الأخبار الطوال

الفتوحات الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب
وولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكانت ولايه عمر سنه ثلاث عشره، ثم ان عمر رضى الله عنه عزم على توجيه خيل الى العراق، فدعا أبا عبيد بن مسعود، وهو ابو المختار بن ابى عبيد الثقفى فعقد له على خمسه آلاف رجل، وامره بالمسير الى العراق، وكتب الى المثنى بن حارثة، ان ينضم بمن معه اليه، ووجه مع ابى عبيد سليط بن قيس، من بنى النجار رى، وقال لأبي عبيد: قد بعثت معك رجلا هو افضل منك إسلاما، فاقبل مشورته وقال لسليط: لولا انك رجل عجل في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها الا الرجل المكيث فسار ابو عبيد نحو الحيرة، لا يمر بحى من احياء العرب الا استنفرهم، فتبعه منهم طوائف، حتى انتهى الى قس الناطف [1] فاستقبله المثنى فيمن معه.
وبلغ العجم اقبال ابى عبيد، فوجهوا مردان شاه الحاجب في اربعه آلاف فارس، فامر ابو عبيد بالجسر، فعقد ليعبر اليهم. فقال له المثنى: ايها الأمير لا تقطع هذه اللجة، فتجعل نفسك ومن معك غرضا لأهل فارس. فقال له ابو عبيد جبنت يا أخا بكر. وعبر اليهم بمن معه من الناس، وولى أبا محجن الثقفى الخيل، وكان ابن عمه، ووقف هو في القلب، وزحف اليهم الفرس، فاقتتلوا، فكان ابو عبيد أول قتيل، فاخذ الراية اخوه الحكم، فقتل، ثم أخذها قيس بن حبيب أخو ابى محجن، فقتل، وقتل سليط بن قيس الأنصاري في نفر من الانصار كانوا معه، فاخذ المثنى الراية، وانهزم المسلمون.
فقال المثنى لعروه بن زيد الخيل الطائي انطلق الى الجسر، فقف عليه، وحل بين العجم وبينه. وجعل المثنى يقاتل من وراء الناس، ويحميهم حتى عبروا، ويوم جسر ابى عبيد معروف، وسار المثنى بالمسلمين حتى بلغ الثعلبية [2] ، فنزل،
__________
[1] موضع قريب من الكوفه على شاطئ الفرات الشرقى.
[2] الثعلبية موضع بطريق مكة، وفي الأصل التغلبية.

(1/113)


وكتب الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع عروه بن زيد الخيل، فبكى عمر، وقال لعروه: ارجع الى أصحابك، فمرهم ان يقيموا بمكانهم الذى هم فيه، فان المدد وارد عليهم سريعا، وكانت هذه الوقعه في شهر رمضان يوم السبت سنه ثلاث عشره من التاريخ.
ثم ان عمر بن الخطاب استنفر الناس الى العراق، فخفوا في الخروج، ووجه في القبائل يستجيش، فقدم عليه مخنف بن سليم الأزدي في سبعمائة رجل من قومه، وقدم عليه الحصين بن معبد بن زراره في جمع من بنى تميم زهاء الف رجل، وقدم عليه عدى بن حاتم في جمع من طيّئ، وقدم عليه انس بن هلال في جمع من النمر بن قاسط، فلما كثر عند عمر الناس عقد لجرير بن عبد الله البجلي عليهم، فسار جرير بالناس حتى وافى الثعلبية، فضم اليه المثنى فيمن كان معه، وسار نحو الحيرة، فعسكر بدير هند [1] ، ثم بث الخيل في ارض السواد، تغير.
وتحصن منه الدهاقين، واجتمع عظماء فارس الى بوران، فأمرت ان يتخير اثنا عشر الف رجل من ابطال الأساورة [2] ، وولت عليهم مهران بن مهرويه الهمدانى فسار بالجيش حتى وافى الحيرة، وزحف الفريقان، بعضهم لبعض، ولهم زجل [3] كزجل الرعد، وحمل المثنى في أول الناس، وكان في ميمنه جرير، وحملوا معه. وثار العجاج، وحمل جرير بسائر الناس من الميسره والقلب، وصدقتهم العجم القتال، فجال المسلمون جولة، فقبض المثنى على لحيته، وجعل ينتف ما تبعه منها من الأسف، ونادى ايها الناس، الى، الى، انا المثنى فثاب المسلمون، فحمل بالناس ثانيه، والى جانبه مسعود بن حارثة اخوه، وكان من فرسان العرب، فقتل مسعود، فنادى المثنى: يا معشر المسلمين، هكذا مصرع خياركم، ارفعوا راياتكم. وحض عدى بن حاتم اهل الميسره،
__________
[1] مكان بالحيرة، بنته أم عمرو بن هند، وهو على طريق النجف، ويسمى دير هند الكبرى، وبالحيرة أيضا دير هند الصغرى الذى بنته هند بنت النعمان بن المنذر، وهو الان بالكوفه قرب خطه بنى دارم.
[2] الأساورة هم الفرسان المقاتله، مفرده اسوار.
[3] الجلبه.

(1/114)


وحرض جرير اهل القلب، وذمرهم [1] ، وقال لهم: يا معشر بجيله، لا يكونن احد اسرع الى هذا العدو منكم، فان لكم في هذه البلاد ان فتحها الله عليكم حظوة ليست لأحد من العرب، فقاتلوهم التماس إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ.
فتداعى المسلمون، وتحاضوا، وثاب من كان انهزم، ووقف الناس تحت راياتهم، ثم زحفوا، فحمل المسلمون على العجم حمله صدقوا الله فيها، وباشر مهران الحرب بنفسه، وقاتل قتالا شديدا، وكان من ابطال العجم، فقتل مهران، وذكروا ان المثنى قتله، فانهزمت العجم لما رأوا مهران صريعا، واتبعهم المسلمون، وعبد الله بن سليم الأزدي يقدمهم، واتبعه عروه بن زيد الخيل، فصار المسلمون الى الجسر، وقد جازه بعض العجم، وبقي بعض، فصار من بقي منهم في أيدي المسلمين، ومضت العجم، حتى لحقوا بالمدائن، وانصرف المسلمون الى معسكرهم، فقال عروه بن زيد الخيل في ذلك:
هاجت لعروه دار الحى أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس همذانا
وقد أرانا بها، والشمل مجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
ايام سار المثنى بالجنود لهم ... فقتل القوم من رجل وركبانا
سما لاجناد مهران وشيعته ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا
ما ان رأينا أميرا بالعراق مضى ... مثل المثنى الذى من آل شيبانا
ان المثنى الأمير القرم لا كذب ... في الحرب اشجع من ليث بخفانا [2]
قالوا: ولما اهلك الله مهران ومن كان معه من عظماء العجم استمكن المسلمون من الغارة في السواد، وانتقضت مسالح [3] الفرس، وتشتت امرهم، واجترأ المسلمون عليهم، وشنوا الغارات ما بين سورا [4] وكسكر [5] والصراة [6]
__________
[1] ذمرهم حضهم على القتال.
[2] القرم من الرجال: السيد المعظم، والخفان: رئال النعام، واحدته خفانه، وهو فرخها.
[3] جمع مسلحه بفتح الميم وهي الثغر فيه الجنود.
[4] كوره قريبه من الفرات.
[5] كوره واسعه، كانت قصبتها بين الكوفه والبصره.
[6] الصراة بالفتح: نهران قرب بغداد، أحدهما كبير والآخر صغير، وقد سميا باسم المحله عند منبعهما.

