الأخبار الطوال
مبايعه يزيد
وانصرف يزيد فدخل الجامع، ودعا الناس الى البيعه، فبايعوه، ثم انصرف
الى منزله.
ومات معاويه وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن ابى سفيان، وعلى مكة يحيى
بن حكيم بن صفوان بن اميه، وعلى الكوفه النعمان بن بشير الأنصاري، وعلى
البصره عبيد الله بن زياد.
فلم تكن ليزيد همه الا بيعه هؤلاء الأربعة نفر، فكتب الى الوليد بن
عتبة يأمره ان يأخذهم بالبيعه أخذا شديدا لا رخصه فيه، فلما ورد ذلك
على الوليد قطع به وخاف الفتنة، فبعث الى مروان، وكان الذى بينهما
متباعدا، فأتاه، فاقراه الوليد الكتاب واستشاره.
فقال له مروان: اما عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن ابى بكر فلا تخافن
ناحيتهما، فليسا بطالبين شيئا من هذا الأمر، ولكن عليك بالحسين بن على
وعبد الله بن الزبير، فابعث إليهما الساعة، فان بايعا والا فاضرب
أعناقهما قبل ان يعلن الخبر، فيثب كل واحد منهما ناحيه، ويظهر الخلاف.
فقال الوليد لعبد الله بن عمرو بن عثمان، وكان حاضرا وهو حينئذ غلام
حين راهق: انطلق يا بنى الى الحسين بن على وعبد الله بن الزبير،
فادعهما.
فانطلق الغلام حتى اتى المسجد، فإذا هو بهما جالسين، فقال: أجيبا
الأمير.
فقالا للغلام: انطلق، فانا صائران اليه على اثرك. فانطلق الغلام.
فقال ابن الزبير للحسين رضى الله عنه: فيم تراه بعث إلينا في هذه
الساعة؟.
فقال الحسين: احسب معاويه قد مات، فبعث إلينا للبيعه. قال ابن الزبير:
ما أظن غيره. وانصرفا الى منازلهما.
فاما الحسين فجمع نفرا من مواليه وغلمانه، ثم مشى نحو دار الإمارة،
وامر فتيانه ان يجلسوا بالباب، فان سمعوا صوته اقتحموا الدار.
(1/227)
ودخل الحسين على الوليد، وعنده مروان، فجلس
الى جانب الوليد، فاقراه الوليد الكتاب، فقال الحسين: ان مثلي لا يعطى
بيعته سرا، وانا طوع يديك، فإذا جمعت الناس لذلك حضرت، وكنت واحدا
منهم.
وكان الوليد رجلا يحب العافيه، فقال للحسين: فانصرف اذن حتى تأتينا مع
الناس، فانصرف.
فقال مروان للوليد: عصيتني، وو الله لا يمكنك من مثله ابدا.
قال الوليد: ويحك، اتشير على بقتل الحسين بن فاطمه بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعليهما السلام؟ والله ان الذى يحاسب بدم الحسين يوم
القيامه لخفيف الميزان عند الله.
وتحرز ابن الزبير في منزله، وراوغ الوليد حتى إذا جن عليه الليل سار
نحو مكة، وتنكب الطريق الأعظم فاخذ على طريق الفرع.
ولما اصبح الوليد بلغه خبره، فوجه في اثره حبيب بن كدين في ثلاثين
فارسا، فلم يقعوا له على اثر، وشغلوا يومهم ذلك كله بطلب ابن الزبير.
فلما امسوا، واظلم الليل مضى الحسين رضى الله عنه أيضا نحو مكة، ومعه
أختاه: أم كلثوم، وزينب وولد أخيه، واخوته ابو بكر، وجعفر، والعباس،
وعامه من كان بالمدينة من اهل بيته الا أخاه محمد بن الحنفيه، فانه
اقام.
واما عبد الله بن عباس فقد كان خرج قبل ذلك بايام الى مكة.
وجعل الحسين رضى الله عنه يطوى المنازل، فاستقبله عبد الله بن مطيع،
وهو منصرف من مكة يريد المدينة، فقال له: اين تريد؟.
قال الحسين: اما الان فمكه.
قال خار [1] الله لك، غير انى أحب ان أشير عليك براى.
قال الحسين وما هو؟.
قال: إذا اتيت مكة فاردت الخروج منها الى بلد من البلدان، فإياك
والكوفه، فإنها بلده مشئومه، بها قتل ابوك، وبها خذل اخوك، واغتيل
بطعنه كادت
__________
[1] جعل لك الخير.
(1/228)
تأتي على نفسه، بل الزم الحرم، فان اهل
الحجاز لا يعدلون بك أحدا، ثم ادع إليك شيعتك من كل ارض، فسيأتونك
جميعا.
قال له الحسين: يقضى الله ما أحب.
ثم اطلق عنانه، ومضى حتى وافى مكة، فنزل شعب على، واختلف الناس اليه،
فكانوا يجتمعون عنده حلقا حلقا، وتركوا عبد الله بن الزبير، وكانوا قبل
ذلك يتحفلون اليه، فساء ذلك ابن الزبير، وعلم ان الناس لا يحفلون به
والحسين مقيم بالبلد، فكان يختلف الى الحسين رضى الله عنه صباحا ومساء.
ثم ان يزيد عزل يحيى بن حكيم بن صفوان بن اميه.
[مقتل الحسين عليه السلام]
اهل الكوفه والحسين
قالوا: ولما بلغ اهل الكوفه وفاه معاويه وخروج الحسين بن على الى مكة
اجتمع جماعه من الشيعة في منزل سليمان بن صرد، واتفقوا على ان يكتبوا
الى الحسين يسالونه القدوم عليهم، ليسلموا الأمر اليه، ويطردوا النعمان
بن بشير، فكتبوا اليه بذلك، ثم وجهوا بالكتاب مع عبيد الله بن سبيع
الهمدانى وعبد الله بن وداك السلمى، فوافوا الحسين رضى الله عنه بمكة
لعشر خلون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب اليه.
ثم لم يمس الحسين يومه ذلك حتى ورد عليه بشر بن مسهر الصيداوى، وعبد
الرحمن بن عبيد الارحبى، ومعهما خمسون كتابا من اشراف اهل الكوفه
ورؤسائها كل كتاب منها من الرجلين والثلاثة والأربعة بمثل ذلك.
فلما اصبح وافاه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الخثعمى،
ومعهما أيضا نحو من خمسين كتابا.
فلما امسى أيضا ذلك اليوم ورد عليه سعيد بن عبد الله الثقفى ومعه كتاب
واحد من شبث بن ربعي، وحجار بن ابجر، ويزيد بن الحارث، وعروه بن قيس،
وعمرو ابن الحجاج، ومحمد بن عمير بن عطارد وكان [1] هؤلاء الرؤساء من
اهل الكوفه فتتابعت عليه في ايام رسل اهل الكوفه ومن الكتب ما ملا منه
خرجين [2]
__________
[1] في الأصل: وكانوا.
[2] الخرج بالضم وعاء ذو شقين، يوضع على ظهر الدابة، ويتخذه المسافر
ليضع فيه احماله، والجمع اخراج.
(1/229)
فكتب الحسين اليهم جميعا كتابا واحدا،
ودفعه الى هانئ بن هانئ، وسعيد ابن عبد الله، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على الى من بلغه كتابي هذا، من
اوليائه وشيعته بالكوفه، سلام عليكم، اما بعد، فقد أتتني كتبكم، وفهمت
ما ذكرتم من محبتكم لقدومى عليكم، وانى باعث إليكم بأخي وابن عمى وثقتي
من اهلى مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه امركم، ويكتب الى بما يتبين له من
اجتماعكم، فان كان امركم على ما أتتني به كتبكم، وأخبرتني به رسلكم
اسرعت القدوم عليكم ان شاء الله، والسلام.
وقد كان مسلم بن عقيل خرج معه من المدينة الى مكة، فقال له الحسين ع:
يا ابن عم، قد رايت ان تسير الى الكوفه، فتنظر ما اجتمع عليه راى
أهلها، فان كانوا على ما أتتني به كتبهم، فعجل على بكتابك لاسرع القدوم
عليك، وان تكن الاخرى، فعجل الانصراف.
فخرج مسلم على طريق المدينة ليلم باهله، ثم استاجر دليلين من قيس،
وسار، فضلا ذات ليله، فأصبحا، وقد تاها، واشتد عليهما العطش والحر،
فانقطعا، فلم يستطيعا المشى، فقالا لمسلم: عليك بهذا السمت، فالزمه
لعلك ان تنجو.
فتركهما مسلم ومن معه من خدمه بحشاشة الأنفس حتى أفضوا الى طريق
فلزموه، حتى وردوا الماء، فأقام مسلم بذلك الماء.
وكتب الى الحسين مع رسول استاجره من اهل ذلك الماء، يخبره خبره، وخبر
الدليلين، وما ناله من الجهد، ويعلمه انه قد تطير من الوجه الذى توجه
له، ويسأله ان يعفيه ويوجه غيره، ويخبره انه مقيم بمنزله ذلك من بطن
الحربث [1] .
فسار الرسول حتى وافى مكة، واوصل الكتاب الى الحسين، فقراه وكتب في
جوابه: اما بعد، فقد ظننت ان الجبن قد قصر بك عما وجهتك به، فامض لما
امرتك فانى غير معفيك، والسلام.
__________
[1] البطن: الموضع الغامض من الوادى، والبطون كثيره، والحربث نبت اسود
وزهرته بيضاء، وهو من اطيب المراعى.
(1/230)
مسلم في الكوفه
فسار مسلم حتى وافى الكوفه، ونزل في الدار التي تعرف بدار المختار بن
ابى عبيده، ثم عرفت اليوم بدار المسيب.
فكانت الشيعة تختلف اليه، فيقرأ عليهم كتاب الحسين، ففشا امره بالكوفه
حتى بلغ ذلك النعمان بن بشير أميرها، فقال: لا اقاتل الا من قاتلني،
ولا اثب الا على من وثب على، ولا آخذ بالقرفه [1] والظنه، فمن ابدى
صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم أكن الا
وحدي. وكان يحب العافيه ويغتنم السلامة.
