الأخبار الطوال

ملوك اليمن
وزعموا ان الملوك الأربعة [3] ، الذين لعنهم النبي ص، ولعن أختهم ابضعه، لما هموا بنقل الحجر الأسود الى صنعاء ليقطعوا حج العرب عن البيت الحرام الى صنعاء، وتوجهوا لذلك الى مكة، فاجتمعت كنانه الى فهر بن مالك ابن النضر، فلقيهم، فقاتلهم، فقتل ابن لفهر، يسمى الحارثة، لم يعقب،
__________
[1] بياض في الأصل.
[2] نواحي بلاده.
[3] ملوك كنده.

(1/39)


وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، واسر الرابع، فلم يزل مأسورا عند فهر بن مالك حتى مات.
واما ابضعه، فهى التي يقال لها العنقفير، ملكت بعد إخوتها باخبث سيره، كانت تتخير الرجال على عينها، فمن أعجبها دعته الى نفسها، فوقع بها، لا يقدر احد ان ينكر عليها، وانها ابصرت فتى من قيس، فأعجبها، فدعته الى نفسها، فوقع بها، فالقحها غلامين في بطن، فسمت أحدهما سهلا، والآخر عوفا، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء قيس:
وذي تومه في اذنه وضفيرة ... وسيم جميل لا يخيل مخايله
إذا ما رأته قيلة حميرية ... تجر له حبل الشموس تهازله
قالوا: وكان ذو الشنائر ملك عنس ويحاير [1] ، وكان عظيم الملك، كثير الجنود، وكان ملكه على عمان، والبحرين، واليمامه، وسواحل البحر.
ملك اردوان بن اشه
قالوا: ولم يكن في ملوك الطوائف الذين كانوا بأرض العجم ملك اعظم ملكا، ولا اكثر جنودا من اردوان بن اشه بن اشغان ملك الجبل، كان اليه الماهان وهمذان، وماسبذان، ومهرجانقذق، وحلوان [2] ، وسائر الملوك انما كان يكون الى الرجل منهم كوره واحده وبلد واحد. وكان الملك منهم إذا مات قام بالملك بعده ابنه او حميمه، وكان جميع ملوك الطوائف يقرون لاردوان ملك الجبل بفضله، لاختصاص الاسكندر اياه دونهم بفضل الملك، وكان مسكنه بمدينه نهاوند [3] العتيقة.
قالوا: وفي ذلك العصر بعث المسيح عيسى بن مريم ع.
__________
[1] قبيلتان يمنيتان.
[2] مدن بأرض فارس، وبالعراق العجمي.
[3] بلد من بلاد الجبل، جنوبى همذان.

(1/40)


اسعد بن عمرو
قالوا: وان اسعد بن عمرو بن ربيعه بن مالك بن صبح بن عبد الله بن زيد بن ياسر ينعم الملك الذى ملك بعد سليمان بن داود، ص [1] ، لما نشا وبلغ، انف من ابتزاز قبائل ولد كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب الملك حمير، وكان الملك لهم، وفي عصرهم، فجمع اليه حمير، وذلك بعد ان ملكت المقاول بأرض اليمن، فكانوا سبعه ملوك، توارثوا الملك مائتين وخمسين سنه، فسار الى ملك همذان، فحاربه، فظفر به، ثم سار الى ملك عنس ويحاير، ففعل به مثل ذلك، واتى ملك كنده، واعطى الظفر حتى اجتمع له ملك جميع ارض اليمن.
فلما اجتمع لاسعد الملك وجه ابن عمه القيطون بن سعد الى تهامه والحجاز، وجعله ملكا عليها، فنزل يثرب، فاعتدى وتجبر، حتى امر ان لا تهدى امراه الى زوجها حتى يبدءوه بها، وسلك في ذلك مسلك عمليق، ملك طسم وجديس، الى ان زوجت اخت لمالك بن العجلان من الرضاعه، فلما أرادوا ان يذهبوا بها الى القيطون اندس معها مالك بن العجلان متنكرا، فلما خلاله البيت عدا عليه بسيفه، فقتله، وعدوا على اصحابه، فقتلوا اجمعين، وبلغ ذلك اسعد الملك، فسار اليهم، فنزل بالمدينة على نهر يسمى، بئر الملك، فكان من قصته ما هو مشهور، قد كتبناه في غير هذا الموضع.
بعثه عيسى الرسول
قالوا: ولما ابتعث الله عيسى بن مريم، فاقبلت اليهود لتقتله، فرفعه الله اليه، أتوا يحيى بن زكرياء، فقتلوه، فسلط الله عليهم ملكا من ملوك الطوائف من ولد بخت نصر الاول [2] ، فقتل بنى إسرائيل، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ.
__________
[1] كذا في الأصل.
[2] بخت نصر هو ملك الكلدانيين، وقد ملك عرش بابل من 747- 733 ق. م، ويبدأ به تقويم بطلميوس، ويذكر البيرونى ان الصيغه الفارسيه لاسم بخت نصر هي بخت نرس، ومعناها كثره البكاء والأنين.

(1/41)


أردشير بن بابك
قالوا: فلما تم لملوك الطوائف مائتا سنه، وست وستون سنه ظهر أردشير ابن بابكان، وهو أردشير بن بابك بن ساسان الاصغر بن فافك بن مهريس ابن ساسان الاكبر بن بهمن الملك بن اسفندياذ بن بشتاسف، فظهر بمدينه اصطخر، فدب في رد ملك فارس في نصابه، واتسقت له الأمور، فلم يزل يغلب ملكا، ويقتل ملكا، ويحتوى على ما تحت يده، حتى انتهى الى فرخان ملك الجبل، وكان آخر ملك من ولد اردوان، فكتب اليه أردشير، بالدخول في طاعته، فلما أتاه كتابه امتلا غيظا، وقال لرسله: لقد ارتقى ابن ساسان الراعى مرتقى وعرا، ولم يحفل به، وكتب اليه: ان الميعاد بيني وبينك صحراء الهرمزدجان في سلخ مهر ماه [1] ، فسبق أردشير الى المكان، فوافاه فرخان في سلخ مهر ماه، فاقتتلوا، فقتله أردشير، وسار من فوره حتى ورد مدينه نهاوند، فنزل قصر الفرخان، فأقام شهرا، ثم سار الى الري، ثم الى خراسان، لا ياتى حيزا الا أذعن له ملكه بالطاعة، ثم سار الى سجستان، ثم الى كرمان [2] ، ثم سار الى فارس [3] ، فنزل مدينه اصطخر، فأقام حولا، ثم سار نحو العراق، فتلقاه من كان بها من ملوك الطوائف بالاهواز، فقاتلهم، فقتلهم،
__________
[1] شهر من شهور السنه الشمسيه الجلالية، ووقته من 21 سبتمتر الى 21 اكتوبر.
[2] كرمان: ولايه مشهوره وناحيه كبيره معمورة ذات بلاد وقرى ومدن واسعه بين فارس وسجستان وخراسان.
[3] فارس: إيالة من إيالات ايران، وهي أكثرها عماره، يحدها من الجنوب الغربي بحر فارس ومن الغرب ومن الشمال عراق العجم ومن الشرق والجنوب الشرقى إيالة كرمان، وقد كانت فارس مركزا للدولة الايرانيه القديمه، ثم اصبحت عاصمه لدولة الكيانية منذ عهد كيخسرو، وبعد فتوح الاسكندر فقدت فارس مركزها كعاصمه، ولكنها عادت ثانيه الى مركزها الاول بعد تأسيس الدولة الساسانيه، إذ اختار أردشير مؤسس الدولة الساسانيه مدينه اصطخر، وهي عاصمه فارس، عاصمه له ولدولته. وقد فتح المسلمون فارس ايام عمر بن الخطاب، واستمرت فتوحاتهم بها الى عهد عثمان بن عفان، ولما أصيبت مدينه اصطخر بالخراب، صارت عاصمه فارس مدينه شيروز الى ان انتقلت العاصمة الى مدينه طهران.