(1/115)


الى الفلاليج [1] والاستانات، فقال اهل الحيرة للمثنى: ان بالقرب منا قريه فيها سوق عظيم، تقوم في كل شهر مره، فتأتيها تجار فارس والاهواز وسائر البلاد، فان قدرت على الغارة على تلك السوق اصبت اموالا رغيبه يعنون سوق بغداد، وكانت قريه تقوم بها سوق في كل شهر.
فاخذ المثنى على البر حتى اتى الأنبار [2] ، فتحصن منه أهلها، فأرسل الى بسفروخ مرزبانها ليسير اليه، فيكلمه بما يريد، وجعل له الامان، فاقبل المرزبان حتى عبر اليه، فخلا به المثنى، وقال: انى اريد ان اغير على سوق بغداد، فأريد ان تبعث معى ادلاء، فيدلونى على الطريق، وتسوى لي الجسر، لاعبر الفرات، ففعل المرزبان ذلك، وقد كان قطع الجسر لئلا تعبر العرب اليه، فعبر المثنى مع اصحابه، وبعث المرزبان معه الأدلاء، فسار حتى وافى السوق ضحوه، فهرب الناس، وتركوا أموالهم، فملئوا ايديهم من الذهب والفضه، وسائر الأمتعة، ثم رجع الى الأنبار، ووافى معسكره.
ولما بلغ سويد بن قطبه العجلى امر المثنى بن حارثة، وما نال من الظفر يوم مهران كتب الى عمر بن الخطاب، يعلمه وهن الناحية التي هو بها، ويسأله ان يمده بجيش. فندب عمر بن الخطاب لذلك الوجه عتبة بن غزوان المازنى، وكان حليفا لبنى نوفل بن عبد مناف، وكانت له صحبه من رسول الله ص، وضم اليه الفى رجل من المسلمين، وكتب الى سويد بن قطبه يأمره بالانضمام اليه.
فلما سار عتبة شيعه عمر رضى الله عنه، فقال: يا عتبة، ان اخوانك من المسلمين قد غلبوا على الحيرة، وما يليها، وعبرت خيلهم الفرات حتى وطئت بابل، مدينه هاروت وماروت ومنازل الجبارين، وان خيلهم اليوم لتغير حتى تشارف المدائن، وقد بعثتك في هذا الجيش، فاقصد قصد اهل الاهواز، فاشغل اهل تلك الناحية، ان يمدوا اصحابهم بناحيه السواد على إخوانكم الذين هناك، وقاتلهم مما يلى الأبله.
__________
[1] الفلاليج: قرى السواد من ارض فارس واحده فلوجه، وبالقرب من بغداد فلوجتان.
[2] مدينه على الفرات غربي بغداد، كانت الفرس تسميها فيروز سابور.

(1/116)


فسار عتبة بن غزوان حتى اتى مكان البصره اليوم، ولم تكن هناك يومئذ الا الخريبة، وكانت منازل خربه، وبها مسالح لكسرى تمنع العرب من العبث في تلك الناحية، فنزلها عتبة بن غزوان باصحابه في الاخبيه والقباب، ثم سار حتى نزل موضع البصره، وهي إذ ذاك حجارة سود وحصى، وبذلك سميت البصره، ثم سار حتى اتى الأبله، فافتتحها عنوه، وكتب الى عمر رضى الله عنه: اما بعد، فان الله، وله الحمد، فتح علينا الأبله، وهي مرقى سفن البحر من عمان، والبحرين، وفارس، والهند، والصين، واغنمنا ذهبهم وفضتهم وذراريهم، وانا كاتب إليك ببيان ذلك ان شاء الله.
وبعث بالكتاب مع نافع بن الحارث بن كلده الثقفى، فلما قدم على عمر رضى الله عنه تباشر المسلمون بذلك، فلما اراد نافع الانصراف، قال لعمر: يا امير المؤمنين. انى قد افتليت [1] فلاء بالبصرة، واتخذت بها تجاره. فاكتب الى عتبة ابن غزوان ان يحسن جواري.
فكتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه الى عتبة: اما بعد، فان نافع بن الحارث ذكر انه قد افتلى فلاء، وأحب ان يتخذ بالبصرة دارا، فاحسن جواره، واعرف له حقه، والسلام.
فخط له عتبة بالبصرة خطه، فكان نافع أول من خط خطه بالبصرة، وأول من افتلى بها الافلاء، وارتبط بها رباطا، ثم ان عتبة سار الى المذار [2] ، واظهره الله عليهم، ووقع مرزبانها في يده، فضرب عنقه، وأخذ بزته، وفي منطقته الزمرد والياقوت، وارسل بذلك الى عمر رضى الله عنه، وكتب اليه بالفتح، فتباشر الناس بذلك، وأكبوا على الرسول، يسالونه عن امر البصره، فقال ان المسلمين يهيلون بها الذهب والفضه هيلا، فرغب الناس في الخروج، حتى كثروا بها، وقوى امرهم، فخرج عتبة بهم الى فرات البصره [3] ، فافتتحها، ثم سار الى
__________
[1] اقتنيت قنيه، وافتلى اى اتخذ.
[2] المذار بفتح الميم بلده بين واسط والبصره.
[3] البلاد قرب البصره التي تسقى من نهر الفرات.

(1/117)


دست ميسان [1] فافتحها بعد ان خرج اليه مرزبانها بجنوده، فالتقوا، فقتل المرزبان، وانهزمت العجم، فدخل مدينتها لا يمنعه شيء، فخلف بها رجلا، وسار الى ابرقباذ فافتتحها، ثم انصرف الى مكانه من البصره، وكتب الى عمر رضى الله عنه بما فتح الله عليه من هذه المدن والبلدان، وبعث بالكتاب مع انس بن الشيخ بن النعمان، فاختلفت القبائل إليها حتى كثروا بها.
ثم ان عتبة استاذن عمر في القدوم عليه، فاذن له، فاستخلف المغيره بن شعبه، ثم خطب الناس حين اراد الخروج خطبه طويله، قال فيها: اعوذ بالله ان أكون في نفسي عظيما، وفي اعين الناس صغيرا، وانا سائر، ولا حول ولا قوه الا بالله، وستجربون الأمراء بعدي، فتعرفون. وكان الحسن البصرى يقول، إذا تحدث بهذا الحديث: قد جربنا الأمراء بعده، فوجدنا له الفضل عليهم.
وان عمر رضى الله عنه اقر المغيره على ثغر البصره، فسار بالناس نحو ميسان، فخرج اليه مرزبانها، فحاربه، فأظهر الله المسلمين، وافتتح البلاد عنوه، وكتب الى عمر بالفتح، ثم كان من امر المغيره والنفر الذين رموه ما كان.
وبلغ ذلك عمر رضى الله عنه، فامر أبا موسى الأشعري بالخروج إليها، وان يصرف الخطط لمن هناك من العرب، ويجعل كل قبيله في محله، وان يأمر الناس بالبناء، وان يبنى لهم مسجدا جامعا، وان يشخص اليه المغيره بن شعبه، فقال ابو موسى: يا امير المؤمنين، فوجه معى نفرا من الانصار، فان مثل الانصار في الناس كمثل الملح في الطعام، فوجه معه عشره من الانصار، فيهم انس بن مالك، والبراء بن مالك، فقدم ابو موسى البصره، وبعث اليه بالمغيره بن شعبه، والنفر الذين شهدوا عليه، فسألهم عمر رضى الله عنه، فلم يصرحوا، فجلدهم، وامر المغيره ان يلحق بالبصرة، فيعاون أبا موسى على امره، ونظر ابو موسى الى زياد بن عبيد، وكان عبدا مملوكا لثقيف، فاعجبه عقله وأدبه، فاتخذه كاتبا، واقام معه، وقد كان قبل ذلك مع المغيره بن شعبه.
__________
[1] كوره كبيره بين واسط البصره والاهواز.

(1/118)


قالوا: فلما نظرت الفرس الى العرب قد حدقوا بهم، وبثوا الغارات في ارضهم قالوا فيما بينهما: انما أتينا من تملك النساء علينا، فاجتمعوا على يزدجرد بن شهريار بن كسرى ابرويز، فملكوه عليهم، وهو يومئذ غلام ابن ست عشره سنه، وثبتت طائفه على آزرميدخت، فتحارب الفريقان، فكان الظفر ليزدجرد، فخلعت آزرميدخت، وتملك يزدجرد، فجمع اليه اطرافه، واستجاش اقطار ارضه، وولى عليهم رستم بن هرمز، وكان محنكا، قد جربته الدهور، فسار رستم نحو القادسية.