فكتب مسلم بن سعيد الحضرمى وعماره بن عقبه وكانا عيني يزيد بن معاويه
الى يزيد يعلمانه قدوم مسلم بن عقيل الكوفه داعيا للحسين بن على، وانه
قد افسد قلوب أهلها عليه، فان يكن لك في سلطانك حاجه فبادر اليه من
يقوم بأمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فان النعمان رجل ضعيف او متضاعف،
والسلام.
فلما ورد الكتاب على يزيد امر بعهد، فكتب لعبيد الله بن زياد على
الكوفه، وامره ان يبادر الى الكوفه، فيطلب مسلم بن عقيل طلب الحرزه حتى
يظفر به، فيقتله، او ينفيه عنهما، ودفع الكتاب الى مسلم بن عمرو
الباهلى ابى قتيبة بن مسلم، وامره باغذاذ السير. فسار مسلم حتى وافى
البصره، واوصل الكتاب الى عبيد الله بن زياد.
وقد كان الحسين بن على رضى الله عنه كتب كتابا الى شيعته من اهل البصره
مع مولى له يسمى سلمان نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على الى مالك بن مسمع، والأحنف
ابن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، سلام
عليكم، اما بعد، فانى ادعوكم الى احياء معالم الحق وأماته البدع، فان
تجيبوا تهتدوا سبل الرشاد، والسلام.
فلما أتاهم هذا الكتاب كتموه جميعا الا المنذر بن الجارود، فانه أفشاه،
لتزويجه ابنته هندا من عبيد الله بن زياد، فاقبل حتى دخل عليه، فاخبره
__________
[1] التهمه.
(1/231)
بالكتاب، وحكى له ما فيه، فامر عبيد الله
بن زياد بطلب الرسول، فطلبوه، فاتوه به، فضربت عنقه.
ثم اقبل حتى دخل المسجد الأعظم، فاجتمع له الناس، فقام، فقال:
انصف القاره [1] من راماها،
يا اهل البصره ان امير المؤمنين قد ولانى مع البصره الكوفه، وانا سائر
إليها، وقد خلفت عليكم أخي عثمان بن زياد، فإياكم والخلاف والارجاف، فو
الله الذى لا اله غيره، لئن بلغنى عن رجل منكم خالف او ارجف لاقتلنه
ووليه، ولاخذن الأدنى بالأقصى، والبريء بالسقيم حتى تستقيموا، وقد اعذر
من انذر. ثم نزل، وسار.
وخرج معه من اشراف اهل البصره شريك بن الأعور والمنذر بن الجارود، فسار
حتى وافى الكوفه، فدخلها، وهو متلثم.
وقد كان الناس بالكوفه يتوقعون الحسين بن على ع، وقدومه، فكان لا يمر
ابن زياد بجماعه الا ظنوا انه الحسين فيقومون له، ويدعون ويقولون:
مرحبا بابن رسول الله، قدمت خير مقدم.
فنظر ابن زياد من تباشيرهم بالحسين الى ما ساءه، واقبل حتى دخل المسجد
الأعظم، ونودى في الناس، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه،
ثم قال:
يا اهل الكوفه، ان امير المؤمنين قد ولانى مصركم، وقسم فيئكم فيكم،
وأمرني بانصاف مظلومكم، والاحسان الى سامعكم ومطيعكم، والشده على
__________
[1] القاره: قوم رماه من العرب، وفي المثل: قد انصف القاره من راماها،
وقد زعموا ان رجلين التقيا، أحدهما قارى والآخر اسدى، فقال القاري: ان
شئت صارعتك، وان شئت سابقتك، وان شئت راميتك، فقال اخترت المراماة،
فقال القاري: قد أنصفتني وانشد:
قد انصف القاره من راماها ... انا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على اخراها
ثم انتزع له سهما فشك فؤاده.
(1/232)
عاصيكم ومريبكم، وانا منته في ذلك الى
امره، وانا لمطيعكم كالوالد الشفيق، ولمخالفكم كالسم النقيع، فلا يبقين
احد منكم الا على نفسه.
ثم نزل، فاتى القصر، فنزله، وارتحل النعمان بن بشير نحو وطنه بالشام.
وبلغ مسلم بن عقيل قدوم عبيد الله بن زياد وانصراف النعمان، وما كان من
خطبه ابن زياد ووعيده، فخاف على نفسه.
فخرج من الدار التي كان فيها بعد عتمه حتى اتى دار هانئ بن عروه
المذحجى، وكان من اشراف اهل الكوفه، فدخل داره الخارجه، فأرسل اليه
وكان في دار نسائه، يسأله الخروج اليه، فخرج اليه.
وقام مسلم، فسلم عليه، وقال:
انى اتيتك لتجيرني وتضيفنى.
فقال له هانئ:
لقد كلفتني شططا بهذا الأمر، ولولا دخولك منزلي لأحببت ان تنصرف عنى،
غير انه قد لزمنى ذمام لذلك.
فادخله دار نسائه، وافرد له ناحيه منها.
وجعلت الشيعة تختلف اليه في دار هانئ.
وكان هانئ بن عروه مواصلا لشريك بن الأعور البصرى الذى قام مع ابن
زياد، وكان ذا شرف بالبصرة وخطر، فانطلق هانئ اليه حتى اتى به منزله،
وانزله مع مسلم بن عقيل في الحجرة التي كان فيها.
وكان شريك من كبار الشيعة بالبصرة، فكان يحث هانئا على القيام بأمر
مسلم، وجعل مسلم يبايع من أتاه من اهل الكوفه، ويأخذ عليهم العهود
والمواثيق المؤكدة بالوفاء.
(1/233)
ومرض شريك بن الأعور في منزل هانئ بن عروه
مرضا شديدا، وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل اليه يعلمه انه يأتيه
عائدا.
فقال شريك لمسلم بن عقيل: انما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغيه،
وقد امكنك الله منه، هو صائر الى ليعودنى، فقم، فادخل الخزانه حتى إذا
اطمان عندي، فاخرج اليه، فقاتله، ثم صر الى قصر الإمارة، فاجلس فيه،
فانه لا ينازعك فيه احد من الناس، وان رزقني الله العافيه صرت الى
البصره، فكفيتك امرها، أبايع لك أهلها.
فقال هانئ بن عروه: ما أحب ان يقتل في دارى ابن زياد.
فقال له شريك: ولم؟ فو الله ان قتله لقربان الى الله.
ثم قال شريك لمسلم: لا تقصر في ذلك.
فبينما هم على ذلك إذ قيل لهم: الأمير بالباب.
فدخل مسلم بن عقيل الخزانه، ودخل عبيد الله بن زياد على شريك، فسلم
عليه، وقال:
ما الذى تجد وتشكو؟.
فلما طال سؤاله اياه استبطأ شريك خروج مسلم، وجعل يقول، ويسمع مسلما:
ما تنظرون بسلمى عند فرصتها ... فقد وفى ودها، واستوسق الصرم [1]
وجعل يردد ذلك.
فقال ابن زياد لهانئ: ايهجر؟ يعنى يهذى.
قال هانئ: نعم، اصلح الله الأمير، لم يزل هكذا منذ اصبح.
ثم قام عبيد الله وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانه، فقال شريك:
ما الذى منعك منه الا الجبن والفشل؟.
__________
[1] استوسق الأمر إذا امكن، والصرم: الطائفه المجتمعه من القوم.
(1/234)
قال مسلم: منعني منه خلتان: إحداهما كراهية
هانئ لقتله في منزله، والاخرى قول رسول الله ص [ان الايمان قيد الفتك،
لا يفتك مؤمن.
] فقال شريك: اما والله لو قتلته لاستقام لك امرك، واستوسق لك [سلطانك.
] ولم يعش شريك بعد ذلك الا أياما، حتى توفى، وشيع ابن زياد جنازته،
وتقدم فصلى عليه.
ولم يزل مسلم بن عقيل يأخذ البيعه من اهل الكوفه حتى بايعه منهم ثمانية
عشر الف رجل في ستر ورفق.
وخفى على عبيد الله بن زياد موضع مسلم بن عقيل، فقال لمولى له من اهل
الشام يسمى معقلا، وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس، وقال: خذ هذا المال،
وانطلق، فالتمس مسلم بن عقيل، وتات له بغاية التاتى.
فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، وجعل لا يدرى كيف يتأتى الأمر.
ثم انه نظر الى رجل يكثر الصلاة الى ساريه من سوارى المسجد، فقال في
نفسه: ان هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة، واحسب هذا منهم.
فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته قام، فدنا منه، وجلس، فقال:
جعلت فداك، انى رجل من اهل الشام، مولى لذى الكلاع، وقد انعم الله على
بحب اهل بيت رسول الله ص، وحب من احبهم، ومعى هذه الثلاثة الآلاف [1]
درهم، أحب إيصالها الى رجل منهم، بلغنى انه قدم هذا المصر داعيه للحسين
بن على ع، فهل تدلني عليه لاوصل هذا المال إليه؟
ليستعين به على بعض أموره، ويضعه حيث أحب من شيعته.
قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيرى ممن هو في المسجد؟.
__________
[1] في الأصل: آلاف.
(1/235)
قال: لانى رايت عليك سيما الخير، فرجوت ان
تكون ممن يتولى اهل بيت رسول الله ص.
قال له الرجل: ويحك، قد وقعت على بعينك، انا رجل من اخوانك، واسمى مسلم
بن عوسجة، وقد سررت بك، وساءني ما كان من حسى قبلك، فانى رجل من شيعه
اهل هذا البيت، خوفا من هذا الطاغيه ابن زياد، فأعطني ذمه الله وعهده
ان تكتم هذا عن جميع الناس.
فاعطاه من ذلك ما اراد.
فقال له مسلم بن عوسجة: انصرف يومك هذا، فان كان غد فائتنى في منزلي
حتى انطلق معك الى صاحبنا يعنى مسلم بن عقيل فاوصلك اليه.
فمضى الشامي، فبات ليلته، فلما اصبح غدا الى مسلم بن عوسجة في منزله،
فانطلق به حتى ادخله الى مسلم بن عقيل، فاخبره بامره، ودفع اليه الشامي
ذلك المال، وبايعه.
فكان الشامي يغدو الى مسلم بن عقيل، فلا يحجب عنه، فيكون نهاره كله
عند، فيتعرف جميع اخبارهم، فإذا امسى واظلم عليه الليل دخل على عبيد
الله ابن زياد، فاخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وفعلوا في ذلك، واعلمه
نزول مسلم في دار هانئ بن عروه.