(1/42)


ثم سار حتى عسكر بموضع المدائن اليوم، فاختطها، وبناها، فلما استوثق له الملك دعا بابنه أخ الفرخان، التي أخذها من قصر الفرخان بنهاوند،، وكانت ذات جمال ولب، وقد كان افضى إليها، وسالها من نسبها، فاخبرته، فقال لها: قد اسات حين أعلمتني، لانى اعطيت الله عهدا، ان أظهرني الله بالفرخان الا ادع من اهل بيته أحدا، ثم دعا ابرسام وزيره، فقال: انطلق بهذه الجاريه فاقتلها.
فاخذ ابر سام بيد الجاريه، فأخرجها لينفذ فيها امره، فلما خرجت قالت لابرسام: انى حامل لاشهر، فلما قالت له ذلك انطلق بها الى منزله، وامر بالإحسان إليها، وقال لاردشير: قد قتلتها.
وزعموا انه جب نفسه [1] ، وأخذ مذاكيره، فجعلها في حق [2] وختم عليه، واتى به أردشير، وساله ان يأمر بعض ثقاته باحرازه، فانه سيحتاج اليه يوما، فامر أردشير بالحق، فاحرز.
ثم ان الجاريه ولدت غلاما كاجمل ما يكون من الغلمان، وهو سابور بن أردشير الذى ملك بعده، وان أردشير اقام بالعراق حولا، ثم سار الى الموصل، فقتل ملكها، ثم انصرف، وجعل يسير، فسار الى عمان والبحرين واليمامه، فخرج اليه سنطرق ملك البحرين، فحاربه، فقتله أردشير، وامر بمدينته، فاخربت.
قالوا: وان ابرسام دخل على أردشير يوما، وهو مستخل وحده، مفكر مهموم، فقال: ايها الملك، عمرك الله، ما لي أراك مهموما حزينا، وقد أعطاك الله امنيتك، ورد الله إليك ملك آبائك، فأنت اليوم شاهان شاه.
قال أردشير: ذاك الذى أحزنني، انى قد استحوذت على الارض، ودان لي جميع الملوك، وليس لي ولد، يرث ملكي الذى انصبت فيه نفسي. فلما سمع
__________
[1] استأصل خصيتيه.
[2] الحق والحقه بالضم: وعاء من خشب، والجمع حقق واحقاق.

(1/43)


ذلك ابرسام قال في نفسه: هذا وقت اظهار امر تلك المرأة الاشغانيه، وقد كان اتى على ابنها خمس سنين، فقال: ايها الملك، انى كنت استودعتك يوم أمرتني بقتل المرأة الاشغانيه حقا مختوما، وقد احتجت اليه، فمر باخراجه، فامر به أردشير، فاخرج اليه، ففتحه، وأراه أردشير، فإذا فيه مذاكيره، قد يبست في جوف الحق.
فقال له أردشير: ما هذا؟ فاخبره الخبر، واعلمه حال الغلام، ففرح أردشير بذلك، ثم قال لابرسام: ائتنى بالغلام، واجعله ما بين مائه غلام من اقرانه، ففعل ابرسام ذلك.
فلما ادخلهم عليه تأملهم غلاما غلاما، حتى إذا بلغ الى سابور راى تشابه ما بينه وبينه، فتحرك له قلبه، فامسك نفسه، ولم يكلمه، وامر بان يعطى الغلمان جميعا صوالجه [1] ، ويطرح لهم كره في الرحبه ليلعبوا بين يديه مقابل الإيوان، وقال لابرسام: احتل ان تقع الكره عندي في الإيوان، ففعل.
ووقعت الكره على بساطه، فوقف جميع أولئك الغلمان على باب الإيوان، ولم يجترئ واحد منهم ان يدخل، فيتناول الكره من بين يديه الا الغلام، فانه اقتحم من بينهم على ابيه، فتناول الكره من بين يديه.
فلما راى ذلك أردشير مد يده، فتناول الغلام، وضمه اليه، وقبله، وامر به وبامه ان ترد اليه، وهو سابور الذى ملك بعده، واكرم ابرسام، واقطعه القطائع الكثيره، وامر بان تصور صوره ابرسام على الدراهم والبسط حتى انقضى ملكهم.
قالوا: وفي ملك أردشير بعث الله عيسى ع، ويزعمون انه بعث بأحد حوارييه الى أردشير، وانه جاء الى مدينه طيسفون، فنزل على ابرسام
__________
[1] جمع صولجان: وهو العصا معقوفه الراس مثل المضرب تقذف به الكره، وكان ملوك الفرس يتخذونه من الذهب شعارا لهم.

(1/44)


فكان إذا امسى استسرج له سراج، فيصلى طول ليله، ويتلو الانجيل، فسأله ابرسام عن قصته ودينه، فاخبره انه رسول المسيح عيسى بن مريم، فأفضى ابرسام الخبر الى أردشير، فدعا به، فنظر الى سمته وهدوئه، وأراه الشيخ آيات من آيات المسيح، فلم يبعد عند أردشير، ولا هاجه بسوء.
ملك الموصل وجرجيس
قالوا: وفي زمان ملوك الطوائف كانت قصه جرجيس، واتيانه ملك الموصل، وكان جبارا متمردا، يعبد الأصنام، ويحمل الناس على عبادتها، وكان جرجيس من اهل الجزيرة، وكان من امره وامر ذلك الملك ما قد أتت به الاخبار.
وكان أردشير هو الذى اكمل آيين [1] الملوك ورتب المراتب، واحكم السير، وتفقد صغير الأمر وكبيره، حتى وضع كل شيء من ذلك على موضعه، وعهد عهده المعروف الى الملوك، فكانوا يمتثلونه، ويلزمونه، ويتبركون بحفظه والعمل به، ويجعلونه درسهم ونصب اعينهم، وبنى من المدن ست مدائن، منها بأرض فارس مدينه أردشير خره، ومدينه رام أردشير ومدينه هرمزدان أردشير، وهي قصده الاهواز، ومدينه استاذ أردشير، وهي كرخ ميسان، ومدينه فوران أردشير، وهي التي بالبحرين، ومدينه بالموصل، تسمى خرزاد أردشير.
ملكيكرب ملك اليمن
قالوا: وملك بعد اسعد ملك اليمن، الذى كسا البيت ونحر عنده وطاف به وعظمه ابن عمه ملكيكرب بن عمرو بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو ذي الاذعار، فملك عشرين سنه لا يبرح بيته، ولا يغزو كما كانت الملوك قبله تفعله تحرجا من الدماء.
__________
[1] آيين الملوك: دستورهم ونظامهم.

(1/45)


ملك التبابعه
ثم ملك بعده ابنه تبع بن ملكيكرب، وهو تبع الأخير، وكانت التبابعه ثلاثة، اولهم: شمر ابو كرب الذى غزا الصين، واخرب مدينه سمرقند، والثانى تبع اسعد الذى ذبح للبيت الحرام الذبائح، وعلق عليه باب ذهب، والثالث تبع بن ملكيكرب، ولم يسم غير هؤلاء الثلاثة من ملوك اليمن تبعا، وكان تبع هذا الأخير في عصر سابور بن أردشير، وفي عصر هرمز بن سابور، وكان تبع بن ملكيكرب كبير الشان عظيم السلطان، وهو الذى غزا بلاد الهند، فقتل ملكها، وهو من اولاد فؤر الملك الذى قتله الاسكندر، ثم انصرف الى اليمن، ومات في ملك بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير.
ثم ملك من بعد تبع ابنه حسان بن تبع بن ملكيكرب، وهو الذى غزا ارض فارس فيما يزعمون، وهو الذى ضجرت الحميرية لكثرة غزوه بها، وقله مقامه بأرض اليمن، فزينوا لأخيه عمرو بن تبع قتله ليملكوه عليهم، فطابقوه جميعا على ذلك الا ذارعين فانه ابى ذلك، ولم يدخل فيه مع القوم، فعدا عمرو على أخيه، فقتله، وملك من بعده، وانصرف بقومه الى اليمن، فسلط الله عليهم السهر.
سابور
فلما ملك سابور بن أردشير غزا ارض الروم، فافتتح مدينه قالوقيه، ومدينه قبدوقيه، واثخن في الروم، ثم انصرف الى العراق، وسار الى ارض الاهواز ليرتاد مكانا يبنى فيه مدينه، يسكنها السبى الذى قدم بهم من ارض الروم، فبنى مدينه جنديسابور، واسمها بالخوزيه نيلاط، وأهلها يسمونها نيلاب، فكان سابور قد اسر اليريانوس خليفه صاحب الروم، فأمره ببناء قنطره على نهر تستر على ان يخليه، فوجه اليه ملك الروم ناسا من ارض الروم والأموال، فبناها، فلما فرغ منها اعتقه.