موقعه القادسية
وبلغ ذلك جرير بن عبد الله والمثنى بن حارثة، فكتبا الى عمر رضى الله عنه، يخبرانه، فندب عمر الناس، فاجتمع له نحو من عشرين الف رجل، فولى امرهم سعد بن ابى وقاص، فسار سعد بالجيوش حتى وافى القادسية، فضم اليه من كان هناك، وتوفى المثنى بن حارثة رحمه الله، فلما انقضت عده امراه المثنى تزوجها سعد بن ابى وقاص، واقبل رستم بجنوده حتى نزل دير الأعور [1] .
وان سعدا بعث طليحة بن خويلد الأسدي، وكان من فرسان العرب في جمع ليأتيه بخبر القوم، فلما عاينوا سوادهم، ورأوا كثرتهم قالوا لطليحه: انصرف بنا، فقال: لا، ولكنى ماض حتى ادخل عسكرهم، واعلم علمهم. فاتهموه، وقالوا له: ما نحسبك تريد الا اللحاق بهم، وما كان الله ليهديك بعد قتلك عكاشة بن محصن وثابت بن اقرم، فقال لهم طليحة: ملا الرعب قلوبكم، واقبل طليحة حتى دخل عسكر الفرس ليلا، فلم يزل يجوسه ليلته كلها، حتى إذا كان وجه السحر مر بفارس منهم يعد بألف فارس، وهو نائم، وفرسه مقيد، فنزل، ففك قيده، ثم شد مقوده بثغر [2] فرسه،
__________
[1] مكان بظاهر الكوفه، بناه رجل من اياد، يقال له الأعور.
[2] ثغر الدابة بالتحريك السير الذى في مؤخر السرج.

(1/119)


وخرج من المعسكر، واستيقظ صاحب الفرس، فنادى في اصحابه، وركب في اثره، فلحقوه، وقد أضاء الصبح، فبدر صاحب الفرس اليه، ووقف له طليحة، فأطعنا، فقتله طليحة، ولحقه فارس آخر، فقتله طليحة، ولحقه ثالث، فاسره طليحة، وحمله على دابته، واقبل به نحو عسكر المسلمين، فكبر الناس، ودخل على سعد، واخبره الخبر.
واقام رستم بدير الأعور معسكرا اربعه اشهر، وأرادوا [1] مطاوله العرب ليضجروا، وكان المسلمون إذا فنيت ازوادهم واعلافهم جردوا الخيل، فأخذت على البر حتى تهبط على المكان الذى يريدون، ويغيرون، فينصرفون بالطعام والعلف والمواشى.
ثم ان عمر رضى الله عنه كتب الى ابى موسى يأمره ان يمد سعدا بالخيل، فوجه اليه ابو موسى المغيره بن شعبه في الف فارس، وكتب الى ابى عبيده بن الجراح، وهو بالشام يحارب الروم ان يمد سعدا بخيل، فامده بقيس بن هبيرة المرادى في الف فارس، وكان في القوم هاشم بن عتبة بن ابى وقاص، وكانت عينه فقئت يوم اليرموك، وفيهم الاشعث بن قيس، والاشتر النخعى، فساروا حتى قدموا على سعد بالقادسية.
وان يزدجرد الملك كتب الى رستم يأمره بمناجزه العرب، فزحف رستم بجنوده وعساكره حتى وافى القادسية، فعسكر على ميل من معسكر المسلمين، وجرت الرسل فيما بينه وبين سعد شهرا، ثم ارسل الى سعد: ان ابعث إلي من أصحابك رجلا، له فهم وعقل وعلم، لأكلمه، فبعث اليه بالمغيره بن شعبه، فلما دخل عليه قال له رستم: ان الله قد اعظم لنا السلطان، وأظهرنا على الأمم، واخضع لنا الأقاليم، وذلل لنا اهل الارضين، ولم يكن في الارض أمه اصغر قدرا عندنا منكم، لأنكم اهل قله وذله وارض جدبه، ومعيشة ضنك، فما حملكم على تخطيكم الى
__________
[1] في الأصل: واراد.

(1/120)


بلادنا؟ فان كان ذلك من قحط نزل بكم، فانا نوسعكم ونفضل عليكم، فارجعوا الى بلادكم.
فقال له المغيره: اما ما ذكرت من عظيم سلطانكم، ورفاهه عيشكم، وظهوركم على الأمم، وما أوتيتم من رفيع الشان، فنحن كل ذلك عارفون، وساخبرك عن حالنا: ان الله وله الحمد، أنزلنا بقفار من الارض، مع الماء النزر، والعيش القشف يأكل قوينا ضعيفنا، ونقطع أرحامنا، ونقتل أولادنا خشيه الاملاق، ونعبد الأوثان، فبينا نحن كذلك بعث الله فينا نبيا، من صميمنا واكرم ارومه [1] فينا، وامره ان يدعو الناس الى شهاده ان لا اله الا الله، وان نعمل بكتاب انزله إلينا، فآمنا به، وصدقناه، فأمرنا ان ندعو الناس الى ما امره الله به، فمن أجابنا كان له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن ابى ذلك سالناه الجزية [2] عن يد، فمن ابى جاهدناه، وانا ادعوك الى مثل ذلك، فان أبيت فالسيف. وضرب يده مشيرا بها الى قائم سيفه.
فلما سمع ذلك رستم تعاظمه ما استقبله به، واغتاظ منه، فقال: والشمس، لا يرتفع الضحى غدا حتى اقتلكم اجمعين فانصرف المغيره الى سعد، فاخبره بما جرى بينهما، وقال لسعد استعد للحرب، فامر الناس بالتهيؤ والاستعداد، فبات الفريقان يكتبون الكتائب، ويعبون الجنود، وأصبحوا وقد صفوا الصفوف، ووقفوا تحت الرايات، وكانت بسعد عله من خراج [3] في فخذه قد منعه الركوب، فولى امر الناس خالد بن عرفطه، وولى القلب قيس بن هبيرة، وولى الميمنه شرحبيل ابن السمط، وولى الميسره هاشم بن عتبة بن ابى وقاص، وولى الرجاله قيس بن خريم، واقام هو في قصر القادسية، مع الحرم والذرية، ومعه في القصر ابو محجن الثقفى محبوسا في شراب شربه.
__________
[1] الأرومة: الأصل والجمع اروم.
[2] الجزية هي عبارة عن المال الذى يعقد الكتابي عليه الذمة.
[3] في الأصل: من جراح.

(1/121)


ثم ان سعدا تقدم الى عمرو بن معدى كرب، وقيس بن هبيرة، وشرحبيل بن السمط، وقال: انكم شعراء وخطباء وفرسان العرب، فدوروا في القبائل والرايات، وحرضوا الناس على القتال.
قال: ثم زحف الفريقان بعضهم الى بعض، وقد صف العجم ثلاثة عشر صفا، بعضها خلف بعض، وصفت العرب ثلاثة صفوف، فرشقتهم العجم بالنشاب حتى فشت فيهم [1] الجراحات، فلما راى قيس بن هبيرة ذلك، قال لخالد ابن عرفطه، وكان امير الأمراء: ايها الأمير، انا قد صرنا لهؤلاء القوم غرضا، فاحمل عليهم بالناس حمله واحده، فتطاعن الناس بالرماح مليا، ثم أفيضوا الى السيوف.
وكان زيد بن عبد الله النخعى صاحب الحمله الاولى، فكان أول قتيل، فاخذ الراية اخوه ارطاه، فقتل، ثم حملت بجيله، وعليها جرير بن عبد الله، وحملت الأزد، وثار القتام، واشتد القتال، فانهزمت العجم حتى لحقوا برستم، وترجل رستم، وترجل معه الأساورة والمرازبه وعظماء الفرس، وحملوا، فجال المسلمون جولة.
وكلم ابو محجن أم ولد سعد، فقال: اطلقينى من قيدي، ولك على عهد الله ان لم اقتل ان ارجع الى محبسى هذا، وقيدي. ففعلت، وحملته على فرس لسعد ابلق [2] ، فانتهى الى القوم مما يلى الأزد، وبجيله، مما يلى الميمنه، فجعل يحمل، ويكشف العجم، وقد كانوا كثروا على بجيله، فجعل سعد يعجب، ولا يدرى من هو، ويعرف الفرس.
وبعث سعد الى جرير بن عبد الله، وكان معه لواء بجيله، والى الاشعث بن قيس، ومعه لواء كنده، والى رؤساء القبائل: ان احملوا على القوم من ناحيه الميمنه على القلب، فحمل الناس عليهم من كل وجه، وانتقضت تعبئة الفرس، وقتل رستم، وولت العجم هاربه، وانصرف الى محبسه ابو محجن، وطلب رستم في المعركة،
__________
[1] في الأصل: بهم.
[2] في لونه سواد وبياض.

