبه يعرف إلى يومنا هذا قال ميسرة بن مسروق فنظرنا إلى بلد رطب طيب الهواء كثير الماء والخيرات فاستطابه المسلمون ووددنا لو أقمنا فيه شهر لنستريح فما تركنا أبو عبيدة فيه غير ثلاثة ايام ثم إنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك وإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأشكره على ما فتح علينا ورزقنا من الغنيمة والنصر وأعلمك يا أمير المؤمنين أن الله عز وجل قد فتح على المسلمين كرسي النصرانية مدينة انطاكية وكسر الله عسكرها ونصرنا الله عليهم وهرب هرقل في البحر وإني لم أقم بها لطيب هوائها وإني خشيت على المسلمين أن يغلب حب الدنيا على قلوبهم فيقطعهم عن طاعة ربهم وإني معول على المسير إلى حلب وإني منتظر أمرك فإن أمرتني أن اسير إلى داخل

(1/303)


الدروب فعلت وأن أمرتني بالمقام أقمت واعلم يا أمير المؤمنين أن العرب قد نظرت إلى بنات الروم فدعتهم أنفسهم إلى التزوج فمنعتهم من ذلك وإني أخشى عليهم الفتنة إلا من عصمه الله فعجل الي بأمرك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب وختمه وقال معاشر المسلمين من يسير بكتابي هذا إلى أمير المؤمنين فاسرع بالإجابة زيد بن وهب مولى عمير بن سعيد مولى عمرو بن عوف فقال أنا أيها الأميرأوصله أن شاء الله تعالى فقال أبو عبيدة: يا زيد أنت لست مالك نفسك وإنما أنت مملوك فإن أردت المسير فسل مولاك أن يأذن لك في ذلك فاسرع زيد إلى مولاه عمير فانكب على يديه يقبلهما فمنعه من ذلك وذلك أن عميرا كان رجلا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة ما يملك من الدنيا سوى سيفه ورمحه وفرسه وبعيره ومزادته وقصعته ومصحفه وكان الذي يصيبه من الغنائم لا يدخر منه ولا يأخذ إلا ما يقوته وكان يفرق الباقي على قرابته وقومه فإن فاض شيء يرسله إلى عمر رضي الله عنه يفرقه على فقراء المسلمين المهاجرين والأنصار قال فلما أراد زيد أن يقبل يد سيده منعه وقال له: ما الذي تريد فقال: يا مولاي تأذن لي أن أكون رسولا للمسلمين بشيرا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمير بن سعيد تريد أن تكون بشيرا للمسلمين وأمنعك من ذلك إني إذا لآثم امض فأنت حر لوجه الله تعالى وأرجو بعتقك أن يجيرني الله من النار.
قال ففرح زيد بذلك وعاد إلى ابي عبيدة فاخبره أن ببركة كتابه صار حرا فسر أبو عبيدة وسار زيد على نجيب من نجب اليمن دفعه إليه وكان سابقا قال فجعل زيد يطلب اقرب الطرق حتى قدم المدينة ودخلها وإذا بها ضجة عظيمة ولاهلها ضجيج وهم يهرعون نحو البقيع وقباء فقلت لنفسي: إن لهم أمرا فتبعتهم لأرى ما شأنهم وأنا أحسب إنهم يريدون حربا فرأيت رجلا فعرفته فسلمت عليه فعرفني وقال أنت زيد قلت: نعم قال الله أكبر ما وراءك يا زيد قلت: البشارة والغنيمة والفتح قلت: ما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال إنه خارج يريد الحج ومعه ازواج النبي صلى الله عليه وسلم يحج بهن والناس يشيعونه قال زيد بن وهب فأنخت بعيري وعقلته وأسرعت مهرولا حتى وقفت بين يدي عمر رضي الله عنه وهو يمشي راجلا ووراءه مولاه يقود بعيرا وقد رحله بعباءة قطوانية وزاده وجفنته عليه والهوادج بين يديه سائرة وعن يمينه علي بن ابي طالب وعن يساره العباس ابن عبد المطلب ومن ورائه المهاجرون والأنصار وهو يوصيهم بالمدينة قال زيد بن وهب فلما وقفت بين يديه ناديت السلام عليك يا أمير المؤمنين أنا زيد بن وهب مولى عمير بن سعيد أتيتك بشيرا قال عمر بشرك الله بخير فما بشارتك قلت: هذا كتاب من عاملك أبي عبيدة يخبرك أن الله قد فتح على يديه أنطاكية قال فلما سمع عمر بذكر أنطاكية وأن الله فتحها خر لله ساجدا يمرغ خديه على

(1/304)