ثم ان محمد بن الاشعث وأسماء بن خارجه دخلا على ابن زياد مسلمين، فقال
لهما:
ما فعل هانئ بن عروه؟.
فقالا: ايها الأمير، انه عليل منذ ايام.
فقال ابن زياد: وكيف؟ وقد بلغنى انه يجلس على باب داره عامه نهاره، فما
يمنعه من إتياننا، وما يجب عليه من حق التسليم؟.
قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك اياه.
(1/236)
فخرجا من عنده، واقبلا حتى دخلا على هانئ
بن عروه، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له:
اقسمنا عليك الا قمت معنا اليه الساعة لتسل سخيمه [1] قلبه.
فدعا ببغلته، فركبها، ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبثت
نفسه.
فقال لهما:
ان قلبي قد اوجس من هذا الرجل خيفة.
قالا: ولم تحدث نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟.
فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلا:
اريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
قال هانئ: وما ذاك ايها الأمير؟.
قال ابن زياد: وما يكون اعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل، وادخالك اياه
منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟.
فقال هانئ: ما فعلت، وما اعرف من هذا شيئا.
فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلا.
فدخل عليهم.
فقال ابن زياد لهانئ بن عروه: اتعرف هذا؟.
فلما رآه علم انه انما كان عينا عليهم.
فقال هانئ: اصدقك والله ايها الأمير، انى والله ما دعوت مسلم بن عقيل،
وما شعرت به. ثم قص عليه قصته على وجهها.
ثم قال: فاما الان فانا مخرجه من دارى لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهدا
وثيقا ان ارجع إليك.
__________
[1] السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس.
(1/237)
قال ابن زياد: لا والله، لا تفارقنى حتى
تأتيني به.
فقال هانئ: او يجمل بي ان اسلم ضيفي وجارى للقتل؟ والله لا افعل ذلك
ابدا.
فاعترضه ابن زياد بالخيزرانه، فضرب وجهه، وهشم انفه، وكسر حاجبه، وامر
به، فادخل بيتا.
وبلغ مذحجا ان ابن زياد قد قتل هانئا، فاجتمعوا بباب القصر، وصاحوا.
فقال ابن زياد لشريح القاضى وكان عنده: ادخل الى صاحبهم، فانظر اليه،
ثم اخرج اليهم، فاعلمهم انه حي. ففعل.
فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجاج: اما إذ كان صاحبكم حيا فما يعجلكم
الفتنة؟ انصرفوا. فانصرفوا.
فلما علم ابن زياد انهم قد انصرفوا امر بهانىء، فاتى به السوق، فضربت
عنقه هناك.
ولما بلغ مسلم بن عقيل قتل هانئ بن عروه نادى فيمن كان بايعه،
فاجتمعوا، فعقد لعبد الرحمن بن كريز الكندى على كنده وربيعه، وعقد
لمسلم بن عوسجة على مذحج واسد، وعقد لأبي ثمامة الصيداوى على تميم
وهمدان، وعقد للعباس بن جعدة بن هبيرة على قريش والانصار، فتقدموا
جميعا حتى أحاطوا بالقصر، واتبعهم هو في بقية الناس.
وتحصن عبيد الله بن زياد في القصر مع من حضر مجلسه في ذلك اليوم من
اشراف اهل الكوفه والأعوان والشرط، وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على
سور القصر يرمون القوم بالمدر [1] والنشاب، ويمنعونهم من الدنو من
القصر، فلم يزالوا بذلك حتى امسوا.
__________
[1] رماح كانت تركب فيها القرون المحدده مكان الأسنة.
(1/238)
وقال عبيد الله بن زياد لمن كان عنده من
اشراف اهل الكوفه: ليشرف كل رجل منكم في ناحيه من السور، فخوفوا القوم.
فأشرف كثير بن شهاب، ومحمد بن الاشعث، والقعقاع بن شور، وشبث ابن ربعي،
وحجار بن ابجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: يا اهل الكوفه، اتقوا الله
ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقوا عصا هذه الامه، ولا توردوا على انفسكم
خيول الشام، فقد ذقتموهم، وجربتم شوكتهم.
فلما سمع اصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور.
وكان الرجل من اهل الكوفه ياتى ابنه، وأخاه، وابن عمه فيقول: انصرف،
فان الناس يكفونك. وتجيء المرأة الى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلق به حتى
يرجع.
فصلى مسلم العشاء في المسجد، وما معه الا زهاء ثلاثين رجلا.
فلما راى ذلك مضى منصرفا ماشيا، ومشوا معه، فاخذ نحو كنده، فلما مضى
قليلا التفت فلم ير منهم أحدا، ولم يصب إنسانا يدله على الطريق، فمضى
هائما على وجهه في ظلمه الليل حتى دخل على كنده.
فإذا امراه قائمه على باب دارها تنتظر ابنها وكانت ممن خف مع مسلم
فاوته وادخلته بيتها، وجاء ابنها، فقال: من هذا في الدار؟
فاعلمته، وامرته بالكتمان.
ثم ان ابن زياد لما فقد الأصوات ظن ان القوم دخلوا المسجد، فقال:
انظروا، هل ترون في المسجد أحدا؟ وكان المسجد مع القصر.
فنظروا فلم يروا أحدا، وجعلوا يشعلون اطناب القصب [1] ، ثم يقذفون بها
في رحبه المسجد ليضيء لهم، فتبينوا، فلم يروا أحدا.
فقال ابن زياد: ان القوم قد خذلوا، وأسلموا مسلما.
وانصرفوا.
__________
[1] اطناب القصب: عروقه التي تتشعب من أرومته. وفي الأصل اطنان،
والصواب ما ذكر.
(1/239)
فخرج فيمن كان معه، وجلس في المسجد، ووضعت
الشموع والقناديل، وامر مناديا فنادى بالكوفه الا برئت الذمة من رجل من
العرفاء والشرط والحرس لم يحضر المسجد.
فاجتمع الناس، ثم قال: يا حصين بن نمير وكان على الشرطه ثكلتك أمك ان
ضاع باب سكه من سكك الكوفه، فإذا اصبحت فاستقر الدور، دارا، دارا، حتى
تقع عليه.
وصلى ابن زياد العشاء في المسجد، ثم دخل القصر.
فلما اصبح جلس للناس، فدخلوا عليه، ودخل في اوائلهم محمد بن الاشعث،
فأقعده معه على سريره.
واقبل ابن تلك المرأة التي مسلم في بيتها الى عبد الرحمن بن محمد بن
الاشعث وهو حينئذ غلام حين راهق فاخبره بمكان مسلم عنده.
فاقبل عبد الرحمن الى ابيه محمد بن الاشعث، وهو جالس مع ابن زياد، فاسر
اليه الخبر.
فقال ابن زياد: ما سار به ابنك؟
قال: أخبرني ان مسلم بن عقيل في بعض دورنا.
فقال: انطلق، فاتنى به الساعة.
وقال لعبيد بن حريث: ابعث مائه رجل من قريش وكره ان يبعث اليه غير قريش
خوفا من العصبية ان تقع.
فاقبلوا حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل، ففتحوها، فقاتلهم،
فرمى، فكسر فوه، وأخذ، فاتى ببغله فركبها، وصاروا به الى ابن زياد.
قتل مسلم بن عقيل
فلما ادخل عليه، وقد اكتنفه الجلاوزة قالوا له: سلم على الأمير.
قال: ان كان الأمير يريد قتلى، فما انتفع بسلام عليه، وان كان لم يرد
فسيكثر عليه سلامي.
(1/240)
قال ابن زياد: كأنك ترجو البقاء.
فقال له مسلم: فان كنت مزمعا على قتلى، فدعني أوص الى بعض من هاهنا من
قومى.
قال له: أوص بما شئت.
فنظر الى عمر بن سعد بن ابى وقاص، فقال له: اخل معى في طرف هذا البيت
حتى اوصى إليك، فليس في القوم اقرب الى ولا اولى بي منك.
فتنحى معه ناحيه، فقال له: اتقبل وصيتي؟
قال: نعم.
قال مسلم: ان على هاهنا دينا، مقدار الف درهم، فاقض عنى، وإذا انا قتلت
فاستوهب من ابن زياد جثتي لئلا يمثل بها، وابعث الى الحسين بن على
رسولا قاصدا من قبلك، يعلمه حالي، وما صرت اليه من غدر هؤلاء الذين
يزعمون انهم شيعته، واخبره بما كان من نكثهم بعد ان بايعنى منهم ثمانية
عشر الف رجل، لينصرف الى حرم الله، فيقيم به، ولا يغتر باهل الكوفه.
وقد كان مسلم كتب الى الحسين ان يقدم ولا يلبث.
فقال له عمر بن سعد: لك على ذلك كله، وانا به زعيم.
فانصرف الى ابن زياد، فاخبره بكل ما اوصى به اليه مسلم.
فقال له ابن زياد: قد اسات في افشائك ما اسره إليك، وقد قيل انه لا
يخونك الا الامين، وربما ائتمنك الخائن.
وامر ابن زياد بمسلم فرقى به الى ظهر القصر، فأشرف به على الناس، وهم
على باب القصر مما يلى الرحبه، حتى إذا راوه ضربت عنقه هناك، فسقط راسه
الى الرحبه، ثم اتبع الراس بالجسد.
وكان الذى تولى ضرب عنقه احمر بن بكير.
(1/241)
وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن الزبير الأسدي:
فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... على هانئ في السوق وابن عقيل
الى بطل قد هشم السيف انفه ... وآخر، يهوى من طمار، قتيل [1]
أصابهما ريب الزمان، فأصبحا ... احاديث من يسعى بكل سبيل
ترى جسدا قد غير الموت لونه ... ونضح دم قد سال كل مسيل
ثم بعث عبيد الله برءوسهما الى يزيد، وكتب اليه بالنبأ فيهما.
فكتب اليه يزيد: لم نعد الظن بك، وقد فعلت فعل الحازم الجليد، وقد سالت
رسوليك عن الأمر، ففرشاه لي، وهما كما ذكرت في النصح، وفضل الرأي،
فاستوص بهما.
وقد بلغنى ان الحسين بن على قد فصل من مكة متوجها الى ما قبلك، فأدرك
العيون عليه، وضع الارصاد على الطرق، وقم افضل القيام، غير الا تقاتل
الا من قاتلك، واكتب الى بالخبر في كل يوم.