(1/46)


مانى
وفي زمان سابور ظهر مانى الزنديق [1] ، واغوى الناس، ومات سابور قبل ان يظفر به، وملك سابور احدى وثلاثين سنه.
هرمز
وافضى الملك بعده الى ابنه هرمز بن سابور، فاخذ مانى، فامر به، فسلخ جلده، وحشاه بالتبن، وعلقه على باب مدينه جنديسابور، فهو الى اليوم يدعى باب مانى، وتتبع اصحابه ومن استجاب له، فقتلهم جميعا، فملك ثلاثين سنه.
اولاد هرمز
واسند الملك الى ابنه بهرام بن هرمز، فملك سبع عشره سنه، ثم ملك ابنه بهرام بن بهرام، ثم ملك ابنه نرسى بن بهرام بن بهرام، فملك سبع سنين، ومات. فملك ابنه هرمزدان بن نرسى، فملك سبع سنين، ومات، ولم يكن له ولد يرثه الملك، غير ان امراته كانت حاملا لاشهر، فامر بالتاج، فوضع على بطنها، وتقدم الى عظماء اهل فارس الا يملكوا عليهم أحدا حتى ينظروا ما يولد له، فان كان ذكرا سموه سابور، وأقروه على الملك، ووكلوا به من يحضنه، ويقوم بأمر الملك الى إدراكه، وان كان أنثى اختاروا رجلا لأنفسهم من اهل بيته، فملكوه عليهم، فولدت المرأة ذكرا، وسموه سابور، وهو المنبوز [2] بذى الاكتاف.
__________
[1] ولد حوالى سنه 240 م، وادعى انه النبي الموعود الذى جاء اسمه في ياراقليت، ودعا الناس الى مذهب جديد بين المسيحيه والزردشت، وقد قتل بأمر الملك بهرام سنه 274 م، ويطلق عليه بعض المؤرخين اسم مانى النقاش، وقد زعم مانى ان العالم مصنوع من اصلين: أحدهما نور، والآخر ظلمه، وهما أزليان.
[2] النبز بالتحريك: اللقب.

(1/47)


سابور ذو الاكتاف
فشاع لما مات هرمزدان في اطراف الارضين انه ليس لارض فارس ملك، وانهم يلوذون بصبى في مهد، فطمعوا في مملكه فارس، فورد جمع عظيم من الاعراب من ناحيه البحرين وكاظمه [1] الى ابرشهر وسواحل أردشير خره، فشنوا بها الغارة، واتى بعض ملوك غسان على الجزيرة في جموع عظيمه حتى اغار على السواد، فمكثت مملكه فارس حينا لا يمتنعون من عدو لوهى امر الملك.
فلما ترعرع الغلام كان أول ما ظهر من حزمه انه استيقظ ليله وهو نائم في قصره بمدينه طيسفون بضوضاء الناس لازدحامهم على جسر دجلة مقبلين ومدبرين، فقال: ما هذه الضوضاء؟، فاخبر، فقال: ليعقد لهم جسر آخر، يكون أحدهما لمن يقبل، والآخر لمن يدبر، ففعلوا، وتباشروا بما ظهر من فطنته مع طفوليته.
فلما أتت له خمس عشره سنه تجرد لضبط الملك، ونفى العدو عنه، فتأهب، وسار الى ابرشهر، فطرد من كان صار إليها من الاعراب، وقتلهم اخبث قتله.
وكذلك فعل بالجزيرة، فصار الى الضيزن الغساني، فحاصره في مدينته التي على شاطئ الفرات مما يلى الرقة [2] ، فزعموا ان ابنه الضيزن، واسمها مليكه، وزعموا ان أمها عمه سابور دختنوس ابنه نرسى، وان الضيزن كان سباها لما اغار على مدينه طيسفون، فاشرفت مليكه على عسكر سابور، وهو محاصر لأبيها، فرات سابور، فعشقته، فراسلته، على ان تدله على عوره أبيها، على ان يتزوجها، فوعدها سابور ذلك، ففعلت.
__________
[1] موضع على البحر بينه وبين البصره مرحلتان.
[2] اسم بلد، ومعناه كل ارض الى جنب واد ينبسط فيها الماء ايام المد، ثم ينحسر عنها فتعد للنبات.

(1/48)


فاسكرت بالحص [1] حرس احد الأبواب حتى ناموا، وامرت بفتح الباب، فدخل سابور وجنوده، فاخذ الضيزن، فقتله، وخلع اكتاف اصحابه، وخلاهم، وكذا كان يفعل بمن اسر من الأعداء، فبذلك سمى ذا الاكتاف.
ووفى لابنته بما وعدها، ثم قتلها بعد: ربطها بين فرسين، واجراهما، فقطعاها، وقال لها: أنت إذا لم تصلحى لأبيك لا تصلحين لي.
وامر سابور فبنيت له مدينه الأنبار [2] ، وسماها فيروز سابور، وكورها كوره، وبنى بالسوس [3] مدينه، وهي التي الى جانب الحصن، الذى يسمى سادانيال الذى كان فيه جسد دانيال ع.
الروم وسابور
قالوا: وكان ملك الروم في ذلك العصر مانوس وكان يدين فيما ذكروا قبل ان يملك دين النصرانية، فلما ملك اظهر مله الروم الاولى، وأحياها، وامر بتحريق الانجيل، وهدم البيع، وقتل الأساقفة، فلما قتل سابور الضيزن الغساني غضب لذلك، فجمع من كان بالشام من غسان، واقبل فيهم، ومعه جيوش الروم، حتى ورد العراق.
ووجه سابور عيونا ليأتوه بخبرهم، فانصرف اليه عيونه، وقد اختلفوا عليه، فخرج ليلا في ثلاثين فرسا، ليشرف على عسكر الروم، وقدم امامه عشره منهم، فاخذتهم الروم، فاتوا بهم اليوبيانوس خليفه الملك وابن عمه، فسألهم عن امرهم، وتوعدهم القتل، فقام اليه رجل منهم مسرا عن اصحابه، فقال له: ان سابور منك بالقرب، فضم الى خيلا حتى آتيك به أسيرا.
__________
[1] يقال إنه الزعفران.
[2] مدينه قرب بلخ، وهي قصبه ناحيه جوزجان.
[3] مدينه في ايران، وقد فتحها العرب سنه 638 م، وظلت مزدهره على ايامهم، ثم خربت في القرون الوسطى.