التراب ثم إنه رفع راسه من سجوده وقد تترب وجهه وشيبته من التراب وهو يقول: اللهم لك الحمد والشكر على نعمك السابغة ثم قال هات الكتاب رحمك الله فناولته إياه فلما قرأه بكى فقال له علي كرم الله وجهه: مم بكاؤك قال مما صنع أبو عبيدة بالمسلمين وبما استعقب رأيه في الموحدين ثم قال أن النفس لامارة بالسوء ودفع الكتاب إلى علي فقرأه على المسلمين إلى آخره قال زيد بن وهب ثم رأيت عمر قد هدا من بكائه وقد زاد فرحه وأقبل علي وقال: يا زيد إذا عدت فأمعن النظر في اتيانها وأعنا بها واحمد الله كثيرا فقلت: يا أمير المؤمنين ليس هذا أوانه قال ثم جلس عمر على الأرض ودعا بدواة وقرطاس وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله بالشام أبي عبيدة عامر ابن الجراح سلام عليك وإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وأشكره على ما وهب من النصر للمسلمين وجعل العاقبة للمتقين ولم يزل بنا لطيفا معينا وأما قولك لم نقم بانطاكية لطيبها فإن الله عز وجل لم يحرم الطيبات على المؤمنين الذين يعملون الصالحات فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا الِلَّهِ} [البقرة: 172] الآية فكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم وتدعهم يرغدون في مطعمهم ويريحون أبدانهم من نصب القتال مع من كفر بالله وأما قولك إنك منتظر أمري فالذي آمرك به أن تدخل وراء العدو وتفتح الدروب فإنك الشاهد وأنا الغائب وقد يرى الشاهد ما لا يراه الغائب وأنت بحضرة عدوك وعيونك تأنيك بالأخبار فإن رأيت أن دخولك إلى الدروب بالمسلمين صواب فابعث إليهم بالسراية وادخل معهم إلى بلادهم وضيق عليهم المسالك ومن طلب منك الصلح فصالحهم ووف لهم بما تقدر وأما قولك أن العرب أبصرت نساء الروم فرغبت في التزوج فمن أحب ذلك فدعه أن لم يكن له أهل بالحجاز ومن أراد أن يشتري الأماء فدعه فإن ذلك أصون لفروجهم واعف لنفوسهم وما تحتاج أن أوصيك في أمر فلنطانوس صاحب رومية اوسع عليه في النفقة وعلى من معه فإنه قد فارق أهله وملكه وأمره ونهيه والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب ودفعه لزيد بن وهب وقال له: انطلق رحمك الله وأشرك عمر في ثوابك فأخذ زيد الكتاب وهم أن يسير فأمره أن يقف وقال له: على رسلك حتى يزودك عمر من قوته ثم أن عمر أناخ راحلته وأخرج له تمرا وأعطاه صاع تمر وصاع سويق وقال: يا زيد اعذر عمر فهذا ما أمكنه ثم أن عمر قبل راس زيد بن وهب فبكى زيد وقال: يا أمير المؤمنين أو بلغ من قدري أن تقبل راسي وأنت أمير المؤمنين وصاحب سيد المرسلين وقد ختم الله بك الأربعين فبكى عمر وقال أرجو أن يغفر الله لعمر بشهادتك قال زيد بن وهب فاستويت على كور ناقتي وهممت بالمسير فسمعته يقول: اللهم احمله عليها بالسلامة

(1/305)


واطو له البعيد وسهل له القريب إنك على كل شيء قدير قال زيد بن وهب ففرحت بدعوة عمر رضي الله عنه وعلمت أن الله لا يرد دعوته إذ كان لربه طائعا ولنبيه تابعا فجعلت اسير والأرض تطوي لي تحت اخفاف مطيتي فكنت والله في اليوم الثالث عند أبي عبيدة وقد رحل عن انطاكية وقد نزلت على حازم قال زيد فلما وصلت إلى عساكر المسلمين سمعت ضجة وجلبة وقد ارتفعت الأصوات فسألت رجلا من أهل اليمن ما سبب ذلك قال فرحا بما فتح الله على المسلمين وهذا خالدج قد أتى وكان قد ضرب على شاطىء الفرات وأغار بخيله وقد صالحه أهل منبج وبزاعة وبالس وأتى برجالهم وأموالهم وافتتحها صلحا وقد فتح منبج وبزاعة وبالس وقلعة نجم في العشر الأوسط من المحرم سنة ثماني عشرة من الهجرة وصالحهم بعد رد أموالهم على مائة ألف وخمسين ألف دينار وأخذها بعد أن نزل صاحبهم جرفناس وسار بأمواله وعبيده وخيوله إلى بلاد الروم وولى على منبج عباد ابن رافع التيميي وعلى الجسر نجم بن مفرج وولى على بزاعة اوس بن خالد الرابعي وعلى بالس بادر بن عوف الحميري وبنى له بها قلعة إلى جانب بالس من الشرق وسماها باسمه وعاد خالد بالأموال والأثقال يوم قدوم زيد بن وهب قال فأتيت أبا عبيدة وهو جالس وخالد إلى جانبه وقد قدم مال الصلح فانحت ناقتي وسلمت عليهم ودفعت الكتاب إلى ابي عبيدة ففضه وقراه على المسلمين فلما سمعت المسلمون ما فيه قال أبو عبيدة: معاشر المسلمين أن أمير المؤمنين قد جعل أمر الدخول إلى الدروب الي وقال أنت الشاهد وأنا الغائب وأنا لا أفعل شيئا إلا برأيكم فما تشيرون علي أن أفعل رحمكم الله فلم يجبه أحد وأعاد القول ثانيا فلم يجبه أحد والله أعلم.

(1/306)