وكان انفذ الرأسين اليه مع هانئ بن ابى حيه الهمدانى، والزبير بن
الاروج التميمى.
وكان قتل مسلم بن عقيل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من ذي الحجه سنه ستين
[2] ، وهي السنه التي مات فيها معاويه.
__________
[1] الطمار: المكان العالي.
[2] سبتمبر 679.
(1/242)
خروج الحسين الى الكوفه
وخرج الحسين بن على ع من مكة في ذلك اليوم.
ثم ان ابن زياد وجه بالحصين بن نمير وكان على شرطه في اربعه آلاف فارس
من اهل الكوفه، وامره ان يقيم بالقادسية [1] الى القطقطانة [2] ، فيمنع
من اراد النفوذ من ناحيه الكوفه الى الحجاز الا من كان حاجا او معتمرا
ومن لا يتهم بممالاه الحسين.
قالوا: ولما ورد كتاب مسلم بن عقيل على الحسين ع: ان الرائد [3] لا
يكذب اهله، وقد بايعنى من اهل الكوفه ثمانية عشر الف رجل، فاقدم، فان
جميع الناس معك، ولا راى لهم في آل ابى سفيان.
فلما عزم على الخروج، وأخذ في الجهاز بلغ ذلك عبد الله بن عباس، فاقبل
حتى دخل على الحسين، رضى الله عنه، فقال:
يا ابن عم، قد بلغنى انك تريد المسير الى العراق.
قال الحسين: انا على ذلك.
قال عبد الله: اعيذك بالله يا بن عم من ذلك.
قال الحسين: قد عزمت، ولا بد من المسير.
قال له عبد الله: اتسير الى قوم طردوا أميرهم عنهم، وضبطوا بلادهم؟ فان
كانوا فعلوا ذلك فسر اليهم، وان كانوا انما يدعونك اليهم، وأميرهم
عليهم، وعماله يجبونهم، فإنهم انما يدعونك الى الحرب، ولا آمنهم ان
يخذلوك كما خذلوا اباك واخاك.
قال الحسين: يا بن عم، سانظر فيما قلت.
__________
[1] قرية بين الكوفه وعذيب في قضاء الديوانيه.
[2] موضع بقرب الكوفه.
[3] الرائد هو الذى يتقد القوم يبصر لهم الكلا ومساقط الغيث.
(1/243)
وبلغ عبد الله بن الزبير ما يهم به الحسين،
فاقبل حتى دخل عليه، فقال له: لو اقمت بهذا الحرم، وبثثت رسلك في
البلدان، وكتبت الى شيعتك بالعراق ان يقدموا عليك، فإذا قوى امرك نفيت
عمال يزيد عن هذا البلد، وعلى لك المكانفه والمؤازره، وان عملت بمشورتى
طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فانه مجمع اهل الافاق، ومورد اهل الاقطار
لم يعدمك باذن الله ادراك ما تريد، ورجوت ان تناله.
قالوا: ولما كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عباس الى الحسين،
فقال له: يا بن عم لا تقرب اهل الكوفه، فإنهم قوم غدره، وأقم بهذه
البلده، فإنك سيد أهلها، فان أبيت فسر الى ارض اليمن، فان بها حصونا
وشعابا، وهي ارض طويله عريضه، ولأبيك فيها شيعه، فتكون عن الناس في
عزله، وتبث دعاتك في الافاق، فانى أرجو ان فعلت ذلك أتاك الذى تحب في
عافيه.
قال الحسين ع: يا بن عم، والله انى لأعلم انك ناصح مشفق، غير انى قد
عزمت على الخروج.
قال ابن عباس: فان كنت لا محاله سائرا، فلا تخرج النساء والصبيان، فانى
لا آمن ان تقتل كما قتل ابن عفان، وصبيته ينظرون اليه.
قال الحسين: عم، ما ارى الا الخروج بالأهل والولد.
فخرج ابن عباس من عند الحسين فمر بابن الزبير، وهو جالس، فقال له: قرت
عينك يا بن الزبير بخروج الحسين.
ثم تمثل:
خلالك الجو، فبيضى واصفري ... ونقرى، ما شئت ان تنقرى
قالوا: ولما خرج الحسين من مكة اعترضه صاحب شرطه أميرها، عمرو بن سعيد
ابن العاص في جماعه من الجند، فقال: ان الأمير يأمرك بالانصراف،
فانصرف، والا منعتك.
فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط.
وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف ان يتفاقم الأمر، فأرسل الى صاحب شرطه،
يأمره بالانصراف.
(1/244)
قالوا ولما فصل الحسين بن على من مكة
سائرا، وقد وصل الى التنعيم [1] لحق عيرا مقبلة من اليمن، عليهما ورس
[2] . وحناء، ينطلق به الى يزيد بن معاويه، فأخذها وما عليها.
وقال لأصحاب الإبل: من أحب منكم ان يسير معنا الى العراق اوفيناه كراه،
واحسنا صحبته، ومن أحب ان يفارقنا من هاهنا اعطيناه من الكرى [3] بقدر
ما قطع من الارض.
ففارقه قوم، ومضى معه آخرون.
ثم سار حتى إذا انتهى الى الصفاح [4] لقيه هناك الفرزدق الشاعر مقبلا
من العراق، يريد مكة، فسلم على الحسين.
فقال له الحسين: كيف خلفت الناس بالعراق؟
قال: خلفتهم، وقلوبهم معك، وسيوفهم عليك.
ثم ودعه.
ومضى الحسين ع حتى إذا صار ببطن الرمة [5] كتب الى اهل الكوفه.
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على الى اخوانه من المؤمنين
بالكوفه، سلام عليكم، اما بعد، فان كتاب مسلم بن عقيل ورد على
باجتماعكم لي، وتشوفكم الى قدومى، وما أنتم عليه منطوون من نصرنا،
والطلب بحقنا، فاحسن الله لنا ولكم الصنيع، واثابكم على ذلك بافضل
الذخر، وكتابي إليكم من بطن الرمة، وانا قادم عليكم، وحثيث السير
إليكم، والسلام.
__________
[1] مكان بين مكة والمدينة بالقرب من مكة.
[2] الورس: نبت اصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه
[3] الاجر
[4] موضع بين حنين وأنصاب الحرم يسره الداخل الى مكة، وصفاح نعمان جبال
بين مكة والطائف.
[5] قاع عظيم بنجد تصب فيه جماعه اوديه.
(1/245)
ثم بعث بالكتاب مع قيس بن مسهر، فسار حتى
وافى القادسية [1] .
فأخذه حصين بن نمير، وبعث به الى ابن زياد، فلما ادخل عليه اغلظ لعبيد
الله، فامر به ان يطرح من اعلى سور القصر الى الرحبه، فطرح، فمات.
وسار الحسين ع من بطن الرمة [2] ، فلقيه عبد الله بن مطيع، وهو منصرف
من العراق، فسلم على الحسين، وقال له:
بابى أنت وأمي يا بن رسول الله، ما اخرجك من حرم الله وحرم جدك؟
فقال: ان اهل الكوفه كتبوا الى يسألونني ان اقدم عليهم لما رجوا من
احياء معالم الحق، وأماته البدع.
قال له ابن مطيع: أنشدك الله ان لا تأتي الكوفه، فو الله لئن أتيتها
لتقتلن.
فقال الحسين ع: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا.
ثم ودعه ومضى.
ثم سار حتى انتهى الى زرود [3] ، فنظر الى فسطاط [4] مضروب، فسال عنه،
فقيل له: هو لزهير بن القين.
وكان حاجا اقبل من مكة يريد الكوفه.
فأرسل اليه الحسين، ان القنى اكلمك.
فأبى ان يلقاه.
وكانت مع زهير زوجته، فقالت له: سبحان الله، يبعث إليك ابن رسول الله ص
فلا تجيبه.
فقام يمشى الى الحسين ع، فلم يلبث ان انصرف، وقد اشرق وجهه،
__________
[1] القادسية، قريه قرب الكوفه من جهة البريه، بينها وبين العذيب اربعه
اميال، وعندها كانت الوقعه الكبرى بين المسلمين والفرس، وقد فتحت
بلادهم على المسلمين.
[2] بطن الرمة: منزل لأهل البصره إذا أرادوا المدينة، بها يجتمع اهل
البصره والكوفه.
[3] موضع بطريق مكة بعد الرمل.
[4] الفسطاط: بيت من الشعر.
(1/246)
فامر بفسطاطه فقلع، وضرب الى لزق فسطاط
الحسين.
ثم قال لامراته: أنت طالق، فتقدمى مع أخيك حتى تصلى الى منزلك، فانى قد
وطنت نفسي على الموت مع الحسين ع.
ثم قال لمن كان معه من اصحابه: من أحب منكم الشهاده فليقم، ومن كرهها
فليتقدم.
فلم يقم معه منهم احد، وخرجوا مع المرأة وأخيها حتى لحقوا بالكوفه.
قالوا: ولما رحل الحسين من زرود تلقاه رجل من بنى اسد، فسأله عن الخبر.
فقال: لم اخرج من الكوفه حتى قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروه، ورايت
الصبيان يجرون بأرجلهما.
فقال: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، عند الله نحتسب
أنفسنا.
فقال له: أنشدك الله يا بن رسول الله في نفسك، وانفس اهل بيتك، هؤلاء
الذين نراهم معك، انصرف الى موضعك، ودع المسير الى الكوفه، فو الله ما
لك بها ناصر.
فقال بنو عقيل وكانوا معه: ما لنا في العيش بعد أخينا مسلم حاجه، ولسنا
براجعين حتى نموت.
فقال الحسين: فما خير في العيش بعد هؤلاء، وسار.
فلما وافى زبالة [1] وافاه بها رسول محمد بن الاشعث، وعمر بن سعد بما
كان ساله مسلم ان يكتب به اليه من امره، وخذلان اهل الكوفه اياه، بعد
ان بايعوه، وقد كان مسلم سال محمد بن الاشعث ذلك.
__________
[1] موضع بطريق مكة، وبها بركتان، قال الشماخ:
وراحت رواحا من زرود فنازعت ... زبالة جلبابا من الليل اخضرا
(1/247)
فلما قرأ الكتاب استيقن بصحة الخبر، وأفظعه
قتل مسلم بن عقيل، وهانئ ابن عروه.