(1/49)


وكانت بين اليوبيانوس وسابور موده وخله، فأرسل الى سابور ينذره، فانصرف راجعا، وسار الملك الرومي الى باب مدينه طيسفون، وخرج اليه سابور في جنوده، فهزمه الرومي حتى بلغوا قنطره جازر، واحتوى الرومي على مدينه طيسفون، ولم يقدروا على القصر لحصانته، ومن فيه من الحماه عنه، وثاب الناس الى سابور، فزحف الى جمع الروم، فنحاهم عن المدينة، وعسكر ببابها، وراسل ملك الروم، فبينما هم في ذلك إذ اتى ملك الروم سهم عائر، وهو في مضربه، وحوله بطارقته، فأصاب مقتله، فسقط في أيدي الروم لمكانهم الذى هم به، واشراف عدوهم عليهم، فطلبوا الى اليوبيانوس ان يتملك عليهم، فأبى، وقال: لست اتملك على قوم مخالفين لي في ديني، لانى على دين النصرانية، وأنتم على دين الروم الاول، فقال له البطارقه والعظماء: فانا نحن جميعا على مثل ما أنتم عليه، غير انا كنا نكاتم بذلك خوفا من الملك، فتملك عليهم اليوبيانوس، ولبس التاج.
وبلغ سابور امرهم، فأرسل اليهم: اصبحتم اليوم في قبضتي وقدرتي، ولأقتلنكم بمكانكم هذا جوعا وهزلا، فاجمع اليوبيانوس على اتيان سابور، لما كان بينهم من المودة، فأبى عليه البطارقه والرؤساء، فخالفهم، وأتاه، فعرف له سابور يده عنده في إنذاره اياه تلك الليلة وجعل له اليوبيانوس نصيبين [1] ، وحيزها عوضا مما افسدت الروم من مملكته، وكتب له بذلك.
وبلغ اهل نصيبين ذلك، فانتقلوا عنها ضنا بالنصرانية، وكراهية لتمليك الفرس عليهم، فنقل سابور إليها اثنى عشر الف اهل بيت من اصطخر، فأسكنهم فيها، فعقبهم بها الى اليوم، وانصرفت الروم الى أرضها، فلما تم لسابور اثنتان وسبعون سنه حضره الموت، فجعل الأمر من بعده لابنه سابور بن سابور.
فلما تم لملكه خمس سنين خرج يوما متصيدا، فنزل بمكان، وضربت
__________
[1] انظر الخريطة، وهي مدينه فيما بين النهرين، وقد اشتهرت قديما بمدرستها السريانية.

(1/50)


قبته، فجلس فيها، فاقبل قوم من الفتاك ليلا، فقطعوا اطناب [1] القبه، فسقطت عليه، فمات.
بهرام بن سابور
فملك بعده ابنه بهرام بن سابور، وكان على كرمان [2] ، فلما قتل أبوه قدم، فقام بالملك، فلما تم لملكه ثلاث عشره سنه خرج يوما متصيدا، فرمى بنشابه [3] ، فاصابته، فلما احس بالموت اوصى الى ابن أخيه يزدجرد بن سابور ابن سابور، وكان اصغر سنا منه.
يزدجرد بن سابور
فقام بالملك بعده، وهو يزدجرد الذى يلقب بالاثيم، وكان غلقا سيئ الخلق، لا يكافئ على حسن بلاء، وكان منانا، لا يتجاوز عن زله وان صغرت، ويعاقب على الصغيره كما يعاقب على الكبيره، وما كان احد يقدر على كلامه لفظاظته وغلظته، الا ان وزراءه كانوا أخيارا مترفقين متعاونين.
فولد له بهرام الذى يقال له بهرام جور، فدفعه الى المنذر ابى النعمان ليحضنه، فسار المنذر ببهرام الى الحيرة [4] وكانت داره واختار له المنذر المراضع، واحسن حضانته، فلما بلغ التأديب بعث اليه أبوه بمؤدبين من الفرس، واحضره المنذر مؤدبين من العرب، فاحكم الادبين، وكمل فيهما، ونشا نشا محمودا، وبرع في الأدب والفروسية، وخرج عاقلا لبيبا جميلا بهيا،
__________
[1] اطناب جمع طنب بضمتين، وهو حبل طويل يشد به السرادق والقباب.
[2] إقليم بين فارس وسجستان.
[3] النشاب هو النبل.
[4] الحيرة: مدينه كبيره بعراق العرب على الضفة اليمنى لنهر الفرات، يقال ان الذى بناها هو بخت نصر، وجددت في عهد الاسكندر، وقد ظلت الحيرة عاصمه لدولة عربية قبل الفتح الإسلامي، وفي عهد الامام على بن ابى طالب بنى بجوارها مدينه الكوفه واتخذت مقرا للخلافة الإسلامية، وبقيت الحيرة خرابا الى ان عثر فيها على قبر على المرتضى، فعادت إليها حياتها قريه صغيره، وتعرف الحيرة اليوم باسمى نجف، ومشهد، وتقع على بعد 77 ك. م جنوب شرقى كربلاء.

(1/51)


ومكنه المنذر من اللهو والقيان، فكان يركب النجائب، وتركب وراءه الصناجات [1] يلهينه ويطربنه، وتجرد لطرد الوحش على تلك الحال، فضرب به المثل، فتوه ورخاء بال.
مقتل عمرو بن تبع
قالوا: ولما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع واشراف قومه تضعضع امر الحميرية، فوثب رجل منهم لم يكن من اهل بيت الملك يقال له صهبان ابن ذي خرب على عمرو بن تبع، فقتله، واستولى على الملك.
صهبان والعدنانيون بتهامه
قال: وهو الذى سار الى تهامه لمحاربه ولد معد بن عدنان، وكان سبب ذلك ان معدا لما انتشرت تباغت وتظالمت، فبعثوا الى صهبان يسالونه ان يملك عليهم رجلا يأخذ لضعيفهم من قويهم، مخافه التعدى في الحروب، فوجه اليهم الحارث بن عمرو الكندى، واختاره لهم، لان معدا أخواله، أمه امراه من بنى عامر بن صعصعة، فسار الحارث اليهم باهله وولده، فلما استقر فيهم ولى ابنه حجر بن عمرو، وهو ابو إمرئ القيس الشاعر، على اسد وكنانه، وولى ابنه شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معدى كرب، وهو جد الاشعث بن قيس، على ربيعه.
فمكثوا كذلك الى ان مات الحارث بن عمرو، فاقر صهبان كل واحد منهم في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم ان بنى اسد وثبوا على ملكهم حجر ابن عمرو، فقتلوه، فلما بلغ ذلك صهبان وجه الى مضر عمرو بن نابل اللخمى والى ربيعه لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى اوفى بن عنق الحيه، وامره ان يقتل بنى اسد ابرح القتل، فلما بلغ ذلك أسدا وكنانه
__________
[1] جمع صناجه: وهن المغنيات ضاربات الدفوف.

(1/52)


استعدوا، فلما بلغه ذلك انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم، فاخرجوا ملكهم عمرو بن نابل عنهم، فلحق بصهبان، وبقي معدى كرب جد الاشعث، ملكا على ربيعه، فلما بلغ صهبان ما فعلت مضر بعماله آلى ليغزون مضر بنفسه.
وبلغ ذلك مضر، فاجتمع اشرافها، فتشاوروا في امرهم، فعلموا ان لا طاقه لهم بالملك الا بمطابقه ربيعه إياهم، فاوفدوا وفودهم الى ربيعه، منهم عوف بن منقذ التميمى، وسويد بن عمرو الأسدي جد عبيد بن الأبرص، والأحوص بن جعفر العامري، وعدس بن زيد الحنظلى، فساروا حتى قدموا على ربيعه، وسيد هم يومئذ كليب بن ربيعه التغلبى، وهو كليب وائل، فاجابتهم ربيعه الى نصرهم، وولوا الأمر كليبا، فدخل على ملكهم لبيد بن النعمان، فقتله، ثم اجتمعوا، وساروا فلقيهم الملك بالسلان، فاقتتلوا، ففلت جموع اليمن، وفي ذلك يقول الفرزدق لجرير:
لولا فوارس تغلب ابنه وائل ... نزل العدو عليك كل مكان
وانصرف الملك الى ارضه مفلولا، فمكث حولا، ثم تجهز لمعاوده الحرب، وسار، فاجتمعت معد، وعليها كليب فتوافوا بخزازى [1] ، فوجه كليب السفاح بن عمرو امامه، وامره إذا التقى بالقوم، ان يوقدوا نارا، علامه جعلها بينه وبينه، فسار السفاح ليلا حتى وافى معسكر الملك بخزازى، فاوقد النار، فاقبل كليب في الجموع نحو النار، فوافاهم صباحا، فاقتتلوا، فقتل الملك صهبان، وانفضت جموعه، وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم:
ونحن غداه اوقد في خزازى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
فلما قتل صهبان زاد حمير قتله اتضاعا ووهنا.
__________
[1] جبل، كانوا يوقدون عليه غداه الغارات.