(1/122)


فاصيب بين القتلى، وبه مائه جراحه، ما بين طعنه وضربه، ولم يدر من قتله، ويقال: بل ارتطم في نهر القادسية، فغرق، وانتهت هزيمه العجم الى دير كعب، فنزلوا هناك، فاستقبلهم النخارجان، وقد وجهه يزدجرد مددا، فوقف بدير كعب، فكان لا يمر به احد من الفل الا حبسه قبله.
ثم عبى القوم، وكتبوا كتائبهم واوقفوهم مواقفهم حتى وافتهم العرب، وتواقف الفريقان، وبرز النخارجان، فنادى، مرد ومرد، اى رجل ورجل، فخرج اليه زهير بن سليم أخو مخنف بن سليم الأزدي، وكان النخارجان سمينا بدينا جسيما، وزهير رجلا مربوعا [1] شديد العضدين والساعدين، فرمى النخارجان نفسه عن دابته عليه، فاعتركا، فصرعه النخارجان، وجلس على صدره، واستل خنجره ليذبحه، فوقعت ابهام النخارجان في فم زهير، فمضغها، واسترخى النخارجان، وانقلب عليه زهير، وأخذ خنجره وادخل يده تحت ثيابه، فبعجه [2] ، وقتله.
وكان برذون النخارجان مدربا، فلم يبرح، فركبه زهير وقد سلبه سواريه ودرعه وقباءه ومنطقته، فاتى به سعدا، فاغنمه اياه، وامره سعد ان يتزيى بزيه، ودخل على سعد، فكان زهير بن سليم أول من لبس من العرب السوارين، وحمل قيس بن هبيرة على جيلوس راس المستميته، فقتله، وحمل المسلمون من كل جانب، فانهزمت العجم، وبادر جرير بن عبد الله الى القنطرة، فعطفوا عليه، فاحتملوه برماحهم، فسقط الى الارض، ولحقه اصحابه، وهربت عنه العجم، ولم يصبه شيء، وعار فرسه [3] ، فلم يلحق، فاتى ببرذون من مراكب الفرس في عنقه قلاده زمرد، فركبه، وذهبت العجم على وجوهها حتى لحقت بالمدائن.
وكتب سعد الى عمر رضى الله عنه بالفتح. وكان عمر يخرج في كل يوم ماشيا وحده، لا يدع أحدا يخرج معه، فيمشى على طريق العراق ميلين او ثلاثة،
__________
[1] لا هو بالقصير ولا بالطويل.
[2] شق بطنه.
[3] عار الفرس خرج من يد صاحبه، وذهب.

(1/123)


فلا يطلع عليه راكب من جهة العراق الا ساله عن الخبر، فبينا هو كذلك يوما طلع عليه البشير بالفتح، فلما رآه عمر رضى الله عنه ناداه من بعيد: ما الخبر؟، قال: فتح الله على المسلمين، وانهزمت العجم. وجعل الرسول يخب ناقته، وعمر يعدو معه، ويسأله، ويستخبره، والرسول لا يعرفه، حتى دخل المدينة كذلك، فاستقبل الناس عمر رضى الله عنه، يسلمون عليه بالخلافة وامره المؤمنين، فقال الرسول، وقد تحير: سبحان الله يا امير المؤمنين! الا أعلمتني؟ فقال عمر: لا عليك. ثم أخذ الكتاب، فقراه على الناس.
واقام سعد في عسكره بالقادسية الى ان أتاه كتاب عمر، يأمره ان يضع لمن معه من العرب دار هجره، وان يجعل ذلك بمكان لا يكون بين عمر وبينهم بحر، فسار الى الأنبار [1] ليجعلها دار هجره، فكرهها لكثرة الذباب بها، ثم ارتحل الى كويفه ابن عمر [2] ، فلم يعجبه موضعها، فاقبل حتى نزل موضع الكوفه اليوم، فخطها خططا بين من كان معه، وبنى لنفسه القصر والمسجد.
وبلغ عمر ان سعدا علق بابا على مدخل القصر، فامر محمد بن مسلمه ان يسير الى الكوفه، فيدعو بنار، فيحرق ذلك الباب، وينصرف من ساعته، واقبل محمد، فسار حتى دخل الكوفه، وفعل ما امر به، وانصرف من ساعته، واخبر سعد، فلم يحر جوابا، وعلم ان ذلك من امر عمر، فقال بشر بن ابى ربيعه:
الم خيال من اميمه موهنا ... وقد جعلت احدى النجوم تغور
ونحن بصحراء العذيب ودونها ... حجازيه ان المحل شطير
فزارت غريبا نازحا، جل ماله ... جواد، ومفتوق الغرار طرير
وحلت بباب القادسية ناقتي ... وسعد بن وقاص على امير
تذكر، هداك الله، وقع سيوفنا ... بباب قديس والمكر غرير
__________
[1] مدينه قديمه في العراق على نهر الفرات فتحها خالد بن الوليد سنه 634 م، وكانت مقرا للخلافة الى ان تاسست مدينه بغداد.
[2] تصغير الكوفه، ومكانها قرب الكوفه المعروفه، وكل رمله يخالطها حصى تسمى كوفه.

(1/124)


عشيه ود القوم لو ان بعضهم ... يعار جناحي طائر فيطير
إذا برزت منهم إلينا كتيبه ... أتونا بأخرى كالجبال تمور
فضاربتهم حتى تفرق جمعهم ... وطاعنت، انى بالطعان بصير
وعمرو ابو ثور شهيد، وهاشم ... وقيس، ونعمان الفتى، وجرير
وقال عروه بن الورد:
لقد علمت عمرو ونبهان اننى ... انا الفارس الحامى إذا القوم أدبروا
وانى إذا كروا شددت أمامهم ... كأني أخو قصباء جهم غضنفر
صبرت لأهل القادسية معلما ... ومثلي إذا لم يصبر القرن يصبر
فطاعنتهم بالرمح حتى تبددوا ... وضاربتهم بالسيف حتى تكركروا
بذلك أوصاني ابى، وابو ابى ... بذلك اوصاه، فلست اقصر
حمدت الهى إذ هداني لدينه ... فلله اسعى ما حييت واشكر
وقال قيس بن هبيرة:
جلبت الخيل من صنعاء تردى ... بكل مدجج كالليث حامى
الى وادي القرى فديار كلب ... الى اليرموك والبلد الشامي
فلما ان زوينا الروم عنها ... عطفناها ضوامر كالجلام
فابنا القادسية بعد شهر ... مسومة دوابرها دوامي [1]
فناهضنا هناك جموع كسرى ... وأبناء المرازبه العظام
فلما ان رايت الخيل جالت ... قصدت لموقف الملك الهمام
فاضرب راسه فهوى صريعا ... بسيف لا افل ولا كهام
وقد ابلى الإله هناك خيرا ... وفعل الخير عند الله نامى
نفلق هامهم بمهندات ... كان فراشها قيض النعام [2]
__________
[1] في الأصل: دوايرها.
[2] القيض: قشر البيض.

