الأخبار الطوال
ملك العجم واليمن
قالوا: ولما حضر لهراسف الموت اسند الملك الى ابنه بشتاسف، وفي ذلك
__________
[1] مدينه قديمه بأرض فارس، تقع باياله خوزستان، وقد اتخذها ملوك الفرس
مشتى لهم.
(1/23)
العصر مات ياسر ينعم صاحب اليمن، وقام
بالأمر بعده شمر بن افريقيس بن أبرهة بن الرائش، وهو الذى يزعمون انه
اتى الصين وهدم مدينه سمرقند [1] ، فيزعمون ان وزير صاحب الصين مكر به،
وذلك انه امر الملك ان يجدعه ويخلى سبيله، فسار الأجدع الى شمر، فاخبره
انه نصح لصاحبه، يعنى ملك الصين، وامره بالنجوع [2] لشمر، واعطائه
الطاعة والاتاوه، فغضب عليه، وجدعه، وانه سار الى شمر ليدله على عوره
صاحب الصين جزاء بما فعل به، فاغتر شمر بذلك، وساله عن الرأي، فقال: ان
بينك وبينه مفازة، تقطع في ثلاثة ايام، ومأتاه منها قريب، فاحمل الماء
لثلاثة ايام، وسر حتى افاجئه بك من كثب، فتستبيح بلده، وتأخذه سلما،
واهله، وماله. ففعل، فسلك به مفازة لا ترام، فلما ساروا ثلاثة، ونفد
الماء، ولم يروا علما، ولا انتهوا الى ماء، قالوا له: اين ما زعمت؟،
فاعلمه انه مكر به، ووقى اهل بيته بنفسه، لأنه قد علم انه سيقتله، وقال
قد اهلكتك، فاصنع ما أنت صانع، فما لك ولمن تبعك في الحياه [3] مطمع.
فوضع شمر درعه [4] تحت راسه، وترس [5] حديد كان معه فوق راسه، يستكن به
من الشمس.
قالوا: وقد كان المنجمون قالوا له، انك تموت بين جبلي حديد، فمات بين
درعه وترسه عطشا، فلم يبق من جنوده احد الا هلك، وقد سمعنا نحن بهذا
الحديث في غير قصه شمر.
__________
[1] بلد في ارض كسكر فيما وراء نهر جيحون، وهي من البلاد المشهوره في
التاريخ القديم، ويقال انها سميت باسم الذى بناها، شمر ابو كرب، ثم
عربها العرب في كلامهم الى سمرقند.
[2] النجوع: الإتيان، ونجع فلانا إذا أتاه طالبا معروفه.
[3] الحياه: الحيوه.
[4] الدرع: قميص من حديد يتدرع به في الحرب.
[5] الترس من السلاح: ما يتوقى به.
(1/24)
زرادشت ودعوته
قالوا: وكان زراذشت صاحب المجوس اتى بشتاسف الملك، فقال: انى رسول الله
إليك، وأتاه بالكتاب الذى في أيدي المجوس، فآمن له بشتاسف، ودان بدين
المجوسية، وحمل عليه اهل مملكته، فأجابوه طوعا وكرها.
وكان رستم [1] الشديد عامله على سجستان [2] وخراسان، وكان جبارا مديد
القامة، شديد القوه، عظيم الجسم، وكان ينتمى الى كيقباذ الملك، ولما
بلغه دخول بشتاسف في المجوسية، وتركه دين آبائه غضب من ذلك غضبا شديدا،
وقال: ترك دين آبائنا الذى توارثوه آخرا عن أول، وصبا الى دين محدث.
ثم جمع اهل سجستان، فزين لهم خلع بشتاسف، وأظهروا عصيانه، فدعا بشتاسف
ابنه اسفندياذ وكان أشد اهل عصره، فقال له: يا بنى، ان الملك مفض إليك
وشيكا، ولا تصلح امورك كلها الا بقتل رستم، وقد عرفت شدته وقوته، وأنت
نظيره في الشده والقوه، فانتخب من الجنود ما احببت، ثم سر اليه.
فانتخب اسفندياذ من جنود ابيه اثنى عشر الف رجل من ابطال العجم، وسار
نحو رستم، وزحف اليه رستم، فالتقيا ما بين بلاد سجستان وخراسان، فدعاه
اسفندياذ الى اعفاء الجيشين من القتال، وان يبرز كل واحد منهما لصاحبه،
فأيهما قتل صاحبه استولى على اصحابه، فرضى رستم بذلك، وعاهده عليه،
__________
[1] رستم: بطل فارسي مشهور، افرد لبطولته في الشهنامه فصول تعتبر من
اروع فصول الكتاب.