(1/53)


ملك ربيعه بن نصر اللخمى اليمن
فجمع ربيعه بن نصر اللخمى جد النعمان بن المنذر قومه ومن أطاعه من ولد كهلان بن سبا، فاغتصب حمير الملك، فاجتمعت له ارض اليمن، فملكها زمانا، وهو ربيعه بن نصر بن الحارث بن عمرو بن لخم بن عدى بن مره بن زيد ابن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان. فلما استجمع لربيعه بن نصر امر اليمن راى في منامه رؤيا هالته، ووجل منها، فبعث الى شق وسطيح الكاهنين، فأخبرهما بما راى، فأخبراه في تأويلها بما يكون من غلبه السودان على ارض اليمن، وبغلبه فارس بعدهم، ثم بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع ذلك اوجس في نفسه خيفة، فأحب ان يخرج ولده وخاصه اهله من ارض اليمن
مسير عمرو اللخمى الى الحيرة
فوجه ابنه عمرا الى يزدجرد بن سابور، ويقال بل كان ذلك في عصر سابور ذي الاكتاف، فانزله الحيرة، فيومئذ بنيت الحيرة، فضم عمرو اليه اخوته واهل بيته، فمن هناك وقع آل لخم الى الحيرة، واتصلوا بالاكاسره، فجعلوا لهم على العرب سلطانا.
جذيمة والحيرة
فلما مات خلفه من بعده ابنه جذيمة بن عمرو، فزوج جذيمة اخته من ابن عمه عدى بن ربيعه بن نصر، فولدت له عمرو بن عدى الذى استطار به الجن، وله حديث، فلم يزل جذيمة ملكا بالخورنق [1] زمانا حتى دعته نفسه الى تزويج مارية ابنه الزباء الغسانية، وكانت ملكه الجزيرة، ملكت بعد عمها الضيزن
__________
[1] الخورنق بلد في بلخ، واما الخورنق قصر النعمان الاكبر فهو معرب اللفظ الفارسي خورنكاه اى موضع الاكل.

(1/54)


الذى قتله سابور، وكان له ولها حديث مشهور [1] ، فقتلت جذيمة، ثم قتلها قصير مولاه.
عمرو بن عدى
فلما هلك خلفه ابن اخته وابن ابن عمه عمرو بن عدى وهو جد النعمان بن المنذر ابن عمرو بن عدى بن ربيعه، قالوا: وكان ذلك في عصر يزدجرد بن سابور ابن بهرام جور.
قالوا: وفي ذلك العصر توفى عبد مناف بن قصى، وخلفه في سؤدده ابنه هاشم ابن عبد مناف. قالوا: وهلك يزدجرد الأثيم، وقد ملك احدى وعشرين سنه ونصفا، وبهرام جور ابنه غائب بالحيرة عند المنذر بالخورنق، فتعاهدت عظماء فارس الا يملكوا أحدا من ولد يزدجرد لما نالهم من سوء سيرته، منهم بسطام اصبهبذ السواد، الذى تدعى مرتبته [2] هزرافت، ويزدجشنس فاذوسفان الزوابي، وفيرك الذى تدعى مرتبته مهران، وجودرز كاتب الجند، وجشنساذربيش كاتب الخراج، وفناخسرو صاحب صدقات المملكة، وغير هؤلاء من اهل الشرف والبيت، فاجتمعوا، واختاروا رجلا من عتره [3] أردشير بن بابكان، يقال له خسرو، فملكوه عليهم، وبلغ ذلك بهرام جور، وهو عند المنذر، فامر منذر بهرام بالخروج، والطلب بتراث ابيه، ووجه معه ابنه النعمان، فسار بهرام حتى قدم مدينه طيسفون، فنزل قريبا منها في الابنيه
__________
[1] ملخص الحديث ان الزباء كانت قد دعت جذيمة الى ان يفد إليها ويتزوج بها، ويضم ملكها الى ملكه، فاستشار قومه فشجعوه على المسير إليها الا قصير بن سعد اللخمى، فقد نصحه بان لا يذهب لان جذيمة كان قد وتر الزباء بقتل أبيها، وادرك قصير ان هذه الدعوة تخفى وراءها سرا، ولكن جذيمة عزم على المسير مخالفا راى قصير، ولما ذهب إليها قتلته، فقال قصير، لا يطاع لقصير امر، وقد صار قوله مثلا يضربه من لا يطاع امره.
[2] في الأصل مدينه.
[3] عتره الرجل بكسر العين وسكون التاء: رهطه وعشيرته الأدنون.

(1/55)


والفساطيط والقباب، فلم يزل النعمان يسفر بينه وبين عظماء فارس واشرافهم الى ان أنابوا وتابوا الى بهرام.
ملك بهرام جور
وبسط بهرام من آمالهم، وشرط لهم المعدلة وحسن السير، فخلوا بينه وبين الملك، وسمعوا وأطاعوا، وحبا [1] بهرام المنذر والنعمان، وأكرمهما، وكافاه بيده عنده في تربيته ومعاضدته، ففوض اليه جميع ارض العرب، وصرفه الى مستقره من الحيرة.
ولما استتب لبهرام الملك آثر اللهو على ما سواه، حتى عتب عليه رعيته، وطمع فيه من كان حوله من الملوك، فكان أول من شخص صاحب الترك، فانه نهض في جموعه من الاتراك حتى اوغل في خراسان، فشن فيها الغارات، وانتهى النبا الى بهرام، فترك ما كان فيه من الاستهتار باللهو، وقصد عدوه، فأظهر انه يريد اذربيجان ليتصيد هناك، ويلهو في مسيره إليها، فانتخب من ابطال رجاله سبعه آلاف رجل، فحملهم على الإبل، وجنبوا الخيل، واستخلف على ملكه أخاه نرسى، ثم سار نحو اذربيجان، وامر كل رجل من اصحابه الذين انتخبهم ان يكون معه باز وكلب، فلم يشك الناس ان مسيره ذلك هزيمه من عدوه، واسلام لملكه، فاجتمع العظماء والاشراف، فتامروا بينهم، فاتفق رأيهم على توجيه وفد منهم الى خاقان [2] صاحب الترك باموال، يبعثون بها اليه ليصدوه عن استباحه البلاد.
وبلغ خاقان ان بهرام مضى هاربا، وان اهل المملكة مجمعون على الخضوع له، فاغتر، وامن هو وجنوده، واقام بمكانه ينتظر الوفود والأموال.
__________
[1] اعطاه بلا جزاء ولا من.
[2] خاقان: اسم لكل ملك من ملوك الترك، وخقنوه على انفسهم: راسوه.