(1/125)


قالوا: ولما انهزمت العجم من القادسية وقتل صناديدهم مروا على وجوههم حتى لحقوا بالمدائن، واقبل المسلمون حتى نزلوا على شط دجلة بإزاء المدائن، فعسكروا هناك، وأقاموا فيه ثمانية وعشرين شهرا، حتى أكلوا الرطب مرتين، وضحوا اضحيتين، فلما طال ذلك على اهل السواد صالحه عامه الدهاقين بتلك الناحية.
ولما راى يزدجرد ذلك جمع اليه عظماء مرازبته، فقسم عليهم بيوت أمواله وخزائنه، وكتب عليهم بها القبالات [1] ، وقال: ان ذهب ملكنا، فأنتم أحق به، وان رجع رددتموه علينا، ثم تحمل في حرمه وحشمه، وخاصه اهل بيته، حتى اتى حلوان [2] ، فنزلها، وولى خرزاد بن هرمز أخا رستم المقتول بالقادسية الحرب، وخلفه بالمدائن.
وبلغ ذلك سعدا، فتأهب، وامر اصحابه ان يقتحموا دجلة، وابتدأ، فقال باسم الله، ودفع فرسه فيها، ودفع الناس، فسلموا عن آخرهم الا رجلا غرق، وكان على فرس شقراء [3] ، فخرجت الفرس تنفض عرفها، وغرق راكبها، وكان من طيّئ، يسمى سليك بن عبد الله، فقال سلمان، وكان حاضرا يومئذ: يا معشر المسلمين، ان الله ذلل لكم البحر، كما ذلل لكم البر، اما والذى نفس سلمان بيده، ليغيرن فيه، وليبدلن.
قالوا: ولما نظرت الفرس الى العرب قد اقحموا دوابهم الماء وهم يعبرون، تنادوا ديوان آمدند، ديوان آمدند [4] ، فخرج خرزاد في الخيل حتى وقف على الشريعه، ونادى: يا معشر العرب، البحر بحرنا، فليس لكم ان تقتحموه علينا. وأقبلوا يرمون العرب بالنشاب، واقتحم منهم ناس كثير الماء، فقاتلوا ساعه،
__________
[1] القبالات جمع قباله بفتح القاف وهو ان يتقبل العامل بخراج او جبايه اكثر مما اعطى، وفي حديث ابن عباس: إياكم والقبالات فإنها صغار وفضلها ربا.
[2] حلوان مدينه قديمه في العراق العجمي فتحها العرب سنه 640 وأحرقها السلجوقيون سنه 1046.
[3] في الأصل اشقر.
[4] جمله فارسيه معناها: جاء الشياطين.

(1/126)


وكاثرتهم العرب، فخرجت الفرس من الشريعه، وخرج المسلمون، وقاتلوهم مليا، وانهزمت العجم حتى دخلت المدائن، فتحصنوا فيها، واناخ المسلمون عليهم مما يلى دجلة، فلما نظر خرزاد الى ذلك خرج من الباب الشرقى ليلا في جنوده نحو جلولاء، واخلى المدائن، فدخلها المسلمون، فأصابوا فيها غنائم كثيره، ووقعوا على كافور [1] كثير، فظنوه ملحا، فجعلوه في خبزهم، فامر عليهم.
وقال مخنف بن سليم: لقد سمعت في ذلك اليوم رجلا ينادى: من يأخذ صحفه حمراء بصحفه بيضاء. لصحفه من ذهب لا يعلم ما هي.
وكتب سعد الى عمر رضى الله عنه بالفتح، واقبل علج [2] من اهل المدائن الى سعد، فقال: انا ادلكم على طريق، تدركون فيه القوم قبل ان يمعنوا في السير. فقدمه سعد امامه، واتبعته الخيل، فقطع بهم مخائض وصحارى.

موقعه جلولاء
ثم ان خرزاد لما انتهى الى جلولاء [3] اقام بها، وكتب الى يزدجرد، وهو بحلوان، يسأله المدد، فامده، فخندق على نفسه، ووجهوا بالذراري والاثقال الى خانقين [4] ، ووجه سعد اليهم بخيل، وولى عليها عمرو بن مالك بن نجبه بن نوفل بن وهب بن عبد مناف بن زهره، فسار حتى وافى جلولاء، والعجم مجتمعون قد خندقوا على انفسهم. فنزل المسلمون قريبا من معسكرهم، وجعلت الامداد تقدم على العجم من الجبل، وأصبهان.
فلما راى المسلمون ذلك قالوا لاميرهم عمرو بن مالك: ما تنتظر بمناهضه القوم،
__________
[1] الكافور: نبات له نور ابيض.
[2] العلج: الرجل من كفار العجم.
[3] جلولاء: مدينه في العراق على طريق خراسان، وعندها انتصر العرب على جيش ملك ساسان.
[4] خانقين: بلده في العراق على الطريق بين بغداد وخراسان على نهر خلوان تشاى وفيها اعتقل ومات النعمان الخامس ملك الحيرة على عهد كسرى الثانى، وعندها حدثت وقعه بين الفرس والعرب.

(1/127)


وهم كل يوم في زياده؟. فكتب الى سعد بن وقاص يعلمه ذلك، ويستاذنه في مناجزه القوم، فاذن له سعد، ووجه اليه قيس بن هبيرة مددا في الف رجل، أربعمائة فارس، وستمائه راجل.
وبلغ العجم ان العرب قد أتاهم المدد، فتأهبوا للحرب، وخرجوا، ونهض اليهم عمرو بن مالك في المسلمين، وعلى ميمنته حجر بن عدى، وعلى ميسرته زهير ابن جويه، وعلى الخيل عمرو بن معدى كرب، وعلى الرجاله طليحة ابن خويلد، فتزاحف الفريقان، وصبر بعضهم لبعض، فتراموا بالسهام حتى انفدوها، وتطاعنوا بالرماح حتى كسروها، ثم أفضوا الى السيوف وعمد الحديد، فاقتتلوا يومهم ذلك كله الى الليل، ولم يكن للمسلمين فيه صلاه الا إيماء والتكبير، حتى إذا اصفرت الشمس انزل الله على المسلمين نصره، وهزم عدوهم، فقتلوهم الى الليل، واغنمهم الله عسكرهم بما فيه.
فقال محقن بن ثعلبه، فدخلت في معسكرهم الى فسطاط، فإذا انا بجاريه على سرير في جوف الفسطاط، كان وجهها دارة القمر، فلما نظرت الى فزعت وبكت، فأخذتها، واتيت الأمير عمرو بن مالك، فاستوهبته إياها، فوهبها لي، فاتخذتها أم ولد.
وأصاب خارجه بن الصلت في فسطاط من فساطيطهم ناقه من ذهب موشحه باللؤلؤ والدر الفارد [1] ، والياقوت، عليها تمثال رجل من ذهب، وكانت على كبر الظبية، فدفعها الى المتولى لقبض الغنائم.
قال: ومرت الفرس على وجوهها، لا تلوى على شيء حتى انتهت الى يزدجرد، وهو بحلوان، فسقط في يديه، فتحمل بحرمه وحشمه وما كان معه من أمواله وخزائنه حتى نزل قم [2] وقاشان.
__________
[1] منقطع النظير، لا مثل له في جودته.
[2] مدينه بين اصفهان وساوه، وتذكر دائما مع قاشان، وبينهما اثنا عشر فرسخا، وكل أهلهما حاليا شيعه اماميه، ويقال ان آبار قم ليس في الارض مثلها عذوبه وبردا.