[2] سجستان: ولايه واسعه، مدينتها ذربح، وبينها وبين هراة ثمانون فرسخا
الى الجنوب، وأرضها رمله، والرياح فيها لا تسكن، وهي واقعة الان بين
ايران وافغانستان وعاصمتها نصرتاباد، وفيها نشا رستم بطل ايران
الاسطورى، وإليها ينسب ابو حاتم السجستانى اللغوى المعروف.
(1/25)
وحالفه، فوقف العسكران، وخرج كل واحد منهما
الى صاحبه، فاقتتلا بين الصفين، فيقول العجم في ذلك قولا كثيرا، الا ان
رستم هو الذى قتل اسفندياذ، وانصرف جنوده الى ابيه بشتاسف، فاخبروه
بمصاب ابنه اسفندياذ، فخامره حزن انهكه، فمرض من ذلك، فمات، واسند
الملك الى ابن ابنه بهمن بن اسفندياذ.
قالوا: ولما رجع رستم الى مستقره من ارض سجستان لم يلبث ان هلك.
ملك اليمن
قالوا: وان اهل اليمن لما بلغهم مهلك شمر وجنوده بأرض الصين اجتمعوا،
فملكوا عليهم أبا مالك بن شمر، وهو الذى ذكره الأعشى في قوله:
وخان النعيم أبا مالك ... واى امرئ صالح لم يخن
وهو الذى يزعمون انه هلك في طرف الظلمه [1] التي في ناحيه الشمال، فدفن
على طرفها.
قالوا: وذلك، انه بلغه مسير ذي القرنين إليها، وانه اخرج منها جوهرا
كثيرا، فتجهز يريد الدخول فيها، فقطع إليها ارض الروم، وجاوزها حتى
انتهى الى طرف الظلمه، وتهيأ لاقتحامها، فمات قبل ان يدخلها، فدفن في
طرفها، فانصرف من كان معه الى ارض اليمن.
ملك العجم، وخلاص بنى إسرائيل
قالوا: وملك بهمن بن اسفندياذ، فامر ببقايا ذلك السبى الذى سباهم بخت
نصر من بنى إسرائيل، ان يردوا الى أوطانهم من ارض الشام، وقد كان تزوج
قبل ان يفضى الملك اليه ابراخت بنت سامال بن ارخبعم بن سليمان بن داود،
وملك روبيل أخا امراته ارض الشام، وامره ان يخرج معه من بقي من ذلك
السبى، وان يعيد بناء إيليا، ويسكنهم فيه، كما لم يزالوا، ويرد كرسي
سليمان،
__________
[1] الارض التي في شمال البحر الأسود.
(1/26)
فينصبه مكانه، فخرج روبيل بذلك السبى، حتى
ورد بهم إيليا، واعاد بناءها، وبنى المسجد. وسار بهمن الى سجستان، وقتل
من قدر عليه من ولد رستم واهل بيته، واخرب قريته.
قالوا: وقد كان بهمن دخل في دين بنى إسرائيل، فرفضه أخيرا، ورجع الى
المجوسية، وتزوج ابنته خمانى وكانت اجمل اهل عصرها، فادركه الموت وهي
حامل منه، فامر بالتاج فوضع على بطنها، واوعز الى عظماء اهل المملكة ان
ينقادوا لأمرها حتى تضع ما في بطنها، فان كان غلاما أقروا الملك في
يدها الى ان يشب ويدرك، ويبلغ ثلاثين سنه، فيسلم له الملك.
قالوا: وكان ساسان بن بهمن يومئذ رجلا ذا رواء وعقل وادب وفضل، وهو ابو
ملوك الفرس من الاكاسره، ولذلك يقال لهم الساسانيه، فلم يشك الناس ان
الملك يفضى اليه بعد ابيه، فلما جعل أبوه الملك لابنته خمانى انف من
ذلك أنفا شديدا، فانطلق، فاقتنى غنما، وصار مع الأكراد في الجبل، يقوم
عليها بنفسه، وفارق الحاضره غيظا من تقصير ابيه.
قالوا: فمن ثم يعير ولد ساسان الى اليوم برعي الغنم، فيقال ساسان
الكردى، وساسان الراعى.
خمانى زوج بهمن
فملكت خمانى، فلما تم حملها وضعت غلاما، وهو دارا بن بهمن، ثم انها
تجهزت غازية لارض الروم، فسارت حتى اوغلت في بلاد الروم، وخرج إليها
ملك الروم في جنوده، فالتقوا، واقتتلوا، فكان الظفر لخمانى، فقتلت،
واسرت، وغنمت، فقفلت وقد حملت معها بناءين من بنائى الروم، فبنوا لها
بأرض فارس ثلاثة ايوانات [1] : أحدها وسط مدينه اصطخر [2] ، والثانى
على المدرجة
__________
[1] جمع ايوان، وهو البناء ذو الصفة العظيمه.