(1/56)


قالوا: وان بهرام امر بذبح سبعه آلاف ثور وحمل جلودها، وساق معه سبعه آلاف مهر حولي، وجعل يسير الليل ويكمن النهار، وأخذ على طبرستان، ثم تبطن ضفة البحر حتى خرج الى جرجان، ثم صار الى نسا ثم الى مرو. وكان خاقان معسكرا بها بكشميهن [1] حتى إذا صار بهرام من مرو على منقله [2] ، وخاقان لا يعلم شيئا من علمه امر بتلك الجلود، فنفخت، والقى فيها الحصى، وجففت، ثم علقها في اعناق تلك المهارة، حتى دنا من عسكر خاقان، وكانوا نزولا على طرف المفازة، على سته فراسخ من مدينه مرو، فخلوا عن تلك المهارة ليلا، وطردوها من ورائها، فارتفع لتلك الجلود، والحجاره التي فيها، وعدو المهارة بها، وضربها إياها بأيديها أصوات هائله أشد من هده الجبال والصواعق.
وسمعت الترك تلك الأصوات، فلما سمعوها راعتهم، ولا يدرون ما هي، وجعلت تزداد منهم قربا، فاجلوا عن معسكرهم، وخرجوا هربا، وبهرام في الطلب، فتقطرت [3] دابه خاقان بخاقان، وادركه بهرام، فقتله بيده، وغنم عسكره، وكل ما كان فيه من الأموال، وأخذ خاتون امراه خاقان.
ومضى بهرام على آثار الترك ليلته ويومه كله، يقتل وياسر، حتى انتهى الى آمويه، ثم عبر نهر بلخ، يتبع آثارهم، حتى إذا صار الى القرب فاذعن له الترك، وسألوه ان يعلم حدا بينه وبينهم، لا يجاوزونه، فحد لهم مكانا واغلا في ارضهم، وامر بمناره، فبنيت هناك، وجعلها حدا، ثم انصرف الى دار الملك، ووضع عن الناس خراج تلك السنه، وقسم في اهل الضعف والمسكنه شطر ما غنم، وقسم الشطر الآخر بين جنده الذين كانوا معه، فعم السرور اهل مملكته، فلهوا جذلا وابتهاجا، فبلغ اجر اللعاب [4] في اليوم عشرين درهما، وصار اكليل الريحان بدرهم.
__________
[1] قريه بمرو
[2] المنقلة مرحلة السفر زنه ومعنى.
[3] تقطرت الدابة عثرت براكبها فألقته على قطره.
[4] فرس اللعب.

(1/57)


فلما اتى له في الملك ثلاث وعشرون سنه خرج متصيدا، فوقعت له عانه [1] من الوحش، فدفع فرسه في طلبها، فذهبت به فرسه في جرف مفض الى غمر من الماء، فارتطم فيه، فغرق.
وبلغ ذلك أمه، فجاءت الى ذلك المكان، وامرت بطلبه في ذلك الهور [2] فاستخرجوا تلالا من الحصى والرمل، فلم يدركوه، ويقال ان ذلك المكان بموضع من الماء يسمى داى مرج، سمى بامه، لان الام بلسان الفرس تسمى داى، وهو مرج معروف، وهذا الحديث مشهور في الموضع، هو كما وصفوا في الحديث هناك، كواء تنفتح في الارض الى ماء لا يدرك له غور، وذلك بقرب آجام وماء راكد.

يزدجرد بن بهرام
فلما هلك بهرام ملكوا ابنه يزدجرد بن بهرام، فسار بسيره ابيه سبع عشره سنه، وحضره الموت وله ابنان: فيروز وهرمزد، وكان فيروز اكبر سنا.

النزاع بين الأخوين
فاستاثر هرمزد بالملك دون أخيه فيروز، فهرب فيروز منه حتى لحق ببلاد الهياطلة [3] وهي تخارستان والصغانيان [4] وكابلستان [5] والأرضون التي خلف
__________
[1] العانه: القطيع من حمر الوحش.
[2] الهور هو البحيره تفيض بها مياه الغياض والاجام فتتسع.
[3] جنس من الترك او الهند، وكانت لهم شوكه وبلاء، والهيطل: الجماعه القليله يغزى بها.
[4] الصغانيان: إيالة كبيره وراء نهر جيحون، وكانت مسقط راس علماء كثيرين: منهم رضى الدين ابو الفضائل حسن بن محمد الصغانى من ائمه اللغة، ووصفها الجغرافيون العرب بأنها معمورة، وتحوى سته عشر الف قريه، وتكثر بها الحيوانات والأشجار والمراعى والطيور الكثيره، وتوجد الان في تركستان الروسيه.
[5] كابلستان: إيالة واسعه في شمال شرقى افغانستان، وكانت عاصمتها مدينه كابل الواقعه في حوض نهر كابل، وتقع زابلستان في جنوب غربيها، ويرى بعض الجغرافيين انهما إيالة واحده، ولكن الشاهنامه تذكرهما على اختلاف.

(1/58)


النهر الأعظم بما يلى ارض بلخ، فدخل على ملك تلك الارض، فاخبره بظلم أخيه اياه، واحتوائه على الملك دونه، وهو اصغر سنا منه، وساله ان يمده بجيش حتى يسترجع الملك. فقال: لن اجيبك الى ما تسال حتى تحلف انك اكبر سنا منه، فحلف فيروز، فامده بثلاثين الف رجل، على ان يجعل له حدا لترمذ [1] ، فسار فيروز بالجيش، واتبعه جل اهل المملكة، ورأوا انه أحق بالملك من هرمزد لفظاظه هرمزد وشرارته، فحاربه حتى استرجع الملك، وأقال أخاه عثرته، ولم يؤاخذه بما كان منه.
فيروز بن يزدجرد
قالوا: وكان فيروز ملكا محدودا، وكل جل قوله وفعله فيما لا يجدي عليه نفعه، وان الناس قحطوا في سلطانه سبع سنين متواليات، فغارت الانهار، وغاضت المياه والعيون، وقحلت الارض، وجف الشجر، وموتت البهائم والطير، وهلكت الانعام، وقل ماء دجلة والفرات وسائر الانهار.
فرفع فيروز الخراج عن الرعية، وكتب الى عماله ان يسوسوا الناس سياسه، وتوعدهم انه ان هلك احد في ارض واحد منهم جوعا يقيد العامل والوالي به، فساس الناس في تلك الازمنه سياسه لم يعطب فيها احد من الناس جوعا، ونادى في الناس بالخروج الى فضاء من الارض، فخرج جميع الناس من الرجال والنساء والصبيان، فاستسقى الله، فأغاثهم، فأرسل السماء، وعادت الارض الى حسن الحال، وجرت الانهار، وجاشت العيون، ورجع الناس الى احسن عاده الله عندهم في الرفاغه والرفاهة والخصب.
وبنى فيروز مدينه الري، وسماها رام فيروز، وابتنى باذربيجان مدينه
__________
[1] بلد معروف بخراسان على الضفة الشماليه لنهر جيحون شمالى ايران، وقد فتحها موسى عبد الله بن خازم سنه 690 م، وفيها آثار يرجع تاريخها الى العصر البوذى، وإليها ينسب كثير من العلماء، منهم ابو عبد الله الترمذى المحدث الفقيه الحنفي.

(1/59)


اردبيل، وسماها باذفيروز، ثم استعد وتاهب لغزو الترك، واخرج معه الموبذ وسائر وزرائه، وحمل معه ابنته فيروزدخت، وحمل معه خزائن واموالا كثيره، وخلف على ملكه رجلا من عظماء وزرائه، يسمى شوخر، وتدعى مرتبته قارن، وسار حتى جاوز المناره التي كان بهرام بناها حدا بينه وبين الترك، واخربها، ووغل في ارضهم.
وملك الاتراك يومئذ اخشوان خاقان، فأرسل ملك الترك الى فيروز يعلمه انه قد تعدى، ويحذره عاقبه الظلم، فلم يحفل فيروز بذلك، فجعل خاقان يظهر كراهة للحرب، ويدافع الى ان هيأ خندقا، عمقه في الارض عشرون ذراعا، وعرضه عشره اذرع، وبعد ما بين طرفيه، ثم غماه باعواد ضعاف، والقى عليه قصبا، واخفاه بالتراب، ثم خرج لمحاربه فيروز، فواقفه ساعه، ثم انهزم عنه.
وطلبه فيروز في جنوده، فسلك خاقان مسالك قد فهمها بين ظهري ذلك الخندق، وعطف عليه اخشوان وطراخنته، فقتلوهم بالحجارة، واحتوى اخشوان على معسكر فيروز وكل ما كان فيه من الأموال والحرم، وأخذ الموبذ أسيرا، وأخذ فيروزدخت ابنه فيروز، ولحق الفل بشوخر، فاعلموه بمصاب فيروز وجنوده، فاستنهض شوخر الناس للطلب بثار ملكهم، فخف له جميع الناس من الجنود واهل البلاد، فسار في جموع كثيره حتى وغل في بلاد الترك، وهاب اخشوان ملك الترك الاقدام على شوخر لكثرة جموعه وعدته، فأرسل اليه يسأله الموادعة على ان يرد عليه الموبذ وفيروزدخت وكل اسير في يده، وجميع ما أخذ من اموال فيروز وخزائنه وآلاته، فأجابه شوخر الى ذلك، وقبضه، وانصرف الى بلاده وارضه.