(1/128)


وأصاب المسلمون يوم جلولاء غنيمه لم يغنموا مثلها قط، وسبوا سبيا كثيرا من بنات احرار فارس، فذكروا ان عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يقول: اللهم انى اعوذ بك من اولاد سبايا الجلوليات. فأدرك ابناؤهن قتال صفين، فخلف عمرو بن مالك بجلولاء جرير بن عبد الله البجلي في اربعه آلاف فارس مسلحه بها، ليردوا العجم عن نفوذها الى ما يلى العراق، وسار ببقية المسلمين حتى وافى سعد بن ابى وقاص، وهو مقيم بالمدائن، فارتحل سعد بالناس حتى ورد الكوفه، وكتب الى عمر رضى الله عنه بالفتح، واقام سعدا أميرا على الكوفه وجميع السواد ثلاث سنين ونصفا، ثم عزله عمر، وولى مكانه عمار بن ياسر على الحرب، وعبد الله بن مسعود على القضاء، وعمرو بن حنيف على الخراج.
قالوا: ولما انتهت هزيمه العجم الى حلوان، وخرج يزدجرد هاربا حتى نزل قم وقاشان ومعه عظماء اهل بيته واشرافهم، قال له رجل من خاصته واهل بيته، يسمى هرمزان، وكان خال شيرويه بن كسرى ابرويز: ايها الملك ان العرب قد اقتحمت عليك من هذه الناحية، يعنى حلوان، ولهم جمع بناحيه الاهواز، ليس في وجوههم احد يردهم، ولا يمنعهم من العيث والفساد، يعنى خيل ابى موسى الأشعري ومن كان معه. قال يزدجرد: فما الرأي؟ قال الهرمزان: الرأي ان توجهني الى تلك الناحية، فاجمع الى العجم، وأكون ردءا في ذلك الوجه، واجمع لك الأموال من فارس والاهواز، واحملها إليك، لتتقوى بها على حرب اعدائك، فاعجبه ذلك من قوله، وعقد له على الاهواز وفارس، ووجه معه جيشا كثيفا.

(1/129)


يوم مدينه تستر
فاقبل الهرمزان حتى وافى مدينه تستر [1] ، فنزلها، ورم حصنها، وجمع الميرة فيها لحصار، ان رهقه [2] ، وارسل فيما يليه يستنجدهم، فوافاه بشر عظيم، فكتب ابو موسى الى عمر، يخبره الخبر، فكتب عمر رضى الله عنه الى عمار بن ياسر، يأمره ان يوجه النعمان بن مقرن في الف رجل من المسلمين الى ابى موسى، فكتب عمار الى جرير، وكان مقيما بجلولاء، يأمره باللحاق بابى موسى، فخلف جرير بجلولاء عروه ابن قيس البجلي في الفى رجل من العرب، وسار ببقية الناس حتى لحق بابى موسى، فكتب ابو موسى الى عمر يستزيده من المدد، فكتب عمر الى عمار يأمره ان يستخلف عبد الله بن مسعود على الكوفه في نصف الناس، ويسير بالنصف الآخر حتى يلحق بابى موسى، فسار عمار حتى ورد على ابى موسى، وقد وافاه جرير من ناحيه جلولاء.
فلما توافت العساكر عند ابى موسى ارتحل بالناس، وسار حتى اناخ على تستر، وتحصن الهرمزان منه في المدينة، ثم تاهب للحرب، وخرج الى ابى موسى، وعبى ابو موسى المسلمين، فجعل على ميمنته البراء بن مالك أخا انس بن مالك، وعلى ميسرته مجزاه بن ثور البكرى، وعلى جميع الناس انس بن مالك، وعلى الرجاله سلمه بن رجاء.
وتزاحف الفريقان فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى بين الفريقين، ثم انزل الله نصره، فانهزمت الأعاجم حتى دخلوا مدينه تستر، فتحصنوا بها، وقتل البراء بن مالك ومجزاه بن ثور، وقتل من الأعاجم في المعركة الف رجل، واسر منهم ستمائه اسير، فقدمهم ابو موسى، فضرب أعناقهم.
__________
[1] اعظم مدينه بخوزستان، معرب شوشتر، ومعناه التفضيل في الطيب والنزهه، وهي مركز تجارى هام، وسكانها شيعيون من العرب والايرانيين، وقد سميت بلدهم دار المؤمنين لشدة ورعهم. وإليها ينسب سهل التسترى من علماء الصوفية.
[2] غشيه وارهقه.

(1/130)


واقام المسلمون على باب مدينه تستر أياما كثيره، وحاصروا العجم بها، فخرج ذات ليله رجل من اشراف اهل المدينة، فاتى أبا موسى مستسرا، فقال تؤمننى على نفسي واهلى وولدى ومالي وضياعي حتى اعمل في أخذك المدينة عنوة؟ قال ابو موسى: ان فعلت فلك ذلك. قال الرجل، وكان اسمه سينه: ابعث معى رجلا من أصحابك. فقال ابو موسى: من رجل يشرى نفسه، ويدخل مع هذا العجمي مدخلا لا آمن عليه فيه الهلاك، ولعل الله ان يسلمه، فان يهلك فالى الجنه، وان يسلم عمت منفعته جميع الناس؟.
فقام رجل من بنى شيبان، يقال له الاشرس بن عوف، فقال: انا. فقال ابو موسى امض، كلأك الله. فمضى حتى خاض به دجيل [1] ، ثم اخرجه من سرب [2] حتى انتهى به الى داره، ثم اخرجه من داره، والقى عليه طيلسانا [3] ، وقال: امش ورائي كأنك من خدمي. ففعل، فجعل سينه يمر به في اقطار المدينة طولا وعرضا، حتى انتهى به الى الاحراس الذين يحرسون أبواب المدينة، ثم انطلق حتى مر به على الهرمزان، وهو على باب قصره، ومعه ناس من مرازبته، وشمع امامه، حتى نظر الرجل الى جميع ذلك، ثم انصرف الى داره، واخرجه من ذلك السرب، حتى اتى به أبا موسى، فاخبره الاشرس بجميع ما راى، وقال: وجه معى مائتي رجل حتى اقصد بهم الحرس، فاقتلهم، وافتح لك الباب، ووافنا أنت بجميع الناس.
فقال ابو موسى: من يشترى نفسه لله، فيمضى مع الاشرس؟. فانتدب مائتا رجل، فمضوا مع الاشرس وسينه حتى دخلوا من ذلك النقب، وخرجوا في دار سينه، وتأهبوا للحرب، ثم خرجوا والاشرس امامهم، حتى انتهوا الى باب المدينة، واقبل ابو موسى في جميع الناس حتى وافوا الباب من خارج، واقبل
__________
[1] نهر صغير متشعب من دجلة.
[2] السرب حفير تحت الارض او القناه الجوفاء التي يدخل منها الماء.
[3] معرب من الفارسيه، وهو نوع من الأكسية اسود اللون.

(1/131)


الاشرس واصحابه حتى أتوا الاحراس، فوضعوا فيهم السيف، وتداعى الناس، واسندوا ظهورهم الى حائط السور، وابو موسى واصحابه يكبرون لتشتد بذلك ظهورهم، وافضى اصحاب الاشرس الى الباب، فضربوا القفل حتى كسروه، وفتحوا الباب، ودخل ابو موسى والمسلمون، فوضعوا فيهم السيوف، وهرب الهرمزان في عظماء مرازبته حتى دخلوا الحصن الذى في جوف المدينة، وأخذ ابو موسى المدينة بما فيها وحاصروا الهرمزان حتى فنى ما كان اعد في الحصن من الميرة، ثم سال الامان، فقال ابو موسى: أومنك على حكم امير المؤمنين. فرضى بذلك، وخرج فيمن كان معه من اهل بيته ومرازبته الى ابى موسى، فوجه به وبهم ابو موسى الى عمر رضى الله عنه، ووجه معه ثلاثمائه رجل، وامر عليهم انس بن مالك، فساروا حتى انتهوا الى ماء يقال له السمينة [1] ، فاقبل اهل الماء يمنعونهم من النزول خوفا من ان يفنوا ماءهم، فلما علموا ان أنسا صاحب القوم جاؤوهم، فنزلوا، فقال رجل من اصحاب انس لانس: اخبر امير المؤمنين بما صنع هؤلاء بنا، ليخرجوهم من هذا الماء. قال الهرمزان: وان اراد مريد ان يحولهم الى مكان شر منه، هل كان يجده؟.
ثم ساروا حتى وافوا المدينة، فاتوا دار عمر، وقد زينوا الهرمزان بقبائه [2] ومنطقته وسيفه وسواريه وتوامتيه [3] ، وكذلك من كان معه، لينظر عمر رضى الله عنه الى زي الملوك والمرازبه وهيئتهم، فكان من خبره ما هو مشهور.
وانصرف عمار بن ياسر فيمن كان معه من اصحابه الى أوطانهم بالكوفه، وسار ابو موسى من تستر، حتى أتوا السوس [4] ، فحاصرها، فسأله مرزبانها ان يؤمنه في ثمانين رجلا من اهل بيته وخاصه اصحابه، فأجابه الى ذلك، فخرج اليه، فعد ثمانين رجلا، ولم يعد نفسه فيهم فامر ابو موسى به، فضربت عنقه، واطلق الثمانين الذين عدهم، ثم دخل المدينة، فغنم ما فيها، ثم بعث منجوف بن ثور الى
__________
[1] ماء لبنى الهجيم، تصغير سمنه: أول منزل من النباج لقاصد البصره
[2] نوع من الثياب تجمع اطرافه.
[3] درتان للاذنين إحداهما توامه للأخرى.
[4] بلده بخوزستان.