[2] عاصمه إيالة فارس، وفيها نشا بعض علماء المسلمين.
(1/27)
التي يسلك فيها من اصطخر الى خراسان،
والثالث على طريق دارابجرد على فرسخين من اصطخر.
دارا بن بهمن
فلما اتى لابنها دارا ثلاثون سنه جمعت عظماء المملكة، ودعت بابنها
دارا، فأقعدته على سرير الملك، وتوجته بالتاج، وولته الأمر.
ملك تبع بن ابى مالك
قالوا: ولما هلك ابو مالك بطرف الظلمه اجتمع اشراف اهل اليمن، فملكوا
امرهم ابنه تبع الاقران وانما سمى لنجدته تبع الاقران، وقد قيل: بل هو
تبع الاقرن. كل ذلك يقال.
فلما ملك تجهز يريد بلاد الصين طالبا بثار ابيه وجده، فسار إليها، فمر
بسمرقند، وهي خراب، فامر ببنائها، فاعيد، ثم ركب المفازة حتى انتهى الى
بلاد التبت [1] ، فراى مكانا واسعا ظاهر المياه مكتلئا، فابتنى هناك
مدينه، فاسكن فيها ثلاثين الف رجل من اصحابه، فهم التبعيون، وزيهم الى
اليوم زي العرب، وهيئتهم هيئة العرب، ثم سار الى ارض الصين، فقتل،
واخرب مدينه الملك، فهى خراب الى اليوم، ثم قفل راجعا الى اليمن، وامتد
ملكه، الى ان ملك الاسكندر، فخرج الملك عنه، فصار في المقاول. قالوا،
وفي ذلك العصر نشا النضر بن كنانه.
دارا والروم
قالوا: وان دارا بن بهمن لما ملك تجهز غازيا الى ارض الروم، فسار حتى
اوغل في ارضهم، فخرج اليه الفيلفوس ملك الروم في جنوده، فالتقوا،
__________
[1] التبت: سطح مرتفع في آسيا الوسطى تقع بين خطى عرض 27 درجه، 37 درجه
شمالا، وبين خطى طول 76 درجه 96 درجه شرقا، وعاصمتها لهاسه.
(1/28)
فاقتتلوا، فكان الظفر لدارا، فصالحه
الفيلفوس على اتاوه يؤديها اليه كل عام، وهي مائه الف بيضه ذهب، في كل
بيضه اربعون مثقالا [1] ، وتزوج ابنته، ثم انصرف الى فارس.
ملك داريوش
فلما تم لدارا اثنتا عشره سنه في الملك حضرته الوفاة، فاسند الملك الى
ابنه دارا بن دارا، وهو الذى يعرف بداريوش، مقارع الاسكندر، فلما افضى
الملك الى دارا بن دارا تجبر، واستكبر، وطغى. وكانت نسخه كتبه الى
عماله: من دارا بن دارا المضيء لأهل مملكته كالشمس الى فلان. وكان عظيم
السلطان، كثير الجنود، لم يبق في عصره ملك من ملوك الارض الا بخع له
بالطاعة، واتقاه بالاتاوه.
نشاه الاسكندر
ونشا الاسكندر، وقد اختلف العلماء في نسبه، فاما اهل فارس فيزعمون انه
لم يكن ابن الفيلفوس، ولكن كان ابن ابنته، وان أباه دارا بن بهمن.
قالوا: وذلك ان دارا بن بهمن لما غزا ارض الروم صالح الفيلفوس ملك
الروم على الاتاوه، فخطب اليه دارا ابنته، وحملها بعد تزويجها اياه الى
وطنه، فلما اراد مباشرتها وجد منها ذفرا [2] ، فعافها، وردها الى قيمه
نسائه، وامرها ان تحتال لذلك الذفر، فعالجتها القيمه بحشيشه، تسمى
السندر، فذهب عنها بعض تلك الرائحة، ودعا بها دارا، فوجد منها رائحه
السندر، فقال: آل سندر.
اى ما أشد رائحه السندر، وآل، كلمه في لغة فارس يراد بها الشده،
وواقعها، فعلقت منه، ونبا قلبه عنها لتلك الذفره التي كانت بها، فردها
الى أبيها
__________
[1] المثقال: درهم وثلاثة اسباع الدرهم.
[2] الذفر: الريح النتنه الكريهة.