(1/60)


أبناء فيروز
فملك بعد فيروز ابنه بلاس بن فيروز، فملك اربع سنين، ثم مات، فجعل شوخر الملك من بعده لأخيه قباذ بن فيروز. قالوا: وفي ملك قباذ بن فيروز مات ربيعه بن نصر اللخمى، ورجع الملك الى حمير.
ذو نواس واليمن
فوليهم ذو نواس، واسمه زرعه بن زيد بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن جشم بن وائل بن عبد شمس بن الغوث بن جدار بن قطن ابن عريب بن الرائش بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وانما سمى ذانواس لذؤابه [1] كانت تنوس [2] على راسه.
قالوا: وكان لذى نواس بأرض اليمن نار يعبدها هو وقومه، وكان يخرج من تلك النار عنق يمتد فيبلغ مقدار ثلاثة فراسخ، ثم ترجع الى مكانها، ثم ان من كان باليمن من اليهود قالوا لذى نواس: ايها الملك، ان عبادتك هذه النار باطله، وان أنت دنت بديننا اطفاناها باذن الله تعالى، لتعلم انك على غرر من دينك، فأجابهم الى الدخول في دينهم ان هم اطفئوها، فلما خرجت تلك العنق أتوا بالتوراة، ففتحوها، وجعلوا يقرءونها، والنار تتأخر حتى انتهوا الى البيت الذى هي فيه، فما زالوا يتلون التوراة حتى انطفأت، فتهود ذو نواس، ودعا اهل اليمن الى الدخول فيها، فمن ابى قتله.
ثم سار الى مدينه نجران [3] ليهود من فيها من النصارى، وكان بها قوم على دين المسيح الذى لم يبدل، فدعاهم الى ترك دينهم والدخول في اليهودية، فأبوا، فامر بملكهم، وكان اسمه عبد الله بن التامر، فضربت هامته بالسيف، ثم ادخل
__________
[1] الذؤابه: شعر في اعلى الناصيه.
[2] تتذبذب.
[3] نجران بالفتح، ثم السكون، مدينه بينها وبين الكوفه مسيره يومين فيما بينها وبين واسط.

(1/61)


في سور المدينة، فضم عليه، وخد للباقين اخاديد [1] ، فاحرقهم فيها، فهم اصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله عز اسمه في القرآن [2] .
الحبش واليمن
وافلت دوس ذو ثعلبان، فسار الى ملك الروم، فاعلمه ما صنع ذو نواس باهل دينه من قتل الأساقفة، واحراق الانجيل، وهدمه البيع، فكتب الى النجاشى ملك الحبشه، فبعث بارياط في جنود عظيمه، وركب البحر حتى خرج على ساحل عدن، وسار اليه ذو نواس، فحاربه، فقتل ذو نواس، ودخل ارياط صنعاء، واسمها دمار، وانما صنعاء كلمه حبشية، اى وثيق حصين، فبذلك سميت صنعاء.
فلما اطمان ارياط وقتل اليهود وضبط اليمن، درت عليه الأموال، فجعل يؤثر بها من يحب، فغضب حاشيه الحبشه من ذلك، فاتوا أبا يكسوم أبرهة، وكان احد قادتهم، فشكوا اليه الذى يصنع ارياط، وبايعوه. وانصرفت الحبشه فرقتين، إحداهما مع ارياط، والاخرى مع أبرهة، واصطفوا للحرب، فدعاه أبرهة للبراز، فبرز اليه، فدفع ارياط عليه حربته، فوقعت في وجه أبرهة، فشرمته، ولذلك سمى الاشرم، وضرب أبرهة ارياط بالسيف على مفرق راسه، فقتله، وانحازت الحبشه اليه، فملكهم، واقره النجاشى على سلطان اليمن، فمكث على ذلك اربعين عاما.
وبنى بصنعاء بيعه لم ير الناس مثلها، وآذن في جميع ارض اليمن ان تحجها، فاستفظعت العرب ذلك، فدخل رجل من اهل تهامه ليلا، فاحدث فيها، فلما اصبح القوم نظروا الى السواه السوآء في الكنيسه، فقال أبرهة: من تظنونه فعل هذا؟ قالوا: لم يفعله الا بعض من غضب للبيت الذى بمكة، لما امرت بحج
__________
[1] الاخاديد: هي الحفر المستطيلة في الارض كالخده بالضم، والمفرد اخدود.
[2] الآيات: 4، 5، 6، من سوره البروج

(1/62)


هذه البيعه، فغضب أبرهة عند ذلك غضبا شديدا، وتجهز للمسير الى مكة ليهدم الكعبه، فأرسل الى النجاشى، فبعث اليه بفيل كالجبل الراسى، يقال له محمود، فسار الى مكة، فكان من امره ما قد قصه الله في سوره الفيل.
الحبشان وهدم الكعبه
قالوا: ولما اهلك الله أبرهة خلفه في ملكه بأرض اليمن ابنه يكسوم بن أبرهة، فكان شرا من ابيه واخبث سيره، فلبث على اليمن تسع عشره سنه ثم مات. فملك من بعده اخوه مسروق، وكان شرا من أخيه، واخبث سيره.
سيف بن ذي يزن
فلما طال ذلك على اهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميرى من ولد ذي نواس حتى اتى قيصر، وهو بأنطاكية [1] ، فشكى اليه ما هم فيه من السودان، وساله ان ينصرهم وينفيهم عن ارضهم، ويكون ملك اليمن له، فقال قيصر:
أولئك هم على ديني، وأنتم عبده أوثان، فلم أكن لانصركم عليهم.
فلما يئس منه توجه الى كسرى، فقدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فشكى اليه امره، فقال له النعمان: ما كان سبب اخراج جدنا ربيعه بن نصر إيانا عن ارض اليمن، واسكاننا بهذا المكان الا لهذا الشان فاقم، فان لي وفادة في كل عام الى الملك كسرى بن قباذ، وقد حان ذلك، فإذا خرجت أخرجتك معى، واستأذنت لك، وتشفعت لك اليه فيما قصدت له، ففعل واستاذن، وتشفع، فوجه كسرى بجيش ممن كان في السجون، وامر
__________
[1] أنطاكية: مدينه غربي مدينه حلب بالاقليم الشمالي للجمهوريه العربية المتحده، تبعد عنها بحوالى 95 ك. م، وقد كانت مدينه عظيمه بنيت سنه 301 ق. م. وتاثرت على مرور الزمن بالغزوات والحروب، ولا تزال آثارها القديمه باقيه.