(1/132)


مهرجان قذق [1] ، فافتتحها، ومعه السائب بن الأقرع، فانتهى السائب الى قصر الهرمزان صاحب تستر، وكان موطنه الصيمرة، فدخل القصر، وكان من المدينة على ميل، فنظر في بعض البيوت الى تمثال في الحائط ماد اصبعه مصوبها الى الارض، فقال السائب ما صوبت اصبع هذا التمثال الى هذا المكان الا لامر، احفروا هاهنا فحفروا، فأصابوا سفطا [2] ، كان للهرمزان مملوءا جوهرا، فاحتبس منه السائب فص خاتم، وسرح بالباقي الى ابى موسى، واعلمه انه أخذ منه فصا، فسأله ان يهبه له، ففعل ابو موسى، ووجه بالسفط الى عمر رضى الله عنه، فأرسل عمر الى الهرمزان، وقال: هل تعرف هذا السفط؟ فقال: نعم، افقد منه فصا قال عمر: ان صاحب المقسم استوهبه، فوهبه له ابو موسى، فقال: ان صاحبكم لبصير بالجوهر.
ثم ان عمر ولى عثمان بن ابى العاص ارض البحرين، فلما بلغه فتح الاهواز سار بمن كان معه حتى اوغل في ارض فارس، فنزل مكانا يسمى توج [3] فصيره دار هجره، وبنى مسجدا جامعا، فكان يحارب اهل أردشير، حتى غلب على طائفه من ارضهم، وغلب على ناحيه من بلاد سابور، وبلاد اصطخر، وارجان، فمكث بذلك حولا، ثم خلف أخاه الحكم بن ابى العاص على اصحابه ولحق بالمدينة.
وان مرزبان فارس جمع جموعا عظيمه، وزحف الى الحكم، فظفر به الحكم، فقتله، وكان اسمه سهرك.

وقعه نهاوند
ثم كانت وقعه نهاوند [4] سنه احدى وعشرين 641 م، وذلك ان العجم لما قتلوا بجلولاء، وهرب يزدجرد، فصار بقم، ووجه رسله في البلدان يستجيش، فغضب له اهل مملكته، فتحلبت [5] اليه الأعاجم من اقطار البلاد،
__________
[1] كوره حسنه واسعه، ذات مدن وقرى، قرب الصيمرة من نواحي الجبال، عن يمين القاصد من حلوان العراق الى همذان.
[2] السفط كالجوالق، يعبى فيه الطيب وما اشبهه من ادوات النساء.
[3] مدينه بفارس، شديده الحر، قريبه من كازرون.
[4] مدينه عظيمه من اقدم المدن في الجبل، وبها آثار حسنه للفرس، وفي وسطها حصن عجيب البناء، عالى السمك، وبها قبور جماعه من الشهداء.
[5] جاؤوا من كل أوب للنصرة.

(1/133)


فأتاه اهل قومس، وطبرستان، وجرجان، ودنباوند، والري، وأصبهان، وهمذان، والماهين، واجتمعت عنده جموع عظيمه، فولى امرهم مردان شاه بن هرمز، ووجههم الى نهاوند.
وكتب عمار بن ياسر الى عمر بن الخطاب بذلك، فخرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وبيده الكتاب حتى صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: يا معشر العرب، ان الله ايدكم بالإسلام، والف بينكم بعد الفرقة، واغناكم بعد الفاقة، واظفركم في كل موطن لقيتم فيه عدوكم، فلم تفلوا، ولم تغلبوا، وان الشيطان قد جمع جموعا ليطفئ نور الله، وهذا كتاب عمار ابن ياسر، يذكر ان اهل قومس وطبرستان ودنباوند وجرجان والري وأصبهان وقم وهمذان والماهين وماسبذان قد اجفلوا [1] الى ملكهم، ليسيروا الى إخوانكم بالكوفه والبصره حتى يطردوهم من ارضهم، ويغزوكم في بلادكم، فأشيروا على.
فتكلم طلحه بن عبيد الله، فقال: يا امير المؤمنين، ان الأمور قد حنكتك، وان الدهور قد جربتك، وأنت الوالي، فمرنا نطع، واستنهضنا ننهض. ثم تكلم عثمان بن عفان، فقال: يا امير المؤمنين، اكتب الى اهل الشام، فيسيروا من شامهم، والى اهل اليمن، فيسيروا من يمنهم، والى اهل البصره، فيسيروا من بصرتهم، وسر أنت باهل هذا الحرم حتى توافى الكوفه، وقد وافاك المسلمون من اقطار ارضهم وآفاق بلادهم، فإنك إذا فعلت ذلك كنت اكثر منهم جمعا وأعز نفرا.
فقال المسلمون من كل ناحيه صدق عثمان، فقال عمر لعلى رضى الله عنهما: ما تقول أنت يا أبا الحسن؟، فقال على رضى الله عنه: انك ان اشخصت اهل الشام من شامهم سارت الروم الى ذراريهم، وان سيرت اهل اليمن من يمنهم خلفت الحبشه على ارضهم، وان شخصت أنت من هذا الحرم انتقضت عليك
__________
[1] أسرعوا.

(1/134)


الارض من أقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العيالات أهم إليك مما قدامك، وان العجم إذا رأوك عيانا قالوا، هذا ملك العرب كلها، فكان أشد لقتالهم، وانا لم نقاتل الناس على عهد نبينا ص ولا بعده بالكثرة، بل اكتب الى اهل الشام ان يقيم منهم بشامهم الثلثان، ويشخص الثلث، وكذلك الى عمان، وكذلك سائر الأمصار والكور.
فقال عمر: هو الرأي الذى كنت رايته، ولكنى احببت ان تتابعونى عليه، فكتب بذلك الى الأمصار، ثم قال: لاولين الحرب رجلا يكون غدا لاسنه القوم جزرا [1] . فولى الأمر النعمان بن مقرن المزنى، وكان من خيار اصحاب رسول الله ص، وكان على خراج كسكر، فدعا عمر السائب بن الأقرع، فدفع اليه عهد النعمان بن مقرن، وقال له: ان قتل النعمان فولى الأمر حذيفة بن اليمان، وان قتل حذيفة فولى الأمر جرير بن عبد الله البجلي، وان قتل جرير فالأمير المغيره ابن شعبه، وان قتل المغيره فالأمير الاشعث بن قيس.
وكتب الى النعمان بن مقرن ان قبلك رجلين هما فارسا العرب: عمرو بن معدى كرب، وطليحة بن خويلد فشاورهما في الحرب، ولا تولهما شيئا من الأمر، ثم قال للسائب: ان اظفر الله المسلمين فتول امر المغنم ولا ترفع الى باطلا، وان يهلك ذلك الجيش فاذهب، فلا ارينك.
فسار السائب حتى ورد الكوفه ودفع الى النعمان عهده، ووافت الامداد، وخلف ابو موسى بالبصرة ثلثى الناس، وسار بالثلث الآخر حتى وافى الكوفه، فتجهز الناس، وساروا الى نهاوند، فنزلوا بمكان يسمى الاسفيذهان [2] من مدينه نهاوند على ثلاثة فراسخ، قرب قريه يقال لها قديسجان، واقبلت الأعاجم يقودها مردان شاه بن هرمزد، حتى عسكروا قريبا من عسكر المسلمين، وخندقوا على انفسهم، واقام الفريقان بمكانهما، فقال النعمان لعمرو وطلحه: ما تريان؟
__________
[1] الجزر: القطع والاستئصال.
[2] كذا في الأصل، والصواب اسفيذبان واحده من قرى أصبهان.