ثم اخبره الرسول بقتل قيس بن مسهر رسوله الذى وجهه من بطن الرمة.
وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق، فلما سمعوا خبر مسلم، وقد كانوا
ظنوا انه يقدم على انصار وعضد تفرقوا عنه، ولم يبق معه الا خاصته.
فسار حتى انتهى الى بطن العقيق [1] ، فلقيه رجل من بنى عكرمه، فسلم
عليه، واخبره بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية الى العذيب [2]
رصدا له.
ثم قال له: انصرف بنفسي أنت، فو الله ما تسير الا الى الأسنة والسيوف،
ولا تتكلن على الذين كتبوا لك، فان أولئك أول الناس مبادره الى حربك.
فقال له الحسين: قد ناصحت وبالغت، فجزيت خيرا.
ثم سلم عليه، ومضى حتى نزل بشراه [3] بات بها، ثم ارتحل وسار.
فلما انتصف النهار، واشتدت الحر، وكان ذلك في القيظ، تراءت لهم الخيل.
فقال الحسين لزهير بن القين:
اما هاهنا مكان يلجأ اليه، او شرف، نجعله خلف ظهورنا، ونستقبل القوم من
وجه واحد؟.
قال له زهير: بلى، هذا جبل ذي جشم، يسره عنك، فمل بنا اليه، فان سبقت
اليه فهو كما تحب.
فسار حتى سبق اليه، وجعل ذلك الجبل وراء ظهره.
__________
[1] موضع بالقرب من ذات عرق قبلها بمرحله، وذات عرق منزل معروف من
منازل الحاج، ويحرم اهل العراق بالحج منه.
[2] ماء لبنى تميم على مرحلة من الكوفه، سمى بذلك لأنه طرف ارض العرب.
[3] مرتفع من الارض بالقرب من عسفان.
(1/248)
واقبلت الخيل، وكانوا الف فارس مع الحر بن
يزيد التميمى، ثم اليربوعى، حتى إذا دنوا امر الحسين ع فتيانه ان
يستقبلوهم بالماء، فشربوا، وتغمرت خيلهم، ثم جلسوا جميعا في ظل خيولهم،
وأعنتها في ايديهم حتى إذا حضرت الظهر قال الحسين ع للحر: اتصلى معنا،
أم تصلى باصحابك واصلى باصحابى؟
قال الحر: بل نصلى جميعا بصلاتك.
فتقدم الحسين ع، فصلى بهم جميعا.
فلما انفتل من صلاته حول وجهه الى القوم، ثم قال:
ايها الناس، معذره الى الله، ثم إليكم، انى لم آتكم حتى أتتني كتبكم،
وقدمت على رسلكم، فان أعطيتموني ما اطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم
دخلنا معكم مصركم، وان تكن الاخرى انصرفت من حيث جئت.
فاسكت القوم، فلم يردوا عليه، حتى إذا جاء وقت العصر نادى مؤذن الحسين،
ثم اقام، وتقدم الحسين ع، فصلى بالفريقين، ثم انفتل اليهم، فاعاد مثل
القول الاول.
فقال الحر بن يزيد: والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.
فقال الحسين ع: ايتنى بالخرجين [1] اللذين فيهما كتبهم.
فاتى بخرجين مملوءين كتبا، فنثرت بين يدي الحر واصحابه، فقال له الحر:
يا هذا، لسنا ممن كتب إليك شيئا من هذه الكتب، وقد امرنا الا نفارقك
إذا لقيناك او نقدم بك الكوفه على الأمير عبيد الله بن زياد.
فقال الحسين ع: الموت دون ذلك.
__________
[1] وعاء معروف ذو جانبين.
(1/249)
ثم امر باثقاله، فحملت، وامر اصحابه،
فركبوا، ثم ولى وجهه منصرفا نحو الحجاز، فحال القوم بينه وبين ذلك.
فقال الحسين للحر: ما الذي تريد؟
قال: اريد والله ان انطلق بك الى الأمير عبيد الله بن زياد.
قال الحسين: اذن والله انابذك الحرب.
فلما كثر الجدال بينهما قال الحر: انى لم اومر بقتالك، وانما امرت الا
افارقك، وقد رايت رايا فيه السلامة من حربك، وهو ان تجعل بيني وبينك
طريقا، لا تدخلك الكوفه، ولا تردك الى الحجاز، تكون نصفا بيني وبينك
حتى يأتينا راى الأمير.
قال الحسين: فخذ هاهنا، فاخذ متياسرا من طريق العذيب [1] ، ومن ذلك
المكان الى العذيب ثمانية وثلاثون ميلا.
فسارا جميعا حتى انتهوا الى عذيب الحمامات، فنزلوا جميعا، وكل فريق
منهما على غلوه [2] من الآخر.
ثم ارتحل الحسين من موضعه ذلك متيامنا عن طريق الكوفه حتى انتهى الى
قصر بنى مقاتل، فنزلوا جميعا هناك، فنظر الحسين الى فسطاط مضروب، فسال
عنه، فاخبر انه لعبيد الله بن الحر الجعفى، وكان من اشراف اهل الكوفه،
وفرسانهم.
فأرسل الحسين اليه بعض مواليه يأمره بالمصير اليه، فأتاه الرسول، فقال:
هذا الحسين بن على يسألك ان تصير اليه.
فقال عبيد الله: والله ما خرجت من الكوفه الا لكثرة من رايته خرج
لمحاربته
__________
[1] العذيب: تصغير العذب، ماء على يمين القادسية، بينه وبين القادسية
اربعه اميال، منه الى مفازة القرون في طريق مكة.
[2] الغلوة قدر رميه بسهم.
(1/250)
وخذلان شيعته، فعلمت انه مقتول ولا اقدر
على نصره، فلست أحب ان يراني ولا أراه.
فانتعل الحسين حتى مشى، ودخل عليه قبته، ودعاه الى نصرته.
فقال عبيد الله: والله انى لأعلم ان من شايعك كان السعيد في الآخرة،
ولكن ما عسى ان اغنى عنك، ولم اخلف لك بالكوفه ناصرا، فأنشدك الله ان
تحملني على هذه الخطه، فان نفسي لم تسمح بعد بالموت، ولكن فرسي هذه
الملحقه، والله ما طلبت عليها شيئا قط الا لحقته، ولا طلبنى وانا عليها
احد قط الا سبقته، فخذها، فهى لك.
قال الحسين: اما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجه لنا الى فرسك.
نهاية الحسين
وسار الحسين ع من قصر بنى مقاتل، ومعه الحر بن يزيد، كلما اراد ان يميل
نحو البادية منعه، حتى انتهى الى المكان الذى يسمى كربلاء [1] فمال
قليلا متيامنا حتى انتهى الى نينوى [2] ، فإذا هو براكب على نجيب، مقبل
من القوم، فوقفوا جميعا ينتظرونه.
فلما انتهى اليهم سلم على الحر، ولم يسلم على الحسين.
ثم ناول الحر كتابا من عبيد الله بن زياد، فقراه، فإذا فيه:
اما بعد، فجعجع [3] بالحسين بن على واصحابه بالمكان الذى يوافيك كتابي،
ولا تحله الا بالعراء على غير خمر [1] ولا ماء، وقد امرت حامل كتابي
هذا ان يخبرني بما كان منك في ذلك، والسلام.
__________
[1] موضع في طرف البريه بالقرب من الكوفه.
[2] قريه قديمه لا تزال آثارها باقيه قباله مدينه الموصل، ويروى بعض
المؤرخين انها قريه النبي يونس ع.
[3] جعجع القوم اى أناخوا بالجعجاع وهو ما غلظ من الارض.
[1] اى شجر.
(1/251)
فقرا الحر الكتاب ثم ناوله الحسين، وقال:
لا بد من إنقاذ امر الأمير عبيد الله بن زياد، فانزل بهذا المكان، ولا
تجعل للأمير على عله.
فقال الحسين ع تقدم بنا قليلا الى هذه القرية التي هي منا على غلوه،
وهي الغاضرية [1] او هذه الاخرى التي تسمى السقبه فنزل في إحداهما.
قال الحر ان الأمير كتب الى ان احلك على غير ماء، ولا بد من الانتهاء
الى امره.
فقال زهير بن القين للحسين: بابى وأمي يا ابن رسول الله، والله لو لم
يأتنا غير هؤلاء لكان لنا فيهم كفاية، فكيف بمن سياتينا من غيرهم؟ فهلم
بنا نناجز هؤلاء، فان قتال هؤلاء ايسر علينا من قتال من يأتينا من
غيرهم.
قال الحسين ع: فانى اكره ان ابداهم بقتال حتى يبدءوا.
فقال له زهير: فهاهنا قريه بالقرب منا على شط الفرات، وهي في عاقول [2]
حصينة، الفرات يحدق بها الا من وجه واحد.
قال الحسين: وما اسم تلك القرية؟
قال: العقر [3] قال الحسين: نعوذ بالله من العقر.
فقال الحسين للحر: سر بنا قليلا، ثم ننزل.
فسار معه حتى أتوا كربلاء، فوقف الحر واصحابه امام الحسين ومنعوهم من
المسير، وقال:
انزل بهذا المكان، فالفرات منك قريب.
قال الحسين: وما اسم هذا المكان؟
__________
[1] الغاضرية: قريه من نواحي الكوفه، قريبه من كربلاء.
[2] عاقول الوادى ما اعوج منه، والارض العاقول التي لا يهتدى إليها.
[3] مكان قرب كربلاء من نواحي الكوفه.
(1/252)
قالوا له: كربلاء.
قال: ذات كرب وبلاء، ولقد مر ابى بهذا المكان عند مسيره الى صفين، وانا
معه، فوقف، فسال عنه، فاخبر باسمه، فقال: [هاهنا محط ركابهم، وهاهنا
مهراق دمائهم،] فسئل عن ذلك، فقال: ثقل لال بيت محمد، ينزلون هاهنا.
ثم امر الحسين باثقاله، فحطت بذلك المكان يوم الأربعاء غره المحرم من
سنه احدى وستين [1] ، وقتل بعد ذلك بعشره ايام، وكان قتله يوم عاشوراء.
فلما كان اليوم الثانى من نزوله كربلاء وافاه عمر بن سعد في اربعه آلاف
فارس.