(1/63)


عليهم رجلا منهم، يقال له وهرز بن الكامجار، وكان شيخا كبيرا، قد اناف على المائه، وكان من فرسان العجم، وابطالها، ومن اهل البيوتات والشرف، وكان اخاف السبيل، فحبسه كسرى.
فسار وهرز باصحابه الى الأبله [1] ، فركب منها البحر، ومعه سيف بن ذي يزن، حتى خرجوا بساحل عدن، وبلغ الخبر مسروقا، فسار اليهم، فلما التقوا وتواقفوا للحرب اسرع له وهرز بنشابه، فرماه، فلم يخطئ بين عينيه، وخرجت من قفاه، وخر ميتا، وانفض جيشه، ودخل وهرز صنعاء، وضبط اليمن، وكتب الى كسرى بالفتح، فكتب اليه كسرى، يأمره بقتل كل اسود باليمن، وبتمليك سيف عليها، وبالاقبال اليه، ففعل. وان بقايا من السودان قد كان سيف استبقاهم، وضمهم الى نفسه، يجمزون [2] بين يديه إذا ركب، شدوا على سيف يوما، وهم بين يديه في موكبه، فضربوه بحرابهم حتى قتلوه.
الفرس واليمن
فرد كسرى وهرز الى ارض اليمن، وامره الا يدع بها اسود ولا من ضربت فيه السودان الا قتله، فأقام بها خمسه احوال، فلما ادركه الموت دعا بقوسه ونشابه، ثم قال: أسندوني، ثم تناول قوسه، فرمى، وقال: انظروا حيث وقعت نشابتى، فابنوا لي هناك ناووسا، واجعلوني فيه، فوقعت نشابته من وراء الكنيسه، وسمى ذلك المكان الى اليوم مقبره وهرز، ثم وجه كسرى الى ارض اليمن بادان، فلم يزل ملكا عليها الى ان قام الاسلام.
قالوا: وكان قباذ عند ما افضى اليه الملك حدث السن من أبناء خمس عشره سنه، غير انه كان حسن المعرفة، ذكى الفؤاد، رحيب الذراع، بعيد الغور، فولى شوخر امر المملكة، فاستخف الناس بقباذ، وتهاونوا به لاستيلاء شوخر
__________
[1] الأبله: بلده في زاوية الخليج العربي على شاطئ نهر دجلة.
[2] يعدون.

(1/64)


على الأمر دونه، فاغضى قباذ على ذلك خمس سنين من ملكه، ثم انف من ذلك، فكتب الى سابور الرازى من ولد مهران الاكبر، وكان عامله على بابل وخطرنيه [1] ، ان يقدم عليه فيمن معه من الجنود، فلما قدم افشى اليه ما في نفسه، وامره بقتل شوخر، فغدا سابور على قباذ، فوجد شوخر عنده جالسا، فمشى نحو قباذ مجاوزا لشوخر، فلم يابه له شوخر حتى اوهقه سابور، فوقع الوهق [2] في عنقه، ثم اجتره حتى اخرجه من المجلس، فاثقله حديدا، واستودعه السجن، ثم امر به قباذ، فقتل.
الديانه المزدكية
فلما مضى لملك قباذ عشر سنين أتاه رجل من اهل اصطخر، يقال له مزدك، فدعاه الى دين المزدكية، فمال قباذ إليها، فغضبت الفرس من ذلك غضبا شديدا، وهموا بقتل قباذ، فاعتذر اليهم، فلم يقبلوا عذره، وخلعوه من الملك، وحبسوه في محبس، ووكلوا به، وملكوا عليهم جاماسف بن فيروز أخا قباذ. وان اخت قباذ اندست لقباذ حتى اخرجته بحيله، فمكث أياما مستخفيا الى ان امن الطلب، ثم خرج في خمس نفر من ثقاته، فيهم زرمهر بن شوخر نحو الهياطلة [3] ، يستنصر ملكها، فاخذ طريق الاهواز، فانتهى الى ارمشير، ثم صار الى قريه في حد الاهواز وأصبهان، فنزلها متنكرا، وكان نزوله عند دهقانها [4] ، فنظر قباذ الى بنت لصاحب منزله، ذات جمال، فوقعت بقلبه، فقال لزرمهر بن شوخر: انى قد هويت هذه الجاريه، ووقعت بقلبي، فانطلق الى أبيها، فاخطبها على، ففعل.
__________
[1] خطرنيه: بلد كانت بأرض بابل
[2] الحبل يرمى في انشوطه فتؤخذ به الدابة او الإنسان، والانشوطه كانبوبه: عقده يسهل انحلالها.
[3] هياطله اسم لبلاد ما وراء النهر.
[4] الدهقان بالكسر والضم زعيم فلاحى العجم ورئيس الإقليم، وهو لفظ معرب.

(1/65)


فأرسل قباذ الى الجاريه بخاتمه، وجعل ذلك مهرها، فهيئت وادخلت عليه، فخلا بها قباذ، وسر بها سرورا شديدا لما الفاها ذات عقل وجمال وادب وهيئة، فأقام عندها ثلاثا، ثم امرها بحفظ نفسها، وخرج سائرا حتى ورد على صاحب الهياطلة، فشكا اليه صنيع رعيته به، وساله ان يمده بجيش ليسترجع ملكه، فأجابه الى ذلك، وشرط عليه ان يسلم له حيز الصغانيان، ووجه معه ثلاثين الف رجل.
فاقبل بهم يريد أخاه، فاخذ على طريقه الذى شخص فيه بديئا حتى نزل القرية التي تزوج فيها بتلك المرأة، فنزل على أبيها، وساله عنها، فاخبره انها ولدت غلاما، فامر بإدخالها عليه مع ابنها، فدخلت ومعها الغلام، فابتهج به، ورآه كاجمل ما يكون من الغلمان، فسماه كسرى، وهو كسرى انوشروان الذى تولى الملك من بعده، فقال لزرمهر: اخرج، فسل لي عن هذا الرجل ابى الجاريه هل له قديم شرف؟، فسال عنه، فاخبر انهم من ولد فريدون الملك، ففرح بذلك قباذ، وامر بالجارية وابنها، فحملا معه.
ولما انتهى الى مدينه طيسفون تلاومت العجم فيما بينها، وقالوا: ان قباذ تنصل إلينا من شان مزدك، ورجع عما كنا اتهمناه، فلم نقبل ذلك منه، وظلمناه حقه، وأسأنا اليه، فخرجوا اليه جميعا، وفيهم جاماسف اخوه الذى ملكوه، فاعتذروا اليه، فقبل ذلك منهم، وصفح عن أخيه جاماسف، وعنهم، واقبل فدخل قصر المملكة، ووصل الجيش الذى اقبل بهم، واجازهم، واحسن اليهم، وردهم الى ملكهم، وامر بالجارية، فانزلت في افضل مساكنه.
ثم ان قباذ تجهز وسار في جنوده، غازيا بلاد الروم، فافتتح مدينه آمد وميافارقين، وسبى أهلها، وامر فبنيت لهم مدينه فيما بين فارس والاهواز، فأسكنهم فيها، وسماها ايرقباذ، وهي استان الأعلى، وجعل لها اربعه طساسيج:
طسوج [1] الأنبار، وكان منها هيت وعانات [2] ، فضمها يزيد بن معاويه حين ملك
__________
[1] الطسوج: هو الناحية.
[2] بلدان بأرض العراق.

(1/66)


الى الجزيرة، وطسوج بادوريا، وطسوج مسكن، وكور كوره بهقباذ الأوسط، وبهقباذ الأسفل، وضم إليها ثمانية طساسيج، لكل كوره اربعه طساسيج، وهي الاستانات [1] ، وشق كوره [2] أصبهان كورتين، شق جى، وشق التيمره [3] .
وكان لقباذ عده من الأولاد، لم يكن فيهم آثر عنده من كسرى، لاجتماع الشرف فيه، غير انه كان به ظنه، اى سيئ الظن، فلم يكن قباذ يحمده عليها، فقال له ذات يوم: يا بنى قد كملت فيك الخصال التي هي جماع امور الملك، غير ان بك ظنه، وان الظنه في غير موضعها داعيه الأوزار، ومحبطة للأعمال فاعتذر كسرى الى ابيه مما وقع في قلبه من ذلك، واستصلح نفسه عنده.