(1/29)
الفيلفوس، فولدت الاسكندر، فاشتقت له اسما
من اسم تلك العشبه التي عولجت بها، على ما سمعت دارا قاله ليله واقعها،
فنشأ الاسكندر غلاما لبيبا أديبا ذهنا، فولاه جده الفيلفوس جميع امره
لما راى من حزمه وضبطه ما راى. ولما حضر الفيلفوس الوفاة اسند الملك
اليه، واوعز الى عظماء المملكة بالسمع والطاعة له.
غلبه الاسكندر
فلما ملك الاسكندر لم تكن له همه الا ملك ابيه دارا بن بهمن، فسار الى
أخيه دارا بن دارا، فحاربه على الملك. واما علماء الروم فيأبون هذا،
ويزعمون انه ابن الفيلفوس لصلبه، وانه لما مات الفيلفوس وافضى الملك
الى الاسكندر امتنع على دارا بن دارا بتلك الضريبه التي كان يؤديها
أبوه اليه.
فكتب اليه دارا بن دارا يأمره بحمل تلك الاتاوه، ويعلمه ما كان بين
ابيه وبينه من الموادعة عليها، فكتب اليه الاسكندر ان الدجاجة التي
كانت تبيض ذلك البيض ماتت. فغضب دارا من ذلك، وآلى ليغزون ارض الروم
بنفسه حتى يخربها، فلم يحفل الاسكندر بذلك، ولم يعبأ به، وكان الاسكندر
جبارا معجبا، وقد كان عتا في بدء امره عتوا شديدا، واستكبر.
وكان بأرض الروم رجل من بقايا الصالحين في ذلك العصر، حكيم فيلسوف،
يسمى ارسطاطاليس، يوحد الله، ويؤمن به، ولا يشرك به شيئا، فلما بلغه
عتو الاسكندر وفظاظته وسوء سيرته اقبل من أقاصي ارض الروم حتى انتهى
الى مدينه الاسكندر، فدخل عليه، وعنده بطارقته [1] ، ورؤساء اهل
مملكته، فمثل قائما بين يديه غير هائب له، فقال له: ايها الجبار
العاتي، الا تخاف ربك الذى خلقك، فسواك وانعم عليك، ولا تعتبر
بالجبابره الذين كانوا قبلك، كيف اهلكهم الله حين قل شكر هم، واشتد
عتوهم ... ؟!. في موعظه طويله.
__________
[1] البطارقه: جمع بطريق، وهو الحاذق بالحرب وأمورها.
(1/30)
فلما سمع الاسكندر ذلك غضب عضبا شديدا، وهم
به، ثم امر بحبسه ليجعله عظه لأهل مملكته. ثم ان الاسكندر راجع نفسه،
وتدبر كلامه لما اراد الله به من الخير، فوقع منه في نفسه ما غير قلبه،
فبعث اليه على خلاء، فاصغى اليه، واستمع لموعظته وامثاله وعبره، وعلم
ان ما قال هو الحق، وان ما خلا الله من معبود باطل، فارعوى واستجاب
للحق، وصح يقينه، فقال لذلك العابد: فانى اسالك ان تلزمنى، لاقتبس من
علمك، واستضيء بنور معرفتك. فقال له: ان كنت تريد ذلك فاحسم اتباعك من
الغشم والظلم وارتكاب المحارم.
فتقدم الاسكندر بذلك، واوعد فيه، وجمع اهل مملكته ورؤساء جنوده، فقال
لهم: اعلموا انا انما كنا نعبد الى هذا اليوم أصناما، لم تكن تنفعنا
ولا تضرنا. وانى آمركم، فلا تردوا على امرى، وارضى لكم ما ارضاه لنفسي،
من عباده الله وحده لا شريك له، وخلع ما كنا نعبده من دونه، فقالوا
باجمعهم: قد قبلنا قولك، وعلمنا ان ما قلت الحق، وآمنا بإلهك وإلهنا.
فلما صحت له نيات خاصته، واستقامت له طريقتهم، وطابقوه على الحق امر ان
يعلن للعامه، انا قد امرنا بالأصنام التي كنتم تعبدونها ان تكسر، فان
ظننتم انها تنفعكم او تضركم فلتدفع عن أنفسها ما يحل بها، واعلموا انه
ليس لأحد عندي هواده في مخالفه امرى، وعباده غير الهى، وهو الإله الذى
خلقنا جميعا. ثم امر بتفريق الكتب بذلك في شرق الارض، وغربها، ليعامل
الناس على قدر القبول والآباء، فمضت رسله بكتبه بذلك الى ملوك الارض.