وكانت قصه خروج عمر بن سعد، ان عبيد الله بن زياد ولاه الري وثغر دستبى
[2] والديلم، وكتب له عهدا عليها، فعسكر للمسير إليها، فحدث امر
الحسين، فأمره ابن زياد ان يسير الى محاربه الحسين، فإذا فرغ منه سار
الى ولايته.
فتلكا عمر بن سعد على ابن زياد، وكره محاربه الحسين.
فقال له ابن زياد: فاردد علينا عهدنا.
قال: فاسير اذن.
فسار في اصحابه أولئك الذين ندبوا معه الى الري ودستبى، حتى وافى
الحسين، وانضم اليه الحر بن يزيد فيمن معه.
ثم قال عمر بن سعد لقره بن سفيان الحنظلى انطلق الى الحسين، فسله ما
اقدمك. فأتاه، فابلغه.
فقال الحسين: ابلغه عنى ان اهل هذا المصر كتبوا الى يذكرون ان لا امام
لهم، ويسألونني القدوم عليهم، فوثقت بهم، فغدروا بي، بعد ان بايعنى
منهم ثمانية عشر الف رجل، فلما دنوت، فعلمت غرور ما كتبوا به الى اردت
الانصراف الى حيث
__________
[1] اكتوبر 685
[2] كورة كبيرة، كانت مشتركه بين الري وهمذان، فقسمت كورتين، وتشتمل
على قريب تسعين قريه.
(1/253)
منه اقبلت، فمنعني الحر بن يزيد، وسار حتى
جعجع بي في هذا المكان، ولي بك قرابة قريبه، ورحم ماسه، فاطلقنى حتى
انصرف.
فرجع قره الى عمر بن سعد بجواب الحسين بن على.
فقال عمر: الحمد لله، والله انى لأرجو ان اعفى من محاربه الحسين.
ثم كتب الى ابن زياد يخبره بذلك.
فلما وصل كتابه الى ابن زياد كتب اليه في جوابه:
قد فهمت كتابك، فاعرض على الحسين البيعه ليزيد، فإذا بايع في جميع من
معه، فأعلمني ذلك ليأتيك رأيي.
فلما انتهى كتابه الى عمر بن سعد قال: ما احسب ابن زياد يريد العافيه.
فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد الى الحسين، فقال الحسين للرسول:
لا اجيب ابن زياد الى ذلك ابدا، فهل هو الا الموت، فمرحبا به.
فكتب عمر بن سعد الى ابن زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع اصحابه الى
النخيله [1] ثم وجه الحصين بن نمير، وحجار بن ابجر، وشبث بن ربعي، وشمر
ابن ذي الجوشن، ليعاونوا عمر بن سعد على امره.
فاما شمر فنفذ لما وجهه له، واما شبث فاعتل بمرض.
فقال له ابن زياد: اتتمارض؟ ان كنت في طاعتنا فاخرج الى قتال عدونا.
فلما سمع شبث ذلك خرج، ووجه أيضا الحارث بن يزيد بن رويم.
قالوا: وكان ابن زياد إذا وجه الرجل الى قتال الحسين في الجمع الكثير،
يصلون الى كربلاء، ولم يبق منهم الا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين،
فيرتدعون، ويتخلفون.
فبعث ابن زياد سويد بن عبد الرحمن المنقرى في خيل الى الكوفه، وامره ان
يطوف بها، فمن وجده قد تخلف أتاه به.
__________
[1] موضع قرب الكوفه على سمت الشام.
(1/254)
فبنيا هو يطوف في احياء الكوفه إذ وجد رجلا
من اهل الشام قد كان قدم الكوفه في طلب ميراث له، فأرسل به الى ابن
زياد، فامر به، فضربت عنقه.
فلما راى الناس ذلك خرجوا.
قالوا: وورد كتاب ابن زياد على عمر بن سعد، ان امنع الحسين واصحابه
الماء، فلا يذوقوا منه حسوة [1] كما فعلوا بالتقى عثمان بن عفان.
فلما ورد على عمر بن سعد ذلك امر عمرو بن الحجاج ان يسير في خمسمائة
راكب، فينيخ على الشريعه، ويحولوا بين الحسين واصحابه، وبين الماء،
وذلك قبل مقتله بثلاثة ايام، فمكث اصحاب الحسين عطاشى.
قالوا: ولما اشتد بالحسين واصحابه العطش امر أخاه العباس بن على وكانت
أمه من بنى عامر بن صعصعة ان يمضى في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، مع كل
رجل قربه حتى يأتوا الماء، فيحاربوا من حال بينهم وبينه.
فمضى العباس نحو الماء وامامهم نافع بن هلال حتى دنوا من الشريعه،
فمنعهم عمرو بن الحجاج، فجالدهم العباس على الشريعه بمن معه حتى
ازالوهم عنها، واقتحم رجاله الحسين الماء، فملئوا قربهم، ووقف العباس
في اصحابه يذبون عنهم حتى أوصلوا الماء الى عسكر الحسين.
ثم ان ابن زياد كتب الى عمر بن سعد:
اما بعد، فانى لم ابعثك الى الحسين لتطاوله الأيام، ولا لتمنيه السلامة
والبقاء، ولا لتكون شفيعه الى، فاعرض عليه، وعلى اصحابه النزول على
حكمى، فان أجابوك فابعث به وباصحابه الى، وان أبوا فازحف اليه، فانه
عاق شاق، فان لم تفعل فاعتزل جندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين
العسكر، فانا قد امرناك بأمرنا.
فنادى عمر بن سعد في اصحابه ان انهدوا الى القوم.
__________
[1] الحسوة بالضم الجرعة بقدر ما يحس مره واحده.
(1/255)
فنهض اليهم عشيه الخميس وليله الجمعه لتسع
ليال خلون من المحرم، فسألهم الحسين تاخير الحرب الى غد، فأجابوه.
قالوا: وامر الحسين اصحابه ان يضموا مضاربهم بعضهم من بعض، ويكونوا
امام البيوت، وان يحفروا من وراء البيوت أخدودا، وان يضرموا فيه حطبا
وقصبا كثيرا، لئلا يؤتوا من ادبار البيوت، فيدخلوها.
قالوا: ولما صلى عمر بن سعد الغداة نهد باصحابه، وعلى ميمنته عمرو بن
الحجاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن واسم شمر شرحبيل بن عمرو بن
معاويه، من آل الوحيد، من بنى عامر بن صعصعة وعلى الخيل عروه بن قيس،
وعلى الرجاله شبث ابن ربعي، والراية بيد زيد مولى عمر بن سعد.
وعبى الحسين ع أيضا اصحابه، وكانوا اثنين وثلاثين فارسا واربعين راجلا،
فجعل زهير بن القين على ميمنته، وحبيب بن مظهر على ميسرته، ودفع الراية
الى أخيه العباس بن على، ثم وقف، ووقفوا معه امام البيوت.
وانحاز الحر بن يزيد الذى كان جعجع بالحسين الى الحسين، فقال له: قد
كان منى الذى كان، وقد اتيتك مواسيا لك بنفسي، افترى ذلك لي توبه مما
كان منى؟.
قال الحسين: نعم، انها لك توبه، فابشر، فأنت الحر في الدنيا، وأنت الحر
في الآخرة، ان شاء الله.
قالوا: ونادى عمر بن سعد مولاه زيدا ان قدم الراية، فتقدم بها، وشبت
الحرب.
فلم يزل اصحاب الحسين يقاتلون ويقتلون، حتى لم يبق معه غير اهل بيته.
فكان أول من تقدم منهم، فقاتل على بن الحسين، وهو على الاكبر، فلم يزل
يقاتل حتى قتل، طعنه مره بن منقذ العبدى، فصرعه، وأخذته السيوف فقتل.
(1/256)
ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، رماه
عمرو بن صبح الصيداوى، فصرعه.
ثم قتل عدى بن عبد الله بن جعفر الطيار، قتله عمرو بن نهشل التميمى.
ثم قتل عبد الرحمن بن عقيل بن ابى طالب، رماه عبد الله بن عروه الخثعمى
بسهم، فقتله.
ثم قتل محمد بن عقيل بن ابى طالب، رماه لقيط بن ناشر الجهنى بسهم،
فقتله.
ثم قتل القاسم بن الحسن بن على بن ابى طالب، ضربه عمرو بن سعد بن مقبل
الأسدي.
ثم قتل ابو بكر بن الحسن بن على، رماه عبد الله بن عقبه الغنوي بسهم،
فقتله.
قالوا: ولما راى ذلك العباس بن على قال لإخوته عبد الله، وجعفر،
وعثمان، بنى على، عليه وعليهم السلام، وأمهم جميعا أم البنين العامريه
من آل الوحيد: تقدموا، بنفسي أنتم، فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه.
فتقدموا جميعا.
فصاروا امام الحسين ع، يقونه بوجوههم ونحورهم.
فحمل هانئ بن ثويب الحضرمى على عبد الله بن على، فقتله.
ثم حمل على أخيه جعفر بن على، فقتله أيضا.
ورمى يزيد الأصبحي عثمان بن على بسهم، فقتله، ثم خرج اليه، فاحتز راسه،
فاتى عمر بن سعد، فقال له: أثبني.
فقال عمر:
عليك باميرك يعنى عبيد الله بن زياد فسله ان يثيبك.
وبقي العباس بن على قائما امام الحسين يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال،
حتى قتل، رحمه الله عليه.
(1/257)
وبقي الحسين وحده، فحمل عليه مالك بن بشر
الكندى، فضربه بالسيف على راسه، وعليه برنس خز، فقطعه، وافضى السيف الى
راسه، فجرحه.
فالقى الحسين البرنس، ودعا بقلنسوه، فلبسها، ثم اعتم بعمامة، وجلس،
فدعا بصبى له صغير، فاجلسه في حجره، فرماه رجل من بنى اسد، وهو في حجر
الحسين بمشقص [1] ، فقتله.
وبقي الحسين ع مليا جالسا، ولو شاءوا ان يقتلوه قتلوه، غير ان كل قبيله
كانت تتكل على غيرها، وتكره الاقدام على قتله.
وعطش الحسين، فدعا بقدح من ماء.
فلما وضعه في فيه رماه الحصين بن نمير بسهم، فدخل فمه، وحال بينه وبين
شرب الماء، فوضع القدح من يده.
ولما راى القوم قد أحجموا عنه قام يتمشى على المسناه [2] نحو الفرات،
فحالوا بينه وبين الماء، فانصرف الى موضعه الذى كان فيه.