(1/135)


فان هؤلاء القوم قد أقاموا بمكانهم لا يخرجون منه، وامدادهم تترى عليهم كل يوم فقال عمرو: الرأي ان تشيع ان امير المؤمنين توفى، ثم ترتحل بجميع من معك، فان القوم إذا بلغهم ذلك طلبونا فنقف لهم عند ذلك، ففعل النعمان ذلك، وتباشرت الأعاجم، وخرجوا في آثار المسلمين، حتى إذا قاربوهم وقفوا لهم، ثم تزاحفوا، فاقتتلوا، فلم يسمع الا وقع الحديد على الحديد، وكثرت القتلى من الفريقين، وحال بينهما الليل، فانصرف كل فريق الى معسكرهم، وبات المسلمون لهم أنين من الجراح، ثم أصبحوا، وذلك يوم الأربعاء، فتزاحفوا، واقتتلوا يومهم كله، وصبر الفريقان، ثم كان ذلك دأبهم يوم الخميس، وتزاحفوا يوم الجمعه، وتواقفوا، وركب النعمان بن مقرن برذونا اشهب، ولبس ثيابا بيضاء، وسار بين الصفوف، يذمر المسلمين، ويحضهم، وجعل ينتظر الساعة التي كان الرسول ص يقاتل فيها، ويستنزل النصر، وهي زوال النهار، ومهب الرياح، وسار في الرايات يقول لهم: انى هاز لكم الراية ثلاثا، فان هززتها أول مره فليشد كل رجل منكم حزام فرسه، وليستلم شكته، فإذا هززتها الثانيه فصوبوا رماحكم، وهزوا سيوفكم، فإذا هززتها الثالثه، فكبروا، واحملوا، فانى حامل.
فلما زالت الشمس بأدنى صلوا ركعتين ركعتين، ووقف، ونظر الناس الى الراية، فلما هزها الثالثه كبروا، وحملوا، فانتقضت صفوف الأعاجم، وكان النعمان أول قتيل، فحمله اخوه سويد بن مقرن الى فسطاطه، فخلع ثيابه، فلبسها، وتقلد سيفه، وركب فرسه، فلم يشك اكثر الناس انه النعمان، وثبتوا، يقاتلون عدوهم، ثم انزل الله نصره، وانهزمت الأعاجم، فذهبت على وجوهها، حتى صاروا الى قريه من نهاوند على فرسخين، تسمى دزيزيد فنزلوها لان حصن نهاوند لم يسعهم، واقبل حذيفة بن اليمان، وقد كان تولى الأمر بعد النعمان، حتى اناخ عليهم، فحاصرهم بها.

(1/136)


قال: وانهم خرجوا ذات يوم مستعدين للحرب، فقاتلهم المسلمون، فانهزمت الأعاجم، وانقطع عظيم من عظمائهم يسمى دينار فحال المسلمون بينه وبين الدخول الى الحصن، واتبعه رجل من عبس، يسمى سماك بن عبيد فقتل قوما كانوا معه، واستسلم له الفارس، فاستاسره سماك، فقال لسماك: انطلق بي الى اميركم، فانى صاحب هذه الكورة، لاصالحه على هذه الارض، وافتح له باب الحصن، فانطلق به الى حذيفة، فصالحه حذيفة عليها، وكتب له بذلك كتابا.
فاقبل دينار حتى وقف على باب حصن نهاوند، ونادى من فيه افتحوا باب الحصن، وانزلوا، فقد آمنكم الأمير، وصالحني على أرضكم. فنزلوا اليه، فبذلك سميت ماه دينار. واقبل رجل من اشراف تلك البلاد الى السائب بن الأقرع، وكان على المغانم، فقال له اتصالحنى على ضياعي، وتؤمننى على أموالي، حتى ادلك على كنز لا يدرى ما قدره، فيكون خالصا لاميركم الأعظم، لأنه شيء لم يؤخذ في الغنيمه.
وكان سبب هذا الكنز ان النخارجان الذى كان يوم القادسية اقبل بالمدد، فالفى العجم قد انهزموا، فوقف، فقاتل حتى قتل، وكان من أعاظم الأعاجم، وكان كريما على كسرى ابرويز، وكانت له امراه من اكمل [1] النساء جمالا، وكانت تختلف الى كسرى، فبلغ النخارجان ذلك، فرفضها، فلم يقربها، وبلغ ذلك كسرى، فقال يوما للنخارجان وقد دخل عليه مع العظماء والاشراف: بلغنى ان لك عينا عذبه الماء، وانك لا تشرب منها. فقال النخارجان ايها الملك، بلغنى ان الأسد ينتاب تلك العين، فاجتنبتها مخافه الأسد فاستحلى كسرى جواب النخارجان، وعجب من فطنته، فدخل دار نسائه، وكانت له ثلاثة آلاف امراه لفراشه، فجمعهن وأخذ ما كان عليهن من حلى، فجمعه، ودفعه الى امراه النخارجان،
__________
[1] في الأصل اجمل.

(1/137)


ودعا بالصاغه، فاتخذوا للنخارجان تاجا من ذهب مكللا بالجوهر الثمين، فتوجه به، فبقى ذلك التاج وتلك الحلى عند ولد بنى المرأة، فلما وقعت الحرب بناحيتهم ساروا به الى قريه لأبيهم، سميت باسمه، يقال لها الخوارجان وفيها بيت نار، فاقتلعوا الكانون [1] . ودفنوا الحلى تحته، وأعادوا الكانون كهيئته.
فقال له السائب: ان كنت صادقا فأنت آمن على اولادك وضياعك واهلك وولدك، فانطلق به حتى استخرجه في سفطين: أحدهما التاج، والآخر الحلى.
فلما قسم السائب الغنائم بين من حضر القتال، وفرغ حمل السفطين في خرجين على ناقته، وقدم بهما على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فكان من امرهما الخبر المشهور، اشتراهما عمرو بن الحارث بعطاء المقاتله والذرية جميعا، ثم حملهما الى الحيرة فباع بفضل كثير، واعتقد بذلك اموالا بالعراق، وكان أول قرشي اعتقد بالعراق، فقال عروه بن زيد الخيل يذكر ايامهم:
الا طرقت رحلي وقد نام صحبتي ... بايوان سيرين المزخرف خلتي
ولو شهدت يومى جلولاء حربنا ... ويوم نهاوند المهول استهلت
إذا لرأت ضرب امرى غير خامل ... مجيد بطعن الرمح اروع مصلت
ولما دعوا يا عروه بن مهلهل ... ضربت جموع الفرس حتى تولت
دفعت عليهم رحلتي وفوارسى ... وجردت سيفي فيهم ثم التي
وكم من عدو اشوس متمرد ... عليه بخيلى في الهياج اظلت
وكم كربه فرجتها وكريهة ... شددت لها ازرى الى ان تجلت
وقد اضحت الدنيا لدى ذميمة ... وسليت عنها النفس حتى تسلت
واصبح همى في الجهاد ونيتى ... فلله نفس ادبرت وتولت
فلا ثروه الدنيا نريد اكتسابها ... الا انها عن وفرها قد تحلت
وماذا ارجى من كنوز جمعتها ... وهذى المنايا شرعا قد اظلت
__________
[1] الكانون: الموقد.

(1/138)