فلما انتهى كتابه الى دارا بن دارا غضب من ذلك غضبا شديدا، وكتب اليه:
من دارا بن دارا المضيء لأهل مملكته كالشمس الى الاسكندر بن الفيلفوس،
انه قد كان بيننا وبين الفيلفوس عهد ومهادنة على ضريبه، لم يزل يؤديها
إلينا ايام حياته، فإذا أتاك كتابي هذا فلا اعلمن ما بطات بها، فاذيقك
وبال امرك، ثم لا اقبل عذرك، والسلام.
(1/31)
دارا والاسكندر
فلما ورد كتابه على الاسكندر جمع اليه جنوده، وخرج متوجها نحو ارض
العراق، وبلغ ذلك دارا بن دارا، فاحرز خزائنه وحرمه واولاده في حصن
همذان، وكان من بنائه، ثم لقى الاسكندر جادا مستنفرا، فواقعه وقائع
كثيره، لم يجد الاسكندر مطمعا فيه، ولا في شيء منها، ثم انه دس الى
رجلين من اهل همذان، كانا من بطانته وخاصه حرسه، وارغبهما، فرغبا،
وغدرا بدارا: اتياه من ورائه حين صاف الاسكندر في بعض ايامه، ففتكا به،
وانفضت جموع دارا، واقبل الاسكندر حتى وقف على دارا صريعا، فنزل، فجعل
راسه في حجره، وبه رمق، فجزع عليه، وقال: يا أخي، ان سلمت من مصرعك
خليت بينك وبين ملكك، فاعهد الى بما احببت، أف لك به.
فقال دارا: اعتبر بي [1] ، كيف كنت أمس، وكيف انا اليوم، الست الذى كان
يهابنى الملوك، ويذعنون لي بالطاعة، ويتقوننى بالاتاوه؟ وها انا ذا
اليوم صريع فريد بعد الجنود الكثيره والسلطان العظيم.
فقال الاسكندر: ان المقادير لا تهاب ملكا لثروته، ولا تحقر فقيرا
لفاقته، وانما الدنيا ظل يزول وشيكا، وينصرم سريعا.
قال دارا: قد علمت ان كل شيء بقضاء الله وقدره، وان كل شيء سواه فان،
وانا موصيك لمن خلفت من اهلى وولدى، وسائلك ان تتزوج روشنك ابنتى، فقد
كانت قره عيني وثمره قلبي.
فقال الاسكندر: انا فاعل ذلك، فأخبرني من فعل هذا بك، لانتقم منه.
فلم يحر في ذلك جوابا دارا، واعتقل لسانه بعد ذلك، ثم قضى، فامر
الاسكندر بقاتليه، فصلبا على قبر دارا، فقالا: ايها الملك، الم تزعم
انك ترفعنا على جنودك؟! قال: قد فعلت.
__________
[1] اعتبر بي: اعتبرنى.
(1/32)
ثم امر بهما، فرجما حتى ماتا. ثم كتب الى
أم دارا وامراته بالتعزية، وهما بمدينه همذان، وكتب الى أمه وهي
بالإسكندرية ان تسير الى ارض بابل، فتجهز روشنك بنت دارا باحسن جهاز،
وتوجهها اليه الى ارض فارس، ففعلت.
فتوح الاسكندر
ثم شخص الاسكندر نحو فؤر ملك الهند، فالتقيا على تخوم [1] ارض الهند،
وان الاسكندر دعا فؤرا الى البراز، والا يقتل الجمعان، بعضهم بعضا
بينهما، فاهتبلها [2] منه فؤر، وكان رجلا مديدا عظيما ايدا قويا، فراى
الاسكندر قليلا قضيفا [3] ، وبرز اليه، فأجلى النقع عن فؤر قتيلا،
واستسلم له جنوده، فقبل سلمهم.
وسار حتى دخل ارض السودان، فراى ناسا كالغربان، عراه، حفاه، يهيمون في
الغياض، ويأكلون من الثمار، فان استنوا [4] واجدبوا اكل بعضهم بعضا،
فجاوزهم حتى انتهى الى البحر، فقطع الى ساحل عدن من ارض اليمن، فخرج
اليه تبع الاقرن ملك اليمن، فاذعن له بالطاعة، واقر بالاتاوه، وادخله
مدينه صنعاء، فانزله، والطف له [5] من الطاف اليمن، فأقام شهرا.
الاسكندر في مكة
ثم سار الى تهامه، وسكان مكة يومئذ خزاعة، قد غلبوا عليها، فدخل عليه
النضر بن كنانه، فقال له الاسكندر: ما بال هذا الحى من خزاعة نزولا
بهذا
__________
[1] التخوم: الفصل بين الارضين من الحدود والمعالم.
[2] الاهتبال: الاغتنام.