فانتزع له رجل من القوم بسهم، فاثبته في عاتقه، فنزع ع السهم.
وضربه زرعه بن شريك التميمى بالسيف، واتقاه الحسين بيده، فاسرع السيف
في يده.
وحمل عليه سنان بن أوس النخعى، فطعنه، فسقط.
ونزل اليه حولي بن يزيد الأصبحي ليحز راسه، فارعدت يداه.
فنزل اخوه شبل بن يزيد، فاحتز راسه، فدفعه الى أخيه حولي.
ثم مال الناس على ذلك الورس الذى كان اخذه من العير، والى ما في
المضارب، فانتهبوه.
__________
[1] المشقص نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
[2] ضفيره تبنى للسيل لترد الماء.
(1/258)
ولم ينج من اصحاب الحسين ع وولده وولد أخيه
الا ابناه، على الاصغر، وكان قد راهق، والا عمر، وقد كان بلغ اربع
سنين.
ولم يسلم من اصحابه الا رجلان، أحدهما المرقع بن ثمامة الأسدي، بعث به
عمر بن سعد الى ابن زياد فسيره الى الربذة [1] ، فلم يزل بها حتى هلك
يزيد، وهرب عبيد الله الى الشام، فانصرف المرقع الى الكوفه، والآخر
مولى لرباب، أم سكينه، اخذوه بعد قتل الحسين، فأرادوا ضرب عنقه، فقال
لهم: انى عبد مملوك. فخلوا سبيله.
وبعث عمر بن سعد برأس الحسين من ساعته الى عبيد الله بن زياد مع خولى
ابن يزيد الأصبحي.
واقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين يومين، ثم آذن في الناس
بالرحيل، وحملت الرءوس على اطراف الرماح، وكانت اثنين وسبعين راسا،
جاءت هوازن منها باثنين وعشرين راسا، وجاءت تميم بسبعه عشر راسا مع
الحصين بن نمير، وجاءت كنده بثلاثة عشر راسا مع قيس بن الاشعث، وجاءت
بنو اسد بسته رءوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمس رءوس مع عيهمه بن
زهير، وجاءت ثقيف باثنى عشر راسا مع الوليد بن عمرو.
وامر عمر بن سعد بحمل نساء الحسين وأخواته وبناته وجواريه وحشمه في
المحامل المستوره على الإبل. وكانت بين وفاه رسول الله ص وبين قتل
الحسين خمسون عاما.
قالوا: ولما ادخل راس الحسين ع على ابن زياد فوضع بين يديه جعل ابن
زياد ينكت بالخيزرانه ثنايا [2] الحسين، وعنده زيد بن ارقم، صاحب رسول
الله ص، فقال له:
__________
[1] من قرى المدينة على ثلاثة اميال منها. وهي قريبه من ذات عرق.
[2] ثنايا الإنسان في فمه الأربع التي في مقدم فيه، ثنتان من فوق
وثنتان من اسفل.
(1/259)
مه، ارفع قضيبك عن هذه الثنايا، فلقد رايت
رسول الله ص يلثمها.
ثم خنقته العبرة، فبكى.
فقال له ابن زياد: مم تبكي؟ ابكى الله عينيك، والله لولا انك شيخ قد
خرفت لضربت عنقك.
قالوا: وكانت الرءوس قد تقدم بها شمر بن ذي الجوشن امام عمر بن سعد.
قالوا: واجتمع اهل الغاضرية فدفنوا اجساد القوم.
وروى عن حميد بن مسلم قال: كان عمر بن سعد لي صديقا، فأتيته عند منصرفه
من قتال الحسين، فسألته عن حاله، فقال: لا تسال عن حالي، فانه ما رجع
غائب الى منزله بشر مما رجعت به، قطعت القرابة القريبه، وارتكبت الأمر
العظيم.
قالوا: ثم ان ابن زياد جهز على بن الحسين ومن كان معه من الحرم، ووجه
بهم الى يزيد بن معاويه مع زحر بن قيس ومحقن بن ثعلبه، وشمر بن ذي
الجوشن.
فساروا حتى قدموا الشام، ودخلوا على يزيد بن معاويه بمدينه دمشق، وادخل
معهم راس الحسين، فرمى بين يديه.
ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن، فقال:
يا امير المؤمنين، ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلا من اهل بيته،
وستين رجلا من شيعته، فصرنا اليهم، فسألناهم النزول على حكم أميرنا
عبيد الله بن زياد، او القتال، فغدونا عليهم عند شروق الشمس، فأحطنا
بهم من كل جانب، فلما أخذت السيوف منهم ماخذها جعلوا يلوذون الى غير
وزر [1] ، لوذان الحمام من الصقور، فما كان الا مقدار جزر [2] جزوز، او
نوم قائل [3] حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك
__________
[1] ملجأ.
[2] ذبح ناقه.
[3] القيلوله: النوم في الظهيره والقائله نصف النهار.
(1/260)
اجسادهم مجرده، وثيابهم مرمله، وخدودهم
معفره، تسفى عليهم الرياح، زوارهم العقبان [1] ، ووفودهم الرخم [2] .
فلما سمع ذلك يزيد دمعت عينه وقال: ويحكم، قد كنت ارضى من طاعتكم بدون
قتل الحسين، لعن الله ابن مرجان، اما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه،
رحم الله أبا عبد الله.
ثم تمثل:
نفلق هاما من رجال أعزة ... علينا، وهم كانوا اعق واظلما
ثم امر بالذرية فادخلوا دار نسائه.
وكان يزيد إذا حضر غذاؤه دعا على بن الحسين وأخاه عمر فيأكلان معه،
فقال ذات يوم لعمر بن الحسين:
هل تصارع ابنى هذا؟ يعنى خالدا، وكان من اقرانه.
فقال عمر: بل أعطني سيفا، وأعطه سيفا حتى اقاتله، فتنظر أينا اصبر.
فضمه يزيد اليه، وقال: شنشنة اعرفها من اخزم [3] ، هل تلد الحيه الا
حيه.
قال: ثم امر بتجهيزهم باحسن جهاز، وقال لعلى بن الحسين: انطلق مع نسائك
حتى تبلغهن وطنهن.
ووجه معه رجلا في ثلاثين فارسا، يسير امامهم، وينزل حجره عنهم، حتى
انتهى بهم الى المدينة.
__________
[1] العقبان: عتاق الطير وسباعه التي لا تصيد الخشاش.
[2] نوع من الطير موصوف بالغدر.
[3] الشنشنة: الطبيعة والسجية، واخزم كان ولدا عاقا لأبيه، فمات وترك
بنين عقوا جدهم وضربوه وادموه، فقال انما هو شنشنة اعرفها من اخزم،
فصار مثلا.
(1/261)
قالوا: وان عبيد الله بن الحر ندم على تركه
اجابه الحسين حين دعاه بقصر بنى مقاتل الى نصرته، وقال:
فيا لك حسره ما دمت حيا ... تردد بين حلقى والتراقى
حسين حين يطلب بذل نصري ... على اهل العداوة والشقاق
فما انسى غداه يقول حزنا ... اتتركني وتزمع لانطلاق؟
فلو فلق التلهف قلب حي ... لهم القلب منى بانفلاق
ثم مضى نحو ارض الجبل مغاضبا لابن زياد، واتبعه اناس من صعاليك الكوفه.
عبد الله بن الزبير
قالوا: وان ابن الزبير لما سار الى مكة وخرج الحسين عنها سائرا الى
الكوفه كان يقول: انى في الطاعة، غير انى لا ابايع أحدا، وانا مستجير
بالبيت الحرام.
فبعث اليه يزيد بن معاويه رجلا في عشره نفر من حرسه، وقال:
انطلق، فانظر ما عنده، فان كان في الطاعة فخذه بالبيعه، وان ابى فضع في
عنقه جامعه [1] وائتنى به.
فلما قدم الحرسى عليه، واخبره بما أتاه فيه تمثل ابن الزبير:
ما ان الين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وقال للحرسى: انصرف الى صاحبك، فاعلمه اننى لا اجيبه الى شيء مما
يسألني.
قال الحرسى: الست في الطاعة؟
قال: بلى، غير انى لا امكنك من نفسي، ولا اكاد.
فانصرف الحرسى الى يزيد، فاخبره بذلك.
__________
[1] الجامعه: الغل لأنها تجمع اليدين الى العنق.
(1/262)
فوجه يزيد بعشره نفر من اشراف اهل الشام،
فيهم النعمان بن بشير، وعبد الله بن عضاه الأشعري وكان له صلاح، ومسلم
بن عقبه لعنه الله فقال لهم:
انطلقوا، فاعيدوه الى الطاعة والجماعه واعلموه، ان أحب الأمور الى ما
فيه السلامة.
فساروا حتى وافوا مكة، ودخلوا على ابن الزبير في المسجد، فدعوه الى
الطاعة وسألوه البيعه.
فقال ابن الزبير لابن عضاه:
اتستحل قتالى في هذا الحرم؟
قال: نعم، ان أنت لم تجب الى طاعه امير المؤمنين.
قال ابن الزبير: وتستحل قتل هذه الحمامة؟ واشار الى حمامه من حمام
المسجد.
فاخذ ابن عضاه قوسه، وفوق فيها سهما، فبواه [1] نحو الحمامه، ثم قال:
يا حمامه، اتعصين امير المؤمنين؟
والتفت الى ابن الزبير، وقال: اما لو انها قالت نعم لقتلتها.
وان ابن الزبير خلا بنعمان بن بشير، فقال: أنشدك الله، انا افضل عندك
أم يزيد؟
فقال: بل أنت.
فقال: فوالدى خير أم والده؟
قال: بل والدك.
قال: فامى خير أم أمه؟
قال: بل أمك.
قال: فخالتى خير أم خالته؟
قال: بل خالتك.
__________
[1] سدده نحو الحمامه.
(1/263)
قال: فعمتى خير أم عمته؟
قال: بل عمتك، ابوك الزبير، وأمك أسماء ابنه ابى بكر، وخالتك عائشة،
وعمتك خديجه بنت خويلد.
قال: افتشير على بمبايعه يزيد؟
قال النعمان: اما إذا استشرتنى فلا ارى لك ذلك، ولست بعائد إليك بعد
هذا ابدا.
ثم ان القوم انصرفوا الى الشام، فاعلموا يزيد ان ابن الزبير لم يجب الى
شيء.