[3] القضف: النحافة.
[4] أصابتهم سنتهم بالجفاف وقله الغلة.
[5] الطف له، والطفه، احسن اليه وبره.
(1/33)
الحرم؟، ثم اخرج خزاعة عن مكة، واخلصه
للنضر، ولبنى ابيه، وحج الاسكندر بيت الله الحرام، وفرق في ولد معد بن
عدنان، القاطنين بالحرم، صلات وجوائز. ثم قطع البحر من جده يؤم بلاد
المغرب.
الاسكندر في بلاد المغرب
وروى عن ابن عباس: ان نوحا ع قسم الارض بين ولده الثلاثة، فخص ساما
بوسط الارض التي تسقيه الانهار الخمسة: الفرات، ودجلة، وسيحان، وجيحان،
[1] ، وقيسون، وهو نهر بلخ، وجعل لحام ما وراء النيل الى منفح الدبور،
وجعل ليافث ما وراء قيسون الى منفح الصبا.
وقالوا: الارض اربعه وعشرون الف فرسخ، فبلاد الاتراك من ذلك ثلاثة آلاف
فرسخ، وارض الخزر [2] ثلاثة آلاف فرسخ، وارض الصين ألفا فرسخ، وارض
الهند والسند والحبشه وسائر السودان سته آلاف فرسخ، وارض الروم ثلاثة
آلاف فرسخ، وارض الصقالبه ثلاثة آلاف فرسخ، وارض كنعان، وهي مصر، وما
وراءها مثل إفريقية، وطنجه، وفرنجه، والاندلس ثلاثة آلاف فرسخ، وجزيرة
العرب وما والاها الف فرسخ.
قالوا: وبلغ الاسكندر امر قنداقه ملكه المغرب، وسعه بلادها، وخصب أرضها
وعظم ملكها، وان مدينتها اربعه فراسخ، وان طول الحجر الواحد من سور
مدينتها ستون ذراعا. واخبر عن حال قنداقه وعقلها وحزمها، فكتب إليها:
من الاسكندر بن الفيلفوس الملك المسلط على ملوك الارض الى قنداقه ملكه
سمره، اما بعد، فقد بلغك ما أفاء الله على به من البلاد، وأعطاني من
العد
__________
[1] سيحان وجيحان: نهران بأرض الاناضول قرب طرسوس.
[2] الارض المحيطة ببحر قزوين.
(1/34)
والنصره، فان سمعت، واطعت، وآمنت بالله،
وخلعت الأنداد التي تعبد من دون الله، وحملت الى وظيفه الخراج، قبلت
منك وكففت عنك، وتنكبت أرضك، وان أبيت ذلك سرت إليك، ولا قوه الا
بالله.
فكتبت اليه: ان الذى حملك على ما كتبت به فرط بغيك، وعجبك بنفسك، فإذا
شئت ان تسير فسر، تذق غير ما ذقت من غيرى، والسلام.
فلما رجع جواب كتابه ارسل إليها بملك مصر، وكان في طاعته، ليدعوها الى
الطاعة، وينذرها وبال المعصية، فسار إليها في مائه رجل من خاصته، فلم
يجد عندها ما يحب، فرجع الى الاسكندر، فاعلمه، فتجهز الاسكندر إليها،
ومضى في جنوده، حتى انتهى الى مدينه القيروان [1] وهي من مصر على شهر
فافتتحها بالمجانيق [2] ، ثم سار الى القنداقه، فكانت له ولها قصص
وأنباء، فعاهدها على الموادعة والمسالمه، والا يطور بسلطانها وشيء مما
في مملكتها. ثم سار من هناك قاصدا الظلمه التي في الشمال، حتى دخلها،
فسار فيها ما شاء الله، ثم انكفأ راجعا حتى إذا صار في تخوم ارض الروم
ابتنى هناك مدينتين، يقال لإحداهما، قافونية، وللأخرى سوريه.
الاسكندر وبلاد الشرق الأقصى
ثم هم بالاجتياز الى ارض المشرق، فقال له وزراؤه: كيف يمكنك الاجتياز
الى مطلع الشمس من هذه الجهة، ودون ذلك البحر الأخضر، ولا تعمل فيه
السفن، لان ماءه شبيه بالقيح، ولا يصبر على نتن ريحه احد؟ فقال: لا بد
من المسير، ولو لم اسر الا وحدي. قالوا: نحن معك حيث سرت. فسار حتى قطع
ارض الروم، يؤم مشرق الشمس، ثم جاوزهم
__________
[1] مدينه بتونس بناها عقبه بن نافع سنه 55 هـ. واتخذت عاصمه لبلاد
المغرب، وبها جوامع كثيره.
[2] جمع منجنيق، لفظه معربه من الفارسيه، وهو آله للحرب، ترمى بها
الحجاره.
(1/35)
الى ارض الصقالبه، فأذعنوا له بالطاعة،
فجازهم الى ارض الخزر، فأذعنوا له، فجازهم الى ارض الترك، فأذعنوا له،
فسار في ارضهم حتى بلغ المفازة التي بينهم وبين بلاد الصين، فركبها،
وسار، حتى إذا قرب من ارض الصين اجلس وزيرا له يقال له فيناوس في
مجلسه، وامره ان يتسمى باسمه، وتسمى هو فيناوس، وقصد الملك حتى وصل
اليه، فلما دخل عليه قال له: من أنت؟ قال: انا رسول الاسكندر، المسلط
على ملوك الارض، قال: واين خلفته؟، قال: على تخوم أرضك، قال: وبماذا
ارسلك؟، قال: أرسلني لانطلق بك اليه، فان اجبت اقرك في أرضك، واحسن
حباءك [1] ، وان أبيت قتلك، واخرب أرضك، فان كنت جاهلا بما اقول، فسل
عن دارا بن دارا ملك ايران شهر، هل كان في الارض ملك اعظم ملكا منه،
واكثر جنودا، واقوى سلطانا، وكيف سار اليه، واغتصبه نفسه، وسلبه ملكه،
وسل عن فؤر ملك الهند الى ما آل امره.
قال ملك الصين: يا فيناوس، انه قد بلغنى امر هذا الرجل، وما اعطى من
النصر والظفر، وكنت على توجيه وفد اليه، اساله الموادعة، واصالحه على
الهدنة، فابلغه، انى له على السمع والطاعة، وأداء الاتاوه في كل عام،
فليست به حاجه الى دخول ارضى.
ثم بعث اليه بتاجه، وبهدايا من تحف ارضه، من السمور [2] والقاقم،
والخز، والحرير الصيني، والسيوف الهندية، والسروج الصينية، والمسك،
والعنبر، وصحاف الذهب والفضه، والدروع، والسواعد، والبيض [3] ، فقبض
ذلك الاسكندر.
__________
[1] الحباء: العطاء.
[2] السمور: حيوان يشبه الثعلب يتخذ من فروه بعض اللباس.
[3] البيض جمع بيضه، نوع من السلاح، وابتاض الرجل: لبس البيضه.
(1/36)
يأجوج وماجوج
وسار راجعا الى عسكره، وتنكب ارض الصين، وسار الى الامه التي قص الله
جل ثناؤه قصتها ف قالُوا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فكان من قصته وبنائه الردم ما
قد اخبر الله به في كتابه [1] ، فسألهم عن اجناس تلك الأمم، فقالوا:
نحن نسمى لك من بالقرب منا منهم، فاما ما سوى ذلك، فلا نعرفه، هم يأجوج
وماجوج، وتاويل وتاريس، ومنسك وكمارى.
فلما فرغ من بناء السد بينهم وبين تلك الأمم رحل عنهم، فوقع الى أمه من
الناس، حمر الألوان، صهب الشعور، رجالهم معتزلون عن نسائهم، لا يجتمعون
الا ثلاثة ايام في كل عام، فمن اراد منهم التزويج، فإنما يتزوج في تلك
الثلاثة الأيام، وإذا ولدت المرأة ذكرا، وفطمته دفعته الى ابيه في تلك
الثلاثة الأيام، وان كانت أنثى حبستها عندها، فارتحل عنهم، وسار حتى
صار الى فرغانه [2] فراى قوما لهم اجسام وجمال، فأعطوه الطاعة، فسار من
فرغانه الى سمرقند، فنزلها واقام شهرا، ثم رحل، فسلك على بخارى [3] ،
حتى انتهى الى النهر العظيم، فعبره في السفن الى مدينه آمويه، وهي آمل
خراسان، ثم سلك المفازة حتى خرج الى ارض قد غلب عليها الماء، فصارت
آجاما ومروجا، فامر بتلك المياه، فسدت عنها حتى جفت الارض، فابتنى هناك
مدينه، واسكنها قطانا، وجعل لها رساتيق، وقرى، وحصونا، وسماها مر
خانوس، وهي مدينه مرو [4] ، وتسمى
__________
[1] سوره الكهف، الآية رقم 94.
[2] إيالة كبيره في تركستان، وصلت فيها العلوم والمعارف الى اقصى حد من
الرقى، ابان العهد الإسلامي بها، وظهر منها علماء وأدباء كثيرون، وقد
احتلها الروس سنه 1876 م.