قال مسلم بن عقبه المري ليزيد: يا امير المؤمنين، ان ابن الزبير خلا
بالنعمان ابن بشير، فكلمه بشيء، لم ندر ما هو، وقد انصرف إليك بغير
رايه الذى خرج من عندك.
ولما انصرف القوم من عند ابن الزبير جمع ابن الزبير اليه وجوه اهل
تهامه والحجاز، فدعاهم الى بيعته، فبايعوه جميعا، وامتنع عليه عبد الله
بن عباس، ومحمد بن الحنفيه.
وان ابن الزبير امر بطرد عمال يزيد من مكة والمدينة، وارتحل مروان من
المدينة بولده واهل بيته حتى لحق بالشام.
ولما انتهى الى يزيد بن معاويه مبايعه اهل تهامه والحجاز لعبد الله بن
الزبير ندب له الحصين بن نمير السكوني، وحبيش بن دلجه القينى، وروح بن
زنباع الجذامى، وضم الى كل واحد منهما جيشا، واستعمل عليهم جميعا مسلم
بن عقبه المري، وجعله امير الأمراء، وشيعتهم حتى بلغ ماء، يقال له
وبره، وهي اقرب مياه الشام الى الحجاز.
فلما ودعهم قال يا مسلم:
لا تردن اهل الشام عن شيء يريدونه بعدوهم، واجعل طريقك الى المدينة،
فان حاربوك فحاربهم، فان ظفرت بهم، فانهبها ثلاثة ايام.
ثم أنشأ يقول:
(1/264)
ابلغ أبا بكر إذا الخيل انبرى ... وسارت
الخيل الى وادي القرى [1] .
اجمع سكران من الخمر ترى
وذلك ان ابن الزبير كان يسمى يزيد السكران.
ولما بلغ اهل المدينة وصول الجيش تأهبوا للحرب، فولت قريش عليها عبد
الله ابن مطيع العدوى، وولت الانصار عليها عبد الله بن حنظله الراهب
وهو غسيل الملائكة ثم خرجوا الى الحره، فعسكروا بها.
ففي ذلك يقول شاعرهم:
ان في الخندق المكلل بالمجد ... لضربا يفور بالسنوات
لست منا، وليس خالك منا ... يا مضيع الصلاة للشهوات
ووافاهم الجيش، فقاتلوهم حتى كثرت القتلى.
واقبلت طائفه من اهل الشام، فدخلوا المدينة من قبل بنى حارثة، وهم
الذين قالوا إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [2] ، فلم يشعر القوم، وهم
يقاتلون من يليهم، الا واهل الشام يضربونهم من ادبارهم، فقتل عبد الله
بن حنظله امير الانصار، وقتل عمرو بن حزم الأنصاري قاضى المدينة،
واستباح اهل الشام المدينة ثلاثة ايام بلياليها.
فلما كان اليوم الرابع جلس مسلم بن عقبه، فدعاهم الى البيعه، فكان أول
من أتاه يزيد بن عبد الله بن ربيعه بن الأسود، وجدته أم سلمه زوج النبي
ص.
فقال له مسلم: بايعنى.
قال: ابايعك على كتاب الله وسنه نبيه ص.
فقال مسلم بل بايع على انكم فيء لأمير المؤمنين، يفعل في أموالكم
وذراريكم ما يشاء.
فأبى ان يبايع على ذلك، فامر به، فضربت عنقه.
__________
[1] وادي مكة
[2] سوره الأحزاب الآية رقم 13.
(1/265)
ثم تقدم محمد بن ابى الجهم بن حذيفة
العدوى، فقال له مسلم:
أنت الذى وفدت على امير المؤمنين، فاكرمك وحباك، فرجعت الى المدينة
تشهد عليه بشرب الخمر، والله لا تشهد بشهاده زور ابدا، اضربوا عنقه.
فضربت عنقه.
ثم تقدم معقل بن سنان الاشجعى، وكان حليفا لبنى هاشم، فقال له مسلم:
اتذكر يوما مررت بي بطبريه [1] ، فقلت لك، من اين اقبلت؟ فقلت، سرنا
شهرا، وانضينا ظهرا، ورجعنا صفرا، وسناتى المدينة فنخلع الفاسق يزيد بن
معاويه، ونبايع رجلا من اولاد المهاجرين؟
فاعلم انى كنت آليت ذلك اليوم الا اقدر عليك في موطن يمكنني فيه قتلك
الا قتلتك، وقد أمكنني الله منك يا احمق، ما اشجع والخلافه؟! فتعزل
وتولى، اضربوا عنقه.
ثم تقدم عمرو بن عثمان، فقال له:
أنت الخبيث ابن الطيب، الذى إذا ظهر اهل الشام قلت انا ابن عثمان بن
عفان، وإذا ظهر اهل الحجاز قلت انا واحد منكم، وأنت في ذلك تبغى امير
المؤمنين الغوائل، انتفوه.
فنتفت لحيته، حتى ما تركت فيها شعره.
فقام اليه عبد الملك بن مروان، فاستوهبه، فوهبه له.
ثم أتاه على بن الحسين بن على بن ابى طالب، فاجلسه معه على ثيابه
وفراشه، وقال:
ان امير المؤمنين قد أوصاني بك.
فقال على: انى كنت لما فعل اهل المدينة كارها.
قال: اجل.
ثم حمله على بغله، وصرفه الى منزله.
__________
[1] بلد مطل على البحيره المعروفه بها، في الإقليم الشمالي من
الجمهورية العربية المتحده، وهي مستطيله، تنتهي الى جبل صغير، عنده آخر
العمارة، وفيها عيون ملحه حاره، قد بنيت عليها حمامات.
(1/266)
وبعث الى على بن عبد الله بن عباس ليؤتى به
للبيعه، فاخرج من منزله، فاقبلوا به.
فلقيه الحصين بن نمير، فانتزعه من يد الجلاوزة [1] .
وكان الحصين من اخوال على بن عبد الله.
فقال مسلم: انى انما بعثت اليه للبيعه، فائتنى به.
فأرسل اليه الحصين، فجاء حتى بايع.
وأرسلت بنت الاشعث بن قيس، وكانت امراه الحسين بن على، الى مسلم ابن
عقبه تعلمه ان منزلها انتهب، فامر برد جميع ما أخذ لها.
ثم شخص بالجيش الى مكة، وكتب الى يزيد بما صنع بالمدينة، فتمثل يزيد.
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل [2]
حين حكت بقباء بركها ... واستحر القتل في عبد الأشل
فلما بلغ ابن عقبه هرشى [3] اعتل، واشتدت علته، ونزل به الموت، فقال:
أسندوني. فاسند، فقال:
ان امير المؤمنين أمرني ان حدث بي في وجهى هذا حدث ان استخلف الحصين
ابن نمير على الجيش، ولو كان الأمر الى ما استخلفته، لان من شان
اليمانيه الرقة، غير انى لا اعصى امير المؤمنين.
ثم قال: يا حصين، إذا وافيت مكة فناجز ابن الزبير الحرب من يومك، ولا
ترد اهل الشام عن شيء يريدونه بعدوهم، ولا تجعل اذنك وعاء لقريش
فيخدعوك.
ثم مات، وكانت به الذبحه.
فتولى امر الجيش الحصين بن نمير، فسار حتى وافى مكة.
وتحصن منه ابن الزبير في المسجد الحرام في جميع من كان معه، ونصب
__________
[1] جمع جلواز بالكسر، وهم الشرطه.
[2] الرماح
[3] هرشى: ثنية في طريق مكة قريبه من الجحفه.
(1/267)
الحصين المجانيق على جبل ابى قبيس [1] ،
وكانوا يرمون اهل المسجد.
فبيناهم كذلك إذ ورد على الحصين بن نمير موت يزيد بن معاويه، فأرسل الى
عبد الله بن الزبير: ان الذى وجهنا لمحاربتك قد هلك، فهل لك في
الموادعة؟
وتفتح لنا الأبواب، فنطوف بالبيت، ويختلط الناس بعضهم ببعض. فقبل ذلك
ابن الزبير، وامر بأبواب المسجد، ففتحت، فجعل الحصين واصحابه يطوفون
بالبيت.
فبينا الحصين يطوف بعد العشاء إذ استقبله ابن الزبير، فاخذ الحصين
بيده، فقال له سرا:
هل لك في الخروج معى الى الشام؟ فادعو الناس الى بيعتك، فان امرهم قد
مرج [2] ، ولا ارى أحدا أحق بها اليوم منك، ولست اعصى هناك.
فاجتذب عبد الله بن الزبير يده من يده، وقال، وهو يجهر بقوله: دون ان
اقتل بكل رجل من اهل الحجاز عشره من اهل الشام.
فقال الحصين: لقد كذب من زعم انك من دهاه العرب، اكلمك سرا، وتكلمني
علانية، وادعوك الى الخلافه وتدعوني الى الحرب.
ثم انصرف في اصحابه الى الشام، ومر بالمدينة، فبلغه انهم على محاربته
ثانيا.
فجمع اليه أهلها، وقال: ما هذا الذى بلغنى عنكم؟ فاعتذروا اليه،
وقالوا: ما هممنا بذلك.
وذكر ابو هرون العبدى، قال: رايت أبا سعيد الخدرى، ولحيته بيضاء، وقد
خف جانباها، وبقي وسطها، فقلت: يا أبا سعيد، ما حال لحيتك؟
__________
[1] الجبل المشرف على مكة من غربيها، وكان يسمى في الجاهلية الامين
لأنه استودع فيه الحجر الأسود.
[2] اختلط وفسد.
(1/268)
فقال: هذا فعل ظلمه اهل الشام يوم الحره، دخلوا على بيتى، فانتهبوا ما
فيه حتى أخذوا قد حي الذى كنت اشرب فيه الماء، ثم خرجوا، ودخل على
بعدهم عشره نفر، وانا قائم اصلى، فطلبوا البيت، فلم يجدوا فيه شيئا،
فاسفوا لذلك، فاحتملوني من مصلاي، وضربوا بي الارض، واقبل كل رجل منهم
على ما يليه من لحيتي، فنتفه، فما ترى منها خفيفا فهو موضع النتف، وما
تراه عافيا فهو ما وقع في التراب، فلم يصلوا إليها، وسادعها كما ترى
حتى اوافى بها ربى. |