[3] مدينه من اعظم المدن في آسيا الوسطى، وهي مركز هام للتجارة بين
الصين والهند والافغان وروسيا، ولها نشاط كبير في العلم والصناعة
والأسلحة، وقد فتحها العرب في عهد معاويه سنه 55 هـ.
[4] اشهر مدن خراسان، بينها وبين نيسابور سبعون فرسخا، ومعنى لفظ مرو
الحجاره البيض التي يقتدح بها.
(1/37)
أيضا ميلانوس، ثم اجتاز بنيسابور، وطوس حتى
وافى الري [1] ، ولم تكن ايامئذ، وانما بنيت بعد ذلك في ملك فيروز بن
يزدجرد بن بهرام جور، ثم اجتاز من هناك على الجبل، وحلوان [2] ، حتى
وافى العراق، فنزل المدينة العتيقة التي تسمى طيسفون [3] ، فأقام حولا،
ثم سار يريد الشام حتى اتى بيت المقدس.
ملوك الطوائف
فلما اطمان بها، قال لمؤدبه ارسطاطاليس: انى قد وترت اهل الارض جميعا
لقتلى ملوكهم، واحتوائى على بلدانهم وأخذي أموالهم، وقد خفت ان
يتضافروا على اهل ارضى من بعدي، فيقتلونهم ويبيدونهم لحنقهم على، وقد
رايت ان ارسل الى كل نبيه وشريف، ومن كان من اهل الرياسة في كل ارض،
والى أبناء الملوك فاقتلهم.
فقال له مؤدبه: ليس ذاك راى اهل الورع والدين، مع انك ان قتلت أبناء
الملوك واهل النباهة والرياسة كان الناس عليك، وعلى اهل أرضك أشد حنقا
من بعدك، ولكن لو بعثت الى أبناء الملوك واهل النباهة فتجمعهم إليك،
فتتوجهم بالتيجان، وتملك كل رجل منهم كوره [4] واحده، وبلدا واحدا،
فإنك تشغلهم بذلك، بتنافسهم في الملك، وحرص كل واحد على أخذ ما في
__________
[1] الري: مدينه من اشهر مدن ايران، واقدمها، وهي واقعه في اقصى شمال
عراق العجم، وقد كانت عاصمه السلجوقيين، وفتحها عروه بن زيد الخيل ايام
الخليفة عمر بن الخطاب سنه 20 بأمر والى الكوفه عمار بن ياسر، وقد نشا
فيها علماء كثيرون.
[2] حلوان من المدن المشهوره بالعراق، وتقع على بعد 160 ك. م. شمال
شرقى بغداد، وقد كانت حلوان معمورة ايام الاكاسره، وفتحها هاشم بن عتبة
بن ابى وقاص في عهد عمر بن الخطاب، وهي مسقط راس بعض العلماء.
[3] ذكر الجغرافيون انها كانت تقع على بعد ثلاثة فراسخ من بغداد، وقد
كان بها قصر لكسرى، ويذكرها الاوربيون باسم اكتسيفون.
[4] الكورة: الصقع والمدينة.
(1/38)
يدي صاحبه، عن اهلاك بلادك، فتلقى بأسهم بينهم، وتجعل شغلهم بانفسهم،
فقبل الاسكندر ذلك منه، وفعله، وهم الذين يقال لهم ملوك الطوائف.
نهاية الاسكندر
ثم هلك الاسكندر ببيت المقدس، وقد ملك ثلاثين سنه، جال الارض منها
أربعا وعشرين سنه، واقام بالإسكندرية في مبتدإ امره ثلاث سنين، وبالشام
عند انصرافه ثلاث سنين، فجعل في تابوت من ذهب، وحمل الى الاسكندرية.
وبنى الاسكندر [1] اثنتى عشره مدينه، الإسكندرية بأرض مصر، ومدينه
نجران بأرض العرب، ومدينه مرو بأرض خراسان، ومدينه جى بأرض أصبهان،
ومدينه على شاطئ البحر تدعى صيدودا، ومدينه بأرض الهند تدعى جروين،
ومدينه بأرض الصين تدعى قرنيه، وسائر ذلك بأرض الروم.
قالوا: ولما توفى الاسكندر حمى كل رجل من أولئك الذين ملكهم حيزه [2] ،
ودفعوا الحرب، فلم يكن يغلب احدهم صاحبه الا بالحكمه والآداب، يتراسلون
بالمسائل، فان أصاب المسئول حمل اليه السائل، وان بغى احد منهم على
الآخر، وانتقصه شيئا من حيزه أنكروا جميعا ذلك عليه، فان تمادى اجمعوا
على حربه، فسموا بذلك ملوك الطوائف. |